تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179707 / تحميل: 5847
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لأنّ توسيع منهج التعليم العام طيلة المرحلة الثانوية، واحتمال حدوث تبديل في البرامج المهنيّة والعلميّة، سيكون ميسّراً للطلاّب عند الاندماج. ولابد من الاستعانة بالمتخصّصين في التعليم الثانوي، والأخصائيّين في الفروع الدراسية، والأخصائيّين في الثقافة الإسلامية عند انتخاب المواد، وتحديد محتوى البرنامج التعليمي، وتقديم تعليم يسد الحاجات المهنية والعلمية من جهة، والحاجات العامّة من جهة أُخرى.

التعليم الثانوي

يجب أن يخضع مستوى التعليم الثانوي للتبديل والتغيير أكثر من المستويات الأُخرى، فليس هناك أساس منطقي لتعليمنا الثانوي. وتكمن فلسفة التعليم الثانوي في إعداد الطلاّب لدخول الجامعة. وهناك ملاحظات جديرة بالاهتمام في هذا الصدد.

أوّلاً: لا يجد جميع خرّيجي الإعدادية طريقهم إلى الجامعة مباشرة في أيّ قطر من أقطارالعالم.

ثانياً: لا يرى أيّ مجتمع من المجتمعات حاجة في إرسال خرّيجي الإعدادية كافّة إلى الجامعة، سواء من ناحية توسيع التعليم العام، أو من ناحية تربية الطاقة البشريّة. وفي بعض البلدان، مثل: انجلترا يُعد فقط ما يقارب 8% من الخرّيجين أنفسهم لدخول الجامعة.

ثالثاً: في بلادنا، ولا سيّما في السنين الأخيرة، فإنّ أقلّ من عُشر المتقدّمين إلى الجامعات دائماً، كانت تتاح لهم فرصة الدراسة في مراكز التعليم العالي. بكلمة بديلة، لا تستقبل الجامعات أكثر من سبعة أو ثمانية بالمائة من المتقدّمين. وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كثيراً من الطلاب الجامعيين كانوا يواصلون دراساتهم في فروع لا يمارسون فيها اختصاصاتهم بعد التخرّج.

٢١

رابعاً: وتتعلّق هذه الملاحظة بتبديل برنامج التعليم الثانوي، من حيث الشكل والمحتوى.

وهنا يجب أن ننظر: هل إنّ المجتمع يحتاج إلى خدمات، يمكن بواسطتها إعداد الطلاّب في المرحلة الإعداديّة، لتقديم تلك الخدمات. فما استفدناه من استشارة ذوي الاختصاص، هو: إمكانيّة تقديم خدمات من قبل خرّيجي الإعداديّات في المجالات الصحيّة، والفنيّة، والزراعيّة، والتجارية.

فينبغي تحديد مثل هذه الخدمات من خلال دراسة دقيقة، لتشكل أساس البرامج التعليميّة. وفي مثل هذه الحالة، لعلّ أكثر من ستّين بالمائة من خرّيجي الإعداديّة يدخلون ميدان العمل بعد التخرّج مباشرة، ويذهب عدد منهم إلى الجامعة لتأمين الطاقة البشرية التي يحتاجها المجتمع، ويعمل بعضهم في السلك العسكري، وفي إدارات مؤسّسات أُخرى.

وفي العصر الحاضر يمكن إعداد طلاّب السنة الأخيرة في المرحلة الإعداديّة، لدخول ميدان العمل وتقديم الخدمات اللاّزمة، من خلال إحداث تبديلات عاجلة في المنهج التعليمي للسنة الأخيرة من مرحلة الإعداديّة، والإستعانة بالطاقات الموجودة في المراكز الصحيّة، ودوائر الزراعة، والمكاتب الفنيّة، وكذلك الإستفادة من الإمكانيّات المتوفّرة في المؤسّسات الحكومية والخاصة.

التعليم العالي

لابد للتعليم العالي أن يأخذ بنظر الإعتبار أنّ عليه أن يحقِّق هدفين جوهريين هما: تقديم الخدمات، وتوسيع رقعة الفروع العلميّة، عن طريق البحث والتنقيب.

تحدّثنا سابقاً عن أهداف التعليم العالي في مقالة أُعدّت في شهر مايس، سنة 1968م، وُطبعت في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم)، ثمّ طُبعت مرّة أُخرى في رسالة حملت عنوان (رسالة الجامعة والتزام الجامعي). وهذه الأهداف هي:

٢٢

1- رعاية السنن العلميّة وحفظها.

2- إعداد المتخصّصين.

3- التربية العامّة.

4- توسيع التراث الثقافي.

5- تأسيس المراكز التخصصيّة(1) .

6- علاج المسائل الاجتماعية.

7- إعداد المعلّمين.

وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أصبحت الجامعة مُلزمة بتكييف وجودها مع هذه الثورة، أُسوةً ببقيّة الدوائر والمؤسّسات؛ وذلك لتؤدي رسالتها في توطيد أركان النظام الإسلامي، وتحقيق الأهداف المذكورة.

إنّ على الذين تذمّروا من تعطيل الجامعات أن ينظروا، هل أنّ الجامعة أفلحت في أداء رسالتها أم لا؟ هل إنّ التعليم في جامعاتنا كان يجري بشكل أساسٍ وجوهري؟ هل كان الأساتذة المحترمون ملمّين بمبادئ التربية والتعليم؟ هل وُضعت المناهج الدراسيّة وفقاً للأُسس العلميّة لكلّ فرع، وتلبيةً للحاجات الاجتماعية؟ هل كُنّا نراعي السنن العلمية في تدريسنا وتحقيقنا؟ هل كان الهدف من إعداد المختصين هو تأمين الطاقة البشريّة للمجتمع؟ هل كان الأطبّاء، والمهندسون، المتخصّصون في الحقل الزراعي يبادرون إلى علاج مشاكل أغلبيّة الناس؟. يقال إنَّ أربعين بالمائة من أطبّائنا كانوا يقيمون في طهران، فهل إنّ هذا العدد يعمل لصالح ستّة ملايين نسمة يعيشون في طهران، أو أنّه يعمل لصالح شريحة معيّنة؟ ألا يجب على كليّة الطب أن تعد طبيباً يعالج أغلبيّة أبناء هذا الشعب، أعني: أبناء النواحي والأرياف؟ فهل أدّت كليّات الطب لحدّ الآن دورها في هذا المجال؟.

____________________

(1) ورد في المصدر الذي يشير إليه الكاتب (تأسيس المراكز التحقيقية).

٢٣

فما ينتظره المجتمع - إذاً - من الجامعات بعد استقرار النظام الإسلامي يتلخص فيمايلي: ينتظرالمجتمع من الطالب المسلم أن يكون حافزه الأساس من دراسته في الجامعات هو التقرّب إلى الله، وخدمة عباده، بديلاً عن الحوافز الشخصيّة، والماديّة. وهذا لايعني - بالطبع - أن يقدّم الطبيب، أو المهندس، أو القاضي خدماتهم اللاّزمة، وهم يتضوّرون جوعاً. فممّا لا ريب فيه هو أنّ كلّ فريق من أرباب هذه المهن لابد له أن يتمتّع ببعض الامتيازات الماديّة متناسباً مع وضعه، ووضع أرباب المهن الأُخرى في المجتمع الإسلامي.

وينتظر المجتمع من الطالب غير المسلم أن يكون مع النظام الإسلامي بكلّ صدق وإخلاص، وأن يقدِّم خدماته للناس في مجال اختصاصه من خلال شعوره بالالتزام، والمسؤوليّة، أمام المجتمع، وتحلّيه بالمعايير الأخلاقيّة السليمة.

وينتظر المجتمع من الجامعيّين أن يجعلوا من الجامعة مركزاً للتعليم الحقيقي، والبحث والتنقيب المهمَّين. ولابد للأُستاذ أن يكون مُلمّاً بمبادئ التعليم، ويعمل على تصعيد مستواه العلمي ومستويات الآخرين.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للبحث والتحقيق. وليس التحقيق من أجل إعداد مقالة في صفحات معدودة بهدف نيل درجة أُستاذ مساعد، أو أُستاذ؛ إنّما التحقيق من أجل توسيع نطاق الاختصاص، وإضافة معلومات جديدة إلى المعلومات السابقة. وفي هذا المجال وحده يتحقّق الاستقلال العلمي للجامعات. مضافاً إلى أنّ البحث والتحقيق يجب أن يتركزا على المسائل الداخليّة للبلاد. يقول الإمام الخميني (رحمه الله) في إحدى خطاباته: (إنّ معلّمي مدارسنا ليسوا إسلاميّين بشكلٍ عام، إذ لم تكن التربية إلى جانب التعليم في يوم من الأيّام. لذلك لم تخرِّج جامعاتنا إنساناً ملتزماً، ومتحمساً لخدمة بلاده، لا تهمّه مصلحته الشخصية.. فليس عندنا خرّيج جامعيّ يحمل هذه المواصفات).

٢٤

هل إنّ التربية - كمهمّة جوهريّة لجامعاتنا - متحقّقة في الجامعات؟ فمعظم عملنا يتركّز على تصعيد مستوى الطلاّب في مجال الحفظ، ويندر أن يتركّز على تصعيد مستواهم في المجال العلمي. والشيء الذي لا ننظر إليه بعين الاهتمام والأهميّة هو التربية.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للتفكير الحر، وتلاقح الآراء، وتبادل وجهات النظر. بيد أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هي أَنّ التفكير الحر يتناقض مع التعصب، كما لا يتّفق مع السباب والشتم، ومهاجمة الآخرين، وانتقاصهم، وكذلك فهو يتعارض مع تشويه الحقائق. وقد ذُكرت أُسس التفكير والتفكير الحر في الإسلام، من خلال عدد من الآيات القرآنيّة، مثل قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، (الإسراء: 36)، وقوله تعالى:( لاإكْراه في الدِّين ) ، (البقرة: 256)، وقوله تعالى:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: 17 - 18)، وقوله تعالى:( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

فلا إشكال عندنا على تحقيق حريّة النقاش، بل إنّ اشكالنا على النقاش ذاته. بعبارة أُخرى، نحن من أهل النقاش والتحقيق والتفكير، بل ولا نخشى التفكير. يقول الإمام الخمينيّ (رحمه الله) في هذا المجال:

(نحن لا نريد أن نقول: بأنّ العلوم قسمان، كما يناقش بعضهم في ذلك عمداً، أو جهلاً، بل نريد أن نقول: إِنّه لا وجود للأخلاق والتربية الإسلاميّة في جامعاتنا، ولو كانت موجودة، لما أضحتْ ميداناً للمنازلات العقائديّة المضرّة لبلادنا).

إعداد المعلّمين

إنّ إعداد المعلمين هو إحدى الحاجات الجوهرية للمجتمع. وكما أُقترح سالفاً، فبسبب اتّساع المعلومات البشريّة، ونظراً لأهميّة التعليم الابتدائي، وإشباعاً لغريزة

٢٥

حب الاستطلاع عند الناشئة والأحداث، وتربيةً لعنصر الإبداع فيهم، لذلك يجب العمل على تصعيد المستوى العلمي لمعلّمي المرحلة المتوسّطة، ومدرّسي المرحلة الإعداديّة، حتى درجة البكالوريوس.

وينبغي أن يكون المعلّم - في أيّ مستوىً كان - مُلمّاً بمبادئ التربية والتعليم، وعلم النفس، ومطّلعاً على الثقافة والمعارف الإسلامية، ومتضلّعاً في الفروع الدراسية، وله ثقافة ومعلومات عامّة. فالتركيز على هذه الأركان الأربعة الأساسيّة في البرنامج التعليمي لإعداد المعلمين، يجعل مسألة تصعيد المستوى العلمي لهم حتى درجة (البكالوريوس) ضروريّة.

وفي عقيدتي، فإنّ القسط الأكبر من النشاطات الجامعيّة في: العلوم، والآداب، والعلوم الإنسانية، والإدارة التجارية يجب أن يتركز على إعداد المعلمين؛ وذلك نظراً لدور الجامعات في تأمين حاجات البلاد، وإدراكاً لهذه الحقيقة القائلة: بأنّ تربية الطالب الجامعي بمستوى الظروف المعاصرة وفي بعض الفروع، يسفر عن: تضييع وقت الطالب والأُستاذ، وتبديد المبالغ الطائلة من خزينة الدولة. وتبقى نسبة ضئيلة تكرَّس للطلاّب الراغبين في البحث والتحقيق، ومواصلة الدراسات العليا.

وفي هذا الإطار، فإنّ على الجامعيين التعاون الوثيق المتواصل مع المعلمين والمدرّسين في التخطيط التعليمي، ووضع المناهج الدراسية، وإعداد الإداريّين، وكذلك في توسيع الإمكانيّات التعليميّة.

٢٦

خاصّيّتان أساسيّتان للإنسان

٢٧

٢٨

خاصّيتان أساسيّتان للإنسان

من الخصائص الأساسيّة للإنسان: وعيه لسلوكه، ووجود القوة المفكِّرة لديه. فيمكن للإنسان أن يكون واعياً لسلوكه(1) ، ويستعين بالقوة المفكِّرة المودعة عنده، لدى مواجهته للمسائل والقضايا المختلفة(2) . وينبغي أن ننتبه أنّ الإنسان لا يعي ما يقوم به من أعمال دائماً. بكلمة بديلة، فقد ينهج الإنسان سلوكاً معيناً، بيد أنّه لا يدرك دوافع هذا السلوك وأهدافه.

ولا يستعمل الإنسان قوّته المفكرة بصورة دائمة عند مواجهته لمختلف المسائل. فتجده أحياناً يُقلّد تقليداً أعمى، أو يندفع اندفاعاً طائشاً بدل أن يُعمل فكره. وكما نعلم، فإنّ سلوك الإنسان ليس على وتيرة واحدة، فتارةً يظهر سلوكه على شكل ردود فعل انعكاسيّة، وأُخرى يكون نتيجةً لنموّه وتكامله، وفي بعض المواطن لا يخلو أن ينشأ من التعليم.

ولسلوك الإنسان شكل خاص في المجال الاجتماعي أيضاً، فما يتعلّمه الإنسان من الجماعة ينعكس على سلوكه بأشكال مختلفة. فالتكلّم والتوافق الإجتماعي، والتعاون مع الآخرين، والتكييف والإنسجام، والتعارض، والتشابه، وأمثال هذه الأشياء تُكون الشكل الاجتماعي لسلوك الإنسان. ويراعي الإنسان تقاليد معيّنة

____________________

(1) قال تعالى:( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: 14).

(2) قال الإمام عليعليه‌السلام :«لا يُستعان على الدهرِ إلاّ بالعقل» .

٢٩

في شرائح شتّى. ويبدو في السلوك الاجتماعي نوع من الجبر، واللاّشعور. بعبارة أُخرى، يرى الإنسان نفسه مجبراً على اتّباع تقاليد معيّنة، يغلب فيها عدم شعوره بما يفعل، هذا مع أنّه يمكن أن يكون شاعراً بجميع ما يقوم به. فمثلاً عندما تحضرون مجلس فاتحة، فإنّكم على علم - سابقاً - بأنّ عليكم مراعاة الصمت والهدوء، فتحاولون المحافظة على هذا التقليد.

بصورة عامّة، يتسنّى للإنسان أن يدرك جميع ما يفعله تدريجاً، وهذا الإدراك أمارة من أمارات نموّ شخصيّته.

من جهة أُخرى، فإنّ حياة الإنسان محفوفة بمشاكل كثيرة، ومواجهة هذه المشاكل تُنمِّي في الإنسان القابليّة على التفكير. أمّا الإنسان - كما ذكرنا سالفاً - فإنّه لا يستعمل قوّته المفكِّرة العاقلة دائماً. وفي نفس الوقت، فإنّه يطمح إلى أن يحكم سيطرته على بيئته، ويرقب ظروفه الحياتيّة. فالسيطرة على البيئة تتطلّب منه إدراكاً ووعياً لما يجري فيها، وفي هذا الإطار، كما قلنا،فإنّ علاج المشاكل لا يتيسّر إلاّ عن طريق القوّة المفكِّرة، لذلك فإنّ الإنسان مجبر على استعمال فكره من أجل مواصلة حياته.

إنّ حافز الإنسان في التعرّف على بيئته، ورغبته في الإلمام بما يدور فيها، وكذلك تأمين الحاجات الأساسية، ومساعدة البيئة على الحياة، كلّ ذلك يُرْغم الإنسان على الجِد والسعي والاهتمام. وفي هذا المضمار، استطاع الإنسان أن يعالج بعض مشاكله بمساعدة فكره. وفي خِضَمّ علاج المشاكل، أصبحت نشاطات الإنسان في قالب العلم، والفن، والفلسفة، والآداب والتقاليد.

وإذا أخرجنا عمليّة التربية والتعليم من نطاق الدرس، والكتاب، والمعلّم، والطالب، ونظرنا إليها عمليّة يروم فيها الجيل الأكبر أن يوسِّع من دائرة وعي الجيل الأصغر، في مجالات: معرفة الكون، معرفة الإنسان، الظروف الاقتصادية والسياسيّة، والتقدّم والتطوّر. وعملية تُعِد الإنسان لمواجهة مسائل الحياة عن طريق تربية قدرة

٣٠

التفكير فيه، حينئذ تصبح هذه العملية أهم نشاط من نشاطات الإنسان. إنّ النُظُم ذات الجانب التربوي، سواء تلك التي تُعنى بالمسائل التربويّة الخاصّة، أو التي تهتمّ بحياة الإنسان عموماً لا تؤثِّر في نموّ الإنسان، وتطوّره، إلاّ اذا ركّزت على تربية قوّة التفكير، والوعي فيه، ونظرت إليه على أنّه في تطوّر وتكامل متواصلين.

مقارنة الإسلام مع النُظُم القائمة في الشرق والغرب

إنّ بعض النُظُم الفكرية، مع أنّها تُولي أهمية لعلاقات الإنسان مع الكون، ومع بني جنسه، وتتّخذ من هذه العلاقات ركيزةً لمبادئها وأُسسها، بَيْدَ أنّها تقوِّم الإنسان، سواء في حياته الفردية، أو الاجتماعية، على أنّه نتاج بيئته، ولا تُؤْمن بأيّ دور لوعيه في النموّ والتطوّر.

وهذا خلل، كما أنّ - هناك - خللاً آخر في تلك النُظُم، وهو قصور نظرتها في موقفها من المسائل المختلفة، وقد ينعكس هذا التصور في فهمها لماهيّة الإنسان وهويّته. إنّها لا تأخذ في حسابها الجوانب المختلفة في شخصيّة الإنسان، حيث يرى بعضها أنّ الجانب البيولوجي، أو الفسيولوجي، هو محور سلوك الإنسان، في حين يرى بعضها الآخر أنّ الجانب الاجتماعي هو المحور. فكلاهما يقيِّد الإنسان في نطاق النشاطات البدنية، أو الاجتماعية، ويصادر قدرته الروحية في موقفه من المسائل المختلفة. فأنصار الجانب البيولوجي، يضعون الإنسان في مصاف الحيوانات - على نحو الإرغام - ويستعينون بمشاهداتهم لسلوك الحيوانات، من أجل شرح سلوكه، وتبيانه. أمّا أنصار الجانب الاجتماعي، فيحصرون دائرة نشاطه في المجال الاجتماعي، إذ يرَوْن سلوكه انعكاساً لما يتعلّمه من المجتمع، غافلين عن أنّ الإنسان عضو يعيش في الجماعة، والحياة الجماعية لا تسلب منه شخصيّته الفردية واستقلاله. إنّ كلا الفريقين ينكر جانب الإبداع الكامن في الإنسان، أو أنّهما يتعثّران عند الحديث حول هذا الجانب، وكذلك يُلغِيان دور الإنسان في توجيه نفسه وإرشادها.

٣١

وترى بعضُ النُظُم أنَّ الجانب المادّي في حياة الإنسان يقع في الدرجة الأُولى من حيث الأهميّة، وترى نظُم أخرى أنّ الجانب المعنوي هو الأهم.

في الحقل الاجتماعي، تؤمن بعض المجتمعات الغربيّة - كما يبدو - بأنّ الحريّة، و(الديمقراطيّة)، والحقوق الفرديّة تُمثِّل القيم الأساسية في قاموسها. أمّا المجتمعات الشيوعيّة، فترى بأنّ الهدف الأصلي من الحياة الجماعية هو: العدالة الاجتماعية مع ضمان الإمكانيات الماديّة للجميع، وإنهاء الإستغلال الذي يصبّ في صالح طبقة على حساب طبقة أُخرى.

وفي خِضَمّ هذه التوجّهات، نلتقي فريقاً ينظر بعين الأهميّة إلى الأفراد بصفة أنّهم أفراد، مُلغياً تأثير الجوانب الاجتماعية على حياتهم. فالتربية في قاموس هذا الفريق هي: ذات جانب فردي، ويتصوّر أتباع هذا الفريق بأنّ الأفراد لو تربّوا تربية سليمة، وتخرّجوا منها صالحين، فإنّ المجتمع سوف يتحسّن اوتوماتيكيّاً. ولا يعتقد هؤلاء بقيمة الحياة الجماعية وأهميّتها، كما لا يدركون الحقيقة القائلة بأنّ نموّ الفرد في المجالات المختلفة لا يتيسّر إلاّ من خلال الحياة الجماعيّة.

بكلمة بديلة، إنّ نموّ الفرد في مجال العقل والعاطفة والبدن تابع للحياة الجماعيّة إلى حدّ كبير. وكما مرّ بنا، فإنّ التطرّف في تأثير الحياة الجماعيّة ليس منطقيّاً كالتطرّف في الشخصيّة الفرديّة للإنسان. فلو كان الإنسان نتاج بيئته ومجتمعه، وأنّ الظروف هي التي تمنح سلوكه وشخصيّته قالباً خاصّاً، فما هو دور التربية والتعليم إذَن؟ ولو كان سلوك الفرد خاضعاً للظروف الاجتماعية، فكيف نُبرّر توقّعاتنا من الأفراد؟

إنّ اموراً من نحو الحريّة، والديموقراطيّة، والحقوق الفردية، والعدالة الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الإعتبار الجانب الفردي والاجتماعي، لها شكلها الخاص بها.

وفي المجتمعات الغربيّة ينصبّ الاهتمام - غالباً - على هذه الأمور من خلال

٣٢

التركيز على الجانب الفردي، وعدم تدخّل المجتمع في شؤون الفرد، فالحريّة تعني أنّ في مقدور كل شخص أن يعمل ما يشاء. ويضيفون إلى ذلك شرط عدم إزعاج الآخرين، بيد أنّ ذلك الشرط لايشكّل عائقاً إلى حدٍّ بعيد، لأنّ في مقدور الأشخاص - في مواطن خاصّة - العمل على إشباع ميولهم ورغباتهم دون أن ُيسبّبوا إزعاجاً للآخرين.

يمشي أحدهم بحريّة، ويمارس شخصان الإتصال الجنسي أمام أنظار الآخرين، فالكل أحرار، ويستطيعون القيام بأي عمل تحت غطاء الحريّة. والمتزوّج حر في أن يترك زوجته ويعشق امرأة غيرها، وزوجته - أيضاً - حرّة في أن تعشق رجلاً آخر. فليس من حق المجتمع أن يقف بوجه هذه الممارسات، وذلك لأنّ الناس أحرار، وليس لأحد الحق في أن يحدّ من حريّة الآخرين.

يسود هذا التصوّر عن الديمقراطيّة كثيراً من الأوساط الثقافية في الغرب، حيث يعمل الإنسان ما يشاء تحت لواء الديمقراطية.

وللحقوق الفرديّة أيضاً في المجال الاجتماعي، والنظام الاقتصادي الخاص شكل معيّن. فللمالك الحق في أن يبني علاقاته مع الآخرين كيفما يشاء. ولِربِّ العمل حق استغلال العامل، وليس لأحد أن يطرح حقوق المستضعفين أو الكادحين على بساط البحث. ويبدو أنّ لهؤلاء حقوقاً، بيد أنّ ضمان حقوق أرباب العمل والملاّكين لا يسمح بالحديث عن حقوق المستضعفين، وهنا تفقد العدالة الاجتماعية مفهومها وقيمتها. وبما أنّ الفرد هو المهم، وأنّ المجتمع أو المنظّمات الاجتماعية ليس لها حق التدخّل في شؤون الأفراد، لذلك فإنّ القضاء على الاستغلال يُعدّ تدخّلاً في شؤونهم، وليس له أيّ مبرّر. وفي مجتمع، يحظى فيه الحسُّ الجماعي بأهميّة خاصّة، يكون لمثل هذه الأمور شكل معيّن. وكما نعلم فإنّ الجماعة تُلقي ظلّها على الأفراد في مثل هذه المجتمعات، فالجماعة ومصالحها هي المهمّة، وما على الفرد إلاّ أن يكون تابعاً لها. وفي هذا المجال تُهمل الحريّة والحقوق الفردية، فالفرد ليس حرّاً

٣٣

في إشباع ميوله ورغباته، بل هو محروم من الحريّة حتى في انتخاب النظام الفكري، والتعبير عن رأيه، والخوض في مختلف القضايا، والنقد، ومعارضة الحكومة، وأمور من هذا القبيل، فكلّ شيء في مثل هذا المجتمع تحت ظل الجماعة. ومن الطبيعي فإنّ عمل الجماعة وتشخيص مصالح المجتمع ينحصران بيد فريق معين، أمّا الأَفراد فهم مرغمون على اتّباع هذا الفريق. ففي هذا المجتمع يضمحلّ استقلال الفرد وحريّته وإبداعه.

إنّ المؤسّسات الجماعية ذاتياً تُعتبر مقدّسة وذات قيمة في مثل هذا المجتمع، وما على الأفراد إلاّ تكييف أنفسهم مع هذه المؤسّسات. وهنا يأتي دَور التربية والتعليم، فهو: العمل على تكييف الأفراد مع المؤسّسات الجماعية. وفي مثل هذا الوضع، ما على الأفراد - في أيّ جماعة كانوا - إلاّ أن يستسلموا للوضع القائم، ويواصلوا حياتهم كالأداة الطيّعة، أو ينفصلوا عن الجماعة وعن أفراد آخرين ليعيشوا في وضع متأرجح. وفي الحالة الثانية يكون الأفراد - عادة - غرباء بالنسبة إلى أنفسهم ومجتمعهم، أو أنّهم يشعرون بالغربة. وليس هناك من هدف أو محفِّز قوي يوجّه أعمالهم وممارساتهم. الحياة في قاموسهم عبث وهُراء، وكل شيء - مبدئيّاً - عبث بالنسبة إليهم، كما أنّهم يحسبون أنفسهم ليسوا ذوي شأن أوبال. وتتحقق هذه الحالة لجميع الذين لا يريدون الإستسلام للوضع القائم. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - عاملاً كان أو رئيساً للعمل، وكاتباً كان أو عالماً، ورئيساً كان أو موظّفاً، ومعلماً كان أو طالباً - سيصاب بعدوى هذا الوضع.

والرائع في مثل هذه الظروف هو طرح النظام الفكري للإسلام، فهو - إطلاقاً - لايشبه الأنظمة الأُخرى، هذا من جانب، كما أنّه ليس نظاماً هجيناً ترقيعيّاً من جانب آخر. وهو - بشكل عام - ذو بعد تربوي، ولنظامه التربوي ميزات معيّنة. فلا الفرد وحده هو المحور، ولا المجتمع. الفرد حر، بيد أنّ للحريّة - في قاموسه - معنىً منسجماً مع الحس الإنساني الرفيع، وفي رحاب الحريّة نفسها، يكون الفرد مكلّفاً

٣٤

مسؤولاً. وهو حر في انتخاب عقيدته، وله حق التعبير عن رأيه في شتّى المسائل، ويمكنه أن يستمتع بثمرة عمله وجهده، وتضمن مصالحه المشروعة عندما لا ترتطم مع المصالح الاجتماعية العامّة، وليس في مقدور أيّة سلطة أو جهاز أن يحدّا من سيادته على نفسه في تقرير مصيره.

إنّ الفرد - مضافاً إلى حريّته واختياره - يشعر بالمسؤولية أمام المجتمع في النظام الإسلامي، ولا تنفصل حياته عن حياة المجتمع. بعبارة أُخرى، لا يقف أحدهما مقابل الآخر على نحو التنازع أو التعارض. وتندمج الحقوق والحريّات الفردية مع رفاه الجماعة في النظام الإسلامي، وفي نفس الوقت يضع النظام التوحيدي الفرد والمجتمع على خط التكامل والتطوّر.

يضطلع المجتمع بمهمّات وواجبات معيّنة في النظام التربوي الإسلامي، فهو لا يترك الفرد بدون قيِّم، إنّما يكفل له ضروريّات الحياة، كما يضمن رفاهه، ويهيّئ له مستلزمات رُقيّه وتطوّره.

وفي هذا النظام تُناقَش معرفة الكون مثلما تناقش علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الكون بالله (عزّوجَل).

وفي التربية والتعليم، يدور البحث حول العلم، ويدور حول التفكير في الوقت نفسه. كما يدور حول تربية القدرة العقليّة، وفي الوقت ذاته يدور حول تربية الجانب الاجتماعي في شخصيّة الإنسان. كما يهتم هذا النظام بالحياة المادية والمعنوية على السواء. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّ حريّة الفرد - في هذا النظام - تندمج في رفاه الجماعة. ويدور الحديث فيه حول العدالة، وحول الإيثار ونكران الذات على التوازن. ويُشكِّل العمل وبذل الجهد أساس الملْكية في هذا النظام، بيد أنّ كل شيءٍ يعود إلى الله، ويصب في صالح الرفاه العام. ويتميّز هذا النظام بأنّ مقياس التفاضل فيه هو التقوى. ومن الطريف فيه أنّه لا يقصر مهمّة التربية والتعليم على المعلم أو على الوالدين فقط، بل يجعلها مهمّة جماعية من خلال طرح مبدأ الأمر

٣٥

بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصبح الجميع مربّين بعضهم للبعض الآخر.

وفي هذا النظام يحظى الفرد، والمجتمع، والنوع الإنساني قاطبةً بالعناية والاهتمام، وتتحرّك العلاقات الإنسانية في خط التطوّر متوكئة على النظام التوحيدي. ويكون مثَل الأخلاق التوحيديّة كمثَل المِنوار أو المشعل الكهربي (Projector) إذ ينير جميع شؤون حياة الإنسان.

٣٦

النّظام التّربوي في الإسلام

٣٧

٣٨

النظام التربوي في الإسلام

نتطرق في البداية إلى ذكر خصائص النظام التربوي في الإسلام، ثمّ نعرِّج على مناقشة أهداف هذا النظام وأساليبه ومحتواه.

خصائص النظام التربوي في الإسلام

الأُولى: البُعد الإلهي

التربية الإسلاميّة تربية إلهيّة، وقد ورد في الحديث المشهور، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». والتربية الإِلهيّة - كما جاءت في القرآن الكريم - صالحة للتطبيق بالنسبة إلى جميع أفراد النوع الإنساني، سواء الأنبياء منهم أو الناس العاديّون.

وفيما يلي عدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تخصّ الموضوع، فإلى تلاوتها ودراستها:

قال تعالى:( وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، (البقرة: 31).

وقال (جلّ من قائل):( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ، (العلق: 1 - 5).

ويخبرنا الباري تعالى في الآية الكريمة التالية عن بلوغ الصالحين من أولاد

٣٩

إبراهيم الخليلعليه‌السلام منصب الإمامة، بعد خضوعهم لتربية إلهيّة مركّزة، فيقول:

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الانبياء: 73 - 72) وحول اصطفاء طالوت، يقول (جلّ شأنه):

( .. إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، (البقرة: 247).

وفيما يرتبط بالتربية الإلهيّة التي خصّها الله نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء في القرآن قوله تعالى:

( .. وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عليك عظيماً ) (النساء: 113).

وذُكرت التربية الإلهيّة التي تخصّ العباد في الآيات التي تتحدّث حول المبعث النبوي الشريف، فقال (عزّ من قائل):

( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (آل عمران: 164).

خصائص التربية الإلهيّة

وردت خصائص التربية الإلهيّة في القرآن الكريم، والأخبار والأحاديث، وسيرة المعصومين، والأدعية المأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، على نحو التفصيل. وها نحن نتحدّث بإيجاز عن قسم من هذه الخصائص:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وقال أبو حنيفة : يصحّ ويقع للمسلم ؛ لأنّ الخمر مالٌ للذمّي ، لأنّ أهل الذمّة يتموّلونها ويتبايعونها ، فصحّ توكيلهم فيها ، كسائر أموالهم(١) .

وهو باطل ؛ فإنّ المسلم لا يصحّ أن يملك الخمر ، سواء باشر شراءها بنفسه أو بوكيله ، وأيّ سببٍ اقتضى تجويز التمليك إذا اشتراها الذمّيّ؟

وإذا باع الوكيل بثمنٍ معيّن ، مَلَك الموكّل الثمنَ دون الوكيل ؛ لأنّه بمنزلة المبيع.

ولو كان الثمن في الذمّة ، فالملك للموكّل أيضاً ، لكن له وللوكيل معاً المطالبة به.

وقال أبو حنيفة : ليس للموكّل المطالبة(٢) ، وقد سبق(٣) .

وأمّا ثمن ما اشتراه إذا كان في الذمّة فإنّه يثبت في ذمّة الموكّل أصلاً.

وإذا علم البائع أنّ الملك للموكّل ، لم يكن له مطالبة الوكيل ، بل إنّما يطالب الموكّل خاصّةً عندنا.

وقال بعض العامّة : إنّ الثمن يثبت في ذمّة الوكيل تبعاً ، وللبائع مطالبة مَنْ شاء منهما ، فإن أبرأ الوكيل لم يبرأ الموكّل ، وإن أبرأ الموكّل برئ الوكيل أيضاً(٤) .

وإن دفع الثمن إلى البائع فوجد به عيباً فردّه على الوكيل ، كان أمانةً في يده ، وهو من ضمان الموكّل.

ولو وكّل رجل غيره حتى يستسلف له ألفاً في كُرّ طعامٍ ، ففَعَل ، مَلَك‌

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ١٣ : ١٣٨ ، بحر المذهب ٨ : ٢٠١ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٦ ، البيان ٦ : ٣٦٢ ، المغني ٥ : ٢٦٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٣٧.

(٢) المغني ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٣٧ - ٢٣٨.

(٣) في ص ١٣٨ - ١٣٩ ، المسألة ٧٤٤.

(٤) المغني ٥ : ٢٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٣٨.

١٤١

الموكّل الثمنَ ، وع ليه عهدة الطعام ، دون الوكيل.

وقال بعض العامّة : يكون الوكيل ضامناً عن موكّله(١) .

وليس بشي‌ء.

مسألة ٧٤٦ : إذا وكّله في عقدٍ كبيعٍ أو شراء ، تعلّق أحكام العقد - من رؤية المبيع أو المشترى - بالوكيل دون الموكّل ، حتى تعتبر رؤية الوكيل للمبيع ، دون الموكّل ، ويلزم العقد بمفارقة الوكيل مجلس العقد ، ولا يلزم بمفارقة الموكّل إن كان حاضراً فيه ، وتسليم رأس المال في السَّلَم والتقابض حيث يشترط التقابض يعتبران قبل مفارقة الوكيل ، والفسخ بخيار المجلس والرؤية يثبت للوكيل.

والأقرب : أنّه يثبت للموكّل.

وقال بعض الشافعيّة : يثبت للوكيل دون الموكّل حتى لو أراد الموكّل الإجازة ، كان للوكيل أن يفسخ(٢) .

وليس بجيّدٍ.

وفرّقوا بينه وبين خيار العيب حيث قالوا : لا ردّ للوكيل إذا رضي الموكّل(٣) .

مسألة ٧٤٧ : إذا اشترى الوكيل بثمنٍ معيّن ، فإن كان في يده ، طالَبه البائع به ، وإلّا طالَب الموكّل ؛ لأنّ الملك يقع له.

وإن اشترى في الذمّة ، فإن كان الموكّل قد سلّم إليه ما يصرفه إلى الثمن ، طالَبه البائع أيضاً.

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٣٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٠.

١٤٢

وإن لم يسلّم ، فإن أنكر البائع كونه وكيلاً ، أو قال : لا أدري هل هو وكيل أم لا ، ولا بيّنة ، طالَبه.

وإن اعترف بوكالته ، فالمطالَب بالثمن الموكّلُ لا غير ؛ لوقوع الملك له ، والوكيل سفيرٌ بينهما ومُعبّرٌ(١) للموكّل ، فلا يغرم شيئاً ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : أنّ البائع مع تصديق الوكالة يطالب الوكيل لا غير ؛ لأنّ أحكام العقد تتعلّق به ، والالتزام وُجد منه.

والثالث : أنّه يطالب مَنْ شاء منهما ؛ نظراً إلى المعنيين(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٧٤٨ : قد بيّنّا أنّ المطالبة مع علم البائع بالوكالة إنّما تتوجّه إلى الموكّل.

وقال بعض الشافعيّة : المطالبة للوكيل خاصّةً(٣) .

فعلى قوله هل للوكيل مطالبة الموكّل قبل أن يغرم؟ فيه للشافعيّة وجهان ؛ لأنّ بعضهم قال : يثبت الثمن للبائع على الوكيل ، وللوكيل مثله على الموكّل ، بناءً على أنّ الوكيل يثبت الملك له ثمّ ينتقل إلى الموكّل ، فعلى هذا للوكيل مطالبته بما ثبت له وإن لم يؤدّ ما عليه.

وقال آخَرون : يُنزّل الوكيل منزلة المحال عليه الذي لا دَيْن عليه ، وعلى هذا ففي رجوعه قبل الغرم وجهان ، كالمحال عليه.

والأصحّ عندهم : المنع.

____________________

(١) فيما عدا « ج » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « معين » بدل « معبّر ». وعبّرت عنه : تكلّمت عنه. المحيط في اللغة ٢ : ٣٥ « عبر ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٦.

١٤٣

فإذا غرم الوكيل للب ائع ، فقياس تنزيله منزلة المحال عليه الذي لا دَيْن عليه الخلافُ المذكور في الحوالة.

والمذهب عندهم : القطع بالرجوع ، وإلاّ لخرج المبيع [ عن ](١) أن يكون مملوكاً للموكّل بالعوض ، وفي ذلك تغيير لوضع العقد(٢) .

وهذا ساقط عندنا ؛ لأنّ البائع يطالب الموكّل خاصّةً.

مسألة ٧٤٩ : على قول القائلين بمطالبة البائع مَنْ شاء من الوكيل أو الموكّل فالوكيل كالضامن ، والموكّل كالمضمون عنه ، فيرجع الوكيل إذا غرم.

والقول في اعتبار شرط الرجوع وفي أنّه [ هل ](٣) يطالبه بتخليصه قبل الغرم؟ كما سبق في الضمان(٤) .

وقد فرّع ابن سريج على الخلاف في المسألة ، فقال : لو سلّم دراهم إلى الوكيل ليصرفها إلى الثمن الملتزم في الذمّة ، ففَعَل ثمّ ردّها البائع بعيبٍ ، فإن قلنا بأنّ البائع يطالب الموكّل أو يطالب مَنْ شاء ، فعلى الوكيل ردّ تلك الدراهم بأعيانها إلى الموكّل ، وليس له إمساكها أو إبدالها.

وإن قلنا : يطالب الوكيل ، فله ذلك ؛ لأنّ ما دفعه الموكّل إليه على هذا الوجه كأنّه أقرضه منه ليبرئ به ذمّته ، فإذا عاد إليه فهو ملكه ، وللمقترض إمساك ما استقرضه وردّ مثله(٥) .

واعلم أنّه لا خلاف في أنّ للوكيل أن يرجع على الموكّل في الجملة ،

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق ، وكما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٦.

(٣) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٤) راجع : ج ١٤ ، ص ٣٤٨ - ٣٤٩ ، المسألة ٥٢٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٦.

١٤٤

وإنّما الكلام في أن ّه متى يرجع؟ وبأيّ شي‌ء يرجع؟ وإذا كان كذلك ، توجّه أن يكون تسليم الدراهم دفعاً لمؤونة التراجع ، لا إقراضاً.

مسألة ٧٥٠ : الوكيل بالبيع إذا قبض الثمن إمّا بإذنٍ صريح أو بالإذن في البيع على رأي جماعةٍ من العامّة(١) وتلف المقبوض في يده ثمّ خرج المبيع مستحقّاً والمشتري معترف بالوكالة ، فحقّ رجوعه على الموكّل عندنا ؛ لأنّ الوكيل واسطة بينهما.

وقال بعض الشافعيّة : حقّ الرجوع بالثمن يكون على الوكيل ؛ لأنّه الذي تولّى القبض ، وحصل التلف في يده(٢) .

وقال بعضهم كما قلناه من أنّه يرجع على الموكّل ؛ لأنّ الوكيل سفير ، ويده يد موكّله(٣) .

وقال بعضهم : يرجع على مَنْ شاء(٤) ، كما تقدّم(٥) .

فإن قلنا : حقّ الرجوع على الموكّل ، فإذا غرم لم يرجع على الوكيل ؛ لأنّه أمينه ، فلا يضمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قلنا : إنّ حقّ الرجوع على الموكّل إذا رجع على الموكّل ، رجع الموكّل على الوكيل ؛ لأنّ التلف في يده.

وهو مسلّم ، لكن لا يجب عليه الضمان ، كما لو تلف في يد الموكّل ؛ لأنّ يد الوكيل في الحقيقة هي يد الموكّل.

وإن جعلنا حقّ الرجوع على الوكيل فغرم ، لم يرجع على الموكّل.

وإذا قلنا : يرجع على مَنْ شاء منهما ، فثلاثة أوجُهٍ :

أشهرها عندهم : أنّه إن غرم الموكّل لم يرجع على الوكيل ، وإن غرم‌

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٦.

(٥) في المسألة السابقة.

١٤٥

الوكيل رجع على المو كّل ؛ لأنّ الموكّل قد غرّ الوكيل ، والمغرور يرجع على الغارّ ، دون العكس.

والثاني : إنّ واحداً منهما لا يرجع على الآخَر ، أمّا الموكّل : فلأنّه غارّ. وأمّا الوكيل : فلحصول التلف في يده.

والثالث : إنّ الموكّل يرجع على الوكيل ، دون العكس ؛ لحصول التلف في يد الوكيل.

والذي يفتى به عندهم من هذه الاختلافات أنّ المشتري يغرم مَنْ شاء منهما والقرار على الموكّل(١) .

وأمّا عندنا فمع تصديق الوكالة يرجع على الموكّل خاصّةً ، سواء تلف بتفريطٍ من الوكيل أو لا ، إلّا أنّه إذا فرّط الوكيل ، كان له أن يرجع عليه ، ولا يرجع هو على الموكّل ؛ لأنّ التلف حصل بتفريطه ، فكان ضامناً. وإن رجع على الموكّل ، رجع الموكّل على الوكيل.

وإنّما كان له أن يرجع على الموكّل ؛ لأنّه سلّط الوكيل على القبض منه.

وإن كان التلف بغير تفريطٍ من الوكيل ، لم يضمن ، ولا يرجع المشتري عليه بالثمن.

وإن كان جاهلاً بالوكالة ، كان له أن يرجع على الوكيل ؛ لأنّه القابض.

ولو قامت بيّنة الوكالة ، سقط رجوعه عليه ، وكان له الرجوع على الموكّل خاصّةً.

ولو اعترف الموكّل بالوكالة ، لم يسقط رجوعه على الوكيل ؛ لإمكان تواطئهما على إسقاط حقّ المشتري من مطالبة الوكيل ، لكن له الرجوع على مَنْ شاء منهما.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥١ - ٢٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٦ - ٥٥٧.

١٤٦

مسألة ٧٥١ : إذا وكلّه في شراء عينٍ فاشتراها وقبض الوكيل العينَ وتلفت في يده بغير تفريط ثمّ ظهر أنّه كان المبيع مستحقّاً لغير البائع ، فللمستحقّ مطالبة البائع بقيمة المبيع إن لم يكن مثليّاً ، أو كان وتعذَّر المثل ، وبالمثل إن كان مثليّاً ؛ لأنّه غاصب ، ومن يده خرج المال.

وللشافعيّة ثلاثة أوجُهٍ :

أحدها : هذا.

والثاني : يطالب الوكيل.

والثالث : يطالب مَنْ شاء(١) ، كما سبق في المسألة السابقة.

قال الجويني : الأقيس في المسألتين أنّه لا رجوع له إلّا على الوكيل ؛ لحصول التلف عنده. ولأنّه إذا ظهر الاستحقاق ، بانَ فساد العقد ، وصار الوكيل قابضاً ملكَ الغير بغير حقٍّ. ويجري الخلاف في القرار في هذه الصورة أيضاً(٢) .

وأمّا نحن فهنا نقول : للمستحقّ مطالبة الوكيل ؛ لأنّه قبض ماله.

فإن تلفت بغير تفريطٍ ، رجع على الموكّل بما غرمه ؛ لأنّه أمينه لا ضمان عليه. وإن رجع على الموكّل ، لم يرجع على الوكيل ، بل استقرّ الرجوع على الموكّل.

وإن تلفت بتفريطٍ ، استقرّ الضمان عليه ، فإن رجع عليه لم يرجع هو على موكّله ؛ لأنّه ضامن. وإن رجع على الموكّل ، رجع الموكّل على الوكيل ؛ لأنّه فرّط بالإتلاف.

مسألة ٧٥٢ : إذا وكّله في البيع وأطلق ، انصرف إلى البيع بثمن المثل.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٧.

١٤٧

وهل يختصّ بالبيع با لعين ، أو يشمل بالعين والبيع بثمنٍ في الذمّة؟ إشكال.

فإن قلنا بالشمول أو أذن فيه فباع بثمنٍ في الذمّة واستوفاه ودَفَعه إلى الموكّل فخرج الثمن مستحقّاً أو معيباً وردّه ، فللموكّل أن يطالب المشتري بالثمن ، وله أن يغرّم الوكيل ؛ لأنّه صار مسلّماً للمبيع قبل أخذ عوضه.

وفيما يغرم؟

يحتمل قيمة العين ؛ لأنّه فوّت عليه العين.

والثاني(١) : الثمن ؛ لأنّ حقّه انتقل من العين إلى الثمن.

فإن قلنا بالأوّل فإن أخذ منه القيمة ، طالَب الوكيلُ المشتري بالثمن ، فإذا أخذه ، دَفَعه [ إلى ](٢) الموكّل ، واستردّ القيمة.

مسألة ٧٥٣ : لو(٣) دفع إليه دراهم ليشتري له بعينها عبداً ، فاشترى العبد بالعين(٤) وتلفت في يده قبل التسليم ، انفسخ البيع ، ولا شي‌ء على الوكيل. ولو تلفت قبل الشراء ، ارتفعت الوكالة.

ولو قال : اشتر في الذمّة واصرفها إلى الثمن الملتزم ، فتلفت في يد الوكيل بعد الشراء ، لم ينفسخ العقد ، وكان للبائع مطالبة الموكّل بعوض الثمن التالف إن علم الوكالة ، وإلّا طالَب الوكيل ، ويرجع الوكيل على الموكّل.

ولا ينقلب الشراء إلى الوكيل عندنا ، ولا يلزمه الثمن ، وهو أحد‌

____________________

(١) أي : الاحتمال الثاني.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣) في « ث ، ر ، خ » : « إذا » بدل « لو ».

(٤) أي : بعين الدراهم.

١٤٨

أقوال الشافعيّة.

وا لثاني : إنّ البيع(١) ينقلب إلى الوكيل ، ويلزمه الثمن.

والثالث : أن يعرض الحال على الموكّل ، فإن رغب فيه وأتى بمثل تلك الدراهم ، فالشراء له ، وإلّا وقع للوكيل ، وعليه الثمن(٢) .

والحقّ ما قدّمناه.

ولو تلفت قبل الشراء ، لم ينعزل الوكيل.

وإن اشترى للموكّل ، وقع للموكّل ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : يقع للوكيل(٣) .

مسألة ٧٥٤ : لو اشترى الوكيل شراءً فاسداً وقبض المبيع وتلف إمّا في يده أو بعد تسليمه إلى الموكّل ، فللمالك مطالبته بالضمان.

وهل يرجع هو على الموكّل؟ إن كان قد أذن له في الشراء الفاسد ، أو علم به وقبضه ، كان له مطالبة الموكّل ، وإلّا فالأقرب : أنّه لا يطالبه به ؛ لأنّه إنّما وكّله في عقدٍ صحيح ، فإذا عقد فاسداً فقد فَعَل غير المأمور به ، فكان الضمان عليه ؛ لأنّ الموكّل لم يأمره بهذا القبض ، بل هو قَبَض لنفسه عن الموكّل ، والموكّل لم يأذن فيه ، فلا يقع عنه.

ولو أرسل رسولاً ليستقرض له شيئاً ، فاستقرض ، فهو كوكيل المشتري ، وفي مطالبته ما في مطالبة وكيل المشتري بالثمن.

والظاهر عند الشافعيّة أنّه يطالب ، ثمّ إذا غرم رجع على الموكّل(٤) .

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « الشراء » بدل « البيع ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٢ - ٢٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨.

١٤٩

المطلب الثالث : في نسبة الوكالة إلى الجواز.

مسألة ٧٥٥ : العقود على أربعة أضرب :

الأوّل : عقدٌ لازمٌ من الطرفين لا ينفسخ بفسخ أحد المتعاقدين ، وهو البيع والإجارة والصلح والخلع والنكاح ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(١) .

وفيه وجهٌ آخَر : إنّ النكاح غير لازمٍ من جهة الزوج(٢) .

والقائل الأوّل منهم قال : إنّ الزوج لا يملك فسخه ، وإنّما يملك قطعه وإزالة ملكه ، كما يملك المشتري عتق العبد المشترى وإزالة ملكه عنه ، ولا يمنع ذلك لزومه في حقّه(٣) .

وأمّا الخلع فإنّ الرجل والمرأة معاً ليس لهما فسخه ، بل إذا رجعت المرأة في البذل ، كان له الرجوع في النكاح.

الثاني : عقدٌ جائزٌ من الطرفين ، وهي الوكالة والشركة والمضاربة والجعالة ، فلكلٍّ(٤) منهما فسخ العقد في هذه.

الثالث : عقدٌ لازمٌ من أحد الطرفين جائزٌ من الآخَر ، كالرهن ؛ فإنّه لازمٌ من جهة الراهن جائزٌ من جهة المرتهن.

والكتابة عند الشيخ جائزة من جهة العبد ؛ لأنّ له أن يعجّز نفسه ، ولازمة من جهة المولى(٥) .

الرابع : المختلف فيه ، وهو السبق والرمي ، إن قلنا : إنّه إجارة ، كان لازماً. وإن قلنا : إنّه جعالة ، كان جائزاً.

____________________

(١ - ٣) البيان ٦ : ٤٠٧.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « فلكلّ واحدٍ ».

(٥) الخلاف ٣ : ١٨ ، المسألة ٢١ من كتاب البيوع ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

١٥٠

ولا نعلم خلافاً من أحدٍ من العلماء في أنّ الوكالة عقد جائز من الطرفين ؛ لأنّه عقد على تصرّفٍ مستقبل ليس من شرطه تقدير عملٍ ولا زمان ، فكان جائزاً ، كالجعالة. فإن فسخها الوكيل انفسخت ، وبطل تصرّفه بعد الفسخ ، وإن فسخها الموكّل فكذلك.

والأصل في ذلك أنّ [ في ](١) الوكالة قد يبدو للموكّل في الأمر الذي أناب فيه وفي نيابة ذلك الشخص ، وقد لا يتفرّغ له الوكيل ، فالإلزام مضرٌّ بهما جميعاً.

ولا خلاف في أنّ العزل مبطل للوكالة.

مسألة ٧٥٦ : قد بيّنّا أنّ الوكالة جائزة من الطرفين ، وتبطل بعزل الموكّل في حضرته وغيبته إمّا لفظاً بلفظ العزل ، كقوله : عزلتك عن الوكالة ، أو بلفظٍ يؤدّي معناه ، مثل : فسخت الوكالة ، أو : أبطلتها ، أو : نقضتها ، أو : صرفتك عنها ، أو : أزلتك عنها ، أو : رفعت الوكالة ، أو : أخرجته عن الوكالة ، فينعزل ، ويبطل تصرّفه بعد ذلك ، سواء ابتدأ بالتوكيل أو وكّل بمسألة الخصم ، كما إذا سألت المرأة زوجَها أن يوكّل بالطلاق أو الخلع ، أو المرتهنُ الراهنَ أن يوكّل ببيع الرهن ، أو الخصمُ الخصمَ أن يوكّل في الخصومة ، ففَعَل المسئول ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّ الوكالة استنابة تابعة لاختيار الموكّل ، فله العزل متى شاء ، كغيرها من الوكالات.

____________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه لأجل السياق.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٣ - ٢٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨.

١٥١

وقال أبو حنيفة : إذ ا كان التوكيل بمسألة الخصم ، لم ينعزل(١) .

وإمّا معنىً ، بأن يفعل متعلّق الوكالة.

مسألة ٧٥٧ : إذا عزل الموكّل الوكيلَ في غيبته ، قال الشيخرحمه‌الله : لأصحابنا روايتان :

إحداهما : إنّه ينعزل في الحال وإن لم يعلم الوكيل بالعزل ، وكلّ تصرّفٍ للوكيل بعد ذلك يكون باطلاً.

والثانية : إنّه لا ينعزل حتى يعلم الوكيل ذلك ، وكلّ تصرّفٍ له يكون واقعاً موقعه إلى أن يعلم.

ثمّ استدلّ على صحّة الثاني : بأنّ النهي لا يتعلّق به حكم في حقّ المنهي إلّا بعد حصول العلم به ، ولهذا لمّا بلغ أهل قبا أنّ القبلة قد حُوّلت إلى الكعبة وهُمْ في الصلاة داروا وبنوا على صلاتهم ، ولم يؤمروا بالإعادة.

قال : وهذا القول أقوى(٢) .

وقال في النهاية : ومَنْ وكّل وكيلاً وأشهد على وكالته ثمّ أراد عزله ، فليشهد على عزله علانيةً بمحضرٍ من الوكيل ، أو يُعلمه ذلك ، كما أشهد على وكالته ، فإذا أعلمه عَزْلَه أو أشهد على عزله إذا لم يمكنه إعلامه ، فقد انعزل الوكيل عن وكالته ، فكلّ أمر ينفذه بعد ذلك كان باطلاً ، ولا يلزم الموكِّل منه قليل ولا كثير. وإن عزله ولم يُشهد على عزله أو لم يُعلمه ذلك مع إمكان ذلك ، لم ينعزل الوكيل ، وكلّ أمرٍ ينفذه بعد ذلك يكون ماضياً‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ٣٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٣ ، النتف ٢ : ٦٠٣ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٤٢ - ٣٤٣ ، المسألة ٣ من كتاب الوكالة.

١٥٢

على موكّله إلى أن يعلم بعزله(١) .

وقال أبو حنيفة : الوكيل إذا عزل نفسه ، لم ينعزل إلّا بحضرة الموكّل. وأمّا الموكِّل إذا عزله فإنّه لا ينعزل قبل علمه ، فإن بلغه العزل من رجلٍ ثقةٍ أو امرأةٍ ، انعزل. وإن بلغه من فاسقٍ ، لم ينعزل ؛ لأنّ الوكيل يتصرّف بإذن الموكّل وأمره ، فلا يصحّ أن يردّ أمره بغير حضوره ، كالمودع. وكذلك الأمر الشرعي لا يثبت وقوعه في حقّ المأمور قبل علمه ، كالفسخ في حقّ المأمورين قبل علمهم ، وكذا القاضي لا ينعزل ما لم يبلغه الخبر ، ولأنّ تنفيذ العزل قبل بلوغ الخبر إليه يُسقط الثقة بتصرّفه(٢) .

وللشافعي قولان :

أحدهما : إنّه لا ينعزل بالعزل.

وأصحّهما : الانعزال ؛ لأنّه رَفْع عقدٍ لا يحتاج فيه إلى الرضا ، فلا يحتاج إلى العلم ، كالطلاق ، ولأنّه لو جنّ الموكّل أو مات انعزل الوكيل وإن لم يبلغه الخبر(٣) .

وكذا لو وكّله ببيع عبدٍ أو إعتاقه ثمّ باعه أو أعتقه الموكّل ، نفذ تصرّفه ، وانعزل الوكيل وإن لم يشعر بالحال ضِمناً ، وإذا لم يعتبر بلوغ‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٨.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٣٧ ، النتف ٢ : ٦٠٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٤ و ١٥٦ ، البيان ٦ : ٤٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤ ، المغني ٥ : ٢٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٨ / ١٠٣٢ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٨٦ - ١٦٨٧ / ١١٨٨ و ١١٨٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٦ و ١٥٧ ، الوجيز ١ : ١٩٣ ، الوسيط ٣ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٣ ، البيان ٦ : ٤٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨ ، منهاج الطالبين : ١٣٧.

١٥٣

الخبر في العزل الضم ني ، ففي صريح العزل أولى. ولأنّه رَفْعُ عقدٍ ، فلا يفتقر إلى حضور مَنْ لا يفتقر إلى رضاه ، كالنكاح.

وإن علّلتَ بعزل الموكّل ، قلتُ : فِلمَ يفتقر إلى علم مَنْ لا يفتقر إلى حضوره؟

وأمّا الوديعة : فمن الشافعيّة مَنْ يقول : لا تنفسخ إلّا بالردّ ؛ لأنّ الأمانة باقية ما لم تُردّ أو يُتعدّى ، فإذَنْ لم يقف على العلم.

ومنهم مَنْ يقول : إنّها تنفسخ إذا علم أنّ الوديعة ليس فيها إلّا الاستئمان والاستحفاظ ، وإنّما يلزمه الردّ إذا علم ، وليس كذلك في مسألتنا ؛ فإنّ فيه تصرّفاً بالرجوع ليمنع صحّة التصرّف ، فلهذا أراد الرجوع من غير علم الوكيل. وأمّا النسخ : ففيه لهم وجهان ، على أنّهما يفترقان ؛ لأنّ أمر الشريعة يتضمّن تركه المعصية ، فلا يجوز أن يكون عاصياً من غير علمه ، وهنا يتضمّن إبطال التصرّف ، وهذا لا يمنع منه عدم العلم.

وأيضاً لا فرق بين النسخ وما نحن فيه ؛ لأنّ حكم النسخ إمّا إيجاب امتثال الأمر الثاني ، وإمّا إخراج الأوّل عن الاعتداد به ، فما يرجع إلى الإيجاب والإلزام لا يثبت قبل العلم ؛ لاستحالة التكليف بغير المعلوم ، وهذا النوع لا يثبت في الوكالة أصلاً ورأساً ؛ لأنّ أمر الموكّل غير واجب الامتثال. وأمّا النوع الثاني فهو ثابت هناك أيضاً قبل العلم حتى يلزمه القضاء ، ولا تبرأ ذمّته بالأوّل(١) .

وأمّا انعزال القاضي : فمنهم مَنْ طرّد الخلاف فيه. وعلى التسليم - وهو الظاهر من مذهبهم - فالفرق : تعلّق المصالح الكلّيّة بعمله(٢) .

____________________

(١) راجع : بحر المذهب ٨ : ١٥٧ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤.

١٥٤

وعن أحمد روايتان (١) ، كقولَي الشافعي ، وكذا عن أصحاب مالك قولان(٢) .

والشيخرحمه‌الله استدلّ على عدم العزل قبل العلم : بما رواه جابر بن يزيد ومعاوية بن وهب عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأُمور فالوكالة ثابتة أبداً حتى يُعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها »(٣) .

وفي طريقها عمرو بن شمر ، وهو ضعيف.

وفي الصحيح عن هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام : عن رجلٍ وكّل آخَر على وكالة في إمضاء أمرٍ من الأُمور وأَشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر ، فقال : اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة ، فقال : « إن كان الوكيل قد أمضى الأمر الذي وُكّل عليه قبل أن يعزل عن الوكالة فإنّ الأمر واقع ماضٍ على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكّل أم رضي » قلت : فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عُزل عن الوكالة فالأمر ماضٍ على ما أمضاه؟ قال : « نعم » قلت له : فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي‌ء؟ قال : « نعم ، إنّ الوكيل إذا وُكّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً ، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة أو يشافهه بالعزل عن الوكالة »(٤) .

وعن العلاء بن سيابة عن الصادقعليه‌السلام في حديثٍ : « إنّ عليّاًعليه‌السلام أتته امرأة مستعدية على أخيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين وكّلتُ أخي هذا‌ بأن يزوّجني رجلاً فأشهدت له ثمّ عزلته من ساعته تلك ، فذهب وزوّجني

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٢١٣ / ٥٠٢.

(٤) التهذيب ٦ : ٢١٣ / ٥٠٣.

١٥٥

ولي بيّنة إنّي قد ع زلته قبل أن يزوّجني ، فأقامت البيّنة ، وقال الأخ : يا أمير المؤمنين إنّها وكّلتْني ولم تُعلِمْني بأنّها عزلتْني عن الوكالة حتى زوّجتها كما أمرَتْني ، فقال لها : ما تقولين؟ فقالت : قد أعلمتُه يا أمير المؤمنين ، فقال لها : لكِ بيّنة بذلك؟ فقالت : هؤلاء شهودي يشهدون بأنّي قد عزلتُه ، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : كيف تشهدون؟ قالوا : نشهد أنّها قالت : اشهدوا أنّي قد عزلتُ أخي فلاناً عن الوكالة بتزويجي فلاناً ، وأنّي مالكة لأمري من قبل أن يزوّجني فلاناً ، فقال : أشهدَتْكم على ذلك بعلمٍ منه ومحضر؟ قالوا : لا ، قال : أفتشهدون أنّها أعلَمَتْه العزل كما أعلَمَتْه الوكالة؟ قالوا : لا ، قال : أرى الوكالة ثابتة والنكاح واقع ، أين الزوج؟ فجاء فقال خُذْ بيدها بارك الله لك فيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين احلفه أنّي لم أُعلِمْه العزل وأنّه لم يعلم بعزلي إيّاه قبل النكاح ، قال : وتحلف؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فحلف وأثبت وكالته وأجاز النكاح »(١) .

وهذه الرواية تدلّ على أنّه لا عبرة بالشهادة وقول العزل إن لم يعلم الوكيل ، ولا بأس به عندي.

تذنيب : إذا قلنا بعدم العزل قبل بلوغ الخبر إليه ، فالمعتبر إخبار مَنْ يُقبل قوله من شهود العدالة ، دون الصبي والفاسق. فإذا قلنا بالانعزال ، فينبغي أن يشهد الموكّل على العزل ؛ لأنّ قوله بعد تصرّف الوكيل : « كنتُ قد عزلتُه » غير مقبولٍ.

مسألة ٧٥٨ : إذا قال الوكيل : عزلتُ نفسي ، أو : أخرجتُها عن الوكالة ، أو : رددت الوكالة ، انعزل.

وقال بعض الشافعيّة : إن كانت صيغة الموكّل « بِع » و« اعتق » ونحوهما‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٤ - ٢١٥ / ٥٠٦.

١٥٦

من صِيَغ الأمر ، لم ينعزل بردّ الوكالة وعَزْله نفسَه ؛ لأنّ ذلك إذن وإباحة ، فأشبه ما إذا أباح الطعام لغيره ، لا يرتدّ بردّ المباح له(١) .

ولا يُشترط في انعزال الوكيل بعزله نفسَه حضورُ الموكّل ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقال أبو حنيفة : يُشترط حضور الموكّل ، فإن عزل نفسه بغير حضور الموكّل ، لم ينعزل(٣) . وقد سبق(٤) .

إذا عرفت هذا ، فإن عزل نفسه ثمّ تصرّف ، كان فضوليّاً ، سواء كان الموكّل حاضراً أو غائباً.

ويحتمل مع الغيبة الصحّة ؛ عملاً بالإذن العامّ الذي تضمّنته الوكالة.

وكذا مع الحضور وعدم الرضا بعزله.

مسألة ٧٥٩ : متى خرج الوكيل أو الموكّل عن أهليّة التصرّف بموتٍ أو جنونٍ أو إغماءٍ ، بطلت الوكالة ، سواء كان العارض للوكيل أو للموكّل.

وفي الجنون إذا كان ممّا يطرأ ويزول على قُربٍ لبعض الشافعيّة تردّد.

وموضع التردّد ما إذا كان امتداده بحيث لا تعطل المهمّات ويحوج إلى نصب قُوّامٍ ، فيلتحق حينئذٍ بالإغماء في وجهٍ(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٤ - ٢٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٨٦ - ١٦٨٧ / ١١٨٨.

(٣) عيون المجالس ٤ : ١٦٨٧ / ١١٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٥ ، المغني ٥ : ٢٤٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٨.

(٤) في ص ١٥٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٨ - ٥٥٩.

١٥٧

وفي الإغماء لهم وجه ان :

أظهرهما عندهم : إنّه كالجنون في اقتضاء الانعزال.

والثاني - وهو الأظهر عند الجويني - : إنّه لا يقتضي الانعزال ؛ لأنّ المغمى عليه لا يلتحق بمن يُولّى عليه ، والمعتبر في الانعزال التحاق الوكيل أو الموكّل بمن يولّى عليه(١) .

مسألة ٧٦٠ : والمحجور عليه لسفهٍ أو فلسٍ في كلّ تصرّفٍ لا ينفذ من السفيه والمفلس كالمجنون ؛ لأنّه لا يملك التصرّف ، فلا يملكه غيره من جهته.

ولا فرق في ذلك بين أن يحجر عليه قبل التوكيل أو بعده ، فإن سبقت الوكالة الحجر ، بطلت. وكذا إن كان الحجر سابقاً ، لم تقع صحيحةً.

ولو وكّل أحدهما فيما لَه التصرّف فيه ، صحّ ؛ لأنّه مكلَّف ، ولم يخرج عن أهليّة التصرّف فيه.

ولو تجدّد الرقّ بأن كان حربيّاً فاستُرقّ ، بطلت وكالته السابقة إن كان هو الموكّل ، فلو كان هو الوكيلَ ، كان بمنزلة توكيل عبد الغير يشترط رضا المولى إن منعت الوكالة شيئاً من حقوقه.

ولو حُجر على الوكيل لفلسٍ ، لم تبطل الوكالة ، سواء تعلّقت بأعيان الأموال أو لا ؛ لأنّه بفقره لم يخرج عن أهليّة التصرّف.

ولو حُجر على الموكّل وكانت الوكالة في أعيان ماله ، بطلت ؛ لانقطاع تصرّفه في أعيان أمواله. وإن كانت في الخصومة أو الشراء في الذمّة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص ، فالوكالة بحالها ؛ لأنّ الموكّل أهلٌ لذلك‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٩.

١٥٨

مباشرةً ، فله أن يس تنيب فيه ابتداءً ؛ للأصل السالم عن المعارض ، ولا تنقطع الاستدامة.

مسألة ٧٦١ : لو فسق الوكيل ، لم ينعزل عن الوكالة إجماعاً ؛ لأنّه من أهل التصرّف ، إلّا أن تكون الوكالة [ فيما ينافيه ](١) الفسق ، كالإيجاب في عقد النكاح عند العامّة ، فإنّه ينعزل عندهم بمجرّد فسقه أو فسق موكّله ؛ لخروجه عن أهليّة التصرّف فيه عندهم(٢) .

وعندنا لا يخرج بالفسق أيضاً ؛ إذ لا تُشترط العدالة في وليّ النكاح.

وأمّا في القبول : فلو فسق الموكّل فيه ، لم ينعزل وكيله بفسقه ؛ لأنّه لا ينافي جواز قبوله.

وهل ينعزل الوكيل بفسق نفسه؟ فيه للعامّة وجهان(٣) .

ولو كان وكيلاً فيما تُشترط فيه الأمانة - كوكيل وليّ اليتيم ووليّ الوقف على المساكين ونحوه - انعزل بفسقه وفسق موكّله ؛ لخروجهما بذلك عن أهليّة التصرّف.

وإن كان وكيلاً لوكيل مَنْ يتصرّف في مال نفسه ، انعزل بفسقه ؛ لأنّه ليس للوكيل أن يوكّل فاسقاً. ولا ينعزل بفسق موكّله ؛ لأنّه وكيل لربّ المال ، ولا ينافيه الفسق.

ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر ؛ لأنّ [ هذين عذران يمكن زوالهما بسهولة وسرعة ، ولا تثبت عليه ولاية ، ولا يخرج بهما ](٤) عن أهليّة‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّية والحجريّة : « ممّا تنافي ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٢ و ٣) المغني ٥ : ٢٤٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٣.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هذه أعذار زوالها لا يخرج بها ». والمثبت هو الصحيح.

١٥٩

التصرّف ، إلّا أن [ يحصل ](١) الفسق بالسكر ، فتبطل فيما شُرط فيه العدالة.

مسألة ٧٦٢ : إذا فَعَل الموكّل متعلَّقَ الوكالة ، أو تلف المتعلَّق ، بطلت الوكالة ، كما لو وكّل غيره في بيع عبدٍ ثمّ باعه الموكّل ، أو مات العبد ، بطلت الوكالة ؛ إذ لا متعلَّق لها حينئذٍ ، وقد ذهب محلّها.

هذا إذا باعه الموكّل بيعاً صحيحاً ، ولو باعه بيعاً فاسداً ، احتُمل البطلان أيضاً ؛ إذ شروعه في البيع رغبة عن الوكالة.

وقال ابن المنذر : لا تبطل الوكالة ؛ لبقاء ملكه في العبد(٢) .

ولو دفع إليه ديناراً ووكّله في الشراء بعينه ، فهلك أو ضاع أو استقرضه الوكيل وتصرّف فيه ، بطلت الوكالة أيضاً.

ولو وكّله في الشراء مطلقاً ونقد الدينار عن الثمن ، بطلت أيضاً إذا تلف ذلك الدينار ؛ لأنّه إنّما وكّله في الشراء ، ومعناه أن ينقد ثمن ذلك المبيع إمّا قبل الشراء أو بعده ، وقد تعذّر ذلك بتلفه. ولأنّه لو صحّ شراؤه للزم الموكّل ثمن لم يلزمه ولا رضي بلزومه.

وإذا استقرضه الوكيل ثمّ عزل ديناراً عوضه واشترى به ، فهو كالشراء له من غير إذنٍ ؛ لأنّ الوكالة بطلت ، والدينار الذي عزله عوضاً لا يصير للموكّل حتى يقبضه ، فإذا اشترى للموكّل ، وقف على إجازته ، فإن أجازه صحّ ، ولزم الثمن ، وإلّا لزم الوكيل ، إلّا أن يُسمّيه في العقد.

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يجعل ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٧٣ / ١٩٠٠ ، المغني ٥ : ٢٤٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501