نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٢

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار12%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 301

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 301 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142006 / تحميل: 5840
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

(٤)

مع ابن تيميّة الحرّاني

في كلامه حول حديث « أنا مدينة العلم »

ومن المواضع التي يتبيّن فيها بوضوح نصب ابن تيميّة وعناده للحق وأهله هو: مبحث حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها »، فقد بالغ في هذا المقام في الكذب والافتراء، في سبيل ردّ هذا الحديث الشريف وتكذيبه، ونحن نذكر أوّلاً عبارته، ثم نتكلّم حولها، فهذا نصّ عبارته:

« وحد يث أنا مدينة العلم وعلي بابها أضعف وأوهى، ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة.

والكذب يعرف من نفس متنه، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلّا باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلّا واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم إلّا واحداً، بل يجب أن يكون المبلِّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلّا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفيةً

٥

عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة.

وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره.

قيل لهم: فلابدّ من العلم بعصمته أوّلاً، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعلم عصمته فإنه دور، ولا تثبت بالإِجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإِمامية إنما يكون الاجماع حجة لأن فيهم الإِمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقّاً لا بدّ أنْ تعلم بطريقٍ آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلّا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين.

فعلم أنّ هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنّه مدحاً، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الاسلام، إذ لم يبلّغه إلّا واحد.

ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الاسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي:

أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما [ فيهم ] ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن عليّ إلّا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا تعلّموا القرآن والسنّة قبل أنْ يتولى عثمان فضلاً عن علي. وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر، وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من عليّ، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر ممّا رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ ابن جبل، ولـمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً، وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة »(١) .

١ - بطلان دعوى ضعف الحديث

نقول: دعوى أن حديث مدينة العلم أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٣٨.

٦

الموضوعات، إفك فضيح، لما عرفت سابقاً من صحّة هذا الحديث واستفاضته وشهرته بل وتواتره، حتى تجلّى ذلك كالشمس المنجلي عنها الغمام على رغم آناف المنكرين الطّغام، فمن العجيب تعامي ابن تيميّة عن جميع تلك النصوص والتصريحات من كبار المحقّقين، ومشاهير نقدة الأخبار والحديث المعتمدين!!

ثناء ابن تيمية على ابن معين وأحمد

أليس فيمن صحّح حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » يحيى بن معين هذا الرجل الذي أذعن ابن تيميّة نفسه - فيمن أذعن - بجلالة قدره وسمّو منزلته في علم الحديث ونقده؟ بل لقد عدّه ابن تيميّة فيمن يرجع إليه في التمييز بين الصّدق والكذب حيث قال: « المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل العلم بالحديث، كما يرجع إلى النحاة في الفرق بين لحن العرب ونحو العرب، ويرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكلّ علمٍ رجال يعرفون به.

والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء، وأعظم قدراً، وأعظمهم صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً، فإنهم من أعظم الناس صدقاً وديناً وأمانةً وعلماً وخبرة بما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى ابن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدار قطني.

وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل، وإنْ كان بعضهم أعلم من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن

٧

كلامه، كما أنّ الناس في سائر العلوم كذلك »(١) .

فإذا كان « يحيى بن معين » في هذه المرتبة من الجلالة والعظمة عند ابن تيميّة، فلما ذا لا ينظر ابن تيميّة إلى تنصيص يحيى بن معين على صحة حديث مدينة العلم بعين الاعتبار؟ ولما ذا يقول ما لا يفعل؟ والله تعالى يقول:( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) .

وذكر ابن تيميّة « يحيى بن معين » في موضع آخر من كتابه في جماعةٍ من أئمة أهل السنة، وصفهم بـ « أئمة الحديث ونقّاده وحكّامه وحفّاظه، الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن بعد هؤلاء من نقلة العلم » وإليك نصُّ عبارته كاملة لما فيها من الفوائد في هذا المقام:

« فإنْ قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسّرين والمصنّفين في الفضائل، كالثعلبي والبغوي وأمثالهما، والمغازلي وأمثاله.

قيل له: مجرّد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتّفاق أهل العلم بالحديث، فإن في كتب هؤلاء من الأكاذيب الموضوعة ما اتّفق أهل العلم على أنه كذب، والثعلبي وأمثاله لا يتعمّدون الكذب، بل فيهم من الصلاح والدّين ما منعهم من ذلك، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب، ويدوّنون ما سمعوه، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، ومحمّد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وأبي عبد الله بن مندة، والدار قطني، وعبد الغني بن سعيد، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقّاده

وقد صنّفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسمائهم،

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٠.

٨

وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم، مثل: كتاب العلل وأسماء الرجال عن يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والترمذي، وأبي أحمد ابن عدي، وأبي حاتم ابن حبان، وأبي الفتح الأزدي، والدارقطني، وغيرهم »(١) .

فلماذا يعدّ حديث مدينة العلم في الموضوعات مع تصحيح يحيى بن معين إيّاه، وهو كالبخاري ومسلم ومشايخهما وأضرابهما من نقدة الحديث وحفاظه، والمرجع إليهم في تمييز صدقه من كذبه؟

وفي موضعٍ ثالثٍ يزيد في المبالغة والإِغراق في مدح يحيى بن معين فيقول في كلامٍ له:

« ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليتدبّر الأحاديث الصحيحة التي صحّحها أهل العلم بالحديث، الذين كملت خبرتهم بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحبّتهم له وصدقهم في التبليغ عنه، وصار هواهم تبعاً لما جاء به، فليس لهم غرض إلّا معرفة ما قاله، وتمييزه عمّا يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين، كأصحاب الحديث مثل: البخاري، ومسلم، والإِسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والدار قطني، ثم مثل صحيح(٢) ابن خزيمة، وابن مندة، وأبي حاتم البستي، ثم الحاكم، وما صحّحه أئمة أهل الحديث الذين هم أجلّ من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصي عددهم إلّا الله.

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٨٤.

(٢). لفظة « الصحيح » لا تناسب المقام، فلعلّها من هفوات القلم.

٩

فإذا تدبّر العاقل للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، عرف الصّدق من الكذب، فإنَّ هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك، وأشدّهم رغبةً في التمييز بين الصّدق والكذب، وأعظمهم ذبّاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم المهاجرون إلى سنّته وحديثه والأنصار له في الدين، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في عملهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلّا فليسلّم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبّهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى الحسّاب حسابهم، وإلى أهل العلم بالأوقات علمهم »(١) .

فهذا الكلام صريح في أنّ « يحيى بن معين » ممّن كملت خبرته، وكبرت معرفته، بحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديثه، وأنّ ما صحّحه صدق، وأنّه لابدَّ من تسليم أمر التمييز بين الصدق والكذب إليه

فلما ذا يقف هذا الموقف تجاه حديث مدينة العلم الذي ثبت تصحيح يحيى ابن معين إيّاه؟

وهل هذا إلّا تهافت؟

وأيضاً، فإنّ من رواة حديث مدينة العلم هو « أحمد بن حنبل »، وقد عرفت من كلمات ابن تيميّة ثنائه على أحمد أيضاً، إذ قد ذكره في عداد أئمة الحديث ونقدته وحفّاظه

لقد روى أحمد بن حنبل حديث مدينة العلم في فضائل ومناقب سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام بطرقٍ متعدّدة، أفهل يعقل أنّ يروي أحمد حديثاً موضوعاً بطرقٍ عديدة، ويعدّه من فضائل عليعليه‌السلام ، وهو ومصنّفاته على تلك الجلالة والعظمة التي وصفه بها ابن تيميّة؟

ولو كان حديث أنا مدينة العلم من الموضوعات لجعل ابن تيميّة مصنّفات

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٥٢.

١٠

أحمد كمصنّفات الثعلبي والبغوي وأمثالهما الموصوفة عنده بالإِشتمال على الصّدق والكذب، لكنّه جعل مصنفات أحمد وأمثاله في مقابل مصنفات أولئك كما رأيت في عبارته السابقة، فإن هذا يدل على أنّ أحمد ما كان يدوّن في كتبه كلّ ما سمعه، فضلاً عن تعمّد الكذب ونقل الأحاديث الموضوعة.

فثبت بطلان زعم ابن تيميّة بكلام نفسه حول أحمد بن حنبل ومصنفاته.

بل لقد نصَّ ابن تيميّة على أنّ أحمد بن حنبل كان من العلماء الذين لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثاً يعلمون أنه عن كذّاب، وهذا نصّ كلامه حيث قال:

« والناس في مصنّفاتهم منهم من لا يروي عمّن يعلم أنه يكذب مثل: مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل. فإن هؤلاء لا يروون عن شخصٍ ليس بثقة عندهم، ولا يروون حديثاً يعلمون أنّه عن كذاب، ولا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمّد الكذب »(١) .

فإذا كان هذا حال أحمد بن حنبل في اعتقاد ابن تيميّة، وقد عرفت أنّ أحمد يروي حديث مدينة العلم بطرقٍ عديدة، فإن هذا الحديث ليس بموضوعٍ، وليس رواته غير ثقاة، وإلّا لما رواه أحمد.

فظهر خزي ابن تيميّة حسب ما اعترف به في حق أحمد بن حنبل، والحمد لله ربّ العالمين.

اعتراف ابن تيميّة برواية الترمذي

واعترف ابن تيميّة في كلامه في ردّ حديث مدينة العلم برواية الترمذي إيّاه، والترمذي من أرباب الصحاح الستّة عند أهل السنّة، وقد وصفوا جامعه الصحيح بأعلى أوصاف المدح، وبعجائب المآثر العالية، وبجّلوه غاية التبجيل، حتّى لو أنّ

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٥.

١١

أحداً حلف على صحّة أحاديثه بالطلاق لم يحنث، بل زعموا اتّفاق أهل الشرق والغرب على صحّة أحاديث الكتب الستة ومنها كتاب الترمذي وقد ذكرنا ذلك مفصّلاً في مجلّد حديث الطير.

فحديث مدينة العلم - المخرّج عند الترمذي باعتراف ابن تيميّة - لا يحنث من حلف على صحته بالطلاق، ويكون من الأحاديث المجمع على صحتها بين أهل الشرق والغرب، فمن طعن فيه فهو خارج عن دائرة الإِجماع كما قرّروا، وتكون عاقبته النار وبئس المصير.

ثناء ابن تيميّة على الترمذي واعتماده عليه

هذا كلّه من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإنّ من يلاحظ كلمات ابن تيميّة نفسه في حقّ الترمذي، واعتماده على رواياته في مواضع عديدة من بحوثه، يتّضح له شناعة ردّه لحديث مدينة العلم مع اعترافه برواية الترمذي له، فمن ذلك: عدّه الترمذي في نقدة الحديث وحكّامه وحفّاظه وأنّه ليس كالثعلبي وأمثاله، الذين يروون الأحاديث الموضوعة، ويدوّنون كلّ ما سمعوه في كتبهم وقد تقدّم نصّ كلامه في ذلك قريباً.

وإذا كان هذا شأن الترمذي فإنّ العاقل لا يجوّز الطعن في حديث مدينة العلم - الذي اعترف ابن تيميّة رواية الترمذي له -، إذ لو صحّ الطّعن فيه لزم اشتمال كتاب الترمذي على الموضوعات كذلك، فلا يبقى فرق بينه وبين الثعلبي وغيره، وهذا ممّا لا يرتضيه ابن تيميّة، فلا مناص لابن تيميّة من التسليم بصحة حديث مدينة العلم شاء أو أبى.

ومن ذلك قوله:

« قال الرافضي: الثاني ما رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. والجواب: المنع من الرواية، ومن دلالته على الإِمامة، فإن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة. وأيضاً: فإن أبابكر

١٢

وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام، فلا يمكن الإِقتدا بهما. وأيضاً: فإنه معارض بما رووه من قوله: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم.

والجواب من وجوه أحدها: أنْ يقال: هذا الحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي، فإن هذا معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة، رواه أبو داود في سننه، والإِمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه. وأمّا النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث »(١) .

فكتاب الجامع الصحيح للترمذي من كتب أهل الحديث المعتمدة عند ابن تيميّة، ومن هنا يحتجّ به في مقابلة الشيعة، ويجعل ما أخرج فيه أقوى من النص على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والعياذ بالله.

وهل يجوز أنْ يكون هذا الكتاب معتمداً في مورد حديث الإِقتداء المزعوم - بالرغم من ثبوت وضعه بوجوهٍ عديدة، وقد طعن الترمذي في بعض طرقه - ولا يكون معتمداً في مورد حديث مدينة العلم؟ لكن ابن تيميّة باحتجاجه بكتاب الترمذي قد أفحم نفسه في مورد حديث مدينة العلم الذي اعترف برواية الترمذي له، وأوضح للملأ أنّ طعنه في هذا الحديث ليس إلّا للعناد والتعصّب، نستجير بالله.

ومن ذلك قوله:

« ومع هذا، فقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عمر من العلم والدين والإِلهام بما لم يخبر بمثله، لا في حق عثمان ولا علي لا طلحة ولا الزبير، ففي الترمذي عن ابن عمر: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال: وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلّا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. وفي سنن أبي داود عن

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٣٨.

١٣

أبي ذررضي‌الله‌عنه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب »(١) .

فأيّ إنصافٍ هذا؟! يُجعل حديث الترمذي حجةً على الشيعة، ومستَنداً في إثبات فضيلةٍ لعمر بن الخطاب يدعي أنها لم تكن لغيره، ويسقط عن الإِعتبار والإِعتماد في باب فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وحديث مدينة العلم الصحيح الثابت؟!

غلوّ ابن تيميّة في ابن جرير الطبري

ومن رواة حديث مدينة العلم ومصحّحيه هو: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، إذ أخرج هذا الحديث في كتابه ( تهذيب الآثار ) وأثبته وحكم بصحته، كما عرفت سابقاً من عبارة ( جمع الجوامع ) لجلال الدين السّيوطي.

وقد ذكر ابن تيميّة ابن جرير الطبري بما لا يجوز لنا الإِذعان به، بل لا يجوز نقله والتفوّه به، ولكنّ ضرورة البحث تلجأ إلى إيراد نصّ عبارته هنا، حتى يتّضح مدى فظاعة ردّه للحديث الذي رواه الطبري لقد قال ابن تيميّة ما نصّه:

« وأمّا قوله: ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإِجتهاد، وحرّموا الأخذ بالقياس والإِستحسان، فالكلام على هذا من وجوه:

أحدها: إن الشيعة في هذا مثل غيرهم، ففي أهل السنة النزاع في الرأي والإِجتهاد والقياس والإِستحسان، كما في الشيعة النزاع في ذلك، فالزيديّة تقول بذلك وتروي فيه الروايات عن الأئمة.

الثاني: إن كثيراً من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس، فليس كلّ من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس، بل المعتزلة البغداديون لا يقولون

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٦١.

١٤

بالقياس، وحينئذٍ، فإن كان القياس باطلاً أمكن الدخول في أهل السنة وترك القياس، وإنْ كان حقاً أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس.

الثالث: أن يقال: القول بالرأي والإِجتهاد والقياس والإِستحسان، خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمّن يصيب ويخطي، نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم.

ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، وحسن بن زياد اللؤلؤي، والشافعي، والبويطي، والمزني، وأحمد بن حنبل، وأبي داود السجستاني، والأثرم، وإبراهيم الحربي، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي بكر بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري، محمد بن نصر المروزي، وغير هؤلاء إلى اجتهادهم واعتبارهم، مثل أن يعلموا سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام، وتنقيحها وتخريجها، خير لهم من أنْ يتمسّكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما!!

فإنَّ الواحد من هؤلاء أعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما!! فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما، بل هو الواجب عليه!!

فكيف إذا كان ذلك نقلاً عنهما من مثل الرافضة.

والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أنْ يتعلّموا من الواحد من هؤلاء!! »(١) .

إن صريح هذا الكلام أعلميّة محمد بن جرير الطبري من الإِمامين المعصومين العسكريين، وهما الإِمام علي بن محمد الهادي، والإِمام الحسن بن علي

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢٣١.

١٥

عليهما الصلاة والسلام، وأنّه يجب عليهما أن يتعلمـّا منه ومن أمثاله، نعوذ بالله من الضلالة والكفر.

فهذا صريح كلامه في الطبري، وهو في نفس الوقت لا ينظر إلى تصحيحه لحديث مدينة العلم بنظر الاعتبار، بل يتجاسر فيعدّه في الأحاديث الموضوعة، وما هذا إلّا من شدّة العناد وكثرة التعصّب

فالله حسيبه وحسيب أمثاله، وهو المنتصر من أعدائه بمخزيات عقابه ونكاله.

ثناء ابن تيميّة على الحاكم

وممّن أخرج حديث مدينة العلم وصحّحه هو الحاكم النيسابوري، لكن ابن تيميّة لا يعتني برواية الحاكم وتصحيحه ومساعيه الجميلة في سبيل إثبات هذا الحديث وتحقيقه على شرط البخاري ومسلم، بالرغم من علوّ مرتبته في علوم الحديث عند أهل السنّة قاطبة، وأنّ ابن تيميّة ذكره في أهل العلم بالحديث، الذين كانوا أكمل الناس خبرة بحال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا أشدهم رغبةً في التمييز بين الصدق والكذب، فهم المهاجرون إلى سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديثه، يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون ما كذبه الكاذبون، وغلط فيه الغالطون، إلى آخر ما قال.

فمن الغريب أمره العاقل بالتدبّر للأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، لغرض معرفة الصدق من الكذب، ثم لا يفعل هو بما أمر به، وكأنّه ليس من العقلاء!

وعلى الجملة، فإن دعواه أنّ هذا الحديث الشريف « أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات » من الأكاذيب الصّريحة الواضحة، والأباطيل الفضيحة اللائحة، ووجوه بطلانها لا تعدّ ولا تحصى كثرةً، وقد أشبعنا الكلام في إثبات هذا الحديث وتحقيقه بما لا مزيد عليه، والحمد لله على التوفيق.

١٦

٢ - سقوط التمسّك بقدح ابن الجوزي

وأمّا تمسّك ابن تيميّة بقدح ابن الجوزي في حديث مدينة العلم، فقد تقدّم الجواب عنه في ضمن ردّ كلام ( الدهلوي )، بحيث يذعن كلّ منصفٍ بصحة ما ذكرناه إذا وقف عليه، ولو تظاهر عظماء العلماء لما تمكّنوا من إنكاره وجحده، وكيف لا؟ وقد نصّ المحققون من أهل السنّة على تجاسر ابن الجوزي وتهوّره في الحكم على الأحاديث مطلقا، وأنّ جماعة منهم ردّوا كلامه في خصوص حديث مدينة العلم.

إذن، لا يجوز الاعتماد على كلام من اشتهر بين علماء أهل السنة وحفّاظهم بهذه الصفة، وعلى هذا الأساس أعرضوا عن كلماته في الأحاديث، أو توقّفوا عن قبولها، وقد بلغ سقوط تقوّلاته في خصوص هذا الحديث إلى حدٍّ انبرى جماعة من أعلام المحققين للردّ عليه وبيان فساده وبطلانه، إلّا أنّ ابن تيميّة لا يستحي من التمسّك بكلام ابن الجوزي الباطل، و« إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

ونحن كما فنّدنا كلام ابن تيميّة بالنسبة إلى حديث مدينة العلم بكلام نفسه، نثبت بطلان كلام ابن الجوزي الذي تمسّك به ابن تيميّة في ردّ هذا الحديث مزيداً للإِفحام والإِلزام، وذلك أنّ ابن الجوزي يقول في كتابه ( الموضوعات ): « فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام، كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، ونحوها، فانظر فيه، فإن كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره، وإن ارتبت به فرأيته يباين الأصول فتأمّل رجال إسناده، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه »(١) .

ففي هذا الكلام اعتراف بكون ( كتاب الترمذي ) من دواوين الإسلام،

____________________

(١). الموضوعات ١ / ٩٩.

١٧

وأنّ كلّ حديث مخرج فيه مقبول ومعتبر بلا نظرٍ وتردّد فيه، بل فيه تصريح بأنّ ما كان خارجاً عنه وعن غيره من دواوين الاسلام، وكان له نظير في الصحاح والحسان المخرجة في هذه الدواوين يرتّب أمره بلا ارتياب وهذا مقام جليل، وشأن عظيم لكتاب الترمذي وأمثاله وإذا كان كذلك فلما ذا يرمي ابن الجوزي حديث مدينة العلم المخرج في صحيح الترمذي مع الحكم بالحسن - كما مضى بيانه - بالوضع؟ هذا من موارد تسرّع ابن الجوزي، ومن مصاديق التهوّر كما وصفه بذلك كبار المحقّقين المتأخرين عنه.

فاللّازم من كلام ابن الجوزي نفسه أنْ يتوب عمّا قال في حديث مدينة العلم، وبذلك يزيد سقوط تمسّك ابن تيميّة بكلامه وضوحاً وظهوراً، ولله الحمد على ما أبان دحوض حجة هذا الناصب العنيد.

ثمّ إنَّ قوله: « وذكره ابن الجوزي وبيّن أنّ سائر طرقه موضوعة » كذب آخر، فإنّ ابن الجوزي لم يذكر جميع طرق حديث مدينة العلم، وإنما ذكر بعض طرقه التي كان يمكنه الخدشة في أسانيدها بزعمه، مع أنّ ما قاله بالنسبة إلى تلك الطرق غير مقبول لدى المحققين، ومن هنا تعقّبوا كلماته فيها. وأمّا سائر طرقه الصحيحة المخرجة في كتب علماء الحديث المعتمدة فلم يذكرها ابن الجوزي أصلاً، فقول ابن تيميّة أنه « بيّن أنّ سائر طرقه موضوعة » إفك صريح، وكذب فضيح.

٣ - قوله: « والكذب يعرف من نفس متنه »

فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلّا باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلّا واحد، فسد أمر الاسلام » من الخرافات الواضحة البطلان.

ومن يلاحظ ردود ابن تيميّة على الإِمامية، يرى أنّ كلماته في الغالب تنتهي إلى هدم مباني دين الإسلام، وتشييد أفكار المنكرين لنبوة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لفرط نفاقه وشدة شقاقه يسعى في سبيل الردّ على

١٨

الإِمامية غير مبالٍ بما يترتّب على أباطيله.

إنّ هذا الذي ذكره ابن تيميّة في جحد حديث مدينة العلم يمهّد الطّريق للكفّار لأن يقولوا: إنّه إذا كان الله عالما بشرائع الدين والأحكام التكليفية للعباد، ولم يبلّغها من جانبه في كلّ عصر إلّا واحد، لفسد أمر الدين وبطلت الشرائع، لأن التبليغ عن الله في كلّ عصر يلزم أن يكون بواسطة عدد كثير من الأنبياء يبلغون إلى حدّ التّواتر.

وهذا النقض كاف للردٍ على ما ذكره ابن تيميّة، لأنّ كلمـّا أجيب به عنه فهو جوابنا على كلامه الباطل.

وأيضاً: كما أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحده كافٍ للإِبلاغ عن الله عزّ وجلّ، وأنّه لثبوت حقّيّته غير محتاج إلى أنْ يشاركه في الإخبار عن الله غيره، كذلك يكفي في الإِبلاغ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجود سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولا حاجة إلى أن يشاركه أحد في الإِبلاغ كائناً من كان، للقطع بحقّيّة ما يبلّغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وإنّ حديث مدينة العلم - بالإضافة إلى غيره من الأدلة - شاهد صدق على ذلك. ومن هنا جعل أهل العلم واليقين حديث مدينة العلم من أدلة عصمة أمير المؤمنين، وقد مرّ التصريح بذلك من نصوص أعاظم المخالفين.

والحاصل: كما لا يضر توحّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغه، بعد ثبوت حقّيّته، كذلك لا يضرّ توحّد الإِمام في تبليغه عن النبي، بعد ثبوت حقّيّته بالأدلة الكثيرة ومنها حديث مدينة العلم.

٤ - بطلان دعوى وجوب أن يكون المبلّغون أهل التواتر

وأمّا قول ابن تيميّة: « ولهذا اتفق المسلمون على أنّه لا يجوز أنْ يكون المبلِّغ عنه العلم واحداً، بل يجب أن يكون المبلِّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم » فظاهر السقوط جدّاً، لمنافاته لتصريحات أئمة علم أصول الفقه وعلوم

١٩

الحديث، كما لا يخفى على المتتبّع لها، فإنّ قاطبة أهل السنة يوجبون العمل بخبر الواحد، ولم يخالف في هذا الحكم إلّا شاذ لا يعبأ به، وإليك نصّ عبارة أبي الحسن البزدوي في هذا المطلب، ليتّضح بطلان دعوى ابن تيميّة بوجوهٍ عديدة:

قال البزدوي: « باب خبر الواحد(١) ، وهو الفصل الثالث من القسم الأول، وهو كلّ خبرٍ يرويه الواحد أو الاثنان فصاعداً، لا عبرة للعدد فيه، بعد أنْ يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقيناً عندنا، وقال بعض الناس: لا يوجب العمل، لأنه لا يوجب العلم، ولا عمل إلّا عن علم. قال الله تعالى:( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهذا لأن صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة، فلا ضرورة له في التجاوز عن دليلٍ يوجب علم اليقين، بخلاف المعاملات لأنها من ضروراتنا، وكذلك الرأي من ضروراتنا، فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين. وقال بعض أهل الحديث: يوجب علم اليقين، لما ذكرنا أنه أوجب العمل، ولا عمل من غير علم، وقد ورد الآحاد في أحكام الآخرة مثل: عذاب القبر، ورؤية الله تعالى بالأبصار، ولا حظّ لذلك إلّا العلم. قالوا: وهذا العلم يحصل كرامةً من الله تعالى، فثبت على الخصوص للبعض دون البعض، كالوطء تعلّق من بعض دون بعض، ودليلنا في أنّ خبر الواحد يوجب العمل واضح، من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول.

أمّا الكتاب: قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ) وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجةً لما أمر ببيان العلم. وقال جلّ ذكره:( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) وهذا في كتاب الله أكثر من أنْ يحصى.

وأمّا السنة: فقد صحّ عن النبيعليه‌السلام قبوله خبر الواحد، مثل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة، وذلك لا يحصى عدده، ومشهور

____________________

(١). في هذه العبارة وأمثالها شيء كثير من الأدلة والوقائع التي لا يصحّحها الاماميّة، فليتنبّه.

٢٠

عنه أنّه بعث الأفراد إلى الآفاق، مثل علي ومعاذ وعتاب بن أسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم، وهذا أكثر من أن يحصى وأشهر من أنْ يخفى. وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجّوا بها، قد ذكر محمدرحمه‌الله في هذا غير حديثٍ في كتاب الاستحسان، واقتصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها.

وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمضاربين وغيرهم.

وأما المعقول فلأن الخبر يصير حجة بصفة الصدق، والخبر يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجّح الصدق، وبالفسق الكذب، فوجب العمل برجحان الصّدق ليصير حجةً للعمل، ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين، وهذا لأن العمل صحيح من غير علم اليقين، ألا ترى أنّ العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي، وعمل الحكام بالبيّنات صحيح بلا يقين، فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علماً بغالب الرأي، وذلك كاف للعمل، وهذا ضرب علم فيه اضطراب، فكان دون علم الطمأنينة »(١) .

ولقد أكّد هذا المعنى وأوضح دلالة الأدلة عليه من الكتاب والسنة والإجماع والعقل: عبد العزيز بن أحمد البخاري في ( كشف الأسرار - شرح أصول البزدوي )، وهذا نصّ عبارته بطولها:

« قوله: وهذا أي خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم يقيناً، أي لا يوجب علم يقين ولا علم طمأنينة وهو مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء، وذهب بعض الناس إلى أن العمل بخبر الواحد لا يجوز أصلاً وهو المراد من قوله: لا يوجب العمل. ثم منهم من أبى جواز العمل به عقلاً مثل الجبائي وجماعة من المتكلمين، ومنهم من منعه سمعاً مثل القاساني وأبي داود والرافضة. واحتجّ من منع عنه سمعاً بقوله تعالى:( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أي لا تتّبع ما لا

____________________

(١). الأصول - بشرح البخاري ٢ / ٦٧٨ - ٦٩٤.

٢١

علم لك به وخبر الواحد لا يوجب العلم، فلا يجوز اتّباعه والعمل به بظاهر هذا النص.

قالوا: ولا معنى لقول من قال: إن العلم ذكر نكرة في موضع النفي فيقتضي انتفاءه أصلاً، وخبر الواحد يوجب نوع علم وهو علم غالب الظن الذي سماه الله تعالى علماً في قوله تعالى( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ) فلا يتناوله النهي.

لأنّا إنْ سلّمنا أنه يفيد الظن فهو محرّم الاتّباع أيضاً بقوله تعالى:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

ثم أشار الشيخ إلى شبهة من منع عنه عقلاً بقوله: وهذا أي عدم جواز العمل به لأنّ صاحب الشرع أي من يتولى وضع الشرائع - وهو الله تعالى إذ الرسول مبلّغ عنه - موصوف بكمال القدرة، فكان قادراً على إثبات ما شرعه بأوضح دليل، فأي ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلّا الظن؟ كيف وإنه يؤدّي إلى مفسدة عظيمة، وهي أن الواحد لو روى خبراً في سفك دم أو استحلال بضع وربّما يكذب فنظر أنّ السفك والإِباحة بأمر الله تعالى ولا يكونان بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل؟ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه لا يجوز الهجوم بالشك، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرّفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون، بخلاف المعاملات فإنّ خبر الواحد يقبل فيها بلا خلاف، لأنّها من ضروراتنا أي قبوله فيها من باب الضرورة لأنّا نعجز عن إظهار كلّ حق لنا بطريق لا يبقى فيه شبهة، فلهذا جوّزنا الإِعتماد فيها على خبر الواحد.

وقوله: وكذلك الرأي من ضروراتنا جواب عن تمسّكهم بالقياس في الأحكام، مع أنّه لا يفيد إلّا الظن فقال: هو من باب الضرورة أيضاً، لأن الحادثة إذا وقعت ولم يكن فيها نص يعمل به يحتاج إلى القياس ضرورة، ولأن القياس ليس بمثبت بل هو مظهر، وخبر الواحد مثبت، والإِظهار دون الإِثبات، وهذا على قول من جوّز التمسّك بالقياس منهم، فأمّا على قول من لم يجعل القياس

٢٢

حجة مثل النظام وأهل الظاهر فلا حاجة إلى الفرق.

قوله: وقال بعض أصحاب الحديث، كذا ذهب أكثر الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجب علم اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وذهب داود الظاهري إلى أنها توجب علماً إستدلالياً.

وأشار الشيخ إلى شبهة الفريقين، فمن قال بأنه يوجب العلم الاستدلالي تمسك بأن خبر الواحد لو لم يفد العلم لما جاز اتّباعه لنهيه تعالى عن اتّباع الظنّ بقوله تعالى:( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وذمّه على اتّباعه في قوله جلّ جلاله:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ ) ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) . وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبيّن، فيستلزم إفادة العلم لا محالة. ومن قال إنه يوجب علما ضروريا قال: إنا نجد في أنفسنا في خبر الواحد الذي وجد شرائط صحته العلم بالمخبر به ضرورة من غير استدلال ونظر بمنزلة العلم الحاصل بالمتواتر. ويرد عليهم: أنه لو كان ضروريا لما وقع الاختلاف فيه، ولا استوى الكل فيه. فقالوا هذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فيجوز أن يختص به البعض، ووقوع الاختلاف لا يمنع من كونه ضرورياً كالعلم الحاصل بالمتواتر فإنه ضروري وقد وقع الاختلاف فيه.

قوله: قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الآية، أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق والعهد من الذين اُوتوا الكتاب ليبيّنوه للناس ولا يكتموه منهم، فكان هذا أمراً بالبيان لكلّ واحد منهم ونهياً له عن الكتمان، لأنهم إنما يكلّفون بما في وسعهم، وليس في وسعهم أن يجتمعوا ذاهبين إلى كل واحد من الخلق شرقاً وغرباً للبيان، فيتعين أن الواجب على كلّ واحد منهم أداء ما عنده من الأمانة والوفاء بالعهد، ولأن الحكم في الجمع المضاف إلى الجماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كلّ واحد من الأفراد، ثم ضرورة توجه الأمر بالإظهار إلى كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة، ولا

٢٣

فائدة في الأمر بالبيان والنهي عن الكتمان سوى هذا.

واعترض عليه: بأن انحصار الفائدة على القبول غير مسلّم، بل الفائدة هي الابتلاء فيستحق الثواب إنْ امتثلوا والعقاب إن لم يمتثلوا. ألا ترى أنّ الفاسق منهم داخل في هذا الخطاب مأمور بالبيان بحيث لو امتنع عنه يأثم ثم لا يقبل ذلك منه، وكذا الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين مأمورون بالتبليغ، وإن علم قطعاً بالوحي أنه لا يقبل منهم.

واُجيب عنه: بأن للبيان والتبليغ طرفين، طرف المبلّغ وطرف السامع، ولا بدّ من أن يتعلّق بكل طرف فائدة، ثم ما ذكرتم من الفائدة مختص بجانب المبلّغ وليس في طرف السامع فائدة سوى وجوب القبول والعمل به.

ولا يقال: بل فيه فائدة اُخرى وهي جواز العمل به. لأنا نقول: جواز العمل مستلزم لوجوبه، لأن من قال بالجواز قال بالوجوب، ومن أنكر الوجوب أنكر الجواز. وأما الفاسق فلا نسلّم وجوب البيان عليه قبل التوبة، بل الواجب عليه التوبة ثم ترتيب البيان عليه، فعلى هذا بيانه يفيد وجوب القبول عليه والعمل به كذا قال شمس الأئمة.

قوله: وقال:( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) الآية، وجه التمسك به: إنه تعالى أوجب على كلّ طائفة خرجت من فرقة الإِنذار - وهو الإِخبار المخوف - عند الرجوع إليهم، وإنما أوجب الإِنذار طلباً للحذر لقوله:( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) والترجّي من الله تعالى محال، فيحمل على الطلب اللازم وهو من الله تعالى أمر فيقتضي وجوب الحذر، والثلاثة فرقة والطائفة منها إمّا واحد أو اثنان، فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعلٍ وجب تركه لوجوب الحذر على السامع، وإذا وجب العمل بخبر الواحد والاثنين هاهنا وجب مطلقاً، إذ لا قائل بالفرق.

ولا يقال: الطائفة اسم للجماعة، بدليل لحوق هاء التأنيث بها فلا يصح حملها على الواحد والاثنين. لأنا نقول: اختلف المتقدّمون في تفسيرها، فقيل: هي اسم لعشرة، وقيل: لثلاثةٍ، وقيل: لاثنين، وقيل: لواحد وهو الأصح، فإنّ

٢٤

المراد من قوله تعالى:( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الواحد فصاعداً. كذا قال قتادة، وكذا نقل في سبب نزول قوله تعالى:( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) إنهما كانا رجلين أنصاريين بينهما مدافعة في حق فجاءَ أحدهما إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الآخر. وقيل: كان أحدهما من أصحاب النبيعليه‌السلام والآخر من أتْباع عبد الله بن اُبي المنافق على ما عرف. على أنّا لو حملناها على أكثر ما قيل وهو العشرة لا ينتفي توهّم الكذب عن خبرهم، ولا يخرج خبرهم عن الآحاد إلى التواتر.

ولا يقال: سلّمنا أن الراجع مأمور بالإِنذار بما سمعه، ولكن لا نسلّم أن السامع مأمور بالقبول، كالشاهد الواحد مأمور بأداء الشهادة ولا يجب القبول ما لم يتم نصاب الشهادة وتظهر العدالة بالتزكية. لأنا نقول: وجوب الإِنذار مستلزم لوجوب القبول على السامع كما بيّنا، كيف وقوله تعالى:( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يشير إلى وجوب القبول والعمل. فأما الشاهد الواحد فلا نسلّم أن عليه وجوب أداء الشهادة، لأن ذلك لا ينفع المدعي وربما يضرّ بالشاهد بأن يحدّ حد القذف إذا كان المشهود به زنا ولم يتم نصاب الشهادة.

وهذا أي الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أنْ يحصى. منه:

قوله تعالى:( فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أمر بسؤال أهل الذكر ولم يفرّق بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الاخبار بما سمع دون الفتوى، ولو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً.

ومنه: قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله. ومن أخبر عن الرسول بما سمع فقد قام بالقسط وشهد لله وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، وإنما يكون واجباً لو كان القبول واجباً وإلّا كان وجوب الشهادة كعدمها وهو ممتنع.

ومنه: قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى )

٢٥

الآية. أوعد على كتمان الهدى فيجب على من سمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً إظهاره، فلو لم يجب علينا قبوله لكان الاظهار كعدمه.

ومنه: قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ) أمر بالتبيّن والتثبّت، وعلّل بمجيء الفاسق بالخبر، إذ ترتيب الحكم على الوصف لمناسب يشعر بالعليّة، ولو كان كون الخبر من أخبار الآحاد مانعاً من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة، إذ علّية الوصف اللازم تمنع من عليّة الوصف العارض، فإنّ من قال: الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده يستقبح ويسفّه، لأن الموت ما كان وصفاً لازماً صالحاً لعلية امتناع صدور الكتابة عن الميت استحال تعليل امتناع الكتابة بالوصف العارض وهو عدم الدواة والقلم.

وفي كلٍّ من هذا التمسكات اعتراضات مع أجوبتها تركناها احترازاً عن لإِطناب.

قوله: مثل خبر بريرة في الهدية. فإنه روي أنهعليه‌السلام قبل قولها في الهدية. وخ بر سلمان في الهدية والصدقة، فإنه روي أنّ سلمانرضي‌الله‌عنه كان من قوم يعبدون الخيل البلق، فوقع عنده أنه ليس على شيء، وجعل ينتقل من دين إلى دين طالباً للحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع: لعلّك تطلب الحنيفية وقد قرب أوانها فعليك بيثرب، ومن علامات النبي المبعوث أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة. فتوجّه نحو المدينة فأسره بعض العرب وباعه من اليهود بالمدينة، وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه، حتى هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة، فلما سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام أتاه بطبق فيه رطب ووضعه بين يديه فقال: ما هذا؟ فقال: صدقة. فقال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل. فقال سلمان في نفسه: هذه واحدة. ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال: ما هذا يا سلمان؟ فقال: هدية. فجعل يأكل ويقول لأصحابه: كلوا. فقال سلمان: هذه أخرى. ثم تحوّل خلفه فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراده فألقى الرداء من كتفيه حتى نظر سلمان إلى خاتم النبوّة

٢٦

بين كتفيه فأسلم. فقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في الصدقة والهدية، مع أنه كان عبداً حينئذ.

وذلك أي قبول خبر الواحد منه كثير، فإنّه قبل خبر أم سلمى في الهدايا أيضاً. وكانت الملوك يهدون إليه على أيدي الرسل وكان يقبل قولهم، ولا شك أن الإِهداء منهم لم يكن على أيدي قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب. وكان يجيب دعوة المملوك ويعتمد على خبره أني مأذون. وقبل شهادة الأعرابي في الهلال، وقبل خبر الوليد بن عقبة حين بعثه ساعيا إلى قوم فأخبر أنهم ارتدّوا حتى أجمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غزوهم فنزل قوله تعالى:( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) الآية. وكان يقبل أخبار الجواسيس والعيون المبعوثة إلى أرض العدو.

ومشهور عنه أي قد اشتهر واستفاض بطريق التواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه بعث الأفراد إلى الآفاق لتبليغ الرسالة وتعليم الأحكام، فإنه بعث علياًرضي‌الله‌عنه إلى اليمن أميراً، وبعده بعث معاذا أيضاً إلى اليمن أميراً لتعليم الأحكام والشرائع، وبعث دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى قيصر وهرقل بالروم، وبعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميراً معلمـّا للشرائع، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن اُمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان ابن أبي العاص إلى الطائف وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإِسكندرية، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة، وأنفذ عثمان بن عفان إلى أهل مكة عام الحديبية، وولّى على الصدقات عمر، وقيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة، وعمرو بن العاص، وعمرو ابن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وإنما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقيموا الحجة، ولم يذكر في موضع مّا أنه بعث في وجهٍ واحدٍ عدداً يبلغون حدّ التواتر وقد ثبت باتفاق أهل السير أنّه كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته وحكامه، وإن احتاج في كل رسالة

٢٧

إلى إنفاذ عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكّن منه أعداؤه وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعاً.

فتبين بهذا أنّ خبر الواحد موجب للعمل مثل التواتر، وهذا دليل قطعي لا يبقى معه عذر في المخالفة. كذا ذكر الغزالي وصاحب القواطع.

قوله: وكذلك الصحابة عملوا بالآحاد وحاجّوا بها في وقائع خارجة عن العد والحصر من غير نكير منكر ولا مدافعة دافع، فكان ذلك منهم إجماعاً على قبولها وصحة الإِحتجاج بها.

فمنها: ما تواتر أن يوم السقيفة لمـّا احتجّ أبو بكررضي‌الله‌عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام: الأئمة من قريش، قبلوه من غير إنكار عليه.

ومنها: رجوعهم إلى خبر أبي بكررضي‌الله‌عنه في قوله عليه الصلاة والسلام: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. و قوله عليه الصلاة والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة. ومنها: رجوعه إلى توريث الجدّة بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاها السدس، ونقضه حكمه في القضية التي أخبر بلال أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم فيها بخلاف ما حكم هو فيها.

ورجوع عمررضي‌الله‌عنه عن تفصيل الأصابع في الدية - حيث كان يجعل في الخنصر ستة من الإبل وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الإِبهام خمسة عشر - إلى خبر عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة. وعن عدم توريث المرأة من دية زوجها إلى توريثها منها بقول الضحاك بن مزاحم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وعمله بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله عليه الصلاة والسلام: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب، وعمله بخبر حمل بن مالك وهو قوله: كنت بين جارتين لي يعني ضرّتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميّتاً، فقضى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغرّة فقال عمررضي‌الله‌عنه : لو لم

٢٨

نسمع هذا لقضينا فيه برأينا.

ومنها: إن عثمانرضي‌الله‌عنه أخذ برواية فريعة بنت مالك حين قالت: جئت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال: امكثي حتى تنقضي عدّتك، ولم ينكر الخروج للاستفتاء في أن المتوفى عنها زوجها تعتدّ في منزل الزوج ولا تخرج ليلاً ولا نهاراً إذا وجدت من يقوم بأمرها.

ومنها: ما اشتهر من عمل عليرضي‌الله‌عنه برواية المقداد في حكم المذي، ومن قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور: كنت إذا سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدّثني غيره حلّفته فإذا حلف صدّقته والتحليف إنما كان للاحتياط في سياق الحديث على وجهه، ولئلا يقدم على الرواية بالظن، لا لتهمة الكذب.

ومنها: رجوع الجمهور إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بإلتقاء الختانين.

ومنها: عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الرّبا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة. ومنها: عمل زيد بن ثابترضي‌الله‌عنه بخبر امرأة من الأنصار أنّ الحائض تنفر بلا وداع، بعد أن كان لا يرى ذلك. ومنها: ما روي عن أنسرضي‌الله‌عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شراباً إذْ أتانا آت وقال: إن الخمر قد حرّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهر ليس لنا فضربتها إلى أسفله حتى تكسّرت. ومنها: ما اشتهر من عمل أهل قبا في التحوّل عن القبلة إلى الكعبة حيث أخبرهم واحد أن القبلة نسخت. ومنها: ما روي عن ابن عمررضي‌الله‌عنه أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأساً، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن المخابرة فانتهينا.

وعلى ذلك جرت سنّة التابعين كعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وسعيد ابن جبير، ونافع بن جبير، وخارجة بن زيد، وأبي سليمان بن عبد الرحمن، وسليمان

٢٩

ابن بشار، وعطاء بن بشار، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وفقهاء الحرمين. وفقهاء البصرة، كالحسن، وابن سيرين. وفقهاء الكوفة وتابعيهم، كعلقمة والأسود والشعبي، ومسروق. وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء من غير إنكار عليهم من أحد في عصر.

واعلم أنّ هذه الأخبار وإنْ كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عليرضي‌الله‌عنه . فلا يكون لقائل أنْ يقول: ما ذكرتموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد، وذلك يتوقف على كونها حجة فيدور. ولئن قال الخصوم: لا نسلّم أنهم عملوا بها بل لعلّهم عملوا بغيرها من نصوص متواترة أو أخبار آحاد مع ما اقترن بها من المقاييس وقرائن الأحوال. فلا وجه له، لأنه عرف من سياق تلك الأخبار أنهم إنما عملوا بها على ما قال عمررضي‌الله‌عنه : لو لم نسمع بهذا لقضينا برأينا، وحيث قال ابنه: حتى روى رافع بن خديج إلى آخره.

فإن قيل: ما ذكرتم من قبولهم خبر الواحد معارض بإنكارهم إيّاه في وقائع كثيرة، فإن أبا بكررضي‌الله‌عنه أنكر خبر المغيرة في ميراث الجدّة حتى انضمّ إليه رواية محمد بن مسلمة، وأنكر عمررضي‌الله‌عنه خبر فاطمة بنت قيس في السكنى، وأنكرت عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وردّ عليرضي‌الله‌عنه خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق. قلنا: إنهم إنما أنكروا لأسباب عارضة، من وجود معارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها. فلا يدل على بطلان الأصل، كما أن ردّهم بعض ظواهر الكتاب وتركهم بعض أنواع القياس، وردّ القاضي بعض الشهادات لا يدل على بطلان الأصل.

قوله: وقد ذكر محمد في هذا أي قبول خبر الواحد غير حديث أي أحاديث كثيرة، وقد ذكرنا أكثرها فيما أوردناه واختصرنا هذه الجملة، أي اكتفينا بإيراد ما ذكرنا من خبر بريرة وسلمان وتبليغ معاذ وغيرها ولوضوحها. أو معناه: لم نذكر ما

٣٠

أورده محمد لشهرتها. ولفظ التقويم: ونحن سكتنا عنها اختصاراً واكتفاءً بما فعل الناس.

قوله: وأجمعت الاُمة على كذا. أي الإِجماع منهم في هذه الصور على القبول يدل على ثبوت الحكم في المتنازع فيه. وبيانه: إن الاجماع قد انعقد منهم على قبول خبر الواحد في المعاملات، فإن العقود كلّها بنيت على أخبار الآحاد، مع أنّه قد يترتّب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى كما في الإِخبار بطهارة الماء ونجاسته، والإخبار بأن هذا الشيء أو هذه الجارية أهدى إليك فلان، وأنّ فلاناً وكّلني ببيع هذه الجارية، أو بيع هذا الشيء. وأجمعوا أيضاً على قبول شهادة من لا يقع العلم بقوله، مع أنها قد يكون في إباحة دمٍ وإقامة حدّ واستباحة فرجْ، وعلى قبول قول المفتي للمستفتي مع أنه قد يجيب بما بلغه عن الرسول عليه التحية والسلام بطريق الآحاد، فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمر الدين والدنيا جاز في سائر المواضع.

فإنْ قيل: الفرق بين المحلّين ثابت، فإنّ في بعض المعاملات قد يقبل خبر من يسكن القلب إلى صدقه من صبي وفاسق بل كافر، ولا يقبل خبر هؤلاء في أخبار الدين، فكيف يحتجّ بهذا الفصل مع وقوع الفرق بينهما؟ قلنا: محل الاستدلال هو استعمال قول من لا يؤمن الغلط عليه ووقوع الكذب منه وهو موجود في الأمرين، وإن كان أحدهما يتساهل فيه ما لا يتساهل في الآخر، وإنما يراعى في الجمع والفرق الوصف الذي يتعلق به الحكم دون ما عداه. وما ذكروا من الفرق بين المعاملات وأخبار الدين ليس بصحيح، لأن الضرورة متحققة في الأخبار كتحققها في المعاملات، لأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة ولو ردّ خبر الواحد بشبهةٍ في النقل لتعطّلت الأحكام، فأسقطنا اعتبارها في حق العمل كما في القياس والشهادة.

وأما الجواب عن تمسّكهم بالآيتين فنقول: لا نسلّم أن المراد منهما المنع عن اتّباع الظن مطلقاً، بل المراد المنع من اتّباعه فيما المطلوب منه العلم اليقين من

٣١

اُصول الدين وفروعه. وقيل: المراد من الآية أعني قوله تعالى:( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) منع الشاهد من جزم الشهادة إلّا بما يتحقق. على أنّا ما اتّبعنا الظن فيه وإنما اتّبعنا الدليل القاطع الذي يوجب العمل بخبر الواحد من السنّة المتواترة والإِجماع »(١) .

وقال الفخر الرازي ما نصه: « المسلك الرابع: الاجماع. العمل بالخبر الذي لا يقطع مجمع عليه بين الصحابة، فيكون العمل به حقّاً. إنما قلنا: إنه مجمع عليه بين الصحابة، لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع على صحته، ولم يبد من أحدهم إنكار على فاعله، وذلك يقتضي حصول الإِجماع. وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين:

الأول: وهو أنه روي بالتواتر أن يوم السقيفة لمـّا احتج أبو بكررضي‌الله‌عنه على الأنصار بقولهعليه‌السلام : الأئمة من قريش، مع كونه مخصصاً لعموم قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قبلوه ولم ينكر عليه أحد، ولم يقل أحد: كيف تحتجّ علينا بخبر لا نقطع بصحته، فلمّا لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كالأصل المقرّر عندهم.

الثاني: الاستدلال بأمور لا ندّعي التواتر في كلّ واحد منها بل في مجموعها، وتقريره: إن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد، ثم نبيّن أنهم عملوا به لا بغيره. وأما المقام الأول فبيانه بصور:

( أ ) رجوع الصحابة إلى خبر الصديق رضي الله عنهم في قولهعليه‌السلام : الأنبياء يدفنون حيث يموتون وفي قوله: الأئمة من قريش. و في قولهعليه‌السلام : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.

( ب ) روي أن أبا بكررضي‌الله‌عنه رجع في توريث الجدّة إلى خبر المغيرة ابن شعبة ومحمد بن مسلمة، ونقل عنه أيضاً أنه قضى بقضيّة بين اثنين فأخبره

____________________

(١). كشف الأسرار ٢ / ٦٧٨ - ٦٩٤.

٣٢

بلال أنهعليه‌السلام قضى بخلاف قضائه فنقضه.

( ج ) روي أن عمررضي‌الله‌عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينهما، فيجعل في الخنصر ستّة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة، وفي الإِبهام خمسة عشر، فلما روي له في كتاب عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة رجع من رأيه. وقال في الجنين: رحم الله أمرأً سمع من رسول اللهعليه‌السلام شيئاً. فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بغرّة فقال عمررضي‌الله‌عنه : لو لا سمعنا هذا لقضينا فيه بغيره.

( د ) وإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فأخبره الضحاك أنهعليه‌السلام كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع إليه.

( ه‍ ) تظاهرت الرواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في المجوس: ما أدري ما الذي أصنع بهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سنّوا بهم سنة أهل الكتاب، فأخذ منهم الجزية وأقرّهم على دينهم.

( و) أنه ترك رأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن.

( ز ) روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك اُخت أبي سعيد الخدري حين قالت: جئت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقالعليه‌السلام : امكثي في بيتك حتى تنقضي عدّتك، ولم ينكر عليها الاستفتاء، فأخذ عمر روايتها في الحال في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج، ولا تخرج ليلاً وتخرج نهاراً إنْ لم يكن لها من يقوم بأحوالها.

( ح ) إشتهر عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يحلّف الراوي، وقبل رواية أبي بكررضي‌الله‌عنه من غير حلف. وأيضاً: قبل رواية المقداد في حكم المذي.

( ط ) رجوع الجماهير إلى قول عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين.

( ي ) رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد.

٣٣

( يا ) قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنّا نخابر أربعين سنة ولا نرى بها بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج نهيهعليه‌السلام عن المخابرة.

( يب ) قال أنس: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيّ بن كعب شراباً أتانا آتٍ فقال: حرمت الخمر. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت فكسرتها.

( يج ) اشتهر عمل أهل قبا في التحوّل عن القبلة بخبر الواحد.

( يد ) قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن فلاناً يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال ابن عبّاس: كذب عدو الله، أخبرني أبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.

( يه ) عن أبي الدرداء أنّه لمـّا باع معاوية شيئاً من أواني الذهب والفضّة بأكثر من وزنها قال أبو الدرداء: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عنه. فقال معاوية: لا أرى به بأساً. فقال أبو الدرداء: من معذري من معاوية! أخبره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبداً.

فهذه الأخبار قطرة من بحار هذا الباب، ومن نظر في كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حدّ له ولا حصر، وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكنّ القدر المشترك بين الكلّ وهو العمل على وفق الخبر الذي لا يعلم صحته معلوم، فصار ذلك متواترا في المعنى.

أما المقام الثاني، وهو أنهم إنما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها، فبيانه من وجهين: الأول: لو لم يعملوا لأجلها بل لأمر آخر، إما لاجتهاد تجدّد لهم، أو ذكروا شيئاً سمعوه من الرسولعليه‌السلام ، لوجب من جهة الدين والعادة أن ينقلوا ذلك. أما العادة: فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس عليهم، ثم زال اللبس عنهم فيه بدليل سمعوه أو لرأي حدث لهم فإنّه لا بدّ لهم

٣٤

من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر والعجب من ذهاب ذلك عليهم، فإنْ جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز ذلك في الكل. وأما الدين: فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب آية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها. وإيهام الباطل غير جائز »(١) .

وقال عضد الدين الإِيجي بشرح مختصر ابن الحاجب: « قد ثبت جواز التعبّد بخبر الواحد وهو واقع، بمعنى أنه يجب العمل بخبر الواحد، وقد أنكره القاشاني والرافضة وابن داود. والقائلون بالوقوع قد اختلفوا في طريق إثباته، والجمهور على أنه يجب بدليل السمع، وقال أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري بدليل العقل.

لنا: إجماع الصحابة والتابعين، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وقد تكرّر ذلك مرة بعد اُخرى وشاع وذاع بينهم، ولم ينكر عليهم أحد وإلّا نقل، وذلك يوجب العلم العادي باتّفاقهم كالقول الصريح، وإن كان احتمال غيره قائماً في واحد.

فمن ذلك: عمل أبو بكر بخبر المغيرة في ميراث الجدّة، وعمل عمر بخبر عبد الرحمن في جزية المجوس، وبخبر حمل بن مالك في وجوب الغرة بالجنين، وبخبر الضحاك في ميراث الزوجة من دية الزوج، وبخبر عمرو بن حزم في دية الأصابع. وعمل عثمان وعلي بخبر فريعة في أن عدّة الوفاة في منزل الزوج، وعمل ابن عباس بخبر أبي سعيد بالربا في النقد، وعمل الصحابة بخبر أبي بكر: الأئمة من قريش، والأنبياء يدفنون حيث يموتون، ونحن معاشر الأنبياء لا نورّث. إلى غير ذلك مما لا يجدي استيعاب النظر فيه إلّا التطويل، وموضعه كتب السير.

وقد اعترض عليه بوجوه، الأول: قولهم: لا نسلّم أن العمل في هذه

____________________

(١). المحصول في علم الأصول ٢ / ١٨٠ - ١٨٤.

٣٥

الوقائع كان بهذه الأخبار، إذ لعلّه بغيرها، ولا يلزم من موافقة العمل الخبر أن يكون به على أنه السبب للعمل. والجواب: إنه قد علم من سياقها أن العمل بها، والعادة تحيل كون العمل بغيرها.

الثاني: قولهم: هذا معارض بأنه أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد ابن مسلمة، وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستيذان حتى رواه أبو سعيد، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس وقال: كيف نترك كتاب الله بقول امرأة لا نعلم أصدقت أم كذبت، وردّ علي خبر أبي سنان وكان يحلّف غير أبي بكر، وأنكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. والجواب: إنهم إنما أنكروه مع الارتياب وقصروه في إفادة الظن، وذلك مما لا نزاع فيه. وأيضا: فلا يخرج بانضمام ما ذكرتم من كونه خبر واحد وقد قبل مع ذلك فهو دليل عليكم لا لكم.

الثالث: إنهم انما قالوا لعلّها أخبار مخصوصة تلقّوها بالقبول، فلا يلزم في كلّ خبر. الجواب: إنا نعلم أنهم عملوا بها لظهورها وإفادتها الظن لا بخصوصياتها كظواهر الكتاب المتواتر، وهو اتفاق على وجوب العمل بما أفاد الظن.

ولنا أيضاً: تواتر أنه كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام، مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلّفين بالعمل بمقتضاه ».

وقال التفتازاني في شرح التوضيح: « واستدلّ على كون الخبر الواحد موجبا للعمل بالكتاب والسنّة. أمّا الكتاب: فقوله تعالى:( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ) الآية. وذلك أن لعلّ هنا للطلب أي الإِيجاب لامتناع الترجي على الله تعالى، والطائفة بعض من الفرقة واحد واثنان، إذ الفرقة هي الثلاثة فصاعدا. وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر، فدل على أن قول الآحاد يوجب الحذر. وقد يجاب: بأن المراد الفتوى في الفروع بقرينة التفقّه، ويلزم تخصيص القوم بغير المجتهدين بقرينة أن المجتهد لا يلزمه وجوب الحذر بخبر الواحد، لأنه ظنّي وللمجتهد فيه مساغ ومجال. على أن كون لعلّ للإيجاب والطلب محل نظر. ثم قوله تعالى:( كُلِ

٣٦

فِرْقَةٍ ) وإنْ كان عاماً إلّا أنه قد خصّ بالإِجماع على عدم خروج واحد من كل ثلاثة.

وأما السنّة فلأنّهعليه‌السلام قبل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة حين أتى بطبق رطب فقال: هذا صدقة فلم يأكل منه، وأمر أصحابه بالأكل، ثمّ أتى بطبق رطب وقال: هذا هدية، فأكل وأمر أصحابه بالأكل. ولأنهعليه‌السلام كان يرسل الأفراد من أصحابه إلى الآفاق لتبليغ الأحكام وإيجاب قبولها على الأنام. وهذا أولى من الأول لجواز أن يحصل للنبيعليه‌السلام علم بصدقهما، على أنه إنما يدل على القبول دون وجوبه.

فإنْ قيل: هذه أخبار آحاد فكيف يثبت به كون خبر الواحد حجة وهو مصادرة على المطلوب؟ قلنا: تفاصيل ذلك وإنْ كانت آحاداً إلّا أن جملتها بلغت حد التواتر، كشجاعة عليرضي‌الله‌عنه وجود حاتم، وإن لم يلزم التواتر فلا أقل من الشهرة.

وربما يستدل بالاجماع، وهو أنه نقل من الصحابة وغيرهم الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وتكرّر ذلك وشاع من غير نكير، وذلك يوجب العلم عادة بإجماعهم كالقول الصريح، وقد دلّ سياق الأخبار على أن العمل في تلك الوقائع كان بنفس خبر الواحد، وما نقل من إنكارهم بعض أخبار الآحاد إنما كان عن قصور في إفادة الظن ووقوع ريبة في الصدق »(١) .

ولقد أكثر العلماء من الأدلة المختلفة في هذه المسألة، وبلغ القول بحجيّة خبر الواحد حداً من الخطورة، حتّى ألّف الكثيرون من علماء أهل السنة في هذه المسألة مصنّفاتٍ مستقلّات، نصّ على ذلك الحافظ النووي حيث قال: « وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعيّة والحجج العقليّة، على وجوب العمل بخبر.

____________________

(١). التلويح في شرح التوضيح - مبحث خبر الواحد.

٣٧

الواحد، وقد قرّر العلماء في كتب الفقه والاُصول ذلك بدلائله، وأوضحوه أوضح [ أبلغ ] إيضاح، وصنّف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنّفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به. والله أعلم »(١) .

٥ - قوله: « خبر الواحد لا يفيد العلم الا بقرائن

وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة» والكلام عليه في وجوه:

١ ) قال أحمد: خبر الواحد يفيد العلم مطلقا ً

إنّ هذا الكلام ردّ على أحمد بن حنبل، القائل بإفادة خبر الواحد العلم حتى مع عدم القرينة، فقد ذكر القاضي عضد الدين الإِيجي ما نصّه: « قد اختلف في خبر الواحد العدل هل يفيد العلم أو لا؟ والمختار: إنه يفيد العلم لانضمام القرائن، وعنى به الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه عادةً. وقال قوم: يحصل العلم به بغير قرينة أيضاً. ثم اختلفوا فقال أحمد في قول: يحصل العلم به بلا قرينة ويطرد، أي كلمـّا حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم: لا يطرد، أي قد يحصل العلم به، لكن ليس كلما حصل حصل العلم به. وقال الأكثرون: لا يحصل العلم به، لا بقرينةٍ ولا بغير قرينة »(٢) .

وقال جلال الدين المحلّي في ( شرح جمع الجوامع ): « [ مسألة: خبر الواحد لا يفيد العلم إلّا بقرينةٍ ] كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت، مع قرينة البكاء، وإحضار الكفن والنعش. [ وقال الأكثر لا يفيد مطلقاً ] وما ذكره من القرينة يوجد مع الإِغماء. [ وقال ] الإِمام [ أحمد ] يفيد [ مطلقاً ] بشرط العدالة ».

وقد ردّ عليه العالم الحنفي عبد العلي الملقّب ببحر العلوم حيث قال:

____________________

(١). المنهاج في شرح صحيح مسلم ١ / ٨٥ هامش القسطلاني.

(٢). شرح المختصر ٢ / ٥٥ - ٥٦.

٣٨

« وقيل: خبر الواحد العدل يفيد العلم مطلقاً، محفوفاً بالقرائن أو لا. فعن الامام أحمد: هذا الحكم مطرد، فيكون كلمـّا أخبر العدل حصل العلم. وهذا بعيد عن مثله، فإنه مكابرة ظاهرة، قال الإمام فخر الإِسلام: وأما دعوى علم اليقين فباطل بلا شبهة، لأن العيان يردّه من قبل، وإنّا قد بيّنا أن المشهور لا يوجب علم اليقين، فهذا أولى، وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الإِحتمال، ومن أنكر هذا فقد أسفه نفسه، وأضلّ عقله. وقيل: لا يطرد هذا الحاكم بل قد يفيد في بعض الصور، كرامةً من الله تعالى. وهو فاسد أيضاً، لأنه تحكّم صريح »(١) .

بل قد علمت من عبارة شرح العضد على مختصر ابن الحاجب أنّ القول بإفادة خبر الواحد للعلم مطلقاً هو قول جماعة.

٢ ) قال الأكثر: لا يفيد العلم مطلقا ً

ومن ناحيةٍ أخرى: قد عرفت من عبارة القاضي العضد والجلال المحلّي: أنّ القول بعدم إفادة خبر الواحد للعلم مطلقا هو مذهب أكثر الأصوليين من أهل السنة.

٣ ) لا حاجة إلى القرينة بعد النّص

ثم إنّ الحق الحقيق بالقبول هو: أنّه لا بدّ للمنصوب من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأجل الإخبار والتبليغ عنه إلى الأمّة، من حجة - من نص أو دليل - تثبت حقيّته، كي تقبل منه الأمّة ما يبلّغه إليها، ومع وجود النّص أو الدليل لا حاجة إلى احتفاف خبره بقرينةٍ، حتى يقال بأنها: « قد تكون منتفيةً أو خفيةً عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة »، بل إنّ خبره يكون - بسبب النص عليه - مفيداً للعلم. وهذا المعنى ثابت فيما نحن فيه، لإِفادة حديث مدينة العلم نصب عليعليه‌السلام لهذا المنصب، فخبره عليه

____________________

(١). فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٢١ هامش المستصفى.

٣٩

السلام مفيد للعلم واليقين.

ومن هنا يظهر أنّ قياس خبره عليه الصلاة والسلام على خبر غيره من آحاد المخبرين كقياس الماء على السّراب، وهو يخالف الحق والصواب.

٤ ) لما ذا التخصيص بالقرآن والسنة المتواترة؟

ثم إنّ التخصيص بالقرآن والسنة لا وجه له، لأنه بناءً على ما توهّمه ابن تيميّة لا يثبت بخبر هذا المخبر علم مطلقاً، سواء كان قرآناً أو سنة متواترةً، أو سنة غير متواترة، فقصر نفي العلم على القرآن والسنّة المتواترة لا وجه له، بل كان مقتضى القاعدة أن يقول: « بالقرآن والسنة غير المتواترة، بل السنّة المتواترة » كما لا يخفى على البصير بأساليب الكلام.

٦ - الإِشارة إلى أدلّة عصمة علي عليه‌السلام

وأمّا قوله: « وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلا بدّ من العلم بعصمته أولاً » فالكلام عليه بوجوه:

الأول: كأنّ ابن تيميّة لا يعلم بأنّ مقتضى مذهب الإِمامية هو القول بعصمة هذا المبلِّغ المنصوب للتبليغ!!.

الثاني: إنّ عصمة هذا المبلِّغ الواحد ثابتة من حديث مدينة العلم كما عرفت ذلك سابقاً، وقد اعترف به بعض المنصفين من أهل السّنة، فيكون حديث مدينة العلم دالاً على مبلّغية أمير المؤمنينعليه‌السلام وعصمته معا. فبطل قوله: « فلا بدّ من العلم بعصمته أوّلاً ».

الثالث: إن عصمة أمير المؤمنينعليه‌السلام ثابتة من آياتٍ من الكتاب، وأحاديث كثيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفصيل هذا المطلب موكول إلى محلّه.

الرابع: إن نصب هذا المبلِّغ من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو - عند التأمل - عين النصب للإِمامة والخلافة، وقد ثبت في محلّه ضرورة كون

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301