نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٢

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار18%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 301

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 301 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 148978 / تحميل: 6553
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

(٤)

مع ابن تيميّة الحرّاني

في كلامه حول حديث « أنا مدينة العلم »

ومن المواضع التي يتبيّن فيها بوضوح نصب ابن تيميّة وعناده للحق وأهله هو: مبحث حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها »، فقد بالغ في هذا المقام في الكذب والافتراء، في سبيل ردّ هذا الحديث الشريف وتكذيبه، ونحن نذكر أوّلاً عبارته، ثم نتكلّم حولها، فهذا نصّ عبارته:

« وحد يث أنا مدينة العلم وعلي بابها أضعف وأوهى، ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة.

والكذب يعرف من نفس متنه، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلّا باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلّا واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم إلّا واحداً، بل يجب أن يكون المبلِّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلّا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفيةً

٥

عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة.

وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره.

قيل لهم: فلابدّ من العلم بعصمته أوّلاً، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعلم عصمته فإنه دور، ولا تثبت بالإِجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإِمامية إنما يكون الاجماع حجة لأن فيهم الإِمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقّاً لا بدّ أنْ تعلم بطريقٍ آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلّا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين.

فعلم أنّ هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنّه مدحاً، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الاسلام، إذ لم يبلّغه إلّا واحد.

ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الاسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي:

أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما [ فيهم ] ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن عليّ إلّا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا تعلّموا القرآن والسنّة قبل أنْ يتولى عثمان فضلاً عن علي. وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر، وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من عليّ، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر ممّا رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ ابن جبل، ولـمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً، وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة »(١) .

١ - بطلان دعوى ضعف الحديث

نقول: دعوى أن حديث مدينة العلم أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٣٨.

٦

الموضوعات، إفك فضيح، لما عرفت سابقاً من صحّة هذا الحديث واستفاضته وشهرته بل وتواتره، حتى تجلّى ذلك كالشمس المنجلي عنها الغمام على رغم آناف المنكرين الطّغام، فمن العجيب تعامي ابن تيميّة عن جميع تلك النصوص والتصريحات من كبار المحقّقين، ومشاهير نقدة الأخبار والحديث المعتمدين!!

ثناء ابن تيمية على ابن معين وأحمد

أليس فيمن صحّح حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » يحيى بن معين هذا الرجل الذي أذعن ابن تيميّة نفسه - فيمن أذعن - بجلالة قدره وسمّو منزلته في علم الحديث ونقده؟ بل لقد عدّه ابن تيميّة فيمن يرجع إليه في التمييز بين الصّدق والكذب حيث قال: « المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل العلم بالحديث، كما يرجع إلى النحاة في الفرق بين لحن العرب ونحو العرب، ويرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكلّ علمٍ رجال يعرفون به.

والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء، وأعظم قدراً، وأعظمهم صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً، فإنهم من أعظم الناس صدقاً وديناً وأمانةً وعلماً وخبرة بما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى ابن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدار قطني.

وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل، وإنْ كان بعضهم أعلم من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن

٧

كلامه، كما أنّ الناس في سائر العلوم كذلك »(١) .

فإذا كان « يحيى بن معين » في هذه المرتبة من الجلالة والعظمة عند ابن تيميّة، فلما ذا لا ينظر ابن تيميّة إلى تنصيص يحيى بن معين على صحة حديث مدينة العلم بعين الاعتبار؟ ولما ذا يقول ما لا يفعل؟ والله تعالى يقول:( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) .

وذكر ابن تيميّة « يحيى بن معين » في موضع آخر من كتابه في جماعةٍ من أئمة أهل السنة، وصفهم بـ « أئمة الحديث ونقّاده وحكّامه وحفّاظه، الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن بعد هؤلاء من نقلة العلم » وإليك نصُّ عبارته كاملة لما فيها من الفوائد في هذا المقام:

« فإنْ قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسّرين والمصنّفين في الفضائل، كالثعلبي والبغوي وأمثالهما، والمغازلي وأمثاله.

قيل له: مجرّد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتّفاق أهل العلم بالحديث، فإن في كتب هؤلاء من الأكاذيب الموضوعة ما اتّفق أهل العلم على أنه كذب، والثعلبي وأمثاله لا يتعمّدون الكذب، بل فيهم من الصلاح والدّين ما منعهم من ذلك، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب، ويدوّنون ما سمعوه، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، ومحمّد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وأبي عبد الله بن مندة، والدار قطني، وعبد الغني بن سعيد، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقّاده

وقد صنّفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسمائهم،

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٠.

٨

وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم، مثل: كتاب العلل وأسماء الرجال عن يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والترمذي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم ابن حبان، وأبي الفتح الأزدي، والدارقطني، وغيرهم »(١) .

فلماذا يعدّ حديث مدينة العلم في الموضوعات مع تصحيح يحيى بن معين إيّاه، وهو كالبخاري ومسلم ومشايخهما وأضرابهما من نقدة الحديث وحفاظه، والمرجع إليهم في تمييز صدقه من كذبه؟

وفي موضعٍ ثالثٍ يزيد في المبالغة والإِغراق في مدح يحيى بن معين فيقول في كلامٍ له:

« ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليتدبّر الأحاديث الصحيحة التي صحّحها أهل العلم بالحديث، الذين كملت خبرتهم بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحبّتهم له وصدقهم في التبليغ عنه، وصار هواهم تبعاً لما جاء به، فليس لهم غرض إلّا معرفة ما قاله، وتمييزه عمّا يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين، كأصحاب الحديث مثل: البخاري، ومسلم، والإِسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والدار قطني، ثم مثل صحيح(٢) ابن خزيمة، وابن مندة، وأبي حاتم البستي، ثم الحاكم، وما صحّحه أئمة أهل الحديث الذين هم أجلّ من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصي عددهم إلّا الله.

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٨٤.

(٢). لفظة « الصحيح » لا تناسب المقام، فلعلّها من هفوات القلم.

٩

فإذا تدبّر العاقل للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، عرف الصّدق من الكذب، فإنَّ هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك، وأشدّهم رغبةً في التمييز بين الصّدق والكذب، وأعظمهم ذبّاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم المهاجرون إلى سنّته وحديثه والأنصار له في الدين، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في عملهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلّا فليسلّم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبّهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى الحسّاب حسابهم، وإلى أهل العلم بالأوقات علمهم »(١) .

فهذا الكلام صريح في أنّ « يحيى بن معين » ممّن كملت خبرته، وكبرت معرفته، بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديثه، وأنّ ما صحّحه صدق، وأنّه لابدَّ من تسليم أمر التمييز بين الصدق والكذب إليه

فلما ذا يقف هذا الموقف تجاه حديث مدينة العلم الذي ثبت تصحيح يحيى ابن معين إيّاه؟

وهل هذا إلّا تهافت؟

وأيضاً، فإنّ من رواة حديث مدينة العلم هو « أحمد بن حنبل »، وقد عرفت من كلمات ابن تيميّة ثنائه على أحمد أيضاً، إذ قد ذكره في عداد أئمة الحديث ونقدته وحفّاظه

لقد روى أحمد بن حنبل حديث مدينة العلم في فضائل ومناقب سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام بطرقٍ متعدّدة، أفهل يعقل أنّ يروي أحمد حديثاً موضوعاً بطرقٍ عديدة، ويعدّه من فضائل عليعليه‌السلام ، وهو ومصنّفاته على تلك الجلالة والعظمة التي وصفه بها ابن تيميّة؟

ولو كان حديث أنا مدينة العلم من الموضوعات لجعل ابن تيميّة مصنّفات

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٥٢.

١٠

أحمد كمصنّفات الثعلبي والبغوي وأمثالهما الموصوفة عنده بالإِشتمال على الصّدق والكذب، لكنّه جعل مصنفات أحمد وأمثاله في مقابل مصنفات أولئك كما رأيت في عبارته السابقة، فإن هذا يدل على أنّ أحمد ما كان يدوّن في كتبه كلّ ما سمعه، فضلاً عن تعمّد الكذب ونقل الأحاديث الموضوعة.

فثبت بطلان زعم ابن تيميّة بكلام نفسه حول أحمد بن حنبل ومصنفاته.

بل لقد نصَّ ابن تيميّة على أنّ أحمد بن حنبل كان من العلماء الذين لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثاً يعلمون أنه عن كذّاب، وهذا نصّ كلامه حيث قال:

« والناس في مصنّفاتهم منهم من لا يروي عمّن يعلم أنه يكذب مثل: مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل. فإن هؤلاء لا يروون عن شخصٍ ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثاً يعلمون أنّه عن كذاب، ولا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمّد الكذب »(١) .

فإذا كان هذا حال أحمد بن حنبل في اعتقاد ابن تيميّة، وقد عرفت أنّ أحمد يروي حديث مدينة العلم بطرقٍ عديدة، فإن هذا الحديث ليس بموضوعٍ، وليس رواته غير ثقاة، وإلّا لما رواه أحمد.

فظهر خزي ابن تيميّة حسب ما اعترف به في حق أحمد بن حنبل، والحمد لله ربّ العالمين.

اعتراف ابن تيميّة برواية الترمذي

واعترف ابن تيميّة في كلامه في ردّ حديث مدينة العلم برواية الترمذي إيّاه، والترمذي من أرباب الصحاح الستّة عند أهل السنّة، وقد وصفوا جامعه الصحيح بأعلى أوصاف المدح، وبعجائب المآثر العالية، وبجّلوه غاية التبجيل، حتّى لو أنّ

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٥.

١١

أحداً حلف على صحّة أحاديثه بالطلاق لم يحنث، بل زعموا اتّفاق أهل الشرق والغرب على صحّة أحاديث الكتب الستة ومنها كتاب الترمذي وقد ذكرنا ذلك مفصّلاً في مجلّد حديث الطير.

فحديث مدينة العلم - المخرّج عند الترمذي باعتراف ابن تيميّة - لا يحنث من حلف على صحته بالطلاق، ويكون من الأحاديث المجمع على صحتها بين أهل الشرق والغرب، فمن طعن فيه فهو خارج عن دائرة الإِجماع كما قرّروا، وتكون عاقبته النار وبئس المصير.

ثناء ابن تيميّة على الترمذي واعتماده عليه

هذا كلّه من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإنّ من يلاحظ كلمات ابن تيميّة نفسه في حقّ الترمذي، واعتماده على رواياته في مواضع عديدة من بحوثه، يتّضح له شناعة ردّه لحديث مدينة العلم مع اعترافه برواية الترمذي له، فمن ذلك: عدّه الترمذي في نقدة الحديث وحكّامه وحفّاظه وأنّه ليس كالثعلبي وأمثاله، الذين يروون الأحاديث الموضوعة، ويدوّنون كلّ ما سمعوه في كتبهم وقد تقدّم نصّ كلامه في ذلك قريباً.

وإذا كان هذا شأن الترمذي فإنّ العاقل لا يجوّز الطعن في حديث مدينة العلم - الذي اعترف ابن تيميّة رواية الترمذي له -، إذ لو صحّ الطّعن فيه لزم اشتمال كتاب الترمذي على الموضوعات كذلك، فلا يبقى فرق بينه وبين الثعلبي وغيره، وهذا ممّا لا يرتضيه ابن تيميّة، فلا مناص لابن تيميّة من التسليم بصحة حديث مدينة العلم شاء أو أبى.

ومن ذلك قوله:

« قال الرافضي: الثاني ما رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. والجواب: المنع من الرواية، ومن دلالته على الإِمامة، فإن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة. وأيضاً: فإن أبابكر

١٢

وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام، فلا يمكن الإِقتدا بهما. وأيضاً: فإنه معارض بما رووه من قوله: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم.

والجواب من وجوه أحدها: أنْ يقال: هذا الحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي، فإن هذا معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة، رواه أبو داود في سننه، والإِمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه. وأمّا النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث »(١) .

فكتاب الجامع الصحيح للترمذي من كتب أهل الحديث المعتمدة عند ابن تيميّة، ومن هنا يحتجّ به في مقابلة الشيعة، ويجعل ما أخرج فيه أقوى من النص على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والعياذ بالله.

وهل يجوز أنْ يكون هذا الكتاب معتمداً في مورد حديث الإِقتداء المزعوم - بالرغم من ثبوت وضعه بوجوهٍ عديدة، وقد طعن الترمذي في بعض طرقه - ولا يكون معتمداً في مورد حديث مدينة العلم؟ لكن ابن تيميّة باحتجاجه بكتاب الترمذي قد أفحم نفسه في مورد حديث مدينة العلم الذي اعترف برواية الترمذي له، وأوضح للملأ أنّ طعنه في هذا الحديث ليس إلّا للعناد والتعصّب، نستجير بالله.

ومن ذلك قوله:

« ومع هذا، فقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عمر من العلم والدين والإِلهام بما لم يخبر بمثله، لا في حق عثمان ولا علي لا طلحة ولا الزبير، ففي الترمذي عن ابن عمر: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال: وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلّا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. وفي سنن أبي داود عن

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٣٨.

١٣

أبي ذررضي‌الله‌عنه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب »(١) .

فأيّ إنصافٍ هذا؟! يُجعل حديث الترمذي حجةً على الشيعة، ومستَنداً في إثبات فضيلةٍ لعمر بن الخطاب يدعي أنها لم تكن لغيره، ويسقط عن الإِعتبار والإِعتماد في باب فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وحديث مدينة العلم الصحيح الثابت؟!

غلوّ ابن تيميّة في ابن جرير الطبري

ومن رواة حديث مدينة العلم ومصحّحيه هو: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، إذ أخرج هذا الحديث في كتابه ( تهذيب الآثار ) وأثبته وحكم بصحته، كما عرفت سابقاً من عبارة ( جمع الجوامع ) لجلال الدين السّيوطي.

وقد ذكر ابن تيميّة ابن جرير الطبري بما لا يجوز لنا الإِذعان به، بل لا يجوز نقله والتفوّه به، ولكنّ ضرورة البحث تلجأ إلى إيراد نصّ عبارته هنا، حتى يتّضح مدى فظاعة ردّه للحديث الذي رواه الطبري لقد قال ابن تيميّة ما نصّه:

« وأمّا قوله: ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإِجتهاد، وحرّموا الأخذ بالقياس والإِستحسان، فالكلام على هذا من وجوه:

أحدها: إن الشيعة في هذا مثل غيرهم، ففي أهل السنة النزاع في الرأي والإِجتهاد والقياس والإِستحسان، كما في الشيعة النزاع في ذلك، فالزيديّة تقول بذلك وتروي فيه الروايات عن الأئمة.

الثاني: إن كثيراً من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس، فليس كلّ من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس، بل المعتزلة البغداديون لا يقولون

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٦١.

١٤

بالقياس، وحينئذٍ، فإن كان القياس باطلاً أمكن الدخول في أهل السنة وترك القياس، وإنْ كان حقاً أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس.

الثالث: أن يقال: القول بالرأي والإِجتهاد والقياس والإِستحسان، خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمّن يصيب ويخطي، نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم.

ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، وحسن بن زياد اللؤلؤي، والشافعي، والبويطي، والمزني، وأحمد بن حنبل، وأبي داود السجستاني، والأثرم، وإبراهيم الحربي، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي بكر بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري، محمد بن نصر المروزي، وغير هؤلاء إلى اجتهادهم واعتبارهم، مثل أن يعلموا سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام، وتنقيحها وتخريجها، خير لهم من أنْ يتمسّكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما!!

فإنَّ الواحد من هؤلاء أعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما!! فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما، بل هو الواجب عليه!!

فكيف إذا كان ذلك نقلاً عنهما من مثل الرافضة.

والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أنْ يتعلّموا من الواحد من هؤلاء!! »(١) .

إن صريح هذا الكلام أعلميّة محمد بن جرير الطبري من الإِمامين المعصومين العسكريين، وهما الإِمام علي بن محمد الهادي، والإِمام الحسن بن علي

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٣١.

١٥

عليهما الصلاة والسلام، وأنّه يجب عليهما أن يتعلمـّا منه ومن أمثاله، نعوذ بالله من الضلالة والكفر.

فهذا صريح كلامه في الطبري، وهو في نفس الوقت لا ينظر إلى تصحيحه لحديث مدينة العلم بنظر الاعتبار، بل يتجاسر فيعدّه في الأحاديث الموضوعة، وما هذا إلّا من شدّة العناد وكثرة التعصّب

فالله حسيبه وحسيب أمثاله، وهو المنتصر من أعدائه بمخزيات عقابه ونكاله.

ثناء ابن تيميّة على الحاكم

وممّن أخرج حديث مدينة العلم وصحّحه هو الحاكم النيسابوري، لكن ابن تيميّة لا يعتني برواية الحاكم وتصحيحه ومساعيه الجميلة في سبيل إثبات هذا الحديث وتحقيقه على شرط البخاري ومسلم، بالرغم من علوّ مرتبته في علوم الحديث عند أهل السنّة قاطبة، وأنّ ابن تيميّة ذكره في أهل العلم بالحديث، الذين كانوا أكمل الناس خبرة بحال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا أشدهم رغبةً في التمييز بين الصدق والكذب، فهم المهاجرون إلى سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديثه، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، إلى آخر ما قال.

فمن الغريب أمره العاقل بالتدبّر للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، لغرض معرفة الصدق من الكذب، ثم لا يفعل هو بما أمر به، وكأنّه ليس من العقلاء!

وعلى الجملة، فإن دعواه أنّ هذا الحديث الشريف « أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات » من الأكاذيب الصّريحة الواضحة، والأباطيل الفضيحة اللائحة، ووجوه بطلانها لا تعدّ ولا تحصى كثرةً، وقد أشبعنا الكلام في إثبات هذا الحديث وتحقيقه بما لا مزيد عليه، والحمد لله على التوفيق.

١٦

٢ - سقوط التمسّك بقدح ابن الجوزي

وأمّا تمسّك ابن تيميّة بقدح ابن الجوزي في حديث مدينة العلم، فقد تقدّم الجواب عنه في ضمن ردّ كلام ( الدهلوي )، بحيث يذعن كلّ منصفٍ بصحة ما ذكرناه إذا وقف عليه، ولو تظاهر عظماء العلماء لما تمكّنوا من إنكاره وجحده، وكيف لا؟ وقد نصّ المحققون من أهل السنّة على تجاسر ابن الجوزي وتهوّره في الحكم على الأحاديث مطلقا، وأنّ جماعة منهم ردّوا كلامه في خصوص حديث مدينة العلم.

إذن، لا يجوز الاعتماد على كلام من اشتهر بين علماء أهل السنة وحفّاظهم بهذه الصفة، وعلى هذا الأساس أعرضوا عن كلماته في الأحاديث، أو توقّفوا عن قبولها، وقد بلغ سقوط تقوّلاته في خصوص هذا الحديث إلى حدٍّ انبرى جماعة من أعلام المحققين للردّ عليه وبيان فساده وبطلانه، إلّا أنّ ابن تيميّة لا يستحي من التمسّك بكلام ابن الجوزي الباطل، و« إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

ونحن كما فنّدنا كلام ابن تيميّة بالنسبة إلى حديث مدينة العلم بكلام نفسه، نثبت بطلان كلام ابن الجوزي الذي تمسّك به ابن تيميّة في ردّ هذا الحديث مزيداً للإِفحام والإِلزام، وذلك أنّ ابن الجوزي يقول في كتابه ( الموضوعات ): « فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام، كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، ونحوها، فانظر فيه، فإن كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره، وإن ارتبت به فرأيته يباين الأصول فتأمّل رجال إسناده، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه »(١) .

ففي هذا الكلام اعتراف بكون ( كتاب الترمذي ) من دواوين الإسلام،

____________________

(١). الموضوعات ١ / ٩٩.

١٧

وأنّ كلّ حديث مخرج فيه مقبول ومعتبر بلا نظرٍ وتردّد فيه، بل فيه تصريح بأنّ ما كان خارجاً عنه وعن غيره من دواوين الاسلام، وكان له نظير في الصحاح والحسان المخرجة في هذه الدواوين يرتّب أمره بلا ارتياب وهذا مقام جليل، وشأن عظيم لكتاب الترمذي وأمثاله وإذا كان كذلك فلما ذا يرمي ابن الجوزي حديث مدينة العلم المخرج في صحيح الترمذي مع الحكم بالحسن - كما مضى بيانه - بالوضع؟ هذا من موارد تسرّع ابن الجوزي، ومن مصاديق التهوّر كما وصفه بذلك كبار المحقّقين المتأخرين عنه.

فاللّازم من كلام ابن الجوزي نفسه أنْ يتوب عمّا قال في حديث مدينة العلم، وبذلك يزيد سقوط تمسّك ابن تيميّة بكلامه وضوحاً وظهوراً، ولله الحمد على ما أبان دحوض حجة هذا الناصب العنيد.

ثمّ إنَّ قوله: « وذكره ابن الجوزي وبيّن أنّ سائر طرقه موضوعة » كذب آخر، فإنّ ابن الجوزي لم يذكر جميع طرق حديث مدينة العلم، وإنما ذكر بعض طرقه التي كان يمكنه الخدشة في أسانيدها بزعمه، مع أنّ ما قاله بالنسبة إلى تلك الطرق غير مقبول لدى المحققين، ومن هنا تعقّبوا كلماته فيها. وأمّا سائر طرقه الصحيحة المخرجة في كتب علماء الحديث المعتمدة فلم يذكرها ابن الجوزي أصلاً، فقول ابن تيميّة أنه « بيّن أنّ سائر طرقه موضوعة » إفك صريح، وكذب فضيح.

٣ - قوله: « والكذب يعرف من نفس متنه »

فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلّا باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلّا واحد، فسد أمر الاسلام » من الخرافات الواضحة البطلان.

ومن يلاحظ ردود ابن تيميّة على الإِمامية، يرى أنّ كلماته في الغالب تنتهي إلى هدم مباني دين الإسلام، وتشييد أفكار المنكرين لنبوة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لفرط نفاقه وشدة شقاقه يسعى في سبيل الردّ على

١٨

الإِمامية غير مبالٍ بما يترتّب على أباطيله.

إنّ هذا الذي ذكره ابن تيميّة في جحد حديث مدينة العلم يمهّد الطّريق للكفّار لأن يقولوا: إنّه إذا كان الله عالما بشرائع الدين والأحكام التكليفية للعباد، ولم يبلّغها من جانبه في كلّ عصر إلّا واحد، لفسد أمر الدين وبطلت الشرائع، لأن التبليغ عن الله في كلّ عصر يلزم أن يكون بواسطة عدد كثير من الأنبياء يبلغون إلى حدّ التّواتر.

وهذا النقض كاف للردٍ على ما ذكره ابن تيميّة، لأنّ كلمـّا أجيب به عنه فهو جوابنا على كلامه الباطل.

وأيضاً: كما أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحده كافٍ للإِبلاغ عن الله عزّ وجلّ، وأنّه لثبوت حقّيّته غير محتاج إلى أنْ يشاركه في الإخبار عن الله غيره، كذلك يكفي في الإِبلاغ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجود سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولا حاجة إلى أن يشاركه أحد في الإِبلاغ كائناً من كان، للقطع بحقّيّة ما يبلّغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وإنّ حديث مدينة العلم - بالإضافة إلى غيره من الأدلة - شاهد صدق على ذلك. ومن هنا جعل أهل العلم واليقين حديث مدينة العلم من أدلة عصمة أمير المؤمنين، وقد مرّ التصريح بذلك من نصوص أعاظم المخالفين.

والحاصل: كما لا يضر توحّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغه، بعد ثبوت حقّيّته، كذلك لا يضرّ توحّد الإِمام في تبليغه عن النبي، بعد ثبوت حقّيّته بالأدلة الكثيرة ومنها حديث مدينة العلم.

٤ - بطلان دعوى وجوب أن يكون المبلّغون أهل التواتر

وأمّا قول ابن تيميّة: « ولهذا اتفق المسلمون على أنّه لا يجوز أنْ يكون المبلِّغ عنه العلم واحداً، بل يجب أن يكون المبلِّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم » فظاهر السقوط جدّاً، لمنافاته لتصريحات أئمة علم أصول الفقه وعلوم

١٩

الحديث، كما لا يخفى على المتتبّع لها، فإنّ قاطبة أهل السنة يوجبون العمل بخبر الواحد، ولم يخالف في هذا الحكم إلّا شاذ لا يعبأ به، وإليك نصّ عبارة أبي الحسن البزدوي في هذا المطلب، ليتّضح بطلان دعوى ابن تيميّة بوجوهٍ عديدة:

قال البزدوي: « باب خبر الواحد(١) ، وهو الفصل الثالث من القسم الأول، وهو كلّ خبرٍ يرويه الواحد أو الاثنان فصاعداً، لا عبرة للعدد فيه، بعد أنْ يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقيناً عندنا، وقال بعض الناس: لا يوجب العمل، لأنه لا يوجب العلم، ولا عمل إلّا عن علم. قال الله تعالى:( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهذا لأن صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة، فلا ضرورة له في التجاوز عن دليلٍ يوجب علم اليقين، بخلاف المعاملات لأنها من ضروراتنا، وكذلك الرأي من ضروراتنا، فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين. وقال بعض أهل الحديث: يوجب علم اليقين، لما ذكرنا أنه أوجب العمل، ولا عمل من غير علم، وقد ورد الآحاد في أحكام الآخرة مثل: عذاب القبر، ورؤية الله تعالى بالأبصار، ولا حظّ لذلك إلّا العلم. قالوا: وهذا العلم يحصل كرامةً من الله تعالى، فثبت على الخصوص للبعض دون البعض، كالوطء تعلّق من بعض دون بعض، ودليلنا في أنّ خبر الواحد يوجب العمل واضح، من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول.

أمّا الكتاب: قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ) وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجةً لما أمر ببيان العلم. وقال جلّ ذكره:( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) وهذا في كتاب الله أكثر من أنْ يحصى.

وأمّا السنة: فقد صحّ عن النبيعليه‌السلام قبوله خبر الواحد، مثل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة، وذلك لا يحصى عدده، ومشهور

____________________

(١). في هذه العبارة وأمثالها شيء كثير من الأدلة والوقائع التي لا يصحّحها الاماميّة، فليتنبّه.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لكن يبعد أن يفوز بها وهي [ حادثة ](١) في ملك غيره ، ثمّ لا يحتسبها من المبيع ، فإذا فاز بها فليقدّر كأنّها وُجدت يوم البيع(٢) .

ولنذكر مثالاً في اختلاف قيمة الأشجار والثمار.

فنقول : كانت قيمة الشجرة يوم البيع عشرةً ، وقيمة الثمرة خمسةً ، فلو لم تختلف القيمة ، لأخذ الشجرة بثلثي الثمن(٣) .

ولو زادت قيمة الثمرة فكانت عشرةً يوم البيع ، فكما لو كانت القيمة بحالها على أشهر الوجهين. وعلى الآخَر : يُضارب بنصف الثمن. ولو نقصت فكانت يوم القبض درهمين ونصفاً ، يُضارب بخُمْس الثمن.

ولو زادت قيمة الشجرة أو نقصت ، فالحكم على الوجه الثاني كما لو بقيت بحالها. وعلى الأوّل كذلك إن نقصت. وإن زادت وكانت خمسة عشر ، ضارَب بربع الثمن.

تذنيبان :

أ : إذا اعتبرنا في الثمار أقلّ القيمتين ، فلو كانتا متساويتين لكن وقع بينهما نقصان‌ ، نُظر إن كان بمجرّد انخفاض السوق ، فلا عبرة به. وإن كان لعيبٍ طرأ وزال ، فكذلك على الظاهر ، كما أنّه يسقط بزواله حقّ الردّ. وإن لم يزل العيب لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السوق ، اعتبرت قيمته يوم العيب ، دون البيع والقبض ؛ لأنّ النقصان الحاصل من ضمان البائع‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « جارية ». والمثبت من المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣.

(٣) في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٩٩ زيادة : « وضارب للثمرة بالثلث ».

١٤١

والارتفاع بعده في ملك المشتري لا يصلح جابراً له.

ب : إن اعتبرنا في الأشجار أكثر القيمتين ، فلو كانت قيمة الشجرة يوم العقد مائةً وخمسين‌ ، ويوم الرجوع إلى البائع مائتين ، فالوجه القطع باعتبار المائتين. ولو كانت قيمتها مائتين يوم العقد ويوم القبض ، ويوم الرجوع مائةً ، اعتبر يوم الرجوع ، فإنّ ما طرأ من زيادة وزال ليس ثابتاً يوم العقد حتى نقول : إنّه وقت المقابلة ، ولا يوم أخذ البائع [ حتى ](١) يحسب [ عليه ](٢) .

ولقائلٍ أن يقول : هذا إن استقام في طرف الزيادة ، تخريجاً على ما سبق أنّ ما فاز به البائع من الزيادة الحادثة(٣) عند المشتري يُقدَّر كالموجود عند البيع ، فلا يستقيم في طرف النقصان ؛ لأنّ النقصان الحاصل في يد المشتري كعيبٍ حدث في المبيع.

وإذا رجع البائع على العين المبيعة ، لزمه القناعة بها ، ولا يطالب المشتري للعيب بشي‌ء.

مسألة ٣٦٨ : قد ذكرنا أوّلاً أنّ الزيادة إمّا أن تكون حاصلةً لا من خارجٍ‌ ، وقد ذكرنا أقسامه وأحكام تلك الأقسام ، وإمّا أن تكون من خارجٍ. وأقسامها ثلاثة :

أ : أن تكون عيناً محضة.

ب : أن تكون صفةً محضة.

ج : ما يتركّب منهما.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عليك ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في « ج » : « الحاصلة » بدل « الحادثة ».

١٤٢

أمّا الأوّل فله ضربان :

أ : أن تكون قابلةً للتميّز عن المبيع.

ب : أن لا تكون قابلةً للتميّز.

فالأوّل كما إذا اشترى أرضاً فغرس فيها أو بنى ثمّ أفلس قبل إيفاء الثمن وأراد البائع الرجوعَ في أرضه ، فإن اتّفق الغرماء والمفلس على القلع وتفريغ الأرض وتسليمها بيضاء ، رجع فيها ؛ لأنّ ذلك الحقّ لهم لا يخرج من بينهم ، فإذا فعلوا ، فللبائع الرجوع في أرضه ؛ لأنّه وجد متاعه بعينه.

وهل يرجع قبل القلع أو بعده؟

قال بعض الحنابلة : لا يستحقّه حتى يوجد القلع ؛ لأنّ قبل القلع لم يدرك متاعه إلّا مشغولاً بملك المشتري(١) .

وقال الشافعي : يرجع قبله وهُمْ يشتغلون بالقلع ، وهو قول أكثر الحنابلة(٢) .

وليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس والبناء ليتملّكها مع الأرض.

وإذا قلعوا الغراس والبناء ، وجب تسوية الحُفَر من مال المفلس.

وإن حدث في الأرض نقصٌ بالقلع ، وجب أرش النقص في ماله.

ويضارب به أو يقدَّم؟ قال بعض الشافعيّة : يقدَّم على سائر الديون ؛ لأنّه لتخليص ماله وإصلاحه ، فكان عليه ، كما لو دخل فصيلٌ دارَ إنسانٍ فكبر فلم يمكنه إخراجه إلّا بهدم بابها ، فإنّ الباب يُهدم ليخرج ، ويضمن صاحبه ما نقص ، بخلاف ما لو وجد البائع عين ماله ناقصةً فرجع فيها ، فإنّه‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٥١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٢٩.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٠ ، المغني ٤ : ٥١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٢٩.

١٤٣

لا يرجع في النقص ؛ لأنّ النقص كان في ملك المفلس ، وهنا النقص حدث بعد رجوعه في العين ، فلهذا ضمنوه ، ويضرب بالنقص مع الغرماء(١) .

وإن قلنا : ليس له الرجوع قبل القلع ، لم يلزمهم تسوية الحُفَر ولا أرش النقص ؛ لأنّهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها ، فلم يضمنوا النقص ، كما لو [ قلعه ](٢) المفلس قبل فلسه.

ولو اختلفوا ، فقال المفلس : يقلع ، وقال الغرماء : نأخذ القيمة من البائع ليتملّكه ، أو بالعكس ، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء ، أُجيب مَن المصلحةُ في قوله.

ولو امتنع الغرماء والمفلس معاً من القلع ، لم يُجبروا عليه ؛ لأنّه حين البناء والغرس لم يكن متعدّياً بهما ، بل فَعَل ذلك بحقٍّ ، ومفهوم قولهعليه‌السلام : « ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ »(٣) أنّه إذا لم يكن ظالماً ، فله حقٌّ.

وحينئذٍ يُنظر إن رجع على أن يتملّك البناء والغراس مع الأرض بقيمتها ، أو يقلع ويغرم أرش النقص ، فله ذلك ؛ لأنّ الضرر يندفع من الجانبين بكلّ واحدٍ من الطريقين ، والاختيار فيهما إليه.

وليس للمفلس ولا للغرماء الامتناع من القبول ؛ لأنّ مال المفلس معرَّض(٤) للبيع ، فلا يختلف غرضهم بين أن يتملّكه البائع أو يشتريه‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٠ ، ولاحِظ : المغني ٤ : ٥١٣ - ٥١٤ ، والشرح الكبير ٤ : ٥٢٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قطعه ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٤٠ ، سنن أبي داوُد ٣ : ١٧٨ / ٣٠٧٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٦٢ / ١٣٧٨ ، سنن الدار قطني ٣ : ٣٦ / ١٤٤ ، الموطّأ ٢ : ٧٤٣ / ٢٦ ، مسند أحمد ٦ : ٤٤٦ - ٤٤٧ / ٢٢٢٧٢.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « متعرض ». والظاهر ما أثبتناه.

١٤٤

أجنبيّ ، ويخالف هذا ما إذا زرع المشتري الأرض وأفلس(١) ورجع البائع في الأرض حيث لا يتمكّن من تملّك الزرع بالقيمة ولا من القلع وغرامة الأرش ؛ لأنّ للزرع أمداً منتظَراً يسهل احتماله ، والغراس والبناء للتأبيد ، قال كلَّ ذلك الشافعي(٢) .

وقال أحمد : إذا بذل البائع قيمة الغرس والبناء ليكون له ذلك ، أو قال : أنا أقلع وأغرم الأرش ، فإن قلنا : له الرجوع قبل القلع ، فله ذلك ؛ لأنّ البناء و(٣) الغراس حصل في ملكه لغيره بحقٍّ ، فكان له أخذه بقيمته ، أو قلعه وضمان نقصه ، كالشفيعِ إذا أخذ الأرض وفيها غراس وبناء للمشتري ، والمعيرِ إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير. وإن قلنا : ليس له الرجوعُ قبل القلع ، لم يكن له ذلك ؛ لأنّ المفلس بنى وغرس في ملكه ، فلم يُجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه ، كما لو لم يرجع في الأرض(٤) .

وليس عندي بعيداً من الصواب أن يقال : ليس للبائع إجبار المفلس والغرماء على القلع ودفع الأرش ، ولا على دفع قيمة البناء والغرس ، بل إمّا أن يختار العين أو يمضي البيع ، فإن اختار العين وفسخ البيع ، لم يكن له القلع ولا دفع القيمة ، بل يرجع والأرض مشغولة بهذا البناء والغراس ، فتكون قد تعيّبت بالشغل بهما مؤبّداً ، فإن انهدم البناء أو قلع الغرس أو مات ، سقط حقّ المفلس ، وليس لصاحب الأرض الرجوعُ بالأُجرة مدّة مقامها(٥) فيها ؛ لأنّه إنّما يرجع في المعيب ثمّ يباع البناء أو الغراس على‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فلس ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤ - ٥٥.

(٣) الظاهر : « أو » بدل « و».

(٤) المغني ٤ : ٥١٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٠.

(٥) في « ث » : « بقائها ». والظاهر : « مقامهما » أو « بقائهما ».

١٤٥

صاحب الأرض أو غيره(١) مستحقَّين للبقاء.

ولأحمد قولٌ آخَر : إنّه يسقط حقّ بائع الأرض من الرجوع فيها ؛ لأنّه لم يُدرك البائع متاعَه على وجهٍ يمكنه أخذه منفرداً عن غيره فلم يكن له أخذه ، كالحجر والبناء والمسامير في الباب ، وكما لو كانت العين مشغولةً بالرهن - وهو قول بعض الشافعيّة - ولأنّ في ذلك ضرراً على المشتري والغرماء ، فإنّه لا يكون له طريق يسلكون منه إلى البناء والغراس ، ولا يزال الضرر بمثله. ولأنّه لا يحصل بالرجوع هنا انقطاع النزاع والخصومة ، بخلاف ما إذا وجدها مفرّغةً(٢) .

مسألة ٣٦٩ : لو أراد البائع الرجوعَ في الأرض وحدها وإبقاءَ الغراس والبناء للمفلس والغرماء ، أُجيب إلى ذلك‌ ، بل هو الوجه عندنا لو أراد الرجوع في العين على ما تقدّم.

وللشافعي قولان :

أحدهما : أنّه يجاب إلى ذلك ، كقولنا.

والثاني : أنّه ليس له الرجوعُ في الأرض خاصّةً ، وإبقاء البناء والغراس للمفلس.

ولأصحابه طريقان :

أحدهما : أنّ في المسألة قولين :

أحدهما - وهو اختيار المزني - : له [ أن ](٣) يرجع كذلك ، كما لو صبغ الثوبَ المشتري ثمّ [ أفلس ](٤) ، رجع(٥) البائع في الثوب ، ويكون المفلس‌

____________________

(١) في « ج ، ر » : « أو على غيره ».

(٢) المغني ٤ : ٥١٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٠ - ٥٣١.

(٣) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق ، وكما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فلس ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ورجع ». والمثبت هو الصحيح.

١٤٦

شريكاً معه بالصبغ.

وأصحّهما عنده : المنع ؛ لما فيه من الضرر ، فإنّ الغراس بلا أرض والبناء بلا مقرّ ولا ممرّ ناقص القيمة ، والرجوع إنّما يثبت لدفع الضرر ، فلا يدفع بضرر ، بخلاف الصبغ ، فإنّ الصبغ كالصفة التابعة للثوب.

والثاني : تنزيل النصّين على حالين ، وله طريقان :

أحدهما : قال بعض الشافعيّة : إنّه حيث قال : « يرجع » أراد ما إذا كانت الأرض كثيرة القيمة ، والبناء والغراس مستحقرين بالإضافة إليها ، وحيث قال : « لا يرجع » أراد ما إذا كانت الأرض مستحقرةً بالإضافة إليهما. والمعنى في الطريقين اتّباع الأقلّ للأكثر.

ومنهم مَنْ قال : حيث قال : « يرجع » أراد ما إذا رجع في البياض المتخلّل بين الأبنية والأشجار ، وضارَب للباقي بقسطه من الثمن ، [ يُمكّن ](١) منه ؛ لأنّه ترك بعض حقّه في العين.

فإذا فرّعنا على طريقة القولين ، فإن قلنا : ليس له الرجوعُ في الأرض وإبقاء البناء(٢) والغراس للمفلس ، فللبائع ترك الرجوع ، ويُضارب مع الغرماء بالثمن ، أو يعود إلى بذل قيمتهما أو قلعهما وغرامة أرش النقصان ، فإن مكّنّاه منه فوافق البائع الغرماء وباع الأرض معهم حين باعوا البناء والغراس ، فذلك.

وإن أبى فهل يُجبر؟ فيه للشافعيّة قولان :

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يتمكّن ». والظاهر ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) فيما عدا « ث » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « العين » بدل « البناء ».

١٤٧

أحدهما : يُجبر ، كما في مسألة الصبغ.

وأصحّهما عندهم : لا يُجبر ؛ لأنّ إفراد البناء والغراس بالبيع ممكن ، بخلاف الصبغ.

فإذا لم يوافقهم فباعوا البناء والغراس ، بقي للبائع ولاية التملّك بالقيمة والقلع مع غرامة الأرش ، وللمشتري الخيار في المبيع إن كان جاهلاً بحال ما اشتراه(١) .

واعلم أنّ الجويني نقل أربعة أقوال في هذه المسألة.

أ : أن يقال : إنّ البائع فاقد عين ماله ، ولا رجوع بحال ؛ لأنّ الرجوع في الأرض ينقص قيمة البناء والغراس.

ب : أنّ الأرض والبناء أو الغراس يُباعان معاً ، دفعاً للخُسْران عن المفلس ، كما في الثوب المصبوغ.

ج : أنّه يرجع في الأرض ، ويتخيّر بين أُمور ثلاثة : إمّا تملّك البناء والغراس بالقيمة ، وإمّا قلعهما مع غرامة أرش النقصان ، وإمّا إبقاؤهما بأُجرة المثل تؤخذ من مالكهما(٢) .

فإذا عيّن واحدةً من هذه الخصال الثلاث فاختار المفلس والغرماء غيرها أو امتنعوا من الكلّ ، فللشافعيّة وجهان في أنّه يرجع إلى الأرض ويقلع مجّاناً ، أو يُجبرون على ما عيّنه(٣) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٠ - ٤٠١.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مالكها ». والصحيح ما أثبتناه ، كما في المصدر أيضاً.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عيّنوا » بدل « عيّنه ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر أيضاً.

١٤٨

د : أنّه إن كانت قيمة البناء أكثر ، فالبائع فاقد عينٍ. وإن كانت قيمة الأرض أكثر ، فواجدٌ(١) .

مسألة ٣٧٠ : لو اشترى من رجل أرضاً فارغة واشترى من آخَر غرساً وغرسه في تلك الأرض ثمّ أفلس ، كان لصاحب الأرض الرجوعُ فيها ، ولصاحب الغراس الرجوعُ فيه.

ثمّ يُنظر فإن أراد صاحب الغراس قلعه ، كان له ذلك ، وعليه تسويةُ الحُفَر ؛ لأنّه لتخليص ماله ، وأرشُ نقص الأرض إن حصل نقصٌ.

فإن أراد صاحب الأرض أن يعطيه قيمته إن لم يختر صاحبه قلعه ، قال الشافعي : يكون له مطلقاً(٢) .

والأقوى عندي : أنّه يكون له ذلك إن رضي صاحب الغرس ، وإلّا فلا.

وإن أراد صاحب الأرض قلعه ويضمن ما نقص ، كان له.

وإن أراد قلعه بغير ضمانٍ ، فالأقرب : أنّه ليس له ذلك ؛ لأنّ غرسه ثابت في الأرض بحقٍّ ، فلا يكون له قلعه مجّاناً.

ولو كان الغراس من المفلس ، لم يُجبر على قلعه من غير ضمانٍ ، وهو أحد وجهي الشافعي.

والثاني : أنّه يجاب إلى ذلك ؛ لأنّه إنّما اشترى منه الغراس مقلوعاً ، فكان عليه أن يأخذه كذلك ، وليس له تبقيته في ملك غيره ، ويفارق المفلس ؛ لأنّه غرسه في ملكه فيثبت حقّه في ذلك(٣) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٥ - ٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠١.

(٢) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٢٩٣.

(٣) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٢٩٣ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٠١.

١٤٩

ويُحتمل عندي وجهٌ آخَر ، وهو : أن يقال : صاحب الغراس(١) لا يستحقّ الإبقاء في الأرض ، وصاحب الأرض لا يستحقّ القلع مجّاناً ؛ لأنّه أثبت بحقٍّ ، فيُقوَّم الغراس مقلوعاً وثابتاً ، ويأخذ المفلس التفاوت بينهما ؛ لأنّه مستحقّ له.

مسألة ٣٧١ : قد ذكرنا حكم الزيادة من خارجٍ ، القابلة للتميّز ، وبقي ما لا يقبله‌ ، كمزج ذوات الأمثال بعضها ببعضٍ ، مثل أن يشتري صاعاً من حنطةٍ أو شعير أو دخن أو غير ذلك من الحبوب ويمزجه بصاعٍ له ، أو يشتري مكيلةً من زيتٍ أو سمن أو شيرج أو غير ذلك من الأدهان ثمّ يمزجه بمكيلة ، وكذا جميع ذوات الأمثال إذا امتزجت بحيث لا يمكن تخليص بعضها من بعضٍ ، فأقسامه ثلاثة :

أ : أن يكون الممتزجان متماثلين ليس أحدهما أجود من الآخَر ، لم يسقط حقّه من العين - وبه قال الشافعي ومالك(٢) - ويكون له المطالبة بالقسمة ؛ لأنّ عين ماله موجودة فيه ، ويمكنه التوصّل إلى حقّه بالقسمة ؛ لأنّ الزيت كلّه سواء ، فيأخذ حقّه بالكيل أو الوزن.

وقال أحمد : يسقط حقّه من العين ؛ لأنّه لم يجد عين ماله ، فلم يكن له الرجوعُ ، كما لو تلفت. ولأنّ ما يأخذه من غير ماله ممتزجاً بعين ماله(٣)

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « الغرس ».

(٢) الأُم ٣ : ٢٠٣ ، مختصر المزني : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٣ ، الوجيز ١ : ١٧٥ ، الوسيط ٤ : ٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩ ، التفريع ٢ : ٢٥١.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ما يأخذه من عين ماله ممتزجاً بغير ماله ». والمثبت هو الصحيح.

١٥٠

إنّما يأخذه عوضاً عن ماله ، فلم يختصّ به دون(١) الغرماء ، كما لو تلف ماله(٢) .

ويُمنع عدم وجدانه لعين ماله ، بل وجدها ممتزجةً بغيرها.

والفرق بينه وبين التلف ظاهرٌ ؛ لأنّه نقيضه.

وما يأخذه من غير(٣) ماله وإن كان عوضاً عن ماله إلّا أنّه يُدخل بواسطته في حقّ المفلس مالاً ، فكان مقدَّماً به على باقي الغرماء.

وإن لم تجز القسمة وطالب(٤) بالبيع ، فالأقرب أنّه يجاب إلى ذلك ؛ لأنّ بالقسمة لا يصل إلى عين ماله ، وربما كان له غرض في أن لا يأخذ من زيت المشتري شيئاً ، وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني : أنّه لا يجاب إليه ؛ لأنّه يصل إلى جميع حقّه بالقسمة ، فهو كجماعةٍ ورثوا زيتاً لا يكون لبعضهم أن يطالب بعضاً بالبيع(٥) .

والفرق أنّ الورّاث ملكوا الزيت ممزوجاً ، والمفلس كان قد ملك متميّزاً عن ملك البائع ، وكذا البائع ملك متميّزاً عن ملك المفلس ، فافترقا.

ب : أن يمزجه المشتري بأردأ منه‌. وللبائع هنا أيضاً الخيار بين الفسخ(٦) فيرجع في عينه بالكيل أو الوزن - وبه قال الشافعي ومالك(٧) - لما‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إذن » بدل « دون ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩ - ٥٢٠.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عين » بدل « غير ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « فطالب ».

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٣ - ٥١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٦ - ٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢.

(٦) كذا قوله : « بين الفسخ ». ولعلّها : « في الفسخ ».

(٧) الأُم ٣ : ٢٠٣ ، مختصر المزني : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٠ ، المهذّب =

١٥١

تقدّم في المساوي ، فإذا رضي بالأردأ ، كان أولى.

وقال أحمد : يسقط حقّه من العين بمجرّد المزج ، سواء بالأجود أو الأردأ أو المساوي(١) .

وقد تقدّم بطلانه ؛ لأنّ عين ماله موجودة من طريق الحكم ، فكان له الرجوعُ ، كما لو وجد عين ماله منفردة [ و ] لأنّه ليس فيها أكثر من اختلاطها ، وهو لا يُخرج الحقيقة عن حقيقتها ، فأشبهت صبغ الثوب وبلّ السويق بالزيت.

وفي كيفيّة أخذ حقّه للشافعي طريقان :

أحدهما - وهو الأصحّ عنده وعندي - : أنّه يقسّم بالمكيال أو الوزن ، فإن تساويا قدراً ، أخذ النصف. وإن تفاوتا ، أخذ المقدار(٢) الذي له ، وإن شاء ضارَب مع الغرماء.

والثاني : أنّ المكيلين يباعان معاً ويُقسّم الثمن بينهما على قدر القيمتين ؛ لأنّه إن أخذ مكيله من الممتزج ، نقص حقّه ، ولا يجب عليه المسامحة ، وإن أخذ أكثر من مكيله ، لزم الربا ، فعلى هذا لو كان المبيع يساوي درهمين ، والممتزج به يساوي درهماً ، قسّم الثمن بينهما أثلاثاً(٣) .

وهو خطأ ؛ لأنّ هذا نقصان حصل في المبيع ، فأشبه تعيّب العبد‌

____________________

= - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٤ ، الوجيز ١ : ١٧٥ ، الوسيط ٤ : ٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩.

(١) المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مقدار » بدل « المقدار ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠١ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢.

١٥٢

والثوب.

ج : أن يمتزج(١) بالأجود‌ ، فالأصحّ أنّه يسقط حقّه من العين ، وليس له إلّا المضاربة بالثمن - قال الشافعي : بهذا أقول ، وهو أصحّ الوجهين(٢) - لأنّ عين زيته تالفة من طريق المشاهدة والحكم.

أمّا من طريق المشاهدة والحقيقة : فللاختلاط.

وأمّا من طريق الحكم : فلأنّه لا يمكنه الرجوع إلى عينه بالقسمة وأخذ المكيل من الممتزج ؛ لما فيه من الإضرار بصاحب الأجود ، ولا المطالبة بقيمته ، بخلاف المساوي ، فإنّه يمكنه المطالبة بقسمته فيه ، وبخلاف الثوب المصبوغ ، فإن عينه موجودة محسوسة ، وكذا السويق ، فإنّ عينه لم تفقد وهي مشاهدة.

وقال المزني : له الفسخ ، والرجوع إلى حقّه من المخلوط ، كالخلط بالمثل والأردأ ، وكما لو صبغ الثوب ولتَّ السويق(٣) ، لا ينقطع(٤) حقّ الرجوع ، فكذا هنا(٥) .

والفرق أنّ الزيت إذا اختلط ، لم يمكن الإشارة إلى شي‌ء من‌

____________________

(١) فيما عدا « ث » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يمزج ».

(٢) الأُم ٣ : ٢٠٣ ، مختصر المزني : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٥ ، الوجيز ١ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩.

(٣) لتّ السويق : أي بلّه بالماء أو بغيره. لسان العرب ٢ : ٨٢ و ٨٣ « لتت ».

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا يقطع ». والظاهر ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) مختصر المزني : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧.

١٥٣

المخلوط بأنّه المبيع ، فكأنّه هلك ، بخلاف الثوب والسويق.

ومن هذا الفرق خرّج بعضهم في المزج بالمثل والأردأ قولاً آخَر : إنّه ينقطع به حقّ الرجوع ، وأيّد ذلك بأنّ الحنطة المبيعة لو انثالت عليها أُخرى قبل القبض ، ينفسخ المبيع على قولٍ ؛ تنزيلاً له منزلة التلف(١) .

والمعتمد عندنا وعندهم(٢) أنّ الخلط بالمثل والأردأ لا يمنع الرجوع ، على ما سبق. ويفارق اختلاط المبيع قبل القبض ؛ لأنّ الملك غير مستقرّ ، فلا يبعد تأثّره بما لا يتأثّر الملك المستقرّ.

وعلى قول المزني بالرجوع في صورة المزج بالأجود ، فيه قولان للشافعي في كيفيّة الرجوع :

أصحّهما عندهم : أنّه يكون شريكاً مع المفلس بقدر قيمة مكيله ، فيباع المكيلتان ، ويقسّم بينهما على قدر القيمتين ، كما في صبغ الثوب.

والثاني : أنّ نفس المكيلتين يقسّم بينهما باعتبار القيمة ، فإذا كانت المكيلة المبيعة تساوي درهماً والمخلوطة درهمين ، أخذ من المكيلتين ثلثي مكيلة(٣) .

وقد خرّج بعضهم هذا الخلافَ على أنّ القسمة بيع أو إفراز حقٍّ؟ إن قلنا : إنّها بيع ، لم يقسّم عين الزيت ؛ لما في القسمة من مقابلة مكيلة بثلثي مكيلة. وإن قلنا بالثاني ، فيجوز ، وكأنّه أخذ بعض حقّه وترك البعض(٤) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٨ ، الوسيط ٤ : ٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥١٥ ، الوسيط ٤ : ٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٧ - ٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٨.

١٥٤

وقال بعضهم : إنّ هذا ليس بصحيح ؛ لأنّ ذلك إن كان بيعاً ، كان رباً ، وإن أخذ ثلثه وأبرأه عمّا بقي من مكيلة زيته ، لم تكن البراءة واجبةً عليه ، فيكون له أن لا يفعل ، ويطالب بالباقي ، ولا يجوز ذلك ؛ لأنّه يأخذ حينئذٍ أكثر ممّا لَه ، فلم يبق إلّا البيع لهما(١) .

تذنيبان :

أ : إذا قلنا : الخلط يُلحق المبيعَ بالمفقود‌ - كما هو قول بعض الشافعيّة ، وقول أحمد(٢) - لو كان أحد الخليطين كثيراً والآخَر قليلاً ولا تظهر به زيادة في الحسّ ، ويقع مثله بين المثلين ، فإن كان الكثير للبائع ، فهو واجد عين ماله. وإن كان الكثير للمشتري ، فهو فاقد.

وقال بعض الشافعيّة : الحكم الأوّل قطعيّ ، والثاني ظاهر(٣) .

ب : لو كان المخلوط من غير جنس المبيع كالزيت والشيرج ، فهو فاقد عين ماله‌ ، وليس له الفسخ حينئذٍ ، ويكون بمثابة ما لو تلف المبيع ، فيُضارب بالثمن.

قال الجويني : وفيه احتمال ، سيّما على قوله ببيع المخلوط وقسمة الثمن(٤) .

مسألة ٣٧٢ : قد ذكرنا من أقسام النوع الثاني من الزيادات قسماً واحداً‌ ، وهو أن تكون الزيادة عيناً محضة ، وبقي قسمان : ما يكون صفةً محضة ، وما يتركّب منهما ، فنبدأ بالصفة المحضة.

____________________

(١) راجع المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢.

١٥٥

فنقول : إذا اشترى عيناً وعمل فيها ما يزيد في صفتها - مثل أن يشتري حنطة فيطحنها أو يزرعها ، أو دقيقاً فيخبزه ، أو ثوباً فيقصره ، أو يخيطه قميصاً بخيوط من الثوب ، أو غزلاً فينسجه ، أو خشباً فينشره ألواحاً ، أو ألواحاً فينجرها باباً ، وبالجملة أن يعمل شيئاً يزيل اسمه - فإنّه لا يسقط حقّ الرجوع بذلك عندنا إذا أفلس - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ العين لم تخرج عن حقيقتها بتوارد هذه الصفات عليها ، فكان واجداً عين ماله ، فله الرجوع فيها.

وقال أحمد : يسقط حقّ البائع من الرجوع ؛ لأنّه لم يجد عين ماله بعينه ، فلم يكن له الرجوعُ ، كما لو أتلفه. ولأنّه غيّر اسمه وصفته ، فلم يكن له الرجوع ، كما لو كان نوىً فنبت شجراً(٢) .

وليس بصحيح ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ العين لم تخرج عن حقيقتها ، وإلّا لكان الغاصب يملك المغصوب إذا فَعَل به هذه الصفات ، وكان ينتقل حقّ المغصوب منه إلى المثل أو القيمة ، وليس كذلك. وتغيير الوصف لا ينافي بقاء العين ، ويخالف النوى ؛ لأنّ الحقيقة قد زالت ووُجدت أُخرى.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إن لم تزد قيمة المبيع بهذه الصفات ، لم يكن للمفلس شركة فيه ، بل يأخذه البائع موصوفاً بهذه الصفة ، سواء غرم عليها المفلس شيئاً أو لا.

وإن نقصت قيمته ، فلا شي‌ء للبائع معه.

____________________

(١) الأُم ٣ : ٣٠٣ ، مختصر المزني : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٢ ، التنبيه : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٦ ، حلية العلماء ٤ : ٥٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٢.

(٢) المغني ٤ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٢ - ٥١٣.

١٥٦

وإن زادت ، صار المفلس شريكاً فيها ، كما في زيادات الأعيان.

قال الشافعي : وبه أقول - وهو أصحّ القولين - لأنّها زيادة حصلت بفعلٍ متقوّم محترم ، فوجب أن لا تضيع عليه ، كما لو صبغ الثوب. ولأنّ الطحن والقصارة أُجريت مجرى الأعيان ، ولهذا كان للطحّان أن يمسك الدقيق على الأُجرة ، وكذا القصّار(١) .

والقول الثاني للشافعي - وبه قال المزني - : إنّ الزيادة في هذه الأعمال تجري مجرى الآثار ، ولا شركة للمفلس فيها ؛ لأنّها صفات تابعة ، وليس للمفلس فيها عين مال ، بل أثر صنعة ، فهي كسمن الدابّة بالعلف وكِبَر الوَديّ بالسقي والتعهّد ، وكتعلّم الغلام صنعةً ، وكما لو اشترى لوزاً فقشره أو غنماً فرعاها. ولأنّ القصارة تزيل الوسخ وتكشف عمّا فيه من البياض ، فلا تقتضي الشركة ، كما لو كان المبيع لوزاً فكسره وكشف اللُّبّ وزادت به القيمة. ويدلّ عليه أنّ الغاصب لو قصر الثوب أو طحن الحنطة لم يستحق شيئاً(٢) .

والفرق ظاهرٌ بين المتنازع وسمن الدابّة بالعلف وكِبَر الوَديّ بالسقي ؛ لأنّ القصّار إذا قصر الثوب ، صار الثوب مقصوراً بالضرورة ، وأمّا السقي والعلف فقد يوجدان كثيراً من غير سمن ولا كِبَر ؛ لأنّ الأثر فيه غير منسوبٍ إلى فعله ، بل هو محض صنع الله تعالى ، ولهذا لا يجوز الاستئجار على‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٢ ، الوجيز ١ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٣ ، المغني ٤ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٠٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٠٩ ، الوجيز ١ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٢ ، المغني ٤ : ٥٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥١٢.

١٥٧

تسمين الدابّة و [ تكبير ](١) الوَديّ ، ويجوز الاستئجار على القصارة.

ويخالف المشتري الغاصب ؛ فإنّ الغاصب مُعْتدٍ بفعله ، فلم يثبت له فيها حقّ ، بخلاف مسألتنا.

لا يقال : أليس لو صبغ الغاصب الثوبَ ، كان شريكاً فيه مع تعدّيه؟

لأنّا نقول : الصبغ عين ماله ، وله قلعه ، فإذا تعذّر ذلك ، كان شريكاً ، بخلاف المتنازع ، إلّا أنّ هذا الفرق يمنع اعتبار مسألتنا أيضاً بالصبغ.

مسألة ٣٧٣ : لو اشترى دقيقاً فخبزه ، أو لحماً فشواه ، أو شاةً فذبحها ، أو أرضاً فضرب من ترابها لِبْناً ، أو عرصةً وآلات البناء فبناها فيها(٢) داراً ثمّ أفلس ، كان شريكاً بهذه الأفعال.

وللشافعي قولان(٣) .

أمّا لو علّم العبدَ القرآنَ أو الصنعةَ أو الكتابةَ أو الشعرَ المباح ، أو راضَ الدابّةَ ، فكذلك عندنا ؛ لأنّ هذه الأفعال تصحّ المعاوضة عليها ، فكانت زيادةً.

وقد اختلفت الشافعيّة :

فقال أبو إسحاق : إنّ هذه لا تلحق بما تقدّم ، ولا تجري مجرى الأعيان قطعاً ؛ لأنّه ليس بيد المعلّم والرائض إلّا التعليم ، وقد يجتهد فيه فلا يحصل الغرض ، فكان كالسمن ونحوه(٤) .

والأصحّ عندهم - وبه قال ابن سريج - : أنّها من صور القولين ؛ لأنّها‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « كبر ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٢) كذا ، والظاهر : « فبنى فيها ».

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٩٦ و ٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٣.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٣.

١٥٨

أعمال يجوز الاستئجار عليها ، ومقابلتها بالعوض(١) .

وضبط صور القولين أن يصنع المفلس بالمبيع ما يجوز الاستئجار عليه ، فيظهر به أثر فيه.

وإنّما اعتبرنا ظهور الأثر فيه ؛ لأنّ حفظ الدابّة وسياستها عمل يجوز الاستئجار عليه ، ولا تثبت به الشركة ؛ لأنّه لا يظهر بسببه أثر على الدابّة.

ثمّ الأثر قد يكون صفةً محسوسة كالطحن والقصارة ، وقد يكون من قبيل الأخلاق كالتعليم والرياضة.

فعلى أحد قولي الشافعي يأخذ البائع العينَ زائدةً بهذا الوصف ، ويفوز بالزيادة مجّاناً.

وعلى ما أختاره - وهو القول الثاني له - تُباع العين ، ويكون للمفلس من الثمن بنسبة ما زاد في قيمته.

فلو كانت قيمة الثوب خاماً خمسةً ، ومقصوراً ستّةً ، كان للمفلس سدس الثمن ، فلو ارتفعت القيمة بالسوق أو انخفضت ، فالزيادة أو النقصان بينهما على النسبة.

ولو ارتفعت قيمة الثوب خاصّةً بأن صار مثل ذلك الثوب خاماً يساوي ستّةً ، ويسوي مقصوراً سبعةً ، فليس للمفلس إلّا سُبْع الثمن ؛ لأنّه قيمة صنعته ، والزيادة حصلت في الثوب للبائع ليس للمفلس فيها شي‌ء ؛ لأنّها زيادة سوقيّة.

ولو انعكس الفرض ، فزادت قيمة الصنع خاصّةً بأن كان مثل هذا الثوب يسوي مقصوراً سبعةً ، ويساوي خاماً خمسةً ، فالزيادة للمفلس خاصّةً ، فيكون له سُبْعا الثمن. وعلى هذا القياس.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٣.

١٥٩

وهل للبائع إمساك المبيع ببذل قيمة ما فَعَله المفلس ومنعه من بيعه؟ الأقرب : ذلك ؛ لوجوب البيع على كلّ تقدير ، واعتبار الأصل بالبقاء أولى ؛ إذ لا يجب بذل عينه للبيع ، وبه قال بعض الشافعيّة ؛ قياساً على أنّه يبذل قيمة الغراس والبناء(١) .

ومَنَع بعضُهم منه ؛ لأنّ الصنعة لا تُقابل بعوض(٢) .

ونحن لـمّا منعنا - فيما تقدّم - وجوبَ بذل البناء والغراس بدفع القيمة ، وأوجبنا هنا دفع الصنعة ، قلنا ذلك ؛ للفرق بين الأعيان التي تُعدّ أُصولاً ، وبين الصفات التابعة.

تذنيبان :

أ : إذا استأجره للقصارة أو الطحن فعمل الأجير عمله ، كان له حبس الثوب والدقيق لاستيفاء الأُجرة‌ إن جعلنا القصارة والطحن كالأعيان ، كما يحبس البائع المبيع لقبض الثمن. وإن جعلنا القصارة وشبهها من الآثار ، فلا.

ب : إذا تمّم القصّار والطحّان العملَ وتلف الثوب والطحين في يده‌ ، إن قلنا : إنّ فعله آثار لا تجري مجرى الأعيان ، استحقّ الأُجرة كأنّه وقع مسلّماً بالفراغ. وإن قلنا : إنّه أعيان ، لم يستحق ؛ حيث تلف قبل التسليم ، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل تسليمه.

مسألة ٣٧٤ : قد ذكرنا حكم الزيادة إذا كانت صفةً محضة ، وبقي ما إذا كانت الزيادة عيناً من وجهٍ وصفةً من وجهٍ.

فنقول : إذا اشترى ثوباً فصبغه ، أو سويقاً ولتَّه بزيتٍ وأشباه ذلك ثمّ‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301