تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 418821 / تحميل: 5478
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

تَذْكِرَةُ الْفُقَهاء

الجزء الرّابع عشر

تأليْفُ : العَلّامِةَ الحِليْ

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

المقصد الثالث : في التفليس‌

وفيه فصول :

الأوّل : المفلس مَنْ ذهب خيار ماله وبقي دونه ، وصار ماله فلوساً زيوفاً.

والإفلاس مأخوذ من الفلوس. وقولهم : أفلس الرجل ، كقولهم : أخبث ، أي : صار أصحابه خُبثاء ؛ لأنّ ماله صار فلوساً وزيوفاً ، ولم يبق له مال خطير ، وكقولهم : أذلّ الرجل ، أي : صار إلى حالة يذلّ فيها. وكذا أفلس ، أي : صار إلى حالة يقال فيها : ليس معه فلس ، أو يقال : لم يبق معه إلّا الفلوس ، أو كقولهم : أسهل الرجل وأحزن : إذا وصل إلى السهل والحزن ؛ لأنّه انتهى أمره وما صرفه إلى الفلوس.

والأصل أنّ المفلس في العرف هو الذي لا مال له ولا ما يدفع به حاجته ، ولهذا لـمّا قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتدرون مَن المفلس؟ » قالوا : يا رسول الله المفلس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع ، قال : « ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس مَنْ يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال ويأتي‌

٦

وقد ظلم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شي‌ء أخذ من سيّئاتهم فيردّ عليه ثمّ صلّ في النار »(١) .

هذا في عرف اللغة ، وأمّا في الشرع فقيل : مَنْ عليه الديون بحيث لا يفي بها ماله(٢) . وشمل مَنْ لا مال له البتّة ، ومَنْ له مالٌ قاصر.

وسُمّي مفلساً وإن كان ذا مال ؛ لأنّ ماله يستحقّ الصرف في جهة دَيْنه ، فكأنّه معدوم ، وقد دلّ عليه تفسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : مفلس الآخرة ، فإنّه أخبر أنّ له حسنات كالجبال لكنّها دون ما عليه ، فقُسّمت بين الغرماء ، فبقي لا حسنة له. ومِثْلُ هذا الرجل يجوز للحاكم الحَجْر عليه بشرائط تأتي.

وهذا التعريف شامل لمن قصر ماله ومَنْ لا مال له ، فيحجر عليه في المتجدّد باحتطابٍ وشبهه.

والفلس سبب في الحجر بشروط خمسة : المديونيّة ، وثبوت الديون عند الحاكم ، وحلولها ، وقصور ما في يده عنها ، والتماس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.

مسألة ٢٥٨ : إذا حجر الحاكم عليه ، ثبت حكمان :

[ أحدهما ](٣) : تعلّق الدَّيْن بماله وإن تجدّدت الماليّة بعد الحجر حتى لا ينفذ تصرّفه فيه بما يضرّ الغرماء ولا تزاحمها الديون الحادثة.

والثاني : أنّ مَنْ وجد عند المفلس عينَ ماله كان أحقَّ به من غيره.

ولو مات مفلساً قبل أن يحجر عليه ، تعلّقت الديون بالتركة [ و ](٤) لا فرق بين المفلس وغيره.

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٤ : ٤٩٢ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ ، وبمعناه في صحيح مسلم ٤ : ١٩٩٧ / ٢٥٨١ ، وسنن الترمذي ٤ : ٦١٣ / ٢٤١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٢.

(٣ و ٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٧

وهل يختصّ الغريم بعين ماله؟ الأقرب : أنّ له الرجوعَ إن كان ما تركه المفلس يفي بالديون ، وإن قصر فلا.

وقال أبو حنيفة : ليس للحاكم أن يحجر عليه ، فإن أدّى اجتهاده إلى الحجر عليه وفَعَل وأمضاه حاكمٌ ، ثبت الحجر ، وليس له التصرّف في ماله ، إلّا أنّ المبيع الذي يكون في يده يكون أُسوةَ الغرماء ، وليس للبائع الرجوعُ فيه(١) .

وهو خطأ ؛ فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حجر على معاذ.

قال عبد الرحمن بن كعب(٢) : كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه [ و ](٣) لم يكن يمسك شيئاً ، فلم يزل يُدان حتى أغرق ماله في الدَّيْن ، فكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غرماءه ، فلو تُرك أحد من أجل أحدٍ لتُرك معاذ من أجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فباع لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مالَه حتى قام معاذ بغير شي‌ء(٤) .

قيل : إنّما لم يترك [ الغرماء ](٥) لمعاذ حين [ كلّمهم ](٦) النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّهم كانوا يهوداً(٧) .

مسألة ٢٥٩ : إذا مات المفلس ووجد البائع عين ماله‌ ، فقد نقلنا‌

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ و ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤ ، المغني ٤ : ٤٩٤ و ٥٢٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٠ و ٥٩٣.

(٢) في المصادر - ما عدا المغني - : « كعب بن مالك » لا « عبد الرحمن بن كعب ».

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ٤٨ ، المستدرك - للحاكم - ٣ : ٢٧٣ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ٢٦٨ / ١٥١٧٧ ، المغني ٤ : ٤٩٣ و ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٥.

(٥) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « كلّموا ». وما أثبتناه من المصدر ، وهو الموافق لما في بقيّة المصادر المذكورة في الهامش (٤)

(٧) المغني ٤ : ٤٩٣.

٨

الخلافَ فيه ، وقلنا : إنّه لا يختصّ به البائع إلّا مع الوفاء ، وبه قال مالك(١) ، خلافاً للشافعي وأحمد(٢) .

وذلك لأنّ الميّت قد انقطع تحصيله ولا ذمّة له ، فلو خصّصنا البائع بسلعته مع عدم وفاء التركة بالديون ، كان إضراراً بباقي الدُّيّان ؛ لحصول اليأس من استيفاء الحقّ منه ، فوجب اشتراك جميع الدُّيّان في جميع التركة ؛ عملاً بالعَدْل.

ولأنّ الأصل عدم الرجوع ؛ لانتقال العين إلى المفلس بالشراء ، تُرك العمل به في صورة الحيّ ؛ للإجماع والنصّ ، فيبقى الباقي على حكم الأصل.

ولما رواه العامّة من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه ، فهو أحقّ به ، وإن مات فهو أُسوة الغرماء »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو ولّاد - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل باع من رجل متاعاً إلى سنة فمات المشتري قبل أن يحلّ ماله وأصاب البائع متاعه بعينه ، له أن يأخذه إذا تحقّق له؟ قال : فقال :

____________________

(١) المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٣٧ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٨ ، المعونة ٢ : ١١٨٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٤١٨ ، المغني ٤ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : (٣)

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٣ ، الوسيط ٤ : ٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٨ ، المغني ٤ : ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨ ، وفي الأخيرين قول أحمد على العكس ، لا ما نُسب إليه في المتن ، وأمّا المنسوب إليه فهو في « العزيز شرح الوجيز » فلاحظ.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٦ - ٢٨٧ / ٣٥٢٠ و ٣٥٢٢.

٩

« إن كان عليه دَيْنٌ وترك نحواً ممّا عليه فيأخذ إن تحقّق له ، ولو لم يترك نحواً من دَيْنه فإنّ صاحب المتاع كواحدٍ ممّن له عليه شي‌ء ، يأخذ بحصّته ، ولا سبيل له على المتاع »(١) .

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ أكثر الشافعيّة ذهبوا إلى أنّه إذا مات وخلّف وفاءً ، لم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها(٢) .

وقال بعضهم : إنّ له أن يرجع فيها إذا مات المشتري وخلّف وفاءً(٣) ، كما ذهبنا إليه ؛ لما قلناه من حديث(٤) أبي هريرة ، وما رويناه من طريق الخاصّة عن الصادقعليه‌السلام .

ولأنّ قبض ثمن السلعة من التركة لا يستقرّ ؛ لأنّه ربما ظهر غريمٌ آخَر فيلزمه ردّ بعض ما أخذه أو كلّه.

واحتجّ الشافعي : بأنّ ماله يفي بقضاء ديونه ، فلم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها ، كما لو كان حيّاً(٥) .

والفرق ظاهرٌ ؛ فإنّ الحيّ يرجع إلى ذمّته لو خرج المقبوض مستحقّاً ، بخلاف الميّت.

واعلم أنّ الشافعي ردّ على مالك - حيث لم يجوّز له الرجوع بعين المال بعد موت المفلس - : قد جعلتم للورثة أكثر ممّا للموروث الذي عنه(٦)

____________________

(١) التهذيب ٦ : ١٩٣ / ٤٢١ ، الاستبصار ٣ : ٨ / ٢٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣ ، المغني ٤ : ٥٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٨.

(٤) تقدم تخريجه في ص ٨ ، الهامش (٣)

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٣.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « عنه » : « عليه ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

١٠

ملكوا ، وأكثر حال الوارث أن لا يكون له إلّا ما للميّت(١) .

وقد اعترضه المزني بأنّه قال في الحبس : إذا هلك أهله رجع إلى أقرب الناس بالمحبس. فجَعَل لأقرب الناس بالمحبس [ في حياته ] ما لم يجعل للمحبس(٢) .

وأُجيب عن كلام المزني : بأنّ الواقف إذا وقف وقفاً منقطعاً هل يصحّ؟ قولان ، فإن قلنا : يصحّ ، فإنّه يرجع إذا انقرض الموقوف عليهم إلى الفقراء من أقارب الواقف ، لا على سبيل الميراث عنه ، وإنّما جعله صدقة ، وسبيل الصدقة الفقراء والمساكين ، فجعل أقارب الواقف أولى من غيرهم ، فأمّا الواقف فلا ترجع إليه صدقته ؛ لأنّه لا يكون متصدّقاً على نفسه ، وفي مسألتنا هذه جعل حقّ الورثة آكد من حقّ مورّثهم ، فاختلفا(٣) .

مسألة ٢٦٠ : المنع من التصرّف يفتقر إلى حكم الحاكم بالحجر إجماعاً‌ ، فلو لم يحجر عليه الحاكم ، نفذت تصرّفات المفلس بأسرها ، وليس للغرماء منعه من شي‌ء منها إلّا بعد حجر الحاكم عليه.

أمّا الرجوع إلى عين المبيع أو عين القرض أو غير ذلك من أمواله التي هي معوّضات الديون فهل يفتقر صاحبها إلى سبق الحجر كمنع التصرّف أم لا؟ فيه إشكال ينشأ : من قولهعليه‌السلام : « أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه »(٤) - الذي رواه العامّة - أثبت الأحقّيّة بمجرّد الإفلاس ، ومن طريق الخاصّة : رواية الكاظمعليه‌السلام وقد سأله‌

____________________

(١ و ٢) مختصر المزني : ١٠٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) راجع : الحاوي الكبير ٦ : ٢٧٤.

(٤) المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٦٠ ، سنن الدار قطني ٣ : ٢٩ / ١٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : (٥)

١١

عمر بن يزيد عن الرجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده بعينه ، قال : « لا يحاصّه الغرماء »(١) ولم يشرط في ذلك الحجر ، ومن أنّه مالٌ انتقل إليه بعقدٍ شرعيّ ، فلا يخرج عنه إلاّ بوجهٍ شرعيّ ، ولا وجه إلّا الحجر ، فإنّه يمنعه من التصرّف فيه ، فيتحقّق حينئذٍ أولويّة البائع والمقرض وغيرهما بعين أموالهم.

على أنّ الأحقّيّة في حديث العامّة لا تقتضي الأخذ بدون الحجر ، فيجوز أن يكون « أحقّ » على معنى أنّ له التمكّن من الرجوع إلى عينه بسلوك الأسباب المفضية إليه ، ومن جملتها : طلب الحجر ، والإفلاس يفيد الأحقّيّة.

وكذا في حديث الكاظمعليه‌السلام في قوله : « لا يحاصّه الغرماء » فإنّه لا يقتضي جواز الأخذ من غير حجر.

____________________

(١) التهذيب ٦ : ١٩٣ / ٤٢٠ ، الاستبصار ٣ : ٨ / ١٩.

١٢

١٣

الفصل الثاني : في شرائط الحجر عليه‌

قد ذكرنا(١) أنّ الشرائط خمسة : المديونيّة - ولا بُدَّ منه ؛ فإنّ مَنْ لا دَيْن عليه لا يجوز الحجر عليه ، غنيّاً كان أو فقيراً - مع بلوغه ورشده وعدم سفهه ، فلو حجر عليه الحاكم ، كان لغواً. ولو استدان بعد ذلك ، لم يمنع من الاستدانة ، وكذا لا يمنع من سائر التصرّفات ، ولا يؤثّر الحجر في منعه من التصرّف فيما اكتسبه من الأموال. ولأنّ سؤال الغرماء شرط(٢) في الحجر ، فلا يتحقّق من دون الدَّيْن.

مسألة ٢٦١ : من شرائط الحجر قصور أموال المديون عن الديون‌ ، فلو ساوت الديون أو فضلت عنها ، لم يجز الحجر عند علمائنا - وهو أحد قولي الشافعي - لأصالة عدم الحجر ، ورفع اليد عن العاقل ، ثبت خلافه فيما إذا قصرت أمواله عن ديونه حفظاً لأموال الغرماء ، فبقي الباقي على الأصل. ولأنّ الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم واستيفاؤها في الحال.

والثاني له : الحجر إذا ظهرت عليه أمارات الفلس(٣) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ في ماله وفاء ديونه ، فلم يحجر عليه ، كما لو لم تظهر أمارات الفلس.

____________________

(١) في ص ٦

(٢) هذا هو الشرط الخامس كما يأتي في ص ٢٠ ، المسألة ٢٦٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

١٤

وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحجر مطلقاً ، بل يُحبس الغريم أبداً إلى أن يقضيه(١) .

فروع :

أ - لا فرق عندنا في المنع من الحجر مع وفاء ماله بديونه بين أن تظهر عليه أمارات الفلس‌ - مثل أن تكون نفقته من رأس ماله ، أو يكون ما في يده بإزاء دَيْنه ولا وجه لنفقته إلّا ما في يده - أو لا تظهر بأن تكون نفقته في كسبه أو ربح رأس ماله ، خلافاً للشافعي(٢) .

ب - إذا كان مالُه يفي بديونه ، لم يُحجر عليه إجماعاً‌ ، بل يُطالب بالديون ، فإن قضاها ، وإلّا تخيّر الحاكم مع طلب أربابها منه بين حبسه إلى أن يقضي المال ، وبين أن يبيع متاعه عليه ، ويقضى به الدَّيْن ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة حيث أوجب الحبس ، ومَنَع من البيع(٤) .

ج - إذا رفع الغرماء الغريمَ إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه ، لم يُجِبْهم إلى ذلك حتى تثبت عنده الديون وقصور أمواله‌ ، فينظر في ماله هل يفي بديونه أم لا؟ فينظر مقدار ما عليه من الديون ويقوم ماله بذلك؟

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ ، المغني ٤ : ٥٢٩ - ٥٣٠.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٨٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٨ - ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٤ و ١٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٥ ، المغني ٤ : ٥٢٩ - ٥٣٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨.

١٥

د - معوّضات الديون والأعيان التي أثمانها عليه تقوَّم من جملة أمواله‌ - وهو أحد قولي الشافعيّة(١) - لأنّ أصحابها بالخيار بين أن يرجعوا وبين أن لا يرجعوا ويطالبوه بالثمن.

وفي الثاني : لا تُقوَّم ؛ لأنّ لأربابها الرجوع فيها ، فلا تُحسب أثمانها عليه ولا يقوّمها مع ماله(٢) .

وما قلناه أقوى.

ه- قد قلنا : إنّه إذا كان في أمواله وفاء لديونه ، لم يُحجر عليه.

وللشافعي قولٌ آخَر : إنّه يُحجر عليه مع ظهور أمارات الفلس ، فحينئذٍ - على قوله - هل يكون لمن وجد متاعه بعينه أن يرجع فيه؟ له وجهان :

أحدهما : له ذلك ؛ لقولهعليه‌السلام : « فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه »(٣) ولم يفصّل. ولأنّ الحجر موجود.

والثاني : ليس له الرجوع فيها ؛ لأنّه يصل إلى ثمنها من مال المشتري من غير تبرّع الغرماء ، فلم يكن له الرجوع في العين ، كما قبل الحجر(٤) .

و - لو لم يكن له مالٌ البتّة ، ففي جواز الحجر عليه إشكال‌ ينشأ : من عدم فائدة الحجر ، وهي التحفّظ بما في يده عن الإتلاف ، ومن الاكتفاء بمجرّد الدَّيْن لجواز الحجر منعاً له من التصرّف فيما عساه يتجدّد في ملكه باصطيادٍ واتّهابٍ وظفر بركاز وغيرها.

مسألة ٢٦٢ : من شرائط الحجر ثبوتُ الدَّيْن عند الحاكم‌ ؛ لأنّ المتولّي‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (٤)

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٨ - ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ - ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥ - ٣٦٦.

١٦

للحجر الحاكم ، وليس له الحجر مجّاناً بقول مَنْ كان ، بل ما لم تثبت الديون - إمّا بالبيّنة أو بالإقرار - لم يجز له الحجر.

مسألة ٢٦٣ : ومن الشرائط كوْنُ الديون حالّةً‌ ، فلو كانت مؤجَّلةً ، لم يجز الحجر بها ، سواء كان مالُه يفي بها أو لا ؛ لأنّه ليس لهم المطالبة في الحال ، وربما يجد الوفاء عند توجّه المطالبة ، فلا تُعجَّل عقوبته بمنعه من التصرّف.

ولو كان البعض حالّاً والباقي مؤجَّلاً ، فإن وَفَتْ أمواله بالديون الحالّة ، فلا حجر ؛ لعدم اعتبار الديون المؤجَّلة. وإن قصرت عنها ، وجب الحجر.

وإذا حُجر عليه بالديون الحالّة ، لم تحلّ عليه الديون المؤجَّلة - وهو أصحّ قولي الشافعيّة ، واختاره المزني وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لأنّ المقصود من التأجيل التخفيفُ ليكتسب في مدّة الأجل ما يقضي به الدَّيْن ، وهذا المقصود غير ثابت ، بخلاف الميّت ؛ فإنّ توقّع الاكتساب منه قد بطل. ولأنّه دَيْنٌ مؤجَّل على حيّ ، فلا يحلّ قبل أجله ، كغير المفلَّس ، بخلاف الميّت ؛ فإنّ ذمّته قد بطلت.

والثاني للشافعي : أنّها تحلّ - وبه قال مالك وأحمد في الرواية الأُخرى - لأنّ الإفلاس سبب في تعلّق الدَّيْن بالمال ، فأسقط الأجل ، كالموت(٢)

____________________

(١) التنبيه : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٤ ، الوجيز ١ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤ ، المغني ٤ : ٥٢٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٣.

(٢) التنبيه : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٤ ، العزيز =

١٧

وقد مرّ الفرق.

ورتَّب بعضُ الشافعيّة هذين القولين على القولين في أنّ مَنْ عليه الدَّيْنُ المؤجَّل لو جُنّ هل يحلّ الأجل؟ وأنّ الحلول في صورة الجنون أولى ؛ لأنّ المجنون لا استقلال له كالميّت ، ووليُّه ينوب عنه كما ينوب الوارث عن الميّت(١) .

ورأى الجويني الترتيبَ بالعكس أولى ؛ لأنّ وليَّ المجنون له أن يبتاع له بثمنٍ مؤجَّل عند ظهور المصلحة ، فإذا لم يمنع الجنونُ التأجيلَ ابتداءً فلأن لا يقطع الأجلَ دواماً كان أولى(٢) .

وعندنا أنّ الجنون لا يوجب الحلول.

مسألة ٢٦٤ : إنّما يقسّم الحاكمُ أموالَه على الديون الحالّة خاصّةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّلة‌ ، فيبيع أمواله ويقسّمها على الحالّة بالنسبة ، ولا يدّخر شيئاً لأصحاب الديون المؤجَّلة ، ولا يدام الحجر بعد القسمة لأصحاب الديون المؤجَّلة ، كما لا يُحجر بها ابتداءً ، وهو أحد قولي الشافعي.

وفي الآخَر : أنّها تحلّ الديون المؤجَّلة ، فيقسّم المال بين أصحاب هذه الديون والديون الحالّة ابتداءً ، كما لو مات(٣) .

وإن كان في الديون المؤجَّلة ما كان ثمن مبيعٍ وهو قائم عند المفلس ، فلصاحبه الرجوع إلى عين ماله - عنده(٤) - كما لو كان حالّاً ابتداءً.

____________________

= شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٣٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨٦ ، الذخيرة ٨ : ١٧٢ ، المغني ٤ : ٥٢٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٣.

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٦)

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

١٨

وقال بعض الشافعيّة : فائدة الحلول أن لا يتعلّق بذلك المتاع حقُّ غير بائعه ، ويكون محفوظاً إلى مضيّ المدّة ، فإن وجد المفلس وفاءً فذلك ، وإلّا فحينئذ يفسخ(١) .

وقيل : لا يفسخ حينئذٍ أيضاً ، بل لو باع بثمنٍ مؤجَّل وحَلَّ الأجل ثمّ أفلس المشتري وحُجر عليه ، فليس للبائع الفسخُ والرجوعُ إلى المبيع ؛ لأنّ البيع بالثمن المؤجَّل يقطع حقّ البائع عن المبيع بالكلّيّة ، ولهذا [ لا ](٢) يثبت فيه حقّ الحبس للبائع(٣) .

والأصحّ عندهم : الأوّل(٤) .

وقال أحمد : يكون موقوفاً إلى أن يحلّ الدَّيْن ، فيفسخ البائع إن شاء ، أو يترك(٥) .

مسألة ٢٦٥ : لو اشترى بعد الحجر عليه أمتعةً بأثمان مؤجَّلة أو حالّة ، دخلت في البيع في قضاء الديون‌ ، كسائر أموال المفلس ؛ لأنّه مَلَكها بالبيع ، فكانت كغيرها ، وليس لبائعها تعلّقٌ بها ؛ لأنّه لا مطالبة له في الحال إن كانت مؤجَّلةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّل بالحجر ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة على القول بعدم الحلول.

والثاني : أنّها لا تُباع ، فإنّها كالمرهونة بحقوق بائعها ، بل تُوقف إلى انقضاء الأجل ، فإن انقضى والحجر باقٍ ، يثبت حقّ الفسخ. وإن أطلق ، فكذلك ولا حاجة إلى إعادة الحجر ، بل عزلها وانتظار الأجل كإبقاء الحجر‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٥) المغني ٤ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٣٣ - ٥٣٤.

١٩

بالإضافة إلى المبيع(١) .

وعلى ما اخترناه من جواز بيعها لو لم يتّفق بيعها وقسمتها حتى حلّ الأجل ، فالأقرب : جواز الفسخ الآن.

وللشافعيّة وجهان(٢) .

ولو اشتراها بثمنٍ حالّ ، كان لصاحبها الاختصاصُ أو الضرب بالثمن مع الجهل ، ومع العلم الصبرُ. ويُحتمل الضربُ. وكذا المقرض.

ونقل الجويني وجهاً آخَر فيما إذا كان الثمن مؤجَّلاً : أنّه لا بُدَّ من إعادة الحجر ليثبت حقّ الفسخ(٣) .

ولو لم يكن عليه إلّا ديون مؤجَّلة وطلب أصحابُها الحجْرَ ، لم يُجابوا - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٤) - لأنّ طلب الحجر فرع طلب الدَّيْن وعسر تخليصه فلا يتقدّم عليه.

والثاني : نعم ؛ لأنّهم يتوسّلون به إلى الحلول أو(٥) المطالبة(٦) .

مسألة ٢٦٦ : قد ذكرنا أنّه يشترط كون الديون زائدةً على قدر ماله‌ ، فلو كانت مساويةً والرجل كسوبٌ ينفق من كسبه ، فلا حجر وإن ظهرت أمارات الإفلاس.

وقد تقدّم(٧) أنّ للشافعي وجهين فيما إذا ظهرت أمارات الإفلاس.

ويجري الوجهان فيما إذا كانت الديون أقلَّ وكانت بحيث يغلب على‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٧)

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « و» بدل « أو ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : (٧)

(٧) في ص ١٢ ، ضمن المسألة ٢٦١ ، وص ١٤ ، الفرع « أ ».

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

نقابها، فتوجّهت تلقاء مدين تشريحه، ووجّهت مطايا الفكر إلى توضيحه، جاعلاً إيّاه سدى الأبحاث، ملحماً له بما في السبعة بل وبما في الثلاث، فما وافق الاُستاذ غيره خلّيناه وسبيله فمرحباً بالوفاق، وما خالفه أشرنا إليه في دقيقه وجليله، إمّا بالكساد أو النفاق واكتفيت في أسماء الشراح السبعة بما اشتهروا به، إختصاراً، لا حطّاً لمراتبهم العليّة واحتقاراً، ومن لم يعظِّم غيره لا يعظَّم ».

فترى « البابرتي » يثني على العلّامة الحلّي وكتابه، وإن كان ما ذكر أقلّ قليلٍ من مناقب جنابه و « البابرتي » المذكور من مشاهير علماء القوم ومحقّقيهم الأعلام، وإليك جملاً من الثناء عليه:

ترجمة البابرتي مادح العلّامة

١ - السّيوطي: « أكمل الدين محمّد بن محمّد بن محمود البابرتي، علّامة المتأخّرين وخاتمة المحقّقين، برع وساد، ودرّس وأفاد، وصنّف شرح الهداية، وشرح المشارق، وشرح المنار، وشرح البزدوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح تلخيص المعاني والبيان، وشرح ألفية ابن معطي، وحاشية على الكشاف، وغير ذلك. وولي مشيخة الشيخونية أوّل ما فتحت، وعرض عليه القضاء فأبى.

مات في رمضان سنة ٧٨٦ »(١) .

٢ - أيضاً: « وكان: علّامة، فاضلاً، ذا فنون، وافر العقل، قويَّ النفس، عظيم الهيبة، مهاباً»(٢) .

____________________

(١). حسن المحاضرة ١ / ٤٧١.

(٢). بغية الوعاة ١ / ٢٣٩.

٢٦١

٣ - الداودي: « أخذ عن أبي حيان والإصفهاني، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبدالقادر، وقرّره شيخون في مشيخة مدرسته، وعظم عنده جدّاً وعند من بعده، بحيث كان الظاهر برقوق يجيء إلى شبّاك الشيخونيّة فيكلّمه وهو راكب، وينتظره حتّى يخرج فيركب معه، وكان علّامة فاضلاً »(١) .

٤ - القاري، ذكره في ( الأثمار الجنية في طبقات الحنفيّة ).

٥ - وكذا كمال باشا زاده في ( طبقات الحنفيّة ).

[ ٢ ] وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر بترجمة العلّامة الحلّيرحمه‌الله : « ولد في سنة بضع وأربعين وستمائة، ولازم النصير الطوسي مدّة، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنّف في الأصول والحكمة، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة، وكان رأس الشيعة في الحلّة، وشهرت تصانيفه، وتخرّج به جماعة، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن، في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإماميّة، وكان قيّماً بذلك داعية إليه، وله كتاب في الإمامة ردّ عليه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمّى بالردّ على الرافضي، وقد أطنب فيه وأسهب وأجاد في الردّ، إلّا أنّه تحامل في مواضع عديدة، وردّ أحاديث موجودة وإنْ كانت ضعيفة بأنّها مختلقة »(٢) .

[ ٣ ] - وابن روزبهان المتعصب العنيد، يصف العلّامة في ديباجة كتابه في الردّ عليه بـ « المولى الفاضل ».

____________________

(١). طبقات المفسرين ٢ / ٢٥١.

(٢). الدرر الكامنة بأعلام المائة الثامنة ٢ / ٧١.

٢٦٢

قوله:

ولا يتأتّى إلزام أهل السنّة بالإفتراء

أقول:

نعم لا يجوز إلزام أحدٍ بشيءٍ مفترىً عليه وإنْ لم يكن متشرّعاً بشريعةٍ من الشرائع، بل وإن كان ملحداً

لكنْ لمـّا كان الإفتراء والكذب - كسائر القبائح والفواحش - من فعل الله عند أهل السنّة - تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً - فأيّ مانعٍ من إلزام أهل السنّة بفعل الله؟

وأيضاً: فما أكثر محاولة ( الدهلوي ) إلزام أهل الحق بالمفتريات والأكاذيب، فيا ليته ما يقوله هنا في تلك المواضع، وارتدع عن ذلك

على أنَّ بعض الكرّاميّة وبعض المتصوّفة من أهل السنّة يبيحون وضع الأحاديث على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لغرض الترهيب والترغيب بزعمهم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: « والحامل للواضع على الوضع، إمّا عدم الدين كالزنادقة، أو غلبة الجهل كبعض المتعبّدين، أو فرط العصبيّة كبعض المقلّدين، أو اتّباع هوى بعض الرؤساء، أو الإغراب لقصد الإشتهار. وكلّ ذلك حرام بإجماع من يعتدّ به، إلّا أنّ بعض الكرامية وبعض المتصوّفة نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من قائله، نشأ عن جهل، لأنّ الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية، واتّفقوا على أنّ تعمّد الكذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر »(١) .

____________________

(١). نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: ٤٤٥ بشرح القاري.

٢٦٣

وقال السّيوطي: « والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد، وضعوه حسبةً، أي إحتساباً للأجر عند الله، في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقةً بهم وركوناً إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصّلاح »(١) .

نموذج من أكاذيب ( الدّهلوي )

وأمّا أكاذيب ( الدهلوي )، فذكر جميعها أو أكثرها ولو إجمالاً يفضي إلى التطويل، ويوجب الخروج عن البحث، ويمكنك الوقوف على جملة منها في غضون مجلّدات كتابنا، ونكتفي هنا بنقل كلامٍ له في الباب الحادي عشر من ( التحفة )، يشتمل على عدّة أكاذيب، قال ( الدهلوي ):

« ثم لـمّا تأمّلنا وجدنا أنّ رؤساء أهل السنّة قد أخذوا علومهم - فقهاً واُصولاً وسلوكاً، بل وتفسيراً وحديثاً - من أهل البيت، واشتهروا بتتلمذهم عليهم، وقد كان أهل البيت يلاطفونهم وينبسطون إليهم دائماً، بل لقد بشّروهم، وهذا المعنى كلّه مذكور في كتب الإماميّة، وقد اعترف أكابر علمائهم لـمّا رأوا عدم إمكان إخفائه بثبوته وصحّته.

واعترف ابن المطهّر الحلّي في نهج الحق ومنهج الكرامة، بأنّ أبا حنيفة ومالكاً قد أخذا من الصادق، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي وأيضاً، فقد تتلمذ أبو حنيفة على الباقر وزيد الشهيد.

والشيعة يعتقدون في عصر غيبة الإمام بوجوب إطاعة مجتهديهم، فكيف لا يكون مذهب المجتهد الذي حضر على الأئمّة وفاز بإجازة الإجتهاد والإفتاء منهم أولى بالإتباع؟.

____________________

(١). تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ١ / ٢٣٨.

٢٦٤

لقد أجاز الباقر وزيد الشهيد والصادق أبا حنيفة في الفتوى، باعتراف الشيخ الحلّي، فهو جامع لشرائط الإجتهاد بنصٍ من الإمام، فمن ردّ عليه فقد ردَّ على إمامه المعصوم، وهو كفر، خصوصاً في زمن الغيبة، فمذهب هذا المجتهد أولى بالأخذ والإتباع من مذهب ابن بابويه وابن عقيل وابن المعلّم.

فإن لم تكن أخبار أهل السنّة في هذا الباب مقبولة عندهم، فلا محيص لهم عن قبول أخبارهم: روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبداللهعليه‌السلام ، فلمـّا نظر إليه الصادق قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيِّرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، ذلك من الله العون والتوفيق، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق.

وروى الإماميّة بأجمعهم أنّه لـمّا دخل أبو حنيفة على خليفة وقته أبي جعفر المنصور العباسي، وكان عنده عيسى بن موسى، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم، فقال المنصور: يا نعمان ممّن أخذت العلوم؟ قال: عن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبدالله بن عباس عن ابن عباس. فقال المنصور: لقد استوثقت من نفسك يا فتى.

وفي كتب الإماميّة أيضاً: إنّ ابا حنيفة كان جالساً في المسجد الحرام، وحوله زحام كثير من كلّ الآفاق، قد اجتمعوا يسألونه من كلّ جانب فيجيبهم، وكانت المسائل في كمّه فيخرجها فيناولها، فوقف عليه الإمام أبو عبدالله، ففطن به أبو حنيفة فقام. ثم قال: يا ابن رسول الله، لو شعرت بك أوّلاً ما وقفت، لا أراني الله جالساً وأنت قائم. فقال له أبو عبدالله: إجلس أبا حنيفة وأجب الناس، فعلى هذا أدركت آبائي.

٢٦٥

وهذان الخبران موجودان في شرح التجريد لابن المطهّر الحلّي، في مسألة تفضيل حضرة الأمير.

فإنْ وسوس شيطان الشيعة فقالوا: إذا كان أبو حنيفة وأمثاله من مجتهدي أهل السنّة تلامذة حضرات الأئمّة، فلماذا أفتوا على خلافهم في مسائل كثيرة؟ فأقول: إنّ جواب هذا مذكور في مجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري، فإنّه قال: كان ابن عباس تلميذ حضرة الأمير، وكان قد بلغ مرتبة الاجتهاد، وكان يجتهد في محضر من حضرة الأمير، ويخالفه في بعض المسائل، فلا يعترض عليه حضرة الأمير في ذلك ».

أقول:

إنّ هذا الكلام الّذي ذكره ( الدهلوي ) حسبةً، يشتمل على أكاذيب غريبة وإفتراءات عجيبة:

فأوّلها: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من اعتراف أكابرهم بملاطفة أهل البيت لأئمّة أهل السنّة، في الفقه والأصول والعقائد والسلوك والتفسير والحديث، لا سيّما دعوى كون ذلك على الدوام، وثبوته عند الإماميّة بطرق صحيحة.

والثاني: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من انبساط الأئمّةعليهم‌السلام في حقّ أئمّة أهل السنّة، لا سيّما دعوى كونه على الدوام، وثبوت ذلك عند أكابر الإماميّة وتصحيحهم له.

والثالث: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من أن الأئمّةعليهم‌السلام بشّروا أئمّة أهل السنّة، وأنّ أكابر علماء الإماميّة يعترفون بذلك وبصحّته.

ولا ريب في أنّ دعوى صحّة وثبوت ملاطفات الأئمّةعليهم‌السلام ،

٢٦٦

وانبساطهم لأئمّة أهل السنّة، وذلك على الدوام والإستمرار، وأيضاً، دعوى بشارتهم لهم في كتب الإماميّة كلّ ذلك كذب وافتراء.

والرابع: ما نسبه إلى العلّامة الحلّي في ( نهج الحق ) من الإعتراف بإجازة الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام وزيد الشهيد أبا حنيفة بالإفتاء. والغريب أنّه ينسب هذا إلى العلّامة كذباً، ومع ذلك يقصد إثبات كذب العلّامة في نقل حديث التشبيه، أعاذنا الله من الوقاحة والضلالة.

والخامس: دعوى أنّ ما حكاه أبو المحاسن حسن بن علي بإسناده عن أبي البحتري من روايات الإماميّة فإنّها كذب محض والأصل في هذه الاُكذوبة هو أبو المؤيّد الخوارزمي صاحب ( جامع مسانيد أبي حنيفة )، رواها بطريق أخطب خوارزم، وقد أخذ الكابلي الرواية من ( جامع المسانيد )، لكنّه حذف السند حتّى أبي المحاسن، وأسقط السند من أبي المحاسن إلى أبي البختري، وإليك نصّ ما جاء في ( جامع مسانيد أبي حنيفة ) حيث قال:

« وأخبرني سيّد الوعّاظ إسماعيل بن محمّد الحجي بخوارزم إجازة قال: أخبرني الصّدر العلّامة صدر الأئمّة أبو المؤيّد الموفق بن أحمد المكي قال: أخبرني الإمام أبو المحاسن الحسن بن علي في كتابه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الزاهد الصفار، ثنا أبو علي الحسن بن علي الصفار، أنا أبو نصر محمّد ابن مسلم، أنا أبو عبدالله محمّد بن عمر، أنا الأستاد أبو محمّد عبدالله بن محمّد ابن يعقوب الحارثي البخاري، بإسناده إلى أبي البحتري قال:

دخل أبو حنيفة على جعفر الصادقرضي‌الله‌عنه ، فلمـّا نظر إليه جعفر قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيّرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، فلك من الله العون

٢٦٧

والتوفيق، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق »(١) .

وهذه عبارة الكابلي في ( الصواقع ):

« روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري قال: دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمّد الصادق، قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيّرون إذا وقفوا وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، فلك من الله العون والتوفيق حتّى يسلك الربانيون بك الطريق ».

والسادس: نسبة ما حكاه من مدح عيسى بن موسى لأبي حنيفة، والكلام الذي جرى بينه وبين المنصور، إلى جميع الإماميّة وقد ذكر هذه الرواية النووي في ( تهذيب الأسماء واللغات ) باختلافٍ يسير.

على أنّه لا علاقة لهذه الرواية بمطلوبه، وهو كون أبي حنيفة مقبولاً لدى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، إذ لا يثبت منها مدح من أحدٍ منهم لأبي حنيفة.

والسّابع: نسبة الرواية المتضمّنة لأمر الإمام الصادقعليه‌السلام أبا حنيفة بأنْ يجلس ويجيب الناس، إلى كتب الإماميّة، فإنّها كذب محض، والكابلي ذكر هذه الرواية - ورواية دخول أبي حنيفة على المنصور المتقدمة - فلم يجرأ على نسبتها إلى الإماميّة.

والثامن: نسبة كلتا الروايتين إلى شرح التجريد للعلّامة الحلّي.

والتاسع: قوله: هما مذكوران في شرح التجريد للعلّامة الحلّي في مسألة تفضيل أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وهذا من أعاجيب الأكاذيب، كيف ينسب روايتين إلى كتابٍ، ويعيّن

____________________

(١). جامع مسانيد أبي حنيفة ١ / ١٩.

٢٦٨

موضعهما منه، وهذه نسخ كتاب شرح التجريد للعلاّمة منتشرة في كلّ مكان، فليلاحظ مبحث التفضيل منه بكلّ إمعانٍ وتدبّر

والعاشر: ما نسبه إلى كتاب ( مجالس المؤمنين ) من اجتهاد ابن عباس في محضر أمير المؤمنين، وإذن الإمام له في ذلك، وأنّه ربّما كان يخالف الإمام كذب وافتراء

ولمخاطبنا ( الدهلوي ) في خصوص حديث ( التشبيه ) أكاذيب:

١ - زعم فساد مبادي الإستدلال بحديث التشبيه ومقدّماته، من الرأس إلى القدم.

٢ - نفي كون هذا الحديث من روايات أهل السنّة.

٣ - إنّه لا أثر لهذا الحديث في كتب البيهقي.

٤ - إنّ القاعدة المقرّرة لدى أهل السنّة هي عدم جواز الإحتجاج بحديثٍ لم يخرجه أحد من أئمّة الحديث، في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، كالبخاري ومسلم، وسائر أصحاب الصحاح، أو لم ينص مخرجه أو غيره من المحدّثين الثقات على صحّته بالخصوص.

٥ - إنّ الديلمي والخطيب وابن عساكر جمعوا الأحاديث بطريق البياض، لكي ينظروا فيها، لكنّهم لم يوفّقوا لهذا الأمر المهم، لقلّة الفرص وقصر الأعمار.

٦ - إنّهم - يعني الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم - صرّحوا بالغرض المذكور في مقدّمات جوامعهم.

٧ - إنّ هذا الحديث ليس من الأحاديث المروية في كتابٍ من كتب أهل السنّة ولو بطريقٍ ضعيف.

٨ - إنّ هذا الحديث تشبيه محض

٢٦٩

٩ - إنّ استفادة التساوي بين المشبّه والمشبّه به، من غاية السفاهة.

١٠ - إنّ الأفضليّة لا تستلزم الزعامة الكبرى.

١١ - إنّه دون نفي مساواة الخلفاء الثلاثة للأنبياء في الصفات المذكورة أو مثلها، خرط القتاد.

١٢ - إنّه لو تفحّص في كتب أهل السنّة، لعُثر على أحاديث كثيرة دالّة على التشبيه بالأنبياء في حقّ الشيخين، بحيث لم يثبت ذلك في حقّ أحدٍ من معاصريهم.

١٣ - إنّ الإمامة الباقية في أولاد الوصيّ، التي كان كلٌّ منهم خلفاً للآخر فيها، هي القطبية والإرشاد

١٤ - إنّه لم يرو عن الأئمّة الأطهار إلزام كافّة الخلائق بأمر الإمامة.

هذا، وقد عرفت أنّ هذا الحديث ( حديث التشبيه ) موجود في كتب أهل السنّة، وفي كتب البيهقي، وأنّ جماعة كبيرة من مشاهير أئمّتهم رووه وأثبتوه، وأنّ ممّن اعترف به والد ( الدهلوي ).

فظهر كذب ( الدهلوي ) في كلّ موردٍ من هذه الموارد، بل ظهر تجاسره على تكذيب هذه الكثرة من علماء طائفته، لا سيما والده.

قوله:

مع أنّ القاعدة المقرّرة عند أهل السنّة: أنّ كلّ حديث رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ غير ملتزم فيه بالصحّة

أقول:

كأنّ ( الدّهلوي ) تنبّه من نومته وغفلته!! إنّه بعد أنْ نفى كون الحديث من

٢٧٠

روايات البيهقي وغيره من أهل السنّة، عاد فذكر هذه القاعدة، لئلّا يفتضح وينكشف جهله أو تجاهله لكنّ ذكر هذه القاعدة المزعومة هنا، يوجب الطّعن في هذا الجم الغفير من أعلام المحدثين، الذين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم أو أثبتوه أو أرسلوه إرسال المسلَّمات

والأصل في دعوى وجود هذه القاعدة هو الكابلي، لكنّ ( الدهلوي ) زاد في طنبور الكابلي نغمةً، فنسب هذه القاعدة إلى أهل السنّة، وجعلها قاعدةً مقرّرة بينهم وهذا نصّ عبارة الكابلي:

« السادس - ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في خلّته، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

فإنّه أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم، والأنبياء أفضل من غيرهم، فكان علي أفضل من غيرهم.

وهو باطل، لأنّه ليس من أحاديث أهل السنّة، وقد أورده ابن المطهّر الحلّي في كتبه، وعزى روايته تارة إلى البيهقي واُخرى إلى البغوي، ولم يوجد في كتبهما، والحلّي لا يصدق أثره. ولأنّ الخبر الذي رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ لم يلتزم صحّة جميع ما أورده فيه، ولم يصرّح بصحته هو أو غيره من المحدّثين، لا يحتجّ به ».

الحديث الصحيح حجّة وإن لم يخرَّج في صحيح

وكلام ( الدهلوي ) هذا باطل بوجوه:

الأول: لا ريب في وجود الأحاديث قبل البخاري ومسلم وسائر أرباب الكتب الموسومة بالصّحاح، وقد كانت دائرةً بين العلماء، يستندون إليها

٢٧١

ويحتجّون بها، ولم يكن الإحتجاج بها موقوفاً على تنصيص أحدٍ على الصحّة، بل كلّ حديثٍ جمع شروط الإعتبار والحجية، فهو حجة. فدعوى « إنّ كلّ خبرٍ لم يكن في كتابٍ التزم فيه بالصحة أو لم يصرَّح بصحّته لا يحتج به »، لا وجه لها من الصحّة، ويبطلها عمل العلماء السابقين من الفقهاء والمحدثين.

الثاني: مقتضى هذه القاعدة سقوط كلّ حديثٍ جامع لشرائط الحجيّة لم يخرَّج في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، ولم ينص على صحّته أحد من المحدّثين، عن درجة الاعتبار، وعدم صلوحه للاحتجاج والاستناد. وهذا باطل، لأنّ الملاك صحّة الحديث بحسب القواعد والموازين المقرّرة، فكلّ حديث وثّق رجاله وجمع شرائط الصحّة جاز الإحتجاج به، وإن لم يروه أحد ممّن التزم بالصحّة، وإن لم يصرّح بصحّته أحد من المحدّثين.

الثالث: مقتضى هذا الكلام عدم قابليّة الحديث « الحسن » للإحتجاج به، وإن صرَّح بحسنه أئمّة الحديث. والحال أنّ « الحسن » يحتج به.

الحديث الحسن يحتج به

الرابع: إنّ الحديث الجامع لشروط « الحسن » يحتجّ به، وإن لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بحسنه وقد نصّ على هذا أكابر المحقّقين من أهل السنّة، بل عن الخطابي أنّ مدار أكثر الحديث على الحديث الحسن: فهذه القاعدة المزعومة من الكابلي و ( الدهلوي ) توجب ضياع أكثر أحاديث أهل السنّة، فهماً كمن بنى قصرا وهدم مصراً.

وإليك بعض الكلمات الصّريحة في حجيّة الحديث « الحسن »:

قال الزين العراقي:

« والحسن المعروف مخرجاً وقد

اشتهرت رجاله بذاك حد

٢٧٢

حمدٌ وقال الترمذي ما سلم

من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذبٍ ولم يكن فرداً ورد

قلت وقد حسّن بعض ما انفرد

وقيل ما ضعف قريب محتمل

فيه وما بكلّ ذا حدّ حصل

إختلف أقوال أئمّة الحديث في حدّ الحديث الحسن، فقال أبو سليمان الخطّابي - وهو حمد المذكور في أوّل البيت الثاني - الحسن ما عرف مخرّجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الّذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء ».

قال:

« والفقهاء كلّهم تستعمله

والعلماء الجلّ منهم تقبله

وهو بأقسام الصحيح ملحق

حجيّةً وإن يكن لا يلحق

البيت الأول مأخوذ من كلام الخطابي، وقد تقدم نقله عنه، إلّا أنّه قال: عامة الفقهاء. وعامّة الشيء مطلقاً بأزاء معظم الشيء وبأزاء جميعه، والظاهر أن الخطابي أراد الكلّ، ولو أراد الأكثر لما فرّق بين العلماء والفقهاء. وقوله: حجية. نصب على التمييز، أي الحسن ملحق بأقسام الصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه في الرتبة »(١) .

وقال ابن حجر العسقلاني: « وخبر الآحاد بنقل عدل تامّ الضبط، متّصل السند، غير معلّل ولا شاذ، هو الصحيح لذاته. وهذا أوّل تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع، لأنّه إمّا أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا، الأول: الصحيح لذاته، والثاني: إن وجد فيه ما يجبر ذلك القصور، ككثرة الطرق، فهو الصحيح أيضاً. لكنْ لا لذاته، وحيث لا جبر، فهو الحسن لذاته، وإنْ قامت

____________________

(١). شرح ألفية الحديث للعراقي وراجع أيضاً: فتح المغيث في شرح الألفية سخاوي: ١ / ٧١.

٢٧٣

قرينة ترجّح جانب قبول ما يتوقف فيه، فهو الحسن أيضاً، لكنْ لا لذاته »(١) .

وقال ابن حجر أيضاً بعد شرح تعريف الصحيح: « فإنْ خف الضبط، أي قل، يقال خفّ القوم خفوفاً قلّوا، والمراد مع بقيّة الشروط المتقدمة في حدّ الصحيح، فهو الحسن لذاته، لا لشيء خارج، وهو الذي يكون حسنه بسبب الإعتضاد نحو الحديث المستور إذا تعدّدت طرقه، وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف. وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض »(٢) .

وقال محمّد بن محمّد بن علي الفارسي - في ( جواهر الاصول ) -: « الحسن حجّة كالصّحيح وإن كان دونه، ولهذا أدرجه بعض أهل الحديث فيه ولم يفرده ».

وقال جلال الدين السيوطي بعد أن ذكر الحديث الحسن وتعريفه: « قال البدر ابن جماعة: وأيضاً فيه دور، لأنّه عرّفه بصلاحيّته للعمل به، وذلك يتوقّف على معرفة كونه حسناً.

قلت: ليس قوله: ويعمل به من تمام الحدّ، بل زائد عليه لإفادة أن يجب العمل به كالصحيح، ويدلّ على ذلك أنّه فصله من الحدّ حيث قال: وما فيه ضعف قريب محتمل فهو الحديث الحسن، ويصلح البناء عليه والعمل به »(٣) .

وقال السيوطي أيضاً: « ثمّ الحسن كالصحيح في الإحتجاج به وإنْ كان دونه في القوّة، ولهذا أدرجه طائفة في نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة، مع قولهم بأنّه دون الصحيح المبيَّن أوّلاً. ولا بدع في الإحتجاج

____________________

(١). نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: ٢٤٣ بشرح القاري.

(٢). المصدر: ٢٩١.

(٣). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٢.

٢٧٤

بحديثٍ له طريقان لو انفرد كلّ منهما لم يكن حجةً، كما في المرسل إذا ورد من وجهٍ آخر مسنداً لوافقه مرسل آخر بشرطه كما سيجيء. قال ابن الصلاح وقال في الإقتراح: ما قيل من أنّ الحسن يحتج به، فيه إشكال، لأنّ ثمَّ أوصافاً يجب معها قبول الرواية إذا وجدت، فإن كان هذا المسمّى بالحسن ممّا وجد فيه أقلّ الدرجات التي يجب معها القبول، فهو صحيح، وإن لم يوجد لم يجز الإحتجاج به وإنْ سمّي حسناً. أللّهمّ إلّا أن يردّ هذا إلى أمر اصطلاحي، بأنْ يقال: إن هذه الصفات لها مراتب ودرجات، فأعلاها وأوسطها يسمّى صحيحاً، وأدناها يسمّى حسناً، وحينئذٍ يرجع الأمر في ذلك إلى الإصطلاح ويكون الكلّ صحيحاً في الحقيقة »(١) .

وقال السيوطي بعد ذكر الحديث الصحيح: « فإنْ خفّ الضبط - أي قل - مع وجود بقيّة الشروط، فحسن، وهو يشارك الصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه و تفاوته، فأعلاه ما قيل بصحّته، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، ومحمّد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر »(٢) .

وفي هذه الكلمات غنىً وكفاية.

الخامس: إنّ الحديث الضعيف إذا تعدّدت طرقه، إرتقى إلى درجة الإحتجاج به، كما بيّناه في مجلّد ( حديث الولاية ). فراجع. فلا وجه لنفي جواز الإحتجاج به في هذه الحالة.

ثمّ لا يخفى أنّ الكابلي و ( الدهلوي ) - اللذين اخترعا هذه القاعدة - قد غفلا أو تغافلا عن قاعدتهما هذه في موارد كثيرة، فاحتجّا بأخبار غير مروية فيما التزم فيه بالصحّة من الكتب، وبأخبار لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث

____________________

(١). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٨.

(٢). إتمام الدراية لقراء النقاية: ٥٥ ط هامش مفتاح العلوم.

٢٧٥

بصحّتها، فاحتجّا بهكذا أخبارٍ - بالرغم من القاعدة التي زعم ( الدهلوي ) تقرّرها لدى أهل السنّة - لأجل مقابلة الشيعة الإماميّة بها!! وهل هذا إلّا تناقض وتهافت!!

والأشنع من ذلك: إحتجاجهما بأخبار نصّ أئمّتهم في الحديث والرجال على وضعها واختلاقها أمّا إذا كان البحث في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا يأخذان بهذه القاعدة المرفوضة التي ذكراها هنا، فيكذّبان - مثلاً - حديث الولاية، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم هذه الأحاديث التي صرّح أئمّة الحديث بصحّتها، فجاز الإحتجاج بها ووجب قبولها - بحسب القاعدة المذكورة -.

فظهر بطلان هذه القاعدة المصنوعة، من كلمات الكابلي و ( الدهلوي ) طرداً وعكساً، وذلك من العجب العجاب المحيِّر للألباب.

رأي الدهلوي في كتب الدّيلمي والخطيب وابن عساكر

قوله:

وذلك لأنّ جماعة من المحدّثين من أهل السنّة في الطبقات المتأخّرة، كالديلمي والخطيب وابن عساكر، لمـّا رأوا

أقول:

هذا التّعليل العليل من زيادات ( الدهلوي ) على الكابلي، وهو مردود بوجوه:

الأوّل: إنّه لا علاقة له بالدّعوى أصلاً، لأنّ الدعوى هي: إن كلّ حديثٍ ليس في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، ولم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بصحّته، لا

٢٧٦

يحتجّ به. وأيّ مناسبة بين هذه الدّعوى وبين ما ذكره من أنّ هؤلاء المحدّثين المتأخرين جمعوا في مجاميعهم الحديثيّة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة والمقلوبة الأسانيد والمتون ...؟

فلا يستلزم ثبوت الثاني ثبوت الأول، ولا انتفاؤه يستلزم إنتفائه فإنْ كان ما ذكره بالنسبة إلى كتب هؤلاء المحدّثين حقّاً، لم يستلزم ذلك حصر الإحتجاج بالأحاديث المخرجة في الكتب الملتزم فيها بالصحّة، أو الأحاديث المنصوص على صحّتها بالخصوص، وإن لم يكن ما ذكره في حقّها حقّاً، لم يلزم عدم الحصر المذكور وهذا بيّن جدّاً.

الثاني: ظاهر هذا الدليل اعتبار كتب الطبقة المتقدّمة على من ذكرهم، وأنّ أحاديثهم يحتج بها. وقد عرفت

رواية عبدالرزاق (٢١١)

وأحمد بن حنبل (٢٤١)

وأبي حاتم (٢٧٧)

وابن شاهين (٣٨٥)

وابن بطّة (٣٨٧)

والحاكم (٤٠٥)

وابن مردويه (٤١٠)

وأبي نعيم (٤٣٠)

والبيهقي (٤٥٨)

لحديث التشبيه.

وهؤلاء كلّهم متقدّمون على الديلمي والخطيب وابن عساكر، لأنّ تاريخ وفاة آخرهم - وهو البيهقي - سنة (٤٥٨). وتاريخ وفاة الديلمي سنة (٥٠٩) وابن عساكر سنة (٥٧١).

٢٧٧

فيكون حديث التشبيه بهذا البيان، قابلاً للإحتجاج والإستدلال.

وإذا كان هذا حال كتب الديلمي والخطيب وابن عساكر في رأي ( الدهلوي )، فكيف يستند إلى بعض أخبار الديلمي - بتقليد من الكابلي - عند الجواب على المطعن العاشر من مطاعن عثمان، ممّا هو مكذوب قطعاً؟! ويستند إلى بعض خرافات الدّيلمي في فضل عثمان، لا سيّما مع تنصيص بعض أكابرهم على كونه موضوعاً؟!

وإذا كان ما ذكره هو حال كتب ابن عساكر، فلماذا يستند إلى حديثٍ موضوع، يرويه ابن عساكر في وجوب حبّ أبي بكر وشكره؟ ويحتجّ بالحديث الموضوع: « حبّ أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما نفاق » عن ابن عساكر، في جواب عن آية المودّة( قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) !!

الثالث: ظاهر هذا الكلام، أنّ الأحاديث الحسان صالحة للإحتجاج كالأحاديث الصّحاح، ولو لم تكن قابلةً لذلك، لم يكن وجه لعناية المتقدّمين بضبط الأحاديث الحسان وجمعها كالصّحاح لكنّه أفاد سابقاً بعدم حجيّة الأحاديث الحسان وهذا تهافت صريح.

الرّابع: ظاهر قوله: « لميّزوا الموضوعات من الحسان لغيرها » أنّ أحاديث المتأخّرين هي بين موضوعاتٍ وبين حسانٍ لغيرها، مع العلم بأنّ الأحاديث الضعيفة - التي يشتمل عليها كتب المتأخرين - أعمّ من الحسان لغيرها والضعاف غير الحسان لغيرها التي لم تصل حدّ الوضع، فما وجه ترك القسم الثالث، وهو الأحاديث الضعيفة غير الحسان لغيرها وغير الموضوعات؟!

الخامس: إنّ رواية الأحاديث الموضوعة حرام بالإجماع، فإثبات رواية الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم للموضوعات مع علمهم بذلك،

٢٧٨

هو في الحقيقة تفسيق لهؤلاء الأساطين.

السادس: قال السمعاني في ( ذيل تاريخ بغداد ):

« والخطيب في درجة القدماء من الحفّاظ والأئمّة الكبار كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن أبي خيثمة، وطبقتهم، وكان علّامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجةً ونضارة»(١) .

وهذا الكلام يبطل ما ذكره ( الدهلوي ) من جعل الخطيب من المحدّثين المتأخّرين المخلّطين، فلا تغفل.

قوله:

إلّا أنّه لقلّة الفرصة عندهم وقصر أعمارهم، لم يتمكّنوا من ذلك

أقول:

نعم، لقد صرف ( الدهلوي ) عمره الطويل في طلب الشهرة وتحصيل الجاه، وتخديع العوام، فلم تبق له فرصة لأنْ يلقي نظرةً ثانيةً على كتابه المنتحل من خرافات الكابلي، فيميّز بها الموضوعات الصريحة والمكذوبات الفضيحة، من الكلمات المليحة والإفادات الصحيحة

لكنّ المتأخرين عنه - خصوصاً تلميذه الرشيد الدّهلوي - حاولوا الإحتراز عن الخطّ الذي مشى عليه ( الدهلوي )، كيلا يتورّطوا كما تورّط، ولا يقعوا في الهوة السحيقة التي وقع فيها، إلّا أنّ لكلٍّ منهم توهّمات غريبة وأكذوبات ظاهرة، كما لا يخفى على من نظر في الأجوبة والردود المكتوبة على مؤلَّفاتهم.

____________________

(١). أنظر: الوافي بالوفيات ٧ / ١٩٤.

٢٧٩

وبعد، فإنّ كلمات أعلام القوم في وصف الديلمي والخطيب وابن عساكر وكتبهم الحديثية، لتكشف عن بطلان ما ذكره ( الدهلوي )، من ذلك قول الحافظ الذهبي في ترجمة الخطيب:

« قد كان رئيس الرؤساء تقدّم إلى الخطباء والوعّاظ أنْ لا يرووا حديثاً حتّى يعرضوه عليه، فما صحّحه رووه وما ردّه لم يذكروه »(١) .

وقد أورد ( الدهلوي ) أيضاً هذا المطلب بترجمة الخطيب من كتابه ( بستان المحدثين ).

فهل يعقل أنْ يكون للخطيب فرصة النظر في الأحاديث التي يعرضها عليه الخطباء والوعّاظ وغيرهم من علماء عصره ومحدّثي وقته، حتّى لا يرووا للناس الأحاديث الموضوعة والأشياء الباطلة، ثمّ يترك مؤلّفاته مشتملةً على الموضوعات والمكذوبات، من غير إفراز لها عن الأحاديث الصحيحة والمعتبرة، فيكون مصداقاً لقوله عزّوجلّ:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) ؟!

رأي الدهلوي في كتب ابن الجوزي والسّخاوي والسّيوطي

قوله:

ثمّ جاء من بعدهم، فميّز الموضوعات عن غيرها، كما فعل ابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ) والسخاوي الّذي جمع الحسان لغيرها في كتابه ( المقاصد الحسنة ) وكذلك السيوطي

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٨٠، تذكرة الحفاظ ٣ / ١١٤١.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510