تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 437455 / تحميل: 6103
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الظنّ انتهاؤها إلى حدّ المساواة ، ومنه إلى الزيادة ؛ لكثرة النفقة. وهذه الصورة عندهم أولى بالمنع(١) .

وإذا حجرنا في صورة المساواة ، فهل لمن وجد عين ماله عند المفلس الرجوعُ؟ فيه وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لإطلاق الحديث(٢) .

والثاني : لا ؛ لتمكّنه من استيفاء الثمن بتمامه(٣) .

وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله وأثمانها في حساب ديونه؟ فيه - عندهم - وجهان(٤) .

وقال بعضهم : إنّ الوجهين مبنيّان على الوجهين في جواز الرجوع في الصورة السابقة إن لم نثبت الرجوع ، أُدخلت(٥) رجاءَ الوفاء. وإن أثبتناه فلا(٦) .

وهذا كلّه ساقط عندنا ، وقد عرفت مذهبنا فيه ، وأنّ الحجر إنّما يثبت مع القصور ، لا مع المساواة.

مسألة ٢٦٧ : يشترط في الحجر التماسُ الغرماء من الحاكم ذلك‌ ، وليس للحاكم أن يتولّى ذلك من غير طلبهم ؛ لأنّه حقٌّ لهم ، وهو لمصلحة الغرماء والمفلس وهُمْ ناظرون لأنفسهم لا يحكم الحاكم عليهم.

نعم ، لو كانت الديون لمن للحاكم عليه ولايةٌ ، كان له الحجر ؛ لأنّه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥ - ٣٦٦.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (٤)

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٩ - ٤٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٥) أي الأعيان في الأموال والأثمان في الديون.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨.

٢١

الغريم في الحقيقة ، فله التماسُ ذلك من نفسه وفِعْلُه ، كما لو كانت الديون لمجانين أو أطفال أو لمحجورٍ عليهم بالسفه وكان وليُّهم الحاكمَ ، تولّاه القاضي لمصلحتهم من غير التماسٍ.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْن للغُيّاب ، لم يحجر عليه الحاكم‌ ؛ لأنّ الحاكم لا يستوفي ما للغُيّاب في الذمم ، بل يحفظ أعيان أموالهم.

ب - لو التمس بعضُ الغرماء الحجرَ دون بعضٍ ، فإن كانت ديون الملتمسين قدراً يجوز الحجر بها ، حُجر عليه لذلك القدر‌ ، وأُجيبوا إلى ذلك ، ثمّ لا يختصّ الحجر بهم ، بل يعمّ أثره الجميع.

وإن لم تكن ديونهم زائدةً على أمواله ، فالأقرب : جواز الحجر ، ولا ينتظر التماس الباقين ؛ لئلّا يضيع على الملتمس ماله [ بتكاسل ](١) غيره.

ويُحتمل العدمُ ، وهو أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٢) .

ج - لو لم يلتمس أحد من الغرماء الحجرَ فالتمسه المفلس ، فالأقرب عندي : جواز الحجر عليه‌ ؛ لأنّ في الحجر مصلحةً للمفلس ، كما فيه مصلحة للغرماء ، وكما أجبنا الغرماء إلى تحصيل ملتمسهم حفظاً لحقوقهم ، كذا يجب أن يجاب المفلس تحصيلاً لحقّه ، وهو حفظ أموال الغرماء ليسلم من المطالبة والإثم ، وإذا تحقّق ثبوت غرضٍ للمفلس صحيحٍ في الحجر عليه ، أُجيب إليه ، وقد روي أنّ حَجْر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على معاذ كان بالتماسٍ‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بتكامل ». وذاك تصحيف.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦

٢٢

من معاذ دون طلب الغرماء(١) ، وهو أحد وجهي الشافعي. والثاني : لا يُجاب المفلس إليه ؛ لأنّ الحُرّيّة والرشد ينافيان الحجر ، وإنّما يصار إلى الحجر إذا حقّت طلبة الغرماء(٢) .

‌____________________

(١) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤.

٢٣

الفصل الثالث : في أحكام الحجر‌

إذا حجر الحاكم على المديون ، ثبتت أحكام أربعة : منعه من التصرّف في ماله ، وبيع ماله للقسمة على الديون ، واختصاص صاحب العين بها ، وحبسه إلى ثبوت إعساره. فهنا مباحث أربعة :

البحث الأوّل : في منعه من التصرّف.

مسألة ٢٦٨ : يستحبّ للحاكم الإعلامُ بالحجر ، والنداء على المفلس ، ويُشهد الحاكم عليه بأنّه قد حجر عليه والإعلان بذلك بحيث لا يستضرّ معاملوه. فإذا حجر عليه ، منعه من التصرّف المبتدأ في المال الموجود عند الحجر بعوضٍ أو غيره ، سواء ساوى العوض أو قصر.

والتصرّف قسمان : إمّا أن يصادف المال أو لا ، والأوّل إمّا إنشاء أو إقرار.

والأوّل ضربان : ما يصادف المال إمّا بتحصيل ما ليس بحاصل ، كالاصطياد والاحتطاب وقبول الوصيّة ، وهذا لا يُمنع منه إجماعاً ؛ لأنّ الغرض من الحجر منعه ممّا يتضرّر به الغرماء. وإمّا تفويت ما هو حاصل ، فإن تعلّق بما بعد الموت - كالتدبير والوصيّة - صحّ ، فإن حصَّل زيادةً على الديون ، نفذت الوصيّة ، وإلّا بطلت. وإن كان غير متعلّقٍ بالموت ، فإمّا أن يكون مورده عينَ مالٍ أو ما في الذمّة. وإمّا أن لا يكون تصرّفه مصادفاً للمال ، فلا بُدَّ من البحث عن هذه الأقسام بعون الله تعالى.

٢٤

مسألة ٢٦٩ : كلّ تصرّفٍ للمفلس غير مصادفٍ للمال فإنّه لا يُمنع منه ؛ لكماليّته ، وعدم المانع من التصرّف فيما تصرّف فيه حيث لم يكُ مالاً ، وذلك كالنكاح ، ولا يُمنع منه. وأمّا مؤونة النكاح فسيأتي إن شاء الله تعالى.

وكذا الطلاق لا يُمنع منه ؛ لأنّ تصرّفه هذا لم يصادف مالاً ، بل هو إسقاط ما يجب عليه من المال ، فكان أولى بالجواز ، وإذا صحّ منه الطلاق مجّاناً ، كان صحّة الخلع - الذي هو في الحقيقة طلاقٌ بعوضٍ - أولى بالجواز.

وكذا يصحّ منه استيفاء القصاص ؛ لأنّه ليس تصرّفاً في المال ، ولا يجب عليه قبول الدية وإن بذل الجاني ؛ لأنّ القصاص شُرّع للتشفّي ودفع الفساد ، والدية إنّما تثبت صلحاً ، وليس واجباً عليه تحصيل المال بإسقاط حقّه.

وكذا له العفو عن القصاص مجّاناً بغير عوضٍ. أمّا لو وجبت له الدية بالأصالة - كما في جناية الخطأ - فإنّه ليس له إسقاطها ؛ لأنّه بمنزلة الإبراء من الدَّيْن.

وكذا له استلحاق النسب ؛ إذ ليس ذلك تصرّفاً في المال وإن وجبت المؤونة ضمناً. وكذا له نفيه باللعان.

وكذا لا يُمنع من تحصيل المال بغير عوضٍ ، كالاحتطاب وشبهه ، وقد سلف(١) .

مسألة ٢٧٠ : لو صادف تصرّفه عينَ مالٍ بالإتلاف إمّا بمعاوضةٍ كالبيع والإجارة ، أو بغير معاوضةٍ كالهبة والعتق والكتابة‌ ، أو بالمنع من الانتفاع‌

____________________

(١) في ص ٢٣ ، ضمن المسألة ٢٦٨.

٢٥

كالرهن ، قال الشيخرحمه‌الله : يبطل تصرّفه(١) . وهو أصحّ قولي الشافعي - وبه قال مالك والمزني - لأنّه محجور عليه بحكم الحاكم ، فوجب أن لا يصحّ تصرّفه ، كما لو كان سفيهاً. ولأنّ أمواله قد تعلّق بها حقّ الغرماء ، فأشبهت تعلّق [ حقّ ](٢) المرتهن. ولأنّ هذه التصرّفات غير نافذة في الحال إجماعاً ، فلا تكون نافذةً فيما بَعْدُ ؛ لعدم الموجب.

والقول الثاني للشافعي : إنّ هذه التصرّفات لا تقع باطلةً في نفسها ، بل تكون موقوفةً ، فإن فضل ما تصرّف به عن الدَّيْن إمّا لارتفاع سعر أو لإبراء بعض المستحقّين ، نفذ ، وإلّا بانَ أنّه كان لغواً ؛ لأنّه محجور عليه بحقّ الغرماء ، فلا يقع تصرّفه باطلاً في أصله ، كالمريض(٣) .

وهذا القول لا بأس به عندي ، والأوّل أقوى.

والفرق بينه وبين المريض ظاهر ؛ فإنّ المريض غير محجور عليه ، ولهذا لو صرف المال في ملاذّه ومأكله ومشروبه ، لم يُمنع منه ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ٢٧١ : إن قلنا ببطلان التصرّفات ، فلا بحث‌. وإن قلنا : إنّها تقع موقوفةً ، فإن فضل ما تصرّف فيه وانفكّ الحجر ، ففي نفوذه للشافعي قولان(٤) .

وإذا لم يف بديونه ، نقضنا الأخفّ فالأخفّ من التصرّفات ، ونبدأ‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٦٩ ، المسألة ١١.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٠ - ٤٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، المغني ٤ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩.

٢٦

بالهبة فننقضها ؛ لأنّها تمليك من غير بدلٍ ، فإن لم يف ، نقضنا البيع ، بخلاف الوقف والعتق ؛ لأنّ البيع يلحقه الفسخ ، فإن لم يف ، رددنا العتق والوقف.

قال بعضهم : هذه التصرّفات على الترتيب ، فالعتق أولى بالنفوذ ؛ لقبوله الوقف وتعلّقه بالإقرار ، وتليه الكتابة ؛ لما فيها من المعاوضة ، ثمّ البيع والهبة ؛ لأنّهما لا يقبلان التعليق(١) .

واختلفوا في محلّ القولين :

فقال بعضهم : إنّهما مقصوران على ما إذا اقتصر الحاكم على الحجر ، ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه ، فإن فعل ذلك ، لم ينفذ تصرّفه قولاً واحداً.

وقال آخَرون : إنّهما مطّردان في الحالين ، وهو الأشهر عندهم.

فعلى هذا هل تجب الزكاة عليه؟ فعلى الأوّل لا تجب ، وعلى الثاني تجب ما دام ملكه باقياً(٢) .

وقول الشافعي : « لا زكاة عليه » محمول عند هؤلاء على ما إذا باع المفلس ماله من الغرماء(٣) .

مسألة ٢٧٢ : إذا قلنا بأنّه تنفذ تصرّفاته بعد الحجر ، وجب تأخير ما تصرّف فيه‌ ، وقضي الدَّيْن من غيره فربما يفضل ، فإن لم يفضل ، نقضنا من تصرّفاته الأضعف فالأضعف على ما تقدّم ، ويؤخّر العتق كما قلناه.

فإن لم يوجد راغب في أموال المفلس إلّا في العبد المعتق ، والتمس الغرماء من الحاكم بيعه ليقبضوا حقّهم معجّلاً ، فالأقرب : إجابتهم إلى ذلك ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٧.

٢٧

وإلّا لزم أحد الضررين : إمّا تضرّر الغرماء بالصبر ، وليس واجباً ، وإمّا تضرّر المفلس والغرماء معاً لو بِيعت أمواله بالرخص.

وقال بعض الشافعيّة : يحتمل أن ينقض من تصرّفاته الأخير فالأخير ، كما في تبرّعات المريض إذا زادت على الثلث(١) .

وهو حسن لا بأس به عندي.

فلو وقعت دفعةً ، احتُمل القرعة.

ولو أجاز الغرماء بعض التصرّفات ، نفذ قطعاً ، سواء كان سابقاً أو لاحقاً ، وسواء كان عتقاً أو غيره.

هذا إذا باع من غير الغرماء ، ولو باع منهم ، فسيأتي.

مسألة ٢٧٣ : تصرّفاته الواردة على ما في الذمّة صحيحة‌ ، كما لو اشترى بثمن في الذمّة ، أو باع طعاماً سلفاً ، صحّ ، ويثبت في ذمّته ، وهو أظهر مذهبي الشافعي.

والثاني : أنّه لا يصحّ شراؤه ، كالسفيه(٢) .

والأوّل أقوى ؛ لوجود المقتضي ، وهو صدور العقد من أهله في محلّه ، سالماً عن معارضة منع حقّ الغرماء ؛ لأنّه لم يرد إلّا على أعيان أمواله. وكذا لو اقترض.

وليس للبائع فسخ البيع ، سواء كان عالماً بالحجر أو جاهلاً به ؛ لأنّ التفريط من جهته حيث أهمل الاحتياط في السؤال عن حالة مُعامله.

إذا ثبت هذا ، فإنّ هذه المتجدّدات وشبهها من الاحتطاب وغيره تدخل تحت الحجر.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ - ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨.

٢٨

مسألة ٢٧٤ : لو باعه عبداً بثمن في ذمّته بشرط الإعتاق‌ ، فإن أبطلنا جميع التصرّفات - سواء وردت على عين المال أو في الذمّة - فالأقوى : بطلان البيع ؛ لأنّه تصرّف في المال وإن كان في الذمّة.

وإن قلنا بالصحّة فيما يكون مورده الذمّة على ما اخترناه ، صحّ البيع والعتق معاً ، ويكون العتق موقوفاً ، فإن قصر المال ، احتمل صرفه في الدَّيْن ، لا رجوعه إلى البائع.

والأقوى عندي صحّة عتقه في الحال.

ولو وهب بشرط الثواب ثمّ أفلس ، لم يكن له إسقاط الثواب.

مسألة ٢٧٥ : لو أقرّ بدَيْنٍ ، فإمّا أن يكون قد أقرّ بدَيْنٍ لزمه‌ وأضافه إلى ما قبل الحجر إمّا من معاملةٍ أو قرضٍ أو إتلاف ، أو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر.

فالأوّل يلزمه ما أقرّ به ؛ لأنّ الحجر ثبت عليه لحقّ غيره ، فلا يمنع صحّة إقراره.

وهل يشارك الـمُقرّ له الغرماء بمجرّد إضافة إقراره إلى سببٍ سابق؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّه عاقل ، فينفذ إقراره ؛ لعموم قولهعليه‌السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز »(١) وعموم الخبر(٢) في قسمة ماله بين غرمائه ، وهو أصحّ قولي الشافعي ، وبه قال ابن المنذر(٣) .

قال الشافعي : وبه أقول(٤) .

____________________

(١) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٧ ، الهامش (٤)

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨ ، المغني ٤ : ٥٣١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠١.

(٤) الأُم ٣ : ٢١٠ ، مختصر المزني : ١٠٤.

٢٩

وقال : لو كان المفلس قصّاراً أو صائغاً وأفلس وحُجر عليه وعنده ثياب الناس وحُليّهم ، أيقال : لا يُقبل قوله في ردّ أموال الناس؟(١) .

ولأنّ هذا دَيْنٌ ثابت عليه مضاف - بقوله - إلى ما قبل الحجر ، فوجب أن يشارك صاحبه الغرماء ، كما لو ثبت بالبيّنة ، وبالقياس على ما إذا أقرّ المريض بدَيْنٍ يزاحم الـمُقرّ له غرماء الصحّة.

والقول الثاني للشافعي : إنّه لا يُقبل في حقّ الغرماء - وبه قال مالك وأحمد ومحمّد بن الحسن - لأنّ حقّ الغرماء تعلّق بما لَه من المال ، وفي القبول إضرار بهم بمزاحمته إيّاهم. ولأنّه متّهم في هذا الإقرار ، فلا يسقط به حقّ الغرماء المتعلّق بماله ، كما لو أقرّ بما رهنه ، فحينئذٍ لا يشارك الـمُقرّ له الغرماء ، بل يأخذ ما فضل عنهم(٢) .

وتُمنع التهمة ؛ لأنّ ضرر الإقرار في حقّه أكثر منه في حقّ الغرماء ، فلا تهمة فيه ، فإنّ الظاهر من حال الإنسان أنّه لا يُقرّ بدَيْنٍ عليه وليس عليه دَيْنٌ.

مسألة ٢٧٦ : لو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر وأسنده إلى ما بعد الحجر ، فإن كان قد لزمه باختيار صاحبه - كالبيع والقرض وغيرهما من المعاملات المتجدّدة بعد الحجر - فإنّه يكون في ذمّته ، ولا يشارك الـمُقرّ له الغرماء ؛ لأنّ صاحب المال رضي بذلك إن علم أنّه مفلس ، وإن لم يعلم ، فقد فرّط في ذلك.

وإن كان قد لزمه عن غير رضا صاحبه - كما لو أتلف عليه مالاً أو جنى عليه جناية - فالأقرب : أنّه يُقبل في حقّ الغرماء ، كما لو أسند الدَّيْن‌

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢١٠.

(٢) نفس المصادر في الهامش (٣) من ص ٢٨.

٣٠

إلى [ سببٍ ](١) سابقٍ على الحجر ؛ لأنّ حقّه ثبت بغير اختياره ، وهو أصحّ طريقي الشافعيّة(٢) .

لا يقال : لِمَ لا قُدّم حقّه على حقّ الغرماء كما قُدّم حقّ المجنيّ عليه على حقّ المرتهن؟

لأنّا نقول : الفرق أنّ الجناية لا محلّ لها سوى الرهن ، والدَّيْن متعلّق بالرهن والذمّة ، فقد اختصّ بالعين ، وفي مسألتنا الدَّيْنان متعلّقان بالذمّة فاستويا. ولأنّ الجناية قد حصلت من الرهن الذي علّقه به صاحبه ، فقُدّمت الجناية كما تُقدَّم على حقّ صاحبه ، وهنا الجناية كانت من المفلس دون المال ، فافترقا.

ونظيره في حقّ المفلس أن يجني عبده ، فيقدّم على حقّ الغرماء.

والطريق الثاني : أنّه كما لو قال : عن معاملةٍ(٣) .

ولو أقرّ بدَيْن ولم يُسنده إلى ما قبل الحجر ولا إلى ما بعده ، حُمل على الثاني ، وجُعل بمنزلة ما لو أسنده إلى ما بعد الحجر ؛ لأصالة التأخّر ، وعدم التعلّق.

مسألة ٢٧٧ : لو أقرّ المفلس بعين من الأعيان - التي في يده - لرجلٍ‌ وقال : غصبته منه أو استعرته أو أخذته سَوْماً أو وديعةً ، فالأقرب : النفوذ ، ومضيّ الإقرار في حق الغرماء ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ سابقٍ.

وللشافعي قولان ، كالقولين في الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر(٤) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣١

لكنّ الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر أثره أن يزاحم الـمُقرّ له الغرماء ، وهنا يُسلّم المـُقرّ به على القول بالقبول ، وعلى القول بعدمه إن فضل ، سلّم العين إلى المـُقرّ له ، وإلّا غرم قيمتها بعد اليسار.

فإن كذّبه المـُقرّ له ، بطل إقراره ، وقُسّمت العين بين الغرماء.

وكذا لو أقرّ بدَيْنٍ فكذّبه المـُقرّ له ، لم يُسمع إقراره. ومع عدم قبول إقراره بالعين إن فضلت ، دُفعت العين إلى المـُقرّ له قطعاً ، بخلاف البيع ؛ فإنّ فيه إشكالاً.

وكذا الإشكال لو ادّعى أجنبيّ شراء عين في يده من(١) قبل الحجر فصدّقه.

واعلم أنّ الفرق بين الإنشاءات حيث رددناها في الحال قطعاً وقلنا : الأصحّ أنّه لا يُحكم بنفوذها عند انفكاك الحجر أيضاً ، وبين الأقارير حيث قبلناها في حقّ المفلس جزماً وفي حقّ الغرماء على الأصحّ : أنّ مقصود الحجر منعُه من التصرّف ، فيناسبه إلغاء ما ينشئه ، والإقرار إخبار عمّا مضى ، والحجر لا يسلب العبارة عنه.

مسألة ٢٧٨ : لو أقرّ بما يوجب القصاص عليه أو الحدّ ، قُبِل‌ ، وأُجري عليه حكم إقراره ، سواء أدّى إلى التلف أو لا ؛ لانتفاء التهمة. ولأنّه عاقل أقرّ بما يؤثّر في حقّه حكماً ، ولا مانع له؛ إذ المانع التصرّف في الماليّة وليس ثابتاً ، فثبت موجَب إقراره.

ولو كان الإقرار بسرقةٍ توجب القطع ، قُبِل في القطع ، وأمّا في المسروق فكما لو أقرّ بمالٍ ، والقبول هنا أولى ؛ لبُعْد الإقرار عن التهمة.

____________________

(١) في « ث » : « منه » بدل « من ».

٣٢

ولو أقرّ بما يوجب القصاص فعفا المستحقّ على مالٍ ، فهو كإقرارٍ بدَيْن جناية.

وقال بعض الشافعيّة : يُقطع هنا بالقبول ؛ لانتفاء التهمة(١) .

مسألة ٢٧٩ : لو ادّعى رجل على المفلس مالاً لزمه قبل الحجر فأنكر المفلس‌ ، فإن أقام المدّعي بيّنةً ، ثبت حقّه ، وساوى الغرماء. وإن لم تكن له بيّنة ، كان على المفلس اليمين ، فإن حلف ، برأ ، وسقطت الدعوى. وإن نكل ، رُدّت اليمين على المدّعي ، فإذا حلف ، ثبت الدَّيْن.

وهل يشارك المدّعي الغرماء؟ إن قلنا : إنّ النكول وردّ اليمين كالبيّنة ، زاحَم المدّعي الغرماء ، كما لو ثبت دَيْنه بالبيّنة. وإن قلنا : إنّه كالإقرار ، فكالقولين.

مسألة ٢٨٠ : لا خلاف في أنّ الحجر يتعلّق بالمال الموجود للمفلس حالة الحجر‌ ، وأمّا المتجدّد بعده باصطيادٍ أو اتّهاب أو قبول وصيّة ، الأقرب : أنّ الحجر يتعدّى إليه أيضاً ؛ لأنّ مقصود الحجر إيصال حقوق المستحقّين إليهم ، وهذا لا يختصّ بالموجود عند الحجر ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ الحجر لا يتعدّى إلى المتجدّد ؛ لأنّ الحجر على المفلس لقصر يده عن التصرّف فيما عنده ، فلا يتعدّى إلى غيره ، كما أنّ حجر الراهن على نفسه في العين المرهونة لا يتعدّى إلى غيرها(٢) .

إذا ثبت هذا ، فإذا اشترى شيئاً وقلنا بصحّة شرائه ، ففيه مثل هذا‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

(٢) الوسيط ٤ : ١٠ ، الوجيز ١ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣٣

الخلاف.

وهل للبائع الخيارُ والتعلّق بعين متاعه؟ الأقرب : العدم - وهو أحد وجوه الشافعي(١) - لأنّه إن(٢) كان عالماً ، كان بمنزلة مَن اشترى معيباً يعلم بعيبه. وإن كان جاهلاً ، فقد قصّر بترك البحث مع سهولة الوقوف عليه ؛ فإنّ الحاكم يشهر أمر المحجور عليه بالنداء والإشهاد والإعلان.

والثاني : أنّ البائع إن كان عالماً ، فلا خيار له. وإن كان جاهلاً ، فله الخيار ، والرجوع إلى عين ماله.

والثالث : أنّ للبائع الخيارَ في الرجوع إلى عين ماله وإن كان عالماً ؛ لتعذّر الوصول إلى الثمن(٣) .

وكذا المـُقرض.

ويقرب من هذا ما إذا باع من عبدٍ بغير إذن مولاه وقلنا بصحّة البيع ، فإنّ الثمن يتعلّق بذمّته يتبع به بعد العتق ، فإن كان عالماً ، ففي ثبوت الخيار وجهان(٤) .

وإن كان جاهلاً ، يثبت.

مسألة ٢٨١ : إذا لم يثبت للبائع الرجوعُ في المبيع على المفلس المحجور ، فهل يزاحم الغرماء بالثمن؟ الأقرب : المنع‌ ؛ لأنّه دَيْنٌ حادث بعد الحجر برضا صاحبه ، وكلّ ما هذا شأنه من الديون لا يزاحم مستحقّها الغرماء ، بل إن فضل منهم شي‌ء ، أخذه ، وإلّا صبر إلى أن يجد مالاً ، وهو أصحّ قولي الشافعي.

____________________

(١ و ٣) الوسيط ٤ : ١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢ - ١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وإن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الوجهان أيضاً للشافعيّة ، راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣.

٣٤

والثاني : أنّه يزاحم ؛ لأنّه وإن كان دَيْناً جديداً فإنّه في مقابلة ملكٍ جديد ، فلمّا زاد المال جاز أن يزيد الدَّيْن ، بخلاف الصداق الذي [ لزمه ](١) بنكاح بعد الفلس ودَيْن ضمنه بعد الفلس ، فإنّه لا مقابل له هناك(٢) .

مسألة ٢٨٢ : أقسام ديون المفلس ، الثابتة بعد الحجر ثلاثة :

أ : ما لزم باختيار مستحقّه‌ ، فإن كان في مقابلته شي‌ء - كثمن المبيع - فقد ذكرنا الخلاف في أنّه هل له المطالبة به أم لا؟ وإن لم يكن في مقابلته شي‌ء ، فلا خلاف في أنّ مستحقّه لا يُضارِب الغرماء ، بل يصبر إلى فكاك الحجر.

ب : ما لزم بغير اختيار المستحقّ‌ ، كأرش الجناية وغرامة الإتلاف ، وفيه وجهان :

[ أحدهما : ] أنّه لا يضارب به ؛ لتعلّق حقوق الأوّلين بأعيان أمواله ، فصار كما لو جنى الراهن ولا مال له غير المرهون ، لا يزاحم المجنيّ عليه المرتهن.

والثاني : أنّه يضارب ؛ لأنّه لم يوجد منه تقصير ، فيبعد تكليفه الانتظار(٣) .

ج : ما يتجدّد بسبب مؤونات المال‌ ، كأُجرة الوزّان والناقد والكيّال والحمّال والمنادي والدلّال وأُجرة البيت الذي يُحفظ فيه المتاع ، فهذه المـُؤن كلّها مقدَّمة على ديون الغرماء ؛ لأنّها لمصلحة الحجر وإيصال أرباب‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣.

(٣) الوجهان أيضاً للشافعيّة ، راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣٥

الحقوق حقوقهم ، ولو لم تُقدَّم لم يرغب أحد في تلك الأعمال ، وحصل الضرر بالمفلس والغرماء.

وهذا كلّه إذا لم يوجد متطوّعٌ بذلك ، ولا في بيت المال سعة له ، فإن وُجد متطوّعٌ أو كان في بيت المال سعة ، لم يُصرف مال المفلس إليها.

مسألة ٢٨٣ : شرطنا في التصرّف - الذي يُمنع المفلس منه - كونه مبتدأً‌ ، كالابتداء بالبيع والصدقة والوقف والكتابة والهبة ، أمّا ما ليس بمبتدأ فإنّه لا يُمنع منه ، فلو اشترى قبل الحجر شيئاً ثمّ اطّلع على عيبه بعد الحجر ، فله الردّ بالعيب إن كانت الغبطة في الردّ ؛ لأنّه ليس ابتداء تصرّفٍ، بل هو من أحكام البيع السابق ولواحقه ، والحجر لا يمنع من الأحكام السابقة عليه ، وليس ذلك كما لو باع مع الغبطة ؛ لأنّ ذلك تصرّف مبتدأ ، والفسخ ليس تصرّفاً مبتدأً ، فافترقا.

فإن منع من الردّ بالعيب السابق تصرّفٌ أو عيبٌ حادث ، لزم الأرش ، ولم يملك المفلس إسقاطه ؛ لأنّه تصرّف في مالٍ وجب له بالإتلاف إلى غير عوضٍ ، وهو ممنوع من الإتلاف بالعوض فبغيره أولى.

ولو كانت الغبطة في ترك الردّ بأن كان قيمته مع العيب أكثر من ثمن المثل ، لم يكن له الردُّ ؛ لما فيه من تفويت المال بغير عوضٍ.

وكذا المريض لو اشترى حال صحّته شيئاً ثمّ وجد عيبه في مرضه فأمسكه والغبطة في الردّ ، كان المقدار الذي ينقصه العيب معتبراً من الثلث.

وكذا وليّ الطفل إذا وجد ما اشتراه للطفل معيباً وكانت الغبطة في إبقائه ، لم يكن له الردّ.

ويثبت في هذه المواضع كلّها الأرش ؛ لأنّا لا نشترط في وجوب الأرش امتناع الردّ.

٣٦

وقال الشافعي : لا يثبت الأرش في هذه الصور ؛ بناءً على أصله من أنّ الأرش لا يثبت مع إمكان الردّ ، والردّ هنا ممكن غير ممتنعٍ في نفسه ، بل إنّما امتنع لأنّ المصلحة اقتضت الامتناع منه(١) .

مسألة ٢٨٤ : لو تبايعا بخيار ففلّسا أو أحدهما ، لم يبطل خيار المفلس‌ ، وكان له إجازة البيع وردّه ، سواء رضي الغرماء أو سخطوا.

ولا يُعتبر هنا الغبطة ؛ لأنّ ذلك ليس تصرّفاً مبتدأً ، وإنّما مُنع المفلس من التصرّفات المستحدثة.

وفارق الفسخ والإجازة بالخيار الردَّ بالعيب ؛ لأنّ العقد في زمن الخيار متزلزل لا ثبات له ، فلا يتعلّق حقّ الغرماء بالمال ، ويضعف تعلّقه به ، بخلاف ما إذا خرج معيباً ، وإذا ضعف التعلّق جاز أن لا يُعتبر شرط الغبطة ، وهو أظهر وجوه الشافعي.

والثاني : أنّ تجويز الفسخ والإجازة متقيّد بالغبطة ، كالردّ بالعيب.

وهو مخرَّج من عقد المريض في صحّته بشرط الخيار ثمّ يفسخ أو يُجيز حالة المرض على خلاف الغبطة ، فإنّه تصرّف من الثلث.

والفرق : أنّ حجر المريض أقوى ، فإنّ إمضاء الورثة تصرّفَ المريض قبل الموت لا يفيد شيئاً ، وإمضاء الغرماء وإذنهم فيما يفعله المفلس يفيدهم الصحّة والاعتبار.

والثالث : أنّ كلّ واحدٍ من الفسخ والإمضاء إن وقع على وفق الغبطة ، فهو صحيح ، وإلّا فالنظر إلى الخلاف في الملك في زمن الخيار وإلى أنّ الذي أفلس أيّهما هو؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٠.

٣٧

فإن كان المشتري وقلنا : الملك للبائع ، فللمشتري الإجازة والفسخ. أمّا الإجازة : فلأنّها جلب ملك. وأمّا الفسخ : فلا يمنع دخول شي‌ء في ملكه ، إلّا أنّه أزال ملكاً. وإن قلنا : الملك للمشتري ، فله الإجازة ؛ لأنّه يستديم الشي‌ء في ملكه ، فإن فسخ ، لم يجز ؛ لما فيه من إزالة الملك.

وإن أفلس البائع ، فإن قلنا : الملك له ، فله الفسخ ؛ لأنّه يستديم الملك ، وليس له الإجازة ؛ لأنّه يُزيله. وإن قلنا : الملك للمشتري ، فللبائع الفسخ والإجازة ، كما قلنا في طرف المشتري(١) .

وما ذكرناه أولى.

ولو قيل في الردّ بالعيب : إنّه لا يتقيّد بالغبطة كما في الخيار ، كان وجهاً.

مسألة ٢٨٥ : لو جُني على المفلس أو على مملوكه أو على مورّثه جناية ، فإن كانت خطأً ، وجب المال‌ ، وتعلّق به حقوق الغرماء ، ولا يصحّ منه العفو عنه. وإن كانت عمداً توجب القصاص ، تخيّر بين القصاص والعفو.

وليس للغرماء مطالبته بالعفو على مالٍ ؛ لأنّه اكتساب للمال وتملّك ، وهو غير لازمٍ ، كما لا يلزمه الكسب وقبول الهبة.

فإن استوفى القصاص ، فلا كلام. وإن عفا على مالٍ ورضي الجاني ، ثبت المال ، وتعلّق به حقوق الغرماء.

وإن عفا مطلقاً ، سقط حقّه من القصاص ، ولم يثبت له مالٌ - وهو أحد قولي الشافعي(٢) - لأنّ موجَب جناية العمد القصاصُ خاصّةً.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤ - ١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٠.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٤.

٣٨

وله قولٌ آخَر : إنّ موجَبها أحد الأمرين : إمّا القصاص ، أو الدية(١) .

فإن عفا عن القصاص ، تثبت له الدية ، وتعلّق بها حقوق الغرماء.

وإن عفا على غير مالٍ ، فإن قلنا : الواجب القصاصُ خاصّةً ، لم يثبت له شي‌ء. وإن قلنا : الواجب أحد الأمرين ، ثبتت الدية ، ولم يصح إسقاطه لها ؛ لحقّ الغرماء ؛ لأنّ عفوه عن القصاص يوجب الدية ، فلا يصحّ منه إسقاطها.

مسألة ٢٨٦ : للمفلس المحجور عليه الدعوى‌ ؛ لأنّه ليس تصرّفاً في مالٍ ، بل استيجاب مالٍ ، ولا نعلم فيه خلافاً.

فإذا ادّعى على غيره بمالٍ ، فإن اعترف المدّعى عليه ، أو قامت له البيّنة ، ثبت له المال ، وتعلّق به حقّ الغرماء. وإن أنكر ولا بيّنة فإن حلف ، برئ ، وسقطت الدعوى.

ولو أقام المفلس شاهداً واحداً بدعواه ، فإن حلف مع شاهده ، جاز ، واستحقّ المال ، وتعلّق به حقّ الغرماء. وإن امتنع ، لم نجبره على اليمين ؛ لأنّا لا نعلم صدق الشاهد ، ولو علمناه ، يثبت الحقّ بشهادته من غير يمين ، فلا نجبره على الحلف على ما لا نعلم صدقه. ولأنّه تكسّب ، وليس واجباً عليه.

ولم يحلف الغرماء مع الشاهد عندنا - وهو الجديد للشافعي ، وبه قال أحمد(٢) - لأنّه لا يجوز للإنسان أن يحلف ليُثبت بيمينه ملكاً لغيره حتى يتعلّق حقّه به ، كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مالٍ لزوجها وإن كان إذا ثبت ، تعلّقت نفقتها به.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٨ - ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٥٢٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥١.

٣٩

وقال في القديم : إنّ الغرماء يحلفون ؛ لأنّ حقوقهم تتعلّق بما يثبت للمفلس كما يحلف الورثة مع شاهدهم بمالٍ(١) لمورّثهم وللوكيل في العقد إذا حالفه مَن العقد معه ، تحالفا وإن ثبت العقد لغيره(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ الورثة يُثبتون بأيمانهم الملكَ لأنفسهم ، والوكيل في العقدِ اليمينُ متعلّقةٌ به ؛ لأنّه هو العاقد ، فيُثبت بيمينه فعلَ نفسه ، ولهذا لا يحلف موكّله على ذلك.

وكذا مَنْ مات وعليه دَيْنٌ فادّعى وارثه دَيْناً له على رجل وأقام عليه شاهداً وحلف معه ، يثبت الحقّ ، وجُعل المال في سائر تركاته. وإن امتنع من اليمين أو لم يكن له شاهد ونكل المدّعى عليه عن اليمين ولم يحلف الوارث اليمينَ المردودة ، فهل يحلف الغرماء؟

أمّا عندنا فلا ؛ لما تقدّم. وأمّا عند الشافعي فقولان له :

الجديد كقولنا ؛ لأنّ حقّه فيما يثبت للميّت ، أمّا إثباته للميّت فليس إليه ، ولهذا لو وصّى لإنسانٍ بشي‌ء فمات قبل القبول ولم يقبله وارثه ، لم يكن للغريم القبولُ.

وقال في القديم : يحلف الغريم ؛ لأنّه ذو حقّ في التركة ، فأشبه الوارث(٣) .

إذا عرفت هذا ، فالقولان أيضاً في اليمين الثابتة بالنكول ، وهو ما إذا‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « على مال » بدل « بمال ».

(٢) نفس المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥ - ١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

مجلس رأس الحسينعليه‌السلام في طريقه إلى الشام

أَسفي على النِسوانِ في ذُلِّ السِبا

إِذْ لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ هنالِكَ يَسمعُ

وَمَضَى الجوادُ إلى الخيامِ مَحَمْحِمَاً

يَنعَى الحسينَ وَدَمعُهُ يَتَدَفّعُ

فَسَمِعْنَ رَنَّتَهُ النِساءُ فقُلنَ قَدْ

وَقَعَ الذي كُنَّا لَهُ نَتَوَقّعُ

فَخَرَجْنَ من فِسطاطِهنَّ صَوارِخاً

جَزَعاً صُراخاً للصُخورِ يُصَدِّعُ

وأَتَيْنَهُ والشِمرُ جَاثٍ فَوقَهُ

بحُسامِهِ للرأسِ منهُ يُقَطِّعُ

فَرَقَى الحسينَ وقُلنَ وَيلَكَ يا عدوَّ

اللهِ ماذا بالـمُطهَّرِ تَصنَعُ

فاحتزَّ رأسَ السبطِ يا لَكِ لوعةً

لم يَبقَ للإسلامِ شَملٌ يُجْمَعُ

٦٢

وَجَرَت خيولُهُمُ على جُثمانِهِ

حتَّى تَحَطَّمَ صَدرُهُ والأضْلُعُ

يا عينُ إبكي للحسينِ وأهلِهِ

بدمٍ إذا ما قلَّ منكِ المَدْمَعُ

إبكي عليه ورأسُهُ في ذابِلٍ

والجسمُ منهُ بالسُيوفِ مُبَضَّعُ

إبكي له ملقىً بلا غُسلٍ ولا

كَفَنٍ ولا نَعشٍ هناكَ يُشَيَّعُ

إبكي لنسوانِ الحسينِ حواسِراً

في البيدِ ما فِيهِنَّ مَنْ يَتَقَنَّعُ

إِبكي لهنَّ يُسَقْنَ بعدَ حياتِهِ

قَسراً وَهُنَّ إذَنْ عُطَاشَا جُوَّعُ(١)

على اوليانها رادت يمرها

يسيره أو بالگلب يسعر جمرها

اشلون الخارجي لختك يمرها

وهي امخدرة حمّاي الحميه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم, إذا رجلٌ يقول: الّلهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر. فسألته عن السبب؟ فقال: كنت أحدَ الأربعين الذين حملوا

____________________

١- القصيدة للشيخ نعمانرحمه‌الله .

٦٣

رأسَ الحسينعليه‌السلام إلى يزيد على طريق الشام. فنزلنا أوّل مرحلة رحلنا من كربلا على دير للنصارى والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل، فإذا بكفٍّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم من حديد سطراً بدم:

أترجو أمّةٌ قَتَلَتْ حُسَيناً

شَفاعةَ جَدِّه يَومَ الحِسابِ

وقَدْ قُتِلَ الحسينُ بحُكمِ جَورٍ

وَخَالَفَ حُكمُهُم حُكمَ الكِتابِ

ثمّ غاب.

قال سبط ابن الجوزيّ: فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل دير فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم ووضعوه على الرمح, وحرسه الحرس على عادته وأسندوا الرمح إلى الدير، فلـمّا كان من نصف الليل رأى الراهبُ نوراً من مكان الرأس إلى عنان السماء، فأشرف على القوم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب ابن زياد. قال: وهذا رأس من؟ قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: نبيّكم؟ قالوا: نعم. قال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد لأسكنَّاه أحداقَنا. ثمّ قالَ: وهل لكم في شيء؟ قالوا: وما هو؟ قال: عندي عشرة آلاف دينار تأخذونها وتعطوني الرأس يكون

٦٤

عندي تمام الليلة وإذا رحلتم تأخذونه. قالوا: وما يضرّنا، فناولوه الرأس وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسّله وطيّبه وأدخله في صومعته، وأقبل يبكي الليل كلّه، فسمع صوتاً ولم ير شخصاً قال: طوبى لك وطوبى لمن عرف حرمته، فرفع الراهبُ رأسه.

المصيبة:

وقال: يا ربِّ بحقّ عيسى تأمر هذا الرأس يتكلّم معي، فتكلّم الرأس وقال: يا راهب أيّ شيء تريد؟ قال: أقسم عليك من أنت؟ قال: أنا ابن محمّد المصطفى، وأنا ابن عليّ المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وأنا المقتول بكربلا، أنا المظلوم، أنا العطشان، فسكت، لـمّا سمع الراهب ذلك، وضع وجهه على وجه الحسين وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فلـمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس.

أقول: شقّ على الراهب أن يفارق رأس الحسينعليه‌السلام , وأصبح مفجوعاً لفراق أبي عبد الله ومعرفة الراهب بالحسينعليه‌السلام عمرها ليلة واحدة فقط، مع ذلك عزّ عليه الفراق.

إذاً ما حال من قضت ستّة وخمسين سنة مع الحسينعليه‌السلام وعينها ما فارقت الحسينعليه‌السلام , ومنذ الطفولة زينبعليها‌السلام

٦٥

والحسينعليه‌السلام من حضن فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى حجر أبيها عليّعليه‌السلام , قضت عمرها إلى جنب الحسينعليه‌السلام ولكن اليوم فارقته على رمضاء كربلا

تگله خويه عمر ما فارگتك بيه

تذكر يوم احنا زغار

من حضن امنا الزهرا

الجوانح حيدر الكرار

عيني إتبحّر بوجهك

وروحي وياك ليل نهار

أيام الكنت وياك

أناغيك وتناغيني

خرجت من كربلاء وهي تقول: أخي لو خيّروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك لاخترت المقام عندك ولو أنّ السباع تأكل لحمي.

ودعتك الله سفرتي صعبة او طويله

يحجاب خدري ناقتي عجفا او هزيله

محّد بقى منكم يخويه يلتجيله

بس العليل او فوق ناقه امقيدينه

أبكي عليكَ بعبرةٍ مسكوبةٍ

ومدامعَ بدمِ الفؤادِ مَشُوبَةْ

وَ لِمَا أَصَابَكَ مِن عَظيمِ مُصيبةٍ

تبكيكَ عَينِي لا لأَجلِ مَثُوبَةْ

لكنَّما عيني لأجلِكَ بَاكِيَة

٦٦

مجلس الدخول إلى الشام ‏

بقيَّةَ آلِ اللهِ سَوِّمْ عِرابَها

فَقَدْ سَلَبَتْ حَربٌ نِزاراً إهابَها

وشيعتُكُم ضَاعَتْ فحيثُ توجَّهتْ

رأتْ نِوَبَ الأرزاءِ سَدَّتْ رِحَابَها

فُنينا فَقُم وانقذ بقيَّةَ شملِنا

فَقَد أنشَبَتْ فِينا أعاديكَ نابَها

أتسطيعُ صبراً أنْ يُقَالَ أُميةٌ

أجَالَتْ على جِسمِ الحسينِ عرابَها

وإِنَّ برغمِ الغُلْبِ أبناءَ غالِبٍ

كريمتُه أضحى الدماءُ خِضَابَها

تُخاطبُ شَجْواً حامليهِ نساؤهُ

وقد شَبَّ في أحشائِها ما أَذَابَها

أيا حامِلاً في الرمحِ رأساً بحَملِهِ

لَوَتْ ذلّةً اَبنا لؤيٍّ رقابَها

أتعلمُ ماذا قَد حَمَلتَ على القَنَا

وأيَّ بني وحيٍ تُقِلُّ كتابَها

٦٧

أتنسى وهل يُنسى مُصابُ حرائرٍ

أصابَك ما يوم الطفوفِ أصَابَها

أتنسى وهل يُنسى وقوفُ نسائكم

لدى ابن زيادٍ إذ أماطَ حِجَابَها

وعمّتُكَ الحوراءُ أنّى توجَّهَتْ

رَأَتْ نَائِباتِ الدهرِ تقرَعُ بابَها

لها اللهُ مِن مسلوبةٍ ثوبَ عزِّها

كستها سياطُ المارقينَ ثيابَه(١)

گوم يبن العسكري ما تنهضم

تنسى وقعة كربلا أوعينك غفت

تنسى وقعة كربلا اوجدك ذبيح

ظل ثلث تيام علرمضا طريح

يمتى تنهض سيدي أوبيها تصيح

يالثار احسين وأصحابه الغدت

يا لثار احسين جدك ولصحاب

علثرى أمست أو مسلوبه الثياب

ليت حاضر سيدي اتشوف الرقاب

دون عزها احسين كلها اتقطعت

التمهيد للمصيبة ( گوريز):

عن جابر الجعفيّ، أنّه قال: لـمّا جرّد أبو جعفرعليه‌السلام أباه عليّ بن الحسينعليه‌السلام ثيابه سمعته ينشج(٢) فأمهلته إلى أن فرغ، فقلت له: يا بن رسول الله ممَّ بكاؤك وأنت تغسل أباك، أكان حزناً عليه؟

____________________

١- القصيدة للسيّد عبد الحسين شكررحمه‌الله , من قصيدة له يخاطب بها الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

٢- نشج الباكي ينشج - كضرب يضرب - نشيجاً:غصّ بالبكاء في حلقه.

٦٨

قال: لا يا جابر وإن عزَّ عليّ فراقه, ولكن يا جابر لـمّا جرّدت أبي ثيابه, رأيت آثار الجامعة(١) في عنقه, وآثار جرح القيد في رجليه.

وهذه الآثار في عنقه ورجليه لـمّا حُملوا إلى الشام أسارى, وقد صادف دخول الصحابيّ سهل بن سعد الساعديّ إليها.

قال المجلسيّ في البحار: عن سهل بن سعد الساعديّ قال: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطّت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار، وقد علّقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول. فقلت في نفسي لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدّثون. فقلت: يا قوم ألَكم بالشام عيد لا نعرفه نحن. قالوا: يا شيخ نراك غريباً؟! فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قالوا: يا سهل ما أعجبك السما لا تمطر دماً، والأرض لا تخسف بأهلها. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُهدى من أرض العراق. فقلت: واعجباه يُهدى رأس الحسين والنّاس يفرحون، قلت: من أيّ باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يُقال له: باب الساعات.

____________________

١- الجامعة مؤنث جامع: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.

٦٩

المصيبة:

قال: فبينما أنا كذلك إذ الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس, نعم أتدري لمن هذا الرأس؟ وجهه قمريّ أزهريّ كأنّه بدر طالع أشبه النّاس بأمير المؤمنينعليه‌السلام وهو رأس قمر العشيرة أبي الفضل. ثمّ نظر سهل أمام المخدّرات فرأى رأساً آخر يشرق النور منه, وله مهابة عظيمة ذو لحية مدوّرة, قد خالطها الشيب والريح تلعب بلحيته الشريفة يميناً وشمالاً, كأنّه وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلـمّا تبيّن سهل وإذا به رأس الحسين بن عليعليه‌السلام ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مَشَينَ أُسًارى خَلفَ رأْسٍ مُعَلَّقٍ

على الرمحِ لا وَعيٌ لهنَّ ولا صَبْرُ

قد اضْطَرَمَتْ أكبادُهُنَّ من الأسَى

وحَلَّ بِهِنَّ الموتُ والرُّعبُ والذُعْرُ

سَبايا وهَلْ تُسْبى بناتُ محمَّدٍ

وهُنّ بتاجِ المَجْدِ أنْجُمُهُ الزُّهْرُ

لـمّا رأى سهل النساء المسبيّات مقيّدات بالحبال (قال سهل): فدنوت من أولاهنّ فقلت: يا جارية من أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.

٧٠

آنه العگب عزّي اودلالي

أوجمعت هلي أوذيك الليالي

ما بين گوم أنذال تالي

يسيره أو زجر صاير الوالي

يا ذلّتي او يا ظيم حالي

فقلت لها: ألك حاجة إليّ، فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّك وسمع حديثه؟ قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا, حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه, ولا ينظروا إلى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك فدفعت إليه ما وعدته.

سَرَتْ وَمِنْ رأسِ الحسينِ أمامَها

ثَغْرٌ يضيءُ لها الدُجى وجَبينُ

بأبي المشيّعِ فوقَ أطرافِ القَنَا

ولَهُ عويلٌ خلفَهُ ورنينُ

تصفّر منهنَّ الوجوهُ فإنْ بكَتْ

تسودُّ منها بالسياطِ متونُ

(..) قال سهل: ورأيت روشناً(١) عالياً فيه خمسة نسوة, ومعهنّ

____________________

١- الرونش: هي أن تخرج أخشاباً إلى الدرب وتبنى عليها، وتجعل لها قوائم من أسفل.

٧١

عجوز محدودبة الظهر فلـمّا رأت رأس الحسينعليه‌السلام وهو على رمح طويل, وشيبته مخضوبة بالدماء قالت: لمن هذا الرأس المتقدّم؟ وما هذه الرؤوس التي خلفه؟ فقالوا لها: هذا رأس الحسينعليه‌السلام وهذه رؤوس أصحابه. ففرحت فرحاً عظيماً وقالت: ناولوني حجراً لأضرب به رأس الحسين, فناولوها حجراً فضربت به وجه الحسينعليه‌السلام , فأدمته وسال الدم على شيبته, فالتفتت إليه أمّ كلثوم فرأت الدم سائلاً على وجهه وشيبته, فلطمت وجهها ونادت: واغوثاه وا مصيبتاه وا محمّداه وا عليّاه واحسيّناه.

يا جميلاً كسا الوجودَ جَمالا

وجهُكَ البدرُ نَيّرٌ يَتلالا

خاطبتْهُ مُذ بَانَ يزهو هِلالا

يا هلالاً لمَاَّ استَتَمَّ كَمَالا

غالَهُ خسفُهُ فأبدى غُروبا

وقيل: أنّ سهل قال للإمامعليه‌السلام : هل من حاجة؟ قال: يا سهل هل عندك ثوب عتيق؟ قلت سيّدي: ما تصنع به (أنتم تهدون إلى النّاس الثياب الثمينة وتسألني ثوباً بالياً)؟ قال: لأضعه تحت الجامعة فإنّها أكلت عنقي. قال سهل فناولته الثوب، فلـمّا

٧٢

رفع الجامعة سالت الدماء من تحتها وسمع الإمام ينشد هذه الأبيات:

أٌقادُ ذليلاً في دمشقَ كأنَّني

من الزنجِ عبدٌ غابَ عنه نَصيرُ

وجدّي رسولُ اللهِ في كلِّ مشهدٍ

وشَيخي أميرُ المؤمنينَ وزيرُ

فيا ليتَ أُمّي لم تَلدْنِي ولم يكنْ

يزيدُ يَراني في البلادِ أسيرُ

ما لي أراكَ ودمعُ عينِكَ جامدٌ

أوَمَا سمعتَ بمحنةِ السجَّادِ

ويصيحُ واذُلّاهُ أينَ عَشِيرَتي

وسَراةُ قومي أينَ أهلُ وِدادي

٧٣

مجلس مصائب السبايا في خربة الشام

آلُ النَبيِّ بنو الوَحيِ وَمَنبعُ الشرفِ

العَليِّ وللعلومِ مَفاتِحُ

الجَدُّ خيرُ المرسلينَ محمَّدُ

الهادي الأمينُ أخوُ الخِتامِ الفاتِحُ

والأُمُّ فاطمةُ البتولِةِ بَضعةُ الهادي

الرسولِ لَهَا الـمُهيّمنُ مانحُ

والوالدُ الطهرُ الوصيُّ المرتضى

عَلَمُ الهدايةِ والمنارُ الواضِحُ

مولىً له النبأُ العظيمُ وحبُّهُ

النَهجُ القويمُ به المتاجِرُ رابِحُ

يا ناصرَ الإسلامِ يا بابَ الهُدى

يا كاسرَ الأصنامِ فهي طَوامِحُ

يا ليتَ عينَكَ والحسينُ بكرَبلا

بينَ الطغاةِ عنِ الحريمِ يُكافِحُ

أفديهِ محزوزَ الوريدِ مرمَّلاً

مُلقىً عليه التُرْبُ سَافٍ سافِحُ

٧٤

والطاهراتُ حواسِرٌ وثَواكِلٌ

بينَ العِدى ونَوادِبٌ ونَوائِحُ

يا فاطمُ الزهراءُ قومي وانظُري

وجهَ الحسينِ لَه الصَعيدُ مُصَافِحُ

أكفانُهُ نَسْجُ الغُبارِ وغُسلُهُ

بدمِ الوريدِ ولمن تَنُحْهُ نوائِحُ

وعلى السِنانِ سِنانُ رافعُ رأسِه

ولجسمِهِ خيلُ العِداةِ رَوامِحُ(١)

حرت يحسين بعيالك ولمها

امصايب شفت ما يبره ولمها

درت بالطف بني هاشم ولمها

تسل اسيوفها أو تنغر عليه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

أمر يزيد اللعين بإنزال السبايا في خربة تصهرهم فيها حرارة الشمس, وقد ذكر أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان يخرج منها ليروّح عن نفسه, فرآه المنهال ابن عمرو يوماً في حالة يُرثى لها فقال له: سيّدي ما الذي أخرجك مع ما أرى بك من الضعف؟ فقال: يا منهال إنّ الخربة التي نحن فيها لا تقينا من الحرّ, حتّى لقد تقشّرت وجوه عمّاتي من حرارة الشمس, يا

____________________

١- القصيدة للشيخ الحافظ البرسيّرحمه‌الله .

٧٥

منهال أنا أخرج سويعة أروّح فيها عن ضعف بدني, فقال المنهال وبينما أنا أكلّمه ويكلّمني, وإذا بامرأة تقوم وتقع تنادي إلى أين يا حمانا؟ إلى أين يا رجانا؟ فسألت عنها فقيل لي: هذه عمّته زينب, فما رجعت إلى الخربة حتى أرجعته معها.

وفي تلك الخربة كانت للحسينعليه‌السلام بنت صغيرة يحبّها وتحبّه كثيراً, تسمّى رقيّة, لها ثلاث سنين, وكانت مع الأسراء في الشام, وهي تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها, وكانوا يقولون لها هو في السفر فرأته ليلة في النوم.

المصيبة:

فلـمّا انتبهت جزعت جزعاً شديداً وقالت: ايتوني بوالدي قرّة عيني, وكلّما أراد أهل البيتعليهم‌السلام إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءاً ولبكائها هاج حزن أهل البيتعليهم‌السلام فأخذوا في البكاء ولطموا الخدود وارتفع الصياح, فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم فقال: ما الخبر؟ قيل له: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلـمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا إليها رأس أبيها وحطّوه بين يديها تتسلّى, فأتوا بالرأس في طَبَق مغطّى بمنديل ووضعوه بين يديها فقالت: ما هذا! إنّي

٧٦

طلبت أبي ولم أطلب الطعام, فقالوا: إنّ هنا أباك فرفعت المنديل ورأت رأساً, فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا: رأس أبيك, فرفعت الرأس وضمّته إلى صدرها, وهي تقول: يا أبتاه مَن ذا الذي خضّبك بدمائك؟! يا أبتاه مَن ذا الذي قطع وريديك؟! يا أبتاه مَن ذا الذي أيتمني على صغر سنّي؟! يا أبتاه مَن لليتيمة حتى تكبر؟! يا أبتاه مَن للنساء الحاسرات؟! يا أبتاه مَن للأرامل المسبيّات؟! يا أبتاه من للعيون الباكيات؟! من بعدك واغربتاه يا أبتاه!!

يا والدي والله هظيمه

أنا صير من زغري يتيمه

والنوح من بعدك لجيمه

أثاري الأبو يا ناس خيمه

يفيّي على ابْناته وحريمه

ليتني توسّدتُ الترابَ ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء!!

ثمّ وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم وبكت حتىَّ غشى عليها, فلـمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا, فارتفعت أصوات أهل البيتعليهم‌السلام بالبكاء وتجدّد الحزن والعزاء.

كَمْ رأتْ في خَرابةِ الشامِ أحزاناً

تَسيخُ الجِبالُ مِن بَلوَاهَا

رَأتِ الذلَّ والهوانَ وقيدَ

الأسرِ فازدادَ حُزنُها وَشَجَاها

٧٧

وجاءت هند زوجة يزيد لتتفرّج على السبايا, ولم تعرف أنهنّ سبايا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه هند كانت قد عاشت في المدينة وتعرف بيت أمير المؤمنينعليه‌السلام .

أقبلت هند ووضع لها كرسيّها، جلست عليه وأخذت تطيل النظر إلى العائلة، بينما هي تنظر وإذا بها أجهشت بالبكاء, ثمّ التفتت إلى زينبعليها‌السلام وما كانت تعرف أنّ هذه زينبعليها‌السلام ، ومن أين تعرفها؟! وما ظنّت أنّ الزمان يضربها هذه الضربة! تقدّمت إليها بعبرة قالت لها: أخيّه إدني منيّ، أقبلت زينب ومعها الأطفال يريدون أن يعرفوا ماذا تريد أن تسأل زوجة يزيد، قالت لها: أخيّه أنا جئت لأتفرّج والآن تغيّر الحال لـمّا رأيتكم، كسرتم خاطري، وقطّعتم قلبي وبكيت لكم رحمة بكم، من أيّ السبايا أنتم؟ قالت لها زينبعليها‌السلام : نحن سبايا من المدينة، قالت: المدائن كثيرة، من أيّ مدينة؟ قالت زينب: من مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لـمّا سمعت هند ذلك قامت على قدميها وضعت يديها على رأسها قالت: السلام عليك يا رسول الله ثمّ التفتت إلى السيّدة زينبعليها‌السلام وقالت لها: يا صالحة لي بهذه المدينة أهل ودار أسألك عنهم، قالت: ومن هم؟ قالت: هي دار سيّدي ومولاي أمير المؤمنين

٧٨

عليه‌السلام ... إلى أن قالت: أسألك عن فخر المخدّرات زينب، أسألك عن سيّدي أبي عبد الله، وأسألك عن مولاي أبي الفضل العبّاس، وأسألك عن رباب وأمّ كلثوم وعن سكينة.. أخذت تسأل عن الجميع..فاختنقت زينب بعبرتها، قالت لها زينبعليها‌السلام : يا هند لقد آذيتينا، يا هند تسألين عن دار عليّ فقد خلّفناها تنعى أهلها.

تسألين عن الحسين رأسه بين يدي يزيد، تسألين عن قمر العشيرة تركناه على شاطي العلقميّ بلا كفّيْن، تسألين عن أمّ كلثوم هذه الجالسة بجانبك، تسألين عن رباب هذه رباب، تسألين عن سكينة تلك سكينة الجالسة ورأسها بين ركبتيها، بعد عن من تسألين؟ تسألين عن زينب؟ آه.. أنا زينب.

أنا زينب لِيحكون عني

عظيم المصايب مرْمرَنِّي

مصايب حسين الدوهنّني

نِزْلن على عيوني وعمنّي

قالت: ماذا صنع الدهر بكم يا زينب؟

بينه، والله خان الدهر يا هند بينه

أخونه انذبح واحنا انسبينه

لـمّا سمعت ذلك هند شقّت جيبها، وضربت رأسها فخرجت

٧٩

صارخة: وا إماماه.. واحسيّناه، صاح النّاس: أجننت يا أميرة؟! قالت: سوّد الله وجوهكم أهل الشام، أتفرحون وهذا رأس الحسين عند يزيد.

ثمّ قامت هند وحسرت رأسها وشقّت الثياب وهتَكت الستر, وخرجت حافية إلى يزيد وهو في مجلس عامّ، وقالت: يا يزيد أنت أمرت برأس الحسينعليه‌السلام يُشال على الرمح عند باب الدار؟ رأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوب على فناء داري؟ فلـمّا رأى زوجته على تلك الحالة وثب إليها فغطّاها وقال: نعم فأعولي يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش فقد عجّل عليه ابن زياد فقتله.

أيّ المحاجر لا تبكي عليك دَمَاً

أبكيت والله حتّى مِحْجَرَ الحَجَرِ

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510