نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار8%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 305222 / تحميل: 6543
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الحديث ناقلاً كلا تأويلي التوربشتي: « أوّل بعضهم هذا الحديث على أنّ المراد: بمن هو من أحبّ خلقك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلَّون بإجماع الاُمة، وهو كقولهم: فلان أعقل الناس وأفضلهم. أي: من أعقلهم وأفضلهم. وممّا يدلّ على أنّ حمله على العموم غير جائز: أنّهعليه‌السلام من جملة « خلقك » ولا جائز أن يكون علي أحبّ إلى الله منه. فإنْ قيل: ذلك شيء عرف بأصل الشرع. أُجيب: بأن ما نحن فيه أيضاً عرف بالنصوص الصحيحة.

أو يقال: أراد أحبّ خلقه من بني عمّه، وقد كانعليه‌السلام يطلق ويريد به التقييد، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه »(١) .

السُّيوطي

تأويل التوربشتي فقط

وقال جلال الدين السيوطي - شارح الترمذي - بشرحه: « قال التوربشتي: قوله: بأحبّ خلقك إليك. أي: من هو من أحبّ خلقك. فيشارك غيره وهم المفضلّون بإجماع الاُمة، وهذا مثل قولهم: فلان أفضل الناس وأعقلهم. أي: من أفضلهم وأعقلهم. ومما يتبيّن لك. أنّ حمله على العموم غير جائز: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون علي أحبّ إلى الله منه.

أو يأوّل على أنّه أراد به: أحبّ خلقه إليه من بني عمّه وذويه، وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلق القول وهو يريد تقييده، ويعم به ويريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه »(٢) .

____________________

(١). المفاتيح - شرح المصابيح - مخطوط.

(٢). قوت المغتذي على شرح الترمذي - باب مناقب علي.

٣٤١

القاري

١ - نقله كلامي التوربشتي والطيّبي

وقال علي بن سلطان القاري - شارح مشكاة المصابيح - بشرحه:

« قال الإِمام التوربشتي: نحن وإنْ كنّا لا نجهل بحمد الله فضل علي

قال الطيبي: والوجه الذي يقتضيه المقام هو الوجه الثاني

وفيه: إنّه لا شك أنّ العم أولى من ابنه، وكذا البنت وأولادها في أمر البرّ والإِحسان. على أنّ قول الطيبي هذا إنّما يتم إذا لم يكن أحد هناك ممّن يؤاكله، ولا شك في وجوده لا سيّما وأنس حاضر وهو خادمه، ولم يكن من عادته أنْ لا يأكل معه. فالوجه الأول هو المعوَّل، ونظيره ما ورد من الأحاديث بلفظ: « أفضل الأعمال » في أُمورٍ لا يمكن جمعها، إلّا أنْ يقال في بعضها: إن التقدير من أفضلها »(١) .

٢ - ردّه كلام الطيبي

أقول: لقد أورد القاري نصّ عبارة التوربشتي، ثمّ نصّ عبارة الطيبي في توجيه الوجه الثاني من تأويلي التوربشتي، ثمّ ردَّ ما ذكره الطيبي بما رأيت.

فظهر من مجموع ذلك: سقوط الوجه الأوّل عند الطيبي، وسقوط الوجه الثاني عند القاري، مضافاً إلى ما ذكرناه بالتفصيل في ردّ الوجهين والكلامين.

____________________

(١). مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ٥ / ٥٦٩.

٣٤٢

٣ - نقد تأييد القاري للوجه الأوّل.

وأمّا تأييد القاري الوجه الأوّل بقوله: « فالوجه الأول هو المعوّل، ونظيره ما ورد من الأحاديث بلفظ » ففيه: أنّه إذا كان أهل السنّة مضطرّين إلى التأويل لرفع التهافت في أحاديثهم تلك، فما الملزم للشيعة الإِمامية لأنْ يلتزموا بالتأويل في حديث الطير؟!

عبد الحقّ الدّهلوي

١ - نقل كلامي التوربشتي والطيّبي

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي - شارح مشكاة المصابيح -: « قوله: بأحبّ خلقك. أوّله الشّارحون بأنّ المراد من أحبّ خلقك - أو أحبّ خلق الله - من بني عمّه، أو بأحبّ خلقك إليك من ذوي القرابة القريبة، أو من هو أولى وأقرب وأحق بإحساني إليه. وهذا الوجه الأخير أقرب وأوفق بالمقام. هكذا قالوا. »(١) .

٢ - خطأ فضيع من الدهلوي

وهذه هي تأويلات التوربشتي والطيّبي، وقد عرفت سخافتها وركاكتها بالتفصيل فلا حاجة إلى الإِعادة والتكرار لكنْ من العجيب جدّاً أنّ هذا الشّيخ ينقل - بعد عبارته المذكورة - كلام التوربشتي - الذي أوردنا نصّه بكاملة وأبطلناه بما لا مزيد عليه - عن ( الصواعق ) ناسباً إيّاه إلى ابن حجر المكّي إستمع إليه يقول:

« ولقد أتى الشيخ ابن حجر في كتاب الصواعق في الإِعتذار عن التأويل

____________________

(١). اللمعات في شرح المشكاة - باب مناقب علي.

٣٤٣

لهذا الحديث بكلامٍ مليح فصيح طويل، قال: نحن وإنْ كنّا لا نجهل - بحمد الله - فضل عليرضي‌الله‌عنه وقدمه وسوابقه في الإِسلام واختصاصه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة، ومؤاخاته إيّاه في الدين، ونتمسّك من حبّه بأقوى وأولى ممّا يدّعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن نضرب عن تقرير أمثال هذه الأحاديث في نصابها صفحاً، لما نخشى فيها من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين. وهذا باب أمرنا بمحافظته، وحمىً اُمرنا بالذبّ عنه، فحقيق علينَا أنْ ننصر فيه الحق ونقدّم فيه الصّدق. وهذا حديث يريش به المبتدع سهامه ويوصل به المنتحل جناحه فيتخذّه ذريعةً إلى الطّعن في خلافة أبي بكر، التي هي أوّل حكمٍ أجمع عليه المسلمون في هذه الاُمة، وأقوم عمادٍ اُقيم به الدين بعد رسول الله فنقول - وبالله التوفيق:

هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريّته، من الأخبار الصّحاح. منضّماً إليه إجماع الصّحابة، لمكان سنده، فإنّ فيه لأهل النقل مقالاً، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإِجماع، لا سيّما والصّحابي الذي يرويه ممّن دخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدّة عمره ولم ينقل عنه خلافه، فلو ثبت عنه هذا الحديث فالسّبيل أن يأوّل على وجهٍ لا ينتقض عليه ما اعتقده ولا يخالف ما هو أصحّ متناً وإسناداً، وهو أنْ يحمل على أحد الوجوه المذكورة ».

وهذا كلام التوربشتي الذي أتينا عليه آنفاً، غير أنّ للدهلوي فيه تصرّفاً مّا في آخره، وليس لهذا الكلام في ( الصواعق ) عين ولا أثر أبداً، وليته نسبه إلى ابن حجر ولم ينص على أنّه في ( كتاب الصّواعق )!!

ثمّ إنّ الدهلوي تصدّى لتأويل الحديث الشّريف حسبما يروق له ويسوقه إليه تعصّبه فقال:

« قال العبد الضعيف - عصمه الله عمّا يصمّه وصانه عمّا شانه -: إنّ من الظاهر أنّ الحديث غير محمول على الظاهر، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٤٤

من جملة خلق الله، وهو أحبّ الخلق إلى الله من جميع الوجوه والحيثيّات، فالمراد أهل زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة، وغيره إنّما يكون من وجهٍ واحد خاص أو وجوه متعددّة مخصوصة، فلا حاجة إلى تخصيص الخلق، بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه، لأنّه ليس أحبّ وأفضل من جميع الوجوه سوى سيّد المحبوبين وأفضل المخلوقينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثمّ الكلام في الصحابة إنّما هو في الأفضليّة من كثرة الثواب والأحبيّة، كما في القول المشهور من بعض العلماء في الفرق بين الأفضلية والأحبيّة. والـمَخلَص في هذه المسألة: إعتبار الوجوه والحيثيّات. والله أعلم ».

٣ - تكراره استلزام دخول النبيّ في العموم

لقد حكم الدهلوي بعدم جواز بقاء هذا الحديث على ظاهره في العموم « لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جملة خلق الله وهو أحبّ الخلق إلى الله من جميع الوجوه والحيثيّات » وهذا تكرار لما سبق عن التوربشتي، وقد عرفت سقوطه بوجوه

٤ - حمله الحديث على أنّه أحبّ أهل زمان الرسول إليه باطل

وأمّا حمله الحديث - بعد عدم جواز إبقائه على ظاهره، لأنّ النبيّ من جملة خلق الله، وهو أحبّ الخلق إليه - على أنّ « المراد أهل زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة » فواضح البطلان، لأنّا لو سلّمنا رفع اليد عن ظاهر الحديث بسبب استلزام كون أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ إلى الله تعالى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ مقتضى القاعدة رفع اليد عن ظاهر الحديث بقدر الضرورة، بأن يكون عمومه غير شاملٍ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط، وأمّا غيره من الأنبياء والأوصياء والملائكة وسائر الخلق فباق تحت العموم.

٣٤٥

إن وجوه بطلان هذا الحمل كثيرة، وهو واضحٌ جدّاً، فلا نطيل المقام ببيان تلك الوجوه، ونكتفي بأنّ في بعض ألفاظ الحديث: « اللّهم أدخل عليَّ أحبَّ الخلق من الأوّلين والآخرين ».

٥ - دعوى اختصاص النبيّ بالأحبيّة من جميع الوجوه مردودة

وأمّا قوله: « وغيره إنّما يكون من وجهٍ واحدٍ خاص أو وجوه متعدّدة مخصوصة فلا حاجة إلى تخصيص الخلق بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه، فإنّه ليس أحبّ وأفضل من جميع الوجوه سوى سيّد المحبوبين وأفضل المخلوقينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فدعوى بلا دليل، لأنّ اجتماع جميع وجوه الأحبيّة المعتبرة في الأفضليّة في غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ممنوع أبدا، إنّما الممنوع أن يكون كمال جميع الوجوه الموجودة في غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أزيد من كمالها في شخصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إذن، لا مانع من اجتماع جميع وجوه الأحبيّة في أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وحينئذ فما الملزم لتخصيص أحبيّته بجهةٍ أو جهات دون غيرها وصرف الكلام النبوي عن ظاهره؟ ولو لم يكن لبطلان هذا التخصيص وجه إلاّ صرف الحديث عن ظاهره بلا دليل لكفى، فكيف والوجوه على بطلانه كثيرة! تقدّمت طائفة منها في ردّ التأويل الأوّل الذي زعمه ( الدّهلوي )، فلا تغفل.

ثمّ العجب من هذا الشيخ يدّعي التّخصيص في الخلق ويقول « فالمراد أهل زمان رسول الله من الصحابة » ثمّ يعود بفاصلٍ قليل ليقول: « فلا حاجة إلى تخصيص الخلق بل إلى تخصيص الوجه أو الوجوه » وهل هذا إلّا تهافت؟!

٣٤٦

٦ - مغايرة الأحبيّة للأفضليّة مردودة عند علمائهم

وأمّا قوله: « ثمّ الكلام في الصّحابة إنّما هو في الأفضلية من جهة كثرة الثواب، والأحبيّة غيرها، كما في القول المشهور من بعض العلماء في الفرق بين الأفضليّة والأحبيّة » فعجيبٌ أيضاً، فقد صرّح الرازي في ( تفسيره ) بأنّ المحبّة من الله إعطاء الثواب، فالأحبيّة إليه توجب أكثريّة الثواب بلا ارتياب، وقد تقدّمت عبارته سابقاً، كما ستعلم أن أكابر المتكلّمين من أهل السنّة: كالرازي، والأصفهاني، والعضد، والشّريف الجرجاني، والدولت آبادي، وافقوا على كون الأحبيّة بمعنى أكثريّة الثّواب.

* * *

٣٤٧

٣٤٨

دحضُ تقوّلات

بعض عُلماء الكلام

٣٤٩

٣٥٠

القاضي عبد الجبّار

قال قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الأسترآبادي ما نصّه:

« دليل لهم آخر: وقد تعلّقوا بقولهعليه‌السلام : لاُعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله و بما روي من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطّائر.

قالوا: إذا دلَّ على أنّه أفضل خلق الله تعالى بعده وأحبَّهم إلى الله تعالى فيجب أنْ يكون هو الإِمام.

وهذا بعيد، لأنّه إنّما يمكن أنْ يتعلَّق به في أنّه أفضل، فأمّا في النصّ على أنّه إمام فغير جائز التعلّق به، إلّا من حيث أنْ يقال: الإِمامة واجبة للأفضل. وقد بيّنا أنّها غير مستحقّة بالفضل، فإنّه لا يمتنع في المفضول أنْ يتولّاها أو من يساويه غيره في الفضل »(١) .

إقراره بالسّند والدلالة وإنكاره تعيّن الأفضل للإِمامة

أقول : هذا كلام ظاهر في قبول القاضي عبد الجبّار حديث الطّير سنداً ودلالةً، ولو كان عنده تأمّل في جهة سنده أو جهة دلالته على أفضليّة أمير

____________________

(١). المغني في الإِمامة ج ٢٠ ق ٢ / ١٢٢.

٣٥١

المؤمنينعليه‌السلام لَما سكت عن إظهاره، لكنه منع وجوب الإِمامة للأفضل وجوّز أنْ يتولّاها المفضول تصحيحاً لخلافة المتغلّبين عليها لكنْ قد أثبتنا في محلّه أن نصب المفضول لها مع وجود الأفضل غير جائز فلا يبقى ريبٌ في دلالة حديث الطّير على إمامة الإِمام وخلافته عن الرّسول بلا فصل.

ولنعم ما أفاد السيّد المرتضى علم الهدى طاب ثراه في نقض كلام القاضي: « هذان الخبران اللذان ذكرتهما إنّما يدلّان عندنا على الإِمامة، كدلالة المؤاخاة وما جرى مجراها، لأنّا قد بيّنا أنّ كلّ شيء دلَّ على التفضيل والتعظيم فهو دلالة على استحقاق أعلى الرتب والمنازل، وإنّ أولى الناس بالإِمامة من كان أفضلهم وأحقّهم بأعلى منازل التبجيل والتعظيم، وقد مضى طرف من الكلام في أنَّ المفضول لا يحسن إمامته، وإنْ ورد من كلامه شيء من ذلك في المستقبل أفسدناه بعون الله»(١) .

الفخرُ الرّازي

وقال الفخر الرّازي - في ذكر أدلّة الإِمامية على أفضليّة الإِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام -: « الحجّة الثّانية: التمسّك بخبر الطّير، وهو قولهعليه‌السلام : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل هذا الطير معي والمحبّة من الله تعالى عبارة عن كثرة الثواب والتعظيم ».

فأجاب: « أمّا الثاني - وهو التمسّك بخبر الطّير - فالإِعتراض عليه أنْ نقول: قولهعليه‌السلام : بأحبّ خلقك. يحتمل أنْ يكون [ المراد منه ] أحبّ خلق الله في جميع الاُمور، وأن يكون أحبّ خلق الله في شيءٍ معيّن. والدليل على كونه محتملاً لهما: أنّه يصح تقسيمه إليهما فيقال: إمّا أنْ يكون أحبّ خلق الله في جميع الأمور أو يكون أحبّ خلق الله في هذا الأمر الواحد، وما به

____________________

(١). الشافي في الإِمامة ٣ / ٨٦ - ٨٧.

٣٥٢

الإِشتراك غير مستلزم بما به الإِمتياز، فإذن، هذا اللفظ لا يدلّ على كونه أحبّ إلى الله تعالى في جميع الاُمور، فإذن، هذا اللفظ لا يفيد إلّا أنّه أحبّ إلى الله في بعض الاُمور، وهذا يفيد كونه أزيد ثواباً من غيره في بعض الاُمور، ولا يمتنع كون غيره أزيد ثواباً منه في أمر آخر، فثبت أنّ هذا لا يوجب التفضيل. وهذا جواب قوي »(١) .

وجوب الجواب عن هذا الكلام

وهذا الإِعتراض الذي وصفه بالقوة في غاية الضعف والسخافة، لما قدّمنا في جواب التأويل الأول من تأويلات ( الدهلوي )، من الوجوه القويمة الدالّة على بطلان تأويل حديث الطير وحمل « الأحبيّة » فيه على بعض الوجوه دون بعض.

ونقول هنا بالإضافة إلى ذلك:

أولاً : تخصيص « الأحبيّة » ببعض الاُمور صرف للكلام عن ظهوره وهو حرام بلا ريب، كما سبق وسيأتي فيما بعد أيضاً.

وثانياً : صحّة الإِستثناء دليل العموم، إذ يصحّ أن يقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك إلّا في كذا، وإذ لم يستثن فالكلام عام، وهذه القاعدة مقررة ومقبولة بلا كلام.

وثالثاً : لو سلَّمنا أنّ مدلول حديث الطير كونه « أحبّ إلى الله في بعض الاُمور، وأن هذا يفيد كونه أزيد ثواباً من غيره في بعض الاُمور » فالحديث يدل على أنّهعليه‌السلام أفضل من الثلاثة، إذ لا سبيل لأهل السنّة لأن يثبتوا للإِمامية أنّ أحدهم يستحقّ ثواباً في الأمر الفلاني المحبوب لله ورسوله، فضلاً عن الأحبيّة وأكثريّة الثواب، فضلاً عن أن يكون أحدهم أحبّ وأكثر ثواباً منه

____________________

(١). الأربعين في اُصول الدين - مبحث أدلّة الاماميّة على أفضليّة على.

٣٥٣

عليه‌السلام .

الشَّمسُ السَّمرقَنْدي

وقال شمس الدين محمّد بن أشرف الحسني السمرقندي:

« الفصل الثالث في أفضل الناس بعد النبي. المراد بالأفضل هاهنا أن يكون أكثر ثواباً عند الله. واختلفوا فيه فقال أهل السنّة وقدماء المعتزلة: إنّه أبو بكر. وقال الشيعة وأكثر المتأخرين من المعتزلة: هو علي:

إستدلّ أهل السنّة بوجهين: الأول: قوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ ) السورة. والمراد هو أبو بكر -رضي‌الله‌عنه - عند أكثر المفسّرين، والأتقى أكرم عند الله تعالى، لقوله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) والأكرم عند الله أفضل. الثاني: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر.

وأجاب الشيعة: بأنّ هذا لا يدلّ على أنّه أفضل، بل على أنَّ غيره ليس أفضل منه.

واحتجّت الشيعة: بأنَّ الفضيلة إمّا عقليّة أو نقليّة، والعقليّة إمّا بالنسب أو بالحسب، وكان علي أكمل الصّحابة في جميع ذلك، فهو أفضل.

أمّا النسب: فلأنّه أقرب إلى رسول الله، والعباس - وإنْ كان عمّ رسول الله لكنه - كان أخا عبد الله من الأب، وكان أبو طالب أخاً منهما. وكان علي هاشمياً من الأب والاُم، لأنّه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعلي بن فاطمة بنت أسد بن هاشم، والهاشمي أفضل لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إصطفى من ولد إسماعيل قريشاً واصطفى من قريش هاشماً.

وأمّا الحسب فلأنّ أشرف الصّفات الحميدة: الزّهد والعلم والشجاعة،

٣٥٤

وهي فيه أتم وأكمل من الصحابة.

أمّا العلم: فلأنّه ذكر في خطبه من أسرار التوحيد والعدل والنبوّة والقضاء والقدر وأحوال المعاد ما لم يوجد في الكلام لأحدٍ من الصحابة، وجميع الفرق ينتهي نسبتهم في علم الاُصول إليه، فإنّ المعتزلة ينسبون أنفسهم إليه، والأشعري أيضاً منتسب إليه، لأنّه كان تلميذ الجبائي المنتسب إلى علي، وانتساب الشيعة بيّن، الخوارج - مع كونهم أبعد الناس عنه - أكابرهم تلامذته، وابن عباس رئيس المفسّرين كان تلميذاً له. وعلم منه تفسير كثيرٍ من المواضع التي تتعلَّق بعلوم دقيقةٍ مثل: الحكمة والحساب والشعر والنجوم والرمل وأسرار الغيب، وكان في علم الفقه والفصاحة في الدرجة العليا، وعلم النحو منه وأرشد أبا الأسود الدؤلي إليه، وكان عالماً بعلم السّلوك وتصفية الباطن الذي لا يعرفه إلّا الأنبياء والأولياء، حتى أخذه جميع المشايخ منه أو من أولاده أو من تلامذتهم، وروي أنّه قال: لو كسرت الوسادة ثمّ جلست عليها لقضيت بين أهل التوارة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أيّ شيء نزلت.

وروي أنّه قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم علي. والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم.

وأمّا الزهد: فلمـّا علم منه بالتواتر من ترك اللّذات الدنياوية والاحتراز عن المحظورات من أوّل العمر إلى آخره مع القدرة، وكان زهّاد الصحابة: كأبي ذرّ وسلمان الفارسي وأبي الدرداء تلامذته.

وأمّا الشجاعة: فغنية عن الشرح، حتى قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا فتى إلاّ علي لا سيف إلاّ ذو الفقار و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الأحزاب: لضربة علي خير من عباده الثقلين.

وكذا السخاء: فإنّه بلغ فيها الدرجة القصوى، حتى أعطى ثلاثة أقراصٍ

٣٥٥

ما كان له ولا لأولاده غيرها عند الإِفطار، فأنزل الله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) .

وكان أولاده أفضل أولاد الصحابة كالحسن والحسين. و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هما سيّدا شباب أهل الجنّة ، ثمّ أولاد الحسن مثل: الحسن المثنى، والحسن المثلث، وعبد الله بن المثنى، والنفس الزكيّة. وأولاد الحسين مثل: الأئمة المشهورة وهم إثنا عشر. وكان أبو حنيفة ومالك - رحمهما الله - أخذا الفقه من جعفر الصادق والباقون منهما، وكان أبو يزيد البسطامي - من مشايخ الإسلام - سقّاء في دار جعفر الصادق، والمعروف الكرخي أسلم على يد علي الرّضا وكان بوّاب داره.

وأيضاً: اجتماع الأكابر من الاُمة وعلمائها على شيعيّته دالّ على أنّه أفضل، ولا عبرة بقول العوام.

وأمّا الفضائل النقليّة: فما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الاُولى : خبر الطير، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء علي وأكل معه.

الثانية : خبر المنزلة، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا إنّه لا نبي بعدي وهذا أقوى من قوله في حق أبي بكر: والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيّين على أفضل من أبي بكر، لأنّه إنّما يدلّ على أنّ غيره ليس اُفضل منه لا على أنّه أفضل من غيره. وأيضاً: يدلّ على أنّ الغير ما كان أفضل منه لا على أنّه ما يكون، فجاز أنْ لا يكون عند ورود هذا الخبر ويكون بعده. وأيضاً: خبر المنزلة يدلُّ على أنّ له مرتبة الأنبياء لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إلّا أنّه لا نبي بعدي، وخبر أبي بكر إنّما يدلّ على أنّ غيره ممّن هو أولى من مراتب الأنبياء ليس أفضل منه لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعد النبيين والمرسلين، فجاز أن يكون علي أفضل منه.

٣٥٦

الثالثة : خبر الراية، روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزماً، ثمّ بعث عمر فرجع منهزماً، فبات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغتمّاً، فلمـّا أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية وقال: لأعطينّ الرّاية رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار. فتعرّض له المهاجرون والأنصار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين علي؟ فقيل: إنّه أرمد العينين، فتفل في عينيه، ثمّ دفع إليه الرّاية.

الرابعة : خبر السّيادة. قالت عائشة: كنت جالسة عند النبيّ -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إذْ أقبل علي فقال: هذا سيّد العرب. فقلت: بأبي واُمّي، ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد العالمين، وهو سيد العرب.

الخامسة : خبر المولى. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وروى أحمد والبيهقي في فضائل الصحابة أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى يوشع في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى وجه علي.

السادسة : روي عن أنس بن مالك -رضي‌الله‌عنه - قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أخي ووزيري وخير من أتركه من بعدي يقضي ديني وينجز وعدي: علي بن أبي طالب.

السابعة : روي عن ابن مسعود أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي خير البشر من أبى فقد كفر.

الثامنة : روي أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في ذي الثدية، وكان رجلاً منافقاً - يقتله خير الخلق. و في رواية: خير هذه الاُمة. وكان قاتله علي بن أبي طالب. و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة: إنّ الله تعالى اطّلع على أهل الدنيا واختار منهم أباك واتّخذه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانياً فاختار منهم بعلكِ

٣٥٧

هذا ما قالوا.

والحق: إنّ كلّ واحدٍ من الخلفاء الأربعة - بل جميع الصحابة - مكرّم عند الله، موصوف بالفضائل الحميدة »(١) .

إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل

أقول: لقد أنصف السمرقندي، فنقل استدلالات الشّيعة على أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإن أضاف إليها - عن كياسة أو جهل - كلماتٍ غير صادرة عنهم، وأذعن بدلالاتها وأقرّ بمتانتها ومنها حديث الطّير، فإنّه أورده ولم يناقش في سنده، ولم يتّبع الفخر الرازي في تقوّلاته - وإنْ قلّده في مواضع كثيرة ونقل أقواله ولو بالتفريق والتوزيع ووافقه عليها - لِما رأى فيها من السّخافة والركاكة المانعة من التفوّه بها.

ويؤكّد إقراره بالحق أو عجزه عن الجواب تخلّصه عن استدلال الشيعة بقوله: « والحقّ: إنّ كلّ واحد ». فإنّه يعلم بأنّ هذه الجملة لا تفي للجواب عن تلك الاستدلالات المتينة والبراهين الرصينة، التي يكفي كل واحد واحد منها لإِثبات مطلوب الشيعة، على أنّ ما قاله مجرّد دعوى فهو مطالَب بالدليل عليها. ولو فرض أنّ الثّلاثة - بل جميع الصحابة « مكرم عند الله موصوف بالفضائل الحميدة » فإنّ هذا لا ينافي أفضَليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام منهم.

____________________

(١). الصحائف في علم الكلام - مخطوط. قال كاشف الظنون ٢ / ١٠٧٥ « أوّله: الحمد لله الذي استحق الوجود والوحدة. إلخ. وهو على مقدمة وست صحائف وخاتمة، ومن شروحه: المعارف في شرح الصحائف، أوله: الحمد لله الذي ليس لوجوده بداية إلخ للسمرقندي شمس الدين محمّد، وشرحه البهشتي أيضاً بشرحين » وأرخ وفاته بسنة ٦٠٠. لكن في هديّة العارفين ٢ / ١٠٦: رأيت شرحه على المقدمة البرهانيّة للنسفي، فرغ منه سنة ٦٩٠ فليصحح. وذكر له مؤلّفاتٍ أُخرى.

٣٥٨

القاضي البيضاوي

وقال القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي - في بيان وجوه استدلال الشيعة على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام -:

« السادس - إنّ عليّاً كرّم الله وجهه كان أفضل الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه ثبت بالأخبار الصحيحة أنّ المراد من قوله تعالى حكايةً( أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) علي، ولا شكّ أنّه ليس نفس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه، بل المراد به أنّه بمنزلته أو هو أقرب الناس إليه، وكلّ من كان كذلك كان أفضل الخلق بعده. ولأنّه أعلم الصحابة، لأنّه كان أشدّهم ذكاء وفطنة وأكثرهم تدبيرا ورويّة، وكان حرصه على التعلّم أكثر، واهتمام الرسولعليه‌السلام بإرشاده وتربيته أتمّ وأبلغ، وكان مقدّماً في فنون العلوم الدينية اُصولها وفروعها، فإنّ أكثر فرق المتكلّمين ينتسبون إليه ويسندون اُصول قواعدهم إلى قوله، والحكماء يعظّمونه غاية التعظيم، والفقهاء يأخذون برأيه. وقد قالعليه‌السلام : أقضاكم علي.

وأيضاً: فأحاديث كثيرة، كحديث الطير وحديث خيبر، وردت شاهدةً على كونه أفضل. والأفضل يجب أن يكون إماماً ».

فقال في الجواب: « وعن السادس: إنّه معارض بمثله، والدليل على أفضلية أبي بكر قوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) فإنّ المراد به إمّا أبو بكر أو علي وفاقاً، والثاني مدفوع لقوله تعالى:( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) لأنّ علياً نشأ في تربيته وإنفاقه وذلك نعمة تجزى، وكلّ من كان أتقى كان أكرم عند الله وأفضل، لقوله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) . و قولهعليه‌السلام : ما طلعت الشمس ولا غربت على أحدٍ بعد النبيّين والمرسلين أفضل من أبي بكر. و قولهعليه‌السلام لأبي بكر وعمر: هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا

٣٥٩

النبيّين والمرسلين »(١) .

إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل

أقول : لقد ذكر البيضاوي أدلّة للشيعة على أفضليّة الإِمامعليه‌السلام ، فلم يناقش في شيء منها، لا في السند ولا في الدلالة. وذكر منها حديث الطّير وأقرّ بدلالته، ولم يذكر له أيّ تأويل.

ويؤكّد ما ذكرنا أنّه لم يأت في الجواب إلّا بالمعارضة بأشياء يروونها في فضل خلفائهم، فإنّ المعارضة - كما هو معلوم - فرع تمامية السّند والدّلالة لكنّ ما استند إليه في المعارضة باطل حتى على اُصولهم(٢) ، وعلى فرض التسليم فإنّه ليس بحجةٍ على الشيعة.

الشّمس الأصفهاني

وقال شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني - في بيان أدلّة الشيعة على إمامة سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام : « السادس - إنّ عليّاً كان أفضل الناس بعد النبيّ، لأنّه ثبت بالأخبار الصحيحة أنّ المراد من قوله تعالى:( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) علي،

____________________

(١). طوالع الأنوار - مخطوط.

(٢). هذا الحديث أخرجه الهيثمي وحكم بسقوطه، وإليك نصّه:

« عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أبا الدرداء يمشي بين يدي أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء تمشي قدّام رجلٍ لم تطلع الشمس بعد النبيّين على رجل أفضل منه. فما رؤي أبو الدرداء بعدُ يمشي إلّا خلف أبي بكر. رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: إسماعيل بن يحيى التيمي، وهو كذاب.

وعن أبي الدرداء قال: رآني رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأنا أمشي أمام أبي بكر فقال: لا تمشي أمام من هو خير منك، إنّ أبا بكر خير من طلعت عليه الشمس، أو غربت. رواه الطبراني، وفيه: بقيّة، وهو مدلّس » مجمع الزوائد ٩ / ٤٤.

٣٦٠

ولا شكّ أنّ عليّاً ليس نفس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه، بل المراد أنَّ عليّاً بمنزلة النبيّ، أو أنّ عليّاً هو أقرب الناس إلى النبيّ فضلاً، وإذا كان كذلك كان أفضل الخلق بعده.

ولأنّ عليّاً كان أعلم الصحابة، لأنّه كان أشدّهم ذكاءً وفطنةً وأكثرهم تدبيراً ورويّةً، وكان حرصه على العلم أكثر واهتمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرشاده وتربيته أتم وأبلغ، وكان مقدّماً في فنون العلوم الدينية اُصولها وفروعها، فإنّ أكثر فرق المتكلّمين ينتسبون إليه ويسندون اُصول قواعدهم إلى قوله، والحكماء يعظّمونه غاية التعظيم، والفقهاء يأخذون برأيه، و قد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم علي، والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلم.

وأيضاً: أحاديث كثيرة وردت شاهدةً على أنّ علياً أفضل.

منها: حديث الطير، وهو: إنّهعليه‌السلام اُهدي له طير مشوي، فقالعليه‌السلام : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي، فجاءه علي وأكل معه، والأحبّ إلى الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه. وليس في ذلك ما يدلّ على كونهعليه‌السلام أفضل من النبيّ والملائكة، لأنّه قال: ائتني بأحبّ خلقك إليك، والمأتي به إلى النبيّ يجب أن يكون غير النبيّ، فكأنّه قال: أحبّ خلقك إليك غيري و لقولهعليه‌السلام : يأكل معي، وتقديره: ائتني بأحبّ خلقك إليك ممّن يأكل فيأكل معي، والملائكة لا يأكلون، وبتقدير عموم اللّفظ للكلّ فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبيّعليه‌السلام والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما.

ومنها: حديث خيبر، فإنّ النبيّعليه‌السلام بعث أبا بكر إلى خيبر، فرجع منهزما ثمّ بعث عمر فرجع منهزماً. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك، فلمـّا أصبح خرج إلى الناس ومعه راية وقال: لاُعطينَّ الرّاية اليوم رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله والرّسول، كرّار غير فرّار. فعرض له

٣٦١

المهاجرون والأنصار قالعليه‌السلام : أين علي. فقيل له: إنّه أرمد العينين، فتفل في عينيه، ثمّ دفع الرّاية إليه.

وذلك يدلّ على أنّ ما وصفه به مفقود فيمن تقدم، فيكون أفضل منهما، ويلزم أن يكون أفضل من جميع الصّحابة. والأفضل يجب أن يكون إماماً ».

قال الأصفهاني في الجواب عمّا ذكر من الأدلّة:

« وعن السّادس: إنّ ما ذكرنا من الدلائل الدالّة على أنّ علياً أفضل، معارض بما يدلّ على أنّ أبا بكر أفضل، والدليل على أفضليّة أبي بكر قوله تعالى:( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي ) الآية. فإنّ المراد إمّا أبو بكر أو علي بالإِتفاق، والثاني - وهو أن يكون المراد به علياً - مدفوع، لأنّه تعالى ذكر في وصف الأتقى قوله( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) »(١) .

إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل تبعاً للبيضاوي

وتبع الأصفهاني ماتنه البيضاوي في ذكر طائفةٍ من دلائل الشيعة، والسكوت عنها من حيث السند والدلالة، وهو إقرار منه كذلك بالأمرين. ثمّ أجاب عن تلك الدلائل بالمعارضة. والجواب الجواب.

تأويله الحديث في كتاب آخر تبعاً للرازي

لكنّه في كتابٍ آخر له تبع الفخر الرازي في دعوى التأويل، فإنّه ذكر حديث الطير فيما استدل به الإِمامية بقوله:

« ومنها: حديث الطائر. بيان ذلك: أنّه اُهدي له طائر مشوي فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي وأكل معه. والأحبّ إلى

____________________

(١). مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار - مخطوط.

٣٦٢

الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه، وليس في ذلك ما يدلّ على كونه أفضل من النبيّ والملائكة، لأنّه قال: ائتني بأحبّ خلقك إليك، والمأتي به إلى النبيّ يجب أن يكون غير النبيّ، فكأنّه قال: أحبّ خلقك إليك غيري، و لقوله: يأكل معي وتقديره: ائتني بأحبّ خلقك ممّن يأكل معي، والملائكة لا يأكلون. وبتقدير عموم اللّفظ للكلّ لا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبيّ والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما ».

فأجاب: « وحديث الطير لا يدل على أنّه أحبّ الخلق مطلقاً، بل أمكن أن يكون أحبّ الخلق بالنظر إلى شيء دون شيء، إذ يصحُّ الإِستفسار بأنْ يقال: أحبّ خلقك في كلّ شيء أو في بعضه، وعند ذلك لا يلزم من زيادة ثوابه في بعض الأشياء على غيره الزيادة في كلّ شيء، بل جاز أنْ يكون غيره أزيد ثواباً في شيء آخر.

فإن قيل: فعلى هذا التقدير أيّ فائدةٍ في قوله: ائتني بأحبّ خلقك إليك؟

قلنا: الفائدة فيه تخصيصه عمّن ليس أحبّ عند الله من وجه »(١) .

الردّ على ما ذكره

أقول : أمّا ما ذكره تبعاً للفخر الرازي فقد عرفت اندفاعه فلا نعيد.

وأمّا ما ذكره في جواب الإِعتراض الذي أورده: فقد كان الأولى به أنْ لا يتفوّه به، لأنّ الثلاثة وأضرابهم لم يكونوا محبوبين عند الله من وجهٍ من الوجوه فضلاً عن الأحبيّة، فيكون الحديث دليلاً على أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام منهم.

وبغض النظر عن ذلك، فقد ثبت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ

____________________

(١). تشييد القواعد شرح تجريد العقائد - مخطوط.

٣٦٣

الشيخين - بل الثلاثة - من الدخول عليه في قضية الطير، وبناءً على ما ذكره الأصفهاني من أنّ فائدة الحديث تخصيص عليعليه‌السلام عمّن ليس بأحبّ عند الله من وجهٍ، فالثلاثة ليسوا بأحبّ عند الله من وجه، فضلاً عن الأحبيّة المطلقة.

القاضي العضدي والشريف الجرجاني

وقال القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإِيجي في ( المواقف ) وكذا السيد الشريف علي بن محمّد الجرجاني في ( شرحه ) بتأويل حديث الطير فقد جاء في ( شرح المواقف ) في وجوه أدلّة الشيعة على أفضلية أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« الثاني: حديث الطير، وهو قولهعليه‌السلام - حين أُهدي إليه طائر مشوي -: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فأتى علي وأكل معه الطير والمحبّة من الله كثرة الثّواب والتعظيم، فيكون هو أفضل وأكثر ثواباً.

وأجيب: بأنّه لا يفيد كونه أحب إليه في كلّ شيء، لصحّة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض، ألا ترى أنّه يصح أن يستفسر ويقال: أحبّ خلقه إليه في كلّ شيء أو في بعض الأشياء؟ وحينئذٍ جاز أنْ يكون أكثر ثواباً في شيء دون آخر، فلا يدلّ على الأفضليّة مطلقاً »(١) .

ما ذكراه هو تأويل الرازي والجواب الجواب

أقول : وإنّ ما ذكراه في الجواب عن حديث الطّير، هو التأويل الّذي اعتمده الفخر الرازي، الذي عرفت سقوطه لدى تعرّضنا لكلامه فالجواب

____________________

(١). شرح المواقف ٨ / ٣٦٧ - ٣٦٨.

٣٦٤

الجواب، فلا نطيل المقام.

السَّعدُ التّفتازاني

وقال سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني:

« تمسكّت الشيعة القائلون: بأفضليّة علي رضي الله تعالى عنه بالكتاب والسنّة والمعقول.

أمّا الكتاب فقوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا ) وقوله تعالى:( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ولا خفاء في أنّ من وجب محبّته بحكم نصّ الكتاب كأن أفضل

وأمّا السنّة فقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوحٍ في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب. ولا خفاء في أنْ من يساوي هذه الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل. و قوله عليه الصلاة والسلام: أقضاكم علي. والأقضى أعلم وأكمل. و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء علي فأكل معه والأحب إلى الله أكثر ثواباً، وهو معنى الأفضل. وكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، ولم يكن عند موسى أفضل من هارون. وكقوله عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام يوم خيبر وقوله عليه الصلاة والسلام: أنا دار الحكمة وعلي بابها. وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي: أنت أخي في الدنيا والآخرة وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمبارزة علي وعمرو بن عبد ود أفضل من عمل اُمتي إلى يوم القيامة. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ومن أحبّك فقد أحبني ومن أحبّني هو حبيب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغيضي بغيض الله، فالويل لمن أبغضك بعدي.

٣٦٥

وأمّا المعقول فهو: إنّه أعلم الصحابة وأيضاً: هو أشجعهم وأيضاً: هو أزهدهم وأيضاً: هو أكثرهم عبادةً وأكثرهم سخاوة وأحلمهم وأيضاً: هو أفصحهم لساناً على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة وأسبقهم إسلاماً

وبالجملة، فمناقبه أظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى.

فالجواب: إنّه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات، إلّا أنّه لا يدلّ على الأفضليّة، بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى، بعد ما ثبت من الإِتّفاق الجاري مجرى الإِجماع على أفضلية أبي بكر وعمر، والاعتراف من عليرضي‌الله‌عنه بذلك. على أنَّ فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصّل، مثل: أنّ المراد( بأَنْفُسَنا ) نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقال: دعوت نفسي إلى كذا، وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي -رضي‌الله‌عنه - لا اختصاص به، وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء، وأنّ أحبّ خلقك يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - عملاً بأدلّة أفضليّتهما، ويحتمل أن يراد أحبّ الخلق إليك في أن يأكل منه »(١) .

إنكاره دلالة ما ذكره على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب مردود

أقول : لقد ذكر التفتازاني طائفة من الحجج البالغة والدلائل الواضحة على أفضلية سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ثم أنكر أنْ يكون شيء منها دالاً على أفضليّته بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى لكن إنكاره ذلك ساقط مردود، فقد أثبت علماء الشيعة دلالة كلّ واحدٍ واحدٍ من تلك الأدلة في محلّه

____________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٥ - ٢٩٩.

٣٦٦

وفي خصوص حديث الطّير نقول: إن صريح الفخر الرازي في ( تفسيره ) - في عبارته المتقدّمة سابقاً - أنّ معنى محبّة الله تعالى لعبده إعطاؤه الثواب فلا ريب - إذن - في أنّ معنى أحبيّة العبد لديه أكثريّة الثواب منه إليه، وإذا كانت الأحبيّة بمعنى الأكثرية ثواباً لم يبق أيّ ترديد في دلالة حديث الطّير على أفضلية الإِمامعليه‌السلام

ولقد سلَّم - والحمد لله - الفخر الرازي في ( نهاية العقول ) و ( الأربعين ) وكذا شمس الدين الأصفهاني في ( شرح التجريد ) والقاضي العضدي في ( المواقف ) والشريف الجرجاني في ( شرح المواقف ) والشهاب الدولت آبادي في ( هداية السعداء ) بأنَّ الأحبيّة بمعنى الأكثرية في الثواب.

وإذا رأى المنصف اعتراف هؤلاء الأعاظم - في مقابلة الشيعة، بكون الأحبيّة في حديث الطير بمعنى الأكثرية في الثواب - يفهم جيّداً فظاعة ما تفوّه به التفتازاني في هذا المقام.

ومن العجائب: استدلال التفتازاني - في نفس هذا الكتاب قبل عبارته هذه بورقةً تقريباً - بحديث عمرو بن العاص على أفضليّة أبي بكر، من جهة أنّ الأحبيّة تدلّ على الأكثرية ثواباً فالأفضليّة فكيف يقول بدلالة ذاك الحديث على أفضلية أبي بكر وكونه أكثر ثوابا، ومع ذلك ينفي - في جواب إحتجاج الشيعة بحديث الطير - دلالته على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أكثر ثواباً؟

وجوه الردّ على دعوى الاتفاق على أفضليّة أبي بكر وعمر

وأمّا قوله: « بعد ما ثبت من الإِتفاق الجاري مجرى الإِجماع على أفضليّة أبي بكر ثم عمر » فدعوى كاذبة مردودة بوجوه:

الأول : قال الحافظ ابن عبد البر: « من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت فلا نفاضل. فهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلامٍ غليظ، لأنّ

٣٦٧

القائل بذلك قد قال خلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السّلف والخلف من أهل الفقه والآثار: إن علياً كرّم الله وجهه أفضل الناس بعد عثمان. هذا مما لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان. واختلف السّلف أيضاً في تفضيل عليرضي‌الله‌عنه وأبي بكررضي‌الله‌عنه . وفي إجماع الجميع الذي وصفناه دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنّه لا يصح معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً. ويلزم من قال به أنْ يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد: كنّا نبيع اُمّهات الأولاد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا يقولون بذلك. فناقضوا. وبالله التوفيق »(١) .

الثاني : لقد ثبت أنّ جمعاً من أعلام الصحابة قالوا بأفضلية الإِمامعليه‌السلام من أبي بكر قال ابن عبد البر: « روي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وحذيفة وحباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم: أن علي بن أبي طالب أوّل من أسلم، وفضّله هؤلاء على غيره »(٢) .

قلت: ومن الصحابة القائلين بأفضليته: عبد الله بن عمر، فقد روى السيّد علي الهمداني: « عن أبي وائل، عن عبد الله بن عمررضي‌الله‌عنه قال: كنا إذا عدّدنا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلنا: أبو بكر وعمر وعثمان. فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن فعلي! قال: علي من أهل البيت، لا يقاس به أحد، مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته، إنّ الله يقول:( الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ففاطمة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته، وعلي معهما »(٣) .

والعبّاس عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة الحكيم البغدادي في ( تاريخ بغداد ) بترجمة شريك: « دخل

____________________

(١). الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ / ٥٢ - ٥٣.

(٢). الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ / ٢٧.

(٣). المودة في القربى. اُنظر: ينابيع المودّة ١ / ١٧٤.

٣٦٨

شريك على المهدي فقال له: ما ينبغي أنْ تقلّد الحكم بين المسلمين. قال: ولم؟ قال: بخلافك على الجماعة وقولك بالإِمامة. قال: أمّا قولك: بخلافك على الجماعة فمن الجماعة أخذت ديني، فكيف اُخالفهم وهم أصلي في ديني؟ وأمّا قولك: بالإِمامة. فما أعرف إلّا كتاب الله وسنة رسوله. وأمّا قولك: مثلك لا يقلّد الحكم بين المسلمين، فهذا شيء أنتم فعلتموه، فإنْ كان خطأً فاستغفروا الله منه، وإنْ كان صواباً فأمسكوا عنه. قال: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال فيه أبوك العبّاس وعبد الله. قال: وما قالا؟ قال: أمّا العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا نزل من النوازل، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله. وأمّا عبد الله فإنّه كان يضرب بين يديه، وكان في حروبه رأساً متّبعاً وقائداً مطاعاً. فلو كانت إمامة علي جوراً كان أولى أن يقعد عنها أبوك، لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق، ولم يمض بعد هذا المجلس إلّا قليل حتى عزل شريك ».

وحسّان بن ثابت. ذكر ذلك ( الدهلوي ) في جواب السؤال الرابع من ( المسائل البخاريّة ).

الثالث : ونفى أبو بكر نفسه كونه خير الاُمة، واعترف بأفضلية أمير المؤمنينعليه‌السلام منه حيث قال على المنبر مخاطباً المسلمين: « أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم »(١) .

الرابع : وقال جماعة من أعلام العلماء أيضاً بأفضلية سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام من الشيخين. منهم القاضي شريك كما عرفت من ( تاريخ بغداد ) ومنهم عبد الرزاق الصنعاني، وجماعة الصّوفية كما في ( المسائل البخاريّة ).

الخامس : لو سلمنا قيام هذا الإِجماع، فإنّه إجماع على خلاف قول الله

____________________

(١). إبطال الباطل - مخطوط

٣٦٩

ورسوله، وما كان كذلك فلا يحتج به ولا يعبأ به. سلّمنا عدم مخالفته، لكنّه غير ثابت عند الشّيعة فلا وجه لإِلزامهم به.

دعوى اعتراف الإِمام بأفضلية أبي بكر مستندة إلى خبر موضوع

وأمّا دعوى التفتازاني « الاعتراف من عليعليه‌السلام بأفضلية الشيخين منه » فإنّها( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) وذكرها في مقابلة الشيعة مباهتة، ولكن « إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

وعلى كل حال، فإنّه لم يكن إعتراف من الإِمام بأفضلية الشيخين أو أحدهما منه أبداً، وما رواه أسلاف القوم في هذا الباب فخبر مكذوب موضوع( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .

تأويل حديث الطّير باطل

وأمّا مناقشته في دلالة الأدلة التي ذكرها، فمردودة في مواضع الاستدلال والاحتجاج بها من كتب الإِماميّة، كما أنّ تأويل حديث الطير بما ذكره، قد عرفت أنّ جميع التأويلات التي ذكروها لها فاسدة، فلا نعيد.

العلاء القوشجي

وقال علاء الدين علي بن محمد القوشجي: « وخبر الطائر: اُهدي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائر مشوي فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك حتى يأكل معي. فجاء علي وأكل. والأحب إلى الله تعالى أفضل » فأجاب:

« وأجيب بأنّه: لا كلام في عموم مناقبه »(١) .

____________________

(١). شرح التجريد: ٣٧٩.

٣٧٠

ذكر عبارة التفتازاني والجواب الجواب

أقول : لقد تبع القوشجي التفتازاني في هذا المقام في الجواب عن الاستدلال بحديث الطّير، حيث نقل كلامه بحذافيره، فنكتفي في الجواب: بما ذكرناه في الرد على التفتازاني ولا نعيد.

الشَّهابُ الدّولَت آبادي

وقال شهاب الدين ملك العلماء الدولت آبادي الهندي: « إعلم أنّ أحاديث فضيلة علي - كرم الله وجهه - من الصحاح، ولكن احتجاجهم على الخطأ.

إحتجّ الشيعة بخبر الطير قال أهل السنّة: هذا الحديث لا يدل على أنّه أحب في كلّ شيء من أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -. لعل المراد: خيراً لأكل هذا الطير »(١) .

اعتراف بصحته وتأويل عرفت بطلانه

أقول : قد اعترف هذا الرجل بصحّة حديث الطّير، لكنّه أجاب عن الاستدلال به بتأويله عن ظاهره، ناسباً هذا التأويل إلى أهل السنّة، وقد عرفت بطلان هذا التأويل وفساده كغيره ممّا ذكروه، وإنّ كثيراً منهم لم يلجأوا إلى التأويل لوضوح وهنه وسخافته، فزعموا المعارضة بما وضعوه في فضل الشيخين، أو أحدهما.

____________________

(١). هداية السعداء. الهداية الاُولى من الجلوة السابعة.

٣٧١

إسحاق الهروي

وقال إسحاق الهروي - سبط الميرزا مخدوم - مقتصراً على بعض هفوات التفتازاني في جواب حديث الطير: « والجواب: إنّه يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - عملاً بأدلّة أفضليّتهما. وأيضاً: يحتمل أنْ يكون أحب الخلق إليك في أن يأكل، لا مطلق الأحب ».

ذكر تأويل التفتازاني وقد عرفت فساده

وما ذكره هذا الرجل ليس إلّا تأويل التفتازاني، وقد عرفت فساده فلا نعيد.

حُسام الدّين السّهارنفوري

تأويل تقدّم فساده

واقتصر حسام الدّين السّهارنفوري في ( مرافض الروافض ) على بعض هفوات عبد الحق الدهلوي الذي عرفت فسادها فيما سبق.

محمَّد البَدخشاني

وأجاب الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشاني عن الإِستدلال بحديث الطير لا بالقدح في سنده، ولا بالتأويل، بل بالمعارضة بالحديث الموضوع في فضل عمر بن الخطّاب: « ما طلعت الشمس على رجلٍ خير من عمر »(١) .

____________________

(١). ردّ البدعة - مخطوط.

٣٧٢

اعتراف بالسّند والدلالة ودعوى المعارضة

والمهمّ اعترافه الضمني بسند حديث الطّير وتماميّة دلالته على أفضلية مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإن في ذلك تخطئةً لكلّ اولئك الذين حاولوا القدح في سنده أو تأويله عن ظاهره. وأمّا دعوى معارضته بالحديث الموضوع المذكور فهي متابعة لبعض أسلافه، وقد أجبنا عنها فيما تقدّم. وحاصل ذلك: أن هذا الحديث موضوع، وعلى فرض تماميته سنداً فهو معتبر عندهم وليس بحجّة على الشّيعة، بخلاف حديث الطّير الذي ثبت من طرق أهل السنّة فيكون حجةً عليهم ومن المعلوم أنّ ما ليس بحجةٍ لا يعارض الحجة.

وليُّ الله الدّهلوي

وتشبّث الشيخ ولي الله الدهلوي ( والد الدهلوي ) في الجواب عن الاستدلال بحديث الطير بأباطيل عديدة حيث قال بجواب المحقّق الطوسي صاحب التجريد: « قوله: وخبر الطير، عن أنس قال: كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه. أخرجه الترمذي.

لا يخفى ورود مثل هذه الفضائل في حقّ الشّيخين كقوله: « يتجلّى الله تعالى لأبي بكر خاصّة وللنّاس عامّة ». و « ما طلعت الشمس على رجلٍ خيرٍ من عمر ».

وأيضاً: لا يخفى أنّ لفظ « الأحب » وارد بحق كثيرٍ من الصّحابة.

وترتفع المعارضة بأحد وجوهٍ ثلاثة:

إمّا أنْ نقول: بأنّ الحب على أنواع: حبّ الرجل زوجته، وتارةً يطلقون لفظ « الأحب » ويريدون هذا الحب. وحبّ الرجل أولاده وأقربائه، وحبّ الرجل لليتيم، وحبّ الرجل لشيخه، وحبّ الرجل مشاركه في العلم. والحبّ الوارد

٣٧٣

في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمّل على أحد هذه المعاني، كما عن عائشة الصديقة أنّها قالت: كان أبو بكر أحبّ الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم عمر. ثم قالت: لو استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستخلف أبا بكر ثم عمر. وعن جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت: أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها. أخرجه الترمذي.

فظهر أنّ المراد من الأحبيّة في الحديث الأول حبّ المشابهة في الفضائل التي هي المناط في الاستخلاف، وفي الحديث الثاني حبّ الأولاد والأقارب.

وأمّا أنْ نقول: بأنّ الحبّ يتعلَّق بالصّفات المحمودة التي يحصل بسببها القرب من الله تعالى والرسول ويوجب الرّضا عندهما. ولكلّ صفةٍ من تلك الصفات مقام من الرضا والحبّ، فيجوز أن يكون شخص أحبّ لصفة مثل الشجاعة ومحاربة الأعداء، والآخر أحبّ بصفةٍ اُخرى مثل الحل والعقد في أمر الخلافة.

وإمّا أنْ نقول: إنّ « الأحب » بمعنى « من الأحب » فيكون صنف من المحبوبين أرجح على سائر المحبوبين، و « الأحب » لفظ يمكن اطلاقه بازاء كلّ فردٍ من هذا الصنف »(١) .

دعوى المعارضة بـ « يتجلّى الله لأبي بكر »

أقول : إنّ هذا الكلام في أقصى درجات الهوان ومراتب الفساد، كما لا يخفى على من نظر في مباحثنا المتقدمة بإمعان وإنصَاف ولكن من المناسب أن نبيّن حال هذا الكلام بإيجاز فنقول:

____________________

(١). قرة العينين في تفضيل الشيخين: ٢٨٨.

٣٧٤

أمّا دعواه المعارضة بحديث: يتجلّى الله لأبي بكر خاصة وللناس عامّة فباطلة جداً، فمن العجب تمسّك هذا المحدّث الكبير!! بمثل هذا الحديث الموضوع عند محقّقي أهل نحلته!!.

ألا يعلم بتنصيص المجد الفيروزآبادي على أنّه من المفتريات التي يعلم بطلانها ببداهة العقل(١) .

وأنّه قد أورده ابن الجوزي في ( الموضوعات )(٢) .

وأخرجه ابن عدي في كتابه ( الكامل في الضعفاء ) وصرّح ببطلانه(٣) .

واعترف الذهبي في ( ميزان الإِعتدال في نقد الرجال ) بسقوطه في غير موضع(٤)

وقد فصّل ذلك كلّه في كتاب ( شوارق النصوص ).

فما يقول أولياء والد ( الدهلوي ) في مقام الدفاع عنه وتوجيه ما ادّعاه؟!

دعوى المعارضة بـ « ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر »

وأمّا دعواه المعارضة بحديث: « ما طلعت الشمس على رجلٍ خيرٍ من عمر » فكذلك، لأنّه حديث موضوع مفتعل باطل، كما فصّل في ( شوارق النصوص ) كذلك، وإليك عبارة المنّاوي المشتملة على إبطال جماعةٍ إيّاه:

« ما طلعت الشمس على رجلٍ خيرٍ من عمر. أخرجه الترمذي في المناقب والحاكم في فضائل الصحابة عن أبي بكر. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بذاك. إنتهى. وقال الذهبي: فيه عبد الله بن داود الواسطي ضعُفوه، وعبد الرحمن بن أخي محمّد المنكدر لا يكاد يعرف، وفيه كلام.

____________________

(١). سفر السعادة - باب فضائل أبي بكر.

(٢). الموضوعات ١ / ٣٠٤.

(٣). الكامل في الضعفاء ٤ / ١٥٥٧.

(٤). ميزان الاعتدال ٢ / ٤١٥.

٣٧٥

والحديث شبه الموضوع. انتهى. وقال في الميزان - في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي -: في أحاديثه مناكير، وساق هذا منها ثم قال: هذا كذب. وأقرّه في اللسان عليه »(١) .

وبعد، فإنّ تمسّك وليّ الله بهذين الحديثين عجيب من جهةٍ اُخرى وهي: إنّ هذا المحدّث ينصّ في نفس كتابه ( قرّة العينين ) على أنّ أحاديث الصحيحين - فضلاً عن غيرها - غير صالحة للإِحتجاج على الإِمامية بل الزيّدية فكيف يحتج في هذا الكتاب بهكذا حديثين والحال هذه؟

دعوى المعارضة بـ « من أحبّ الناس إليك؟ »

وأمّا دعواه ورود لفظ « الأحب » المطلق في حقّ كثيرٍ من الصّحابة فممنوعة، وكذا المعارضة بما لا يجوز الاحتجاج به من أخبارهم:

أمّا حديث عمرو بن العاص المشتمل على مجئ هذا اللفظ بالنّسبة إلى عائشة وأبيها، فحاله في القدح والجرح معلوم.

وأمّا حديث أنس الوارد فيه ذلك أيضاً، فهو من رواية « حميد عن أنس » وقد نصّوا على عدم جواز الإِحتجاج به إلّا إذا قال: « حدّثنا أنس ».

أمّا أنّه من رواية « حميد عن أنس » من غير قول « حدّثنا » فذلك ظاهر من رواية ابن ماجة والترمذي. قال ابن ماجة: « حدّثنا أحمد بن عبدة والحسين بن الحسن المروزي قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها »(٢) .

وقال التّرمذي: « حدّثنا أحمد بن عبدة الضبّي، نا المعتمر بن سليمان،

____________________

(١). فيض القدير - شرح الجامع الصغير: ٥ / ٤٥٤.

(٢). سنن ابن ماجة ١ / ٣٨.

٣٧٦

عن حميد، عن أنس قال قيل: يا رسول الله، من أحبّ الناس إليك؟ قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها. هذا حديث حسن [ صحيح ] غريب من هذا الوجه من حديث أنس »(١) .

وأمّا أن رواية « حميد عن أنس » لا تقبل إلّا إذا قال حميد « حدّثنا أنس » فقد نصَّ عليه ابن حجر بترجمته بقوله: « قال أبو بكر البرديجي: وأمّا حديث حميد، فلا نحتجّ منه إلّا بما قال: حدّثنا أنس »(٢) .

وبالجملة، فإنّ حديث أنس - كحديث عمرو بن العاص - لا يجوز الإِحتجاج به وإنْ حكم الترمذي بحسنه وصحّته، لكنه مع ذلك حكم بغرابته على أنّه حديث اتّفق الشيخان على الإِعراض عنه.

وإذ لا حديث معتبر محتج به مشتمل على إطلاق « الأحب » مطلقاً على غير سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كان حديث الطّير بلا معارض، حتّى يحتاج إلى ما ذكره من وجهٍ لرفع المعارضة.

هذا، وعلى فرض وجود لفظ « الأحبّ » على الإِطلاق في حق كثير من الصحابة في الأخبار المتناقضة المتكاذبة عند أهل السنّة، فأيّ ملزم للإِماميّة لأنْ يتكلَّفوا ويتجشّموا التأويلات المخترعة لأجل رفع التعارض بين تلك الأحاديث وبين حديث الطير، مع أنّ تلك الأحاديث ليست من أحاديثهم؟ إنّه لا عليهم إلّا التمسّك بالأحاديث الدالّة على أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وطرح غيرها من الأحاديث حتى ولو كانت في أعلى درجات الصحّة عند أهل السنّة؟!

على أنّه لو كان على الشيعة جمع الأخبار المتعارضة الواردة عند أهل السنّة في هذا الباب، فلا موجب لتجشّم الجمع بين ما رووه في حقّ الشيوخ

____________________

(١). صحيح الترمذي ٥ / ٧٠٧.

(٢). تهذيب التهذيب ٣ / ٣٥.

٣٧٧

وأحزابهم، وبين أحاديث أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل مقتضى الإِنصاف أنّ أخبارهم في أحبيّة الشيخين وغيرهما معارضة بأخبارٍ اُخرى لهم لا تحصى، في كِفرهم ونفاقهم وفسقهم، فلا تصل النّوبة إلى وقوع المعارضة بين أخبار أحبيّة أولئك، وأخبار أحبيّة الإِمامعليه‌السلام ، حتى يحتاج إلى جمع!!

دعوى تنوّع حبّ الله والرّسول

وأمّا قوله: « وترفع المعارضة بأحد وجوهٍ ثلاثة: إمّا أنْ نقول بأنّ الحبّ على أنواع والحبّ الوارد في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمّل على أحد هذه المعاني » فمردود بوجوه:

أمّاأوّلاً : فلا ريب في بطلان القول بتنوّع حبّ الله تعالى بهذه الأنواع، إذ ليس له تعالى زوجة ولا أولاد ولا شيخ، ومفاد حديث الطّير بصراحةٍ أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الله عزّ وجلّ. فلو تأمّل المتأمّلون إلى يوم القيامة لم يمكن تنزيل حديث الطّير على شيء من هذه المعاني.

وأمّاثانياً : فإنّه إذا اضطرّ أولياء وليّ الله إلى القول بأنَّ مراده رفع المعارضة بين الأحاديث الاُخرى غير حديث الطّير، وتلك الأحاديث مفادها الأحبيّة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إلى الله تعالى، فذلك باطل كذلك، لما نصَّ عليه أكابر القوم - كما مضى سابقاً - من كون الأحبّ إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الأحب إلى الله تعالى، فمن ورد في حقّه في الأخبار أنّه أحب الخلق إلى الرسول فالمراد منه الأحبّ إلى الله تعالى، وقد عرفت أنّ بطلان تنوع حبّ الله إلى تلك الأنواع من القطعيّات. فما ذكره ولي الله لا يرفع المعارضة من بين تلك الأخبار أيضاً.

وأمّاثالثاً : فإنَّ في انقسام حبّ الرسول - بقطع النظر عمّا ذكر - مناقشات عديدة، بل تجويز بعض أنواع الحبّ بالنسبة إليه واضح الفساد، لعلم الكلّ

٣٧٨

- حتّى الصبيان - بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له شيخ حتى يكون له محبوباً عنده ويطلق عليه « الأحبّ » باعتبار كونه شيخاً له.

وأمّارابعاً : فلأنَّ كلّ عاقل يعلم - بالنظر إلى الأدلّة السّابقة - بابتناء حبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأشخاص على أساس سوابقهم الدينيّة، فمن لم يكن - سواء من اليتامى أو الأولاد أو الأزواج أو غيرهم - أفضل في الدين من غيره لم يجز أن يكون أحبّ الناس إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّاخامساً : فلأنّه لو جازت أحبيّة بعض الأزواج أو الأولاد إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث كونها زوجةً له أو كونه ولداً - حتى مع عدم الأفضلية في الدين - لم يجز إطلاق لفظ « الأحب » بنحو الإِطلاق في ذاك المورد، لما عرفت - بحمد الله - بالتفصيل من عدم جواز إطلاق صيغة أفعل التفضيل بلحاظ بعض الحيثيّات غير المعتبرة

فظهر عدم جواز تنزيل « الأحب » في الأخبار المعتبرة على بعض تلك المعاني التي ذكرها ولي الله الدهلوي.

الاستدلال بقول عائشة: كان أبو بكر أحبّ الناس ثم عمر

وأمّا قوله: « كما عن عائشة الصدّيقة أنها قالت: كان أبو بكر أحب الناس إلى رسول الله ثم عمر. ثم قالت: لو استخلف رسول الله لاستخلف أبا بكر ثم عمر » فتزوير غريب مطعون فيه بوجوه:

أوّلاً : لو صحّ في أخبارهم صدور هذين القولين من عائشة، فلا ثبوت لهما عند الشيعة، لعدم اعتبارهم بأخبار أهل السنّة هذه.

وثانياً : على فرض ثبوتهما عنها، فلا اعتبار بها عند الشيعة ليحتجّ بأقوالها عليهم.

وثالثاً : إنّه قد رووا عن عائشة أحبيّة أبي عبيدة بعد الشيخين، وكذا استخلاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لو استخلف!! - أبا عبيدة

٣٧٩

بعدهما وقد روى وليّ الله الدّهلوي نفسه هذين القولين عنها كذلك في نفس كتاب ( قرة العينين ) وهذا لفظه: « قيل لها: أيّ أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أحبّ إليه؟ قالت: أبو بكر. قيل: ثم من؟ قالت: عمر. قيل: ثم من؟ قال: أبو عبيدة. أخرجه الترمذي وابن ماجة ».

« سئلت: من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة ابن الجراح. ثم انتهت إلى هذا. أخرجه البخاري ومسلم ».

لكن هذين القولين باطلان بالضّرورة، لأنّ الذي بعد الشيخين - بناء على مذهب أهل السنة في التفضيل - إمّا عثمان وإمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا مناص من تكذيب أو تخطئة ما رووا عن عائشة في هذا الباب.

ورابعاً : إن إقرار العقلاء على أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود. فقول عائشة في حقّ غير علي وفاطمةعليهما‌السلام في مقابلة قوله الجميع بن عمير غير مقبول.

وخامساً : إنه بقطع النظر عمّا ذكر، فإنّ ما تقوله عائشة في فضل أبيها غير مقبول لدى العقلاء، لكونها بلا ريبٍ متهمّة في هذا الباب، بخلاف قولها في أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فإنّه لا احتمال لأنْ تكون كاذبةً فيه.

وسادساً : إنه لا ريب في أن عائشة تحبّ أباها أبا بكرٌ بخلاف مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي بلغت عداوتها له الحدّ الأقصى، فكيف يعبأ عاقل بقولها في حقّ محبوبها في مقابلة قولها في حق المبغوض عندها؟

وسابعاً : إن ما رووه عنها في حقّ أبيها خبر واحد، وما رووه عنها في باب أمير المؤمنينعليه‌السلام مستفيض، والواحد لا يقابل الكثير المستفيض.

وثامناً : إن كلماتها المنقولة عنها في حقّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أقوى دلالةً ممّا قالته في حقّ أبي بكر، فمن ذلك قولها: « ما خلق الله خلقاً أحب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علي بن أبي طالب » وقولها: « والله

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460