تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 417942 / تحميل: 5456
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

تَذْكِرَةُ الْفُقَهاء

الجزء الرّابع عشر

تأليْفُ : العَلّامِةَ الحِليْ

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

المقصد الثالث : في التفليس‌

وفيه فصول :

الأوّل : المفلس مَنْ ذهب خيار ماله وبقي دونه ، وصار ماله فلوساً زيوفاً.

والإفلاس مأخوذ من الفلوس. وقولهم : أفلس الرجل ، كقولهم : أخبث ، أي : صار أصحابه خُبثاء ؛ لأنّ ماله صار فلوساً وزيوفاً ، ولم يبق له مال خطير ، وكقولهم : أذلّ الرجل ، أي : صار إلى حالة يذلّ فيها. وكذا أفلس ، أي : صار إلى حالة يقال فيها : ليس معه فلس ، أو يقال : لم يبق معه إلّا الفلوس ، أو كقولهم : أسهل الرجل وأحزن : إذا وصل إلى السهل والحزن ؛ لأنّه انتهى أمره وما صرفه إلى الفلوس.

والأصل أنّ المفلس في العرف هو الذي لا مال له ولا ما يدفع به حاجته ، ولهذا لـمّا قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتدرون مَن المفلس؟ » قالوا : يا رسول الله المفلس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع ، قال : « ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس مَنْ يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال ويأتي‌

٦

وقد ظلم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شي‌ء أخذ من سيّئاتهم فيردّ عليه ثمّ صلّ في النار »(١) .

هذا في عرف اللغة ، وأمّا في الشرع فقيل : مَنْ عليه الديون بحيث لا يفي بها ماله(٢) . وشمل مَنْ لا مال له البتّة ، ومَنْ له مالٌ قاصر.

وسُمّي مفلساً وإن كان ذا مال ؛ لأنّ ماله يستحقّ الصرف في جهة دَيْنه ، فكأنّه معدوم ، وقد دلّ عليه تفسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : مفلس الآخرة ، فإنّه أخبر أنّ له حسنات كالجبال لكنّها دون ما عليه ، فقُسّمت بين الغرماء ، فبقي لا حسنة له. ومِثْلُ هذا الرجل يجوز للحاكم الحَجْر عليه بشرائط تأتي.

وهذا التعريف شامل لمن قصر ماله ومَنْ لا مال له ، فيحجر عليه في المتجدّد باحتطابٍ وشبهه.

والفلس سبب في الحجر بشروط خمسة : المديونيّة ، وثبوت الديون عند الحاكم ، وحلولها ، وقصور ما في يده عنها ، والتماس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.

مسألة ٢٥٨ : إذا حجر الحاكم عليه ، ثبت حكمان :

[ أحدهما ](٣) : تعلّق الدَّيْن بماله وإن تجدّدت الماليّة بعد الحجر حتى لا ينفذ تصرّفه فيه بما يضرّ الغرماء ولا تزاحمها الديون الحادثة.

والثاني : أنّ مَنْ وجد عند المفلس عينَ ماله كان أحقَّ به من غيره.

ولو مات مفلساً قبل أن يحجر عليه ، تعلّقت الديون بالتركة [ و ](٤) لا فرق بين المفلس وغيره.

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٩٢ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ ، وبمعناه في صحيح مسلم ٤ : ١٩٩٧ / ٢٥٨١ ، وسنن الترمذي ٤ : ٦١٣ / ٢٤١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٢.

(٣ و ٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٧

وهل يختصّ الغريم بعين ماله؟ الأقرب : أنّ له الرجوعَ إن كان ما تركه المفلس يفي بالديون ، وإن قصر فلا.

وقال أبو حنيفة : ليس للحاكم أن يحجر عليه ، فإن أدّى اجتهاده إلى الحجر عليه وفَعَل وأمضاه حاكمٌ ، ثبت الحجر ، وليس له التصرّف في ماله ، إلّا أنّ المبيع الذي يكون في يده يكون أُسوةَ الغرماء ، وليس للبائع الرجوعُ فيه(١) .

وهو خطأ ؛ فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حجر على معاذ.

قال عبد الرحمن بن كعب(٢) : كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه [ و ](٣) لم يكن يمسك شيئاً ، فلم يزل يُدان حتى أغرق ماله في الدَّيْن ، فكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غرماءه ، فلو تُرك أحد من أجل أحدٍ لتُرك معاذ من أجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فباع لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مالَه حتى قام معاذ بغير شي‌ء(٤) .

قيل : إنّما لم يترك [ الغرماء ](٥) لمعاذ حين [ كلّمهم ](٦) النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّهم كانوا يهوداً(٧) .

مسألة ٢٥٩ : إذا مات المفلس ووجد البائع عين ماله‌ ، فقد نقلنا‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ و ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤ ، المغني ٤ : ٤٩٤ و ٥٢٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٠ و ٥٩٣.

(٢) في المصادر - ما عدا المغني - : « كعب بن مالك » لا « عبد الرحمن بن كعب ».

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ٤٨ ، المستدرك - للحاكم - ٣ : ٢٧٣ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ٢٦٨ / ١٥١٧٧ ، المغني ٤ : ٤٩٣ و ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٥.

(٥) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « كلّموا ». وما أثبتناه من المصدر ، وهو الموافق لما في بقيّة المصادر المذكورة في الهامش (٤)

(٧) المغني ٤ : ٤٩٣.

٨

الخلافَ فيه ، وقلنا : إنّه لا يختصّ به البائع إلّا مع الوفاء ، وبه قال مالك(١) ، خلافاً للشافعي وأحمد(٢) .

وذلك لأنّ الميّت قد انقطع تحصيله ولا ذمّة له ، فلو خصّصنا البائع بسلعته مع عدم وفاء التركة بالديون ، كان إضراراً بباقي الدُّيّان ؛ لحصول اليأس من استيفاء الحقّ منه ، فوجب اشتراك جميع الدُّيّان في جميع التركة ؛ عملاً بالعَدْل.

ولأنّ الأصل عدم الرجوع ؛ لانتقال العين إلى المفلس بالشراء ، تُرك العمل به في صورة الحيّ ؛ للإجماع والنصّ ، فيبقى الباقي على حكم الأصل.

ولما رواه العامّة من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه ، فهو أحقّ به ، وإن مات فهو أُسوة الغرماء »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو ولّاد - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل باع من رجل متاعاً إلى سنة فمات المشتري قبل أن يحلّ ماله وأصاب البائع متاعه بعينه ، له أن يأخذه إذا تحقّق له؟ قال : فقال :

____________________

(١) المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٣٧ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٨ ، المعونة ٢ : ١١٨٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٤١٨ ، المغني ٤ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : (٣)

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٣ ، الوسيط ٤ : ٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٨ ، المغني ٤ : ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨ ، وفي الأخيرين قول أحمد على العكس ، لا ما نُسب إليه في المتن ، وأمّا المنسوب إليه فهو في « العزيز شرح الوجيز » فلاحظ.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٦ - ٢٨٧ / ٣٥٢٠ و ٣٥٢٢.

٩

« إن كان عليه دَيْنٌ وترك نحواً ممّا عليه فيأخذ إن تحقّق له ، ولو لم يترك نحواً من دَيْنه فإنّ صاحب المتاع كواحدٍ ممّن له عليه شي‌ء ، يأخذ بحصّته ، ولا سبيل له على المتاع »(١) .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ أكثر الشافعيّة ذهبوا إلى أنّه إذا مات وخلّف وفاءً ، لم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها(٢) .

وقال بعضهم : إنّ له أن يرجع فيها إذا مات المشتري وخلّف وفاءً(٣) ، كما ذهبنا إليه ؛ لما قلناه من حديث(٤) أبي هريرة ، وما رويناه من طريق الخاصّة عن الصادقعليه‌السلام .

ولأنّ قبض ثمن السلعة من التركة لا يستقرّ ؛ لأنّه ربما ظهر غريمٌ آخَر فيلزمه ردّ بعض ما أخذه أو كلّه.

واحتجّ الشافعي : بأنّ ماله يفي بقضاء ديونه ، فلم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها ، كما لو كان حيّاً(٥) .

والفرق ظاهرٌ ؛ فإنّ الحيّ يرجع إلى ذمّته لو خرج المقبوض مستحقّاً ، بخلاف الميّت.

واعلم أنّ الشافعي ردّ على مالك - حيث لم يجوّز له الرجوع بعين المال بعد موت المفلس - : قد جعلتم للورثة أكثر ممّا للموروث الذي عنه(٦)

____________________

(١) التهذيب ٦ : ١٩٣ / ٤٢١ ، الاستبصار ٣ : ٨ / ٢٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣ ، المغني ٤ : ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨.

(٤) تقدم تخريجه في ص ٨ ، الهامش (٣)

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « عنه » : « عليه ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

١٠

ملكوا ، وأكثر حال الوارث أن لا يكون له إلّا ما للميّت(١) .

وقد اعترضه المزني بأنّه قال في الحبس : إذا هلك أهله رجع إلى أقرب الناس بالمحبس. فجَعَل لأقرب الناس بالمحبس [ في حياته ] ما لم يجعل للمحبس(٢) .

وأُجيب عن كلام المزني : بأنّ الواقف إذا وقف وقفاً منقطعاً هل يصحّ؟ قولان ، فإن قلنا : يصحّ ، فإنّه يرجع إذا انقرض الموقوف عليهم إلى الفقراء من أقارب الواقف ، لا على سبيل الميراث عنه ، وإنّما جعله صدقة ، وسبيل الصدقة الفقراء والمساكين ، فجعل أقارب الواقف أولى من غيرهم ، فأمّا الواقف فلا ترجع إليه صدقته ؛ لأنّه لا يكون متصدّقاً على نفسه ، وفي مسألتنا هذه جعل حقّ الورثة آكد من حقّ مورّثهم ، فاختلفا(٣) .

مسألة ٢٦٠ : المنع من التصرّف يفتقر إلى حكم الحاكم بالحجر إجماعاً‌ ، فلو لم يحجر عليه الحاكم ، نفذت تصرّفات المفلس بأسرها ، وليس للغرماء منعه من شي‌ء منها إلّا بعد حجر الحاكم عليه.

أمّا الرجوع إلى عين المبيع أو عين القرض أو غير ذلك من أمواله التي هي معوّضات الديون فهل يفتقر صاحبها إلى سبق الحجر كمنع التصرّف أم لا؟ فيه إشكال ينشأ : من قولهعليه‌السلام : « أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه »(٤) - الذي رواه العامّة - أثبت الأحقّيّة بمجرّد الإفلاس ، ومن طريق الخاصّة : رواية الكاظمعليه‌السلام وقد سأله‌

____________________

(١ و ٢) مختصر المزني : ١٠٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٤.

(٤) المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٦٠ ، سنن الدار قطني ٣ : ٢٩ / ١٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : (٥)

١١

عمر بن يزيد عن الرجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده بعينه ، قال : « لا يحاصّه الغرماء »(١) ولم يشرط في ذلك الحجر ، ومن أنّه مالٌ انتقل إليه بعقدٍ شرعيّ ، فلا يخرج عنه إلاّ بوجهٍ شرعيّ ، ولا وجه إلّا الحجر ، فإنّه يمنعه من التصرّف فيه ، فيتحقّق حينئذٍ أولويّة البائع والمقرض وغيرهما بعين أموالهم.

على أنّ الأحقّيّة في حديث العامّة لا تقتضي الأخذ بدون الحجر ، فيجوز أن يكون « أحقّ » على معنى أنّ له التمكّن من الرجوع إلى عينه بسلوك الأسباب المفضية إليه ، ومن جملتها : طلب الحجر ، والإفلاس يفيد الأحقّيّة.

وكذا في حديث الكاظمعليه‌السلام في قوله : « لا يحاصّه الغرماء » فإنّه لا يقتضي جواز الأخذ من غير حجر.

____________________

(١) التهذيب ٦ : ١٩٣ / ٤٢٠ ، الاستبصار ٣ : ٨ / ١٩.

١٢

١٣

الفصل الثاني : في شرائط الحجر عليه‌

قد ذكرنا(١) أنّ الشرائط خمسة : المديونيّة - ولا بُدَّ منه ؛ فإنّ مَنْ لا دَيْن عليه لا يجوز الحجر عليه ، غنيّاً كان أو فقيراً - مع بلوغه ورشده وعدم سفهه ، فلو حجر عليه الحاكم ، كان لغواً. ولو استدان بعد ذلك ، لم يمنع من الاستدانة ، وكذا لا يمنع من سائر التصرّفات ، ولا يؤثّر الحجر في منعه من التصرّف فيما اكتسبه من الأموال. ولأنّ سؤال الغرماء شرط(٢) في الحجر ، فلا يتحقّق من دون الدَّيْن.

مسألة ٢٦١ : من شرائط الحجر قصور أموال المديون عن الديون‌ ، فلو ساوت الديون أو فضلت عنها ، لم يجز الحجر عند علمائنا - وهو أحد قولي الشافعي - لأصالة عدم الحجر ، ورفع اليد عن العاقل ، ثبت خلافه فيما إذا قصرت أمواله عن ديونه حفظاً لأموال الغرماء ، فبقي الباقي على الأصل. ولأنّ الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم واستيفاؤها في الحال.

والثاني له : الحجر إذا ظهرت عليه أمارات الفلس(٣) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ في ماله وفاء ديونه ، فلم يحجر عليه ، كما لو لم تظهر أمارات الفلس.

____________________

(١) في ص ٦

(٢) هذا هو الشرط الخامس كما يأتي في ص ٢٠ ، المسألة ٢٦٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

١٤

وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحجر مطلقاً ، بل يُحبس الغريم أبداً إلى أن يقضيه(١) .

فروع :

أ - لا فرق عندنا في المنع من الحجر مع وفاء ماله بديونه بين أن تظهر عليه أمارات الفلس‌ - مثل أن تكون نفقته من رأس ماله ، أو يكون ما في يده بإزاء دَيْنه ولا وجه لنفقته إلّا ما في يده - أو لا تظهر بأن تكون نفقته في كسبه أو ربح رأس ماله ، خلافاً للشافعي(٢) .

ب - إذا كان مالُه يفي بديونه ، لم يُحجر عليه إجماعاً‌ ، بل يُطالب بالديون ، فإن قضاها ، وإلّا تخيّر الحاكم مع طلب أربابها منه بين حبسه إلى أن يقضي المال ، وبين أن يبيع متاعه عليه ، ويقضى به الدَّيْن ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة حيث أوجب الحبس ، ومَنَع من البيع(٤) .

ج - إذا رفع الغرماء الغريمَ إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه ، لم يُجِبْهم إلى ذلك حتى تثبت عنده الديون وقصور أمواله‌ ، فينظر في ماله هل يفي بديونه أم لا؟ فينظر مقدار ما عليه من الديون ويقوم ماله بذلك؟

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ ، المغني ٤ : ٥٢٩ - ٥٣٠.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٨ - ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٤ و ١٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ ، المغني ٤ : ٥٢٩ - ٥٣٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨.

١٥

د - معوّضات الديون والأعيان التي أثمانها عليه تقوَّم من جملة أمواله‌ - وهو أحد قولي الشافعيّة(١) - لأنّ أصحابها بالخيار بين أن يرجعوا وبين أن لا يرجعوا ويطالبوه بالثمن.

وفي الثاني : لا تُقوَّم ؛ لأنّ لأربابها الرجوع فيها ، فلا تُحسب أثمانها عليه ولا يقوّمها مع ماله(٢) .

وما قلناه أقوى.

ه- قد قلنا : إنّه إذا كان في أمواله وفاء لديونه ، لم يُحجر عليه.

وللشافعي قولٌ آخَر : إنّه يُحجر عليه مع ظهور أمارات الفلس ، فحينئذٍ - على قوله - هل يكون لمن وجد متاعه بعينه أن يرجع فيه؟ له وجهان :

أحدهما : له ذلك ؛ لقولهعليه‌السلام : « فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه »(٣) ولم يفصّل. ولأنّ الحجر موجود.

والثاني : ليس له الرجوع فيها ؛ لأنّه يصل إلى ثمنها من مال المشتري من غير تبرّع الغرماء ، فلم يكن له الرجوع في العين ، كما قبل الحجر(٤) .

و - لو لم يكن له مالٌ البتّة ، ففي جواز الحجر عليه إشكال‌ ينشأ : من عدم فائدة الحجر ، وهي التحفّظ بما في يده عن الإتلاف ، ومن الاكتفاء بمجرّد الدَّيْن لجواز الحجر منعاً له من التصرّف فيما عساه يتجدّد في ملكه باصطيادٍ واتّهابٍ وظفر بركاز وغيرها.

مسألة ٢٦٢ : من شرائط الحجر ثبوتُ الدَّيْن عند الحاكم‌ ؛ لأنّ المتولّي‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (٤)

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٨ - ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥ - ٣٦٦.

١٦

للحجر الحاكم ، وليس له الحجر مجّاناً بقول مَنْ كان ، بل ما لم تثبت الديون - إمّا بالبيّنة أو بالإقرار - لم يجز له الحجر.

مسألة ٢٦٣ : ومن الشرائط كوْنُ الديون حالّةً‌ ، فلو كانت مؤجَّلةً ، لم يجز الحجر بها ، سواء كان مالُه يفي بها أو لا ؛ لأنّه ليس لهم المطالبة في الحال ، وربما يجد الوفاء عند توجّه المطالبة ، فلا تُعجَّل عقوبته بمنعه من التصرّف.

ولو كان البعض حالّاً والباقي مؤجَّلاً ، فإن وَفَتْ أمواله بالديون الحالّة ، فلا حجر ؛ لعدم اعتبار الديون المؤجَّلة. وإن قصرت عنها ، وجب الحجر.

وإذا حُجر عليه بالديون الحالّة ، لم تحلّ عليه الديون المؤجَّلة - وهو أصحّ قولي الشافعيّة ، واختاره المزني وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لأنّ المقصود من التأجيل التخفيفُ ليكتسب في مدّة الأجل ما يقضي به الدَّيْن ، وهذا المقصود غير ثابت ، بخلاف الميّت ؛ فإنّ توقّع الاكتساب منه قد بطل. ولأنّه دَيْنٌ مؤجَّل على حيّ ، فلا يحلّ قبل أجله ، كغير المفلَّس ، بخلاف الميّت ؛ فإنّ ذمّته قد بطلت.

والثاني للشافعي : أنّها تحلّ - وبه قال مالك وأحمد في الرواية الأُخرى - لأنّ الإفلاس سبب في تعلّق الدَّيْن بالمال ، فأسقط الأجل ، كالموت(٢)

____________________

(١) التنبيه : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٤ ، الوجيز ١ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤ ، المغني ٤ : ٥٢٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٣.

(٢) التنبيه : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٤ ، العزيز =

١٧

وقد مرّ الفرق.

ورتَّب بعضُ الشافعيّة هذين القولين على القولين في أنّ مَنْ عليه الدَّيْنُ المؤجَّل لو جُنّ هل يحلّ الأجل؟ وأنّ الحلول في صورة الجنون أولى ؛ لأنّ المجنون لا استقلال له كالميّت ، ووليُّه ينوب عنه كما ينوب الوارث عن الميّت(١) .

ورأى الجويني الترتيبَ بالعكس أولى ؛ لأنّ وليَّ المجنون له أن يبتاع له بثمنٍ مؤجَّل عند ظهور المصلحة ، فإذا لم يمنع الجنونُ التأجيلَ ابتداءً فلأن لا يقطع الأجلَ دواماً كان أولى(٢) .

وعندنا أنّ الجنون لا يوجب الحلول.

مسألة ٢٦٤ : إنّما يقسّم الحاكمُ أموالَه على الديون الحالّة خاصّةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّلة‌ ، فيبيع أمواله ويقسّمها على الحالّة بالنسبة ، ولا يدّخر شيئاً لأصحاب الديون المؤجَّلة ، ولا يدام الحجر بعد القسمة لأصحاب الديون المؤجَّلة ، كما لا يُحجر بها ابتداءً ، وهو أحد قولي الشافعي.

وفي الآخَر : أنّها تحلّ الديون المؤجَّلة ، فيقسّم المال بين أصحاب هذه الديون والديون الحالّة ابتداءً ، كما لو مات(٣) .

وإن كان في الديون المؤجَّلة ما كان ثمن مبيعٍ وهو قائم عند المفلس ، فلصاحبه الرجوع إلى عين ماله - عنده(٤) - كما لو كان حالّاً ابتداءً.

____________________

= شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٣٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٦ ، الذخيرة ٨ : ١٧٢ ، المغني ٤ : ٥٢٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٣.

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٦)

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

١٨

وقال بعض الشافعيّة : فائدة الحلول أن لا يتعلّق بذلك المتاع حقُّ غير بائعه ، ويكون محفوظاً إلى مضيّ المدّة ، فإن وجد المفلس وفاءً فذلك ، وإلّا فحينئذ يفسخ(١) .

وقيل : لا يفسخ حينئذٍ أيضاً ، بل لو باع بثمنٍ مؤجَّل وحَلَّ الأجل ثمّ أفلس المشتري وحُجر عليه ، فليس للبائع الفسخُ والرجوعُ إلى المبيع ؛ لأنّ البيع بالثمن المؤجَّل يقطع حقّ البائع عن المبيع بالكلّيّة ، ولهذا [ لا ](٢) يثبت فيه حقّ الحبس للبائع(٣) .

والأصحّ عندهم : الأوّل(٤) .

وقال أحمد : يكون موقوفاً إلى أن يحلّ الدَّيْن ، فيفسخ البائع إن شاء ، أو يترك(٥) .

مسألة ٢٦٥ : لو اشترى بعد الحجر عليه أمتعةً بأثمان مؤجَّلة أو حالّة ، دخلت في البيع في قضاء الديون‌ ، كسائر أموال المفلس ؛ لأنّه مَلَكها بالبيع ، فكانت كغيرها ، وليس لبائعها تعلّقٌ بها ؛ لأنّه لا مطالبة له في الحال إن كانت مؤجَّلةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّل بالحجر ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة على القول بعدم الحلول.

والثاني : أنّها لا تُباع ، فإنّها كالمرهونة بحقوق بائعها ، بل تُوقف إلى انقضاء الأجل ، فإن انقضى والحجر باقٍ ، يثبت حقّ الفسخ. وإن أطلق ، فكذلك ولا حاجة إلى إعادة الحجر ، بل عزلها وانتظار الأجل كإبقاء الحجر‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٥) المغني ٤ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٣ - ٥٣٤.

١٩

بالإضافة إلى المبيع(١) .

وعلى ما اخترناه من جواز بيعها لو لم يتّفق بيعها وقسمتها حتى حلّ الأجل ، فالأقرب : جواز الفسخ الآن.

وللشافعيّة وجهان(٢) .

ولو اشتراها بثمنٍ حالّ ، كان لصاحبها الاختصاصُ أو الضرب بالثمن مع الجهل ، ومع العلم الصبرُ. ويُحتمل الضربُ. وكذا المقرض.

ونقل الجويني وجهاً آخَر فيما إذا كان الثمن مؤجَّلاً : أنّه لا بُدَّ من إعادة الحجر ليثبت حقّ الفسخ(٣) .

ولو لم يكن عليه إلّا ديون مؤجَّلة وطلب أصحابُها الحجْرَ ، لم يُجابوا - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٤) - لأنّ طلب الحجر فرع طلب الدَّيْن وعسر تخليصه فلا يتقدّم عليه.

والثاني : نعم ؛ لأنّهم يتوسّلون به إلى الحلول أو(٥) المطالبة(٦) .

مسألة ٢٦٦ : قد ذكرنا أنّه يشترط كون الديون زائدةً على قدر ماله‌ ، فلو كانت مساويةً والرجل كسوبٌ ينفق من كسبه ، فلا حجر وإن ظهرت أمارات الإفلاس.

وقد تقدّم(٧) أنّ للشافعي وجهين فيما إذا ظهرت أمارات الإفلاس.

ويجري الوجهان فيما إذا كانت الديون أقلَّ وكانت بحيث يغلب على‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٧)

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « و» بدل « أو ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٧)

(٧) في ص ١٢ ، ضمن المسألة ٢٦١ ، وص ١٤ ، الفرع « أ ».

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

كقوله تعالى( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وقوله تعالى من بعد( ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) يجري هذا المجرى لانه تعالى لا يدعوهم في الحقيقة لكنه يجيبهم ويكمل عقولهم ويمكنهم فيخرجون ويرجعون إلى الله تعالى بمعنى إلى حيث لا حاكم سواه وقوله تعالى من بعد( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) ربما قالوا فيه ان ذلك يدل على جواز الضعف عليه. وجوابنا أنّه بمعنى هيّن كما إذا قلنا في الله انه أكبر وأعظم فالمراد به كبير عظيم وكما قال الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

والمعنى أنه عزيز طويل.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) كيف يصح ظهور الفساد لاجل كسبهم؟ وجوابنا أنهم إذا أفسدوا في الارض وظلموا ومنعوا الحقوق يظهر بذلك الفساد في الموضعين واذا قلت النعم من جهة الله تعالى لاجل ذلك كان ردعا لهم عن أمثال ما فعلوا وبذلك قال تعالى( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ولا يمتنع أن يكون الصلاح عند كسبهم أن يقع من الله تعالى التضييق في المعيشة على وجه الاعتبار كما فعله تعالى بأمم الأنبياء من إنزال العقاب بهم ولذلك قال تعالى بعده( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) فبيّن ما نالهم لاجل شركهم وقوله من بعد( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) هو خطاب للكل وإن كان لفظه خاصا والمراد بالوجه نفس الانسان فكأنه قال فأقم نفسك للدين القيم حتّى لا تحول عنه ولا تزول فلا تأمن في كل وقت من الاخترام فاذا ثبت على الاستقامة كنت من الفائزين

تنزيه القرآن (٢١)

٣٢١

ولذلك قال تعالى بعده( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) وقوله تعالى من بعد( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) يدل على أنه من فعله والا كانت اضافته إلى خالقه أولى وقوله تعالى( وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) يوجب أن ذلك من فعلهم أيضا وقوله تعالى من بعد( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) يدل أيضا على ذلك لان المجازاة من الله تعالى على نفس ما خلق لا تصح وقوله تعالى من بعد( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) يدل أيضا على ذلك لأن الكفر إن كان من خلقه فقد أراده وأحبه وإذا أراده فقد أحب الكافر إذ محبة الكافر هو محبة كفره وقوله تعالى من بعد( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) يدل على ان الجرم من قبلهم وقوله تعالى من بعد( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) يدل على ان ايمانهم من قبلهم إذ لو كان خلقا من الله لكان ناصرا لنفسه وذلك محال وقوله تعالى من بعد( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) هو على وجه المبالغة لتركهم القبول والتفكر وكذلك قوله( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ) ولذلك قال تعالى بعده( إذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) ولو أراد حقيقة الصم لكان حالهم في الاقبال كحالهم في الادبار ولذلك قال تعالى بعده( إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ) فأما قوله عز وجل( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) والضعف عرض لا يصح أن يخلق الجسم منه فالمراد المبالغة في ضعفه وهو على ما هو عليه وبيّن ان آخر أمره أن لا ينتظر له قوة بعد ضعف وبقوله تعالى( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) وكل ذلك تحريك لهم على التدارك إلى التوبة خصوصا وقد أدرك حال الشيبة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) كيف يصح أن يخبروا بذلك ويقسموا عليه وهو كذب وعندكم أنهم في الآخرة هم ملجئون

٣٢٢

الى أن يفعلوا القبيح؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك إخبارهم عن أنهم ما لبثوا غير ساعة عند أنفسهم لأنّ ما بين الموت والاعادة وان طالت مدته فهو كالقصير من الاوقات في أن المعاد لا يتبين له ذلك وقوله تعالى( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) يدل على ما نقول لأنه أن كان ظلمهم من خلق الله فهم مستغنون عن المعذرة.

٣٢٣
٣٢٤

سورة لقمان

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) كيف يصح مع ثقلها وعظمها أن تقف لا على عمد؟ وجوابنا أنّه تعالى اذ اسكنها حالا بعد حال وقفت وان كانت ثقيلة كما أن أحدنا يمسك يده وقد بسطها فمن حيث يفعل فيها السكون حالا بعد حال تثبت ولذلك متى لم يسكنها سقطت لانّ أحدنا يغفل ويلهو والله سبحانه يتعالى عن ذلك واختلف المفسرون في ذلك فقال بعضهم الفائدة فيه نفي نفس العمد أصلا على ما ذكرنا وقال بعضهم الفائدة فيه انا لا نرى العمد والاول هو أقوى وهو داخل في الاعجوبة وقوله تعالى من قبل( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يدل على أن المضل هو الانسان وأنه مذموم ويدل على أن كل قول قيل بلا علم في الاديان فهو مذموم وقوله تعالى المتصلة من بعد( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) يدل على أن العشرة بأحوال الدنيا قد تحسن مع المباينة في الدين ثمّ بين أن من أناب إلى الله يجب أن يتبع فقال( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ ) إلى قوله تعالى من بعد حاكيا عن لقمان( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) القصد فيه أن يتأمله المرء فيعمل به فان هذه الوصية جامعة للانقطاع إلى الله تعالى بعد المعرفة بعلمه وقدرته لان قوله تعالى( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أو فِي السَّماواتِ أو فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ

٣٢٥

إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) يؤذن بأن ما أقدم المرء عليه دق أم جل فهو معلوم لله وتكون المجازاة بحسبه وذلك ردع عظيم وهي جامعة القيام بالعبادات وهو بقوله( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ) وهي أيضا جامعة للآداب وما ينبغي أن يتمسك به المرء من الاخلاق والتواضع وهو بقوله( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) إلى آخر الكلام وقوله من بعد( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يدل على أن التمسك بالمذاهب إنما يحسن إذا كان عن علم وقوله( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إلى عَذابِ السَّعِيرِ ) مما لا مزيد عليه في بطلان التقليد لأنه تعالى بيّن أنهم إذا جاز أن يتركوا الدليل اتباعا لآبائهم من دون دلالة فقد جاز أن يرجعوا إلى اتباع الشيطان فيما يدعوهم اليه لأن ما في كلا الموضعين هو اعتماد على القول من دون دلالة وهذا هو الذي نعتمد عليه في بطلان التقليد ونقول إنه إذا جاز تقليد الآباء في الاسلام فيجوز تقليد أولاد النصارى لآبائهم لأن كل ذلك اعتماد على قبول القول من غير دلالة وقوله تعالى( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) يدل على أن كلام الله مقدور له يحدث حالا بعد حال لا كما قاله قوم من أنه متكلم بذات أو بكلام قديم لا يصح فيه زيادة ولا نقصان.

[ مسألة ] وربما تعلقوا بقوله تعالى( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ ) وقالوا يدل ذلك على أن جريه من فعل الله تعالى ليكون مضافا إلى الله تعالى ولو لا ذلك لوجب أن يكون مضافا إلى الملاح ولما صح أن يكون آية وقد قال تعالى( لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ) وجوابنا أنّ وجه الاعتبار في ذلك خلقه تعالى للماء في البحر على الصفة التي معها تجري السفن

٣٢٦

وخلقه الرياح على هذا الوجه ولو لا ذلك لـما صح جريها بفعل العباد وفي ذلك آيات الله تعالى ونعمه لأنه لو لا ذلك لـما صحّ التوصل إلى قطع البلاد وجلب النعم وقوله تعالى( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) يدل على أن الجحد لا يكون من خلق الله تعالى إذ لو كان من خلقه لـما صح أن يذمه هذا الذم العظيم وقوله تعالى من بعد( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) أي عقاب ربكم بالتحرز من المعاصي وقوله تعالى( وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) من أقوى دلالة ما يدل على أن وعده ووعيده لا يجوز أن يقع فيهما خلف ومن أقوى ما زجر الله به عباده عن المعاصي فإذا تدبر المرء عند قراءته ما ذكرنا عظم انتفاعه بذلك ؛ ولذلك قال بعده( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) يعني بذلك متاعها( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) زجر بذلك عن قبول كل قول يغر المرء ويصرفه عن التمسك بطاعة الله ثمّ بين تعالى ما يختص به عز وجل من العلم ولم يطلع العباد عليه بالادلة وان جاز أن يطلع أنبيائه على بعضه ليكون معزا لهم فقال جل من قائل( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) وفي ذلك دلالة على بطلان قول من يحكم أن أحكام المنجمين صحيحة فيما جرى هذا المجرى.

٣٢٧
٣٢٨

سورة السجدة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) أليس ذلك صريحا في أنه تعالى في السماء؟ وجوابنا أنّه جعل جل وعز السماء مكانا للملائكة وللأرزاق التي بها يحيي الناس ولذلك قال تعالى( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) فلاجل ذلك قال( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الْأَرْضِ ) ومعنى قوله( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) أي إلى المكان الذي لا حكم فيه الا حكمه لانّ الملائكة طوع الله ولا يفعلون إلا بأمره.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) . وجوابنا أنّ المراد بهذه الآية نزول الملائكة بالوحي وغيره من السماء إلى الارض ورجوعها إلى مكانها فلا يكون ألف سنة بل بين السماء والارض مسير خمسمائة عام وأما الآية الثانية فالمراد بها يوم القيامة ويدل عليه قوله تعالى( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) فبين أنه يطول ذلك الزمن على الكفار لشدته فيساوي لاجل تلك الشدائد خمسين ألف سنة وقوله من بعد( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) يبين أنه لا قبيح في قوله ولا أسمائه فان قيل ففي جملة ما خلق ما يقبح في الصورة. فجوابنا أنّ المراد نفي ما يقبح في العقل من فعله لا ما يستقبح في الصورة بين ذلك ان هيئة الانسان في صلاته وقضاء حاجته والنهي عن المنكر قد يستقبح في المنظر وتوصف مع ذلك بأنها حسنة وحكمة وقوله تعالى( أَإِذا ضَلَلْنا فِي

٣٢٩

الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) يدل على بطلان تعلقهم في باب الرؤية بذكر اللقاء لانّ الله عز وجل بين أنهم كافرون بلقاء ربهم وأراد كفرهم بالاعادة وبالثواب والعقاب وقوله عز وجل من بعد( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) المراد به يقولون ربنا وحذف مثل ذلك يحسن في الكلام إذا كان فيه ما يدل عليه ولا يجوز أن يتمنوا ذلك ويسألوه الا والعقاب من جهتهم يقع وباختيارهم يكون وقوله تعالى( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) فالمراد به على وجه الالجاء الذي وقع لم ينتفعوا به لانهم انما ينتفعون بما يفعلونه طوعا ليستحقوا به الثواب ولذلك قال تعالى( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وقوله( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) يدل على أن اللقاء ليس بمعنى الرؤية وأراد تركتم النظر والعلم بالاعادة وقوله تعالى( إِنَّا نَسِيناكُمْ ) والنسيان على الله تعالى لا يجوز والمراد به عاقبناكم على ترككم على مثال قوله تعالى( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) وقوله تعالى( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) يدل على أن الفاسق ليس بمؤمن لانه تعالى ميز بينهما فجعل للمؤمنين جنات المأوى وللفاسقين النار.

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله تعالى( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . وجوابنا أنّ المراد ما عجله من الآلام لكي يصلحوا فسماه عذابا مجازا ويجوز أن يريد بذلك عذاب القبر أو الحدود التي تقام على بعضهم فمن يعلم ذلك يكون أقرب إلى أن يرجع عن معاصيه وقوله تعالى( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ) أحد ما يدل على أن العبد مختار لفعله والا فالاعراض ممن لا يقدر على الشيء وتركه محال لأنه لا يقال في أحدنا أنه أعرض عما يعجز عنه

٣٣٠

وقوله تعالى من بعد( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) والمراد به العقاب يدل على أن كل مجرم وان كان من أهل الصلاة فالله تعالى ينتقم منه إلاّ أن يكون تائبا أو جرمه صغيرا وقوله تعالى من بعد( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا ) المراد به جعلناهم أنبياء وعلماء يقتدى بهم لأجل صبرهم فدل بذلك على أن الانبياء لو لا صبرهم عن معاصي الله لـما جعلوا أنبياء فيبطل بذلك قول من يجوز عليهم الكفر والكبائر قبل البعثة وقوله تعالى من بعد( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يحمل على أنه تعالى يفصل بينهم بالعلم فينقاد المبطل ويعرف المحق حاله في ذلك فان كان الفصل يقتضي نقل الاعراض فسيفعله تعالى.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) وكيف يصح والقوم يكذبون بذلك كما قال تعالى بعده( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ومن لا يؤمن بيوم القيامة كيف ينتظر ذلك؟ وجوابنا أنّ موتهم لـما كان مقدمة الاعادة جاز أن يقول ذلك ويحتمل أنهم على غير يقين مما قالوا فهم على شك وتجويز فحكمهم حكم المنتظر.

٣٣١
٣٣٢

سورة الاحزاب

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ما معنى ذلك فان كان تعريفا لنا فهو معلوم؟ وجوابنا ما جعل لأحد ما يتسع به في النظر في الامور وفي الامور وفي الاجتهاد وفي الرأي حتّى لا يشغله بعض ذلك عن بعض بين ذلك ان المراد مقصور على ما جرت به العادة على النظر في الدين والدنيا وقد قيل انه كان في الصحابة من يلقب بذلك ويعتقد فيه الاتساع في الرأي والمعرفة فانزل الله تعالى ذلك لان المنافقين زعموا أنه له قلبين.

[ مسألة ] ومتى قيل ما المراد بقوله( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) كيف يصح أن يكون أولى بهم من أنفسهم وكيف يصح في أزواجه أن يكنّ أمهاتهم؟ وجوابنا أنّه أولى بهم فيما يقتضي الانقياد في الشرع وأولى بهم فيما يتصل بالاشقاق أو المراد أنه أولى بهم من بعضهم لبعض كقوله تعالى فسلموا على أنفسكم واما أن أزواجه صلّى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فالمراد تأكيد تحريمهن على المؤمنين وتبرئة رسول الله عن ان يخلفه في أزواجه غيره ولذلك روي عن عائشة في امرأة قالت انك أمي انها أنكرت ذلك وقالت انما أنا أم رجالكم لأن التزويج في الرجال يصح فأكد ذلك بأن شبههن بالامهات وربما حذف في التشبيه اللفظ ليكون على وجه التحقيق كما يقال للرجل

٣٣٣

البليد هو حمار ولمن لا يصغي ولا يفهم انه ميت قال تعالى( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) .

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ) وقوله( وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) ما هذا الميثاق المأخوذ من أمم الانبياء؟ وجوابنا أنّه تعالى لـما أعلمهم بوجوب طاعته وطاعة الرسول ودلهم على ذلك ببعثة الرسل وغيرهم وألزمهم القيام بذلك كان ذلك أوكد من المواثيق بالايمان المغلظة وأعظم في وجوب الحجة عليهم في الآخرة ولذلك قال تعالى بعده( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) كيف يجوز أن يزيد في عقابهن وذلك ظلم يتعالى الله عنه؟ وجوابنا أنّ مكان اتصالهن برسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظم نعمة الله عليهن بذلك وبغيره يوجب ان ما يقع منهن من المعصية يكون أعظم عقابا لان المعصية تعظم بعظم نعمة المعصي كما ان معصية الولد لوالده وله عليه الحقوق العظيمة أعظم فبيّن الله تعالى ان عقاب معصيتهن لو وقعت منهن يكون أعظم لان ذلك عين المستحق فان قيل فقد قال تعالى( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ) فانه كان عظم المعصية لعظم النعمة فيجب في الطاعة ان يكون موقعها منهن أخف لان عظم النعمة كما يعظم المعصية يخفف أمر الطاعة. وجوابنا عن ذلك ان الطاعة لله تعالى تعظم لوجه آخر وهو ان الناس يقتدون بهن لعظم منزلتهن في القلوب كما قال صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك في من سن سنة حسنة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

٣٣٤

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ ) أليس ذلك يدل على انه تعالى يفعل فيهم الصرف عن المعاصي؟ وجوابنا أنّ المراد بهذا انه تعالى يلطف لهم زيادات الالطاف فلا يختارون الا الطاعة فهذا معنى الاذهاب بالرجس ولذلك قال بعده( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله في قصة زيد( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) . وجوابنا أنّه تعالى أحب فيما أراده من تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بامرأة زيد ان يكون مظهرا لذلك لانه من باب ما قد أحله الله تعالى له وأن لا يكون في قلبه من الناس ما يتكلف لاجله ابطان ذلك ولذلك قال( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ) وقوله تعالى( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) مع انه مقدم في الانزال على قوله تعالى( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) وهي التاسعة لان المعتبر في الناسخ أن يكون متأخرا في التعريف والانزال لا في التلاوة وقوله تعالى( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ) فيها اختلاف فبعض المفسرين يزعم أن ذلك مقدار ثابت بيّن به تعالى أنه يحل له التزوج فلا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلم مخصوص بذلك كما خص باباحة الزيادة على أربع ومنهم من يثبت الموهبة ولذلك قال تعالى( خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

[ مسألة ] ومتى قيل في قوله تعالى( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) بعبارة واحدة ذلك عندكم ممنوع منه وكيف يصح الصلاة من الله تعالى ومن الملائكة على الرسول؟ فجوابنا أنّ قوله تعالى( يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) يرجع إلى الملائكة فقط لانه تعالى يعظم أن يذكر مع غيره ولكنه يعقل بذلك أنه جل وعز أيضا يصلي على الرسول وصلاته جل وعز معناها الرحمة العظيمة والانعام الجسم وصلاة الملائكة الدعاء وقد قال تعالى قبل ذلك( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) وذكر ذلك في عباده والمراد أنه يرحمكم بالهداية لتصلوا إلى الثواب وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

٣٣٥

عَلَيْهِ ) المراد الدعاء له بالمغفرة والرحمة العظيمة وفي الفقهاء من استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه وعلى وجوبها في التشهد ومن حيث قال( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فقال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عرفنا معنى السلام عليك فكيف الصلاة عليك فعلمهم كيف يصلون عليه فيوردون ذلك في الصلاة كما علمهم التشهد من قبل.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ ) كيف يصح ذلك؟ وجوابنا أنّه تعالى يفعل ذلك في الحقيقة لانه قادر على ذلك فيكون أزيد في غمهم وقوله تعالى من بعد( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ) في السادة الذين اتبعوهم صحيح لان من سن سنة سيئة يزاد في عقابه فأما قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ) ففي المفسرين من قال دخل ليغتسل فلما خرج وثيابه على حجر عدا الحجر حتّى رؤي مكشوفا فبرّأه الله مما كانوا يضيفونه إليه من أنه7 آدر وهذا مما أنكره مشايخنا وقالوا إن ذلك لا يجوز على الانبياء وأن المراد بالآية أنهم اتهموه بأنه قتل هارون أخاه لانه مات قبله وكان في هارون ضرب من اللين وفي موسى صلّى الله عليه وسلم خشونة فلميلهم إليه قالوا هذا القول فبرّأه الله اعاده حتّى برئ موسى من هذه التهمة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ) كيف يصح ذلك فيها وهي من جملة الجمادات التي لا يصح أن تعرف وتعلم؟ وجوابنا أنّ المراد عرضنا الامانة أي تضييع الامانة وخيانتها على أهل السموات والأرض وهم الملائكة( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ) والاشفاق لا يصح إلا في الحي الذي يعرف العواقب ثمّ قال تعالى( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ولو حمل نفس الامانة لم يصح ذلك فيه.

٣٣٦

سورة سبأ

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) كيف يصح ذلك وقد زال التكليف؟

وجوابنا انه وان زال فالشكر والحمد لله في الآخرة يكثر لانهم يسرون بذلك فيشكرون نعم الوقت حالا بعد حال ويشكرون النعم المتقدمة وما يفعله المرء لربه لا يكون داخلا في التكليف.

[ مسألة ] ومتى قيل كيف يصح في قوله تعالى( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) وما تعلق به قوله تعالى( عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) مما تقدم وجوابنا أنّ من اقيمت له الدلالة على بطلان ما هو عليه مجوز إذا ذكر مذهبه أن يكون هذا جوابه لينبه على تقصيره فبيّن الله تعالى بأنه عالم الغيب وأنه يجازي كل أحد يوم القيامة بما استحقه على ما ذكره من بعد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) كيف يصح أن يأمر الله تعالى الجبال والطير وكيف يلين الحديد وفي تليينه إبطال كونه حديدا؟ وجوابنا أنّ ذلك بمنزلة قوله تعالى( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وليس ذلك بأمر فالمراد بيان أن الجبال والطيور لا تمتنع عليه فيما يريده فأما تليين الحديد فمعلوم أنه يلين بالنار ولا يخرج من ان يكون حديدا فجعله الله

تنزيه القرآن (٢٢)

٣٣٧

عز وجل لداود صلّى الله عليه وسلم بهذه الصفة أو جعله من حيث القوة بحيث يتصرف فيه كتصرف أحدنا في الطين وكل ذلك صحيح ولما بيّن عظم نعمه على داود وسليمان بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) وذلك يدل على ان النعم توجب مزيد الشكر والقيام بالطاعة على وجه الشكر وبيّن تعالى بقوله( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) ان التكليف وان عم الكثير فقليل منهم يقوم بحق شكره وذكر تعالى ذلك ليجتهد كل أحد أن يكون من جملة هذا القليل فيفوز بالثواب فاما قوله تعالى من بعد( وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) فلا يصح للخوارج الذين يقولون ان كل ذنب كفر ان يتعلقوا به لان المراد وهل نجازي بما تقدم ذكره إلا الكفور وقد أجرى الله تعالى العادة بانه لا يعذب بعذاب الاستئصال في الدنيا إلا من كفر وقوله تعالى( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) ربما يتعلق به المجبرة انه تعالى يفعل السير وذلك بعيد لان المقدر للشيء لا يجب أن يكون فاعلا له لان من بين الشيء كيف يفعل يوصف بانه قدره وان كان الفعل من غيره ولذلك قال بعده على وجه الامر( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) كيف يصح من العقلاء أن يسألوا ربهم أن يباعد بين أسفارهم وهي قريبة؟ وجوابنا أنّ ذلك منهم جاء على وجه الجهل كقوله تعالى( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) هذا إذا قرئ على هذا الوجه وقد قرئ ربنا باعد بين أسفارنا وذلك على وجه الجبر لانه غير أحوالهم فنالهم من المشاق في أسفارهم خلاف ما كانوا عليه وقد يقول الضعيف بعد عليّ الطريق لمزية مشقته وان كان حال الطريق لم يتغير.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ ) كيف يصح أن يصف نفسه بانه يعلم بانه لم يكن له عليهم سلطان وهو عالم بنفسه؟ وجوابنا أنّه تعالى

٣٣٨

يذكر العلم ويريد المعلوم كما ذكرنا من قبل فالمراد به أنه لا يقع من إبليس إلا الوسوسة والترغيب في المعاصي وعند ذلك يتميز من يؤمن ممن يشك ويجهل ولذلك قال بعده( وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي هو انه عالم بهذه الامور قبل أن تقع.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) من المراد بذلك وما معنى قوله لمن بعد( حَتَّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) وما الفائدة في هذا الجواب؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك الملائكة بيّن تعالى انهم لا يشفعون إلاّ بإذنه وأنهم بخلاف الشياطين فلا يقع منهم إلا ما هو طاعة لله تعالى وفي الخبر عن ابن مسعود أنه تعالى إذا أراد أن يكلم ملائكته بما لا يريد ظهوره لغيرهم يحدث في السماء صوتا عظيما يفزع منه سائر الملائكة فإذا انجلى يقولون للملائكة الذين كلمهم الله ما ذا قال ربكم فيجيبون بقولهم قالوا الحق أي قال ربنا الحق فيعلمون أن ذلك من الباب الذي يجب أن لا يظهر فهذا معناه وقد قيل ان الملائكة الذين ينزلون لكتب أعمال العباد إذا نزلوا فزع من هو دونهم من ذلك وتوهموا أن ذلك لقيام القيامة فيسألون ويجابون بما تقدم فأما قوله من بعد( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فالمراد بيان الحق وتمييزه من الضلال كما يقوله أحدنا لمن يستدعيه لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يعلم أنه على هدى وأن المشركين على ضلال وقوله تعالى من بعد( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) دليل قوي على ان العبد هو القادر عليه لأنه تعالى لو كان هو الخالق فيهم الايمان لـما صح أن يقولوا لو لا انتم

٣٣٩

لكنا مؤمنين بل الصحيح أن يقولوا لو لا خلق الله تعالى الكفر فينا لكنا مؤمنين فذلك يدل على قدرتهم على الايمان واعترافهم يوم القيامة بأن الذي صرفهم عن الايمان دعاء هؤلاء الرؤساء وانه لو لا دعاؤهم لكانوا يختارون الايمان وقوله تعالى من بعد( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) يدل أيضا على ما ذكرنا لأنهم بينوا أن الذي وقع منهم لم يكن صدّا لهم عن الهدى وقد ظهر لهم وتجلى أن ما وقع منهم إنما وقع باختيارهم ولو كان تعالى يخلق فيهم لكان أقوى حجة لهم أن يقولوا أنحن صددناكم بل الله خلق فيكم ذلك وقوله تعالى من بعد( وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) بيان من الله تعالى بان الاموال والاولاد لا تنفع في الآخرة وأن الذي ينفعهم إيمانهم وعملهم الصالح وبيّن من بعد بقوله تعالى( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) ما يقوى قلب المرء على الانفاق في طاعة الله فإن قيل فنحن نرى من ينفق ولا يخلف الله عليه شيئا. وجوابنا أنّ المراد فهو يخلفه متى كان صلاحا ولم يكن فسادا ولم يوقت ذلك بوقت وذلك يبطل السؤال.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) كيف يصح ذلك وفيهم من لم يكن يعبد الملائكة بل أكثرهم ليس بهذه الصفة؟ وجوابنا أنّ الغرض إبطال عبادة الله دون بيان لمن كانوا يعبدون من ملك أو جنّ أو صنم ولذلك قال تعالى بعده( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) فاذا أقبل على الملائكة جلّ وعزّ ونبّه على أن من عبدهم فقد عبد من لا يملك له ضرّا ولا نفعا فقد نبّه بذلك على ان عبادة الجن والصنم بهذا التوبيخ

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510