نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٨

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 421

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 230247
تحميل: 5214


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 230247 / تحميل: 5214
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فإنْ قيل: فقد رجع الأمر إلى أنّ العقل هو الموجب، من حيث أنّه بسماع كلامه ودعواه يتوقّع عقاباً، فيحمله العقل على الحذر ولا يحصل إلّا بالنظر، فوجب عليه النظر.

قلت: الحق - الذي يكشف الغطاء في هذا من غير أتباع وهم وتقليد أمر - هو أن الوجوب لما كان عبارةً عن نوع رجحان في الفعل، فالموجب هو الله تعالى، لأنه هو المرجح، والرسول مخبر عن الترجيح، والمعجزة دليل على صدقه في الخبر، والنظر سبب في معرفة الصدق، والعقل آلة النظر والفهم معنى الخبر، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور بالعقل، فلابدّ من طبع يخالفه العقوبة الموعودة، ويوافقه الثواب الموعود ليكون مستحثّاً. لكن لا يستحثُّ ما لم يفهم المحذور ولم يقدّره ظناً أو علماً، ولا يفهم إلا بالعقل، والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه، بل الله هو المرجع والرسول مخبر، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه بل المعجزة، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها، والنظر بالعقل.

فإذا قد انكشفت المعاني، فالصحيح في الألفاظ أنْ يقال: الوجوب هو الرجحان، والموجب هو الله تعالى، والمخبر هو الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - المعرّف للمحذور، ومصدّق الرسول هو العقل، والمستحث على سلوك سبيل الخلاص هو الطبع.

هكذا ينبغي أنْ يفهم الحق في هذه المسألة، ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي العليل ولا يزيل الغموض »(١) .

___________________

(١). الاقتصاد في الاعتقاد: ١١٩ - ١٢١.

٤١

وقال عبيد الله بن تاج الشريعة:

« على أنّ الأشعري سلّم حسن والقبح عقلاً. بمعنى الكمال والنقصان، فلا شك أن كل كمال محمود، وكل نقصان مذموم، وأن أصحابنا الكمالات محمودون بكمالاتهم، وأصحاب النقئص مذمومون بنقائصهم، فإنكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما، في غاية التناقض، وإنْ أنكرهما بمعنى أنه لا يوجد في الفعل شيء يثاب به الفاعل أو يعاقب لأجله فنقول:

إنْ عنى أنّه لا يجب على الله تعالى الاثابة أو العقاب لأجله، فنحن نساعد في هذا، وإنْ عنى أنه لا يكون في معرض ذلك، فهذا بعيد عن الحق، وذلك لأنّ الثواب والعقاب آجلاً وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيّتهما، لكن كل من علم أن الله تعالى عالم بالكليّات والجزئيّات، فاعل بالإختيار، قادر على كلّ شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله تعالى في كلّ لمحة ولحظة، ثم مع ذلك كلّه، ينسب من الصّفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إليه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. فلم ير باعتقاده أنه يستحق بذلك مذمّة، ولم يتقيّن أنه في معرض سخطٍ عظيم وعذاب أليم، فقد سجّل على غباوته ولجاجه، وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه، واستخفّ بفكره ورأيه، حيث لم يعلم بالشرّ الذي من ورائه، عصمنا الله تعالى عن الغباوة والغواية، وأهدانا هدايا الهداية.

فلمـّا أبطلنا دليل الأشعري، رجعنا إلى إقامة الدليل على مذهبنا، وإلى الخلاف الذي بيننا وبين المعتزلة:

م: وعند بعض أصحابنا والمعتزلة حسن بَعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفةٍ له، ويعرفان عقلاً أيضاً.

ش: أي يكون ذات الفعل بحيث يحمد فاعله عاجلاً ويثاب آجلاً لأجله،

٤٢

أو يذم فاعله عاجلاً ويعاقب آجلاً لأجله. أو يكون للفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذم فاعله ويعاقب لأجله. وإنما قال « أيضاً » لأنه لا خلاف في أنهما يعرفان شرعاً.

م: لأن وجوب تصديق النبيعليه‌السلام إنْ توقَّف على الشرع يلزم الدور.

ش: واعلم أن النبيعليه‌السلام ادّعى النبوّة وأظهر المعجزة وعلم السامع أنه النبي، فأخبر بأمورٍ مثل: إن الصّلاة واجبة عليكم، وأمثال ذلك، فإنْ لم يجب على السامع تصديق شيء من ذلك تبطل فائدة النبوّة، وإنْ وجب فلا يخلو من أن يكون وجوب تصديق كلّ إخباراته شرعياً. والثاني باطل، لأنه لو كان وجوب تصديق الكلّ شرعيّاً لكان وجوبه بقول النبيعليه‌السلام ، فأوّل الإخبارات الواجبة التصديق لابدّ أن يجب تصديقه بقول النبيعليه‌السلام ، فأوّل الإخبارات الواجبة التصديق لابدّ أن يجب تصديقه بقول النبيعليه‌السلام ، لأن تصديق الإخبار الأول واجب، فنتكلَّم في هذا القول، فإنْ لم يجب تصديقه لا يجب تصديق الأول، وإنْ وجب فإما أن يجب بالإخبار الأول فيلزم الدور، أو بقولٍ آخر فنتكلَّم فيه، فيلزم التسلسل. وإذا ثبت ذلك تعيّن الأول، وهو كون وجوب تصديق شيء من إخباراته عقليّاً. فقوله:

م: وإلّا.

ش: أي، وإنْ لم يتوقّف على الشرع.

م: كان واجباً عقلاً، فيكون حسناً عقلاً.

ش: لأن الواجب العقلي ما يحمد على فعله ويذمّ على تركه عقلاً، والحسن العقلي ما يحمد على فعله عقلاً، فالواجب العقلي أخص من الحسن العقلي، وكذلك تقول في امتثال أوامره: إنه إمّا واجب عقلاً إلى آخره. وهذا

٤٣

الدليل لإثبات الحسن العقلي صريحاً. وقوله:

م: وأيضاً: وجوب تصديق النبيعليه‌السلام موقوف على حرمة الكذب، فهي إنْ ثبتت مشرعاً يلزم الدور، وإنْ ثبتت عقلاً يلزم قبحه عقلاً.

ش: وهذا يدل على القبح العقلي صريحاً، وكلٌّ منهما - أي الحسن والقبح - يدل على الآخر التزاماً، لأنه إذا كان الشيء واجباً عقلاً يكون تركه قبيحاً عقلاً، وإن كان الشيء حراماً عقلاً فتركه يكون واجباً عقلاً، فيكون حسناً عقلاً »(١) .

وقال الشاشي:

« الأمر في اللغة قول القائل لغيره: إفعل. وفي الشرع: تصرّف إلزام العقل على الغير. وذكر بعض الأئمة -رحمهم‌الله - أن المراد بالأمر يختص بهذه الصّيغة، واستحال أن يكون معناه أن حقيقة الأمر تختص بهذه الصيغة، فإن الله تعالى متكلّم في الأزل عندنا، وكلامه أمر ونهي وإخبار وإستخبار، واستحال وجود هذه الصيغة في الأزل، واستحال أيضاً أنْ يكون معناه أن المراد بالأمر للشارع يختص بهذه الصيغة، فإن المراد للشارع بالأمر وجوب الفعل على العبد، وهو معنى الإبتلاء عندنا، وقد ثبت الوجود بدون هذه الصيغة، أليس أنه وجب الإيمان على من لم تبلغه الدعوة بدون ورود السمع.

قال أبو حنيفة -رضي‌الله‌عنه -: لو لم يبعث الله تعالى رسولاً لوجب على العقلاء معرفته بعقولهم.

فيحمل ذلك على أن المراد يختص بهذه الصيغة في حق العبد في الشرعيات، حتى لا يكون فعل الرسول بمنزلة قوله: إفعلوا »(٢) .

___________________

(١). التوضيح في حل غوامض التنقيح.

(٢). الاصول، فصل في الأمر، من البحث الأول، في كتاب الله: ١٠١.

٤٤

وقال القاري:

« إنّ العقل آلة للمعرفة، والموجب هو الله تعالى في الحقيقة، ووجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة، فقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى: إن أبا حنيفة قال: لا عذر لأحدٍ في الجهل بخالقه، لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وغيره. ويؤيده قوله تعالى:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وقوله تعالى:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) وحديث: كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه. قال: وعليه مشاخينا من أهل السنّة والجماعة.

حتى قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي في الصبي العاقل: إنه يجب عليه معرفة الله تعالى، وهو قول كثير من مشايخ العراق، خلافاً لكثيرٍ من مشايخنا، لعموم قولهعليه‌السلام : رفع القلم عن ثلاث: الصبي حتى يبلغ أي يحتلم. الحديث. وحمل الشيخ أبو منصور الحديث على الشرائع، مع اتّفاقهم أن إسلام هذا الصبي صحيح ويدعى هو إلى الإسلام كما يدعى البالغ إليه. وقال الأشعرري: لا يجب، لقوله تعالى( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) واجيب: بأن الرسول أعم من العقل والنبي »(١) .

وقال البزودي:

« قال أهل السنّة والجماعة: لا يجب أداء شيءٍ مّا إلّا بالخطاب من الله تعالى على لسان واحدٍ من عباده، وكذا لا يجب عليه الإمتناع عن شيء مّا إلّابه، وبه قال الأشعري. وعند المعتزلة: يجب الإيمان بالله تعالى والشكر له قبل بلوغ الخطاب. وهل يجب عندهم الإقرار بالرسل؟ عند بعضهم لا يجب.

وقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي -رحمه‌الله - بمثل ما قال المعتزلة

___________________

(١). شرح الفقه الاكبر، الوسائل الملحقات: ١٦٦.

٤٥

وهو قول عامّة علماء سمرقند، وقول بعض علمائنا من أهل العراق، وقد ذكر الكرخي في مختصره عن أبي حنيفة -رضي‌الله‌عنه - أنّه قال: لا عذر لأحدٍ في معرفة الخالق، لِما يرى في العالم من أمارات الحدوث. وأئمّة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول الأول.

والمسألة تعرف بأنّ العقل هل هو موجب؟ عند الفريق الأول: غير موجب. وعند الفريق الثاني: موجب. وهذا مجاز من الكلام، فإنّ العقل لا يكون موجباً شيئاً، ولكن عند المعتزلة وأبي منصور الماتريدي -رحمه‌الله - وعند من يقول بقولهم: الله تعالى هو الموجب ولكن بسبب العقل، فيكون العقل عندهم سبب الوجوب.

وفائدة الإختلاف: إن من لم تبلغ دعوة رسولٍ مّا، ولا دعوة رسولٍ من رسله، ولم يؤمن، هل يخلد في النار؟ عند الفريق الأول: لا يخلد، ويكون حكمه حكم المجانين والأطفال. وعند الفريق الآخر: يخلد. ولكن عند الفريق الأول: لو أسلم مع هذا يصح إسلامه ويصير من أهل الجنة.

وكذا الصبي العاقل عند الفريق الأول لا يخاطب بأداء الإسلام، ولكن إذا أسلم يصح إسلامه في أحكام الدنيا والآخرة جميعاً »(١) .

وقال السعد التفتازاني:

« ولقوّة هاتين الشبهتين ذهب بعض أهل السنّة - وهم الحنفيّة - إلى أنّ حسن بعض الأشياء وقبحهها مما يدرك بالعقل، كما هو رأي المعتزلة، كوجوب أول الواجبات، ووجوب تصديق النبي عليه الصلاة والسلام، وحرمة تكذيبه، دفعاً للتسلسل، وكحرمة الإشراك بالله تعالى، ونسبة ما هو في غاية الشناعة إليه، على من هو عارف به وبصفاته وكمالاته، ووجوب ترك ذلك.

___________________

(١). اصول العقائد: ٦١.

٤٦

ولا نزاع في أن كلّ واجب حسن وكل حرام قبيح، إلّا أنهم لم يقولوا بالوجوب أو الحرمة على الله تعالى، وجعلوا الحاكم بالحسن والقبح والخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، والعقل آلة لمعرفة بعض ذلك، من غير إيجاب ولا توليد، بل بإيجاد الله تعالى، من غير كسبٍ في البعض، ومع الكسب بالنظر الصّحيح في البعض »(١) .

وقال ابن الهمام:

« لا نزاع في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح، بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل، وَرَدَ به الشرع أم لا، وبمعنى ملائمة الغرض وعدمها، كقتل زيد بالنسبة إلى أعدائه وإلى أوليائه. إنما النزاع في استقلاله بدركه في حكم الله تعالى:

فقال المعتزلة: نعم، يجزم العقل بثبوت حكم الله في الفعل بالمنع، على وجهٍ ينتهض معه سبباً للعقاب، إذا أدرك قبحه، وبثبوت حكمه جل ذكره فيه بالإيجاب والثواب بفعله، والعقاب بتركه إذا أدرك حسنه، على وجهٍ يستلزم تركه قبحاً، كشكر المنعم. وهذا بناء على أن للفعل في نفسه حسناً وقبحاً ذاتيين أو لصفةٍ فيه، قد يستقل بدركها فيعلم حكم الله تعالى باعتبارهما فيه، وقد لا يستقل فلا يحكم بشيء حتى يرد الشرع، كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم أول يوم من شوّال.

وقالت الأشاعرة قاطبةً: ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح، وإنّما حسّنه ورود الشرع بإطلاقه وقبّحه وروده بحظره. وإذا ورد الشرع بذلك فحسنّاه أو قبّحناه بهذا المعنى، فحاله بعد ورود الشرع بالنسبة إلى الوصفين كحاله قبل وروده، فلا يجب قبل البعثة شيء، لا إيمان ولا غيره، ولا يحرم كفر.

___________________

(١). شرح المقاصد ٤ / ٢٩٣.

٤٧

وقالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للفعل على الوجه الذي قالته المعتزلة ».

وقال أيضاً:

« ولا أعلم أحداً منهم - يعني الحنفيّة - جوّز عقلاً تكليف ما لا يطاق. واختلفوا هل يعلم باعتبار العلم بثبوتها في فعل حكم في ذلك الفعل تكليفي؟ فقال الاستاذ أبو منصور وعامّة مشايخ سمرقند: نعم يعلم وجوب الإيمان بالله وتعظيمه وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه تعالى، ووجوب تصديق النّبي، وهو معنى شكر المنعم. روى في المنتقى عن أبي حنيفة -رضي‌الله‌عنه -: لا عذر لأحدٍ في الجهل بخالقه، لما يرى من خلق السماوات والأرض. وعنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم ».

قال:

« وقال أئمة بخارى منهم: لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة، كقول الأشاعرة، وحملوا المروي عن أبي حنيفة على ما بعد البعثة.

وهو ممكن في العبارة الأولى دون الثانية »(١) .

كلام أبي حنيفة في كتاب العالم والمتعلّم:

« قال المتعلّم: هو كما وصفت، ولكن أخبرني عن الرسولعليه‌السلام من قبل الله نعرفه أو نعرف الله من قبل الرسول؟ فإنْ زعمت أنك إنما تعرف الرسول من قبل الله فكيف يكون ذلك؟ الرسول هو الذي يدعوك إلى الله تعالى.

قال العالم: نعم نعرف الرسول من قبل الله، لأن الرسول وإنْ كان يدعو إلى الله فلم يكن أحد يعلم الذي يقول الرسول حق، حتى يقذف الله في قلبه

___________________

(١). المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، الأصل الخامس، من الركن الثالث.

٤٨

التصديق والعلم بالرسول، ولذلك قال الله تعالى( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) ولو كان معرفة الله من قبل الرسول لا من قبل الله، لكانت المنّة في معرفة الله من قبل الرسول على الناس، ولكن المنّة لله على الرسول في معرفة الربّ عزّ وجل، والمنّة لله على الناس بما عرّفهم من التصديق بالرسول، ولذلك لا ينبغي لأحدٍ أن يقول إن الله يُعرف من قبل الرسول، بل ينبغي أن يقول العبد لا يعرف شيئاً من الخير إلّامن قبل الله تعالى ».

وقال ابن الهمام:

« واعلم أن الحنفيّة لمـّا استحالوا عليه تكليف ما لا يطاق كما مرّ، فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطّاعة مخالفاً لهوى نفسه في رضا مولاه أمنع، بمعنى أنه يتعالى عن ذلك، فهو من باب التنزيهات، إذ التسوية بين المسيء والمحسن أمر غير لائق بالحكمة في نظر سائر العقول. وقد نصّ تعالى على قبحه حيث قال:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) ، فجعله حكماً سيّئاً»(١) .

وقال:

« وقد تقدّم أن محلّ الإتّفاق إدراك العقل القبح الفعل، بمعنى صفة النقص وحسنه بمعنى صفة الكمال، وكثيراً مّا يذهل أكابر الأشاعرة عن محل النزاع في مسألتي التحسين والتقبيح العقليين، لكثرة ما يُشعرون النفس أنْ لا حكم للعقل بحسنٍ ولا قبح، فذهب لذلك عن خاطرهم محل الإتفاق، حتى تحيّر كثير منهم في الحكم باستحالة الكذب عليه تعالى لأنه نقص، لمـّا ألزم القائلون بنفي الكلام

___________________

(١). المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، الأصل الخامس من الركن الثالث.

٤٩

النفسي القديم الكذب على تقدير قدمه في الإخبارات، وهو مستحيل عليه لأنه نقص.

حتى قال بعضهم - ونعوذ بالله مما قال -: لا يتم استحالة النقص عليه تعالى إلّا على رأي المعتزلة القائلين بالقبح العقلي.

وقال إمام الحرمين: لا يمكن التمسّك في تنزيه الربّ جلّ جلاله عن الكذب بكونه نقصاً، لأن الكذب عندنا لا يقبح بعينه.

وقال صاحب التلخيص: الحكم بأن الكذب نقص أن كان عقليّاً كان قولاً بحسن الأشياء وقبحها عقلاً، وإنْ كان سمعيّاً لزم الدور.

وقال صاحب المواقف: لم يظهر لي فرق بين النقص العقلي والقبح، بل هو هو بعينه.

وكلّ هذا منهم للغفلة عن محلّ النزاع، حتى قال بعض محققي المتأخرين منهم - بعد ما حكى كلامهم هذا - وأنا أتجّب من كلام هؤلاء المحققين الواقفين على محلّ النزاع في مسألتي الحسن والقبح العقليين »(١) .

أقول:

حمل كلامهم على الغفلة عن محلّ النزاع لا يخلّص القوم عن الورطة، لأنّهم على كل حالٍ يصرحون بجواز الكذب على الله تعالى.

ثم إنه وإنْ كان الحسن والقبح العقليّان بمعنى النقص والكمال ممّا يعترف به الأشاعرة، إلّا أنه بناءً على امتناع صفة النقص عليه تعالى، ووجوب اتّصافه بصفات الكمال عقلاً، يمتنع عليه سائر القبائح، مثل تعذيب المحسن والتكليف بما لا يطاق، لأن جواز صدور القبائح أيضاً صفة نقص عليه وعلى هذا ينهدم

___________________

(١). المسايرة في العقائد النمجية في الآخرة، الأصل الخامس من الركن الثالث.

٥٠

أساس مذهب الأشاعرة.

ولمـّا كانت الملازمة بين الحسن والقبح العقليين بالمعنى المتنازع فيه، مع الحسن والقبح العقليين بمعنى النقص والكمال، في غاية الوضوح والظهور، فلهذا منع الفخر الرازي في ( المحصّل ) امتناع النقص عليه تعالى، وإنْ أثبت في ( نهاية العقول ) الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص: وهذا كلامه في ( المحصّل ).

« مسألة: إتّفق المسلمون على أنه تعالى سميع بصير، لكنهم اختلفوا في معناه: فقالت الفلاسفة والكعبي وأبو حسين البصري: ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات، وقال الجمهور منّا ومن المعتزلة والكراميّة: إنهما صفتان زائدتان على العلم.

قلنا: إنه تعالى حي، والحيّ يصح اتّصافه بالسمع والبصر، وكلّ من يصح اتّصافه بصفة، فلو لم يتّصف بها لاتّصف بضدّها، فلو لم يكن الله سبحانه سميعاً بصيراً كان موصوفاً بضدّها، وضدّها نقص، والنّقص على الله تعالى محال.

فلقائل أن يقول: حياة الله تعالى يخالف لحياتنا، والمختلفات لا يجب اشتراكها في جميع الأحكام، فلا من كون حياتنا مصححة للسمع والبصر كون حياته تعالى كذلك.

سلّمنا ذلك.

لكن لِمَ لا يجوز أن يقال: حياته تعالى وإنْ صحّحت السمع والبصر، لكن ماهيّته تعالى غير قابلة لهما، كما أن الحياة وإنْ صححت الشهوة والنفرة، لكن ماهيّته تعالى غير قابلة لهما: فكذلك ههنا.

سلّمنا أنّ ذاته تعالى قابلة لهما.

لكنْ لِمَ لا يجوز أنْ يكون حصولهما موقوفاً على شرط ممتنع التحقق في

٥١

ذات الله تعالى؟ وهذا هو قول الفلاسفة، فإن عندهم أيضاً ابصار الشيء مشروط بانطباع صورة صغيرة مشابهة للذلك المرئي في الرطوبة الجليدية، وإذا كان ذلك في حق الله تعالى محالاً لاجرم لم تثبت الصحة.

سلّمنا حصول الصحة، لكن لِمَ تسلّمتم أن القابل للصفة يستحيل خلوه عنها وعن ضدها معاً، وقد تقدم تقريره.

سلّمنا ذلك: لكن ما المعنيّ بالنقص؟

ثم لم تسلّمتم أن النقص محال؟

فإنْ رجعوا فيه إلى الإجماع صارت الدلالة فيه سمعيّة، وإذا كان الدليل على حقيّة الإجماع هو الآية، والآيات الدالّة على السمعية والبصرية أظهر دلالةً من الآيات الدالة على صحة الإجماع، فكان الرجوع في هذه المسألة إلى التمسّك بالآيات أولى: فالمعتمد التمسّك بالآيات، ولا شك أن لفظ السمع والبصر ليس حقيقةً في العلم بل مجازاً فيه، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلّاعند المعارض، وحينئذٍ يصير الخصم محتاجاً إلى إقامة الدليل على امتناع اتّصافه تعالى بالسمع والبصر.

ومن الأصحاب من قال: السميع والبصير أكمل ممّن ليس بسميع ولا بصير، والواحد منا سميع وبصير، فلو لم يكن الله تعالى كذلك لكان الواحد منا أكمل من الله تعالى، وهو محال.

لكن هذا ضعيف، لأن للقائل أن يقول: الماشي أكمل ممّن لا يمشي، والحسن الوجه أكمل من القبيح، والواحد منّا موصوف به، فلو لم يكن الله تعالى موصوفاً به لزم أن يكون الواحد منّا أكمل من الله تعالى.

فإن قلت: هذا صفة كمال في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم، فلا يتصور ثبوته في حقه.

٥٢

قلت: فَلِمَ قلت: إن السمع والبصر ليسا من صفات الأجسام، وحينئذٍ يعود البحث المذكورر»(١) .

وقال ابن القيّم:

« ومن ظنّ به تعالى - أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبهُ بما لا صنع فيه ولا اختيار لهُ، ولا قدرة، ولا ارادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظنّ به أنه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه، بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها على أيديهم يضلّون بها عباده، وأنه يحسن منه كلّ شيء، حتى يعذب من أفنى عرمه في طاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفذ عمره في عدواته وعداوة رسله ودينه فيرفعهُ إلى أعلى علّيين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلّابخبر صادق، وإلّا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظنّ به ظنّ السوء »(٢) .

وقال كمال الدين السهالي(٣) :

« إن حسن الأفعال وقبحها عقلي، على المذهب المنصور، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي، بناءً على بطلان الترجيح بلا مرجّح، وإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها مستحيل قطعاً، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي: وبالجملة: حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجح من ذواتها، وقد بيّن في موضعه.

___________________

(١). المحصل: ٢٤٨ - ٢٤٩.

(٢). زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ٩٩.

(٣). من علماء الهند، له مصنّفات: توفي سنة ١١٧٥.

٥٣

وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن علي العربي -قدس‌سره - في بعض مصنفاته: لو لم يكن للأفعال خصوصية داعية إلى ثمرتها المخصوصة بها، يكون الأفعال التي على هوى النفس والتي على خلاف هواها سواسيةً في تعلّق ثمراتها بها، ويلزم نسبة الظلم إلى الله تعالى الله عن ذلك، فإن الطاعات الواجبة كلها على خلاف هوى النفس، ولذا قالعليه‌السلام : أفضل العبادات أحمزها، بل الفعل على خلاف الهوى عين الطاعة، والمعاصي كلها على وفاق هواها، بل وفاق الهوى عن المعصية: وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع بجعلها مناطاً للثواب والعقاب، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لهما، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثة، ظلم، لأنه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة، ولو عكس الله الأمر لفاز العبد بالراحتين في الأولى والآخرة »(١) .

وقال عبد العالي الأنصاري:

« مسألة: قال الأشعرية على التنزّل: شكر المنعم ليس بواجب عقلاً، خلافاً للمعتزلة ومعظم مشايخنا، وقد نصّ صدر الشريعة على أن شكر المنعم واجب عقلاً عندنا، وفي الكشف نقلاً عن القواطع: وذهب طائف من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان، ضرب يعلم بالعقلل كحسن العدل والصدق النافع وقبح الظلم والكذب الضار. ثم قال: وإليه ذهب كثير من أصحاب الامام أبي حنيفة، خصوصاً العراقيين منهم، وهو مذهب المعتزلة بأسرهم، ومعرفة الحسن هو الوجوب أو لازمه، إذ الغرض أن المؤاخذة في ترك الشكر عقليّة تعرف

___________________

(١). كتاب العروة الوثقى، مسألة الجبر والإختيار.

٥٤

بالعقل: والمراد بالشكر ههنا صرف العبد جميع ما أعطى [ له ] إلى ما خلق لأجله، كالعين لمشاهدة ما يحلّ مشاهدته، ليستدل به على عجب صنعة الحق تعالى ويعلمهم أرادوا بالصرف الصّرف الذي يدرك بالعقل، لا الصرف مطلقاً، وإلا فلا معنى لدعوى العقلية »(١) .

وقال المقبلي:

« مسألة التحسين والتقبيح جميع العقلاء يعلمون تحقق ماهيّة الإحسان والإسائة ونحوهما وخاصّة كلًّ منهما والفرق بينهما، وأن الإحسان يقبل العقول الرفع من شأن المتّصف به ولا تأباه، وتأبى الحطّ من شأنه ولا تقبله، والعكس في الإساءة. هذا تحرير محل النزاع، فمن أنكر القدر الذي ذكرناه فقد كابر فلا يستحق المناظرة، وما زاد على هذا، فليس من محل النزاع، بل بعضه تفريع غير صحيح

فإنْ قلت: كيف تقول: جميع العقلاء؟ والقول بنفي ما ذكرت نار على شاهق، والمدّعون لذلك يدّعون الأكثرية، وكيف يمكن إطباق الجم الغفير على إنكار الضرورة؟

قلت: إنما أنكر الإحسان والإساءة ونحوهما نزر من النظّار في معركة الجدال، وهم مع سائر العقلاء في جميع تصرّفاتهم الدينية والدنياوية عاملون عليها.

ولنضرب لك مثلاً ملكين متّصلي المملكة، أمّا أحدهما ففي غاية العدل والإنصاف، وأمّا الآخر ففي غاية الجور، قد اغتصب أموالهم وعمّ فجوره فمن لم يقر أن عقله يقبل الرفع من شأن العادل بالمدح وما هو من قبيله، ويأبى

___________________

(١). فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت ١ / ٤٧: هامش المستصفى.

٥٥

الوضع من شأنه، والعكس في الجائر وقال: لا فرق بينهما، أمدح أيَّهما شئت وأذمُّه، فلو صدّقناه لقلنا بهيمة عجماء، ولكنّا علمنا أن الله تعالى كلّفه فهو عاقل مكابر

هذا بيان إطباق جميع العقلاء على ما ذكرنا: فصحّ قولنا: جميع العقلاء، وإنكار أفراد النظّار في حال الجدال لا يقدح في علمهم، بل كثيراً مّا يقرّ تلك الطائفة بألسنتهم مرةً وإنْ أنكروا اخرى، وإنما يعبّرون بالنقص والكمال، ثم هم يقرّون في جميع تصرفاتهم الحالية والمقالية سوى ما ذكر، فصحّ أنه لا يخالف إلّا نزر من النظّار

وأما المقلّدون أو الغافلون فالغافل لا يحلّ لنا رميه بهذه الداهية التي تهدم الدين والدنيا كما سنذكره: وأيضاً، فهو كذب عليه أو تخمين: وأما المقلد، فلم يلّم على الأول إلّالحسن الظن بمسقط رأسه وأوّل أرضٍ مسّ جلده ترابها، وسمع الناس يقولون شيئاً فقاله

وأما النظّار الذين يعرفون هذه الحقائق ويقبلونها علماً:

أمّا في زماننا فلا تكاد تجد منهم أحداً، لم أر وأسمع في اليمن ولا في الحرمين ممن يعتزى إلى الأشعري ويعرف هذا الشأ، غير ثلاثة هم: إبراهيم الكردي، وتلميذه البرزنجي، ويحيى الساوي المصري العربي: وثلاثتهم معترف بتعليل أفعال الباري تعالى، ومسألة تعليل أفعاله تعالى ملازمة لهذه المسألة، والمفرّق بينهما مخطىء كما نذكره، لأن المراد أنه تعالى لا يفعل إلّا الأولى لأنه أولى، كما مرّ في العبادات.

وأمّا في الماضين، فلا تحكم على أحدٍ بهذه المقالة التي لا يصح معها سمع - كما ذكرناه إن شاء الله تعالى - وهي مكابرة في العقل كما بيّناه، فلا تحكم إلّاعلى من أعرب عن نفسه: وأكثر المصنّفين أو كثير منهم إنما يحكي

٥٦

المقالات، وقلّما يصرّحون بأنّي أدين الله تعالى بهذا، أو اُقرّ به، أو نحو ذلك

إذا حقّقت هذا، ظهر لك أنهم أفراد في النظّار يقولون ذلك في معركة الجدال، ولسان النظّار لعارض حماية حمى الآباء والأسلاف، ورعاية اُمور قام بها شرّ الخلاف

فإنْ قلت: لا يسمع عقلي نسبة جماعة عرفوا بالخير إلى إنكار الضرورة، فما عذرك في ذلك؟

قلت: إنهم لم يقعوا في إنكار الضرورة بادىء بدء، إنما شأنهم شأني وشأنك، وقعوا في حجور أقوامٍ وربّوهم، وحسن ظنّهم بهم، ثم نظروا صور أدلّتهم، ثم أصابهم ما أصاب جميع العقلاء اليهود والنصارى وسائر الفرق، فإن العقل يجمعهم: وقد علمت أن ناساً جاز عندهم أن يكون الآلة حجراً، وامتنع أن يكون البشر رسولاً، واستحسن أحسن الناس رعاية لمكارم الأخلاق أن يطوفوا مكشّفي السوءة رجالهم ونساؤهم، ولا تجد فرقاً إلاّقولك هؤلاء المسلمون وأولئك كفار، وهو دور، إذ لا يعرف المحق حتى يعرف الحق، ولو عرفت الحق لبيّنته لي، واسترحت من التعلّق بأذيال من لا يفصل بينه وبين سائر المدّعين، إلّابمثل ما يدلي به سائر خصومك من المسملمين والكفرة.

على أن الخبر المدعى مترتب على صحة هذه المسألة، لأن الصدق والكذب سواء عندك، فتصديق الكاذب كتصديق الصادق، فيجوز أن جميع الشرائع كذب، ولم يجيءسلفك بفرقٍ يتلعثم عنده الأبله فضلاً عن العقلاء، وأكثر اعتذارهم أن العادة قاضية بصدق من ظهرت عليه المعجزة، وهذا الكلام مع سماجته من عدّة جهات - كما قد أوضحناه في كتابنا العلم الشامخ - لم يقع على محلّ النزاع، لأن منكر النبوّة لم يعلّق إنكاره بآخر النبي، إنما أنكر النبوّة مطلقاً، فأوّل النبي يورد عليه جوّز أنه كاذب، ولا يلزم من المعجزة الصدق بل

٥٧

التصديق ولا تجدي، فهل يتكلّم ويعتذر بها من فيه مِرعة من الحياء! سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلّا أنت!

واعلم أن هذه المسألة متّصلة بمسألة تعليل أفعال الباري تعالى، لأنا لا نريد بتعليل أفعاله إلّا أنه لا يفعل إلّاناظراً إلى كون الشيء حكمةً وأولى، ولا يجوز خلوّ فعله عن ذلك، لأنه عبث، وفاعل العبث ليس بحكيم، وفاعل القبيح أي الفاعل لأجل القبح كذلك، والحكيم من كان فعله لحكمةٍ ليس إلّا، فمن فرّق فمن فرّق بين المسألتين كسعد الدين فقد أخطأ.

وقد ذيّلوا هذا القول بعذرٍ أقبح منه، قالوا: جميع أفعال الله تعالى لا تخلو عن فائدةٍ وعاقبة محمودة، لكنّها غير مقصودة، فلزمهم سدّ باب إثبات الصانع، لأن عجائب الملكوت ومحاسن الشرائع إتّفاقية، وحينئذٍ فلا دليل لهم على إثبات الصانع، لتجويزهم تخصيصها، مع أنها تفوت الحصر كثرةً بلا تخصيص، وحصول نفس العالم فرد واحد، فيجوز حصوله بلا مرجح، على أن من جعل ابتناء البيت اتّفاقياً لم يتلعثم أحد في تكذيبه، فكيف نظام العالم!

وأيضاً، أنكروا نعمة الله تعالى، لأن ما لم يقصد ليس بنعمة.

وأيضاً، فهو مناقضة محضة مع قولهم أن كل واقع بفعله، وفي الواقع ما ليس بمحمود: وخذ ما شئت من هذا القبيل.

ومن أقبح تفريعاتهم قولهم: يجوز أن يبدّل الله تعالى الشّرائع بنقائضها، فيحرم الصدق ويوجب الكذب، ويحرّم عبادة الرحمن وشكره، ويوجب عبادة الشيطان: وعلى الجملة: يوجب كلّ قبيح ويحرّم كلّ حسن. وهو تفريع صحيح على أصلٍ خبيث.

وقد فرّع عليهما البيضاوي في منهاجه جواز التكليف بالمحال لذاته، قال: لأن حكمته تعالى لا تستدعي غرضاً، فلا يستدعي التكليف إلا الإتيان به.

٥٨

وهذا منه تعطيل لمعنى الطلب، فيتعطّل جميع التكاليف، ولم أر غيره اجترأ على ذلك، وهو من المخلصين لاُصول الأشعري، وحاصلها التعطيل كماترى »(١) .

وقال المقبلي.

« المثال الثامن: قال الله تعالى:( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) لا أوضح من هذا النص، وقد أكده بآلة الحصر من النفي والإستثناء، فهو صراط المستقيم: فمالت عنه الأشاعرة إلى أقصى مرمى: وقالت بلسان المقال ولسان اُصولهم: ليس الأمر كذلك، بل لا لغرضٍ أصلاً فضلاً عن الحصر، وزادت على ذلك، فنفت الغرض على العموم، فلا يوجد منه تعالى فعل لغرض.

وتزايد شرّهم من وقتٍ إلى وقت، حتى صرّح البيضاوي في منهاجه في الاصول بناءً على هذه القاعدة الفلسفيّة: إن مدلول الأوامر والنواهي غير مطلوب حصوله، وإلّا كان غرضاً وهو مستحيل، صحّح بذلك التكليف بغير الممكن، فاستنتج من الحيّة عقرباً

ولم أر من تجاسر على هذا التفريع، فهو إذاً رئيس متخلّعة المتكلّمين، وفي كلماته في تفسيره شيء من هذه الرائحة الخبيثة، فهو في الكلام في الجبرية كابن عربي وأهل نحلته في متخلّعة المتصوّفة، وكلّهم ذريّة بعضها من بعض »(٢) .

وقال: « بحث التحسين والتقبيح: اختلف الناس هل للأفعال في نفس الأمر، حقائق متقرّرة في نفسها هي أهل لأن تراعي وتؤثّر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المتّصف بها كالصدق والإنصاف وإرشاد الضالّ مثلاً، وحقائق هي [ متقرّرة ] في نفسها أهل لأنْ يعدل عنها وتستتبع الوضع من شأن من اتّصف بها من تلك الحيثيّة كالكذب والظلم؟

___________________

(١). المسائل الملحقة بالابحاث المسددة.

(٢). المسائل الملحقة بالابحاث المسددة.

٥٩

قالت المعتزلة وأكثر العقلاء الحنفية: نعم: والمراد بالحنفيّة هم المعروفون بالماتريدية، نسبة إلى أبي المنصور الماتريدي: وكذلك أفرد من غيرهم، كالإمام المحقق الشهير ابن تيمية، حتى عدّها عليه السبكي مما خالف فيه الإجماع أو الأكثر: وقد دلّ ذلك على نزول درجة السبكي! فإن دعوى الإجماع كاذبة، وكذلك الكثرة، مع أنّ مخالفة الأكثر غير ضائرة( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ولم ينفرد ابن تيمية، فكم من الحنابلة من صنّف في الحطّ على الأشعري وأتباعه، كما تجده في التراجم للذهبي وغيره ومن جملة ما ينقم عليه هذه المسألة، فيقلّ القائلون بها، لأن المذاهب المشهورة بين مطبقة على خلاف الأشعري أو مختلفة مع تهجين المخالف لهذه المقالة، فلا يغرّنك شيوعها في هذه المقلدة كالسبكي وولده، فلهم حوامل قد كرّرنا أسبابها إن كانت موفّقاً، ومن عدل بالله غيره فقد شابه الكفار »(١) .

ترجمة المقبلي

قال الشوكاني بترجمة المقبلي ما ملخصه: « صالح بن مهدي، أخذ العلم عن جماعة من أكابر علماء اليمن ...، ثم دخل بعد ذلك صنعاء، وجرت بينه وبين علمائهم مناظرات أوجبت المنافرة، لما فيه من الحدّة والتصميم على ما تقضيه الأدلّة وعدم الإلتفات إلى التقليد: ثم ارتحل إلى مكّة واستقرّ بها، حتى مات في سنة ١١٠٨.

وهو ممن برغ في جميع علوم الكتاب والسنّة، وحقق الاصول والعربية والمعاني والبيان والحديث والتفسير، وفاق في جميع ذلك، وله مؤلَّفات كلّها مقبولة عند العلماء، محبوبة إليهم، يتنافسون فيها ويحتجّون بترجيحاته، وهو حقيق بذلك.

___________________

(١). العلم الشامخ: ٣٢.

٦٠