تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 418820 / تحميل: 5478
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ولو فكّ الحجر عنه قبل تكفيره بالصوم في اليمين ، وحلف النذر ، والظهار والإفطار وغير ذلك ، لزمه العتق إن قدر عليه ؛ لأنّه الآن متمكّن.

ولو فكّ بعد صومه للكفّارة ، لم يلزمه شي‌ء.

* * *

٢٤١

الفصل الرابع : في المتولّي لمال الطفل والمجنون والسفيه‌

مسألة ٤٣٩ : قد بيّنّا أنّه ليس للصغير التصرّف في شي‌ء مّا من الأشياء قبل بلوغه خمس عشرة سنة في الذكر وتسع سنين في الأُنثى‌ ، سواء كان مميّزاً أو لا ، مُدركاً لما يضرّه وينفعه أو لا ، حافظاً لماله أو لا.

وقد روي أنّه « إذا بلغ الطفل عشر سنين بصيراً جازت وصيّته بالمعروف وصدقته وأُقيمت عليه الحدود التامّة »(١) وفي روايةٍ أُخرى : « إذا بلغ خمسة أشبار »(٢) .

والمعتمد ما تقدّم.

ولو أذن له الوليّ ، لم يصح ، إلّا في صورة الاختبار إن قلنا بأنّه قبل البلوغ على ما تقدّم(٣) .

ولو قلنا بالرواية ، نفذ تصرّفه في الوصيّة بالمعروف والصدقة ، وقُبِل إقراره بهما ؛ لأنّ مَنْ ملك شيئاً ملك الإقرار به.

وهل يصحّ بيع المميّز وشراؤه بإذن الوليّ؟ الوجه عندي : أنّه لا يصحّ ولا ينفذ - وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وبه قال الشافعي(٤) - لقوله تعالى :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (٥) وإنّما يُعرف زوال السفه بالبلوغ‌

____________________

(١) الكافي ٧ : ٢٨ ( باب وصيّة الغلام والجارية ) ح ١ ، الفقيه ٤ : ١٤٥ / ٥٠٢ ، التهذيب ٨ : ٢٤٨ / ٨٩٨.

(٢) التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٩٢٢ ، الاستبصار ٤ : ٢٨٧ / ١٠٨٥.

(٣) في ص ٢٢٥ ، المسألة ٤٢١.

(٤) المغني ٤ ٣٢١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٨ ، الوجيز ١ : ١٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٩ ، المجموع ٩ : ١٥٥ - ١٥٦ و ١٥٨.

(٥) النساء : ٥

٢٤٢

والرشد. ولأنّه غير مكلّف فأشبه غير المميّز. ولأنّ العقل لا يمكن الوقوف عليه على الحدّ الذي يصلح به التصرّف والذي لا يصلح ؛ لخفائه وتزايده إلى وقت البلوغ على التدريج ، والمراتب خفيّة في الغاية ، فجَعَل الشارع له ضابطاً ، وهو البلوغ ، فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنّة.

وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأُخرى : يجوز بيع المميّز وشراؤه وتصرّفه بإذن الوليّ ؛ لقوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى )(١) أي اختبروهم ليُعلم رشدهم ، وإنّما يتحقّق اختبارهم بتفويض التصرّف إليهم من البيع والشراء وغيرهما ليُعلم هل بلغ حدّ الرشد أم لا؟ ولأنّه عاقل مميّز محجور عليه ، فصحّ تصرّفه بإذن الوليّ ، بخلاف غير المميّز ، فإنّه لا يصلح تحصيل المصلحة بتصرّفه ؛ لعدم تميزه وعدم معرفته ، ولا حاجة إلى اختباره ؛ لأنّه قد عُلم حاله(٢) .

وقد بيّنّا الخلاف في أنّ الاختبار هل هو قبل البلوغ أو بعده؟ فإن قلنا : إنّه بعد البلوغ ، فلا بحث. وإن قلنا : إنّه قبله ، قلنا : المراد المساومة والمماكسة ، فإذا وقف الحال على شي‌ء ، باع الوليّ وباشر العقد بيعاً وشراءً دون الصبي ، وبهذا يحصل الاختبار ، والعقل غير معلوم السمة له ، وإنّما يُعلم بما ضبطه الشارع علامةً عليه ، وهو البلوغ ، كالمشقّة المنوطة بالمسافة.

تذنيب : قال أبو حنيفة : لو تصرّف الصبي المميّز بالبيع والشراء وشبههما ، صحّ تصرّفه‌ ، ويكون موقوفاً على إجازة الوليّ ، وأمّا غير المميّز فلا يصحّ تصرّفه ، سواء أذن الوليّ أو لا ؛ لسلب أهليّته عن مباشرة‌

____________________

(١) النساء : ٦

(٢) بدائع الصنائع ٥ : ١٣٥ ، المغني ٤ : ٣٢١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٨ ، حلية العلماء ٤ : ١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٥ ، المجموع ٩ : ١٥٨.

٢٤٣

التصرّفات(١) .

ولا فرق بين الشي‌ء اليسير والكثير في المنع من تصرّف غير المميّز.

وقال أحمد : يصحّ تصرّف غير المميّز في الشي‌ء اليسير ؛ لأنّ أبا الدرداء اشترى عصفوراً من صبي وأرسله(٢) .

وفعله ليس حجّةً ، وجاز أن يكون قد عرف أنّه ليس ملكاً للصبي فاستنقذه منه.

مسألة ٤٤٠ : يثبت الرشد عند الحاكم بشهادة رجلين عَدْلين في الرجال ، وفي النساء أيضاً‌ ؛ لأنّ شهادة الاثنين مناط الأحكام.

ويثبت في النساء بشهادة أربع أيضاً ؛ لأنّه ممّا تطّلع عليه النساء ولا يطّلع عليه الرجال غالباً ، فلو اقتصرنا في ثبوت رشدهنّ على شهادة الرجال ، لزم الحرج والضيق ، وهو منفيّ بالإجماع.

وكذا يثبت بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة أربع خناثى ؛ لجواز أن يكون نساءً.

ولا يثبت بتصديق الغريم ، سواء كان ممّن يؤخذ منه الحقّ أو يدفع إليه ؛ لما فيه من التهمة.

مسألة ٤٤١ : الولاية في مال المجنون والطفل للأب والجدّ له وإن علا ، ولا ولاية للأُمّ إجماعاً ، إلّا من بعض الشافعيّة(٣) ، بل إذا فُقد الأب والجدّ وإن علا ، كانت الولاية لوصيّ أحدهما إن وُجد ، فإن لم يوجد ، كانت الولاية للحاكم يتولّاها بنفسه أو يولّيها أميناً.

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ١٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٥ ، المجموع ٩ : ١٥٨.

(٢) المغني ٤ : ٣٢١ ، الشرح الكبير ٤ : ٨ ، المجموع ٩ : ١٥٨.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٥ ، حلية العلماء ٤ : ٥٢٥ ، الوجيز ١ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٢.

٢٤٤

ولا ولاية لجدّ الأُمّ ، كما لا ولاية للأُمّ ، ولا لغير الأب والجدّ له من الأعمام والأخوال و(١) غيرهما من الأنساب ، قربوا أم بعدوا.

وقد روي أنّ للأُمّ ولايةَ الإحرام بالصبي(٢) .

والمعتمد ما قلناه.

وقال أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة : إنّ للأُمّ ولايةَ المال بعد الأب والجدّ ، وتُقدّم على وصيّهما ؛ لزيادة شفقتها(٣) .

وهو خارق للإجماع.

مسألة ٤٤٢ : الولاية في مال السفيه للحاكم‌ ، سواء تجدّد السفه عليه بعد بلوغه أو بلغ سفيهاً ؛ لأنّ الحجر يفتقر إلى حكم الحاكم ، وزواله أيضاً يفتقر إليه ، فكان النظر في ماله إليه ، ولا ولاية للأب ولا للجدّ ولا لوصيّهما على السفيه.

وقال أحمد : إن بلغ الصبي سفيهاً ، كانت الولاية للأب أو الجدّ له أو الوصيّ لهما مع عدمهما ، وإلّا فالحاكم(٤) .

ولا بأس به.

إذا عرفت هذا ، فإن كان الأبُ للصبي والجدُّ موجودين ، اشتركا في الولاية ، وكان حكم الجدّ أولى لو عارضه حكم الأب.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « أو » بدل « و».

(٢) راجع التهذيب ٥ : ٦ - ٧ / ١٦ ، والاستبصار ٢ : ١٤٦ - ١٤٧ / ٤٧٨ ، وصحيح مسلم ٢ : ٩٧٤ / ١٣٣٦ ، وسنن أبي داوُد ٢ : ١٤٢ - ١٤٣ / ١٧٣٦ ، وسنن النسائي ٥ : ١٢٠ ، وسنن البيهقي ٥ : ١٥٥.

(٣) راجع المصادر في الهامش (٣) من ص ٢٤٣.

(٤) المغني ٤ : ٥٧٠ - ٥٧١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٢ - ٥٦٣.

٢٤٥

الفصل الخامس : في كيفيّة التصرّف‌

مسألة ٤٤٣ : الضابط في تصرّف المتولّي لأموال اليتامى والمجانين اعتبار الغبطة‌ ، وكون التصرّف على وجه النظر والمصلحة ، فللوليّ أن يتّجر بمال اليتيم ، ويضارب به ويدفعه إلى مَنْ يضارب له به ، ويجعل له نصيباً من الربح ، ويستحبّ له ذلك ، سواء كان الوليّ أباً أو جدّاً له أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينَ حاكمٍ ، وبه قال عليّعليه‌السلام وعمر وعائشة والضحّاك(١) .

ولا نعلم فيه خلافاً إلّا ما روي عن الحسن البصري كراهة ذلك ؛ لأنّ خزنه أحفظ وأبعد له من التلف(٢) .

والأصحّ ما ذكرناه ؛ لما رواه العامّة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ ولي يتيماً له مالٌ فليتّجر له ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أسباط بن سالم أنّه قال للصادقعليه‌السلام : كان لي أخ هلك فأوصى إلى أخ أكبر منّي وأدخلني معه في الوصيّة وترك ابناً صغيراً وله مال أفيضرب به للابن فما كان من فضل سلّمه لليتيم وضمن له ماله؟ فقال : « إن كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به ، وإن لم يكن له مال فلا يعرّض لمال اليتيم »(٤) .

____________________

(١ و ٢) المغني ٤ : ٣١٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٤.

(٣) سنن الدارقطني ٢ : ١٠٩ - ١١٠ / ١ ، المغني ٤ : ٣١٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٤ - ٥٦٥.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٢ / ٩٥٧.

٢٤٦

ولأنّ ذلك أنفع لليتيم وأكثر حظّاً له ، لأنّه ينفق من ربحه ، ويستدرك من فائدته ما [ يقلّه ](١) الإنفاق ، كما يفعله البالغون في أموالهم وأموال مَنْ يعزّ عليهم من أولادهم.

مسألة ٤٤٤ : وإذا اتّجر لهم ينبغي أن يتّجر في المواضع الآمنة ، ولا يدفعه إلّا لأمين ، ولا يغرّر بماله.

وقد روي أنّ عائشة أبضعت مال محمّد بن أبي بكر في البحر(٢) .

ويُحتمل أن يكون في موضعٍ مأمون قريب من الساحل ، أو أنّها ضمنته إن هلك غرمته هي ، أو أنّها أخطأت في ذلك فليس فعلها حجّةً.

إذا عرفت هذا ، فإنّ للوصيّ أن يتّجر بنفسه ، ويجعل الربح بينه وبين اليتيم على جاري العادة ؛ لأنّه جاز أن يدفعه كذلك إلى غيره فجاز أن يأخذ ذلك لنفسه.

وقال بعض العامّة : لا يجوز أن يعمل به بنفسه ؛ لأنّ الربح نماء مال اليتيم ، فلا يستحقّه غيره إلّا بعقدٍ ، فلا يجوز أن يعقد الوليّ المضاربة مع نفسه(٣) .

وهو ممنوع ؛ لجواز أن يتولّى طرفي العقد.

وإذا دفعه إلى غيره ، كان للعامل ما جَعَله له الوليّ ووافقه عليه ؛ لأنّ الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته ، وهذا فيه مصلحته ، فصار تصرّفه فيه كتصرّف المالك في ماله.

مسألة ٤٤٥ : ويشترط في التاجر بمال اليتيم أن يكون وليّاً‌ وأن يكون‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ج ، ر » والطبعة الحجريّة : « يعلمه » وفي « ث » : « يعد ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢ و ٣) المغني ٤ : ٣١٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٥.

٢٤٧

مليّاً ، فإن انتفى أحد الوصفين ، لم يجز له التجارة في ماله ، فإن اتّجر ، كان الضمان عليه ، والربح لليتيم ؛ لما رواه ربعي بن عبد الله عن الصادقعليه‌السلام في رجل عنده مال اليتيم ، فقال : « إن كان محتاجاً ليس له مال ، فلا يمسّ ماله ، وإن هو اتّجر به فالربح لليتيم وهو ضامن »(١) .

وفي الحسن عن محمّد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام في مال اليتيم قال : « العامل به ضامن ، ولليتيم الربح إذا لم يكن للعامل به مال » وقال : « إن أعطب أدّاه »(٢) .

مسألة ٤٤٦ : ويجوز لوليّ اليتيم إبضاع ماله ، وهو دفعه إلى مَنْ يتّجر به ، والربح كلّه لليتيم‌ ؛ لأنّ ذلك أنفع من المضاربة ، لأنّه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى مَنْ يدفع جميع ربحه إلى اليتيم أولى.

ويستحبّ أن يشتري له العقار ؛ لأنّه مصلحة له ، لأنّه يحصل منه الفضل ، ولا يفتقر إلى كثير مئونة ، وسلامته متيقّنة ، والأصل باقٍ مع الاستنماء ، والغرر فيه أقلّ من التجارة ، بل هو أولى منها ؛ لما في التجارة من الأخطار وانحطاط الأسعار ، فإن لم يكن في شرائه مصلحة إمّا لفضل الخراج وجور السلطان أو إشراف الموضع على البوار ، لم يجز.

ويجوز أن يبني عقاره ويستجدّه إذا استهدم من الدور والمساكن ؛ لأنّه في معنى الشراء ، إلاّ أن يكون الشراء أنفع ، فيصرف المال إليه ، ويقدّمه على البناء ، فإن فضل شي‌ء ، صرفه في البناء.

وإذا أراد البناء ، بنى بما فيه الحظّ لليتيم ، ويبنيه بالآجر والطين ، وإن اقتضت المصلحة البناء باللِّبن ، فَعَل ، وإلّا فلا ؛ لأنّه إذا هدم لا مرجوع له.

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٣١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٤١ - ٣٤٢ / ٩٥٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٣١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٤٢ / ٩٥٦.

٢٤٨

وبالجملة ، يفعل الأصلح.

وقال الشافعي : يبني بالآجر والطين لا غير ؛ لأنّه إذا بنى باللِّبن خاصّةً ، لم يكن له مرجوع ، وإذا بناه بالآجر والجصّ ، لم يتخلّص منه إلّا بكسره(١) .

وما قلناه أولى ؛ لأنّه إذا كان الحظّ في البناء بغير الآجر ، فتركه تضييع حظّه وماله ، ولا يجوز تضييع الحظّ العاجل وتحمّل الضرر المتيقّن لتوهّم مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء ، وربما لا يقع ذلك في حياته ولا يحتاج إليه ، مع أنّ كثيراً من البلاد لا يوجد فيها الآجر ، وكثيراً من البلدان لم تجر عادتهم بالبناء بالآجر ، فلو كُلّفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة كثيرة لا يحصل منها طائل ، فالأولى البناء في كلّ بلدٍ على عادته.

مسألة ٤٤٧ : لا يجوز بيع عقار الصبي لغير حاجة‌ ؛ لأنّا نأمر الوليّ بالشراء له لما فيه من الحظّ والمصلحة ، فيكون بيعه تفويتاً للحظّ ، فإن احتُيج إلى بيعه ، جاز ، وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق وأحمد(٢) .

وقال بعض العامّة : لا يجوز إلّا في موضعين :

أ : أن يكون به ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دَيْن أو ما لا بدّ له منه ، ولا تندفع حاجته إلّا بالبيع ، أو قصرت غلّته عن الوفاء بنفقته وما يحتاج إليه.

ب : أن يكون في بيعه غبطة بأن يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٢ ، المغني ٤ : ٣١٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٧.

(٢) المهذب - للشيرازي - ١ : ٣٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٢ ، المغني ٤ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٩.

٢٤٩

ويرغب إليه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن ، أو يخاف عليه الخراب والهلاك بغرقٍ أو حرقٍ أو نحوه ، أو يكون ثقيل الخراج ومنزل الوُلاة ونحوه ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أحمد : كلّ موضعٍ يكون البيع أنفع ويكون نظراً لهم ، جاز ، ولا يختصّ بما تقدّم ، وكذا لو كانت الدار سيّئة الجيران ويتضرّر الصبي بالمقام فيها ، جاز بيعها وشراء عوضها ، والجزئيّات غير محصورة ، فالضابط اعتبار الغبطة ، وقد يكون الغبطة له في ترك البيع وإن أعطاه الباذل ضِعْفَي ثمنه إذا لم يكن به حاجة إلى الثمن أو لا يمكن صَرف ثمنه في مثله ويخاف ضياعه ، فقد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ باع داراً أو عقاراً ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه »(٢) (٣) .

مسألة ٤٤٨ : يجوز للوليّ عن الطفل أو(٤) المجنون بيع عقاره وغيره في موضع الجواز بالنقد والنسيئة‌ وبالعرض بحسب ما تقتضيه المصلحة.

وإذا باع نسيئةً زاد على ثمنه نقداً ، وأشهد عليه ، وارتهن به رهناً وافياً ، فإن لم يفعل ، ضمن ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٥) .

ونقل الجويني وجهين في صحّة البيع إذا لم يرتهن وكان المشتري مليّاً ، وقال : الأصحّ : الصحّة ، ولا يكون ضامناً ؛ اعتماداً على ذمّة المليّ(٦) .

وليس بمعتمد ؛ لأنّه في معرض الإتلاف ، بخلاف الإقراض ؛ لأنّه‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٠ - ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٢ - ٤٢٣.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٣٢ / ٢٤٩٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٤ ، مسند أحمد ٥ : ٣٩٧ / ١٨٢٦٤ بتفاوت يسير.

(٣) المغني ٤ : ٣١٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٩.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « و» بدل « أو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٣.

٢٥٠

يجوز عند خوف الإتلاف.

ولا يحتاج الأب إذا باع مال ولده من نفسه نسيئةً أن يرتهن له من نفسه ، بل يؤتمن في حقّ ولده.

وكذا البحث لو اشترى له سَلَماً مع الغبطة بذلك.

مسألة ٤٤٩ : إذا باع الأب أو الجدّ عقار الصبي أو المجنون وذكر أنّه للحاجة ، ورفع الأمر إلى الحاكم ، جاز له أن يسجّل على البيع ، ولم يكلّفهما إثبات الحاجة أو الغبطة ؛ لأنّهما غير متّهمين في حقّ ولدهما.

ولو باع الوصيّ أو أمين الحاكم ، لم يسجّل الحاكم ، إلّا إذا قامت البيّنة على الحاجة أو الغبطة ، فإذا بلغ الصبي وادّعى على الأب أو الجدّ بيع ماله من غير مصلحةٍ ، كان القولُ قولَ الأب أو الجدّ مع اليمين ، وعليه البيّنة ؛ لأنّه يدّعي عليهما خلافَ الظاهر ؛ إذ الظاهر من حالهما الشفقة وعدم البيع إلّا للحاجة.

ولو ادّعاه على الوصيّ أو الأمين ، فالقول قوله في العقار ، وعليهما البيّنة ؛ لأنّهما مدّعيان ، فكان عليهما البيّنة.

وفي غير العقار الأولى ذلك أيضاً ؛ لهذا الدليل ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

وفي الآخَر : أنّه يُقبل قولهما مع اليمين ، والفرق عسر الإشهاد في كلّ قليل وكثير يبيعه(١) .

ومن الشافعيّة مَنْ أطلق وجهين من غير فرقٍ بين الأولياء ، سواء كانوا آباءً أو أجداداً أو غرباء ، ولا بين العقار وغيره(٢) .

ودعوى الصبي والمجنون على المشتري من الوليّ كدعواهما على‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٣.

٢٥١

الوليّ.

مسألة ٤٥٠ : وهل للوصيّ والأمين بيع مال الطفل والمجنون من نفسه وبيع مال نفسه منه؟ مَنَع منه جماعة من علمائنا(١) والشافعي(٢) أيضاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يشتري الوصيّ من مال اليتيم »(٣) .

والأقرب عندي : الجواز ، والتهمة منتفية مع الوثوق بالعدالة. ولأنّ التقدير أنّه بالغ في النصيحة ، ولا استبعاد في كونه موجباً قابلاً ، كما في الأب والجدّ.

إذا عرفت هذا ، فهل للأب والجدّ للأب ذلك؟ الأولى ذلك - وبه قال الشافعي(٤) - لأنّ شفقتهما عليه توجب المناصحة له.

وكذا يبيع الأب أو الجدّ عن أحد الصغيرين ويشتري للآخَر.

وهل يشترط العقد ، فيقول : « بعت كذا عن فلان ، اشتريت كذا من فلان »؟ الأقرب : ذلك ، كما لو باع من غيره ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّه يكتفي بأحدهما ، ويقام مقامهما ، كما أُقيم الشخص الواحد مقام اثنين ، سواء كان بائعاً عن أحد الصغيرين ومشترياً عن الآخَر ، أو كان مشترياً لنفسه وبائعاً عن الصغير ، أو بالعكس(٥) .

وإذا اشترى الوليّ للطفل فليشتر من ثقة أمين يؤمن من جحوده في الثاني وحيلته في إفساد البيع بأن يكون قد أقرّ لغيره قبل البيع وما أشبه‌

____________________

(١) منهم : الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٣٤٦ ، المسألة ٩ ، والمبسوط ٢ : ٣٨١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٤.

(٣) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٤ ، المغني ٥ : ٢٤٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٤.

٢٥٢

ذلك ، وحذراً من خروج الملك مستحقّاً.

ولا يجوز لوليّ الطفل أن يبيع إلّا بثمن المثل. وقد تفرض المصلحة في البيع بدون ثمن المثل في بعض جزئيّات الصور ، فليجز حينئذٍ.

مسألة ٤٥١ : وأمّا قرض مال الطفل والمجنون فإنّه غير جائز‌ إلاّ مع الضرورة ؛ لما فيه من التغرير والتعريض للإتلاف ، بل إن أمكن الوليّ التجارة به أو شراء عقارٍ له فيه الحظّ ، لم يقرضه ؛ لما فيه من تفويت الحظّ على اليتيم.

وإن لم يمكن ذلك - بأن خاف من إبقائه في يده [ من تلفٍ ](١) أو نهب أو سرقةٍ أو حرقٍ أو غير ذلك من الأسباب المتلفة أو الـمُنقصة للماليّة ، وكذا إذا أراد الوليّ السفر وخاف من استصحابه معه أو إبقائه في البلد - جاز له إقراضه من ثقة ملي‌ء. وإن تمكّن من الارتهان عليه ، وجب ، فإن لم يتّفق الرهن ووجد كفيلاً ، طالَب بالكفيل.

ولو تمكّن من الارتهان عليه فطلب الكفيل وترك الارتهان ، فقد فرّط.

ولو استقرض الوليّ مع الولاية والملاءة ، جاز ؛ نظراً لمصلحة الطفل ، فقد روى العامّة أنّ عمر استقرض مال اليتيم(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو الربيع عن الصادقعليه‌السلام أنّه سئل عن رجل ولي [ مال ] يتيم فاستقرض منه شيئاً ، فقال : « إنّ عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره ، فلا بأس بذلك »(٣) .

____________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) المغني ٤ : ٣١٩.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤١ / ٩٥٣ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٢٥٣

ولأنّه وليّ له التصرّف في ماله بما يتعلّق به مصلحة اليتيم ، فجاز له إقراضه للمصلحة.

وإذا كان للصبي مالٌ في بلدٍ فأراد الوليّ نَقْلَه عن ذلك البلد إلى آخَر ، كان له إقراضه من ثقة ملي‌ء ، ويقصد بذلك حفظه من السارق وقاطع الطريق ، أو الغرق ، أو غير ذلك.

وكذا لو خاف على مال اليتيم التلف ، كما إذا كان له غلّة من حنطة وشبهها وخاف عليها تطرّق الفساد إليها ، أقرضها من الثقة الملي‌ء خوفاً من تسويسها وتغيّرها ؛ لأنّه يشتمل على نفع اليتيم ، فجاز ، كالتجارة.

ولو لم يكن لليتيم فيه حظّ ، وإنّما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته ، لم يجز إقراضه ، كما لم يجز هبته.

ولو أراد الوليّ السفر ، لم يسافر به ، وأقرضه من ملي‌ء مأمون ، وهو أولى من الإيداع ؛ لأنّ الوديعة لا تُضمن.

ولو لم يوجد المقترض بهذه الصفة ، أودعه من ثقة أمين ، فهو أولى من السفر به ؛ لأنّه موضع الحاجة والضرورة.

ولو أودعه من الثقة مع وجود المقترض الملي‌ء المأمون ، لم يكن مفرّطاً ، ولا ضمان عليه ، فإنّه قد يكون الإيداع أنفع له من القرض ، وهو أضعف وجهي الشافعيّة.

وأصحّهما عندهم : أنّه لا يجوز إيداعه مع إمكان الإقراض ، فإن فَعَل ضمن(١) .

وكلّ موضعٍ جاز له أن يقرضه فيه فإنّه يشترط أن يكون المقترض‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٦.

٢٥٤

مليّاً أميناً ، ليأمن جحوده وتعذّر الإيفاء.

فإن تمكّن من الارتهان ، ارتهن ، وإن تعذّر ، جاز من غير رهن ؛ لأنّ الظاهر ممّن يستقرض من أجل حظّ اليتيم أنّه لا يبذل رهناً ، فاشتراط الرهن تفويت لهذا الحظّ.

ويشترط فيمن يُودع عنده الأمانة وفي المقترض الأمانةُ واليسار معاً ، فإن أودع أو أقرض من غير الثقة ، ضمن.

مسألة ٤٥٢ : لو أخذ إنسان من وليّ اليتيم مالاً وتصرّف في بعضه بغير إذنه ثمّ أيسر بعد ذلك ، كان عليه ردّ المال إلى الوليّ‌ أو إلى الطفل إن كان قد بلغ رشيداً.

ويجوز إذا دفعه إلى الطفل أن لا يشعر بالحال وأن يدفعه إليه موهماً له أنّه على وجه الصلة ؛ لأنّ الغرض والمقصود بالذات إيصال الحقّ إلى مستحقّه ؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج - في الصحيح - عن الكاظمعليه‌السلام في الرجل يكون عند بعض أهل بيته المال لأيتامٍ فيدفعه إليه فيأخذ منه دراهم يحتاج إليها ولا يُعلم الذي كان عنده المال للأيتام أنّه أخذ من أموالهم شيئاً ثمّ تيسّر بعد ذلك ، أيّ ذلك خير له؟ أيعطيه الذي كان في يده ، أم يدفعه إلى اليتيم وقد بلغ؟ وهل يجزئه أن يدفعه إلى صاحبه على وجه الصلة ولا يُعلمه أنّه أخذ له مالاً؟ فقال : « يجزئه أيّ ذلك فَعَل إذا أوصله إلى صاحبه ، فإنّ هذا من السرائر إذا كان من نيّته إن شاء ردّه إلى اليتيم إن كان قد بلغ على أيّ وجه شاء وإن لم يُعلمه أنّه كان قبض له شيئاً ، وإن شاء ردّه إلى الذي كان في يده » وقال : « إذا كان صاحب المال غائباً‌

٢٥٥

فليدفعه إلى الذي كان المال في يده »(١) .

مسألة ٤٥٣ : ومَنْ كان عنده مالٌ لأيتامٍ فهلك الأيتام قبل دفع المال إليهم فيصالحه وارثهم على البعض ، حلّ له ذلك‌ ، وبرئت ذمّته من جميع المال مع إعلام الوارث ؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج وداوُد بن فرقد جميعاً عن الصادقعليه‌السلام ، قالا : سألناه عن الرجل يكون عنده المال لأيتامٍ فلا يعطيهم حتى يهلكوا فيأتيه وارثهم ووكيلهم فيصالحه على أن يأخذ بعضاً ويدع بعضاً ويبرئه ممّا كان له أيبرأ منه؟ قال : « نعم »(٢) .

مسألة ٤٥٤ : يجب على الوليّ الإنفاقُ على مَنْ يليه بالمعروف ، ولا يجوز له التقتير عليه في الغاية ولا الإسراف في النفقة ، بل يكون في ذلك مقتصداً.

ويجرى الطفل على عادته وقواعد أمثاله من نظرائه ، فإن كان من أهل الاحتشام ، أطعمه وكساه ما يليق بأمثاله من المطعوم والملبوس ، وكذا إن كان من أهل الفاقة والضرورة ، أنفق عليه نفقة أمثاله.

فإذا ادّعى الوليّ الإنفاقَ بالمعروف على الصبي أو على عقاره أو ماله أو دوابّه إن كان ذا دوابّ ، فإن كان أباً أو جدّاً ، كان القول قولَهما فيه ، إلّا أن يقيم الصبي البيّنةَ بخلافه.

فإنّ ادّعى الصبي بعد بلوغه خلافَ ذلك ، كان القول قولَ الأب أو الجدّ للأب مع يمينه ، إلّا أن يكون مع الابن بيّنةٌ.

وإن كان وصيّاً أو أميناً ، قُبل قوله فيه مع اليمين ، ولا يُكلَّفان البيّنة‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٢ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٤٢ / ٩٥٨.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٥٩.

٢٥٦

أيضاً - وهو أصحّ قولي الشافعيّة(١) - لتعذّر إقامة البيّنة على ذلك.

وفي الآخَر : لا يُقبل إلّا بالبيّنة ، كالبيع ، لا يُقبل قولهما إلّا ببيّنة(٢) .

والفرق : عدم تعذّر إقامة البيّنة على البيع ؛ لأنّ الظاهر من حال العَدْل الصدقُ ، وهو أمين عليه ، فكان القول قولَه مع اليمين.

ولو ادّعى خلاف ما تقتضيه العادة ، فهو زيادة على المعروف ، ويكون ضامناً.

وكذا لو ادّعى تلف شي‌ء من ماله في يده بغير تفريطٍ ، أو أنّ ظالماً قهره عليه وأخذه منه ، قُدّم قوله باليمين ؛ لأنّه أمين.

أمّا لو ادّعى الإنفاق عليه منذ ثلاث سنين ، فقال الصبي : ما مات أبي إلّا منذ سنتين ، قُدّم قول الصبي مع اليمين ؛ لأنّ الأصل حياة أبيه ، واختلافهما في أمرٍ ليس الوصيّ أميناً فيه ، فكان القولُ قولَ مَنْ يوافق قوله الأصل مع اليمين.

مسألة ٤٥٥ : لـمّا نزل قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )(٣) تجنّب أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أموالَ اليتامى وأفردوها عنهم ، فنزل قوله تعالى :( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) (٤) أي : ضيّق عليكم وشدّد ، فخالطوهم في مأكولهم ومشروبهم(٥) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥٢٧ - ٥٢٨.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥٢٧.

(٣) النساء : ١٠.

(٤) البقرة : ٢٢٠.

(٥) تفسير الطبري ( جامع البيان ) ٢ : ٢١٧ ، تفسير السمرقندي ( بحر العلوم ) ١ : =

٢٥٧

وينبغي للوليّ النظرُ في حال اليتيم ، فإن كانت الخلطة له أصلح - مثل أن يكون إذا خلط دقيقه بدقيقه وخَبَزه دفعة واحدة ، كان أرفق باليتيم في المؤونة(١) وألين في الخبز وما أشبه ذلك - جاز له ، بل كان أولى نظراً لليتيم ، كما قال تعالى :( يَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ ) (٢) الآية. وإن كان الإفراد أرفق له وأصلح ، أفرده.

وسأل [ سماعة ](٣) الصادقَعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ :( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ) قال : « يعني اليتامى إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله قدر ما يخرج لكلّ إنسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعاً ، ولا يرزأ من أموالهم شيئاً ، إنّما هي النار »(٤) .

إذا عرفت هذا ، فينبغي أن يتغابن مع الأيتام ، فيحسب لكلّ واحدٍ من عياله وأتباعه أكثر من أكل اليتيم وإن ساوى الواحد منهم ؛ تحفّظاً لمال اليتيم ، وتحرّزاً من تلف بعضه.

ولو تعدّد اليتامى واختلفوا كِبَراً وصِغَراً ، حسب على الكبير بقسطه وعلى الصغير بقسطه لئلّا يضيع مال الصغير بقسطه على نفقة الكبير ؛ لما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ :( وَمَنْ كانَ‌

____________________

= ٢٠٤ ، زاد المسير : ١ :٢٤٣ - ٢٤٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ١١٤ - ١١٥ / ٢٨٧١ ، سنن النسائي ٦ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٥ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٢٧٨ - ٢٧٩.

(١) في الطبعة الحجريّة : « المؤن ».

(٢) البقرة : ٢٢٠.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عثمان بن عيسى ». وهو - في المصدر - مذكور قبل « سماعة ».

(٤) الكافي ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٤٠ / ٩٤٩ بتفاوت.

٢٥٨

فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) قال : « ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً » قال : قلت : أرأيت قول الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ )(٢) ؟ قال : « تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم ، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثمّ تنفقه » قلت : أرأيت إن كانوا يتامى صغاراً وكباراً وبعضهم أعلى [ كسوةً ](٣) من بعض وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعاً؟ فقال : « أمّا الكسوة فعلى كلّ إنسان ثمن كسوته ، وأمّا الطعام فاجعله(٤) جميعاً ، فإنّ الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير »(٥) .

مسألة ٤٥٦ : إذا بلغ الصبي رشيداً ، زالت ولاية الوصيّ وغيره عنه ، سواء كان حاضراً أو غائباً ، فلا يجوز له بيع مال الغائب بعد بلوغه ورشده ، فإن باع كان باطلاً ، وبه قال الشافعي(٦) .

ولا فرق بين أن يكون مال الغائب مشتركاً مع صبيٍّ آخَر له عليه ولاية أو لا ، ولا بين أن يكون الصغار محتاجين(٧) إلى بيع المشترك مع الغائب أو لا ، ولا بين أن يكون المتاع ممّا يقبل القسمة أو لا ؛ لأنّ البلوغ والرشد أزالا عنه الولاية ، فلا ينفذ تصرّف غيره في ماله إلّا بإذنه ، وبيع الوصي مال‌

____________________

(١) النساء : ٦

(٢) البقرة : ٢٢٠.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) في المصدر : « فاجعلوه ».

(٥) الكافي ٥ : ١٣٠ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٤١ / ٩٥٢.

(٦) المغني ٤ : ٣٢١.

(٧) في « ث ، ر » : « يحتاجون ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « محتاجون ». والصحيح ما أثبتناه.

٢٥٩

الغائب الرشيد تصرّفٌ في مال غيره بغير وكالة ولا ولاية ، فلم يصح ، كبيع ماله المنفرد أو ما لا تضرّ قسمته.

وقال أحمد : يجوز للوصي البيع على الغائب البالغ إذا كان من طريق النظر(١) .

وقال أصحابه : يجوز للوصي البيع على الصغار والكبار إذا كانت حقوقهم مشتركةً في عقار في قسمته إضرار وبالصغار حاجة إلى البيع إمّا لقضاء دَيْنٍ أو لمئونةٍ لهم(٢) .

وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى : يجوز البيع على الصغار والكبار فيما لا بدّ منه(٣) .

وكأنّهما أرادا هذه الصورة ؛ لأنّ في ترك القسمة نظراً للصغار واحتياطاً للميّت في قضاء دَيْنه.

والحقّ ما قلناه ؛ فإنّ ما ذكروه لا أصل له يقاس عليه ، ولا له شهادة شرعٍ بالاعتبار. ولأنّ مصلحة الصغار يعارضها أنّ فيه ضرراً على الكبار ببيع مالهم بغير إذنهم. ولأنّه لا يجوز بيع غير العقار فلم يجز له بيع العقار ، كالأجنبيّ.

مسألة ٤٥٧ : قال بعض(٤) علمائنا : ليس لوليّ الصبي استيفاء القصاص المستحقّ له‌ ؛ لأنّه ربما يرغب في العفو ، وليس له العفو ؛ لأنّه ربما يختار الاستيفاء تشفّياً.

والوجه عندي : أنّ له الاستيفاء مع المصلحة ؛ لأنّ ولايته عامّة ،

____________________

(١ و ٢) المغني ٤ : ٣٢٠.

(٣) المغني ٤ : ٣٢٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٦٣٤.

(٤) الشيخ الطوسي في المبسوط ٧ : ٥٤.

٢٦٠

نقابها، فتوجّهت تلقاء مدين تشريحه، ووجّهت مطايا الفكر إلى توضيحه، جاعلاً إيّاه سدى الأبحاث، ملحماً له بما في السبعة بل وبما في الثلاث، فما وافق الاُستاذ غيره خلّيناه وسبيله فمرحباً بالوفاق، وما خالفه أشرنا إليه في دقيقه وجليله، إمّا بالكساد أو النفاق واكتفيت في أسماء الشراح السبعة بما اشتهروا به، إختصاراً، لا حطّاً لمراتبهم العليّة واحتقاراً، ومن لم يعظِّم غيره لا يعظَّم ».

فترى « البابرتي » يثني على العلّامة الحلّي وكتابه، وإن كان ما ذكر أقلّ قليلٍ من مناقب جنابه و « البابرتي » المذكور من مشاهير علماء القوم ومحقّقيهم الأعلام، وإليك جملاً من الثناء عليه:

ترجمة البابرتي مادح العلّامة

١ - السّيوطي: « أكمل الدين محمّد بن محمّد بن محمود البابرتي، علّامة المتأخّرين وخاتمة المحقّقين، برع وساد، ودرّس وأفاد، وصنّف شرح الهداية، وشرح المشارق، وشرح المنار، وشرح البزدوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح تلخيص المعاني والبيان، وشرح ألفية ابن معطي، وحاشية على الكشاف، وغير ذلك. وولي مشيخة الشيخونية أوّل ما فتحت، وعرض عليه القضاء فأبى.

مات في رمضان سنة ٧٨٦ »(١) .

٢ - أيضاً: « وكان: علّامة، فاضلاً، ذا فنون، وافر العقل، قويَّ النفس، عظيم الهيبة، مهاباً»(٢) .

____________________

(١). حسن المحاضرة ١ / ٤٧١.

(٢). بغية الوعاة ١ / ٢٣٩.

٢٦١

٣ - الداودي: « أخذ عن أبي حيان والإصفهاني، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبدالقادر، وقرّره شيخون في مشيخة مدرسته، وعظم عنده جدّاً وعند من بعده، بحيث كان الظاهر برقوق يجيء إلى شبّاك الشيخونيّة فيكلّمه وهو راكب، وينتظره حتّى يخرج فيركب معه، وكان علّامة فاضلاً »(١) .

٤ - القاري، ذكره في ( الأثمار الجنية في طبقات الحنفيّة ).

٥ - وكذا كمال باشا زاده في ( طبقات الحنفيّة ).

[ ٢ ] وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر بترجمة العلّامة الحلّيرحمه‌الله : « ولد في سنة بضع وأربعين وستمائة، ولازم النصير الطوسي مدّة، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنّف في الأصول والحكمة، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة، وكان رأس الشيعة في الحلّة، وشهرت تصانيفه، وتخرّج به جماعة، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن، في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإماميّة، وكان قيّماً بذلك داعية إليه، وله كتاب في الإمامة ردّ عليه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمّى بالردّ على الرافضي، وقد أطنب فيه وأسهب وأجاد في الردّ، إلّا أنّه تحامل في مواضع عديدة، وردّ أحاديث موجودة وإنْ كانت ضعيفة بأنّها مختلقة »(٢) .

[ ٣ ] - وابن روزبهان المتعصب العنيد، يصف العلّامة في ديباجة كتابه في الردّ عليه بـ « المولى الفاضل ».

____________________

(١). طبقات المفسرين ٢ / ٢٥١.

(٢). الدرر الكامنة بأعلام المائة الثامنة ٢ / ٧١.

٢٦٢

قوله:

ولا يتأتّى إلزام أهل السنّة بالإفتراء

أقول:

نعم لا يجوز إلزام أحدٍ بشيءٍ مفترىً عليه وإنْ لم يكن متشرّعاً بشريعةٍ من الشرائع، بل وإن كان ملحداً

لكنْ لمـّا كان الإفتراء والكذب - كسائر القبائح والفواحش - من فعل الله عند أهل السنّة - تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً - فأيّ مانعٍ من إلزام أهل السنّة بفعل الله؟

وأيضاً: فما أكثر محاولة ( الدهلوي ) إلزام أهل الحق بالمفتريات والأكاذيب، فيا ليته ما يقوله هنا في تلك المواضع، وارتدع عن ذلك

على أنَّ بعض الكرّاميّة وبعض المتصوّفة من أهل السنّة يبيحون وضع الأحاديث على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لغرض الترهيب والترغيب بزعمهم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: « والحامل للواضع على الوضع، إمّا عدم الدين كالزنادقة، أو غلبة الجهل كبعض المتعبّدين، أو فرط العصبيّة كبعض المقلّدين، أو اتّباع هوى بعض الرؤساء، أو الإغراب لقصد الإشتهار. وكلّ ذلك حرام بإجماع من يعتدّ به، إلّا أنّ بعض الكرامية وبعض المتصوّفة نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من قائله، نشأ عن جهل، لأنّ الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية، واتّفقوا على أنّ تعمّد الكذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر »(١) .

____________________

(١). نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: ٤٤٥ بشرح القاري.

٢٦٣

وقال السّيوطي: « والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد، وضعوه حسبةً، أي إحتساباً للأجر عند الله، في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقةً بهم وركوناً إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصّلاح »(١) .

نموذج من أكاذيب ( الدّهلوي )

وأمّا أكاذيب ( الدهلوي )، فذكر جميعها أو أكثرها ولو إجمالاً يفضي إلى التطويل، ويوجب الخروج عن البحث، ويمكنك الوقوف على جملة منها في غضون مجلّدات كتابنا، ونكتفي هنا بنقل كلامٍ له في الباب الحادي عشر من ( التحفة )، يشتمل على عدّة أكاذيب، قال ( الدهلوي ):

« ثم لـمّا تأمّلنا وجدنا أنّ رؤساء أهل السنّة قد أخذوا علومهم - فقهاً واُصولاً وسلوكاً، بل وتفسيراً وحديثاً - من أهل البيت، واشتهروا بتتلمذهم عليهم، وقد كان أهل البيت يلاطفونهم وينبسطون إليهم دائماً، بل لقد بشّروهم، وهذا المعنى كلّه مذكور في كتب الإماميّة، وقد اعترف أكابر علمائهم لـمّا رأوا عدم إمكان إخفائه بثبوته وصحّته.

واعترف ابن المطهّر الحلّي في نهج الحق ومنهج الكرامة، بأنّ أبا حنيفة ومالكاً قد أخذا من الصادق، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي وأيضاً، فقد تتلمذ أبو حنيفة على الباقر وزيد الشهيد.

والشيعة يعتقدون في عصر غيبة الإمام بوجوب إطاعة مجتهديهم، فكيف لا يكون مذهب المجتهد الذي حضر على الأئمّة وفاز بإجازة الإجتهاد والإفتاء منهم أولى بالإتباع؟.

____________________

(١). تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ١ / ٢٣٨.

٢٦٤

لقد أجاز الباقر وزيد الشهيد والصادق أبا حنيفة في الفتوى، باعتراف الشيخ الحلّي، فهو جامع لشرائط الإجتهاد بنصٍ من الإمام، فمن ردّ عليه فقد ردَّ على إمامه المعصوم، وهو كفر، خصوصاً في زمن الغيبة، فمذهب هذا المجتهد أولى بالأخذ والإتباع من مذهب ابن بابويه وابن عقيل وابن المعلّم.

فإن لم تكن أخبار أهل السنّة في هذا الباب مقبولة عندهم، فلا محيص لهم عن قبول أخبارهم: روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبداللهعليه‌السلام ، فلمـّا نظر إليه الصادق قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيِّرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، ذلك من الله العون والتوفيق، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق.

وروى الإماميّة بأجمعهم أنّه لـمّا دخل أبو حنيفة على خليفة وقته أبي جعفر المنصور العباسي، وكان عنده عيسى بن موسى، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم، فقال المنصور: يا نعمان ممّن أخذت العلوم؟ قال: عن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبدالله بن عباس عن ابن عباس. فقال المنصور: لقد استوثقت من نفسك يا فتى.

وفي كتب الإماميّة أيضاً: إنّ ابا حنيفة كان جالساً في المسجد الحرام، وحوله زحام كثير من كلّ الآفاق، قد اجتمعوا يسألونه من كلّ جانب فيجيبهم، وكانت المسائل في كمّه فيخرجها فيناولها، فوقف عليه الإمام أبو عبدالله، ففطن به أبو حنيفة فقام. ثم قال: يا ابن رسول الله، لو شعرت بك أوّلاً ما وقفت، لا أراني الله جالساً وأنت قائم. فقال له أبو عبدالله: إجلس أبا حنيفة وأجب الناس، فعلى هذا أدركت آبائي.

٢٦٥

وهذان الخبران موجودان في شرح التجريد لابن المطهّر الحلّي، في مسألة تفضيل حضرة الأمير.

فإنْ وسوس شيطان الشيعة فقالوا: إذا كان أبو حنيفة وأمثاله من مجتهدي أهل السنّة تلامذة حضرات الأئمّة، فلماذا أفتوا على خلافهم في مسائل كثيرة؟ فأقول: إنّ جواب هذا مذكور في مجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري، فإنّه قال: كان ابن عباس تلميذ حضرة الأمير، وكان قد بلغ مرتبة الاجتهاد، وكان يجتهد في محضر من حضرة الأمير، ويخالفه في بعض المسائل، فلا يعترض عليه حضرة الأمير في ذلك ».

أقول:

إنّ هذا الكلام الّذي ذكره ( الدهلوي ) حسبةً، يشتمل على أكاذيب غريبة وإفتراءات عجيبة:

فأوّلها: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من اعتراف أكابرهم بملاطفة أهل البيت لأئمّة أهل السنّة، في الفقه والأصول والعقائد والسلوك والتفسير والحديث، لا سيّما دعوى كون ذلك على الدوام، وثبوته عند الإماميّة بطرق صحيحة.

والثاني: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من انبساط الأئمّةعليهم‌السلام في حقّ أئمّة أهل السنّة، لا سيّما دعوى كونه على الدوام، وثبوت ذلك عند أكابر الإماميّة وتصحيحهم له.

والثالث: ما نسبه إلى كتب الإماميّة من أن الأئمّةعليهم‌السلام بشّروا أئمّة أهل السنّة، وأنّ أكابر علماء الإماميّة يعترفون بذلك وبصحّته.

ولا ريب في أنّ دعوى صحّة وثبوت ملاطفات الأئمّةعليهم‌السلام ،

٢٦٦

وانبساطهم لأئمّة أهل السنّة، وذلك على الدوام والإستمرار، وأيضاً، دعوى بشارتهم لهم في كتب الإماميّة كلّ ذلك كذب وافتراء.

والرابع: ما نسبه إلى العلّامة الحلّي في ( نهج الحق ) من الإعتراف بإجازة الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام وزيد الشهيد أبا حنيفة بالإفتاء. والغريب أنّه ينسب هذا إلى العلّامة كذباً، ومع ذلك يقصد إثبات كذب العلّامة في نقل حديث التشبيه، أعاذنا الله من الوقاحة والضلالة.

والخامس: دعوى أنّ ما حكاه أبو المحاسن حسن بن علي بإسناده عن أبي البحتري من روايات الإماميّة فإنّها كذب محض والأصل في هذه الاُكذوبة هو أبو المؤيّد الخوارزمي صاحب ( جامع مسانيد أبي حنيفة )، رواها بطريق أخطب خوارزم، وقد أخذ الكابلي الرواية من ( جامع المسانيد )، لكنّه حذف السند حتّى أبي المحاسن، وأسقط السند من أبي المحاسن إلى أبي البختري، وإليك نصّ ما جاء في ( جامع مسانيد أبي حنيفة ) حيث قال:

« وأخبرني سيّد الوعّاظ إسماعيل بن محمّد الحجي بخوارزم إجازة قال: أخبرني الصّدر العلّامة صدر الأئمّة أبو المؤيّد الموفق بن أحمد المكي قال: أخبرني الإمام أبو المحاسن الحسن بن علي في كتابه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الزاهد الصفار، ثنا أبو علي الحسن بن علي الصفار، أنا أبو نصر محمّد ابن مسلم، أنا أبو عبدالله محمّد بن عمر، أنا الأستاد أبو محمّد عبدالله بن محمّد ابن يعقوب الحارثي البخاري، بإسناده إلى أبي البحتري قال:

دخل أبو حنيفة على جعفر الصادقرضي‌الله‌عنه ، فلمـّا نظر إليه جعفر قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيّرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، فلك من الله العون

٢٦٧

والتوفيق، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق »(١) .

وهذه عبارة الكابلي في ( الصواقع ):

« روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري قال: دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمّد الصادق، قال: كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي بعد ما اندرست، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف، وغياثاً لكلّ مهموم، بك يسلك المتحيّرون إذا وقفوا وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا، فلك من الله العون والتوفيق حتّى يسلك الربانيون بك الطريق ».

والسادس: نسبة ما حكاه من مدح عيسى بن موسى لأبي حنيفة، والكلام الذي جرى بينه وبين المنصور، إلى جميع الإماميّة وقد ذكر هذه الرواية النووي في ( تهذيب الأسماء واللغات ) باختلافٍ يسير.

على أنّه لا علاقة لهذه الرواية بمطلوبه، وهو كون أبي حنيفة مقبولاً لدى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، إذ لا يثبت منها مدح من أحدٍ منهم لأبي حنيفة.

والسّابع: نسبة الرواية المتضمّنة لأمر الإمام الصادقعليه‌السلام أبا حنيفة بأنْ يجلس ويجيب الناس، إلى كتب الإماميّة، فإنّها كذب محض، والكابلي ذكر هذه الرواية - ورواية دخول أبي حنيفة على المنصور المتقدمة - فلم يجرأ على نسبتها إلى الإماميّة.

والثامن: نسبة كلتا الروايتين إلى شرح التجريد للعلّامة الحلّي.

والتاسع: قوله: هما مذكوران في شرح التجريد للعلّامة الحلّي في مسألة تفضيل أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وهذا من أعاجيب الأكاذيب، كيف ينسب روايتين إلى كتابٍ، ويعيّن

____________________

(١). جامع مسانيد أبي حنيفة ١ / ١٩.

٢٦٨

موضعهما منه، وهذه نسخ كتاب شرح التجريد للعلاّمة منتشرة في كلّ مكان، فليلاحظ مبحث التفضيل منه بكلّ إمعانٍ وتدبّر

والعاشر: ما نسبه إلى كتاب ( مجالس المؤمنين ) من اجتهاد ابن عباس في محضر أمير المؤمنين، وإذن الإمام له في ذلك، وأنّه ربّما كان يخالف الإمام كذب وافتراء

ولمخاطبنا ( الدهلوي ) في خصوص حديث ( التشبيه ) أكاذيب:

١ - زعم فساد مبادي الإستدلال بحديث التشبيه ومقدّماته، من الرأس إلى القدم.

٢ - نفي كون هذا الحديث من روايات أهل السنّة.

٣ - إنّه لا أثر لهذا الحديث في كتب البيهقي.

٤ - إنّ القاعدة المقرّرة لدى أهل السنّة هي عدم جواز الإحتجاج بحديثٍ لم يخرجه أحد من أئمّة الحديث، في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، كالبخاري ومسلم، وسائر أصحاب الصحاح، أو لم ينص مخرجه أو غيره من المحدّثين الثقات على صحّته بالخصوص.

٥ - إنّ الديلمي والخطيب وابن عساكر جمعوا الأحاديث بطريق البياض، لكي ينظروا فيها، لكنّهم لم يوفّقوا لهذا الأمر المهم، لقلّة الفرص وقصر الأعمار.

٦ - إنّهم - يعني الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم - صرّحوا بالغرض المذكور في مقدّمات جوامعهم.

٧ - إنّ هذا الحديث ليس من الأحاديث المروية في كتابٍ من كتب أهل السنّة ولو بطريقٍ ضعيف.

٨ - إنّ هذا الحديث تشبيه محض

٢٦٩

٩ - إنّ استفادة التساوي بين المشبّه والمشبّه به، من غاية السفاهة.

١٠ - إنّ الأفضليّة لا تستلزم الزعامة الكبرى.

١١ - إنّه دون نفي مساواة الخلفاء الثلاثة للأنبياء في الصفات المذكورة أو مثلها، خرط القتاد.

١٢ - إنّه لو تفحّص في كتب أهل السنّة، لعُثر على أحاديث كثيرة دالّة على التشبيه بالأنبياء في حقّ الشيخين، بحيث لم يثبت ذلك في حقّ أحدٍ من معاصريهم.

١٣ - إنّ الإمامة الباقية في أولاد الوصيّ، التي كان كلٌّ منهم خلفاً للآخر فيها، هي القطبية والإرشاد

١٤ - إنّه لم يرو عن الأئمّة الأطهار إلزام كافّة الخلائق بأمر الإمامة.

هذا، وقد عرفت أنّ هذا الحديث ( حديث التشبيه ) موجود في كتب أهل السنّة، وفي كتب البيهقي، وأنّ جماعة كبيرة من مشاهير أئمّتهم رووه وأثبتوه، وأنّ ممّن اعترف به والد ( الدهلوي ).

فظهر كذب ( الدهلوي ) في كلّ موردٍ من هذه الموارد، بل ظهر تجاسره على تكذيب هذه الكثرة من علماء طائفته، لا سيما والده.

قوله:

مع أنّ القاعدة المقرّرة عند أهل السنّة: أنّ كلّ حديث رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ غير ملتزم فيه بالصحّة

أقول:

كأنّ ( الدّهلوي ) تنبّه من نومته وغفلته!! إنّه بعد أنْ نفى كون الحديث من

٢٧٠

روايات البيهقي وغيره من أهل السنّة، عاد فذكر هذه القاعدة، لئلّا يفتضح وينكشف جهله أو تجاهله لكنّ ذكر هذه القاعدة المزعومة هنا، يوجب الطّعن في هذا الجم الغفير من أعلام المحدثين، الذين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم أو أثبتوه أو أرسلوه إرسال المسلَّمات

والأصل في دعوى وجود هذه القاعدة هو الكابلي، لكنّ ( الدهلوي ) زاد في طنبور الكابلي نغمةً، فنسب هذه القاعدة إلى أهل السنّة، وجعلها قاعدةً مقرّرة بينهم وهذا نصّ عبارة الكابلي:

« السادس - ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في خلّته، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

فإنّه أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم، والأنبياء أفضل من غيرهم، فكان علي أفضل من غيرهم.

وهو باطل، لأنّه ليس من أحاديث أهل السنّة، وقد أورده ابن المطهّر الحلّي في كتبه، وعزى روايته تارة إلى البيهقي واُخرى إلى البغوي، ولم يوجد في كتبهما، والحلّي لا يصدق أثره. ولأنّ الخبر الذي رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ لم يلتزم صحّة جميع ما أورده فيه، ولم يصرّح بصحته هو أو غيره من المحدّثين، لا يحتجّ به ».

الحديث الصحيح حجّة وإن لم يخرَّج في صحيح

وكلام ( الدهلوي ) هذا باطل بوجوه:

الأول: لا ريب في وجود الأحاديث قبل البخاري ومسلم وسائر أرباب الكتب الموسومة بالصّحاح، وقد كانت دائرةً بين العلماء، يستندون إليها

٢٧١

ويحتجّون بها، ولم يكن الإحتجاج بها موقوفاً على تنصيص أحدٍ على الصحّة، بل كلّ حديثٍ جمع شروط الإعتبار والحجية، فهو حجة. فدعوى « إنّ كلّ خبرٍ لم يكن في كتابٍ التزم فيه بالصحة أو لم يصرَّح بصحّته لا يحتج به »، لا وجه لها من الصحّة، ويبطلها عمل العلماء السابقين من الفقهاء والمحدثين.

الثاني: مقتضى هذه القاعدة سقوط كلّ حديثٍ جامع لشرائط الحجيّة لم يخرَّج في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، ولم ينص على صحّته أحد من المحدّثين، عن درجة الاعتبار، وعدم صلوحه للاحتجاج والاستناد. وهذا باطل، لأنّ الملاك صحّة الحديث بحسب القواعد والموازين المقرّرة، فكلّ حديث وثّق رجاله وجمع شرائط الصحّة جاز الإحتجاج به، وإن لم يروه أحد ممّن التزم بالصحّة، وإن لم يصرّح بصحّته أحد من المحدّثين.

الثالث: مقتضى هذا الكلام عدم قابليّة الحديث « الحسن » للإحتجاج به، وإن صرَّح بحسنه أئمّة الحديث. والحال أنّ « الحسن » يحتج به.

الحديث الحسن يحتج به

الرابع: إنّ الحديث الجامع لشروط « الحسن » يحتجّ به، وإن لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بحسنه وقد نصّ على هذا أكابر المحقّقين من أهل السنّة، بل عن الخطابي أنّ مدار أكثر الحديث على الحديث الحسن: فهذه القاعدة المزعومة من الكابلي و ( الدهلوي ) توجب ضياع أكثر أحاديث أهل السنّة، فهماً كمن بنى قصرا وهدم مصراً.

وإليك بعض الكلمات الصّريحة في حجيّة الحديث « الحسن »:

قال الزين العراقي:

« والحسن المعروف مخرجاً وقد

اشتهرت رجاله بذاك حد

٢٧٢

حمدٌ وقال الترمذي ما سلم

من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذبٍ ولم يكن فرداً ورد

قلت وقد حسّن بعض ما انفرد

وقيل ما ضعف قريب محتمل

فيه وما بكلّ ذا حدّ حصل

إختلف أقوال أئمّة الحديث في حدّ الحديث الحسن، فقال أبو سليمان الخطّابي - وهو حمد المذكور في أوّل البيت الثاني - الحسن ما عرف مخرّجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الّذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء ».

قال:

« والفقهاء كلّهم تستعمله

والعلماء الجلّ منهم تقبله

وهو بأقسام الصحيح ملحق

حجيّةً وإن يكن لا يلحق

البيت الأول مأخوذ من كلام الخطابي، وقد تقدم نقله عنه، إلّا أنّه قال: عامة الفقهاء. وعامّة الشيء مطلقاً بأزاء معظم الشيء وبأزاء جميعه، والظاهر أن الخطابي أراد الكلّ، ولو أراد الأكثر لما فرّق بين العلماء والفقهاء. وقوله: حجية. نصب على التمييز، أي الحسن ملحق بأقسام الصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه في الرتبة »(١) .

وقال ابن حجر العسقلاني: « وخبر الآحاد بنقل عدل تامّ الضبط، متّصل السند، غير معلّل ولا شاذ، هو الصحيح لذاته. وهذا أوّل تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع، لأنّه إمّا أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا، الأول: الصحيح لذاته، والثاني: إن وجد فيه ما يجبر ذلك القصور، ككثرة الطرق، فهو الصحيح أيضاً. لكنْ لا لذاته، وحيث لا جبر، فهو الحسن لذاته، وإنْ قامت

____________________

(١). شرح ألفية الحديث للعراقي وراجع أيضاً: فتح المغيث في شرح الألفية سخاوي: ١ / ٧١.

٢٧٣

قرينة ترجّح جانب قبول ما يتوقف فيه، فهو الحسن أيضاً، لكنْ لا لذاته »(١) .

وقال ابن حجر أيضاً بعد شرح تعريف الصحيح: « فإنْ خف الضبط، أي قل، يقال خفّ القوم خفوفاً قلّوا، والمراد مع بقيّة الشروط المتقدمة في حدّ الصحيح، فهو الحسن لذاته، لا لشيء خارج، وهو الذي يكون حسنه بسبب الإعتضاد نحو الحديث المستور إذا تعدّدت طرقه، وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف. وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض »(٢) .

وقال محمّد بن محمّد بن علي الفارسي - في ( جواهر الاصول ) -: « الحسن حجّة كالصّحيح وإن كان دونه، ولهذا أدرجه بعض أهل الحديث فيه ولم يفرده ».

وقال جلال الدين السيوطي بعد أن ذكر الحديث الحسن وتعريفه: « قال البدر ابن جماعة: وأيضاً فيه دور، لأنّه عرّفه بصلاحيّته للعمل به، وذلك يتوقّف على معرفة كونه حسناً.

قلت: ليس قوله: ويعمل به من تمام الحدّ، بل زائد عليه لإفادة أن يجب العمل به كالصحيح، ويدلّ على ذلك أنّه فصله من الحدّ حيث قال: وما فيه ضعف قريب محتمل فهو الحديث الحسن، ويصلح البناء عليه والعمل به »(٣) .

وقال السيوطي أيضاً: « ثمّ الحسن كالصحيح في الإحتجاج به وإنْ كان دونه في القوّة، ولهذا أدرجه طائفة في نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة، مع قولهم بأنّه دون الصحيح المبيَّن أوّلاً. ولا بدع في الإحتجاج

____________________

(١). نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: ٢٤٣ بشرح القاري.

(٢). المصدر: ٢٩١.

(٣). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٢.

٢٧٤

بحديثٍ له طريقان لو انفرد كلّ منهما لم يكن حجةً، كما في المرسل إذا ورد من وجهٍ آخر مسنداً لوافقه مرسل آخر بشرطه كما سيجيء. قال ابن الصلاح وقال في الإقتراح: ما قيل من أنّ الحسن يحتج به، فيه إشكال، لأنّ ثمَّ أوصافاً يجب معها قبول الرواية إذا وجدت، فإن كان هذا المسمّى بالحسن ممّا وجد فيه أقلّ الدرجات التي يجب معها القبول، فهو صحيح، وإن لم يوجد لم يجز الإحتجاج به وإنْ سمّي حسناً. أللّهمّ إلّا أن يردّ هذا إلى أمر اصطلاحي، بأنْ يقال: إن هذه الصفات لها مراتب ودرجات، فأعلاها وأوسطها يسمّى صحيحاً، وأدناها يسمّى حسناً، وحينئذٍ يرجع الأمر في ذلك إلى الإصطلاح ويكون الكلّ صحيحاً في الحقيقة »(١) .

وقال السيوطي بعد ذكر الحديث الصحيح: « فإنْ خفّ الضبط - أي قل - مع وجود بقيّة الشروط، فحسن، وهو يشارك الصحيح في الإحتجاج به، وإن كان دونه و تفاوته، فأعلاه ما قيل بصحّته، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، ومحمّد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر »(٢) .

وفي هذه الكلمات غنىً وكفاية.

الخامس: إنّ الحديث الضعيف إذا تعدّدت طرقه، إرتقى إلى درجة الإحتجاج به، كما بيّناه في مجلّد ( حديث الولاية ). فراجع. فلا وجه لنفي جواز الإحتجاج به في هذه الحالة.

ثمّ لا يخفى أنّ الكابلي و ( الدهلوي ) - اللذين اخترعا هذه القاعدة - قد غفلا أو تغافلا عن قاعدتهما هذه في موارد كثيرة، فاحتجّا بأخبار غير مروية فيما التزم فيه بالصحّة من الكتب، وبأخبار لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث

____________________

(١). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٨.

(٢). إتمام الدراية لقراء النقاية: ٥٥ ط هامش مفتاح العلوم.

٢٧٥

بصحّتها، فاحتجّا بهكذا أخبارٍ - بالرغم من القاعدة التي زعم ( الدهلوي ) تقرّرها لدى أهل السنّة - لأجل مقابلة الشيعة الإماميّة بها!! وهل هذا إلّا تناقض وتهافت!!

والأشنع من ذلك: إحتجاجهما بأخبار نصّ أئمّتهم في الحديث والرجال على وضعها واختلاقها أمّا إذا كان البحث في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا يأخذان بهذه القاعدة المرفوضة التي ذكراها هنا، فيكذّبان - مثلاً - حديث الولاية، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم هذه الأحاديث التي صرّح أئمّة الحديث بصحّتها، فجاز الإحتجاج بها ووجب قبولها - بحسب القاعدة المذكورة -.

فظهر بطلان هذه القاعدة المصنوعة، من كلمات الكابلي و ( الدهلوي ) طرداً وعكساً، وذلك من العجب العجاب المحيِّر للألباب.

رأي الدهلوي في كتب الدّيلمي والخطيب وابن عساكر

قوله:

وذلك لأنّ جماعة من المحدّثين من أهل السنّة في الطبقات المتأخّرة، كالديلمي والخطيب وابن عساكر، لمـّا رأوا

أقول:

هذا التّعليل العليل من زيادات ( الدهلوي ) على الكابلي، وهو مردود بوجوه:

الأوّل: إنّه لا علاقة له بالدّعوى أصلاً، لأنّ الدعوى هي: إن كلّ حديثٍ ليس في كتابٍ التزم فيه بالصحّة، ولم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بصحّته، لا

٢٧٦

يحتجّ به. وأيّ مناسبة بين هذه الدّعوى وبين ما ذكره من أنّ هؤلاء المحدّثين المتأخرين جمعوا في مجاميعهم الحديثيّة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة والمقلوبة الأسانيد والمتون ...؟

فلا يستلزم ثبوت الثاني ثبوت الأول، ولا انتفاؤه يستلزم إنتفائه فإنْ كان ما ذكره بالنسبة إلى كتب هؤلاء المحدّثين حقّاً، لم يستلزم ذلك حصر الإحتجاج بالأحاديث المخرجة في الكتب الملتزم فيها بالصحّة، أو الأحاديث المنصوص على صحّتها بالخصوص، وإن لم يكن ما ذكره في حقّها حقّاً، لم يلزم عدم الحصر المذكور وهذا بيّن جدّاً.

الثاني: ظاهر هذا الدليل اعتبار كتب الطبقة المتقدّمة على من ذكرهم، وأنّ أحاديثهم يحتج بها. وقد عرفت

رواية عبدالرزاق (٢١١)

وأحمد بن حنبل (٢٤١)

وأبي حاتم (٢٧٧)

وابن شاهين (٣٨٥)

وابن بطّة (٣٨٧)

والحاكم (٤٠٥)

وابن مردويه (٤١٠)

وأبي نعيم (٤٣٠)

والبيهقي (٤٥٨)

لحديث التشبيه.

وهؤلاء كلّهم متقدّمون على الديلمي والخطيب وابن عساكر، لأنّ تاريخ وفاة آخرهم - وهو البيهقي - سنة (٤٥٨). وتاريخ وفاة الديلمي سنة (٥٠٩) وابن عساكر سنة (٥٧١).

٢٧٧

فيكون حديث التشبيه بهذا البيان، قابلاً للإحتجاج والإستدلال.

وإذا كان هذا حال كتب الديلمي والخطيب وابن عساكر في رأي ( الدهلوي )، فكيف يستند إلى بعض أخبار الديلمي - بتقليد من الكابلي - عند الجواب على المطعن العاشر من مطاعن عثمان، ممّا هو مكذوب قطعاً؟! ويستند إلى بعض خرافات الدّيلمي في فضل عثمان، لا سيّما مع تنصيص بعض أكابرهم على كونه موضوعاً؟!

وإذا كان ما ذكره هو حال كتب ابن عساكر، فلماذا يستند إلى حديثٍ موضوع، يرويه ابن عساكر في وجوب حبّ أبي بكر وشكره؟ ويحتجّ بالحديث الموضوع: « حبّ أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما نفاق » عن ابن عساكر، في جواب عن آية المودّة( قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) !!

الثالث: ظاهر هذا الكلام، أنّ الأحاديث الحسان صالحة للإحتجاج كالأحاديث الصّحاح، ولو لم تكن قابلةً لذلك، لم يكن وجه لعناية المتقدّمين بضبط الأحاديث الحسان وجمعها كالصّحاح لكنّه أفاد سابقاً بعدم حجيّة الأحاديث الحسان وهذا تهافت صريح.

الرّابع: ظاهر قوله: « لميّزوا الموضوعات من الحسان لغيرها » أنّ أحاديث المتأخّرين هي بين موضوعاتٍ وبين حسانٍ لغيرها، مع العلم بأنّ الأحاديث الضعيفة - التي يشتمل عليها كتب المتأخرين - أعمّ من الحسان لغيرها والضعاف غير الحسان لغيرها التي لم تصل حدّ الوضع، فما وجه ترك القسم الثالث، وهو الأحاديث الضعيفة غير الحسان لغيرها وغير الموضوعات؟!

الخامس: إنّ رواية الأحاديث الموضوعة حرام بالإجماع، فإثبات رواية الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم للموضوعات مع علمهم بذلك،

٢٧٨

هو في الحقيقة تفسيق لهؤلاء الأساطين.

السادس: قال السمعاني في ( ذيل تاريخ بغداد ):

« والخطيب في درجة القدماء من الحفّاظ والأئمّة الكبار كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن أبي خيثمة، وطبقتهم، وكان علّامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجةً ونضارة»(١) .

وهذا الكلام يبطل ما ذكره ( الدهلوي ) من جعل الخطيب من المحدّثين المتأخّرين المخلّطين، فلا تغفل.

قوله:

إلّا أنّه لقلّة الفرصة عندهم وقصر أعمارهم، لم يتمكّنوا من ذلك

أقول:

نعم، لقد صرف ( الدهلوي ) عمره الطويل في طلب الشهرة وتحصيل الجاه، وتخديع العوام، فلم تبق له فرصة لأنْ يلقي نظرةً ثانيةً على كتابه المنتحل من خرافات الكابلي، فيميّز بها الموضوعات الصريحة والمكذوبات الفضيحة، من الكلمات المليحة والإفادات الصحيحة

لكنّ المتأخرين عنه - خصوصاً تلميذه الرشيد الدّهلوي - حاولوا الإحتراز عن الخطّ الذي مشى عليه ( الدهلوي )، كيلا يتورّطوا كما تورّط، ولا يقعوا في الهوة السحيقة التي وقع فيها، إلّا أنّ لكلٍّ منهم توهّمات غريبة وأكذوبات ظاهرة، كما لا يخفى على من نظر في الأجوبة والردود المكتوبة على مؤلَّفاتهم.

____________________

(١). أنظر: الوافي بالوفيات ٧ / ١٩٤.

٢٧٩

وبعد، فإنّ كلمات أعلام القوم في وصف الديلمي والخطيب وابن عساكر وكتبهم الحديثية، لتكشف عن بطلان ما ذكره ( الدهلوي )، من ذلك قول الحافظ الذهبي في ترجمة الخطيب:

« قد كان رئيس الرؤساء تقدّم إلى الخطباء والوعّاظ أنْ لا يرووا حديثاً حتّى يعرضوه عليه، فما صحّحه رووه وما ردّه لم يذكروه »(١) .

وقد أورد ( الدهلوي ) أيضاً هذا المطلب بترجمة الخطيب من كتابه ( بستان المحدثين ).

فهل يعقل أنْ يكون للخطيب فرصة النظر في الأحاديث التي يعرضها عليه الخطباء والوعّاظ وغيرهم من علماء عصره ومحدّثي وقته، حتّى لا يرووا للناس الأحاديث الموضوعة والأشياء الباطلة، ثمّ يترك مؤلّفاته مشتملةً على الموضوعات والمكذوبات، من غير إفراز لها عن الأحاديث الصحيحة والمعتبرة، فيكون مصداقاً لقوله عزّوجلّ:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) ؟!

رأي الدهلوي في كتب ابن الجوزي والسّخاوي والسّيوطي

قوله:

ثمّ جاء من بعدهم، فميّز الموضوعات عن غيرها، كما فعل ابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ) والسخاوي الّذي جمع الحسان لغيرها في كتابه ( المقاصد الحسنة ) وكذلك السيوطي

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٨٠، تذكرة الحفاظ ٣ / ١١٤١.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510