نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٧

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار9%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 418

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 217008 / تحميل: 8750
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الثالث: إنّ الرّافضة لو عقلت ما ذكروا هذا الحديث على استحقاق، لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف، ولم يحصل من استخلاف هارون إلّا الفتنة العظيمة والفساد الكبير بعبادة بني إسرائيل العجل، حتى أخذ موسى رأس أخيه يجرّه إليه. وكذلك حصل من استخلاف علي أيضاً، لما عرفت من قتل المسلمين يوم الجمل وفي صفّين، ووهن الإسلام، حتى طعنت فيه الأعداء، وإن لم يكن لا لوم على علي في ذلك، لكونه صاحب الحق، لكن لو لم يكن في خلافته مثل ذلك لكان أولى ».

النظر في كلامه والجواب عنه

نعم لقد أبدى هذا الرجل كوامن أضغانه، وأعلن أقصى عدوانه لأمير المؤمنينعليه‌السلام

ألا ترى إلى قوله: « لا دلالة فيه على إمامة علي »؟

أليس هذا هو قول النواصب؟

بل إنّه يقول: « إنّ في هذا الحديث دلالةً على عدم استحقاق علي للإمامة ».

فهل هذا الحديث الّذي يرويه أهل السنّة ويعترفون بصحّته وتواتره دليلُ على عدم استحقاق أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة؟

أليس هذا مذهب النواصب والخوارج، وعلى خلاف أهل السنّة حيث يجعلونه أحد الخلفاء؟

وأيضاً: إذا كان هذا الحديث دليلاً على عدم الإستحقاق فالحديث المفترى الموضوع في حقّ الشيخين - المذكور سابقاً - دليل على عدم استحقاقهما كذلك فيكون ضرر هذا الهذر على الأعور من نفعه أكثر

٢٢١

لكنّه لم يكتف بهذا، بل جعل - في الوجه الثالث - يطعن في أمير المؤمنين وخلافته وشيعته فهل له من توجيةٍ معقول وتأويلٍ مقبول؟

في كلامه مطاعن لعلي أمير المؤمنين

لقد اشتملت عبارته على التشنيع والطّعن من وجوه:

١ - قوله: إن الرافضة لو عقلت ما ذكروا هذا الحديث حجة على استحقاق علي. يدل هذا الكلام على أنّ ذكر هذا الحديث والإحتجاج به على استحقاق الإمام يخالف العقل، ويدلّ على حمق وسفاهة ذاكره والمستدل به والحال أن ( الدهلوي ) يصرّح بأنّ هذا الحديث دليل - عند أهل السنة - على فضل الأمير وصحة إمامته في حينها، لدلالته على استحقاقه لها فيكون طعن الأعور متوجهاً إلى الشيعة والسنة معاً

٢ - قوله: « لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف، ولم يحصل من استخلاف هارون إلّا الفتنة العظيمة والفساد الكبير بعبادة بني إسرائيل العجل » تعليلٌ لنفي العقل عن الشّيعة باستدلالها بالحديث وهو يزعم أنّ نتيجة هذا التشبيه وقوع الفتنة والفساد الكبير من استخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما حصل ذلك بزعمه من استخلاف هارون.

٣ - قوله: « حتى أخذ موسى برأس أخيه يجرّه إليه » معناه: أنّ هارون كان هو السّبب فيما حصل، ولذلك فعل به موسى ذلك. وإنّما ذكر هذا لإثبات مزيد الطعن واللّوم على أمير المؤمنين، كما هو واضح.

٤ - قوله: « وكذلك حصل من استخلاف علي أيضاً، لما عرفت » تصريح بترتب كلّ ذلك الذي ترتب على استخلاف هارون بزعمه، على استخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٢٢٢

٥ -قوله: « أيضاً » تأكيد لحصول ما ذكر كما لا يخفى.

٦ - قوله: « لما عرفت من قتل المسلمين يوم الجمل والصفين » تصريح بالمراد والمقصود من « الفتنة العظيمة والفساد الكبير » في كلامه.

٧ - قوله: « ووهن الإسلام » يدل على أنّ قتالهعليه‌السلام الناكثين والقاسطين والمارقين كان سبب وهن الإسلام وضعف دين خير الأنامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ - قوله: « حتى طعنت الأعداء » معناه الإعتناء والإعتبار بطعن من طعن على أمير المؤمنينعليه‌السلام في قتاله لأولئك الذين قاتلهم

في كلامه تناقضات

وأمّا قوله: « وإنْ لم يكن لا لوم على علي » فإنّه إنما قاله أخيراً لرفع اللّوم على الإمامعليه‌السلام وبغضّ النظر عن كون عبارته ركيكةً - لأن نفي النفي إثبات - فإنّه هذه الجملة لا تجبر ما تفوَّه به أوّلاً في الطعن واللوم والتشنيع على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل غاية الأمر وقوع التهافت والتناقض في كلامه صدراً وذيلاً، وذلك ليس ببعيد من هؤلاء النصّاب، بل ذلك شأن جميع المبطلين الأقشاب

وتناقضه غير منحصر بهذا، ففي كلامه هنا تناقضات، وبيان ذلك:

إنّه قد صرّح في الوجه الأوّل بأنّ هذا الحديث إنّما قيل تسليةً لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: « الأول: إنه قيل تسليةً لعلي لا تنصيصاً عليه » وقال: « فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم تسليةً: أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى ». ثم ناقض نفسه في الثاني فادّعى إنه دليل على نفي استحقاقه الإمامة والخلافة، ثم ادّعى في الثالث ترتّب الفساد العظيم على

٢٢٣

استخلافه فهذا تناقض، لأنه إن كان دليلاً على نفي الإستحقاق وكان دليلاً على حصول الفساد الكبير، فلا تحصل التسلية لعليٍّ ولا دفع إرجاف المنافقين في المدينة به، بل بالعكس، يكون الحديث - بناءً على ما ذكره - تأييداً وتصديقاً لما زعمته المنافقون، وتصحيحاً لطعن الطاعنين فيه.

وأيضاً: إنّه - وإنْ بلغت عداوته في الوجه الثالث إلى أقصى الغايات - اعترف بدلالة الحديث على الخلافة، حيث قال فيه: « لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف » فهذا الكلام نصٌّ صريح في الدّلالة على ذلك، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبّه أمير المؤمنين بهارون في الإستخلاف، وظاهر أن ليس مراد الأعور من هذا الإستخلاف هو الإستخلاف حال الحياة لعدم وقوع أي فتنةٍ أو فساد حينذاك، فالمراد هو الإستخلاف بعد المماة. وإذْ ثبت تشبيه النبي علياً بهارون في الإستخلاف بعد المماة ثبت دلالة الحديث على الخلافة بالبداهة وإذا كان هذا حاصل كلامه في الوجه الثالث، فقد ناقض مدّعاه حيث نفى الدلالة على الخلافة قائلاً: « لا دلالة فيه على إمامة علي ».

وأمّا الأشياء الأخرى التي زعمها في ذاك الوجه - أعني الثالث - فهي لا تدلّ إلّاعلى كفره ونفاقه

وقال نجم الدين خضر بن محمد بن علي الرازي في ( التوضيح الأنور بالححج الواردة لدفع شبه الأعور ) في هذا المقام:

« وجه الشبه هو القرب والفضيلة، لا ما توهّمه من الفساد الكبير والفتنة العظيمة، وإلّا لم يكن تسليةً بل مذمة وتخطئة، وهو باطل بالإجماع. على أن الفتنة والفساد لم يحصل من نفس الإستخلاف بل من أهوائهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، وإلا لكان القدح في النبي المستخلف.

وعلي ما قتل إلّا البغاة الناكثين والقاسطين والمارقين، عملاً بقول رب

٢٢٤

العالمين:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) . ووهن الإسلام من فعل المخالفين اللئام، وطعن الأعداء لقلّة بصارتهم ومتابعة الأهواء.

هذا، ولو علم الخارجي الأعور التائه في الضلال بحقيقة مآل المقال ما قال ذلك، لأنه إذا كان عليعليه‌السلام كهارون وخلافته كخلافته، لزم أنْ يكون علي صاحب الحق، والمخالف مؤثراً عليه غيره بغير حق، كما أنّ هارون كان صاحب الحق وعبادة العجل التي آثروها على متابعته كان باطلاً. فيلزم منه بطلان الثلاثة الذين خلفوا لكونهم كالعجل المتّبع، ولا دخل لمحاربة علي، لأن وجه الشبه يجب أن يكون مشتركاً بين الطرفين والمحاربة ليست كذلك ».

وأيضاً: بين الوجهين الثاني والثالث تناقض، لأن مقتضى صريح الثاني كون الحديث دليلاً على نفي الإستحقاق، لأنه شبهه بهارون، وقد مات هارون في حياة موسى، فلا استحقاق للأمير للخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقتضى صريح الثالث كونه دالاً على خلافته، لكنْ ترتّب على خلافته فساد كبير وفتنة عظيمة كما زعم فالثاني ناف للخلافة والثالث مثبت، وبين النفي والإثبات تناقض كما هو واضح.

إفتراؤه على هارون

وبعد، فإنّ فظاعة كلمات الأعور في حقّ هارون غير خافية على العاقل الديّن لكنّا مزيداً للتوضيح نقول: إنّ ما ادّعاه من ترتّب الفتنة العظيمة والفساد الكبير على إستخلاف هارون بهتان عظيم وافتراء كبير، وتكذيب للكلام الإلهي الصريح في براءة هارون ممّا كان عند استخلافه وغياب موسى، فقد قال سبحانه وتعالى:( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ

٢٢٥

الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) (١) فإن الله يبرّىء هارون، والأعور يقول بأنّه هو السبب في عبادة بني إسرائيل العجل!!

ولقد أوضح المفسّرون من أهل السنة أيضاً واقع الأمر وحقيقة الحال حيث شرحوا القصة في تفاسيرهم:

* يقول النيسابوري: « ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحاً وإشفاقاً في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال، أمّا شفقته على نفسه فهي: إنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، اما الاقتال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم( يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) .

قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه، فقبل أنْ يطلق السامري بادره هارون فزجرهم عن الباطل أولاً بأنّ هذا من جملة الفتن، ثم دعاهم إلى الحق بقوله:( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) ومن فوائد تخصيص هذا الإسم بالمقام: أنهم إنْ تابوا عما عزموا عليه فإنّ الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثمّ بيّن أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال:( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) وهذا ترتيب في غاية الحسن »(٢) .

ويقول الرازي: « إعلم أنه قال ذلك شفقةً على نفسه وعلى الخلق، أمّا شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه موسى بقولهعليه‌السلام :( اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسىعليه‌السلام ، وذلك لا يجوز»(٣) .

____________________

(١). سورة طه: ٢٠، الآية ٩٠.

(٢). تفسير غرائب القرآن ٤ / ٥٦٦.

(٣). التفسير الكبير ٢٢ / ١٠٥.

٢٢٦

ويقول الرازي بتفسير الآية:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١) :

« فإن قيل: لمـّا كان هارون نبياً والنبي لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصّاه بالإصلاح. قلنا: المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله:( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) »(٢) .

ويقول النيسابوري: « وإنما وصّاه بالإصلاح تأكيداً وإطمئناناً، وإلّا فالنبي لا يفعل إلّا الإصلاح »(١) .

وتلخص: أنّ من كان قد شمَّ رائحة الإسلام لا يصدر منه ما صدر من الأعور، ولا يشك في ضلال هذا الرجل وكفره فإنّ الطعن على نبي من الأنبياء كفر حتى لو لم ينزل في شأنه شيء في الكتاب، فكيف إذا جاء في القرآن براءته؟ بل إنّ الطعن في هارون طعن في النبي موسى الذي استخلفه، بل طعن في الله سبحانه وتعالى الذي اصطفاهما لنبوّته ونعوذ بالله من ذلك كلّه

وإذ سقط ما ذكره هذا الرجل في طرف المشبَّه به - وهو هارون - سقط ما قاله في طرف المشبَّه وهو أمير المؤمنينعليه‌السلام . فإن ما وقع في زمان خلافته من قتال أهل الجمل وصفين وغيرهم لم يكن إلّا إصلاحاً وإصطلاحاً وكان بأمرٍ من الله ورسوله وهذا أيضاً ممّا اعترف به أكابر أهل السنة وأساطينهم، أخذاً بالأدلة الدالة عليه من الكتاب والسنة النبوية ولو أردنا استيفاء الأحاديث الواردة في هذا الشأن واستقصاء كلمات أعلام القوم فيه لطال بنا المقام واحتاج إلى كتابٍ برأسه، وسنذكر طرفاً منها بعد حديث « خاصف النّعل » إن شاء الله تعالى.

____________________

(١). سورة الأعراف: ٧، الآية ١٤٢.

(٢). التفسير الكبير ١٤ / ٢٢٧ والآية في سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.

(٣). تفسير غرائب القرآن ٣ / ٣١٤.

٢٢٧

كلام ابن تيمية في الجواب عن الحديث

ثم لينظر مَن يدّعي من علماء أهل السنة - ولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام خلافاً للنواصب إلى كلام ابن تيمية، الموصوف في غير واحدٍ من كتبهم ك‍ ( فوات الوفيات ) و ( الدرر الكامنة ) بالأوصاف الجليلة والألقاب الكبيرة، ليرى أن فيهم من يتفوّه بما يأبى الناصبي عن التفوّه به، وحينئذٍ لابدّ من الإقرار بأنّ كثيراً من علماء طائفته نواصب، بل هم أشد نصباً وأكثر عداوةً من النواصب وهذا كلام ابن تيمية في الجواب عن هذا الحديث:

« وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما سافر في غزوةٍ أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان بن عفان، وفي غزوة بني قينقاع بشير بن المنذر، ولمـّا غزا قريشاً، ووصل إلى الفرع استعمل ابن أم مكتوم. وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره

فلمـّا كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحدٍ في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه صلّى الله عليه وسلّم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلّف عنه إلّا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلّف الثلاثة الذين تيب عنهم.

ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من الإستخلافات المعتادة منه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لم يبق بالمدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً فكل استخلافٍ استخلفه في مغازيه مثل

٢٢٨

الإستخلاف في غزوة بدر وفي كلّ مرةٍ يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك. فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً.

فلهذا خرج إليه عليرضي‌الله‌عنه يبكي ويقول: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟

وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلّفه لأنّه يبغضه. فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم إني إنّما استخلفتك لأمانتك عندي، وأن ليس بنقص ولا غض، فإنّ موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى ليفعله بهارون؟ فطيّب بذلك قلب علي، وبيّن أن جنس الإستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلف يغيب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج معه جميع الصحابة.

والملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والإنتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، والمتخلف إذا لم يكن في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله، فظنّ من ظنّ أن هذا غضاضة من علي ونقص منه وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا يحتاج إلى كثير سعي واجتهاد، فكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم مبييناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضّاً، إذ لو كان نقصاً أو غضّاً لما فعله موسى بهارون.

ولم يكن هنا الإستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده. وأمّا استخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم فجميع العسكر كان معه، ولم يخلف بالمدينة غير النساء والصبيان إلّا معذور أو عاص.

٢٢٩

وقول القائل: هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا، هو كتشبيه الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء.

ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأسارى لمـّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل، قال: سأخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ومثلك يا عمر مثل نوح

فقوله لهذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى. أعظم من قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. فإنّ نوحاً وموسى وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون. وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كلّ شيء، لكن فيما دلَّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.

وكذلك هنا: إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق، وهو استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون.

وهذا الإستخلاف ليس من خصائص علي، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها. وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك إستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي ...، بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف علي.

بل كان ذلك الإستخلاف يكون على أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، وكانت الحاجة إلى الإستخلاف أكثر، وأنه كان يخاف من الأعداء على المدينة، فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفتحت مكة، وظهر الإسلام وعز، ولهذا أمر الله نبيهُ أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة

٢٣٠

تحتاج إلى من يقاتل بها العدو، ولهذا لم يدع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند علي من المقاتلة كما كان يدع بها في سائر الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلّهم »(١) .

النظر في كلامه والجواب عنه

قد ذكرنا كلام ابن تيمية في هذا المقام بطوله، وأنت إذا لاحظته رأيت أنّ الشيء الذي يدّعيه ويصرّ عليه هو محاولة إثبات: إنّ استخلاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنينعليه‌السلام على المدينة في غزوة تبوك كان أضعف من الإستخلافات الكثيرة المعتادة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة، وجعل يستدلّ لهذه الدعوى ويؤكّدها بأمور فيها كذب وفيها ما لا أساس له من الصحّة فهذا عمدة ما ادّعاه وأطنب فيه، حيث ذكر أنّه في كل مرّة « كان يخرج من المدينة كان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه، فلمـّا كان في غزوة تبوك فلم يتخلّف عنه إلّا النساء والصّبيان ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم كما كان يستخلف عليهم في كل مرّة، بل كان هذا الإستخلاف أضعف » فهذه دعواه.

وقد استدل لها بزعمه بقول أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: « فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً، فلهذا خرج إليه علي يبكي ويقول: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ ».

وإذا بينّا بطلان استدلاله، بقي ما ذكره دعوى فارغة غير مسموعة فنقول:

السبب في بكاء أمير المؤمنين عليه‌السلام

أمّا بكاء أمير المؤمنينعليه‌السلام فالسّبب فيه - بعد قطع النّظر عن أنّه

____________________

(١). منهاج السنة ٧ / ٣٢٦ - ٣٣١.

٢٣١

غير موجود فيما أخرجه الشيخان من أخبار القصّة وذلك قادح عند الرّازي، كما قال في حديث الغدير، فليكن هذا كذلك - هو: التألم ممّا قاله المنافقون في المدينة، والشّوق إلى ملازمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة كسائر الحروب والغزوات، وهذا صريح روايات القصة في جميع الكتب التي جاء فيها ذكر البكاء، فقد روى النسائي - كما سمعت سابقاً - عن مالك قال: « قال سعد بن مالك: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا على ناقته الحمراء وخلّف عليّاً، فجاء علي حتى تعدّى الناقة فقال: يا رسول الله زعمت قريش أنك إنما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكى علي، فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس: ما منكم أحد إلّاوله خابّة، يا ابن أبي طالب أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي »(١) .

وقال إسحاق الهروي في ( السهام الثاقبة ) في جواب الحديث:

« ثم أقول: قد ذكر أهل التحقيق من المحدثين في صدور هذا الكلام من سيد الأنام صلوات الله عليه إلى يوم القيام: إنه لمـّا توجه صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك استخلف عليّاًرضي‌الله‌عنه على المدينة وعلى أهل بيته، فجاء عليرضي‌الله‌عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باكياً حزيناً لكثرة شوقه إلى الغزاء وملازمة سيد الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه. فقال: يا رسول الله تتركني مع الأخلاف؟ فقالعليه‌السلام تسليةً له رضي الله تعالى عنه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي ».

فالعجب من ابن تيمية كيف يقلب هذا البكاء الذي يعدّ فضيلةً من فضائل الإمامعليه‌السلام إلى دليل على ضعف استخلافه على المدينة؟

____________________

(١). خصائص علي: ٧٧ رقم ٦١.

٢٣٢

السبب في قوله: أتخلّفني ...؟

وكذلك الحال في قولهعليه‌السلام : يا رسول الله أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ فإنه لما تألّم وتأذّى ممّا قالته قريش في استخلافه، قال هذا للنبي صلّى الله وآله وسلّم ليصدر منه كلام يكون جواباً قاطعاً عما قيل فيه، ولذا لمـّا قال له ذلك أجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كذبوا ».

وكما قال ابن تيميّة نفسه: « فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي ».

فإذن، لم يكن استخلافه إيّاه نقصاً عليه، ولم يكن هذا الإستخلاف ضعيفاً، ولم يكن قول الأمير ذلك وبكاؤه لهذا الذي زعمه ابن تيمية

وأيضاً قوله: « فكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم تبييناً أن جنس الإستخلاف » صريح في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع بقوله: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » توهّم أن استخلافه في المدينة يدل على نقصٍ فيه، وأفاد أنّه لو كان الإستخلاف دالاً على ذلك لما فعله موسى بهارون فهذا الكلام من ابن تيمية وجه آخر لإبطال استدلاله بالبكاء وقول: « أتخلّفني » على أنّ هذا الإستخلاف كان أضعف الإستخلافات، وهكذا يتضح وقوع التهافت والتناقض في كلماته.

لكنّه يدعي - مع ذلك كلّه - أنّ متوهّم هذا الوهم الذي دفعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمير المؤمنينعليه‌السلام نفسه فيقول: « وقول القائل: إذ جعله بمنزلة هارون إلاّفي النبوة. باطل، فإن قوله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيّب قلبه، لما توهم من وهن الإستخلاف ونقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له ».

لكنّها دعوى لا أساس لها ولا شاهد عليها.

٢٣٣

تأييد ابن تيمية إرجاف المنافقين وتناقضاته

وبالجملة، فإنّ هذا الرّجل يدّعي وهن إستخلاف النبي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويريد إثبات دعواه هذه بأباطيل وأكاذيب، وهو في الوقت ذاته يناقض نفسه ويقول بأنّ ما قاله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ينفي هذا التوهّم ويبطل هذه الدعوى ففي كلماته تناقض واضح ولكنْ لماذا هذا الإنهماك في تأييد إرجاف المنافقين بمولانا أمير المؤمنين وتقوية أكاذيبهم، ثم التناقض مرة بعد اُخرى؟

إنّه يقول: « فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا تخوينه ».

ثم يعود فيقول: « وذلك لأن المستخلف ». وظاهر أنَّ هذا الكلام ليس توضيحاً وبياناً للكلام السابق عليه وهو « فبيّن »، إذ لا مناسبة بين هذا الكلام وبين « وإنّما استخلفتك لأمانتك عندي » و « الإستخلاف ليس بنقصٍ ولا غض » و « الإستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته وتخوينه »

فالمشار إليه بقوله: « وذلك » إمّا ما ذكره من قبل من « أنّ هذا الإستخلاف أضعف » وإمّا إرجاف المنافقين وطعنهم في أمير المؤمنين.

فظهر أنّ ابن تيمية قد أغرق نزعاً في إثبات مزعوم المنافقين وتأييده بأن « الملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به ومعاونته لهم ويحتاجون إلى مشاورته ».

ثم أبطل كل هذا الذي نسجه بقوله: « فكان قول النبي ».

ثم عاد فقال: « ولم يكن هذا الإستخلاف كاستخلاف هارون » فأيّد طعن الطاعنين في استخلافهعليه‌السلام وردَّ على قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصراحة

٢٣٤

نسبة إلى الصحيحين كاذبة

ثم إنّ الحديث الذي استشهد به ابن تيمية في خلال كلماته قائلاً: « ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي » غير موجود في الصحيحين، وليس من أحاديثهما، كما لا يخفى على من راجعهما وهذا شاهد آخر على أنّ الرّجل لا وازع له حتّى عن الكذب الواضح الصّريح.

٢٣٥

العودُ إلى كلمات الدّهلوي

قوله:

وقالوا: إنّ هذه الخلافة ليست الخلافة المتنازع فيها حتى يثبت استحقاق تلك الخلافة بهذا الإستخلاف.

أقول:

قد عرفت أن هذا الذي نسبه ( الدهلوي ) إلى النواصب قد صرّح كبار علماء أهل السنّة من المحدّثين والمتكلّمين وسنأتي على هذه الشبهة فيما بعد بالتفصيل بما يقلع جذورها ويخجل المتفوّهين بها

ولا يخفى أنّ هذه شبهة في مقابل تمسّك أصحابنا بحديث المنزلة من حيث دلالة خصوص الإستخلاف لأمير المؤمنين على إمامته وخلافته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سنبيّن، وأمّا الإستدلال بهذا الحديث من الجهات والوجوه الأخرى التي يذكرها أصحابنا الإمامية من غير دخلٍ للإستخلاف، فلا تضرّ به هذه الشبهة الركيكة، لأن تلك الوجوه مبنيّة على إثبات ما كان لهارون من المنازل، لسيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة، والتي منها: الخلافة عن موسى بعد الوفاة، والأعلميّة، والأفضليّة، والعصمة، ووجوب الطّاعة وكلّ واحدة من هذه المنازل كافية لثبوت الإمامة والخلافة للإمام عليه الصّلاة والسلام.

وبغضّ النظر عن هذا، فإنّ هذه الخلافة - حتى وإنْ لم تكن الخلافة

٢٣٦

الكبرى - كافية للإستدلال كما سنبيّن، إذْ لنا أنْ نستصحب تلك الخلافة الجزئية - الثابتة في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى بعد وفاته، لعدم الدّليل على العزل، كما لم يكن دليل على تحديدها بزمنٍ خاص، وإذا صح استصحاب تلك الخلافة الجزئية - حسب الفرض - إلى بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبتت الخلافة الكبرى بالإجماع المركب، لأنّ خلافته على بعضٍ دون بعض مخالف لإجماع الاُمّة.

وبمثل هذا البيان تشبّث أهل السنّة لإثبات الخلافة الكبرى لأبي بكر، بزعم استخلاف النبي إيّاه في الصلاة، مع أنّ أصل الإستخلاف في الصلاة مدخول، وبعدم الثبوت بل ثبوت العدم معلول، فشتّان ما بين المقامين.

قوله:

فإنّ النبيعليه‌السلام قرّر في تلك الغزوة إلى محمد بن مسلمة أن يكون عاملاً في المدينة، وسباع بن عرفطة عسّاساً فيها، وابن اُم مكتوم إماماً للصّلاة في مسجده بإجماع أهل السير.

أقول:

في هذه العبارة كلام من جهتين:

نسبة إلى أهل السّير كاذبة

أمّا أولاً: فإنّ أهل السّير ذكروا أن الذي استخلفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة هو محمد بن مسلمة أو سباع بن عرفطة وسنذكر بعض عبائرهم. فهم مختلفون فيه، وكذا ذكر صاحب المرافض، أمّا هذا الذي ذكره ( الدهلوي ) فغير وارد في شيء من كتب السّير، بل هو افتعال منه.

٢٣٧

دعوى الإجماع منهم كاذبة

وأما ثانياً: فدعواه الإجماع منهم على ما نسبه إليهم، دعوى كاذبة باطلة جدّاً. ولنذكر طرفاً من كلماتهم لتوضيح الجهة الأولى، وأنْ لا إجماع منهم على ما ذكره، ولا يخفى أنّ الذي في كلمات جمع منهم هو الإستخلاف على الناس في المدينة المنوّرة، فمنهم من ذكر علياًعليه‌السلام فقط، ومنهم من ذكر غيره، فتردّد بين أحد الرجلين، ففي كلماتهم - بصورة عامة - دلالة على كذب ما زعمه ( الدهلوي ) من أن الإمام إنما استخلف على العيال فقط.

قال الحلبي: « وخلّف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه على ما هو المشهور، قال الحافظ الدمياطيرحمه‌الله : وهو أثبت عندنا. وقيل: سباع بن عرفطة. أي: وقيل: ابن أم مكتوم. وقيل: علي بن أبي طالب، قال ابن عبد البر: وهو الأثبت، هذا كلامه »(١) .

وقال الشامي: « قال ابن هشام: واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاريرضي‌الله‌عنه . قال: وذكر الدراوردي: إنه استخلف عام تبوك سباع بن عرفطة. زاد محمد بن عمر بعد حكاية ما تقدم: ويقال: ابن اُم مكتوم. قال: والثابت عندنا محمد بن مسلمة، ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها. وقيل: علي بن أبي طالب. قال أبو عمرو وتبعه ابن دحية: وهو الأثبت. قلت: ورواه عبد الرزاق في المصنف بسندٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص ولفظه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج إلى تبوك، إستخلف على المدينة علي بن أبي طالب»(٢) .

____________________

(١). السيرة الحلبية ٣ / ١٣١.

(٢). سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٥ / ٤٤٢.

٢٣٨

لم يستخلف النبيّ في تبوك على المدينة غير علي

أقول:

لقد ظهر أن التفصيل الذي ذكره ( الدهلوي ) غير مذكور في كتب السّير، ودعواه الإجماع كاذبة والحقيقة: إن النبي صلّى الله عليه آله وسلّم لم يستخلف على المدينة في عام تبوك غير علي.

وأمّا ذكر محمد بن مسلمة أو سباع أو غيرهما، فمن مفتريات المبغضين لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، السّاعين في إنكار فضائله ومناقبه، والذي يهوّن الأمر وجود التنافي بين رواياتهم وأقوالهم، فيما بينهم، فإن ذلك كافٍ لإسقاطها عن درجة الإعتبار. ويبقى خبر استخلاف الأميرعليه‌السلام بلا معارضٍ ومؤيَّداً باتّفاق الشيعة عليه، وعليه عبد الرزاق وابن عبد البر وابن دحية وغيرهم.

وقد روى خبر استخلافه وحده جماعة آخرون غير من ذكر، فرواه أبو الحسين ابن أخي تبوك عن طريق خيثمة بن سليمان بن الحسن بن حيدرة الإطرابلسي قال: « حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر قال: أخبرني قتادة وعلي بن زيد بن جدعان: أنهما سمعا سعيد بن المسيب يقول: حدثني سعد بن أبي وقاص:

إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج إلى تبوك استخلف عليّاً على المدينة، فقال: يا رسول الله، ما كنت أحب أن تخرج وجهاً إلّاوأنا معك. فقال: أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي »(١) .

____________________

(١). كتاب مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام لأبي الحسين عبد الوهاب الكلابي المعروف بابن أخي تبوك الموجود في آخر مناقب المغازلي: ٤٤٣.

٢٣٩

ورواه الطّبراني، فقد روى الوصابي في ( الإكتفاء ) « عن علي بن أبي طالب، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خلّفني على المدينة: خلّفتك لتكون خليفتي. قلت: كيف أتخلّف عنك يا رسول الله؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي. أخرجه الطبراني في الأوسط ».

ورواه أحمد والحاكم، ففي ( مفتاح النجا ): « أخرج أحمد والحاكم عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ».

كما روى الحاكم في ( المستدرك ) قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين: « إن المدينة لا تصلح إلّابي أو بك »(١) .

ونصّ عليه - عدا عبد الرزاق وأحمد والطبراني وابن عبد البر وابن المغازلي وابن دحية والشّامي - جماعة آخرون من أعلام الأعيان، أمثال: القاضي عياض، والسرّاج، والنووي، والمزي، وابن تيمية، والقسطلاني، والعلقمي، وابن روزبهان، وابن حجر المكي، ومحمد پارسا، وشيخ العيدروس وإسحاق الهروي، والبدخشاني، وولي الله الدهلوي، والرشيد الدهلوي وغيرهم.

قال القاضي عياض - كما في ( المرقاة ) -: « وليس فيه دلالة على استخلافه بعده، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك »(٢) .

وقال ابن عبد البر: « ذكر السرّاج في تاريخه: ولم يتخلّف - أي علي - عن

____________________

(١). مستدرك الحاكم ٢ / ٣٣٧.

(٢). المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٤.

٢٤٠

مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ قدم المدينة، إلّا تبوك، فإنه خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة وعلى عياله بعده في غزوة تبوك، وقال له: أنت منيّ بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي »(١) .

وقال النووي: « وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال لعليرضي‌الله‌عنه حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك »(٢) .

وقال المزي: « خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة وعلى عياله بعده في غزوة تبوك »(٣) .

وقال محمد پارسا: « قال الإمام تاج الدين الخدابادي البخاريرحمه‌الله في أربعينه، في الحديث الرابع في ذكر عليرضي‌الله‌عنه : والصحيح إنه أسلم قبل البلوغ، وروي هذا البيت عن عليرضي‌الله‌عنه :

سبقتكم إلى الإسلام طرّاً

غلاماً ما بلغت أوان حلمي

في أبياتٍ قال فيها:

محمد النبي أخي وصهري

وحمزة سيد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمّد سكني وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فمن فيكم له سهم كسهمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدراً وأحداً والخندق وبيعة

____________________

(١). الإستيعاب ٣ / ١٠٩٧.

(٢). المنهاج في شرح صحيح مسلم ١٥ / ١٧٤.

(٣). تهذيب الكمال ٢٠ / ٤٨٣.

٢٤١

الرضوان وخيبر والفتح وحنيناً والطائف وسائر المشاهد إلّاتبوك، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلفه على المدينة، وله في جميع المشاهد آثار مشهورة »(١) .

وقال القسطلاني: « ولا حجة لهم في الحديث ولا متمسّك لهم به، لأنه صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك »(٢) .

وقال ابن روزبهان: « والجواب: إن هارون لم يكن خليفة بعد موسى، لأنه مات قبل موسىعليه‌السلام ، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك »(٣) .

وقال الدياربكري: « وفي المنتقى: استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل: محمد بن مسلمة إنتهى. قال الدمياطي: استخلف محمد بن مسلمة وهو أثبت عندنا ممّن قال استخلف غيره. وقال الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب: لم يتخلّف علي عن المشاهد إلاّفي تبوك، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم خلّفه على المدينة وعلى عياله وقال له يومئذٍ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي. وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص. ورجّحه ابن عبد البر »(٤) .

وقال العلقمي: « وليس فيه دلالة على استخلافه بعده، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك »(٥) .

وقال ابن حجر المكي: « وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سائر

____________________

(١). فصل الخطاب: ٢٩١، في ذكر عليعليه‌السلام .

(٢). إرشاد الساري ٦ / ٤٥١.

(٣). إبطال نهج الباطل - مخطوط. انظر دلائل الصدق ٢ / ٣٨٩.

(٤). الخميس - حوادث السنة التاسعة.

(٥). الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير - مخطوط، حرف العين.

٢٤٢

المشاهد إلّاتبوك، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم استخلفه على المدينة وقال له حينئذٍ: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. كما مر »(١) .

وقال شيخ العيدروس: « وشهد مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سائر المشاهد إلّاتبوك، فإنه صلّى الله عليه وسلّم استخلفه على المدينة وقال له حينئذٍ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى »(٢) .

وقال ولي الله الدهلوي: « وفي غزوة تبوك كان خليفته صلّى الله عليه وسلّم على المدينة وحصلت له حينئذٍ الفضيلة العظمى: أنت مني بمنزلة هارون من موسى »(٣) .

وقال بجواب عبارات التجريد: « قوله: والمنزلة. إشارة إلى قصة تبوك: عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي.

واعلم: أن هذا الحديث لا يدلّ إلّاعلى استخلاف المرتضى على المدينة في غزوة تبوك وكان المرتضى مثل هارون في كونه من أهل بيت النبي، وفي النيابة عنه بحسب الأحكام المتعلّقة بأمارة المدينة، لا في أصل النبوة، فيكون هذا الحديث دالّاً على فضيلة للمرتضى من حيث نصبه حاكماً على المدينة واستحقاقه للحكومة والتشبيه بالنبي، لا في الأفضليّة من الشيخين »(٤) .

وكذلك قال الرشيد الدهلوي. وستأتي عبارته.

وقال إسحاق الهروي: « ثم أقول: قد ذكر أهل التحقيق من المحدّثين في سبب صدور هذا الكلام » إلى آخر عبارته وقد مضت كاملة.

____________________

(١). الصواعق المحرقة: ١٨٥.

(٢). العقد النبوي والسرّ المصطفوي - مخطوط، في فضائل علي.

(٣). قرّه العينين، في ذكر فضائل أمير المؤمنين.

(٤). قرة العينين، قسم الردّ على تجريد الاعتقاد، مبحث حديث المنزلة.

٢٤٣

فظهر - والحمد لله - من الروايات ومن تصريحات كبار أئمة القوم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستخلف في غزوة تبوك إلّا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فمن أن جاء القول باستخلافه فلاناً وفلاناً؟

إنْ هذا إلّا اختلاق؟!

لقد ذكر صاحب ( المرافض ) هذه الدعوى المرفوضة كما سمعت، وكذا المحبّ الطبري ناقلاً إيّاها عن ابن إسحاق، وستسمع كلامه والجواب عنه.

ويبقى دعوى نصب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماماً في الصلاة في مسجده غير علي، وهذا أيضاً لا يجوز التشبّث به، إذ لم يثبت صحّة هذا الخبر أصلاً، والإكتفاء بمحض الدعوى قبيح، بل إنّه بعد ما ثبت الولاية المطلقة لأمير المؤمنينعليه‌السلام على المدينة تسقط هذه الدعوى من الأساس، لأنّ الشيخ عبد الحق وصاحب المرافض يدّعيان منافاة هذه الإمامة لتلك الخلافة المطلقة، ولمـّا ثبتت الخلافة هذه بأخبارهم وتصريحات أكابرهم بطلت هذه الإمامة قهراً، وأمّا دعوى الإجماع من أهل السّير عليها فقد عرفت كونها كاذبة.

وأيضاً: ما في ( سبل الهدى والرشاد ) و ( إنسان العيون ) من دعوى استخلاف ابن ام مكتوم على المدينة - لا للإمامة في الصلاة فقط - منقوض ومردود بروايات استخلاف غيره، ويبطله كلمات أعاظمهم في استخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام . فاستبصر ولا تكن من الغافلين الذّاهلين.

قوله:

فلو كانت خلافة المرتضى مطلقة لم يكن لهذه الاُمور معنى.

٢٤٤

أقول:

قد عرفت أنّ هذا الذي تزعمه النّواصب هو قول العلماء الأعلام من أهل السنّة، إذ ينفون إطلاق خلافة المرتضى بصراحة، يقول صاحب ( المرافض ): « فعلم أن هذه الخلافة خاصة لا مطلقة، والكلام إنّما هو في المطلقة » وقال: « فلو كانت الخلافة المرتضوية مطلقة فلا معنى لنصب محمد بن مسلمة وابن ام مكتوم ».

وحينئذٍ تعرف أنّ ما ينقله ( الدهلوي ) عن النواصب صادر من صاحب ( المرافض )، فلو كان شك في نصب أئمة القوم فلا ريب في نصب صاحب ( المرافض ) باعتراف ( الدهلوي ).

ويقول الشيخ عبد الحق الدهلوي: « لو كانت هذه الخلافة مطلقة لفوّضت الإمامة إليه أيضاً » فهل من شكٍ في نصب هذا الشيخ المعدود من أئمة الحديث من أهل السنة؟

لكنّ أصل النّصب للإمامة في الصلاة وأصل استخلاف غير الإمامعليه‌السلام ، لا أساس له من الصحّة كما عرفت والحمد لله

قوله:

فظهر أنّ هذه الخلافة هي في مجرَّد اُمور البيت ورعاية الأهل والعيال.

أقول:

قد عرفت أنّ خلافتهعليه‌السلام على المدينة مطلقة، وأن هذا التخصيص باطلٌ وافتعال محض.

٢٤٥

جواب ما استدلّ به صاحب المرافض على تخصيص الخلافة

ولقد سبق ( الدهلوي ) في هذه الدعوى: المحبّ الطبري والشّيخ عبد الحق الدهلوي وصاحب المرافض، وقد استدل لها هذا الأخير في عبارته المتقدمة سابقاً بأمور:

الأوّل: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون عند مخرجه إلى غزوة تبوك باتّفاق الفريقين.

والجواب: إنه إنْ أراد إتفاق الفريقين على انحصار الحديث بهذا الوقت الخاص - وهو مخرجه إلى غزوة تبوك - وعدم ثبوت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله لعلي في غيره فهذا كذب، لورود هذا القول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخبار الفريقين قبل تبوك وبعده. وإنْ أراد مجرَّد إثبات وروده في هذا الوقت من غير نفي لوروده في غيره، فهذا لا يوجب حمل الحديث على الخلافة الخاصة، فضلاً عن الدلالة على التخصيص بالأهل والعيال.

الثاني: رواية أصحاب الحديث وأرباب السّير أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلفه عند مخرجه إلى تبوك على أهله وعياله في المدينة.

والجواب: قد عرفت كلمات أهل الحديث وأصحاب السير في هذا الباب، ورأيت تصريحاتهم باستخلافه على المدينة من غير تخصيص منهم الإستخلاف بالأهل والعيال.

الثالث: رواية البخاري ومسلم.

والجواب: إنّ ما رواه البخاري ومسلم لا دلالة فيه على تخصيص خلافتهعليه‌السلام بالأهل والعيال أبداً.

٢٤٦

أمّا أولاً: فلأن قيد « الأهل » من افتراءاته وليس في الصحيحين.

وأمّا ثانياً: فعلى تقدير التسليم، ليس ما افتراه مثبتاً لحصر الخلافة في الأهل كما لا يخفى.

وأمّا ثالثاً: فلأن جملة: « أتخلّفني في النساء والصبيان » الواردة في بعض طرق الصحيحين - لا كلها - لا يلزم الشيعة بها، واحتجاجهم بالروايات العارية عنها تام بلا كلام.

وأمّا رابعاً: فلأنّ هذه الجملة على تقدير التسليم بها لا تثبت الحصر في النّساء والصبيان، وسيجيء تقريره بواضح البيان.

الرابع: إسناد القول باستخلافه على الأهل والعيال إلى شرح المشكاة والصواعق وفصل الخطاب والمدارج والمعارج وحبيب السير وترجمة المستقصى وغيرها من الكتب.

والجواب: إنْ هذا إلّا إضلال وتخديع، لأن صاحب ( الصواعق ) لم يقيّد الإستخلاف بكونه في « الأهل »، بل ذكر في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام استخلافه على المدينة حيث قال: « وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سائر المشاهد إلاّتبوك، فإنه صلّى الله عليه وسلّم إستخلفه على المدينة وقال له حينئذٍ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. كما مر ».

وأشار بقوله « كما مر » إلى موضع ذكره استدلال الشيعة بهذا الحديث والردّ عليهم، فهناك أيضاً إعترف بالإستخلاف على المدينة وما أجاب بأنه كان على الأهل والعيال، وهذه عبارته:

« الشبهة الثانية عشر - زعموا أن من النص التفصيلي على علي قوله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج الى تبوك واستخلفه على المدينة: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي. قالوا: ففيه دليل على أنّ جميع المنازل

٢٤٧

الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي من النبي

وجوابها: إن الحديث إن كان غير صحيح - كما يقوله الآمدي - فظاهر، وإنْ كان صحيحاً - كما يقوله أئمة الحديث، والمعوّل في ذلك ليس إلّاعليهم، كيف وهو في الصحيحين - فهو من قبيل الآحاد، وهم لا يرونه حجةً في الإمامة، وعلى التنزيّل فلا عموم له في المنازل، بل المراد ما دلّ عليه ظاهر الحديث: إنّ عليّاً خليفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة غيبة بتبوك، كما كان هارون خليفةً عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة

فعلم ممّا تقرّر أنه ليس المراد من الحديث، مع كونه آحاداً لا يقاوم الإجماع، إلّا إثبات بعض المنازل الكائنة لهارون من موسى، والحديث وسببه سيلق يبنيان ذلك البعض، لما مرَّ أنّه إنما قاله لعلي حين استخلفه، فقال علي كما في الصحيح: أتخلّفني في النساء والصبيان. كأنه استنقص تركه وراءه، فقال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. يعني: حيث استخلفه عند توجّهه إلى الطور، إذ قال له:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) .

وأيضاً، فاستخلافه على المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كلّ معاصريه افتراضاً ولا ندباً، بل كونه أهلاً لها في الجملة وبه نقول.

وقد استخلف صلّى الله عليه وسلّم في مرارٍ أخرى غير علي، كابن اُم مكتوم، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده »(٢) .

هذه عبارة ( الصواعق ) فأين الذي ادّعاه صاحب ( المرافض ) وأحال إليه؟ بل لقد كرّر التّصريح باستخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام على المدينة.

وكذا صاحب ( فصل الخطاب ) وقد تقدمت عبارته آنفاً.

وصاحب ( حبيب السّير ) وإنْ عبّر في أوّل كلامه بالإستخلاف في « الأهل

____________________

(١). الصواعق المحرقة: ٧٣ - ٧٤.

٢٤٨

والعيال » لكنه في آخره صريحٌ في أنه كان « في أهالي تلك البلدة »(١) .

وأمّا الشيخ عبد الحق فقد تكلّمنا على تخصيصه هذه الخلافة بكونها « في الأهل والعيال » وظهر بطلانه من نصوص كبار أئمة الحديث والسّيرة، وثبت أنّه من أكاذيب النواصب وأتباعهم

قوله:

ولمـّا كانت هذه الأمور موقوفةً على المحرمية والإطلاع على المستورات فلا بدَّ من تعيّن الابن أو الصهر وأمثالهما لذلك في أيّ حالٍ كان.

أقول:

إنّ بطلان هذه الخرافة واضح بالدلائل القاهرة والبراهين الظاهرة والشواهد الباهرة التي سنذكرها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى وكلّ ذلك يفيد أنّ هذا الإستخلاف كان شرفاً عظيماً ومقاماً رفيعاً لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأن له من الأجر مثل ما كان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشير إلى جلالة هذه الخلافة وعظمتها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن المدينة لا تصلح إلّابي أو بك ».

فدعوى تعيّن الإبن أو الصّهر أو أمثالهما لهذا الأمر مهما كان حاله، كذب محض وبهتان صرف

قوله:

فلا يكون دليلاً على الخلافة الكبرى.

____________________

(١). حبيب السير، في غزوة تبوك.

٢٤٩

أقول:

سيتّضح دلالة هذا الإستخلاف على الإمامة العظمى والخلافة الكبرى عن قريب إن شاء الله، فكن من المتربّصين. مضافاً إلى أنّ هذا الحديث يدل على الإمامة من وجوه عديدةٍ أخرى، كما سنبيّن فيما بعد إن شاء الله تعالى.

قوله:

وقد أجاب أهل السنّة - بفضل الله تعالى - عن قدحهم هذا بأجوبةٍ قاطعةٍ مذكورة في مواضعها.

أقول:

ما رأينا من كبار علماء أهل السنة - في مختلف كتبهم في الحديث والكلام والسّيرة - إلّاتسويلات لهم في نفي دلالة هذا الحديث الشريف على خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإلّا تصديقات منهم لمقالات النواصب اللئام، وما ندري من أولئك الذين أجابوا عن قدح النّواصب؟ وما هي تلك الأجوبة الدّامغة القاطعة؟! وأين هي؟

وإذْ لم يذكر ( الدهلوي ) اسم واحدٍ من هؤلاء، ولا نصّ جواب من تلك الأجوبة!! فليتفضّل علينا أولياؤه بذكر ذلك.

لكنّ العجب من ( الدهلوي ) لماذا يورد قدح النواصب ولا يورد بعده ولا واحداً من تلك الأجوبة؟! وليته فعل لئلّا يعيَّر بكونه مؤيّداً للنواصب؟!

٢٥٠

قوله:

وهذا البيان الذي ذكرناه هو كمال التنقيح والتهذيب لكلام الشيعة في طريق التمسّك بهذا الحديث، وإلّا، فمن لحظ كتبهم رأى التشتّت الشديد في كلماتهم، وأنهم لم يتوصّلوا إلى واقع المطلب.

دعوى الدهلوي تنقيح كلام الشيعة في المقام والجواب عنها

أقول:

قال تعالى:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ) .

العجب كلّ العجب إنه يعرض عن ذكر كثير من تحقيقات الشيعة، ويقصّر في نفس هذا التقريب الذي أخذه عنهم، ومع ذلك يدّعي التهذيب والتنقيح لكلامهم، تخديعاً للعوام، وكأنّه تفضّل على الشيعة ونقّح تبرّعاً منه كلماتهم المشوّشة المضطربة في هذا المقام؟!

العجب من هذا الرجل يدّعي هذا وقد رأيناه في كثيرٍ من المواضع لم يفهم مقاصد الشيعة في استدلالاتهم، وأنّه تصرّف في كلماتهم تصرّفاً يسهل معه الجواب عنها، وطالما أعرض عن إشكالاتهم القوية ونقوضهم واعتراضاتهم المتينة لعجزه عن حلّها ...؟!

نعم لقد ترك ( الدهلوي ) كثيراً من تقريرات وتحقيقات الشيعة في الإستدلال بهذا الحديث، وله في تحرير هذا الإستدلال الذي أورده تقصيرات عديدة، ولا يخفى على الخبير صدق هذه الدعوى التي ندّعيها عليه، وذلك:

لأنّه أضاف قيداً من عنده إلى الحديث في نقله عن الصّحيحين

وذكر اللّفظ الذي فيه جملة « أتخلّفني في النساء والصّبيان » التي يتمسّك

٢٥١

بها النواصب لدى قدحهم مع خلوّ لفظ الروايات العديدة عن هذه الجملة

ولم يتعرّض لتواتر الحديث مع تصريح جماعة من جهابذة محقّقيهم به

بل لم يتعرّض لتعدّد طرقه في كتبهم

واكتفى برواية البراء بن عازب ونسبها إلى الصّحيحين، مع خلوّهما عن رواية البراء، وأنّ الذي فيهما هو من رواية سعد بن أبي وقاص.

وأعرض عن ذكر أسماء المحدّثين الأعلام الّذين رووه في كتبهم

وعن ذكر احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام به يوم الشورى، وما زالت الشيعة تذكره وتحتج به، لأنّه يفيد ثبوت الحديث ودلالته على فضيلة أمير المؤمنين عند الصحابة

ولم يتعرّض ( الدهلوي ) لورود هذا الحديث في مقامات عديدة ومواضع متفرّقة، مع أنّ في وروده في غير تبوك فوائد جليلة وإبطالاً لهفوات النواصب وأقوال إخوانهم.

ولأنّ هذا الحديث يدل على أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مع أن الشيعة يستدلّون على ذلك بهذا الحديث أيضاً، وثبوت أفضليته كافٍ لثبوت خلافته بلا فصل.

ولأنَّ الشيعة تستدل بأنّه - مضافاً إلى حصول الخلافة لهارون عن موسى بمفاد قوله:( اخْلُفْنِي ) - قد حصل لهارون مرتبة فرض إطاعته ووجوب اتّباعه، وهذه المرتبة لم تكن موقتةً بوقتٍ، فلا بدّ وأن يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام المشبَّه بهارون مفترض الطاعة في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته، من غير تخصيص بوقت. وهذا الوجه لم يتعرض له ( الدهلوي ) في ( التحفة ) وهو وإن تعرّض له في حاشيتها، لكنْ لم يبيّن وجه مرجوحيّته ممّا ذكره في المتن.

٢٥٢

ولإستدلال الشيعة بعموم المنازل بوجوه عديدة، كما ذكر الفخر الرازي أيضاً ثلاثة وجوه لإثبات عموم المنازل حيث قال في ( نهاية العقول ): « فاعلم أنهم ساعدوا على أنه ليس في الحديث صيغة عموم يدل على ذلك، لكنّهم بيّنوا ذلك من وجوه ثلاثة، الأول: أن الحكيم » لكنّ ( الدهلوي ) لم يورد هذه الوجوه.

ولإستدلال الشيعة لإثبات خلافة هارون بالآية: و( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١) وأنّها تدلّ على خلافته المطلقة. و ( الدهلوي ) لم يذكر هذا الإستدلال، وادّعى زوال خلافة هارون بزعم تقيّدها بمدة محدودة.

ولإستدلال الشّيعة لبقاء خلافة هارون باستصحاب خلافته الثابتة حتى يأتي الرافع اليقيني لها.

إلى غير ذلك ممّا أفاده علماء الشيعة الأعلام، كما لا يخفى على ناظر كتبهم، مثل ( الشافي ) و ( بحار الأنوار ) و ( حق اليقين ) و ( إحقاق الحق ) وأمثالها، من التحقيقات الوافية الشّافية في ردّ تشكيكات المخالفين ودفع شبهاتهم

وإنّ من له أدنى تتّبع لكتب الشيعة مثل كتاب ( الشّافي ) لا يتمالك نفسه من الضّحك على ما ادّعاه ( الدهلوي ) من أنّ كلمات القوم في هذا المقام مضطربة مشوّشة، وأنّه قد هذّبها ونقّحها غاية التنقيح

ثمّ إنّ ( الدهلوي ) يذكر وجه الإستدلال عن الشيعة بقوله: « قالت الشّيعة » ثم يقول إنّ هذا التقريب منه وإلّا فكلمات الشيعة مبعثرة مشوّشة وهذا تناقض

وأيضاً، فهذا القدر من الإستدلال الذي ذكره موجود بعينه في كلمات الشيعة، فأين التنقيح والتهذيب؟

وعلى الجملة، فإنّ دعواه تنقيح كلام الشيعة وتهذيبه كاذبة، أللهم إلّا أن

٢٥٣

يقصد « التحريف » من « التهذيب » فهذا صحيح، لأنّ الشيعة لما تستدل بالحديث تنقله عن الصّحيحين، و ( الدهلوي ) حرّف لفظه فيهما لدى نقله عنهما بإضافة كلمة « أهل البيت والنساء والبنات » إليه.

ذكره في الحاشية ثاني وجهي الإستدلال وعجزه عن الجواب

هذا، وكأنّ ( الدهلوي ) ندم على ما نسب إلى الشيعة من اضطراب كلامهم وتشتّته في هذا المقام، فاضطرّ في حاشيته على كتابه إلى ذكر ثاني وجهي الإستدلال بهذا الحديث، المذكور في شرح المواقف وغيره، وقال بأنّ هذا الوجه هو المشهور في الإستدلال بهذا الحديث عندهم - يعني الشيعة - واكتفى في التالي بأنْ قال: « ولا يخفى ما فيه ». وهذه عبارته في الحاشية:

« المشهور في الإستدلال بهذا الحديث عندهم هو: إنّ من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكاً له في الرسالة، ومن لوازمه استحقاق الطاعة بعد وفاة موسى لو بقي، فوجب أن يثبت ذلك لعليرضي‌الله‌عنه ، إلّا أنه امتنع الشركة في الرسالة، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، عملاً بالدليل بأقصى ما يمكن.

ولا يخفى ما فيه ».

أقول:

لا يخفى أنّ هذا الوجه أحد وجوه دلالة هذا الحديث.

وأيضاً: إن هذا الذي ذكره بعض الوجه الذي قصده لا كلّه، لأنّ علماء الشيعة يثبتون أوّلاً عموم أفراد المنزلة بوجوه شتّى، ثم يثبتون كون الإمامة من منازل هارونعليه‌السلام ، مرةً بجهة الإستخلاف على بني إسرائيل وعدم العزل منه، ومرة بشركته لموسىعليه‌السلام في افتراض الطاعة

٢٥٤

وقد ذكر هذا الإستدلال بهذه الكيفية عن الشيعة في كتب غير واحدٍ من أهل السنة، كنهاية العقول وشرح المواقف والصّواعق وغيرها

قال في ( الصواعق ): « الشبهة الثانية عشرة: زعموا أنّ من النص التّفصيلي على علي قوله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي. قالوا: ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإلّا لمـّا صحّ الإستثناء، وممّا ثبت لهارون من موسى استحقاقه للخلافة عنه لو عاش بعده، إذ كان خليفة في حياته، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان النقص فيه، وهو غير جائز على الأنبياء.

وأيضاً: فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة، ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقي بعده، فوجب ثبوت ذلك لعلي، إلاّ أنّ الشركة في الرسالة ممتنعة في حق علي. فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، عملاً بالدليل بأقصى ما يمكن»(١) .

ثم إن ما ذكره ( الدهلوي ) في الحاشية هو نقل ألفاظ شرح المواقف بعينها، لكنّه الوجه الثاني المذكور بعد الوجه الأول فيه كالصّواعق. وهذه ألفاظ ( شرح المواقف ):

« الثاني من وجوه السنّة: قولهعليه‌السلام لعلي حين خرج إلى غزوة تبوك واستخلفه على المدينة: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي. فإنه يدل على أنّ جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي من النبي صلّى الله عليه وسلّم. إذ لو لم يكن اللفظ محمولاً على كلّ المنازل لما صحّ الإستثناء. ومن المنازل الثابتة لهارون من موسى استحقاقه

____________________

(١). الصواعق المحرقة: ٧٣.

٢٥٥

للقيام مقامه بعد وفاته لو عاش هارون بعده، وذلك لأنّه كان خليفةً لموسى في حياته، بدليل قوله:( اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١) . لا معنى للخلافة إلّا القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرّفات، فوجب أن يكون خليفةً له بعد موته على تقدير بقائه، وإلّا كان عزله موجباً لنقصه والنفرة عنه، وذلك غير جائز على الأنبياء، إلّا أنّ ذلك القيام مقام موسى كان له بحكم المنزلة في النبوة، وانتفى هاهنا بدليل الإستثناء.

قال الآمدي: الوجه الثاني من وجهي الإستدلال بهذا الحديث هو: إنّ من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكاً له في الرسالة، ومن لوازمه إستحقاق الطاعة بعد وفاة موسى لو بقي، فوجب أنْ يثبت ذلك لعلي، إلّا أنه امتنع الشركة في الرسالة، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الاُمّة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، عملاً بالدليل بأقصى ما يمكن »(٢) .

وبعد، فلقد كان على ( الدهلوي ) - بعد أن أورد الوجه الذي أورده - أنْ يبيّن موضع التشويش والإضطراب فيه، وأن يبيّن السّبب في عدم ذكر الوجه الأول معه، والسبب في ترجيح هذا الوجه على ذاك في الذكر، والسّبب في عدم ذكره إياه في المتن ومرجوحيته التي اقتضت إيراده في الحاشية ولكنه اكتفى بقوله: « ولا يخفى ما فيه »، وهل هذا كاف؟!

قوله:

ومع ذلك، ففي هذا التمسّك اختلال من وجوه كثيرة.

أقول:

لم يذكر من هذه الوجوه الكثيرة!! إلّا ثلاثة وجوه شحنها بالهفوات العظيمة العثار، والعثرات البادية العوار والله الموفّق للهداية والإستبصار.

____________________

(١). شرح المواقف ٨ / ٢٦٢.

٢٥٦

دلالة الحديث

على عموم المنزلة

٢٥٧

٢٥٨

قوله:

الأول: إنّ اسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين.

أقول:

إنّ ( الدهلوي ) مع رئاسته في العلوم!! وجلالته العلمية بين الناس!! يكتفي بمحض الدعوى، بل بالكذب والتسويل!! وينكر الأمور الواضحة والقضايا الثابتة والقواعد المقرّرة!!

إنّ دلالة « المنزلة » المضافة على العموم ثابتة - والحمد لله - بحيث لا يعتريها أيّ شك، ولا يشوبها أيّ شبهة

لقد نصّ أكابر المحقّقين وأئمة الأصول المعتمدين على أنّ صحّة الإستثناء دليل العموم، وبهذا الدليل يثبتون عموم صيغ العموم.

صحّة الإستثناء دليل العموم

ولفظ « المنزلة » مضاف، ولو كان مضافاً إلى علمٍ، فيصحّ الإستثناء منه بالقطع واليقين، لجواز أنّ يقال: « زيد بمنزلة عمرو إلّافي النسب » و « بكر بمنزلة خالد إلّافي العلم » وهكذا

وهذا الحديث كذلك، إذ « المنزلة » فيه مضافة إلى العلم، فيدلُّ على العموم بلا ريب وبالأخص لفظ « المنزلة » الوارد في هذا الحديث يصح الإستثناء

٢٥٩

منه بالقطع واليقين لأنّه لو كان الحديث: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا النبوة » أو « إلّا الأخوة النسبية » أو ما شابهه لكان صحيحاً بلا ريب كما أنّ لفظ « إلّا النبوة » وارد كما سبق وسيأتي ومع ذلك فالإستثناء بـ « إلّا أنّه لا نبي بعدي » استثناء متّصل كما سيتّضح عن قريب.

وإليك بعض الشواهد على دلالة صحّة الإستثناء على العموم عند الأصوليين من كلمات بعض أئمتهم:

قال البيضاوي: « ومعيار العموم جواز الإستثناء، فإنّه يخرج ما يجب اندراجه لولاه، وإلّا لجاز من الجمع المنكّر »(١) .

وقال الفرغاني العبري بشرحه: « لمـّا بيّن صيغ العموم على اختلاف مراتبها فيه، شرع في الإستدلال على أنها عامّة بوجهين، وجه يشمل الصيغ كلّها ووجه يخصُّ بعضها. أمّا تقرير الوجه العام لجميع الصيغ فهو أن نقول: لو لم يكن كلّ واحدٍ من هذه الصيغ المذكورة عامّاً لما جاز عن كلٍّ منها استثناء كل فرد منه، لأنّ الإستثناء عبارة عن إخراج شيء من مدلول اللّفظ، يجب إندراجه فيه لولا الإستثناء، فلو لم يكن كل واحد من هذه الصيغ عاماً لم يجب اندراج كلّ فرد فيه بدون الإستثناء، وإذا لم يجب لم يجز الإستثناء، إذ لا حاجة حينئذٍ إلى الإخراج، لكن جاز الإستثناء في كل فردٍ من هذه الصيغ اتفاقاً، مثلاً يصح أنْ يقال: من دخل داري إلّازيداً فأكرمته، وكذلك في البواقي، فيكون هذه الصيغ عامة وهو المطلوب.

وإنما قلت: إنّ الإستثناء عبارة عن إخراج ما لولاه لوجب دخوله، لأنّه لو لم يكن عبارة عن ذلك لكان عبارةً إمّا عمّا لولاه لامتنع دخوله فيه، وإنه باطل ضرورةً. أو عن إخراج ما لولاه لجاز دخوله فيه وإنّه باطل أيضاً، إذ لو كان

____________________

(١). منهاج الوصول في علم الأصول.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418