نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار8%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 316764 / تحميل: 7022
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأحبّ إلى الله ورسوله على الأحبّ إليهما في شأنٍ من الشؤون فضلاً عن الإِمامة والرئاسة العامة، لا سيّما إذا كان ذلك الغير غير محبوبٍ عند الله والرّسول أصلاً!!

قوله:

فما أكثر الأولياء الكبار والأنبياء العظام الذين كانوا أحبّ الخلق إلى الله ولم يكونوا أصحاب الرئاسة العامّة.

أقول:

على ( الدهلوي ) إثبات الأمرين المذكورين. وهما: أولاً: إنّ كثيراً من الأولياء الكبار كانوا أحبّ الخلق إلى الله. وثانياً: إنّ هؤلاء لم يكونوا أصحاب الرئاسة العامة. لكنّه لم يذكر شاهداً واحداً لما ادّعاه فضلاً عن جمعٍ منهم، فضلاً عن كثير منهم، فضلاً عن إثبات الأحبيّة لهم ونفي الرئاسة عنهم، بدليلٍ قابل للإِصغاء وبرهان صالح للاعتناء

إنّ مرادهم - غالباً - من « الأولياء » هم « الصوفية » الذين يدَّعون لهم المقامات المعنوية العالية، وبطلان دعوى أحبيّة هؤلاء من البديهيات الأوّلية إذ ليس مع وجود الأئمة المعصومين -عليهم‌السلام - أحبّ الخلق إلى الله ورسوله كائناً من كان وأهل السنّة لا يقدّمون أحداً - غير الثلاثة - على الأئمّة المعصومين، فالقول بوجود أولياء غير الأئمة المعصومين هم أحبّ الخلق إلى الله ولا يكونون أصحاب الرئاسة العامة من أفحش الأقاويل الباطلة، وأوحش الأكاذيب الفاضحة.

٣٠١

قوله:

مثل سيّدنا زكريا وسيّدنا يحيى.

أقول:

إنّ ( الدهلوي ) بعد أن نفى الرئاسة العامة عن كثير من الأنبياء العظام ذكر زكريا ويحيى، وغرضه من ذلك أنّهما مع كونهما أحبّ الخلق إلى الله لم تكن لهما الرئاسة العامّة. لكن نفي الرئاسة العامة عن هذين النبيّين العظيمين كذب، لأنّه مع ثبوت النبوّة لا ريب في ثبوت الرئاسة العامّة، بل نفي الرئاسة نفي للنبوّة، لأنّ معنى النبوّة أنْ يختار الله رجلاً معصوماً وينصبه لهداية الخلق ويفرض عليهم طاعته في جميع اُمور الدين والدنيا، وهذه هي الرئاسة العامّة وهذا ما نصَّ عليه ولي الله والد ( الدهلوي ) أيضاً في غير موضعٍ من كتابه ( إزالة الخفا عن سيرة الخلفا ).

والحاصل: إنّه بعد ثبوت النبوّة لزكريّا ويحيى والرئاسة العامة ثابتة لهما، وإنكارها إنكار للنبوة، وهو كفر.

قوله:

بل شموئيل الذي كانت الرئاسة العامّة في زمانه بالنصّ الإِلهي لطالوت.

أقول:

هذا تخديع وتضليل، أمّا أوّلاً: فإنّ ثبوت الرئاسة العامة لطالوت غير متفّق عليه بين أهل السنّة. وأمّا ثانياً: فإنّه - على تقدير عموم الرئاسة - لم يكن باستقلاله كذلك، بل صريح المحقّقين منهم أنّ طالوت كان حاكماً في بني

٣٠٢

إسرائيل نيابةً عن شموئيل وممّن نصّ عليه والد ( الدهلوي ) في ( إزالة الخفاء ).

إذن، لم يثبت إنفكاك الرئاسة عن النبوة.

والحمد لله ربّ العالمين.

٣٠٣

٣٠٤

بقيّة كلام الدّهلوي

إحتمالان مردودان

٣٠٥

٣٠٦

(١)

إبطال إحتمال

عدم حضور أبي بكر في المدينة

قوله:

وأيضاً: يحتمل عدم حضور أبي بكر في المدينة المنّورة.

أقول:

هذا مردود بوجوه:

١ - لا أثر لحضوره وعدم حضوره في المدينة

إنّه لا يخفى على الممعن المنصف أنْ لا أثر لحضور أبي بكر وعدم حضوره في المدينة المنوّرة يوم قصة الطير في استدلال الإماميّة بالحديث، ولا علاقة لذلك بوجهٍ من الوجوه في الإِحتجاج به لأنّ محطّ الإِستدلال قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّ الخلق إليك وإليَّ »، وهذه الجملة صريحة الدّلالة على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ إلى الله والرسول من جميع الحاضرين والغائبين والسّابقين واللاحقين، ومن كلّ من يدخل تحت عنوان

٣٠٧

« الخلق » ويشمله هذا اللفظ. وغياب أبي بكر لا يستلزم خروجه عن « الخلق » وولوجه في غير المخلوقات.

نعم لو كان أبو بكر غائباً وكذا عمر وعثمان و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم ائتني بأحبّ من حضر الآن وفي المدينة إليك وإليَّ » أو نحوه لكان لما احتمله ( الدهلوي ) وجه.

وعلى الجملة، إنّه لا يكفي إخراج أبي بكر عن المدينة، بل لا بدَّ من إخراجه - بل الثاني والثالث أيضاً - عن « الخلق » ثمّ التعرّض للاستدلال بالقدح والإِشكال

٢ - قول عائشة: أللّهم اجعله أبي. وكذا حفصة.

إنّ ما أخرجه أبو يعلى في ( المسند ) دليل قاطع على سقوط هذا الإِحتمال الذي أبداه ( الدهلوي ) تبعاً للكابلي وذلك لأنّ في الحديث المذكور: « فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام.

فقالت عائشة: اللّهم اجعله أبي. وقالت حفصة: اللّهم اجعله أبي

قال أنس: فقلت أنا: اللّهم اجعله سعد بن عبادة ».

فلو كان الأول والثّاني في خارج المدينة المنوّرة ساعة دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ دعائه كان مختصّاً بالحاضرين في المدينة، فما معنى قول عائشة وحفصة: اللّهم اجعله أبي؟ وهلّا يكون دعاءً بلا طائل وكلاماً بدون حاصل؟

لقد حاول الكابلي و ( الدهلوي ) بإبداع هذا الإِحتمال حفظ شأن الشيخين، ولكنّ لازمه الإزراء والتهجين لاُمّهما المكرّمتين!!

٣٠٨

٣ - كان الشيخان حاضرين للحديث الصحيح

وكأنّ ( الدهلوي ) قد أقسم على تقليد الكابلي وإنْ خالف ما قالته الأحاديث الصحيحة الواردة في كتب قومه لقد احتمل في هذا المقام رجماً بالغيب غياب أبي بكر عن المدينة المنوّرة من دون أنْ ينظر في أحاديث وأخبار القصّة لقد سمعت - فيما تقدم - رواية أبي يعلى المشتملة على مجيء الشيخين، وهذا نصّها مرةً أُخرى:

« حدّثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع - ثقة -، ثنا عيسى بن عمر، عن إسماعيل السدّي، عن أنس بن مالك: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عنده طائر فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك يأكل معي من هذا الطير. فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له »(١) .

ورواه النّسائي بقوله: « أخبرني زكريا بن يحيى قال: ثنا الحسن بن حماد قال: ثنا مسهر بن عبد الملك، ثنا عيسى بن عمر، عن السدّي، عن أنس بن مالك: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عنده طائر فقال: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطّائر. فجاء أبو بكر فردّه ثمّ جاء عمر فردّه ثمّ جاء علي فأذن له »(٢) .

فإذا لم يكن هذا الحديث - وبهذا اللفظ - دليلاً على أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فما هو مدلوله يا منصفون؟ فلقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام هو المصداق الوحيد لـ « أحبّ الخلق » وأنّه الذي أذن له النبيّ بالدخول والأكل معه، وأمّا غيره فقد رُدّ فأيّ قصورٍ في دلالة هذا الحديث

____________________

(١). مسند أبي يعلى ٧ / ١٠٥ رقم: ١٢٩٧ باختلاف يسير.

(٢). خصائص علي ٢٩ / ١٠.

٣٠٩

الصحيح على مطلوب الإِماميّة، يا منصفون؟!

وعلى كلّ حالٍ، فقد سقط هذا الإِحتمال الذي أبداه ( الدهلوي ) للقدح في الاستدلال بحديث الطّير من حديثٍ صحيحٍ أخرجه الحافظ أبو يعلى في ( مسنده ) والحافظ النسائي في ( الخصائص ) الذي ذكره له ( الدهلوي ) في ( اُصول الحديث ) وفي ( التحفة ) في الكتب المصنّفة من قبل علماء أهل السنّة في مناقب أهل البيتعليهم‌السلام لكنْ لا ندري هل كان حين إبداع هذا الإِحتمال على علمٍ بوجود الحديث المذكور في ( الخصائص ) أو لا؟ إنّه - وإن كان الاحتمال الثاني هو الأقوى بالنظر إلى القرائن العديدة - فللأوّل أيضاً مجال، لأنّه - مضافاً إلى وجود النظائر العديدة للمقام حيث وجدناه ينكر شيئاً عن علمٍ وعمدٍ - أجاب عن سؤالٍ وُجّه إليه حول حديث الطّير في ( الخصائص ) بالطعن في راويه - وهو السدّي - لا بإنكار وجوده في الكتاب المذكور.

٤ - هل كانوا خارجين في جميع وقائع قضية الطير؟

لو سلّمنا ترتّب أثر على هذا التأويل، فإنّما يترتّب في حال احتمال خروج أبي بكر وعمر وعثمان كلّهم لا الأوّل وحده من المدينة المنّورة، في جميع وقائع حديث الطير، لثبوت تعدّد القضية وتكرّرها، ومن العجيب جدّاً خروجهم كذلك ولم يذكره أحد من أصحاب السّير، مع شدّة اعتنائهم بضبط الأحوال خاصةً أحوال الثلاثة، وعدم نقلهم هكذا خبرٍ دليلٌ على عدم وقوعه. كما قال ابن تيميّة في ( منهاجه ) في نظائر المقام.

لقد ادّعى الكابلي خروج الثلاثة جميعاً حيث قال: « ويحتمل أنْ يكون الخلفاء غير حاضرين في المدينة، والكلام يشمل الحاضرين فيها دون غيرهم، ودون إثبات حضورهم خرط القتاد »، لكن ( الدهلوي ) استبعد هذا الاحتمال فاستحيى من ذكره واكتفى باحتمال خروج أبي بكر فقط.

٣١٠

وبما أنّ الكابلي يعترف بأنّ الكلام يشمل الحاضرين في المدينة، وقد عرفت حضور الشيخين بل الثلاثة كلّهم بالدلائل القاطعة، فالكلام شامل لهم، فأمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق إلى الله والرسول منهم. والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً.

ولا يخفى اضطراب القوم وتناقضهم في مسألة خروج الشيخين من المدينة المنوّرة، فإذا اعترض على الشيخين وطعن فيهما بعدم تأمير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياهما في بعثةٍ أو سريّة وعدم إرساله إيّاهما في أمرٍ من الأُمور - كما كان يفعل مع غيرهما من صحابته - قالوا بضرورة وجودهما عند النبيّ في المدينة، لكونهما وزيرين له، يشاورهما في أُموره وجميع شئونه، فلم يكن له غنىٌ عنهما حتى يرسلهما في عملٍ، ومن هنا وضعوا على لسانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث في هذا المعنى. أمّا إذا قيل لهم: إنّ حديث الطير و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك » يدلّ على أفضليّة عليعليه‌السلام منهما، قالوا: لعلّهما لم يكونا حاضرين في المدينة حينذاك!!

قوله:

وكان الدعاء خاصّاً بالحاضرين لا الغائبين.

أقول:

إنّ ( الدهلوي ) بعد أنْ ذكر احتمال عدم حضور أبي بكر في المدينة المنوّرة لدى دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ادعى اختصاص هذا الدعاء بالحاضرين، ولكنّ الدليل الذي أقامه على هذه الدعوى - وهو: عدم جواز خرق العادة على الأنبياء إلّا في حال التحدّي مع الكفّار - باطل جدّاً ومعارض بما ستعلم.

٣١١

وأيضاً، فإنّ أحداً لم يدّع اختصاص دعاء النبيّ في قصة الطير بالغائبين، بل ليس هذا الإِحتمال ممّا يلتفت إليه أحد من العقلاء، سواء من الشّيعة أو غيرهم فنفي ( الدهلوي ) احتمال اختصاصه بالغائبين لم يكن مناسباً لشأنه المزعوم في البلاغة والرصانة في البيان، فاستبصر ولا تكن من الغافلين.

نعم لو كانت عبارته: وكان الدعاء خاصّاً بالحاضرين ولا يعمّ الغائبين، لم يرد عليه هذا الإِعتراض.

قوله:

بدليل أنّه قال: اللّهم ائتني

أقول:

لو قال بدليل « ائتني » لكانت عبارته أخصر وأمتن كما لا يخفى على من له ذوق سليم، وهذا التطويل غريب ممّن يدّعي التمييز والفهم المستقيم، ويرمي كلمات عليعليه‌السلام بما ينبو عنه الأسماع لوهمه السقيم.

قوله:

لأنَّ إحضار الغائب من المسافة البعيدة عن طريق خرق العادة في تلك اللّمحة الواحدة التي كانت مجلس الأكل والشرب أمر متصوّر.

أقول:

كون مطلوبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضور من طلب إتيانه « في لمحةٍ واحدة » لا دليل عليه في شيء من ألفاظ حديث قضيّة الطير، فمن أين جاء ( الدهلوي ) بهذا؟

وأيضاً: إذا كان التخصيص باللّمحة الواحدة مستفاداً من الحديث عنده

٣١٢

فلماذا تجشّم مؤنة إيجاد احتمال غيبة أبي بكر عن المدينة المنوّرة؟ هلّا اكتفى باحتمال بُعد أبي بكر عن مجلس الأكل بمسافةٍ لا يكون حضوره متصوّراً في لمحةٍ واحدة من دون خرق العادة؟

قوله:

والأنبياء لا يطلبون خرق العادة من الله تعالى إلّا عند التحدّي مع الكفّار.

أقول:

إنّ ( الدّهلوي ) يدّعي هذا المطلب لكونه في مقام التحدّي مع الإِماميّة، وإلّا فكيف ينسى الكرامات العجيبة الغريبة التي يدّعونها لأئمتهم في التصوّف ولا شيء منها في مقام التحدّي مطلقاً؟ فإذا جاز هذا المشايخ الصّوفيّة فما المانع عنه بالنّسبة للأنبياء؟!

بل لقد أجاز ابن تيمية صدور خوارق العادة من آحاد النّاس، في جوابه عن كرامةٍ لأمير المؤمنينعليه‌السلام أوردها العلّامة الحلّيرحمه‌الله ، قال ابن تيمية:

« روى جماعة أهل السير بأنّ عليّاً كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم، فخاطبه ثمّ نزل، فسأل الناس عنه فقال: إنّه حاكم الجن، التبست عليه قضيّة فأوضحتها له. وكان أهل الكوفة يسمّون الباب الذي دخل فيه باب الثعبان. فأراد بنو اُمية إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدةً طويلةً حتى سمّي باب القتلى.

والجواب: إنّه لا ريب أنّ مَن دون علي بكثير يحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله، وهذا معلوم قديماً وحديثاً. فإنْ كان هذا قد وقع فقدره أجلّ من ذلك، وهذا من أدنى فضائل من هو دون علي. وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك، وإنّما من باشر أهل الخير والذين لهم أعظم من هذه الخوارق، أو رأى

٣١٣

من نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق، لم تكن هذه ممّا توجب أن يفضّل بها عليّاً، ونحن لو ذكرنا ما باشرناه من هذا الجنس ممّا هو أعظم من ذلك لذكرنا شيئاً كثيراً، ونحن نعلم أنَّ من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منّا بكثير، فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجةً على فضيلة علي على الواحد منّا، فضلاً عن أبي بكر وعمر؟

ولكنّ الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتدّ به، فهم لإِفلاسهم منها إذا سمعوا شيئاً من خوارق العادات عظّموه تعظيم المفلس للقليل من النقد، والجائع للكسرة من الخبز. والرافضة لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء، فإذا سمعوا مثل هذا على علي ظنّوا أنّ هذا لا يكون إلّا لأفضل الخلق، وليس الأمر كذلك.

بل هذه الخوارق المذكورة وما هو أعظم منها يكون لخلق كثيرٍ من اُمة محمّد المعترفين بأنّ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً خير منهم، الذين يتولّون الجميع ويحبّونهم ويقدّمون من قدّم الله ورسوله، لا سيّما الذين يعرفون قدر الصدّيق ويقدّمونه، فإنّه أخصّ هذه الاُمة بولاية الله وتقواه، واللبيب يعرف ذلك بطرقٍ، إمّا أن يطالع الكتب المصنّفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء، مثل كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الخلّال، وكتاب اللالكائي، وغيرهم. ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين مثل: كتاب الحلية لأبي نعيم، وصفوة الصفوة، وغير ذلك. وإمّا أن يكون قد باشر من رأى منه ذلك. وإمّا أنْ يخبره بذلك من هو عنده صادق، فما زال الناس في كلّ عصرٍ يقع لهم من ذلك شيء كثير، ويحكي ذلك بعضهم لبعض، وهذا كثير في كثير من المسلمين. وإمّا أنْ يكون نفسه وقع له بعض ذلك.

وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيّتهما، لهم من ذلك ما هو أعظم من ذلك، مثل: العلاء بن الحضرمي وعبوره على الماء كما تقدّم ذكره، فإنّ هذا

٣١٤

أعظم من نضوب الماء، ومثل: استسقائه وتغيّيب قبره، ومثل: النفر الذين كلّمهم البقر وكانوا جيش سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية، ومثل: نداء عمر: يا سارية الجبل - وهو بالمدينة وسارية بنهاوند - ومثل: شرب خالد بن الوليد السمّ، ومثل: إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار فصارت عليه بردا وسلاما لمـّا ألقاه فيها الأسود العنسي المتنبّي الكذّاب، وكان قد استولى على اليمن، فلمـّا امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، فخرج منها يمسح جبينه، وغير ذلك ممّا يطول وصفه »(١) .

قوله:

وإلّا لم يقوموا بحربٍ وقتالٍ وتجهيز للأسباب الظاهرية، وتوَصلّوا إلى مقاصدهم بخرق العادة.

أقول:

كأنّ ( الدهلوي ) لم يفهم أنّ الإِيجاب الجزئي لا ينافي السّلب الكلّي، فأخذ الأنبياءعليهم‌السلام في بعض الأحيان بالأسباب الظاهرية لا يستلزم أن يكونوا دائماً كذلك، وأنّه إذا لم يطلبوا من الله سبحانه إجراء المعجزة على أيديهم وخرق العادات، فإنّه لا يستلزم عدم جواز طلبهم ذلك منه بالكليّة

إنّ الحرب والقتال والتوسّل بالأسباب الظّاهرية، كلّ ذلك لا يدلّ بإحدى الدلالات الثلاث على عدم جواز طلبهم من الله بغير تحدٍّ خرق العادة

إنّ الأنبياء يتبعون في أفعالهم وتروكهم المصالح التي شاءها الله سبحانه لهم، يمتثلون ما يأمرهم به، وبأمره يعملون وإنْ كانوا لو أرادوا شيئاً من الله

____________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٩٦.

٣١٥

أعطاهم ولو طلبوا منه إظهار المعجزة على أيديهم أجابهم، سواء حال تحدّي أهل الكفر والضّلالات وعدمه

* * *

٣١٦

(٢)

إبطال احتمال

كون المراد: بمَن هو مِن أحبّ النّاس

قوله:

ويحتمل أن يكون المراد بمَن هو مِن أحبّ النّاس إليك.

أقول:

١ - هو باطل بالوجوه المبطلة للتأويل الأوّل

إنّ البراهين الدّامغة والحجج السّاطعة الّتي أقمناها على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أحب الخلق إلى الله ورسوله مطلقاً، من الأحاديث النبويّة، ومن تصريحات الصّحابة، ومن إفادات العلماء لا تدع مجالاً لأيّ تأويلٍ في حديث الطّير، ولا حاجة - بالنظر إليها - إلى دفع هذا التأويل أو غيره بوجهٍ أو وجوه أُخرى لا سيّما هذا التأويل الذي يبطله كثير من تلك البراهين فلاحظ.

٢ - هو منقوض باستدلالهم بقوله تعالى: ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) .

ومع ذلك ينبغي أن نذكر جواباً نقضيّاً واحداً، وآخر حليّاً عن هذا الاحتمال الواضح الاختلال أمّا الجواب النقضي فهو:

إنّ علماء أهل السنّة يزعمون نزول الآية:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي

٣١٧

مالَهُ يَتَزَكَّى ) (١) في أبي بكر. ويدّعون أنّ وصف أبي بكر فيها بـ « الأتقى » تصريح بأنّه أتقى من سائر الاُمة قال ابن حجر المكّي في الآيات الدالّة بزعمه على فضل أبي بكر: « أمّا الآيات، فالأولى قوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى ) قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنّها نزلت في أبي بكر. ففيها التصريح بأنّه أتقى من سائر الاُمة، والأتقى هو الأكرم عند الله لقوله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) والأكرم عند الله هو الأفضل، فينتج أنّه أفضل من بقيّة الاُمة »(٢) .

فنقول:

إذا كان لفظ « الأتقى » في هذه الآية تصريحاً بأنّ من نزلت فيه « أتقى من سائر الاُمّة » فلا ريب في كون لفظ « أحبّ » في حديث الطير تصريحاً بأنَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام « أحبّ الخلق إلى الله ورسوله من سائر الاُمة »

فتأويل الحديث بتقدير « مِن » فاسد وكيف يكون لفظ « الأتقى » نصّاً صريحاً في كون أبي بكر « أتقى الاُمة » عندهم، ولا يكون لفظ « أحبّ الخلق » نصّاً صريحاً في كون أمير المؤمنينعليه‌السلام « أحبّ الخلق » من الشيخين وغيرهم إلى الله ورسوله؟! مع أنّ حديث الطّير معتضد بأحاديث اُخرى رووها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحة الدلالة على أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

أليس لفظ « الأتقى » ولفظ « الأحبّ » كلاهما من صيغة أفعل التفضيل؟

فهل من فارق إلّا التعصّب والعناد؟!

نعم بينهما فرق من جهة أن لفظ « أحبّ » في الحديث مضاف إلى

____________________

(١). سورة الليل: ١٧ - ١٨.

(٢). الصواعق المحرقة: ٩٨.

٣١٨

« الخلق » فيكون دلالته أصرح من دلالة « الأتقى » فيما يزعمون فهل هذه الزيادة في الصّراحة هي المانعة عن الدلالة على الأحبيّة من جميع الخلق؟!

٣ - هو غير مانع من دلالة الحديث على أحبية علي من الشيخين

وأمّا الجواب الحلّي فهو: إنّ الغرض من هذا التأويل ليس إلّا منع دلالة حديث الطير على أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام من الشيخين، فيكونعليه‌السلام من أحبّ الخلق إلى الله ورسوله، لا الأحب مطلقاً ليلزم كونه أحبّ منهما، ولكنَّ٠ دلالة الحديث على أحبيّتهعليه‌السلام منهما ثابتة حتى على هذا التأويل، وذلك لأنّ النسائي وأبا يعلى رويا الحديث وفيه: « فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له ».

فظهر أنّ الشيخين لم يكونا أحبّ إلى الله ورسوله حتى « من بعض الخلق » فيكون هذا التأويل مستوجباً لمزيد الحطّ من شأنهما وقدرهما، إذن، بناءً على تقدير « من » أيضاً يكون الحديث دالاً على أنّه هو الأحبّ إلى الله ورسوله وأنّ الشيخين ليسا الأحبّ إليهما.

لكن ( الدهلوي ) ومن قبله الكابلي لم يفهما ما يستلزمه كلامهما وما ينتهي إليه مرامهما!!

وعلى كلّ حالٍ، فإنّ هذا التأويل لا يضرّ باستدلال الشيعة بحديث الطير على كون أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ وأفضل من الشيخين ومن سائر الخلق أجمعين هذه الأحبيّة المطلقة الثابتة له من أحاديث العترة الطاهرة والأحاديث التي رواها أهل السنّة - المتقدّم بعضها - الآبية عن كلّ تأويل، واللازم هو الأخذ بها - وبحديث الطير - على المعنى الذي هي صريحة فيه والحمد لله ربّ العالمين.

وأمّا دعوى نزول قوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) في أبي بكر فقد

٣١٩

أثبت علماء الشّيعة بطلانها بما لا مزيد عليه. فراجع(١) .

قوله:

وهذا استعمال رائج ومعروف، كما في قولهم: فلان أعقل النّاس وأفضلهم.

أقول:

نعم التّسويل في هؤلاء القوم رائج إنّهم يحاولون صرف أدلّة

____________________

(١). قد استدلوا بالآية الكريمة على أفضلية أبي بكر، في أغلب كتبهم في التفسير كتفسير الرازي والكلام كالمواقف وشرحها، وشرح المقاصد، ووجه الاستدلال ما ذكرناه، وقد أبطلناه في كتابنا ( الإمامة في أهم الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة ) في ( الطرائف على شرح المواقف ) و ( المراصد على شرح المقاصد ) بأنّ الاستدلال موقوف على نزول الآية في أبي بكر وصحّة الخبر في ذلك، وهذا أوّل الكلام، لأنّ:

١ - هذا الخبر ممّا تفرّدوا بنقله، فلا يكون حجة في مقام الاستدلال والإحتجاج.

٢ - نزول الآية في حق أبي بكر غير متّفق عليه بينهم، ولذا نسب القول به في ( شرح المواقف ) إلى أكثر المفسّرين.

٣ - من المفسّرين من حمل الآية على العموم، ومنهم من قال بنزولها في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، كما في ( الدر المنثور ٦ / ٣٥٨ ).

٤ - خبر نزولها في أبي بكر إنّما يرويه آل الزبير، وانحراف هؤلاء عن علي عليه‌السلام مشهور، فلا يكون قولهم حجة.

٥ - سند الرواية غير معتبر. قال الحافظ الهيثمي في ( مجمع الزوائد ٩ / ٥٠ ): « وعن عبد الله الزبير قال: نزلت في أبي بكر الصدّيق: (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى ). رواه الطبراني وفيه: مصعب بن ثابت، وفيه ضعف ».

قلت : وهو من آل الزبير، فهو: « مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير » قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أراه ضعيف الحديث، لم أر الناس يحمدون حديثه، وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وقال ابن حبان: انفرد بالمناكير عن المشاهير فلما كثر ذلك فيه استحقّ مجانبة حديثه، وقال ابن سعد: يستضعف، وقال الدار قطني: ليس بالقوي: ( تهذيب التهذيب ١٠ / ١٤٤ ).

٣٢٠

مناقب أمير المؤمنينعليه‌السلام عن دلالتها بالتأويلات العليلة، فهم كقول القائل:

وفي تعبٍ من يحسد الشمس نورها

و يجهد أنْ يأتي لها بضريب

فهل من متكلّم عربي أديب يقول: « فلان أعقل الناس وأفضلهم » وهو يريد « فلان من أعقل الناس وأفضلهم »؟ سلّمنا فما الدليل على حجيّة هكذا قول؟ سلّمنا فما الملازمة بين صحّة هكذا كلام وتماميّة التأويل المذكور فيه، وبين مجيء نفس التأويل في حديث الطّير؟

والحمد لله ربّ الذي وفّقنا لبيان ركاكة هذه التأويلات وسخافتها فلننظر فيما قاله غير ( الدهلوي ) في هذا الباب

* * *

٣٢١

٣٢٢

دحض تقوّلات

بعض علماء الحديث

٣٢٣

٣٢٤

التُّوربشتي

قال الشيخ فضل الله التوربشتي - شارح مصابيح السنّة - بشرح حديث الطير:

« ومنه حديث أنسرضي‌الله‌عنه قال: كان عند النبيّعليه‌السلام طير. الحديث.

قلت: نحن وإنْ كنا لا نجهل - بحمد الله - فضل عليرضي‌الله‌عنه وقدمه وبلاءه وسوابقه واختصاصه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ومؤاخاته إيّاه في الدين، ونتمسّك من حبّه بأقوى وأولى ممّا يدّعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن نضرب عن تقرير أمثال هذه الأحاديث في نصابها صفحاً، لما نخشى فيها من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وهذا باب اُمرنا بمحافظته وحمى اُمرنا بالذبّ عنه، فحقيق علينا أنْ ننصر فيه الحق ونقدّم فيه الصدّق.

وهذا حديث يريش به المبتدع سهامه ويوصل به المنتحل جناحه، فيتخّذه ذريعةً إلى الطعن في خلافة أبي بكررضي‌الله‌عنه ، التي هي أوّل حكمٍ أجمع عليه المسلمون في هذه الاُمة، وأقوم عمادٍ أُقيم به الدين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقول - وبالله التوفيق -:

هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريّته، من

٣٢٥

الأخبار الصّحاح منضمّاً إليها إجماع الصحابة، لمكان سنده، فإن فيه لأهل النقل مقالاً، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإِجماع، لا سيّما والصحابي الذي يرويه ممّن دخل في هذا الإِجماع، واستقام عليه مدّة عمره، ولم ينقل عنه خلافه، فلو ثبت عنه هذا الحديث فالسّبيل أنْ يأوّل على وجهٍ لا ينقض عليه ما اعتقده ولا يخالف ما هو أصحّ منه متناً وإسناداً، وهو أنْ يقال:

يحمل قوله « بأحبّ خلقك » على أنّ المراد منه: ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلّون بإجماع الاُمّة، وهذا مثل قولهم: فلانٌ أعقل الناس وأفضلهم. أي: من أعقلهم وأفضلهم. وممّا يبيّن لك أن حمله على العموم غير جائز هو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون علي أحبّ إلى الله منه. فإنْ قيل: ذاك شيء عرف بأصل الشرع. قلت: والذي نحن فيه عرف أيضاً بالنصوص الصحيحة وإجماع الاُمة. فيأوّل هذا الحديث على الوجه الذي ذكرناه.

أو على أنّه أراد به: أحبّ خلقه إليه من بني عمّه وذويه، وقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلق القول وهو يريد تقييده، ويعمّ به وهو يريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه »(١) .

أقول:

١ - في كلامه اعتراف بدلالة حديث الطير

تفيد عبارة التوربشتي بوضوحٍ دلالة حديث الطير على أفضلية أمير المؤمنينعليه‌السلام وبطلان تقدّم المتغلّبين عليه، إنّه يصرّح بصلاحيّة هذا الحديث لأن يتخذ ذريعة إلى الطعن في خلافة أبي بكر لكنْ لـمّـا كانت

____________________

(١). شرح المصابيح - مخطوط.

٣٢٦

خلافته إجماعيةً - بزعمه - فلا مناص من الطّعن في سند حديث الطّير أو تأويله

٢ - بطلان دعوى أنّ في سنده مقالا ً

لكنّ دعوى « إنّ في سنده مقالاً لأهل النقل فلا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر » باطلة فقد أثبتنا - بحمد الله - تواتر حديث الطير وقطعيّة صدوره عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورأيت طرقه العديدة الصحيحة، وتصريحات أكابر أعلام القوم بصحته بقطع النظر عن تواتره فلو كان بعد ذلك لأحدٍ مقال في سنده فهو مردود عليه.

٣ - بطلان دعوى المعارضة

ومن العجيب: أنّ هذا المحدِّث المتّبحر لم يفهم أن أخبار أهل السنّة - وإنْ بلغت عندهم في الصّحة أعلى درجاتها - لا تكون حجة على الآخرين، فقوله: « هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريّته من الأخبار الصحاح » ساقط في الغاية.

٤ - بطلان دعوى الإجماع على خلافة أبي بكر

وأيضا يريد هذا المحدّث ردّ حديث الطير لمخالفته للإجماع المزعوم على خلافة أبي بكر لكن أين الإجماع على ذلك؟ لقد ثبت وهن التمسّك بهذا الإِجماع في كتب الإِمامية من المتقدمين والمتأخرين مثل ( تشييد المطاعن ) وغيره، بما لا مزيد عليه والمؤمن لا يجوّز رفع اليد عن حديث صادَر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقطع واليقين بهكذا دعوى لا أساس لها من الصحة أصلاً

٣٢٧

٥ - بطلان قوله: إن الصّحابي الذي يرويه ممّن دخل في الإِجماع

وأمّا دعوى أن « الصّحابي الذي يرويه ممّن دخل في هذا الإِجماع واستقام عليه مدّة عمره ولم ينقل عنه خلافه » فمردودة، لأنّ رواية هذا الحديث غير منحصرة في أنس بن مالك كي يكون لهذه الدعوى حظٌّ من الواقعية، بل لقد ثبت أن غير أنسٍ من الصّحابة كسيدّنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وابن عباس، وأبي الطّفيل، وغيرهم، يروون حديث الطّير. ومن المعلوم أنّ دخول أمير المؤمنينعليه‌السلام وابن عبّاس في الإِجماع المزعوم في حيّز المنع والإِمتناع، وعدم نقل الخلاف عنهما باطل محض، بل الدلائل على إبطال أمير المؤمنينعليه‌السلام - وكذا ابن عبّاس وسائر بني هاشم بل غيرهم - خلافة أبي بكر لا تحصى وفي كتاب ( المعارف ) إن أبا الطفيل كان من غلاة الرّوافض(١) فكيف يقال بأنه ممّن دخل في الإِجماع المدّعى واستقام عليه مدّة عمره ولم ينقل عنه خلافه؟

على أنّ سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام استدلّ - فيما استدل في الشورى - بحديث الطّير على أحقيّته بالخلافة، وقد سلّم القوم جميعاً كلامه وقد جاء في حديث احتجاجه على القوم بفضائله قوله لهم:

« بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق، فسمعت وأطعت مخافة أنْ يرجع الناس كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف، ثمّ بايع أبو بكر لعمر وأنا والله أولى منه بالأمر منه، فسمعت وأطعت مخافة أنْ يرجع الناس كفّاراً، ثمّ أنتم تريدون أنْ تبايعوا عثمان! إذا لا أسمع ولا اُطيع، إنّ عمر جعلني في خمسةِ نفرٍ أنا سادسهم، لا يعرف لي فضل في الصلاح ولا يعرفونه لي كما نحن فيه شرع سواء، وأيم الله لو أشاء أنْ أتكلَّم ثم لا يستطيع عربيّهم

____________________

(١). كتاب المعارف: ٦٢٤.

٣٢٨

ولا عجميّهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك ردّ خصلة منها ».

ولو سلّمنا ما ذكره من دخول رواة حديث الطّير من الصّحابة في الإِجماع وعدم نقل خلافٍ عنهم فأيّ ضرورةٍ لتوجيه هذا الحديث على وجهٍ لا ينافي اعتقادهم بخلافة أبي بكر؟ إنّه كثيراً ما يتّفق اعتراف الشخص بالحق وهو لا يعتقده، وذاك مصداق

قولهعليه‌السلام : « الحق يعلو ولا يعلى عليه ».

٦ - صرف ألفاظ الشّارع عن ظاهرها حرام

ثمّ إنّ التأويل كيفما كان، ومن أيّ أحدٍ كان، بلا مجوّز، غير جائز وهذا شيء نصَّ عليه كبار العلماء وأرسلوه إرسال المسلّمات قال المنّاوي بشرح حديث: « إتّقوا الحديث عنّي إلّا بما علمتم »: « قال الغزالي: ومن الطامات: صرف ألفاظ الشارع عن ظاهرها إلى أُمورٍ لم تسبق منها إلى الإِفهام كدأب الباطنية، فإن الصَّرف عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصامٍ فيه بالنقل عن الشارع، وبغير ضرورة تدعو إليه من دليلٍ عقلي، حرام »(١) .

ولا ريب في أنّ ما فعله التوربشتي في حديث الطير من أظهر مصاديق هذا الموضوع المتوجّه إليه هذا الحكم.

٧ - دعوى أن ما دلّ على تقديم أبي بكر أصحّ متناً وإسناداً باطلة

وأمّا دعوى أنّ حديث الطير يخالف ما هو أصحّ متناً وإسناداً فباطلة:

أمّا أوّلاً: فلأنَّ الفضائل الموضوعة والمناقب المصنوعة موهونة على أُصولهم، كما فصّل في كتاب ( شوارق النّصوص ). وأمّا ثانياً: فلأنَّ تلك الأحاديث حتّى لو صحّت عند أهل السنّة فليست بحجةٍ على خصومهم.

____________________

(١). فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ / ١٣٢.

٣٢٩

٨ - سخافة التأويل بتقدير « مِن »

وأمّا ما ذكره من تقدير « من » وحمل « أحبّ الخلق » على « من أحبّ الخلق » فسخيف في الغاية، وقد عرفت ذلك في جواب كلام ( الدهلوي ).

مضافاً إلى أنه - بناءً على هذا التأويل - يكون كلٌّ من المشايخ الثلاثة المفضَّلين على غيرهم بإجماع الاُمة - كما زعم - داخلاً في دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و « من أحبّ الخلق إلى الله »، فلما ذا جعل الله سبحانه علياًعليه‌السلام مصداق الدعاء ومَن طلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجيئه إليه، ولم يجعله أحد الثلاثة المفضَّل كلٌّ منهم عليهعليه‌السلام كما زعم؟!

وأيضاً، لو كان كذلك لم يكن من المناسب أنْ يردَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشايخ الثلاثة بعد مجيء الواحد منهم تلو الآخر كما ثبت من رواية أبي يعلى، إلّا أنْ يقال بأن الله تعالى أجاب دعوة النبيّ وأتاه بأحبّ الخلق إليه لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّهم خلافاً لمرضاة ربّه!!

ولكنّ هذا ممّا يهدم أركان الإِيمان، وإنْ لا يبعد إلتزامهم به! ألا ترى ( الدهلوي ) - في مقام الجواب عن مطعن حديث القرطاس - ينكر أن تكون جميع أقوال النبيّ وأفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطابقة للوحي الإلهي؟!!

لكنّ الإِصرار على هذا التأويل العليل - والالتزام بهذا اللّازم الفاسد الشنيع - ينجرّ إلى سقوط عمدة أدلّتهم عن الاستدلال، وهو تمسكّهم بقوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) على أفضلية أبي بكر. وقد بيّنا وجه ذلك فهل يبقون على إصرارهم؟!!

٩ - وجوه الرّد على طعنه في العموم باستلزامه دخول النبي

وأمّا قوله: « وممّا يبيّن لك أنّ حمله على العموم غير جائز هو: أنّ

٣٣٠

النبيّ » فمن أعاجيب، الهفوات وقد كنّا نظنّ أنّ صدور هذا وأمثاله من المتسنّنين المتأخرّين من قلة ممارستهم لكلام العرب وقصر باعهم في فنون الأدب، لكن صدوره من مثل التوربشتي يبيّن لك أنّ الباعث على هذا ونحوه هو التعصب الأعمى للباطل والسقوط في دركات الهوى وكيف كان، فإنّ الجواب عمّا ذكره من وجوه:

الوجه الأوّل:

إنّ أحبيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله من أمير المؤمنينعليه‌السلام أمر ثابت في أصل الشرع بالأدلّة القطعيّة، وعليه الإِجماع من الشيعة الإِمامية والمخالفين لهم قاطبة، فمن الضروري رفع اليد عن عموم حديث الطّير كيلا يشمل نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذ ليس لتخصيص غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل فالحديث بالنسبة إلى من عدا النبيّ باق على عمومه. وتمسّك التوربشتي للتخصيص الزائد « بالنّصُوص الصحيحة وإجماع الاُمة » فباطل. أمّا بالنظر إلى النصوص الصّحيحة فلا نصّ صحيح على أحبيّة أبي بكر وعمر وعثمان - الذين زعم أفضليتهم بإجماع الاُمة - إلى الله وما يرويه أرباب الكذب والإِفتراء في باب أحبيّة الشيخين إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما هو كذب مفتعل، مضافاً إلى أنَّ أحداً من أرباب الكذب لم يرو في باب أحبيّة عثمان إليه حديثاً ولو مفترى عليه. وأمّا بالنّظر إلى إجماع الاُمّة فدعوى قيامها على أحبيّة أولئك فمن أعاجيب الأكاذيب، لوضوح أنّ الإِمامية الأثني عشرية بل جمهور الشيعة ينفون أصل المحبوبيّة عنهم فضلاً عن الأحبيّة، فأين إجماع الاُمّة؟ وهل يرى التوربشتي أو غيره خروج فرق الشيعة عن الاُمّة؟

لكنّ دعوى خروج فرق الشيعة عن الاُمّة وانحصارها في أهل نحلته لا تخلّصه من الورطة وذلك:

٣٣١

أوّلاً : ما الدليل على قيام إجماع أهل السنّة على أحبيّة القوم؟ ولو كان يكفي مجرد دعوى الإِجماع لجاز لكلّ أحدٍ دعواه على مدّعاه.

وثانياً : سلّمنا، فما الدّليل على حجية إجماعهم على غيرهم؟

وثالثاً : إنّك قد عرفت أن أبا ذر وبريدة كانا يقولان بأحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأنّ عائشة قد اعترفت بذلك غير مرّة حتى أنّها قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والله لقد علمت أنّ علياً أحبّ إليك من أبي » كما ورد عنها ما يدلّ بصراحة على أحبيّة فاطمة الزهراءعليها‌السلام واُسامة بن زيد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فيكون هؤلاء خارجين عن الإجماع على أحبيّة المشايخ، وإذا خرج أبو ذرّ وبريدة وعائشة ورسول الله نفسه عن هذا الإِجماع فإنّ وصفه بإجماع الاُمة عجيب!! وكما ظهر بطلان دعوى إجماع الامّة على ما نحن فيه لخروج جملة من الأصحاب عنه يظهر بطلانه أيضا من خروج: الحسن البصري - من التابعين - والمأمون العباسي - من حكّام أهل السنّة - ويحيى بن أكثم وغيره - من كبار قضاتهم - والشيخ أبي عبد الله البصري، والحاكم النيسابوري، وقاضي القضاة عبد الجبار، ومحمّد بن طلحة الشافعي، ومحمّد بن يوسف الكنجي، وجلال الدين الخجندي، وشهاب الدين أحمد، ومحمّد بن إسماعيل الأمير وغيرهم من كبار علمائهم المعترفين بالأحبيّة المطلقة لأمير المؤمنينعليه‌السلام

وأيضا، فإنّ كثيرا من الأصحاب والتابعين وعلماء الإسلام يقولون بأفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام مطلقا، وبين الأفضلية والأحبيّة تلازم كما هو واضح.

وأيضاً، فإنَّ كثيرين منهم فضّلوه على عثمان، فيلزم خروجهم عن الإِجماع المدّعى، للتلازم بين الأفضليّة والأحبيّة

وأيضاً، فإنَّ كثيرين منهم في مسألة الأفضلية متوقّفون فدخولهم في

٣٣٢

الإِجماع المزعوم غير معلوم.

الوجه الثاني:

لقد نصَّ أكابر المحققين على أنَّ المتكلِّم خارج عن عموم كلامه، وبناءً على هذه القاعدة فإنّ النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - غير داخل من أوّل الأمر في عموم « أحبّ الخلق » في حديث الطير، وعلى هذا أيضاً تبطل دعوى عدم عمومه، ولنذكر عبارةً واحدةً فيها التصريح بالقاعدة المذكورة:

قال شيخ الإِسلام عبد الله بن حسن الدين ابن جمال الدين الأنصاري المعروف بمخدوم الملك في كتاب ( عصمة الأنبياء ): « إتفق المليّون واجتمعت على أنّهم معصومون قبل البعثة وبعدها من الكفر الحقيقي الإِختياري، غير أنّ الأزارقة والفضليّة من الخوارج يجوّزون صدور ذلك منهم، لا بمعنى فساد العقيدة في التوحيد والجهل في معرفة الذات والصّفات، بل باعتبار أنَّ كل ذنبٍ كفر عندهم، وصدور الذنب عنهم جائز، فوقوع الكفر عنهم يكون كذلك. وعن الإِضطراري - أيْ إظهاره تقيةً - خلافاً للشيعة، فإنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيةً، بل أوجبه بعضهم. ومعصومون عن الكفر الحكمي أيضاً، بمعنى أنّه لا يحكم عليهم في صباهم بالكفر تبعاً للأبوين ولا تبعاً للدار، فإنّهم مولودون على الفطرة والمعرفة بالله وصفاته وتوحيده، وهم نشأوا على المعرفة من بدو خلقتهم وأوّل فطرتهم، ومن طالع سيرتهم مذ صباهم إلى مبعثهم يعلم ذلك يقيناً، ثم لم يقدر آباؤهم أن يغووهم عن الفطرة، لكونهم عرفاء بالله تعالى، عقلاء لدينه، مختارين لتوحيده بتأييده. وإسلام الصبي الذي يعقل ديناً صحيح، وعقلهم في هذه الحالة من فضله ورحمته عليهم، والله يختصُّ برحمته من يشاء، فلا يكونون أتباعاً للآباء.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مولود إلّا يولد على فطرة الإِسلام وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » فليس على عمومه على ما لا يخفى، مع

٣٣٣

أنَّ المتكلّم لا يدخل تحت الحكم، صرّح به أئمّة الحديث ».

الوجه الثالث:

إنّه لو تأمّل التوربشتي في لفظ الحديث لَما تفوّه بهذا الذي تفوّه به إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « اللّهم ائتني » فطلب من الله إتيان « أحبّ الخلق » إليه وحضوره عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عند غيره فلم يكن داخلاً في عموم كلامه من أوّل الأمر وهذا ظاهر كلّ الظّهور، ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له نور.

الوجه الرابع:

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الطّير: « يأكل معي هذا الطّير » وهل يعقل أن يكون هو نفسه مصداقاً لقوله هذا فيكون المؤاكل نفسه؟

الوجه الخامس:

إنّ في كثيرٍ من طرق الحديث بعد لفظ « أحبّ خلقك إليك » أو نحوه لفظ « وإلى رسولك » أو نحوه وهذا صريح في أنَّ السؤال لغيره، وأن الدعاء لا يشمل نفسه، ولنعم ما أفاد العلّامة ابن بطريق:

« قد سأل الله تعالى أن يأتيه بأحبّ خلقه إليه وإلى رسوله، وتردّد السؤال من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك، وفي الجميع لم يأت إلّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام . فثبت أنّه دعوة الرسول. وإذا كانت المحبّة من الله تعالى له هي إرادة تعظيمه ورفعته ودنوّه منه وقربه من طاعته وقد سألها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظة « أفعل » وهي مما يبالغ به في المدح، لأنّه قال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك، و « الأحبّ » على وزن « أفعل » فصارت هذه غاية المدحة له، وإذا كان الله تعالى يريد قربه ورفعته

٣٣٤

وتعظيمه زيادةً على كافة خلقه، فقد ثبت مزيّته على سائر الخلق، بدليلٍ ثابت وهو سؤال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك. وإذا كان أحبّ خلق الله تعالى إليه وجب الإِقتداء به دون غيره، وهذا غاية التنويه بذكره ودعاء الخلق إلى اتّباعه.

وفي هذه المدحة أيضاً قطع النظارة له، لأنّه إذا كان أحبّ خلق الله تعالى ولا مماثل له في ذلك أحد، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارج من هذه الدعوة، يدلّ على ذلك قوله حين رآه: اللهم وإليّ، وفي الخبر الآخر يقول:

إليك وإلى رسولك. ثبت أنّ السؤال لمن عداه، لئلّا يعترض معترض على هذا الكلام. ومن كان أحبّ خلق الله تعالى إليه وأحبّ خلق الله إلى رسوله فقد عدم نظيره ووجب تفردّه بعلوّ المنزلة عند الله تعالى وعند رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنْ عدّ أهل التُّقى كانوا أئمّتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم خلق وإنْ كرموا »(١)

ولا يخفى أنّه لما لم يكن دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عموم « أحبّ خلقك إليك » متبادراً إلى الأفهام ولا وجه لصّحة دعواه من أحدٍ، فقد ذكر المحبّ الطّبري حديث الطير تحت عنوان « ذكر أنّه أحبّ الخلق إلى الله تعالى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

١٠ - وجوه الردّ على التأويل بإرادة الأحبّ من بني عمّه

وقول التوربشتي: « فيأوّل هذا الحديث على أنّه أراد به أحبّ خلقه إليه من بني عمّه وذويه » فتعصّب بحت، وإلّا فإنّه غير نافع له أبداً لوجوه:

____________________

(١). العمدة: ٢٥٢ - ٢٥٣.

٣٣٥

الوجه الأوّل:

إنّه لا يقتضي وجه من الوجوه - ولو كان سخيفاً - هذا التأويل، ودعوى أنّه مقتضى أفضليّة الشيخين مصادرة على المطلوب.

الوجه الثاني:

إنّه تأويل من غير دليل شرعي أو ضرورة عقليّة، وقد تقدّم أنّ صرف كلام الشارع عن مقتضى ظاهره من غير اعتصام فيه بالنقل عنه وبغير ضرورة حرام.

الوجه الثالث:

إنّه تخصيص بلا مخصّص، فهو غير صحيح وغير مسموع وهذه قاعدة مسلَّمة، قال المنّاوي بشرح: « إتّقوا الحديث عنّي إلّا بما علمتم فمن يكذب عليَّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النار » قال: « قال الطيّبي: الأمر بالتبوّء تهكّم وتغليظ، إذ لو قيل: كان مقعده في النار لم يكن كذلك، والكذب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكبائر الموبقة والعظام المهلكة، لإِضراره بالدين وإفساده أصل الإِيمان، والكاذبون عليه كثيرون، وقد اختلفت طرق كذبهم كما هو مبين في مبسوطات اُصول كتب الحديث. قال بعضهم: وعموم الخبر يشمل الكذب في غير الدين، ومن خصَّ به فعليه الدليل»(١) .

الوجه الرابع:

لقد جاء في صريح الأحاديث المعتبرة الكثيرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفضيل قريش على غيرها، ثمّ تفضيل بني هاشم من قريش على

____________________

(١). فيض القدير ١ / ١٣٢.

٣٣٦

غيرهم وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل من خيارٍ في خيار فلو سلّمنا كون المراد أنّ علياًعليه‌السلام أحبّ الخلق من بني عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذويه لم يناف مدلول الحديث مطلوب أهل الحق لأنّ المفروض كون بني عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير الخلق مطلقاً، فيكون عليعليه‌السلام أحبّ خير الخلق وهو المطلوب.

وقال محبّ الدين الطبري: « ذكر ما جاء في أنّه أفضل من ركب الكور بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - قال: ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا ولا ركب الكور بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جعفر. خرّجه الترمذي وقال: حسن صحيح »(١) .

فإذا كان جعفر أفضل الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بحسب هذا الحديث - فهو أحبّ الناس إليه، لأنّ الأحبيّة تابعة للأفضليّه ومقتضى التأويل المذكور أن يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ إلى رسول الله من جعفر، فهو أحبّ الخلق إليه مطلقاً. وهو المطلوب.

الوجه الخامس:

لقد دلَّت الأحاديث الكثيرة الصحيحة على أفضلية أهل البيتعليهم‌السلام من جميع الخلق، فهم أحبّ الخلق إلى الله والرسول فيكون أمير المؤمنينعليه‌السلام - الذي هو أحبّ أهل البيت - أحبّ الخلق مطلقاً.

الطَّيِّبي

وقال الحسين بن عبد الله الطيّبي - شارح مشكاة المصابيح - بشرح حديث

____________________

(١). ذخائر العقبى: ٢١٧.

٣٣٧

الطير:

« قوله: بأحبّ خلقك إليك.

التوربشتي: نحن وإنْ كنّا لا نجهل - بحمد الله - فضل عليرضي‌الله‌عنه وقدمه وسوابقه في الإِسلام واختصاصه برسول الله

أقول : والوجه الذي يقتضيه المقام هو الوجه الثّاني، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكره أن يأكل وحده، لأنّه ليس من شيمة أهل المروّة، فطلب من الله أنْ يتيح له من يؤاكله، وكان ذلك براً وإحساناً منه إليه، وأبرّ المبرّات برّ ذي الرحم وصلته، كأنّه قال: بأحبّ خلقك إليك من ذوي القرابة ومن هو أولى بإحساني وبرّي إليه »(١) .

أقول:

لقد أورد الطّيبي كلام التوربشتي في تأويل هذا الحديث بنصّه ثمّ أعرض عن الوجه الأوّل لسخافته وأيدّ الوجه الثاني من وجهي التأويل بما ذكر، لكنَّ ما جاء به تأييداً لما تقوّله التوربشتي باطل من وجوه:

١ - لو كان الدعاء لكراهة الأكل وحده فقد كان أنس وغيره عنده

إنّه لا ريب في حضور أنس بن مالك وسفينة عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضيّة الطائر وساعة سؤاله من الله سبحانه أن يأتيه بأحبّ الخلق إليه، فلو كان السّبب في دعائه هو « أنّه كان يكره أن يأكل وحده لأنّه ليس من شيمة أهل المروّة » لكان يكفي أكل أحد الحاضرين معه، ولم يكن حاجة لطلب غيره لا مرةً بل مرّات.

____________________

(١). الكاشف - شرح المشكاة - مخطوط.

٣٣٨

٢ - لو كان الغرض المؤاكلة فلماذا ردّ المشايخ؟

ولو كان الغرض أنْ لا يأكل وحده « فطلب من الله أن يتيح له من يؤاكله » كما يقول الطيّبي، فلما ذا ردّ المشايخ الثّلاثة الواحد بعد الآخر، كما في حديثي أبي يعلى والنسائي؟ اللّهم إلّا أنْ يضطّر الطيبي لأنْ يعترف بعدم أهليّتهم للمؤاكلة معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

٣ - لو كان المطلوب المؤاكلة والبرّ لكان أهل الحاجات أولى

ولو كان المطلوب هو إتاحة من يؤاكله، وليكون منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « برا وإحسانا منه إليه » فقد كان المناسب أن يأتيه الله تعالى ببعض الجائعين وأهل الحاجات والمساكين، لا أنْ يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام المصداق الوحيد لدعائه، لأنّ أولئك - وإنْ كان عليعليه‌السلام ذا رحم، وأبرّ المبرّات برّ ذي الرحم وصلته - هم أولى من جهة إفتقارهم وشدّة فاقتهم

٤ - لو سلّمنا أولويّة ذي الرحم ففاطمة أولى من علي

سلّمنا تقدّم ذي الرّحم في البرّ والإِحسان والصّلة على غير ذي الرّحم مع شدّة افتقار الغير، لكنْ ما كان المناسب أن يكون عليعليه‌السلام مورد انطباق الدعاء واستجابته، لكون فاطمةعليها‌السلام أولى منه بالبرّ والإِحسان في ذوي القرابة القريبة، فكان اللازم أن تكون هي المصداق لدعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥ - رجاء أنس أنْ يكون رجلاً من الأنصار يبطل هذا الإِحتمال

ولو كان مراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من « أحبّ خلقك إليك » هو « أحبّ خلقك إليك من ذوي القرابة القريبة ومن هو أولى بإحساني وبرّي

٣٣٩

إليه » كما زعم الطيبي، فلما ذا رجا أنس بن مالك أن يكون رجلاً من الأنصار؟ ألم يعلم أنس أنْ لا قرابة بينه وبين الأنصار، وأنَّهم ليسوا بأولى الناس بإحسانه وبرّه؟

إنّ من الطّريف قول الطيبي نقلاً عن التوربشتي أنّه « قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلق القول وهو يريد التقييد، ويعمّ به ويريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال والوقت، أو الأمر الذي هو فيه » فإنّه يقول هذا ولا يعبأ بفهم أنس الذي فهم ما يخالف هذا التأويل العليل الذي أورده، مع أنَّ أنساً عندهم من ذوي الفهم!!

أضف إلى هذه الوجوه: أنّ كثيراً من ألفاظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث واضحة على بطلان هذا التأويل، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« اللّهم جئني بأحبّ خلقك وأوجههم عندك ».

و « اللّهم ائتنا بخير خلقك ».

و « اللّهم أدخل عليَّ أحبّ خلقك إليَّ من الأوّلين والآخرين ».

و « الحمد لله الذي جعلك، فإني أدعو في كلّ لقمة أنْ يأتيني الله أحبّ الخلق إليه وإليَّ فكنت أنت ».

و « أبى الله يا أنس إلّا أنْ يكون علي بن أبي طالب ».

و « ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ».

و « أوَفي الأنصار خير من علي؟ » أو « أفضل من علي ».

وغير ذلك.

الخلخالي

تأويل التوربشتي فقط

وقال شمس الدين محمّد بن مظفر - شارح مصابيح السنّة - بشرح

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460