نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار13%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 314024 / تحميل: 6953
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

سقوط دعوى ابن طاهر بطلان طرقه

وكما بطل دعوى وضع حديث الطير، فقد بطل دعوى بطلان طرقه كما عن ابن طاهر ومن تبعه قال ابن حجر المكي في ( المنح المكيّة ): « أما قول بعضهم: إنّه موضوع وقول ابن طاهر: طرقه كلها باطلة معلولة، فهو الباطل، وابن طاهر معروف بالغلو الفاحش ».

والحمد لله الذي أظهر بطلان ما قاله ابن طاهر على لسان ابن حجر الذي هو من كبار المتعصّبين ضدّ الحقّ وأهله، لأنّه المدافع عن معاوية والقائل بخلافته والمؤلّف في فضائله ومناقبه الأحاديث الموضوعة كتاب ( تطهير اللسان والجنان ). وهو أيضاً صاحب ( الصّواعق المحرقة ) المشتمل على التعصّب والعناد لأهل البيت وأتباعهم، كما اعترف الشيخ عبد الحق الدهلوي، ورشيد الدين صاحب ( إيضاح لطافة المقال ) بذلك.

وبالجملة، فإنّ ما ذكره ابن طاهر باطل مردود، حتى لدى المتعصّبين من أهل نحلته وطائفته.

١٤١

ترجمة محمّد بن طاهر المقدسي

وكما وصف ابن حجر المكّي محمّد بن طاهر المقدسي بالغلوّ الفاحش فقد أورده الذهبي في كتاب ( المغني في الضعفاء ) حيث قال: « محمّد بن طاهر المقدسي الحافظ ليس بالقوي، فإنّ له أوهاماً في تواليفه. وقال ابن ناصر: كان لحنة وكان يصحف. وقال ابن عساكر: جمع أطراف الكتب الستّة، رأيته بخطه وأخطأ فيه في مواضع خطأ فاحشاً »(١) .

وفي ( ميزان الاعتدال ) بعد أنْ ذكر ما تقدّم عن ( المغني ): « قلت: وله انحراف عن السنّة إلى تصوّفٍ غير مرضي، وهو في نفسه صدوق لم يتهم، وله حفظ ورحلة واسعة »(٢) .

وقال الحافظ ابن حجر: « قال الدقاق في رسالته: كان ابن طاهر صوفياً ملامتياً، له أدنى معرفة بالحديث في باب شيوخ البخاري ومسلم، وذكر لي عنه حديث الإِباحة. أسأل الله أن يعافينا منها، وممّن يقول بها من صوفية وقتنا. وقال ابن ناصر: ابن طاهر يقرأ ويلحن، فكان الشيخ يحرّك رأسه ويقول: لا حول ولا قوة إلّا بالله. وقال ابن عساكر: له شعر حسن مع أنّه كان لا يعرف النحو »(٣) .

وقال السيوطي: « كان ظاهريّاً يرى إباحة السّماع والنظر إلى المرد، وصنّف في ذلك كتاباً، وكان لحنة لا يحسن النحو »(٤) .

____________________

(١). المغني في الضعفاء ٢ / ٢٨.

(٢). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ٥٨٧.

(٣). لسان الميزان ٥ / ٢٠٧.

(٤). طبقات الحفّاظ: ٤٥٢.

١٤٢

كذب قول جماعة: ذكره ابن الجوزي في الموضوعات

ومن العجائب أن جماعة من أعلام القوم يعزون إلى ابن الجوزي إيراد حديث الطير في كتاب ( الموضوعات ):

قال الشعراني: « البحث الثالث والأربعون، في بيان أن أفضل الأولياء المحمديين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ علي - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وهذا الترتيب بين هؤلاء الخلفاء قطعي عند الشيخ أبي الحسن الأشعري، ظنّي عند القاضي أبي بكر الباقلاني.

وممّا تشبّث به الرّافضة في تقديمهم علياً -رضي‌الله‌عنه - على أبي بكررضي‌الله‌عنه حديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بطير مشوي فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فأتاه عليرضي‌الله‌عنه .

وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأفرد له الذهبي جزءً وقال: إنّ طرقه كلّها باطلة. واعترض الناس على الحاكم حيث أدخله في المستدرك »(١) .

فرية الشعراني على ابن الجوزي

وفي هذه العبارة من الكذب والإِفتراء والتدليس ما لا يخفى:

أمّا أولاً : فإنّ الشعراني قد افترى على ابن الجوزي إيراد هذا الحديث في كتاب الموضوعات، وهذه فرية قبيحة وكذبة واضحة، فإنّه - بغضّ النظر عن عدم وجدان هذا الحديث الشريف في هذا الكتاب رغم التّفحص التام والتتبع

____________________

(١). اليواقيت والجواهر - المبحث الثالث والأربعون.

١٤٣

الدقيق في نسخته الخطيّة العتيقة - قد نصّ الحافظ العلائي وابن حجر المكّي على أنّ ابن الجوزي لم يذكر هذا الحديث في الموضوعات. فلو فرضنا أنّ الشعراني لم يراجع كتاب الموضوعات، ولم ير عبارة العلائي، فهلّا اعتمد على ابن حجر المكّي الذي بالغ في مدحه والثناء عليه في ( لواقح الأنوار ) كي لا يقع في مثل هذه الورطة؟!

فرية على الذهبي

وأمّا ثانياً: فإنّه قد افترى على الذهبي حيث نسب إليه القول بأنّ طرق هذا الحديث كلّها باطلة، لأنّ الذّهبي ذكر أنّه قد جمع طرقه وأنّها تدل على أن للحديث أصلاً، وقد تقدّم نقل عبارة الذهبي هذه عن ( تذكرة الحفّاظ ) و ( مقاليد الأسانيد ) و ( بستان المحدّثين ).

وأيضاً: قد عرفت أنّ الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) يصرّح بأنّ رجال رواية الحاكم ثقات.

تدليس وتلبيس من الشعراني

وأمّا ثالثاً : فإنّ الشعراني ذكر اعتراض الناس على الحاكم حيث أدخله في المستدرك، ولم يتعرض لوجه الإِعتراض والجواب عنه. وقد عرفت أنّ أول المعترضين هو الذهبي في ( تلخيص المستدرك ) ومنه أخذ من بعده وكان وجه الإِعتراض اتّهامه « محمّد بن أحمد بن عياض » لكن الذّهبي رجع عن هذا الاتّهام في ( ميزان الإِعتدال ) وظهر له صدق الرّجل مع تنصيصه على وثاقة غيره من رجال الحديث عند الحاكم، فيكون قد صحّح الحديث ورفع اليد عن اعتراضه وكلّ هذا لم يتطرّق إليه الشعراني، فهل كان قد جهله؟! أو تجاهله ولم يشأ أن يتطرّق إليه؟

١٤٤

فرية محمّد طاهر الفتني على ابن الجوزي

وقال محمّد طاهر الكجراتي الفتني: « في المختصر: اللّهم ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي هذا الطير. له طرق كثيرة كلّها ضعيفة. قلت: ذكره أبو الفرج في الموضوعات »(١) .

وهذه فرية إذْ أنّه غير مذكور في ( الموضوعات ).

والعجيب أيضاً: أنّ الفتني ينسب هذا إلى ابن الجوزي ليعتمد عليه في ردّ هذا الحديث؟ وهو القائل عن ابن الجوزي في صدر كتابه ما نصّه: « ولعمري إنّه قد أفرط في الحكم بالوضع، حتى تعقبه العلماء من أفاضل الكاملين، فهو ضرر عظيم على القاصرين المتكاسلين. قال مجدد المائة السيوطي: قد أكثر ابن الجوزي في الموضوعات من إخراج الضعيف بل ومن الحسان ومن الصّحاح ».

فظهر أنّ النسبة كاذبة من أصلها. وعلى فرض الصّحة فإنّه يرى ابن الجوزي مفرطاً في الحكم بالوضع، وأنّ كتاب الموضوعات فيه أحاديث صحاح أيضاً.

بل، لقد تعقب الفتني الهندي ابن الجوزي في بعض ما حكم بوضعه بأنّ الحديث ممّا أخرجه الترمذي، فلا يحكم عليه بالوضع وإنْ ضعّفه فلو فرض ذكر ابن الجوزي حديث الطّير في الموضوعات لكان على الفتني أن يتعقّبه، لكونه من أحاديث الترمذي في صحيحه، لا سيّما وأن الترمذي لم يحكم عليه بالضعف؟!

فما الذي حمل الفتني على هذا الموقف من الحديث غير التعصّب؟!

____________________

(١). تذكرة الموضوعات: ٩٥.

١٤٥

فرية القاري على ابن الجوزي

وقال الشيخ علي القاري: « رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. أي إسناداً أو متناً، ولا منع من الجمع. قال ابن الجوزي: موضوع »(١) .

وهذه فرية على ابن الجوزي، ولا يخفى أنّه لم يقنع بدعوى ذكره إياه في الموضوعات بل نسب إليه القول بأنّه « موضوع » لكنْ اين؟ وفي أيّ كتاب؟!

فرية الصبّان على ابن الجوزي

وقال الشيخ محمّد الصبّان المصري مقتفياً أثر الشعراني: « وأمّا ما أخرجه الحاكم في مستدركه من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بطير مشوي فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فأتاه علي. فهو - وإنْ كان ممّا تشبّث به الرافضة في تفضيلهم علياً - حديث باطل. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وأفرده الحافظ الذهبي بجزءٍ وقال: إن طرقه كلها باطلة. واعترض الناس على الحاكم حيث أدخله في المستدرك »(٢) .

ويرد عليه ما ورد على الشعراني، لكنه زاد عليه الحكم ببطلان الحديث، وهذا جزافٌ محض وعنادٌ بحت،

فرية الشوكاني على ابن الجوزي

وقال الشوكاني: « اللّهم ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي هذا الطير. قال في المختصر: له طرق كثيرة كلّها ضعيفة. وقد ذكره ابن الجوزي في

____________________

(١). مرقاة المفاتيح - شرح مشكاة المصابيح ٥ / ٥٦٩.

(٢). اسعاف الراغبين في مناقب النبيّ وأهل بيته الطاهرين: ١٦٩.

١٤٦

الموضوعات. وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصحّحه. واعترض عليه كثير من أهل العلم ومن أراد استيفاء البحث فلينظر ترجمة الحاكم في النبلاء »(١) .

ويردّه ما ذكرناه في الجواب عن كلمات من تقدّمه.

والحاصل: إنّ نسبة إيراد هذا الحديث في كتاب ( الموضوعات ) أو الحكم بوضعه إلى ابن الجوزي لا أساس لها من الصّحة، والذي أظنّ: أنّ هؤلاء لمـّا كانوا في مقام الطعن في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام مهما أمكنهم ذلك، عناداً ولجاجاً وتعصّباً، وكانوا يعلمون أنّ ابن الجوزي قد أورد طرفاً كبيراً من مناقب أمير المؤمنين والعترة الطاهرة في كتاب ( الموضوعات ) فقد نسبوا إليه إيراد هذا الحديث في الكتاب المذكور، رجماً منهم بالغيب من دون مراجعة كتابه.

لكنك قد عرفت أن الحافظ العلائي وابن حجر المكّي ينفيان أنْ يكون ابن الجوزي قد ذكر حديث الطير في موضوعاته مضافاً، إلى أنّ هذا الكتاب موجود بين الأيدي، فمن يدّعي فليثبت؟.

حديث الطير في كتاب العلل المتناهية

نعم، لقد أورد ابن الجوزي حديث الطير في كتابه ( العلل المتناهية ) وموضوعه الأحاديث الضعيفة بحسب السند - بزعم ابن الجوزي - والتي لا دلالة لألفاظها على كونها كاذبة أورده بطرقه الكثيرة وتكلّم عليها

لكن هذا لا يضرّ بمطلوب أهل الحقّ لوجوه:

الأوّل : إن ابن الجوزي متعصب مفرط في أحكامه وهذا أمر ثابت من كلمات أكابر علماء أهل السنّة.

الثاني : إنّ ابن الجوزي لم يناقش في بعض الطرق التي ذكرها. وإذا

____________________

(١). الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ٢٨٢.

١٤٧

كان طريق البحث والنقاش في بعض الطرق مسدوداً على مثل ابن الجوزي كان إيراده هذا الحديث في كتابه المذكور مجازفة، لأنّ الحديث حينئذٍ لا يكون ممّا يناسب الكتاب موضوعاً.

والثالث : إن كثيراً من مناقشاته في رجال طرقه مردودة.

والرابع : لو سلّمنا جميع مناقشاته، كان الحديث ضعيفاً سنداً، لكنك قد عرفت سابقاً من كلمات أئمة القوم أن اجتماع الطرق الضعيفة على حديث واحدٍ يوجب تقوّي بعضها ببعض، وبذلك يرتقي الحديث إلى درجة الحسن وعلى هذا، فإنّ مجرّد هذه الطرق الكثيرة التي ذكرها ابن الجوزي وخدش فيها - هي وحدها مع قطع النظر عن غيرها - تقتضي أن يكون الحديث حسناً لا ضعيفاً.

الخامس : إن الوجوه السابقة التي ذكرناها لإِثبات صحّة حديث الطير وحسنه إذا انضمت إلى هذه الطرق الكثيرة - المفروض ضعفها - بلغت بالحديث إلى مرتبة القوّة والاعتبار.

١٤٨

خلاصة البحوث

ويتلخّص البحث إلى الآن في نقاط:

١ - إنّ القول بوضع حديث الطير باطل، أيّاً من كان قائله.

٢ - دعوى قول أكثر المحدّثين بوضعه لا أساس لها من الصحة.

٣ - دعوى قول ابن الجزري بوضعه لا يعبأ بها.

٤ - دعوى قول الذهبي بوضعه كاذبة.

٥ - دعوى بطلان طرقه كما عن ابن طاهر ومن تبعه باطلة.

٦ - دعوى جماعة ذكر ابن الجوزي إيّاه في ( الموضوعات ) كاذبة.

٧ - إيراد ابن الجوزي إياه في ( العلل المتناهية ) لا يضر بمطلوب الإِمامية.

١٤٩

مع ابن تيميّة الحرّاني

ولا بن تيميّة خرافات وأباطيل في تكذيب هذا الحديث الشريف نتعرض لها بالتفصيل

لقد قال ابن تيميّة المشهور بالعناد والعصبية في جواب العلاّمة الحلّي ما نصّه، قال:

« الجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل.

وقوله : روى الجمهور كافّة. كذب عليهم، فإنّ حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صحّحه أئمة الحديث. ولكن هو ممّا رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي. بل قد رووا في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصنّف في ذلك مصنفات، وأهل العلم بالحديث لا يصحّحون هذا ولا هذا ».

جواب قوله: لم يروه أحد من أصحاب الصّحيح!

وهذا الكلام كلّه أكاذيب وأباطيل: إنّه يقول: « إنّ حديث الطّير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح » فنقول له:

إنّ حديث الطير مخرَّج في صحيح الترمذي، وصحيح الحاكم، وصحيح النسائي - بناءً على أنّ الخصائص من سننه - فكيف يقال: لم يروه أحد من أصحاب الصحيح؟!

جواب قوله: ولا صححه أئمة الحديث

ويقول ابن تيميّة: ولا صحّحه أئمة الحديث. وهذا كذب وإنكار

١٥٠

للحقيقة، لأنّ المأمون العباسي، وقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وإسحاق بن إبراهيم بن حمّاد بن يزيد وأربعين - أو تسعة وثلاثين - من كبار علماء عصر المأمون. وكذا أبو عمر أحمد بن عبد ربّه القرطبي، وأبو عبد الله الحاكم، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، وأبو عبد الله الكنجي الشافعي يصحّحون - أو يسلّمون تصحيح - حديث الطير وهؤلاء علماء متبحرون في علم الحديث

وهل ينكر ابن تيميّة أن يكون هؤلاء من أئمة الحديث؟!

نعم: إنّ من يقول الحقّ ويعترف بما ينفع أهل الحقّ لا يكون من أئمّة الحدّيث عند ابن تيمية وأمثاله من المتعصبين المعاندين للحق!!

جواب قوله: ولكن هو ممّا رواه بعض الناس

ثمّ يقول: « ولكنْ هو ممّا رواه الناس » وكأنّه يريد إيهام أنّ رواة حديث الطير ومخرجيه شرذمة شاذة من آحاد الناس والعوام الجهلة لكنّا نساءل أهل العلم والإِنصآف، هل أنّ أمثال:

أبي حنيفة، إمام المذهب الحنفي.

وأحمد بن حنبل، إمام المذهب الحنبلي.

وعبّاد بن يعقوب الرواجني.

وأبي حاتم الرّازي.

وأبي عيسى الترمذي.

وأحمد بن يحيى البلاذري.

وعبد الله بن أحمد بن حنبل.

وأبي بكر البزار.

وأحمد بن شعيب النسائي.

وأبي يعلى الموصلي.

١٥١

ومحمّد بن جرير الطبري.

وأبي القاسم البغوي.

ويحيى بن صاعد البغدادي.

وابن أبي حاتم الرّازي.

وأبي عمر ابن عبدربّه.

والقاضي حسين المحاملي.

وأبي العباس ابن عقدة.

وعلي بن الحسين المسعودي.

وأحمد بن سعيد الجدّي.

وأبي القاسم الطبراني.

وابن السّقاء الواسطي.

وأبي اللّيث الفقيه.

وابن شاهين البغدادي.

وأبي الحسن الدار قطني.

وابن شاذان السكري الحربي.

وابن بطة العكبري.

وأبي بكر النّجار.

وأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.

وأبي سعد الخركوشي.

وأبي بكر ابن مردويه.

وأبي نعيم الأصبهاني.

وأبي طاهر ابن حمدان.

وابن المظفر العطّار.

وأبي بكر البيهقي.

١٥٢

وابن بشران.

وابن عبد البرّ.

وأبي بكر الخطيب البغدادي.

وابن المغازلي الواسطي.

وأبي المظفّر السمعاني.

ومحيي السنّة البغوي.

ورزين العبدري.

وابن عساكر الدمشقي.

ومجد الدين ابن الأثير.

وابن النّجار البغدادي.

ومحمّد بن طلحة الشافعي.

وسبط ابن الجوزي.

ومحمّد بن يوسف الكنجي.

ومحبّ الدين الطبري الشافعي.

وإبراهيم الحمويني.

يقال عنهم: « بعض الناس » أو أنّ هؤلاء أساطين دين أهل السنّة، وأكابر حفّاظهم المحدّثين، وأئمّتهم المعتمدين؟!

من تناقضات ابن تيمية

وياليته استثنى ممّن عبَّر عنه بـ « بعض الناس » مستهيناً له ومستصغراً إياه أبا حنيفة وأحمد بن حنبل، وأبا حاتم، والنسائي، ومحمّد بن جرير الطبري، والدار قطني لئلّا يلزم التناقض والتهافت في كلماته:

وذلك، لأنّ ابن تيمية وصف في كتابه ( المنهاج ) أحمد بن حنبل، وأبا حاتم، والنسائي، والدار قطني، بأنّهم أئمة ونقّاد وحكّام وحفّاظ للحديث، ولهم

١٥٣

معرفة تامّة بأقوال النبيّ وأحوال الصّحابة والتابعين وسائر رجال الحديث طبقة بعد طبقة، ولهم كتب كثيرة في معرفة أحوال رجال الحديث

وزعم أنّ أبا حنيفة، وأحمد بن حنبل، ومحمّد بن جرير الطبري، بلغوا في العلم مرتبةً حتى كانوا - معاذ الله - أعلم من الإِمامين العسكريّينعليهما‌السلام بالشريعة ...!! إلى غير ذلك ممّا قال فلا نذكره ونعوذ بالله من الضّلالة والخسران

مفاد قوله: أهل العلم بالحديث لا يصححون فضائل علي ولا فضائل معاوية

وأمّا قوله: « كما رووا أمثاله في فضائل غير علي بل قد رووا في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصنّف في ذلك مصنّفات، وأهل العلم بالحديث لا يصحّحون هذا ولا هذا ».

ففيه فوائد:

أمّا أوّلاً: فإنّه يبطل دعاوي المتأخرين من علماء أهل السنّة من أنْ أهل السنّة هم الذين اهتمّوا منذ اليوم الأول برواية فضائل أهل البيتعليهم‌السلام وتصحيحها وجمعها في مقابلة النواصب والأعداء وأنّ الإماميّة في هذا الباب عيال على أهل السنّة ومستفيدون منهم نعم، إن كلام ابن تيمية هذا يبطل كلّ هذه الدعاوي ويكذب هذه المزاعم، إذ يقول بأنّ أهل العلم بالحديث لا يصحّحون فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وأمّا ثانياً: فإنّه يقتضي سقوط جميع روايات أهل السنّة عن الإِعتبار، لأنّهم قد وضعوا أحاديث في فضل معاوية ثمّ أفردوها بالتأليف لغرض تضليل العوام وتخديعهم وحينئذٍ لا يبقى وثوق واعتبار لرواياتهم وكتبهم في الأبواب العلمية الاُخرى.

وأمّا ثالثاً: فإنّه يفيد أنّ المصحّحين لِما رووه في فضل معاوية ليسوا من

١٥٤

أهل العلم بالحديث وبهذا يعرف حال والد ( الدهلوي ) الذي حاول إثبات فضائل معاوية في ( إزالة الخفاء )، وحال ابن حجر المكّي المؤلّف كتاباً خاصاً في ذلك.

إلى هنا إنتهى الكلام حول ما ذكره ابن تيمية في الوجه الأول.

قال:

« الثاني: إنّ حديث الطير من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل. قال الحافظ أبو موسى المديني: قد جمع غير واحدٍ من الحفّاظ طرق أحاديث الطير للإِعتبار والمعرفة: كالحاكم النيسابوري، وأبي نعيم وابن مردويه. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصحّ.

هذا مع أنّ الحاكم منسوب إلى التشيّع، وقد طلب منه أنْ يروي حديثاً في فضل معاوية فقال: ما يجئ من قلبي ما يجئ من قلبي، وقد خوصم على ذلك فلم يفعل، وهو يروي في المستخرج والأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

لكنّ تشيّعه وتشيّع أمثاله من أهل العلم بالحديث: كالنسائي، وابن عبد البرّ، وأمثالهما، لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر، فلا يعرف في علماء الحديث من يفضلّه عليهما، بل غاية التشيع منهم أنْ يفضلّه على عثمان، أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله، ونحو ذلك. لأنّ علماء الحديث قد عصمهم وقيّدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدّالة على فضيلة الشيخين، ومن ترفّض ممّن له نوع اشتغال بالحديث: كابن عقدة وأمثاله، فهذا غايته أنْ يجمع ما يروى في فضائله من الكذوبات والموضوعات لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين، فإنّها باتّفاق أهل العلم بالحديث أكثر ممّا صحَّ من فضائل علي وأصّح وأصرح في الدلالة.

وأحمد بن حنبل لم يقل إنّه صحّ لعلي من الفضائل ما لم يصحّ لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نقل عنه أنّه قال: روي له ما

١٥٥

لم يرو لغيره، مع أنّ في نقل هذا عن أحمد كلام ليس هذا موضعه ».

جواب قوله: حديث الطير من المكذوبات عند أهل المعرفة

وهذا الوجه كسابقه كلّه أكاذيب وأباطيل إنّه يدّعي: « أنّ حديث الطّير من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل » وهذه دعوى باطلة، فالحديث عند أهل التحقيق من أساطين أهل السنّة من الأحاديث الصحاح المعتبرة الصالحة للاستدلال والاحتجاج كما عرفت ذلك بالتفصيل

وليت شعري من « أهل المعرفة بحقائق النقل » القائلين بأنّه من المكذوبات الموضوعات؟ لما ذا لم يذكرهم؟ ولم يذكر واحداً منهم؟ ألم يكن من المناسب أن يذكر ولو اسم واحدٍ فقط!، وإنْ كانت دعوى وضعه فارغة مردودة لدى المحقّقين الكبار من أهل السنّة أيضاً كالعلائي والسّبكي وابن حجر المكّي؟

لا علاقة لما نقله عن المديني بمدّعاه

ثمّ نقل عن أبي موسى المديني أنّه قال: « قد جمع غير واحدٍ من الحفّاظ طرق أحاديث الطّير للإِعتبار والمعرفة كالحاكم وأبي نعيم وابن مردويه » ولكنْ أيّ علاقة لهذا الذي نقله عن المديني بما ادّعاه من كون الحديث من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل؟ وهل يدلّ على مدّعاه بإحدى الدلالات الثلاث؟

بل الأمر بالعكس، وما ذكره ابن تيمية اعتراف حديث الطير ...، إذ قد عرفت أنّ جمع علماء أهل السنّة طرق هذا الحديث في أجزاءٍ مفردة وتآليف خاصة يدل بوجوهٍ عديدة على ثبوته وتحقّقه لكنّ هذا الرجل وأمثاله إذا أرادوا البحث مع الإِماميّة يضطربون، وقد يتفوّهون بما يضرّهم وهم

١٥٦

لا يشعرون

ما نقله عن الحاكم كذب عليه

وأمّا ما ذكره من أنّه « سئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح » ففيه:

أوّلاً : إنّه كذب على الحاكم وكيف يقول الحاكم بعدم صحته وقد أخرجه في مستدركه على الصحيحين وأثبت صحته رغم الجاحدين؟

ومع هذا، فإنّ نقل حكم الحاكم بعدم صحة هذه الحديث غايته أن يكون ظنيّاً، لكن حكمه بصحته في المستدرك قطعي، والظّني لا يعارض القطعي.

وثانياً : لو سلّمنا ثبوت هذا الذي حكاه عن الحاكم، فإنّه لا يجوز الاحتجاج به، لتصريح الحافظ برجوع الحاكم عن ذلك كما ستعلم.

وثالثاً : لو سلّمنا ثبوته وفرضنا عدم رجوعه كان الاستدلال والإِحتجاج بتصحيحه إيّاه في المستدرك من باب الإِلزام والافحام للمخالفين تاماً، على القواعد والاُصول المقرّرة في باب الإِحتجاج والمناظرة.

ورابعاً : ولو فرضنا أنّه كان قد قدح فيه ولم يخرجه في المستدرك، فإنّ الأدلة القويمة والبراهين المتينة على صحة حديث الطير وثبوته كثيرة، بل يكفي لبطلان القول بوضعه ما قاله العلائي والسبكي وابن حجر المكّي.

هذا، وقد نصَّ الحافظ الذهبي في ( تذكرة الحفّاظ ) - بعد أن حكى ذلك القول المنسوب إلى الحاكم - على رجوعه عنه، وقد أورد الشيخ محمّد الأمير الصنعاني كلام الذّهبي وعلّق عليه حيث قال في ( الروضة الندية ):

« هذا الخبر رواه جماعة عن أنس، منهم: سعيد بن المسيب، وعبد الملك بن عمير، وسليمان بن الحجاج الطائفي، وابن أبي الرجال الكوفي، وأبو الهندي، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، ويغنم بن سالم بن قنبر،

١٥٧

وغيرهم.

وأمّا ما قال الحافظ الذهبي في التذكرة في ترجمة الحاكم أبي عبد الله المعروف بابن البيّع الحافظ المشهور مؤلّف المستدرك وغيره - بعد أن ساق حكاية: وسئل الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصح، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال الذهبي: قلت: تغيَّر رأي الحاكم فأخرج حديث الطير في مستدركه. قال الذهبي: وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة قد أفردتها بمصنّف، ومجموعها يوجب أنّ الحديث له أصل. انتهى كلام الذهبي.

فأقول : كلام الحاكم هذا لا يصح عنه، أو أنّه قاله ثمّ رجع عنه كما قال الذهبي: ثمّ تغيّر رأيه. وإنّما قلنا ذلك لأمرين: أحدهما - وهو أقواهما - أنّ القول بأفضلّية علي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مذهب الحاكم كما نقله الذهبي أيضاً في ترجمته عن ابن طاهر، قال الذهبي: قال ابن طاهر: كان - يعني الحاكم - شديد التعصّب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفاً عن معاوية، وأنّه يتظاهر بذلك ولا يعتذر فيه. انتهى كلام ابن طاهر. وقرّره الذهبي بقوله: قلت: أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر. وأمّا الشيخان فمعظّم لهما بكلّ حال، فهو شيعي لا رافضي. انتهى.

قلت : إذا عرفت هذا فكيف يطعن الحاكم في شيء هو رأيه ومذهبه ومن أدلّة ما يجنح إليه؟ فإنْ صحّ عنه نفي صحة حديث الطائر فلا بدَّ من تأويله بأنّه أراد نفي أعلى درجات الصحة، إذْ الصحّة عند أئمة الحديث درجات سبع، أو أنّ ذلك وقع منه قبل الإِحاطة بطريق الحديث، ثمّ عرفها بعد ذلك فأخرجه فيما جعله مستدركاً على الصحيحين.

والثاني : إنّ إخراجه في المستدرك دليل صحته عنده، فلا يصح نفي الصحة عنه إلّا بالتأويل المذكور.

وعلى كلّ حال فقدح الحاكم في الحديث لا يتم.

١٥٨

ثمّ هذا الذهبي مع تعاديه وما يعزى إليه من النصب ألّف في طرقه جزءٌ. فعلى كلّ تقدير قول الحاكم: لا يصح. لا بدّ من تأويله.

ولأنّه علّل عدم صحته بأمرٍ قد ثبت من غير حديث الطّير، وهو: إنّه إذا كان أحبّ الخلق إلى الله كان أفضل الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى الله من غير حديث الطائر وإذا ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه أحب الخلق إلى الله سبحانه، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون الأحب إليه إلّا الأحب إلى الله سبحانه، وأنّه قد ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى الله من أدلةٍ غير حديث الطائر.

فماذا ينكر من دلالة حديث الطّير على الأحبيّة الدالّة على الأفضلية، وأنّها تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة الحديث كما نقل عن الحاكم، ويقرب أنّ الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلّا الإِستدلال على ما يذهب إليه من أفضلية علي، بتعليق الأفضلية على صحة حديث الطير، وقد عرف أنّه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإِقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا يصح، ولو صحَّ لما كان أحد أفضل من علي بعده. وقد تبيّن صحته عنده وعند خصمه. فيلزم تمام ما أراده من الدليل على مذهبه ».

جواب قوله: الحاكم منسوب إلى التشيّع

وأمّا قوله: « مع أنّ الحاكم منسوب إلى التشيّع » ففيه: أنّه إنْ أراد أنّ بعض المتعصبين نسب الحاكم إلى التشيّع وإنْ لم يكن متشيّعا في الواقع، فهذا مسلّم، لكن ايش يجدي هذا؟ وإن أراد أنّ الحاكم متشيّع حقّاً، فهذا باطل، إذ لا يخفى على من كان له أدنى تتّبع ونظر في كتب الرجال عدم وجود أي دليلٍ متين وبرهان مبين على تشيّع الحاكم، ومن هنا لم يتعرّض كثير ممّن ترجم له إلى هذه الناحية

١٥٩

على أنّه لا فائدة في الإِصرار على هذه الدعوى وأمثالها، لثبوت أنّ التشيّع لا يكون قادحاً في العدالة أبداً، بل لا ينافي الرّفض الوثاقة أصلاً فلو كان الحاكم متشيّعاً بل رافضيّاً لم يضرّ بوثاقته وجلالته وإمامته في الحديث، فكيف وهو من كبار أهل السنّة بل أساطينهم، ومن صدور علمائهم بل سلاطينهم.

حول ما ذكره من أنّه طلب من الحاكم رواية حديث في فضل معاوية فقال: ما يجيء من قلبي

وأضاف ابن تيمية لإِثبات تشيّع الحاكم: « وقد طلب منه أن يروي حديثاً في فضل معاوية فقال: ما يجئ من قلبي، ما يجئ من قلبي » وهذا عجيب من ابن تيمية جدّاً، لأنّه قد ذكر من قبل أنّ أهل العلم بالحديث لا يصحّحون شيئاً في فضل معاوية، فإذا كان موقف الحاكم من فضائل معاوية كسائر أهل العلم عدّ متشيعاً؟ اللّهم إلّا أن يدّعي الملازمة بين فضائل معاوية وفضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بأنْ يكون ردّ فضائلهما معاً ديدن أهل العلم بالحديث، وحيث أن الحاكم يصحّح فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ولا يصحّح شيئاً في فضائل معاوية فهو شيعي، وهذا ممّا يضحك الثكلى

على أنّ السبكي أورد خبر امتناع الحاكم من رواية شيء في فضل معاوية، وكذّبه جدّاً، وإليك نصّ الخبر عنده عن ابن طاهر قال: « سمعت أبا الفتح سمكويه بهراة يقول: سمعت عبد الواحد المليحي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن السلمّي يقول: دخلت على أبي عبد الله الحاكم - وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد، من أصحاب أبي عبد الله، وذلك أنّهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج - فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثا لاسترحت من هذه الفتنة؟ فقال: لا يجئ من قلبي - يعني معاوية - ».

فقال السّبكي: « والغالب على ظنّي أنّ ما عزي إلى أبي عبد الرحمن

١٦٠

فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأنَّ حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة، فإنّهم تعلّموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لمـّا جاء ما كان عالما لأنّه ما تعلّم وما رأى معلّما، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبّروا وتكبّروا وقالوا:( نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الربّ تعالى،( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فصغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في العجز فقالوا:( لا عِلْمَ لَنا ) ، فقال تعالى:( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر.

فتقرّر الأمر عند العقلاء: أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، و قال لقومه: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله، وإنّما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى لأنّه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلّم والتعليم الانساني، فقال تعالى:( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) ».

وقال القاضي عياض:

« فصل: ومن معجزاته الباهرة: ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصّه به من الاطّلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أُمته، وما كان في الأُمم قبله، وقصص الأَنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم وكتبهم، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيّام الله فيهم، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم، وحكم حكمائهم، ومحاجّة كلّ أمّة من الكفرة،

١٦١

ومعارضة كلّ فرقة من الكتابيين بما في كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبّآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيره.

إلى الإِحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإِحاطة بضروب فصاحتها، والحفظ لأيّامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها، والتخصيص بجوامع كلمها، إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة والحكم البيّنة، لتقريب التفهيم للغامض والتبيين للمشكل.

إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكلِّ شيء مستحسن مفضّل لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئاً إلّا من جهة الخذلان، بل كلّ جاحد له وكافر به من الجاهلية إذا سمع ما يدعو إليه صوّبه واستحسنه، دون طلب إقامة برهان عليه، ثمَّ ما أحلَّ لهم من الطّيبات وحرّم عليهم من الخبائث، وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدود عاجلاً والتخويف بالنار آجلاً.

إلى الإِحتواء على ضروب العلوم وفنون المعارف كالطب والعبادة والفرائض والحساب والنسب وغير ذلك من العلم، ممّا اتّخذ أهل هذه المعارف كلامهعليه‌السلام فيها قدوة وأصولاً في علمهم

هذا، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يكتب، ولكنّه أوتي علم كلّ شيء ولا سبيل إلى جحد الملحد بشيء ممّا ذكرناه، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه، إلّا قولهم: أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، فردّ الله قولهم بقوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) »(١) .

وقال الرازي في بيان الحجج على أفضليّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سائر الأنبياءعليهم‌السلام :

« الحجة السادسة عشرة: قال محمّد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير

____________________

(١). الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: ٤١٢ - بشرح القاري.

١٦٢

هذا المعنى: إنّ كلّ أمير فإنّه مزيّته على قدر رعيّته، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون إمارته ومزيّته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال تلك القرية، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرّسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوصٍ من الأرض إنّما يعطى من هذه الكنوز الروحانيّة بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كلّ أهل الشرق والغرب - إنسهم وجنّهم - لا بدّ وأنْ يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب.

وإذا كان كذلك كان نسبة نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولو كان كذلك لا جرم أُعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحدٌ قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحدّ الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقّه:( فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ) وفي الفصاحة إلى أنْ قال: أوتيت جوامع الكلم، وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت امّته خير الأمم »(١) .

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكيّة ) بشرح قول البوصيري:

« لك ذات العلوم من عالم

الغيب ومنها لآدم الأسماء ».

قال « واحتاج الناظم إلى هذا التفصيل مع العلم به ممّا قبله، لأنّ آدم ميّزه الله تعالى على الملائكة بالعلوم التي علّمها له، وكانت سبباً لأمرهم بالسجود والخضوع له، بعد استعلائهم عليه بذمّه ومدحهم أنفسهم بقولهم( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ ) الخ، فربما يتوهم أنَّ هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذْ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، فردّ ذلك التوهّم ببيان أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له من العلوم إلّا مجرّد العلم بأسمائها، وأن الحاصل لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو العلم بحقائقها ومسمّياتها، ولا ريب أن

____________________

(١). تفسير الرازي.

١٦٣

العلم بهذا أعلى وأجلّ من العلم بمجرّد أسمائها، لأنَّها إنّما يؤتى بها لتبيين المسمّيات فهي المقصودة بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما.

ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّما هو خلق نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلبه، فهو المقصود بطريق الذّات وآدم بطريق الوسيلة، ومن ثمَّ قال بعض المحققين: إنّما سجد الملائكة لأجل نور محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي في جبينه ».

وقال الشيخ خالد الأزهري شارحاً قول البوصيري:

« فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم

وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

وواقفون لديه عند حدّهم

من نقطة العلم أو من شكلة الحكم »

قال الأزهري: « ومعنى الأبيات الثلاثة: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علا جميع النبيين في الخلقة والسجيّة، ولم يقاربوه في العلم ولا في الكرم، كما سيأتي بيانه في قوله: يا أكرم الرسل، وفي قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وكلّ النبيّين أخذ من علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقدار غرفةٍ من البحر أو مصّة من المطر الغزير، وكلّهم واقفون عند غايتهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم، وخصّ الشكلة بالحكم لزيادة التفهيم بها على النقطة »(١) .

وكذا قال العصام بشرح الأبيات المذكورة في ( شرح البردة ) فقال في شرح الأول: « قال: لم يدانوه - ولم يقل: لم يدانه كلّ واحد منهم، لأنّ ذلك أبلغ، إذ معناه أنهم لو جمعوا وقوبلوا بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام وحده لم يدانوه، فكيف لو قوبل واحد بواحد وفي قوله: في كرم - دلالة على أنهم لا يدانوه في علم وحده ولا في كرمٍ وحده، لا أنهم لا يدانوه في العلم والكرم من حيث المجموع »

____________________

(١). شرح البردة الأزهري: ٦٣.

١٦٤

انتهى ملخصا.

وقال في شرح الثاني: « فإنْ قلت: هم عليهم الصّلاة والسّلام سابقون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يلتمسون غرفاً من بحره؟ قلت: هم سألوا منه مسائل مشكلة في علم التوحيد والصفات، فأجاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحلّ مشكلاتهم، وبين يديه جرت المحاجّة بين آدم صفي الله وبين موسى كليم الله ليلة المعراج، وإليه أشار بقوله: حاج موسى آدم فحج آدم موسى. أو تقول: « الاعتبار بتقدّم الروح العلوي لا القالب السفلي، وروح نبيّنا مقدم على سائر الأنبياء، وإليه أشار بقوله: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. والحاصل: كلّ الأنبياء من نبينا لا من غيره استفادوا العلم وطلبوا الشفقة إذ هو البحر من العلم والسّحاب من الجود وهم كالأنهار والأشجار ». انتهى ملخصا.

فظهر أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة، وكلّهم ملتمس منه غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم، وهذه المراتب بعض مراتب علم « مدينة العلم »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أعلم منهم جميعاً، لأنّه « باب مدينة العلم » ولأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على أنّ من أراد « المدينة » فليأتها من « بابها ».

اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلميّة

ولقد بلغت دلالة حديث مدينة العلم على أعلمية الإمام عليعليه‌السلام حدّاً من الظهور والوضوح حتّى صرَّح بذلك جماعة من علماء أهل السّنة ولنذكر كلمات بعضهم:

قال شهاب الدين أحمد في ( توضيح الدلائل ): « الباب الخامس عشر - في أنَّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم دار حكمة ومدينة علم وعلي لهما باب، وأنّه أعلم الناس بالله تعالى وأحكامه وآياته وكلامه بلا ارتياب:

١٦٥

عن مولانا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم: يا علي إنَّ الله أمرني أنْ أُدنيك فأعلّمك لتعي وأنزلت هذه الآية:( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأنت أذن واعية لعلمي. رواه الحافظ الامام أبو نعيم في الحلية ، و رواه سلطان الطريقة وبرهان الحقيقة الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي في الشوارق بإسناده إلى عبد الله بن الحسن رضي الله تعالى عنهما ولفظه قال: حين نزلت هذه الآية( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم لعلي رضي الله تعالى عنه: سألت الله أن يجعلها أُذنك يا علي، قال علي كرم الله تعالى وجهه: فما نسيت شيئاً بعده، وما كان لي أنْ أنسى. قال شيخ المشايخ في زمانه وواحد الأقران في علومه وعرفانه الشيخ زين الدين أبوبكر محمد بن علي الخوافي قدس الله تعالى سرّه: فلذا اختص علي كرم الله وجهه بمزيد العلم والحكمة، حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقال عمر: لو لا علي لهلك عمر ».

وقال إبن روزبهان بجواب قول العلامة الحلي: « التاسع عشر - في مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم قال: لم يكن احد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سلوني إلّا علي بن أبي طالب، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

قال: « هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع، واطّلاعه على أشتات العلوم والمعارف، وكلّ هذه الأمور مسلّمة ولا دليل على النصّ، حيث أنه لا يجب أنْ يكون الأعلم خليفةً، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمّة، ولو لم يكن أبوبكر أصلح للامامة لما اختاروه كما مرّ».

وقال المناوي بشرح حديث مدينة العلم ما نصه: « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. فإنَّ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة الجامعة لمعالي الديانات كلِّها، ولابدَّ للمدينة من باب، فأخبر أنّ بابها هو علي كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.

١٦٦

وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف: أخرج الكلاباذي أنَّ رجلاً سأل معاوية عن مسألةٍ فقال: سل علياً هو أعلم مني، فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلاً كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غراً. وكان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عمّا أشكل عليه: جاءه رجل فسأله فقال: هاهنا علي فاسأله، فقال: أريد أنْ أسمع منك يا أمير المؤمنين، قال: قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. وصحَّ عنه من طرقٍ أنه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم، حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئاً من البعوث لمشاورته في المشكل.

وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال: لا والله.

وقال الحرالي: قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه »(١) .

وفيه: « أنا دار الحكمة - و في رواية: أنا مدينة الحكمة - وعلي بابها، أي علي ابن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم ان المراد بقوله: وعلي بابها - أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تمحّل لغرضه الفاسد، لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه.

أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعاً: ما أنزل الله عز وجل يا أيّها الذين آمنوا إلّا وعلي رأسها وأميرها و أخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فسئل عن علي كرّم الله وجهه فقال: قسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأُعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحداً. و عنه أيضاً: أُنزل القرآن

____________________

(١). فيض القدير: ١ / ٤٦ - ٤٧.

١٦٧

على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وأمّا علي فعنده منه علم الظاهر والباطن. و أخرج أيضاً: علي سيد المسلمين وإمام المتقين. و أخرج أيضاً: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. و أخرج أيضاً: علي راية الهدى. و أخرج أيضاً: يا علي إنَّ الله أمرني أنْ أُدنيك وأعلّمك لتعي، وأُنزلت عليَّ هذه الآية( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأخرج أيضاً عن ابن عباس: كنّا نتحدّث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى علي كرّم الله وجهه سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره.

والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى »(١) .

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكّية ): « تنبيه: ممّا يدلّ على أنَّ الله سبحانه اختص علياً من لعلم بما تقصر عنه العبارات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم علي، وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، و قوله: أنا دار الحكمة - و في رواية أنا مدينة العلم - وعلي بابها ».

وقال ابن حجر أيضاً في ( تطهير الجنان ) في الدفاع عن معاوية: « السادس: خروجه على علي كرّم الله وجهه ومحاربته له، مع أنّه الامام الحق بإجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنصّ الحديث الحسن - لكثرة طرقه - خلافاً لمنْ زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن اطلق حسنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

واما استلزام الأعلمية للأفضلية فهو موضع وفاق بين العلماء والعقلاء. لأنّ العلم أشرف الفضائل وأعلى المناقب وأسنى المراتب، وإن من فاق الناس علماً كان أفضلهم وأشرفهم مقاماً وأعلاهم درجةً

وبالرّغم من تقرّر هذا المعنى وثبوته، ولكن من المناسب إيراد عبارات بعض كبار العلماء لمزيد الوضوح والتّبيين:

قال الحكيم الترمذي: « الأصل الخامس والثلاثون والمائة - حدثنا إسماعيل ابن نصر بن راشد قال: حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا بشر بن المفضل قال: حدّثنا

____________________

(١). فيض القدير: ١ / ٤٦.

١٦٨

عمر مولى عقدة قال: سمعت أيوب بن صفوان يذكر عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أيّها الناس من كان يحبّ أنْ يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه، وإن لله سرايا من الملائكة تحلّ وتقف على مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، ألا فارتعوا في رياض الجنة. قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكّروه بأنفسكم.

فمنزلة الله عند العبد إنّما هو على قلبه على قدر معرفته إيّاه وعلمه وهيبته منه وإجلاله له، وتعظيمه والحياء منه والخشية منه والخوف من عقابه والوجل عند ذكره وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، وقبول منته وروية تدبيره، والوقوف عند احكامه وطيب النفس بها، والتسليم له بدناً وروحاً وقلباً، ومراقبة تدبيره في أموره ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه، وترك مشيّاته لمشيّاته، وحسن الظن به في كلّ ما نابه.

والناس في هذه الأشياء على درجات يتفاضلون، فمنازلهم عند ربهم على قدر حظوظهم من هذه الأشياء، وإنّ الله تبارك اسمه أكرم المؤمنين بمعرفته، فأوفرهم حظاً من المعرفة أعلمهم به، وأعلمهم بهم أوفرهم حظاً من هذه الأشياء، وأوفرهم حظاً منها أعظمهم منزلة عنده، وأرفعهم درجةً وأقربهم وسيلة، وعلى قدر نقصانه من هذه الأشياء ينتقص حظّه وينحط درجته وتبعد وسيلته ويقل علمه به وتضعف معرفته إيّاه ويسقم إيمانه ويملكه نفسه. قال الله تبارك اسمه( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) فإنّما فضّل الخلق بالمعرفة له والعلم به لا بالأعمال، واليهود والنصارى وسائر أهل الملل قد علموا أعمال الشريعة فصارت هنا هباءً منثوراً، فبالمعرفة تزكو الأعمال، وبها تقبل منهم، وبها تطهر الأبدان، فمن فضّل بالمعرفة فقد أوتي حظّاً من العلم به، ومن فضل بالعلم به يكون هذه الأشياء التي وصفنا موجودة عنده »(١) .

____________________

(١). نوادر الاصول - الْأَصل: ١٣٥.

١٦٩

وقال الغزالي في ( الرّسالة اللّدنية ): « إعلم أنّ العلم هو تصوّر النفس الناطقة المطمئنّة حقائق الأشياء وصورها المجرَّدة عن المواد بأعيانها وكيفيّاتها وكمّياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة وان كانت مركبة، فالعالم هو المحيط المدرك المتصوّر، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس، وشرف العلم بقدر شرف معلومه ورتبة العالم بحسب رتبة العلم.

ولا شك أنّ أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله تعالى الصانع المبدع الحق الواحد، فعلمه - وهو علم التوحيد - أفضل العلوم وأجلّها وأكملها، وهذا العلم الضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء، كما قال صاحب الشّرع عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، وأمر بالسّفر في طلب العلم فقال: أطلبوا العلم ولو بالصين.

وعالم هذا العلم أفضل العلماء، وبهذا السبب خصّهم الله تعالى بالذكر في أجلّ المراتب، فقال:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ) فعلماء التوحيد لا بإطلاق هم الأنبياء، وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهذا العلم وإنْ كان شريفاً في ذاته كاملاً بنفسه لا ينفي سائر العلوم، بل لا يحصل إلّا بمقدمات كثيرة، وتلك المقدمات لا تنتظم إلّا عن علوم شتى، مثل علم السماوات والأفلاك وجميع علوم المصنوعات، ويتولَّد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكرها بأقسامها في مواضعها » وقد ذكر الغزالي في الباب الأوّل من كتاب العلم من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فضل العلم والتّعليم والتعلّم وشواهده من النقل والعقل وبحث حول ذلك بالتّفصيل(١) .

وقال الفخر الرازي في تفسيره:

« واعلم أنه يدل على فضيلة العلم: الكتاب والسّنة والمعقول، أمّا الكتاب فوجوه:

____________________

(١). احياء علوم الدين: ١ / ٥ - ٩.

١٧٠

الأول: إنّ الله تعالى سمّى العلم بالحكمة، ثم أنّه تعالى عظّم أمر الحكمة، وذلك يدل على عظم شأن العلم.

الثاني: قوله تعالى:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

الثالث: قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) المراد بأولي الأمر العلماء في أصحّ الأقوال، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس.

ثم انظر إلى هذه المرتبة، فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) وقال:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ثم إنّه سبحانه وتعالى زاد في الاكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى:( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) وقال تعالى:( كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) .

الرابع:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) .

واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف، أوّلها: للمؤمنين من أهل بدر قوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) إلى قوله:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) والثانية: للمجاهدين قوله:( وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ) والثالثة: للصالحين:( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ) والرابعة: للعلماء( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) .

فالله تعالى فضّل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضّل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه، وفضّل الصالحين على هؤلاء بدرجات، ثم فضّل العلماء على جميع الأصناف بدرجاتٍ.

فوجب كون العلماء أفضل الناس.

الخامس: قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) وإن الله تعالى وصف

١٧١

العلماء في كتابه بخمس مناقب:

أحدها: الايمان:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا ) .

وثانيها: التوحيد والشهادة:( شَهِدَ اللهُ ) إلى قوله( وَأُولُوا الْعِلْمِ ) .

وثالثها: البكاء:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ) .

ورابعها: الخشوع:( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) .

وخامسها: الخشية:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

وأمّا الأخبار فوجوه »(١) .

وقال النيسابوري في تفسيره: « البحث الثالث في فضل العلم: لو كان في الإِمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، وممّا يدل على فضله الكتاب والسّنة والمعقول » فذكر الآيات التي ذكرها الرازي، ثم الأحاديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل العلم والعلماء »(٢) .

كما خصَّ السمهودي الباب الأول من كتاب ( جواهر العقدين ) للكلام « في إيراد الدلائل الدالة على فضل العلم والعلماء، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بعضهم والأذى لبعضهم، وقد تظاهرت الآيات وصحيح الأخبار والآثار وتواترت، وتطابقت الدلائل العقلية والنقليّة وتوافقت على هذا الغرض الذي أشرنا إليه، وعوّلنا في هذا الباب عليه ».

وقال المولوي عبد العلي في ( شرح مسلم ) في الكلام على مقامات الأولياء والتفاضل بينهم، قال بعد كلام له: « لأنَّ التفاضل ليس إلّا بالعلم، والفضل بما عداه غير معتد به ».

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٧٨.

(٢). تفسير النيسابوري ١ / ٢٤١.

١٧٢

قصّة إستخلاف آدم عليه‌السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلمـّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .

قال الرازي:

« إعلم أنَّ الملائكة لمـّا سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذرّيته، وإسكانه تعالى إيّاهم في الأرض، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى:( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصّل لهم ذلك المجمل، فبيّن تعالى لهم من فضل آدمعليه‌السلام ما لم يكن ذلك معلوماً لهم، وذلك بأنْ علّم آدم الأسماء كلَّها ثم عرضهم عليهم، ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإِجمالي بهذا الجواب التفصيلي»(١) .

قال: « المسألة السادسة: هذه الآية دالّة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما اظهر كمال حكمته في خلقة آدمعليه‌السلام إلّا بأنْ أظهر علمه، فلو كان في الإِمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم »(٢) .

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٧٥.

(٢). المصدر: ١ / ١٧٨.

١٧٣

قال: « ثم خذ من أوّل الأمر، فإنه سبحانه لمـّا قال( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فلما قالت الملائكة( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) قال سبحانه( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) فأجابهم سبحانه بكونه عالماً، فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جواباً لهم وموجباً لسكوتهم، وإنما جعل صفة العلم جواباً لهم، وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وانْ كانت بأسرها في نهاية الشرف إلّا أنّ صفة العلم أشرف من غيرها.

ثم إنّه سبحانه إنّما أظهر فضل آدمعليه‌السلام بالعلم، وذلك يدل أيضاً على أنّ العلم أشرف من غيره.

ثم إنّه سبحانه لمـّا أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلي، وذلك يدل على أنّ تلك المنقبة إنّما استحقّها آدمعليه‌السلام بالعلم.

ثم إنّ الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس، والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم، فإنهما إنْ حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقاً، والنفاق أخسّ المراتب، قال تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أو تقليداً والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجباً للافتخار ببركة العلم »(١) .

وقال بتفسير( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) .

« اعلم أنّ هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنّه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة، وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أوّلاً، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً، ثمَّ بلوغه في العلوم إلى أنْ صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة »(٢) .

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٩٩.

(٢). تفسير الرازي: ١ / ٢١١.

١٧٤

وهكذا قال بتفسير الآيات المذكورة كلّ من النيسابوري في تفسيره ( غرائب القرآن ) والبيضاوي في ( تفسير: ١٤٠ ) والخطيب الشربيني في ( السراج المنير ١ / ٤٨ ) وغيرهم من مشاهير المفسّرين.

المشابهة بين علي وآدم عليهما‌السلام

ومن لطائف المقام أنّ العاصمي ذكر - لإِثبات المشابهة بين أمير المؤمنين وآدمعليهما‌السلام في العلم والحكمة أنه كما أنّ آدم فُضّل على جميع الملائكة بالعلم - وهو أفضل الخصال - فكذلك سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام فضّل على جميع الأمّة بالعلم والحكمة - ما خلا الخلفاء الماضين -.

إلّا أنَّه باستدلاله على هذا المطلب بحديث: « يا علي ملئت علماً وحكمةً »، و بحديث: « أنا مدينة العلم وعلي بابها » قد أبطل - من حيث لا يشعر - استثنائه الخلفاء الثلاثة، وأيَّد استدلال أهل الحق بحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » على أفضليّة الامامعليه‌السلام - عن طريق الأعلمية - عن جميع الخلائق سوى أخيه وصنوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا نصّ كلامه في ( زين الفتى ): « وأمّا العلم والحكمة، فإنّ الله تعالى قال لآدمعليه‌السلام ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) ففضّل بالعلم العباد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون واستحق بذلك منهم السجود له، فكما لا يصير العلم جهلاً والعالم جاهلاً فكذلك لم يصر آدم المفضَّل بالعلم مفضولا، وكذلك حال من فضّل بالعلم فأمّا من فضل بالعبادة فربّما يصير مفضولاً، لأنَّ العابد ربّما يسقط عن درجة العبادة إنْ تركها معرضاً عنها، أو يتوانى فيها تغافلاً عنها فيسقط فضله، ولذلك قيل: بالعلم يعلو ولا يعلى، والعالم يزار ولا يزور ومن ذلك وجوب وصف الله سبحانه بالعلم والعالم، وفساد الوصف له بالعبادة والعابد، ولذلك منَّ على نبيّهعليه‌السلام بقوله:( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ

١٧٥

فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) فعظّم الفضل عليه بالعلم دون سائر ما أكرمه به من الخصال والأخلاق، وما فتح عليه من البلاد والآفاق.

وكذلك المرتضى - رضوان الله عليه - فضّل بالعلم والحكمة ففاق بهما جميع الأمة ما خلا الخلفاء الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - ولذلك وصفه الرسولعليه‌السلام بهما حيث قال: يا علي ملئت علماً وحكمة، وذكر في الحديث عن المرتضى رضوان الله عليه أنَّ النبي صلّى الله عليه كان ذات ليلةٍ في بيت أمّ سلمة فبكرت إليه بالغداة، فإذا عبد الله بن عباس بالباب، فخرج النبي صلّى الله عليه إلى المسجد وعلي عن يمينه وابن عباس عن يساره، فقال النبيعليه‌السلام : يا علي ما أوّل نعم الله عليك؟ قال: أن خلقني فأحسن خلقي، قال: ثم ما ذا؟ قال: أنْ عرّفني نفسه، قال: ثم ما ذا؟ قال قلت: وإنْ تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. قال: فضرب النبي صلّى الله عليه يده على كتفي وقال: يا علي ملئت علماً وحكمة ولذلك قال النبي صلّى الله عليه: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي بعض الروايات: أنا دار الحكمة وعلي بابها ».

٢ - دلالته على العصمة

إنّ حديث مدينة العلم يدلّ على عصمة سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام، ولا ريب حينئذٍ في خلافته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل

وأمّا دلالته على العصمة فقد أفصح عنها المحقّقون من أهل السّنة، قال إسماعيل بن سليمان الكردي في ( جلاء النظر في دفع شبهات إبن حجر ) بعد كلامٍ له: « وإيّاك والاغترار بظواهر الآثار والأحوال من التزيّي بزيّ آثار الفقر، كلبس المرقّعات، وحمل العكاز وغير ذلك، لأنها ليست نافعة لمن اتصف بها وهو ليس على شيءٍ من المعرفة بالله، بل قد يكون المتصف بها صاحب إنتقاد على المشايخ

١٧٦

بنظره إلى نفسه، حيث أنه يرى حقيقة الأمر عنده دون غيره، وكثير من اهل هذا الشأن هلكوا في أودية الحيرة، لأنّهم اغتراهم الجهل المركب، فلا يدرون ولا يدرون أنّهم لا يدرون، كابن تيميّة وابن المقري والسّعد التفتازاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم، فإنّ اعتراضهم على معاصريهم وعلى من سبق من الموتى دال على حصرهم طريق الحق عندهم لا غير.

وقد زاد إبن تيميّة بأشياء ومن جملتها: ما ذكره الفقيه إبن حجر الهيتمي -رحمه‌الله - في فتاواه الحديثية، عن بعض أجلّاء عصره أنّه سمعه يقول - وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية -: إنّ سيدنا عمر -رضي‌الله‌عنه - له غلطات وأيّ غلطات، وإن سيّدنا علي -رضي‌الله‌عنه - أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان!! فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عمر وعلي رضي الله عنهما بزعمك؟ أما سمعت قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ سيدنا علي: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ ».

فإنّ ظاهر عبارته واستدلاله بحديث مدينة العلم في الردّ على ذاك المتعصّب العنيد دلالة هذا الحديث الشريف على عصمة الامامعليه‌السلام

وقال المولوي نظام الدين السهالوي الأنصاري في ( الصبح الصادق ) ما نصّه: « إفاضة - قال الشيخ ابن همام في فتح القدير - بعد ما أثبت عتق أمّ الولد وانعدام جواز بيعها عن عدّة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وبالأحاديث المرفوعة، واستنتج ثبوت الإجماع على بطلان البيع - ممّا يدلّ على ثبوت ذلك الإجماع ما أسنده عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمّهات الأولاد أن لا يبعن، ثمّ رأيت بعد أن يبعن، فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة، فضحك علي رضي الله تعالى عنه.

واعلم أن رجوع علي - رضي الله تعالى عنه - يقتضي أنّه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرّر الإجماع، والمرجّح خلافه، وليس يعجبني أنّ لأمير المؤمنين

١٧٧

شأناً يبعد اتباعه أنْ يميلوا إلى دليل مرجوح ورأي مغسول ومذهب مرذول، فلو كان عدم الاشتراط أوضح لا كوضوح شمس النهار كيف يميل هو إليه، و قد قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، رواه الصحيحان، و قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الترمذي، فالانقراض هو الحق.

لا يقال: إن الخلفاء الثلاثة أيضاً أبواب العلم، وقد حكم عمر بامتناع البيع. لأنَّ غاية ما في الباب أنهما تعارضا، ثم المذهب أن أمير المؤمنين عمر أفضل، وهو لا يقتضي أن يكون الأفضليّة في العلم أيضاً، وقد ثبت أنه باب دار الحكمة، والحكمة حكمه ».

ومفاد هذا الكلام دلالة حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » على عصمة الامامعليه‌السلام ، وحينئذٍ تكون دلالة حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ثابتة عليها بالأولويّة، لما سيأتي عن ابن طلحة قوله: « لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة لما كان العلم أوسع أنواعاً وأبسط فتوناً وأكثر شعباً وأغزر فائلةً وأعمّ نفعاً من الحكمة، خصص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر ».

٣ - دلالته على أنّ الامام واسطة العلوم

ويدل حديث مدينة العلم على أنّ الأمّة يجب أن تستمدَّ العلوم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا شرف يتضاءل عنه كلّ شرف، وفضيلة ليس فوقها فضيلة، ومرتبة تثبت الأفضليّة فضلاً عن غيرها من الأدلّة ومن هنا أيضاً تثبت خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام بلا كلام:

قال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني في ( الروضة الندية ) بعد تصحيح الحديث: « نعم، ولعلّك تقول: كيف حقيقة هذا التركيب النبوي،

١٧٨

أعني قوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ فأقول: الكلام فيه إستعارة تخييليّة ومكنيّة وترشيح، وذلك أنّه شبّه العلم بمحسوس من الأموال يحاز ويحرز، لأنّ بين العلم والمال تقارن في الأذهان، ولذلك يقرن بينهما كثيراً، مثل ما في كلام الوصيعليه‌السلام : العلم خير من المال، في كلامه المشهور الثابت لكميل بن زياد، و في الحديث النبوي: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا، فشبّه العلم بالمال بجامع النفاسة في كلّ منهما، والحرص على طلبهما والفخر بحيازتهما، ولذلك قال الشافعيرحمه‌الله :

قيمة المرء علمه عند ذي العلم

وما في يديه عند الرّعاع

وإذا ما جمعت علماً ومالاً

كنت عين الوجود بالاجماع

ولمـّا شبّه العلم بالمال أثبت له ما هو من لوازم المال، وهو ما يجمعه ويحفظ فيه من المكان، وجعل المكان المدينة، لأنّه لم يرد نوعاً من العلم مشبّهاً بنوع من المال، بل علوم جمة واسعة من فنون مختلفة كالأموال المتعددة الأنواع التي لا يحفظها إلّا مدينة، ثم طوى ذكر المشبّه به أعني المال كما هو شأن المكنيّة، ورمز إليه بلازمه وهو المدينة استعارةً تخييلّية، ثم أثبت لها الباب ترشيحاً، مثل قولهم: أظفار المنيّة نشبت بفلان، ثم حمل ضمير قوله: مدينة العلم على ضمير نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر عنه بها، وأخبر عن عليعليه‌السلام بأنه بابها، فلمـّا كان الباب للمدينة من شأنه أن يجلب منه إليها منافعهما ويستخرج منه إلى غيرها مصالحها كان فيه إيهام أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستمدُّ من غيره بواسطة الباب الذي هو عليعليه‌السلام ، دفعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الإِيهام بقوله: « فمن أراد العلم فليأت من الباب »، إخبارا بأنّ هذا باب تستخرج منه العلوم وتستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلّا هذا، لا كسائر الأبواب في المدن، فإنّها للجلب إليها والإخراج عنها، فللّه درّ شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوهاً من التخريج أخر، إلّا أنَّ هذا أنفسها.

١٧٩

وإذا عرفت هذا عرفت أنّه قد خصَّ الله الوصيّعليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة، وتوّه شأنه، إذ جعله باب أشر فما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك منه أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلف الله علماً وهو سيّد رسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف، ويطأطئ رأسه تعظيماً له كلّ من سلف وخلف، وكما خصّه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من دلائل ذلك قريباً ».

٤ - دلالته على أنّ الامام حافظ العلم

ويدلّ حديث مدينة العلم على أن أمير المؤمنينعليه‌السلام حافظ علوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا المعنى بوحده دليل على أفضليّتهعليه‌السلام من سائر الأصحاب، وهو المطلوب في هذا الباب.

ولقد صرّح بما ذكرنا كمال الدين ابن طلحة حيث قال في ذكر شواهد علم الامام وفضله:

« ومن ذلك ما رواه الامام الترمذي في صحيحه بسنده، وقد تقدّم ذكره في الاستشهاد في صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها ، و نقل الامام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في كتابه الموسوم بالمصابيح: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها، لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة، لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعمّ نفعاً من الحكمة خصّص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر.

وفي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إشارة إلى كون عليعليه‌السلام نازلاً من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة والباب من الدار، لكون الباب حافظاً لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرّق الضّياع واعتداء يد الذهاب

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460