نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٨

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 421

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 230181
تحميل: 5214


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 230181 / تحميل: 5214
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول:

لكن هذه الدعوى أيضاً لا ترفع الإشكال.

لأنه إن كان المراد من حصول النبوة بالإستقلال لهارون في حياة موسى، حصول وصف زائد له على شركته مع موسى في النبوة، بعد عزله عن الخلافة عنه، فهذا مخدوش:

أوّلاً: بأنّه لا دليل لهم على أنه بعد عزله عن الخلافة لموسى حصل له وصف زائد على شركته لموسى في النبوّة.

وثانياً: بأنّ هذه الدعوى واضحة البطلان، إذ لا يجوّز عاقل أن يكون هارونعليه‌السلام قبل الخلافة عن موسى تابعاً لموسى وشريكاً له في النبوة، ويكون بعد عزله عن الخلافة الصريح في الدلالة على النقص والتنفير في مرتبةٍ أعلى من وصف التبعيّة، وهي مرتبة النبوة المستقلة.

وإن لم يكن المراد من الإستقلال في النبوة مع موسى والتبعية له، فأين العود إلى مرتبة أعلى وأشرف، حتى يرتفع به إشكال النقص والتنفير الحاصل بالعزل به عن الخلافة؟

ولعلّ الإصفهاني إلتفت إلى أنْ لا جدوى لسلوك هذا الطريق لرفع إشكال التنفير، فلذا عدل في ( شرح الطوالع ) عمّا ذكره في ( شرح التجريد ) وسلك طريقاً آخر فقال:

« ولئن سلّم أنّ ذلك - أي عدم خلافة هارون بعد وفاة موسىعليهما‌السلام على تقدير حياة هارونعليه‌السلام - عزل، ولكنْ إنما يكون نقصاً له إذا

٢١

لم يكن له مرتبة أعلى من الإستخلاف، وهي الشركة في النبوّة »(١) .

فجعل الرافع للنقص والتنفير الحاصل بالعزل: الشركة في النبوة.

لكن هذه الشركة في النبوة كانت حاصلةً له قبل الإستخلاف، وبعد العزل المزعوم، فأين العود إلى مرتبة أعلى ترفع النقص الحاصل بسبب العزل؟

خلاصة الكلام في هذا المقام

وتلخّص من جميع ما ذكرنا:

١ - إن العزل عن الخلافة نقص وعيب ومنفّر.

٢ - إن المنفّر لا يجوز حصولة بالنسبة إلى النبي، لما تقرّر من أنّ النبي يجب أن يكون سالماً عن جميع المنفّرات.

٣ - إن جميع ما ذكروه لرفع إشكال حصول المنفّر عن هارونعليه‌السلام - بسبب ما زعموه من عزله عن خلافة موسى - غير رافع للإشكال.

أمّا التمثيل بعادة السلاطين، فقد عرفت ما فيه.

وأمّا أنّ النبوة المستقلة الحاصلة لهارون ترفع النقص والعيب الحاصل بعزله، فقد رأيت اضطرابهم في بيان ذلك، فتارةً جعلوا العزل مقارناً للرجوع من الطّور وحصول النبوة بعد موسى.

واُخرى: جعلوا العزل بعد وفاة موسى لا عند رجوعه من الطور.

وثالثة: جعلوا العزل في حياة موسى وحصول النبوة في حياته أيضاً.

ورابعة: جعلوا مجرد الشركة في النبوة رافعاً للنقص الحاصل بسبب العزل.

والكلّ - كما رأيت - بمعزلٍ عن الصواب، مستغرَب غاية الإستغراب عند اُولي الألباب.

___________________

(١). شرح الطّوالع - مخطوط.

٢٢

وبقي وجه آخر ذكره ( الدهلوي ) وهو:

قوله:

بل هو نظير أنْ يعزل نائب الوزير - بعد موت الوزير - ويجعل وزيراً مستقلاً.

أقول:

لكنه سخيف جداً.

أمّا أوّلاً: فوزارة نائب الوزير - بعد موت الوزير - ليست عزلاً، بل ترفيع في المرتبة ورفعة في المقام.

وأمّا ثانياً: إن صرفه عن النيابة وجعله وزيراً مستقلّاً يكون في وقت واحدٍ تقريباً ومن غير فاصلٍ زماني، ولذا لا يكون ذلك الصرف عن النيابة إهانةً تستلزم التنفير. وإنما يتحقق الإهانة والتنفير فيما لو عزل عن النيابة ولم ترتفع درجته بالحصول على الوزارة.

وبهذا تعرف أن التنظير بين ما ذكره وبين ما نحن فيه سخيف جدّاً فإنهم يدّعون تحقق « العزل » لهارونعليه‌السلام ، ويقولون إن هذا النقص كان يرتفع نبوّته الإستقلالية التي كانت تكون له لو قدّر بقاؤه حيّاً مدّة أربعين سنة وحتى بعد موت موسى!!

٢٣

٢٤

هل يجوز المنفّر على الأنبياء؟

٢٥

٢٦

وإنّ جميع ما ذكره القوم مبني على عدم جواز المنفّر على الأنبياءعليهم‌السلام فإنهم - بعد أن زعموا وقوع العزل عن الخلافة في حق هارون، وسلّموا كون العزل منقصة منفّرة، والمنفّرات غير جائزة على الأنبياء - انبروا لتوجيه هذا العزل وإخراجه عن كونه منفّراً

كلام شنيع للفخر الرازي

وقد عرفت أن الأصل - في أكثر ما ذكروه - هو الفخر الرازي في كتابه ( نهاية العقول ).

لكن الرازي ذكر وجهاً آخر - وكأنّه يعلم في قرارة نفسه أنّ جميع ما ذكره هو وغيره غير رافع للإشكال - استحيى مقلّدوه من ذكره لقبحه وشناعته وهو:

جواز التنفير في حق الأنبياءعليهم‌السلام ...!!

وهذه عبارته:

« ثم إنْ سلّمنا إنه منفّر مطلقاً، فلِمَ لا يجوز على الأنبياء؟

فإن المنع منه بناء على القول بالتحسين والتقبيح.

وقد مضى القول فيه ».

كلماتٌ في وجوب نزاهة الأنبياء عن المنفّرات

وإنّ هذا الكلام في الشناعة والفظاعة بحيث تقشعرّ منه الجلود وتتألّم القلوب، إنه كلام يتحاشى عن التفوّه به أطفال أهل الإسلام

٢٧

إذا كان يجوز على الأنبياء ما يوجب الإهانة والحقارة والمذلَّة لهم، ويستلزم تنفّر الطباع وابتعادها عنهم، فأيّ أثر لبعثهم؟ وأيّ فائدةٍ للشرائع التي يبعثون بها؟ فانظر إلى أيّ حدٍّ يصل بالقوم إصرارهم على إنكار فضائل أمير المؤمنين وتكذيبها!! إن العجز عن ردّ تلك الفضائل يلجؤهم إلى نسبة العيب والنقص إلى الأنبياء!! وإنّ الإلتزام بهذه الطامّات عندهم أسهل وأفضل من الإعتراف بفضل أمير المؤمنين!! إنّ كلّ هذه الأباطيل حول خلافة هارون، وكلّ تلك الإفتراءات على هارون نفسه، لأجل إبطال خلافة أمير المؤمنين المشبَّهة بخلافة هارون عن موسى؟!

فتسعاً لهؤلاء! كيف قادتهم العصبيّة إلى النار؟ واختاروا النار على الإقرار؟!

لقد نصّ شاه ولي الله الدهلوي في ( إزالة الخفا ) على وجوب اشتراك الخليفة مع النبي في جدّ الأعلى، كي لا ينظر الناس إلى الخليفة بعين التحقير

ونصّ ابن القيّم على وجوب نزاهة النبيّ من أن يكون له خائنة الأعين قال: « أي إن النبي لا يخالف ظاهره باطنه ولا سرّه علانيته، وإذا نفذ حكم الله وأمره لم يُومِ به، بل صرّح وأعلنه »(١) .

ونصّ ابن الهمام وابن أبي شريف على وجوب سلامة النبي من كلّ نقصٍ ومنفر. وهذا كلام ابن الهمام بشرح ابن أبي شريف:

« شرط النبوّة الذكورة، لأنّ الانوثة وصف نقص.

وكونه أكمل أهل زمانه عقلاً وخلقاً. بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام. حال الإرسال. وأما عقدة لسان السيد موسىعليه‌السلام قبل الإرسال فقد

___________________

(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ١٨٥.

٢٨

اُزيلت بدعوته عند الإرسال بقوله:( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) (١) كما دلّ عليه قوله تعالى( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) (٢) .

وأكملهم فطنةً وقوة رأي. كما هو مقتضى كونه سائس الجميع ومرجعهم في المشكلات.

والسلامة. بالرفع عطف على الذكورة. أي وشرط النبوة السلامة. من دناءة الآباء ومن غمز الاُمّهات. أي الطعن بذكرهنّ بما لا يليق من أمر الفروج.

والسلامة من القسوة. لأن قسوة القلب موجبة للبعد عن جناب الرب، إذ هي منبع المعاصي، لأن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما نطق به الحديث الصحيح. وفي حديثٍ - حسّنه الترمذي، ورواه البيهقي - إن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي.

والسلامة من العيوب المنفّرة منهم، كالبرص والجذام، ومن قلة المروّة، كالأكل على الطريق. ومن دناءة الصناعة كالحجامة، لأن النبوة أشرف مناصب الخلق مقتضية لغاية الإجلال اللائق بالمخلوق، فيعتبر لها انتفاء ما ينافي ذلك »(٣) .

وقال البزودي - في ( أصول عقائده ) - « وجه قول عامّة أهل السنّة والجماعة: إن الله تعالى بيَّن أن بعض الرسل حصل منهم ذنوب، ولا يستقيم أن يكون ذنوبهم عن قصد واختيار، فإنه لو كان كذلك لكان لا يؤمن منهم الكذب، فيؤدي إلى تفويت ما هو المقصود بالرسالة، ولأنه إذا كان يجيء منهم الذنوب قصداً نفر طباع الناس عنهم، فيؤدّي إلى أن لا يكون في بعث الرسل فائدة ».

وقال التفتازاني بشرح عقائد النسفي: « وأمّا الصغائر فتجوز عمداً عند

___________________

(١). طه ٢٠: ٢٧.

(٢). طه ٢٠: ٣٦.

(٣). المسامرة في شرح المسايرة في العقائد المنجمة في الآخرة.

٢٩

الجمهور، خلافاً للجبّائي وأتباعه، وتجوز سهواً بالإتّفاق، إلّاما يدلّ على الخسّة، كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة. لكن المحققين اشترطوا أن ينبَّهوا عليه فينتهوا عنه. [ هذا ] كلّه بعد الوحي. وأمّا قبله، فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة. وذهب المعتزلة إلى امتناعها، لأنها توجب النّفرة المانعة عن اتّباعهم، فتفوت مصلحة البعثة.

والحق منع ما يوجب النفرة، كعهر الاُمهات والفجور، والصغائر الدالّة على الخِسة »(١) .

وقال بشرح المقاصد: « خاتمة: من شروط النبوّة: الذكورة، وكمال العقل، والذكاء، والفطنة، وقوة الرأي - ولو في الصبى كعيسى ويحيىعليهما‌السلام -، والسلامة عن كل ما ينفّر، كدناءة الآباء وعهر الاُمهات، والغلظة، والفظاظة، والعيوب المنفّرة كالبرص والجذام ونحو ذلك، والاُمور المخلّة بالمروءة، كالأكل على الطريق والحرف الدنيّة كالحجامة، وكل ما يخل بحكمة البعثة من أداء الشرائع وقبول الامّة »(٢) .

وقال الشعراني: « كان إمام الحرمين رحمه ‌الله تعالى يقول: من جوّز وقوع الصغيرة من الأنبياء سهواً قيّدها بغير الدالّة على الخِسَّة »(٣) .

وقال القاري: « وأما الصغائر، فما كان منها دالّاً على الخِسَّة كسرقة لقمة، فلا خلاف في عصمتهم فيه مطلقاً »(٤) .

وقال عبد العلي الأنصاري: « وأما غير الكذب من الكبائر، والصغائر الخسيسة كسرقة لقمةٍ وغيرها مما يدل على الخِسّة وإنْ كانت مباحة، فالإتفاق

___________________

(١). شرح العقائد النسفية - مبحث عصمة الأنبياء: ٢١٥.

(٢). شرح المقاصد ٥ / ٦١.

(٣). اليواقيت والجواهر، المبحث الحادي والثلاثون.

(٤). ضوء المعالي في شرح بدء الأمالي - مبحث عصمة الأنبياء.

٣٠

بين فرق الإسلام على عصمتهم عن تعمّدها سمعاً عند أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم الله تعالى، أو عقلاً عند المعتزلة والروافض خذلهم الله تعالى، وقد عرفت شبههم وجوابها »(١) .

وكذا قال ( الدهلوي ) نفسه(٢) .

مع ابن روزبهان

وقد نصّ عليه ابن روزبهان، لكن من العجائب جهله أو تجاهله بما تفوّه به الرازي في ( نهاية العقول ) حتّى ردّ على قول العلّامة الحلّي: « إن الأشاعرة لزمهم باعتبار نفي الحسن والقبح أنْ يذهبوا إلى جواز بعثة من هو موصوف بالرذائل والأفعال الدالّة على الخسة » بقوله:

« نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات، وذكر هذه الفواحش عند ذكر الأنبياء، والدخول في زمرة:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (١) ، وكفى بإساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات، ثم يفترى على مشايخ السنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه، وقد علمت أن الحسن والقبح يكون بمعانٍ ثلاثة: أحدهما: وصف النقص والكمال. والثاني: الملائمة والمنافرة. وهذان المعنيان عقليّان لا شك فيهما، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنهما عقليان فأيّ نقصٍ أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة الإلهية موصوفاً بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش. وكأنّه حسب أن الأنبياء أمثاله من رعاع الحلة الذين يفسدون على شاطىء الفرات بكل ما ذكره. نعوذ بالله من التعصّب، فإنه أورده النار ».

___________________

(١). شرح مسلّم الثبوت ٢ / ٩٩ هامش المستصفى.

(٢). التحفة الاثنا عشرية، مبحث النبوّة: ١٦٣.

٣١

أقول:

إنّه يتجاسر على العلّامة، وهو يتجاهل كلام الرّازي، على أنّ الأشاعرة، لا يرون امتناع شيء عقلاً على الله تعالى، فلابدّ أن يكون من الجائز عندهم عقلاً عهر امّهات الأنبياءعليهم‌السلام ، ومن هنا صرّح الرازي بمنع عدم جواز المنفّرات على الأنبياء، وبنى ذلك على القول بالحسن والقبح العقليين لكنْ لمـّا كان هذا التجويز شنيعاً جدّاً، فقد تجاهله ابن روزبهان وأنكر على العلّامة كلامه!!

إلّا أن الأعجب هو أنّ ابن روزبهان نفسه يصرّح بأنّه ليس من القبيح عند العقل أن يظهر الله المعجزة على يد الكذّابين!!

قال العلّامة: « لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير، لَما قبح من الله شيء، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكذابين، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة، فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه، مع تجويز إظهاره المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة ».

فقال ابن روزبهان: « جوابه: إنه لم يقبح من الله شيء. قوله: لو كان كذلك لما قبح منه إظهارالمعجزات على الكذّابين. قلنا: عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه قبيحاً عقلاً، بل لعدم جريان عادة الله تعالى الجاري مجرى المحال المحال العادي بذلك الإظهار ».

فإذا كان هذا جائزاً، فأيّ ريب في تجويز الأشاعرة بعث الموصوف بالرذائل والخسائس؟!

وقال العلّامة: « إنه لو كان الحسن والقبح شرعييّن، لحسن من الله أنْ يأمر

٣٢

بالكفر، وتكذيب الأنبياء، وتعظيم الأصنام، والمواظبة على الزنا، والسرقة، والنهي عن العبادة والصدق، لأنها غير قبيحةٍ في أنفسها، فإذا أمر الله تعالى بها صارت حسنة، إذا لا فرق بينها وبين الأمر بالطّاعة، وأنّ شكر المنعم، وردّ الوديعة، والصدق، ليست حسنةً في أنفسها، ولو نهى الله تعالى عنها كانت قبيحة، لكنْ لمـّا اتفق أنه تعالى أمر بهذه مجّاناً لغير غرض ولا حكمة صارت حسنة، واتّفق أنه نهى عن تلك فصارت فبيحةً، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينهما.

ومن أدّاه عقله إلى تقليد يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال وأحمق الحمقى، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك، وإن لم يعلم ووقف عليه ثم استمرّ على تقليده فكذلك، فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم، لئلّا يضل غيرهم ولا تستوعب البليّة جميع الناس أو أكثرهم ».

فأجاب ابن روزبهان: « أقول: جوابه: إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيين بمعنى أن الشرع حاكم بالحسن والقبح، أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي، لأن المراد بهذا الحسن إن كان استحسان هذه الأشياء فعدم هذه الملازمة ظاهر، لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفاً للمصلحة لا يستحسنه الحكيم، وقد ذكرنا أن المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها، وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الإمتناع عليه، فقد ذكرنا أنه لا يمتنع عليه شيء عقلاً، لكن جرى عادة الله تعالى على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال، والنهى عمّا اشتمل على مفسدةٍ من الأفعال.

فالعلم العادي حاكم بأنّ الله لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قط، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ».

٣٣

أقول:

فإذا لم تكن تلك الاُمور ممتنعةً عقلاً، لم يكن بعث الموصوف بالرذائل ممتنعاً كذلك عندهم

وأيضاً، يقول ابن روزبهان:

« ثمّ استدل على بطلان كونه خالقاً للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب، وقد استدل قبل هذا بهذا مراراً، وأجبناه في محالّه. وجواب هذا وما ذكر بعده من ترتّب الاُمور المنكرة على خلق القبائح مثل ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها:

إنا نجزم بالعلم العادي وبما جرى من عادة الله تعالى، أنه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب، فهو محال عادةً كسائر المحالات العادية، وإنْ كان ممكناً بالذات، لأنه لايجب على الله تعالى شيء على قاعدتنا، فكلّ ما ذكروه من لزوم جواز تزيين الكفر في القلوب عوض الإسلام، وأن ما عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقيّة يمكن أن يكون كفراً وباطلاً، فلا يستحقّون الجواب. فجوابه: إن جميع هؤلاء لا يقع عادةً كسائر العاديّات، ونحن نجزم بعدم وقوع وإنْ جاز عقلاً، حيث لم يجب عليه تعالى شيء، ولا قبيح بالنسبة إليه ».

فظهر أنّ جميع ما ذكره من الطعن والسبّ للعلامة الحلّي متوجّه إلى الفخر الرازي، بل إلى نفسه وإلى جميع الأشاعرة.

جواب دعوى الرازي ابتناء المسألة على الحسن والقبح

وأمّا دعوى الفخر الرازي بأنّ عدم جواز المنفّر على الأنبياء - مبتني على القول بالتحسين والتقبيح، وإذ أنهم يقولون بذلك، فلا مانع من المنفّر على

٣٤

الأنبياءعليهم‌السلام . فيردّها:

أولاً : لقد نصّ عبد العلي الأنصاري في كلامه المنقول آنفاً عن ( شرح مسلّم الثبوت ) على أنّ مذهب أهل السنّة عصمة الأنبياء عن الأمور الخسيسة بالسّمع، وإن كانت تلك الاُمور مباحةً فإذن، لا يتوقف القول بعدم جواز الاُمور المنفّرة على الأنبياء على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين.

ثانياً : لقد ذكر ابن روزبهان أن امتناع الرذائل الخسيسة على الأنبياء لا يبتني على ثبوت الحسن والقبح العقليين بمعناهما المتنازع فيه، بل إنّ ثبوتهما، بمعنى وصف الكمال والنقص - الذي تقول الأشاعرة به أيضاً - كافٍ لامتناع الرذائل عليهم، وبما أنّ الرازي أيضاً يصرّح في ( نهاية العقول ) بثبوت الحسن والقبح بالمعنى المذكور، فلا ينافي منع الحسن والقبح العقليين بالمعنى المتنازع فيه القول بامتناع الرذائل والاُمور المنفّرة على الأنبياء، لأنّه بناءً على ثبوتهما بهذا المعنى يكون اتّصاف النبيّ بصفة عين اتّصافه بصفة القبح.

من الأشاعرة مَن يقول بالتحسين والتقبيح العقليّين

ثالثاً : إنه وإن نفى جمهور الأشاعرة التحسين والتقبيح العقليين بالمعنى المتنازع فيه، لكنّ فيهم جمعاً كثيراً من النحارير المشاهير يصرّحون بإثباتهما وإليك نصوص عبارات طائفة منهم:

قال عبد العزيز بن أحمد البخاري:

« قوله: ومن قضية الشرع. أي: ومن حكم الشريعة في هذا الباب - أي باب الأمر - أن حكم الآمر إلى المأمور به يوصف بالحسن، والمعنى: إن ثبوت الحسن للمأمور به من قضايا الشرع لا من قضايا اللغة، لأن هذه الصفة تتحقق في قبيح كالكفر والسّفه والعبث، كما تتحقق في الحسن ألاترى أنّ السلطان

٣٥

الجائر إذا أمر إنساناً بالزنا والسرقة والقتل بغير حق كان آمراً حقيقة، حتى إذا خالفه المأمور ولم يأت بما أمر به يقال خالف أمر السلطان.

ثم اختلف أن الحسن من موجبات الأمر أم من مدلولاته؟ فعندنا هو من مدلولات الأمر. وعند الأشعرية وأصحاب الحديث هو من موجباته، وهو بناء على أن الحسن والقبح في الأفعال الخارجة عن الإضطرار هل يعرف بالعقل أم لا؟ فَعندهم لا حظّ له في ذلك، وإنما يعرف بالأمر والنهي، فيكون الحسن ثابتاً بنفس الأمر، لا أنّ الأمر دليل ومعرف على حسنٍ سبق ثبوته بالعقل. وعندنا: لمـّا كان للعقل حظ إلى معرفة حسن بعض المشروعات، كالإيمان وأصل العبادات والعدل الإحسان، كان الأمر دليلاً ومعرّفاً لما يثبت حسنه بالعقل وموجباً لما يعرف به. كذا في الميزان.

وذكر في القواطع: ذهب أكثر أصحاب الشافعيرحمه‌الله إلى أن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه، ولا يعرف حسن الشيء وقبحه، حتى يرد السّمع بذلك، وإنما العقل آلة يدرك به ما حسن وما قبح، بعد أن يثبت ذلك بالسمع، وذهب إلى هذا كثير من المتكلّمين. وذهب إليه جماعة من أصحاب أبي حنيفةرحمه‌الله . قال: وذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان، ضرب علم بالعقل كحسن العدل والصدق النافع وشكر النعمة، وقبح الظلم هوالكذب الضار وشرب الخمر. قالوا: وفائدة السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكداً لما في العقل. وإليه ذهب من أصحابنا: أبو بكر القفّال الشاشي، وأبو بكر الصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، والحليمي وغيرهم. وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفةرحمه‌الله ، خصوصاً العراقيون منهم. وهو مذهب المعتزلة بأسرهم »(١) .

___________________

(١). كشف الاسرار في شرح الاُصول البزودي ١ / ٣٨٩.

٣٦

أقول:

المراد من « الميزان » هو كتاب ( ميزان الاُصول في نتائج العقول ) ومؤلفه: علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي. قال كاشف الظنون: « ميزان الاصول في نتائج العقول في اُصول الفقه، للشيخ الإمام علاء الدين شمس النظر أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي الحنفي الاُصولي »(١) .

والمراد من « القواطع » هو كتاب ( القواطع في اُصول الفقه ) ومؤلفه: أبو المظفر السّمعاني. قال كاشف الظنون: « القواطع في اُصول الفقه، لأبي المظفر منصور بن محمّد السمعاني الشافعي المتوفى سنة ٤٨٩ »(٢) .

وقال البخاري المذكور:

« فأمّا المتقدّمون من أصحابنا فقالوا: سبب وجوب العبادات نعم الله على كلّ واحد من عباده، فإنه تعالى أسدى إلى كل واحدٍ منّا من أنواع النعم ما يقصر العقول عن الوقوف على كنهها، فضلاً عن القيام بشكرها، وأوجب هذه العبادات علينا بإزالها ورضي بها، شكراً لسوابق نعمه بفضله وكرمه، وإنْ قلّت مدة عمره أو طالت، وهذا لأن شكر النعمة واجب لا شك عقلاً ونصّاً، على ما قال الله تعالى( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) وقال عليه الصلاة والسلام: من اُنزلت عليه نعمة فليشكرها، في نصوص كثيرة وردت فيه، وكلّ عبادة صالحة لكونها شكر النعمة ومن النعم، وقد ورد النص الدال على كون العبادة شكراً، وهو ما روي أنهعليه‌السلام صلّى حتى تورّمت قدماه، قيل له: إن الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما

___________________

(١). كشف الظنون ٢ / ١٩١٦.

(٢). كشف الظنون ٢ / ١٣٥٧.

٣٧

تأخّر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ أخبر أنه يصلّي لله تعالى شكراً على ما أنعم عليه.

ثم نعم الله على عباده أجناس مختلفة، منها إيجاده من العدم، وتكرمته بالعقل والحواس الباطنة، ومنها الأعضاء السليمة وما يحصل له بها من التقلّب والإنتقال من حالة إلى ما يخالفها من نحو القيام والقعود والإنحناء. ومنها ما يصل إليه من منافع الأطعمة الشهيّة والإستمتاع بصنوف المأكولات، ومنها صنوف الأموال التي يتوصّل بها إلى تحصيل منافع النفس ودفع المضار عنها، فعلى حسب اختلافها وجبت العبادات.

فأمّا الإيمان وجب شكراً لنعمة الوجود وقوّة النطق وكمال العقل، الذي هو أنفس المواهب التي اختصّ الإنسان بها من سائر الحيوانات وغيرها من النعم، فالوجوب بإيجاب الله، لكنه بالعقل يعرف أن شكر المنعم واجب، فكان النعم معرّفاً له، ووجوب شكر لمنعم بواسطة المعرفة وهو العقل. وهذا معنى قول الناس: العقل موجب أي دليل ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه، وهو النعم »(١) .

وقال أبو شكور الكشي:

« القول في مستحسنات العقل. قالت المعتزلة: الحسن ما يستحسنه العقل والقبيح ما يستقبحه العقل. وقالت عامة الفقهاء: الحسن ما يستحسنه الشرع والقبيح ما يستقبحه الشرع. والتفصيل في هذا حسن، لأنّ الحسن والقبيح في الأشياء على مراتب، منها ما يكون حسناً بعينه، كالإيمان بالله تعالى، والعبادة، وشكر النعمة. ومنها ما هو حسن بمعنى في غيره كبناء الرباطات والمساجد وإماطة الأذى عن الطريق. وكذلك في القبيح منها ما هو قبيح بعينه كالإشراك

___________________

(١). كشف الأسرار في شرح اُصول البزودي ٢ / ٦٤٩ - ٦٥٠.

٣٨

بالله تعالى والزنا والسرقة وأشباه ذلك. ومنها ما هو قبيح بمعنى في غيره.

فنقول: كلّ ما هو حسن أو قبيح بمعنى في غيره، فإن الحسن ما يكون حسناً باستحسان الشرع، والقبيح ما يكون قبيحاً باستقباح الشرع، ولا مجال للعقل في هذا.

وكلّ منها هو حسن بعينه أو قبيح بعينه فنقول: الحسن حسن والشرع يستحسنه. والقبيح قبيح والشرع يستقبحه.

هكذا روي عن أبي حنيفةرحمه‌الله أنه قال في كتاب العالم والمتعلّم: إن الظلم قبيح بعينه، ولا نقول قبيح أو حسن بالعقل، بل نقول نعرف هذا الحسن والقبيح بدلالة العقل، كما نعرف بدلالة الشرع، حتى لو لم يكن الشرع، فالإسلام والعبادات وما يشاكله يكون حسناً بعينه، والكفر والظلم يكونان قبيحين بعينهما »(١) .

وقال الغزالي:

بعد أنْ نفى الحسن والقبح العقليين تبعاً للأشاعرة: بأن هذا لا يشفي العليل ولا يزيل الغموض، وهذا نص كلامه:

« فإنْ قيل: فإنْ لم يكن مدرك الوجوب مقتضى العقول، أوى ذلك إلى إفحام الرسول، فإنه إذا جاء بالمعجزة وقال: اُنظر فيها، فللمخاطب أن يقول: إن لم يكن النظر واجباً فلا اقدم عليه، وإنْ كان واجباً، فيستحيل أن يكون مدركه العقل، والعقل لا يوجب، ويستحيل أن يكون مدركه الشرع، والشرع لا يثبت إلّابالنظر في المعجزة، ولا يجب النظر قبل ثبوت الشرع، فيؤدي إلى أن لا يظهر صحة النبوة أصلاً.

والجواب: إن هذا السؤال مصدره الجهل بحقيقة الوجوب، وقد بيّنا أن

___________________

(١). التمهيد في بيان التوحيد، الباب الأول في العقل: ١٦.

٣٩

معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك، لدفع ضرر موهوم في الترك أو معلوم، وإذا كان هذا هو الوجوب، فالموجب هو المرجّح وهو الله تعالى، فإنه إذا ناط العقاب بترك النظر ترجّح فعله على تركه، ومعنى قول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - إنه واجب: أنه مرجح بترجيح الله تعالى في ربطه العقاب بأحدهما. وأما المدرك فهو عبارة عن جهة معرفة الوجوب لا عن نفس الوجوب، وليس شرط الواجب أن يكون وجوبه معلوماً، بل أن يكون عمله ممكناً لمن أراده، فيقول النبيّ: إن الكفر سمّ مهلك والإيمان شفاء مسعد، بان جعل الله تعالى أحدهما مسعداً والآخر مهلكاً، ولست أوجب عليك شيئاً، فإن الإيجاب هو الترجيح والمرجّح هو الله تعالى، وإنما أنا مخبر عن كونه سمّاً ومرشد لك إلى طريقٍ تعرف به صوتي وهو النظر في المعجزة، فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت، وإن تركت هلكت.

ومثاله مثال طبيب إنتهى إلى مريض وهو مترود بين دوائين موضوعين بين يديه فقال له: أمّا هذا فلا تناوله، فإنه مهلك للحيوان وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنّور فيموت على الفور، فيظهر لك ما قلت. وأمّا هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر على معرفته بالتجربة، وهو أن تشرب فتشفى، ولا فرق في حقّي ولا في حق استاذي بين أن يهلك أو يشفى، فإن اُستاذي غني عن بقائك وأنا أيضاً كذلك.

فعند هذا لو قال المريض: هذا يجب عليّ بالعقل أو بقولك، وما لم يظهر لي هذا لم أشتغل بالتجربة، كان مهلكاً نفسه ولم يكن عليه ضرر.

فكذلك النبي - صلّى الله عليه وسلّم - قد أخبره عن الله تعالى بأن الطاعة شفاء والمعصية داء، وأن الإيمان مسعد والكفر مهلك، واخبره أنه غني عن العالمين، سعدوا أم شقوا، إنما شأن الرسول أنْ يبلّغ ويرشد إلى طريق المعرفة، فمن نظر فلنفسه ومن قصّر فعليها، وهذا واضح.

٤٠