تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179839 / تحميل: 5849
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المكاتَب يتصرّف في بيعه وشرائه بنفسه ، فصحّ أن يوكّل فيه.

وأمّا المرأة فعندنا يصحّ أن توكّل في النكاح ، خلافاً للشافعيّة(١) .

وكذا يصحّ عندنا توكيل الفاسق في تزويج ابنته - خلافاً للشافعيّة في أحد القولين(٢) - لأنّ الفاسق عندنا له ولاية النكاح.

ولا يصحّ توكيل السكران كسائر تصرّفاته ، عندنا.

مسألة ٦٥٥ : شرطنا في الموكّل أن يكون متمكّناً من المباشرة إمّا بحقّ الملك أو الولاية ليدخل فيه توكيل الأب أو الجدّ له في النكاح والمال. ويخرج عنه توكيل الوكيل ، فإنّه ليس بمالكٍ ولا وليّ ، وإنّما يتصرّف بالإذن.

نعم ، لو مكّنه الموكّل من التوكيل لفظاً أو دلّت عليه قرينة ، نفذ.

والعبد المأذون ليس له أن يوكّل فيما أذن له مولاه فيه ؛ لأنّه إنّما يتصرّف بالإذن.

وكذا العامل في المضاربة إنّما يتصرّف عن الإذن لا بحقّ الملك ولا الولاية.

وفي توكيل الأخ والعمّ ومَنْ لا يجبر في النكاح للشافعيّة وجهان يعودان في النكاح ؛ لأنّه من حيث إنّه لا يعزل كالوليّ ، ومن حيث إنّه لا يستقلّ كالوكيل(٣) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥٠٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، الوجيز ١ : ١٨٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢ ، منهاج الطالبين : ١٣٤ ، المغني ٧ : ٣٣٧.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٥٠٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، و ٢ : ٣٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٥ : ١١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١١ ، البيان ٦ : ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، البيان ٦ : ٣٦٠ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٦ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٠.

٢١

وعندنا لا ولاية له ، ولا مدخل له في النكاح أ لبتّة ، فلا يصحّ له أن يوكّل فيه.

وللمحجور عليه بالفلس أو السفه أو الرقّ أن يوكّلوا فيما لهم الاستقلال [ به ](١) من التصرّفات ، فيصحّ من العبد أن يوكّل فيما يملكه دون إذن سيّده ، كالطلاق والخُلْع.

وكذا المحجور عليه لسفهٍ لا يوكّل إلّا فيما لَه فعله ، كالطلاق والخُلْع وطلب القصاص.

والمفلس له التوكيل في الطلاق والخُلْع وطلب القصاص والتصرّف في نفسه ، فإنّه يملك ذلك ، وأمّا ماله فلا يملك التصرّف فيه.

وأمّا ما لا يستقلّ أحدهم بالتصرّف فيه فيجوز مع إذن الوليّ والمولى.

ومَنْ جوّز التوكيل بطلاق(٢) امرأة سينكحها وبيع(٣) عبد سيملكه فقياسه تجويز توكيل المحجور عليه بما سيأذن له فيه الوليّ(٤) .

وكلّ هذا عندنا باطل.

ومَنْ مَنَع من بيع الأعمى وشرائه من العامّة جوّز له أن يوكّل فيه ؛ للضرورة.

وإذا نفذ توكيل الوكيل ، فمنصوبه وكيل الموكّل أم وكيل الوكيل؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى.

فإذا جعلناه وكيلاً للوكيل ، لم يكن من شرط التوكيل كون الموكّل مالكاً للتصرّف بحقّ الملك أو الولاية.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) في « ج ، ر » : « في طلاق ».

(٣) الظاهر : « أو بيع ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٠ - ٥٣١.

٢٢

مسألة ٦٥٦ : الوكالة جائزة في كلّ ما يصحّ دخول النيابة فيه‌ من البيع والشراء والمحاكمة ومطالبة الحقوق ممّن هي عليه وإثباتها ، عند علمائنا كافّة مع حضور الموكّل وغيبته وصحّته ومرضه - وبه قال ابن أبي ليلى ومالك وأحمد والشافعي وأبو يوسف ومحمّد(١) - لأنّ الخصومة تصحّ فيها النيابة ، فكان له الاستنابة فيها من غير رضا خصمه لدفع المال الذي عليه إذا كان غائباً أو مريضاً. ولأنّ الخصومة حقّ تجوز النيابة فيه ، فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه ، كحالة غيبته أو مرضه.

ولأنّ الصحابة أجمعوا عليه ، فإنّ العامّة رووا أنّ عليّاًعليه‌السلام وكّل عقيلاً وقال : « ما قضي له فلي ، وما قضي عليه فعلَيَّ »(٢) ، ووكّل [ عبد الله ](٣) بن جعفر أيضاً وقال : « إنّ للخصومة قحماً ، وإنّ الشيطان ليحضرها ، وإنّي أكره أن أحضرها »(٤) . والقحم : المهالك. واشتهر ذلك بين الصحابة ، ولم ينكره أحد ، فكان إجماعاً.

____________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٧ / ١٠٣١ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠١ ، التلقين ٢ : ٤٤٥ - ٤٤٦ ، الذخيرة ٨ : ٦ و ٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٣٩٤ ، المعونة ٢ : ١٢٣٧ ، المغني ٥ : ٢٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٦ - ٢٠٧ ، التنبيه : ١٠٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٥ ، بحر المذهب ٨ : ١٤٩ و ١٥٣ ، الوسيط ٣ : ٢٧٨ ، الوجيز ١ : ١٨٨ ، البيان ٦ : ٣٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٣ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٧ / ١٧٤١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٥ ، المغني ٥ : ٢٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٨١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عبد الرحمن ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصادر.

(٤) نفس المصادر في الهامش (٢)

٢٣

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « مَنْ وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأُمور فالوكالة ثابتة أبداً حتى يُعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها »(١) وهو من ألفاظ العموم.

وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من مخاصمة الوكيل ومحاكمته إذا كان الموكّل حاضراً ؛ لأنّ حضوره مجلسَ الحكم ومخاصمته حقٌّ لخصمه عليه ، فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه ، كالدَّيْن يكون عليه(٢) .

والفرق : إنّ الحوالة إسقاط الحقّ عن ذمّته ، فلا يملكه ، وهنا الوكالة نيابة عنه ، فهو بمنزلة توكيله في تسليم الحقّ الذي عليه. ولأنّ الحاجة قد تدعو إلى التوكيل ، فإنّه قد لا يُحسن الخصومة ، أو [ يترفّع ](٣) عنها ، فإنّه يكره للإنسان أن يباشر الخصومة بنفسه ، بل ينبغي لذوي المروءات وأهل المناصب الجليلة التوكيل في محاكماتهم إذا احتاجوا إليها.

مسألة ٦٥٧ : ولا فرق في ذلك بين الطلاق وغيره عند أكثر علمائنا(٤) . وللشيخرحمه‌الله قولٌ : إنّه إذا وكّل الإنسان غيره في أن يطلّق عنه امرأته وكان غائباً ، جاز طلاق الوكيل ، وإن كان شاهداً لم يجز طلاق الوكيل(٥) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٧ ، الهامش (٢)

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٣٦ - ١٣٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٧ / ١٧٤١ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٣ ، الوسيط ٣ : ٢٧٨ ، البيان ٦ : ٣٥٥ ، الذخيرة ٨ : ٨ ، المعونة ٢ : ١٢٣٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٧ / ١٠٣١ ، المغني ٥ : ٢٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٧.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يرتفع ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٤) منهم : ابن إدريس في السرائر ٢ : ٨٣ ، والمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ١٩٧ ، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٣١٩.

(٥) النهاية : ٣١٩.

٢٤

ولا وجه له ، والمعتمد : جواز طلاق الوكيل في حضرة الموكّل وغيبته.

وللفاسق أن يوكّل غيره في إيجاب العقد على ابنته وفي قبول النكاح عن ابنه.

وللشافعيّة فيهما وجهان(١) .

وبعض العامّة فرّق بين القبول عن ابنه والإيجاب عن ابنه والإيجاب عن ابنته ، فجوّز الأوّل ، ومَنَع الثاني(٢) .

وليس للكافر ولاية التزويج لابنته المسلمة ، فليس له أن يوكّل فيه ؛ لقوله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) .

وكذا ليس للمُحْرم أن يوكّل في شراء الصيد ولا في عقد النكاح إيجاباً وقبولاً.

مسألة ٦٥٨ : التوكيل على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يأذن الموكّل لوكيله في التوكيل ، فيجوز له أن يوكّل إجماعاً ؛ لأنّه عقد أذن له فيه ، فكان له فعله ، كالتصرّف المأذون فيه.

الثاني : أن ينهاه عن التوكيل ، فليس له أن يوكّل إجماعاً ؛ لأنّ ما نهاه عنه غير داخل في إذنه ، فلم يجز له فعله ، كما لو لم يوكّله.

الثالث : أطلق(٤) الوكالة. وأقسامه ثلاثة :

أحدها : أن يكون العمل ممّا يترفّع(٥) الوكيل عن مثله ، كالأعمال الدنيئة في حقّ أشراف الناس المترفّعين(٦) عن فعل مثلها في العادة ، كما‌ لو وكّله في البيع والشراء ، والوكيل ممّن لا يبتذل بالتصرّف في الأسواق ، أو

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، البيان ٦ : ٣٦٠ و ٣٦١.

(٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) النساء : ١٤١.

(٤) في « ج » : « إطلاق ».

(٥و٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يرتفع المرتفعين ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

٢٥

يعجز عن عمله ؛ لكونه لا يُحسنه ، فله التوكيل فيه ؛ لأنّ تفويض مثل هذا التصرّف إلى مثل هذا الشخص لا يقصد منه إلّا الاستنابة ، وهو قول علمائنا أجمع وأكثر الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه لا يوكّل ؛ لقصور اللفظ(٢) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ [ العمل ] إذا كان ممّا لا يعمله [ الوكيل ] عادةً(٣) انصرف الإذن إلى ما جرت العادة من الاستنابة فيه.

الثاني : أن يكون العمل ممّا لا يترفّع(٤) الوكيل عن مثله ، بل له عادة بمباشرته إلّا أنّه عملٌ كثير منتشر لا يقدر الوكيل على فعل جميعه فيباشره بنفسه ، ولا يمكنه الإتيان بالكلّ ؛ لكثرتها ، فعندنا يجوز له التوكيل ، ولا نعلم فيه مخالفاً.

وله أن يوكّل فيما يزيد على قدر الإمكان قطعاً ، وفي قدر الإمكان إشكال أقربه ذلك أيضاً ؛ لأنّ الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه ، فجازت في جميعه ، كما لو أذن له في التوكيل فيه بلفظٍ.

وللشافعيّة ثلاثة طرق :

أصحّها عندهم : إنّه يوكّل فيما يزيد على قدر الإمكان.

وفي قدر الإمكان وجهان :

أحدهما : يوكّل فيه أيضاً ؛ لأنّه ملك التوكيل في البعض ، فيوكّل في الكلّ ، كما لو أذن صريحاً.

____________________

(١و٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ١١٩ - ١٢٠ ، البيان ٦ : ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٤ ، منهاج الطالبين : ١٣٥.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّ الوكيل إذا كان ممّا لا يعمله عادةً ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا يرتفع ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

٢٦

وأصحّهما عندهم : أنّه لا يوكّل في القدر المقدور عليه ؛ لأنّه لا ضرورة إليه ، بل يوكّل في الزائد خاصّةً ؛ لأنّ التوكيل إنّما جاز لأجل الحاجة ، فاختصّ بما دعت إليه الحاجة ، بخلاف وجود إذنه فيه ؛ لأنّه مطلق.

والثاني : إنّه لا يوكّل في قدر الإمكان ، وفيما يزيد عليه وجهان.

والثالث : إطلاق الوجهين في الكلّ(١) .

قال الجويني : والخلاف على اختلاف الطرق نظراً إلى اللفظ أو(٢) القرينة ، وفي القرينة تردّد في التعميم والتخصيص(٣) .

الثالث : ما عدا هذين القسمين ، وهو ما أمكنه فعله بنفسه ولا يترفّع عنه ، فقد قلنا : إنّه لا يجوز له أن يوكّل فيه إلّا بإذن الموكّل ؛ لأنّه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمّنه إذنه ، فلم يجز ، كما لو نهاه. ولأنّ التوكيل استئمان ، فإذا استأمنه(٤) فيما يمكنه النهوض به ، لم يكن له أن يولّيه مَنْ لم يأتمنه عليه ، كالوديعة ، وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.

وقال في الأُخرى : يجوز له أن يوكّل - وبه قال ابن أبي ليلى إذا مرض أو غاب - لأنّ الوكيل له أن يتصرّف بنفسه ، فملكه نيابةً للموكّل(٥) .

[ و ] الأوّل أولى. ولا يشبه الوكيل المالك ، فإنّ المالك يتصرّف في‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٤.

(٢) في « ث ، خ » : « و» بدل « أو ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « استئمار استأمره ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٥) الفقه النافع ٣ : ١٢٤٠ / ٩٩٥ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٦ ، البيان ٦ : ٣٦٨ ، المغني ٥ : ٢١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١٠.

٢٧

ملكه كيف شاء ، بخلا ف الوكيل.

لا يقال : للوصي أن يوكّل وإن كان الموصي لم يأذن له في التوكيل.

لأنّا نقول : إنّ الوصي يتصرّف بولايةٍ ؛ لأنّه يتصرّف فيما لم ينص له على التصرّف فيه ، والوكيل لا يتصرّف إلّا فيما نصّ له عليه ، كذلك التوكيل. ولأنّ الوصي لا يملك أن يوصي إلى غيره ، كذا أيضاً الوكيل ينبغي أن لا يملك أن يوكّل غيره ، أمّا إذا أذن له الموكّل في التوكيل ، فإنّه يجوز له أن يوكّل ؛ لأنّ التوكيل عقد أُذن له فيه ، فكان كما لو أُذن له في البيع.

مسألة ٦٥٩ : إذا وكّله بتصرّفٍ وقال له : افعل ما شئت ، لم يقتض ذلك الإذنَ في التوكيل ؛ لأنّ التوكيل يقتضي تصرّفاً يتولّاه بنفسه ، وقوله : « اصنع ما شئت » لا يقتضي التوكيل ، بل يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرّفه بنفسه ، وهذا أصحّ قولَي الشافعيّة.

وفي الثاني : إنّه له التوكيل - وبه قال أحمد ، واختاره الشيخرحمه‌الله في الخلاف(١) - لأنّه أطلق الإذن بلفظٍ يقتضي العموم في جميع ما شاء ، فيدخل في عمومه التوكيل(٢) .

وهو ممنوع.

مسألة ٦٦٠ : كلّ وكيلٍ جاز له التوكيل فليس له أن يوكّل إلّا أمينا ؛ لأنّه لا نظر للموكّل في توكيل مَنْ ليس بأمين ، فيفيد جواز التوكيل فيما فيه الحظّ والنظر ، كما أنّ الإذن في البيع يفيد البيع بثمن المثل ، إلّا أن يعيّن له الموكّل مَنْ يوكّله ، فيجوز ، سواء كان أميناً أو لم يكن ؛ اقتصاراً على مَنْ نصّ عليه‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٣٤٣ ، المسألة ٨.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ١١٩ - ١٢٠ ، البيان ٦ : ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٧ ، المغني ٥ : ٢١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٩.

٢٨

المالك ، ولأنّ الما لك قطع نظره بتعيينه.

ولو وكّل أميناً فصار خائناً ، فعليه عزله ؛ لأنّ تركه يتصرّف في المال مع خيانته تضييعٌ وتفريطٌ على المالك ، والوكالة تقتضي استئمان أمين ، وهذا ليس بأمين ، فوجب عزله.

وللشافعيّة وجهان في أنّه هل له عزله؟(١) .

مسألة ٦٦١ : إذا أذن له أن يوكّل ، فأقسامه ثلاثة :

الأوّل : أن يقول له : وكِّل عن نفسك ، فَفَعَل ، كان الثاني وكيلاً للوكيل ينعزل بعزل الأوّل إيّاه‌ ؛ لأنّه نائبه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : لا ينعزل ؛ لأنّ التوكيل فيما يتعلّق بحقّ الموكّل حقٌّ للموكّل ، وإنّما حصّله بالإذن ، فلا يرفعه إلّا بالإذن(٢) .

ويجري هذا الخلاف في انعزاله بموت الأوّل وجنونه(٣) .

والأصحّ : الانعزال.

ولو عزل الموكّل الأوّلَ ، انعزل. وفي انعزال الثاني بانعزاله هذا الخلاف بين الشافعيّة(٤) .

ولو عزل الأوّل الثاني ، فالأقرب الانعزال ؛ لأنّه وكيله - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - كما ينعزل بموته وجنونه.

والثاني : لا ينعزل ؛ لأنّه ليس بوكيلٍ من جهته(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥١٨ - ٥١٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٨ ، بحر المذهب ٨ : ١٦٨ ، الوسيط ٣ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٥ : ١١٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٥ ، البيان ٦ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٥.

(٢ و ٣) بحر المذهب ٨ : ١٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٥.

(٥) بحر المذهب ٨ : ١٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٥.

٢٩

والأصل في ذلك أنّ ا لثاني وكيل الوكيل كما [ لو ](١) صرّح [ به ] ٢ في التوكيل ، أو وكيل الموكّل ، ومعنى كلامه : أقم غيرك مقام نفسك؟

والأصحّ أنّه وكيل الوكيل ، لكن إذا كان وكيل الوكيل ، كان فرعُ الفرع فرعَ أصل الأصل ، فينعزل بعزله.

الثاني : لو قال : وكِّل عنّي ، فوكَّل عن الموكّل ، فالثاني وكيلٌ للموكّل ، كما أنّ الأوّل وكيل الموكّل ، وليس لأحدهما عزل الآخَر ، ولا ينعزل أحدهما بموت الآخَر ولا جنونه ، وإنّما ينعزل أحدهما بعزل الموكّل ، فأيّهما عزل انعزل.

الثالث : لو قال : وكّلتُك بكذا وأذنتُ لك في توكيل مَنْ شئتَ ، أو : في أن توكّل وكيلا ، أو : في أن توكّل فلاناً ، ولم يقل : عنّي ، ولا عن نفسك ، بل أطلق ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّه كالصورة الأُولى - وهو أن يكون وكيلاً عن الوكيل - لأنّ المقصود من الإذن في التوكيل تسهيل الأمر على الوكيل.

وأصحّهما عندهم : إنّه كالصورة الثانية يكون وكيلاً عن الموكّل ؛ لأنّ التوكيل تصرّف يتولّاه بإذن الموكّل ، فيقع عنه(٣) .

وإذا جوّزنا للوكيل أن يوكّل في صورة سكوت الموكّل عنه ، فينبغي أن يوكّل عن موكّله.

ولو وكّله عن نفسه ، فللشافعيّة وجهان ؛ لأنّ القرينة المجوّزة للتوكيل كالإذن في مطلق التوكيل(٤) .

مسألة ٦٦٢ : يجوز للوصي أن يوكّل وإن لم يفوّض الموصي إليه‌

____________________

(١و٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣و٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤٥.

٣٠

ذلك بالنصوصيّة ؛ لأ نّه يتصرّف بالولاية ، كالأب والجدّ ، لكن لو منعه الموصي من التوكيل ، وجب أن يتولّى بنفسه ، وليس له أن يوكّل حينئذٍ ؛ لقوله تعالى :( فَمَنْ بَدَّلَهُ ) (١) الآية.

ويجوز للحاكم أن يوكّل عن السفهاء والمجانين والصبيان مَنْ يتولّى الحكومة عنهم ، ويستوفي حقوقهم ، ويبيع عنهم ويشتري لهم ، ولا نعلم فيه خلافاً.

البحث الثالث : في الوكيل

مسألة ٦٦٣ : كما يشترط في الموكّل التمكّن من مباشرة التصرّف للموكّل فيه بنفسه ، يشترط في الوكيل التمكّن من مباشرته بنفسه‌ ، وذلك بأن يكون صحيحَ العبارة فيه ، فلا يصحّ للصبي ولا للمجنون أن يكونا وكيلين في التصرّفات ، سواء كان الصبي مميّزاً ، أو لا ، وسواء بلغ عشر سنين أو خمسة أشبار ، أو لا ، وسواء كان في المعروف ، أو لا.

وعلى الرواية(٢) المسوّغة تصرّفاتِ الصبي إذا بلغ عشر سنين في المعروف والوصيّة يحتمل جواز وكالته فيما يملكه من ذلك.

لكنّ المعتمد الأوّل.

ولو جُنّ الوكيل أو الموكّل أو أُغمي على أحدهما ، بطلت الوكالة ؛ لخروجه حينئذٍ عن التكليف ، وسقوط اعتبار تصرّفه وعبارته في شي‌ء ألبتّة. وقد استثني في الصبي الإذن في الدخول إلى دار الغير والملك في إيصال الهديّة.

وفي اعتبار عبارته في هاتين الصورتين للشافعيّة وجهان ، فإن جاز‌

____________________

(١) البقرة : ١٨١.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٩ ، الهامش (٣)

٣١

فهو وكيل من جهة الآ ذن والـمُهْدي(١) .

وإذا(٢) قلنا : إنّ تجويزهما على سبيل التوكيل ، فلو أنّه وكّل غيره فيه ، فقياس الشافعيّة أنّه على الخلاف في أنّ الوكيل هل يوكّل؟ فإن جاز ، لزم أن يكون الصبي أهلاً للتوكيل أيضاً(٣) .

وقال أبو حنيفة وأحمد : يجوز أن يكون الصبيّ وكيلاً في البيع والشراء وغير ذلك من أنواع التصرّفات إذا كان يعقل ما يقول ، ولا يحتاج إلى إذن وليّه ؛ لأنّه يعقل ما يقول ، فجاز توكيله ، كالبالغ(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّه غير مكلّف ، فلا يصحّ تصرّفه ، كالمجنون.

والفرق بينه وبين البالغ ظاهرٌ ؛ فإنّ البالغ مكلّف ، بخلافه.

إذا عرفت هذا ، فيستحبّ أن يكون الوكيل تامَّ البصيرة فيما وكّل فيه ، عارفاً باللغة التي يحاور بها.

مسألة ٦٦٤ : يجوز للمرأة أن تتوكّل في عقد النكاح إيجاباً وقبولاً عندنا ؛ لأنّ عبارتها في النكاح معتبرة ، بخلاف الـمُحْرم ، فإنّه لا يجوز أن يتوكّل فيه إيجاباً ولا قبولاً ، وبه قال أبو حنيفة(٥) .

وقال الشافعي : لا يجوز للمرأة أن تكون وكيلةً في النكاح إيجاباً ولا قبولاً ، كالـمُحْرم ؛ لأنّهما مسلوبا العبارة في النكاح ، فلا يتوكّلان فيه كما لا يوكّلان(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٢) في « ث » : « فإن ». وفي « خ » والطبعة الحجريّة : « فإذا » بدل « وإذا ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٤) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٧٠ / ١٧٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ ، المغني ٥ : ٢٠٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٤.

(٥) الوجيز ١ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، الوجيز ١ : ١٨٩ ، حلية =

٣٢

ونحن نمنع ذلك في ال نكاح على ما يأتي.

ويجوز توكيل المطلّقة الرجعيّة في رجعة نفسها وتوكيل امرأةٍ أُخرى ، خلافاً للشافعيّة ؛ لأنّ الفرج - عندهم - لا يستباح بقول النساء ، ومنعوا من توكيل المرأة في الاختيار للنكاح إذا أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة(١) .

وكلّ هذا عندنا جائز.

وكذا يجوز توكيل المرأة في الاختيار للفراق لما زاد على أربع.

وللشافعيّة وجهان ، أحدهما : المنع ؛ لأنّه يتضمّن اختيار الأربع للنكاح(٢) .

مسألة ٦٦٥ : يجوز تعدّد الوكيل في الشي‌ء الواحد ، ووحدته‌ ، ولا نعلم فيه خلافاً ، فإذا وكّل اثنين في تصرّفٍ بأن جَعَل لكلّ واحدٍ منهما الانفراد بالتصرّف ، فله ذلك ؛ لأنّه مأذون له فيه. وإن منعه من الانفراد ، لم يكن له التفرّد. وإن أطلق ، فكذلك لا ينفرد أحدهما ؛ لأنّه لم يأذن له في ذلك ، وإنّما يتصرّف فيما أذن له فيه موكّلُه ، وبه قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٣) .

مسألة ٦٦٦ : يجوز أن يتوكّل العبد في الشراء لنفسه أو لغيره.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

____________________

= العلماء ٦ : ٣٢٣ ، البيان ٦ : ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢ ، منهاج الطالبين : ٢٠٦.

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١٥ ، البيان ٦ : ٣٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥١ ، المغني ٥ : ٢١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٠ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣١ ، بدائع الصنائع ٦ : ٣٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٤٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٣.

(٤) الوسيط ٣ : ٢٨٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٢٩ ، البيان ٦ : ٣٧٦ ، العزيز شرح الوجيز =

٣٣

وفي توكّله في قبول النكاح بغير إذن السيّد وجهان :

أحدهما : المنع ، كما لا يقبل لنفسه بغير إذن السيّد.

وأصحّهما عندهم : الجواز(١) .

والحقّ ذلك إن لم يمنع شيئاً من حقوق السيّد ، وإنّما لم يجز قبوله لنفسه ؛ لما يتعلّق به من المهر ومُؤن النكاح.

وكذا يصحّ أن يتوكّل في طرف الإيجاب لصحّة عبارته ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : المنع ؛ لأنّه لا يزوّج ابنته فأولى أن لا يزوّج بنت غيره(٢) .

والفرق : إنّه إنّما لم يَلِ أمر ابنته ؛ لأنّه لا يتفرّغ للبحث والنظر ، وهنا قد تمّ البحث والنظر من جهة الموكّل.

ويوكّل المحجور عليه بالسفه في [ طرفي ](٣) النكاح ، كتوكيل العبد ، وتوكيل الفاسق في إيجاب النكاح إذا سلبنا الولاية بالفسق ، ونحن لا نسلبه الولاية.

ولا خلاف في جواز قبوله بالوكالة.

والمحجور عليه بالفلس يتوكّل فيما لا يلزم ذمّته عُهْدة ، وكذا فيما‌

____________________

= ٤ : ٣٧٤ ، و ٥ : ٢١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٣٠ و ٥٣٢ ، المغني ٥ : ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١١ - ٢١٢.

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٨٢ ، حلية العلماء ٥ : ١١٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢١١ ، البيان ٦ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٧ - ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « طريق ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٤

يلزم على أصحّ وجهي الشافعيّة ، كما يصحّ شراؤه على الصحيح(١) .

ويجوز توكّل المرأة في طلاق زوجة الغير - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) - كما يجوز أن يفوّض الزوج طلاق زوجته إليها ، ويوكّلها في طلاق نفسها.

مسألة ٦٦٧ : كلّ مَنْ لا يملك التصرّف في شي‌ء لنفسه لا يصحّ أن يتوكّل فيه‌ ، كالكافر في تزويج مسلمةٍ ، والمـُحْرم في شراء صيدٍ ، والطفل والمجنون في الحقوق كلّها.

وللمكاتَب أن يتوكّل بجُعْلٍ ؛ لأنّه من اكتسابه للمال وإن لم يأذن له مولاه ؛ لأنّه ليس له منعه من الاكتساب بأنواع وجوهه.

وأمّا بغير جُعْلٍ فإن لم يمنع شيئاً من حقوق السيّد ، فالأقرب : الجواز ، كما قلناه في العبد ، وإلّا افتقر إلى إذن السيّد ؛ لأنّ منافعه كأعيان ماله ، وليس له بذل عين ماله بغير عوضٍ ، فكذا منافعه.

وليس للعبد المأذون له في التجارة التوكّل في شي‌ء يمنع بعض حقوق سيّده بغير إذنه ؛ لأنّ الإذن في التجارة لا يتناول التوكّل.

مسألة ٦٦٨ : مدار الوكالة بالنسبة إلى الإسلام والكفر على ثمان مسائل تبطل فيها وكالة الذمّيّ على المسلم ، وهي صورتان : أن يتوكّل الذمّيّ للمسلم على المسلم ، أو للكافر على المسلم ، عند علمائنا أجمع ؛ لقوله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) .

____________________

(١) البيان ٦ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٣.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، البيان ٦ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٣.

(٣) النساء : ١٤١.

٣٥

ويكره أن يتوكّل الم سلم للذمّي ، عند علمائنا أجمع. ولم يذكر ذلك أحد من العامّة ، بل أطلقوا القول بأنّ المسلم إذا وكّل ذمّيّاً أو مستأمناً أو مرتدّاً أو حربيّاً ، صحّ التوكيل فيما يصحّ تصرّف الكافر فيه ؛ لأنّ العدالة غير مشروطة فيه ، فكذلك الدين ، كالبيع(١) .

ولأنّ كلّ ما صحّ أن يتصرّف فيه لنفسه ودخلته النيابة ولم يشترط فيه العدالة ، لم يعتبر فيه الدين ، كما لو كان الوكيل فاسقاً ، فإنّه يجوز.

فإن وكّل الكافر مسلماً ، جاز ، وكان أولى.

وإن وكّل المسلم مرتدّاً ، جاز ؛ لأنّ ردّته لا تؤثّر في تصرّفه ، وإنّما تؤثّر في ماله.

مسألة ٦٦٩ : لو وكّل المسلم مسلماً ثمّ ارتدّ الوكيل ، لم تبطل وكالته ، سواء لحق بدار الحرب أو لا ؛ لأنّه يصحّ تصرّفه لنفسه ، فلم تبطل وكالته ، كما لو لم يلحق بدار الحرب. ولأنّ الردّة لا تمنع ابتداء وكالته ، فلم تمنع استدامتها ، كسائر الكفر.

وقال أبو حنيفة : إن لحق بدار الحرب ، بطلت وكالته ؛ لأنّه صار منهم(٢) .

ولا دلالة فيه ؛ لجواز أن يكون الوكيل حربيّاً.

ولو ارتدّ الموكّل ، لم تبطل الوكالة فيما له التصرّف فيه ، وتبطل فيما ليس للمرتدّ التصرّف فيه.

وللشافعي أقوال ثلاثة ، إن قلنا : يزول ملكه أو قلنا : لا يزول ولكن‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٢٤٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٢١٥.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣٦ ، بدائع الصنائع ٦ : ٣٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٦٤ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١١ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٤١ / ٩٩٦.

٣٦

لا يصحّ تصرّفه ، لم تصح وكالته فيه. وإن قلنا ببقاء ملكه وتصرّفه فيه نافذ ، صحّ أن يوكّل فيه ، وإن قلنا : إنّه موقوف ، فالوكالة موقوفة(١) .

ولو وكّل المرتدّ مسلماً في التصرّفات الماليّة ، يبنى على انقطاع ملكه وبقائه ، إن قطعناه لم تصح ، وإن أبقيناه صحّ. وإن قلنا : إنّه موقوف فكذلك التوكيل.

فلو وكّله مرتدّاً أو ارتدّ الوكيل ، لم يقدح في الوكالة ؛ لأنّ التردّد في تصرّفه لنفسه ، لا لغيره.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يبنى على أنّه [ هل ](٢) يصير محجوراً عليه؟ إن قلنا : نعم ، انعزل عن الوكالة ، وإلّا فلا(٣) .

البحث الرابع : فيما فيه التوكيل

والنظر في شرائطه ، وهي ثلاثة :

الأوّل : أن يكون مملوكاً للموكِّل.

الثاني : أن يكون قابلاً للنيابة.

الثالث : أن يكون ما به التوكيل معلوماً ولو إجمالاً.

النظر الأوّل : أن يكون مملوكاً للموكّل

يشترط فيما تتعلّق الوكالة به أن يكون مملوكاً للموكِّل ، فلو وكَّل غيره بطلاق زوجةٍ سينكحها [ أو بيع عبد ](٤) سيملكه ، أو إعتاق رقيق سيشتريه ،

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٣.

(٢) إضافة من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٣.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أو عبداً ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٧

أو قضاء دَيْنٍ يستد ينه ، أو تزويج امرأة إذا انقضت عدّتها أو طلّقها زوجها ، وما أشبه ذلك ، لم يصح ؛ لأنّ الموكّل لا يتمكّن من مباشرة ذلك بنفسه ، فلا تنتظم إنابة غيره فيه ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه صحيح ، ويكتفى بحصول الملك عند التصرّف ، فإنّه المقصود من التوكيل(١) .

وقال بعض الشافعيّة : الخلاف عائد إلى أنّ الاعتبار بحال التوكيل أم بحال التصرّف؟(٢) .

ولو وكّله في شراء عبدٍ وعتْقِه ، أو في تزويج امرأة وطلاقها ، أو في استدانة دَيْنٍ وقضائه ، صحّ ذلك كلّه ؛ لأنّ ذلك مملوك للموكِّل.

النظر الثاني : في قبول متعلّق الوكالة النيابة

مسألة ٦٧٠ : الضابط فيما تصحّ فيه النيابة وما لا تصحّ أن نقول : كلّ ما تعلّق غرض الشارع بإيقاعه من المكلّف مباشرةً ، لم تصح فيه الوكالة ، وأمّا ما لا يتعلّق غرض الشارع بحصوله من مكلّفٍ معيّن ، بل غرضه حصوله مطلقاً ، فإنّه تصحّ فيه الوكالة.

وذلك ؛ لأنّ التوكيل تفويض وإنابة ، فلا يصحّ فيما لا تدخله النيابة ، كالطهارة مع القدرة لا يصحّ التوكيل فيها ؛ لأنّ غرض الشارع تعلَّق بإيقاعها من المكلّف بها مباشرةً ، وهي عبادة محضة لا تتعلّق بالمال. ولأنّ محلّها متعيّن ، فلا ينوب غيره منابه.

نعم ، عند الضرورة تجوز الاستنابة في غَسْل الأعضاء ، والاستنابة في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٥.

٣٨

صبّ الماء على أعضائه ؛ لأنّ إيصال الماء إلى أعضائه واجب عليه ، فيجوز أن يستنيب فيه.

وتجوز الاستنابة في إزالة النجاسة عن بدنه وثوبه مع القدرة ، لا في النيّة ، حتى لو غسله ساهياً أو مجنوناً مع نيّة العاجز ، صحّ. ولو غسله ناوياً مع غفلة العاجز ، بطل.

وكذا الصلاة الواجبة لا تصحّ فيها النيابة ما دام حيّاً ، فإذا مات ، جازت الاستنابة فيها ، كالحجّ ، عند علمائنا.

وكذا الاستنابة في ركعتي الطواف إجماعاً ، وفي فعل الصلاة المنذورة عند أحمد في إحدى الروايتين(١) .

ومَنَع الجمهور من الاستنابة في الصلاة إلّا صلاة ركعتي الطواف(٢) .

وأمّا الصوم فلا يصحّ دخول النيابة فيه ما دام حيّاً ، فإذا مات صحّ أن يصوم عنه غيره بعوضٍ ومجّاناً.

وللشافعي قولان فيما لو مات فصام عنه وليُّه(٣) .

والاعتكاف لا تدخله النيابة بحال ، وبه قال الشافعي(٤) . وعن أحمد‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٨.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٣٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٣.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٧ ، التنبيه : ٦٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٩٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٠٨ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ١٨٠ - ١٨١ ، و ٤ : ٢١٠ ، الوسيط ٢ : ٥٥١ ، الوجيز ١ : ١٠٥ ، البيان ٦ : ٣٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٣ : ٢٣٧ ، و ٥ : ٢٠٦ ، روضة الطالبين ٢ : ٢٤٦ ، و ٣ : ٥٢٣ ، منهاج الطالبين : ٧٧ ، المجموع ٦ : ٣٦٨.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٣٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٣ : ٢٣٧ ، روضة الطالبين ٢ : ٢٤٦ ، المجموع ٦ : ٣٧٢.

٣٩

روايتان (١) .

وأمّا الزكاة فتجوز النيابة في أدائها ، فيؤدّيها عنه غيره.

وكذا كلّ ما يتعلّق(٢) بالمال من الصدقات الواجبة والمندوبة والخُمْس ، فإنّه يجوز التوكيل في قبض ذلك كلّه وتفريقه.

ويجوز للمُخرج التوكيل في إخراجها وتفريقها ودفعها إلى مستحقّها ، ويستنيب الفقراء والإمام أيضاً في تسلّمها(٣) من أربابها ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عُمّاله لقبض الصدقات وتفريقها ، وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن :

« أعلمهم أنّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردّ في فقرائهم فإن هُمْ أطاعوك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم ، واتّق دعوة المظلوم ، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب »(٤) .

وأمّا الحجّ فتجوز النيابة فيه إذا يئس المحجوج عنه من الحجّ بنفسه بزمانةٍ ، عند الشيخ(٥) رحمه‌الله وعند الشافعي وأكثر العامّة(٦) ، أو بموتٍ إجماعاً. وكذا العمرة وكثير من أفعال الحجّ ، كطواف النساء والرمي.

وكذا تجوز النيابة في ذبح الضحايا والهدايا ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أناب فيه.

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٠٧.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « تعلّق ».

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تسليمها ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٥٨ - ١٥٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٨ / ١٧٨٢ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٠٥ / ١٥٨٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٢١ / ٦٢٥ ، المغني ٥ : ٢٠٦ - ٢٠٧.

(٥) الخلاف ٢ : ٢٤٨ ، المسألة ٦.

(٦) الحاوي الكبير ٤ : ٨ ، و ٦ : ٤٩٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٠ ، الوسيط ٢ : ٥٩٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٤ - ٢٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٢٤٩ ، البيان ٦ : ٣٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٣ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٢ : ٢٨٧ - ٢٨٨ ، المجموع ٧ : ٩٤ و ١٠٠ ، المغني ٣ : ١٨١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الأهداف التربويّة في الإسلام

١٢١

١٢٢

الأهداف التربويّة في الإسلام

وردت الأهداف التربوية بأشكال متنوّعة في القرآن الكريم ونهج البلاغة، وكذلك في المصادر الإسلامية الموثوقة الأُخرى التي تكفّلت بنقل الأحاديث والأخبار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام . ونحن لا نستطيع أن ننقل جميع تلك الأهداف في هذا الكتاب، لذلك نضطرّ إلى انتقاء بعضها لنتحدث حول الأبعاد التربوية لكلّ منها.

عبادة الله هدف تربوي أساس

إنّ الهدف التربوي الأساس للرسالة الإسلامية هو عبادة الله وحده، قال تعالى:

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) ، (الذاريات: 56).

وعبادة الله - كما نعلم - تعني التسليم له، وطاعته. ومن يعبد الله، فإنّه يخضع له بكلّ وجوده، ويتحرّك في خطّ معرفته، جاء في سورة الفاتحة قوله تعالى:( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِين ) ، فالقول بأنّ الله وحده يستحقّ العبادة، وما على الإنسان إلاّ التسليم له، والاستعانة به فقط، يثير أشياء جوهرية أُخرى أيضاً.

ذكرنا - مراراً - بأنّ الله مَظهر الحكمة والعدل والإحسان والقدرة. ومن يعبد الله، ويسير على منهج التوحيد، فإنّه يساهم في تيارٍ، دعائمهُ: العقل، والمحبّة، والدعوة إلى العدالة، والتقوى، والإيثار، فعبادة الله - من جهة - تعني العيش الإيماني، والتحرك

١٢٣

في إطار التوحيد.

ومن يخضع لله الحكيم العادل الرحيم، ويقبل عبوديّته، فقد حكّم أسمى الدوافع الإنسانية في وجوده. ونحن نعلم بأنّ معرفة الله، وعبادته، والإيمان به هي الأهداف الجوهرية الأصلية للنظام العقائدي في الإسلام، والأهداف التربوية في الإسلام من نحو: التقوى، والدعوة إلى العدالة، وطلب العلم، وحب العقل، والإيثار، هي أسمى الأهداف التي لا تهيّئ مستلزمات تنمية الإنسان وكماله في حياته الشخصية فحسب، بل وتبعث على تنمية الحياة الجماعية أيضاً.

من جهة أُخرى، فإنّ معرفة الله وعبادته كيان راسخ لا يكفل تحرّك الإنسان المتواصل صوب التنمية والكمال فحسب، بل ويحول دون انحراف الفرد والجماعة بنحو يبعث على الإطمئنان.

إنّ من يرتبط بالله، فقد حرّر نفسه من الخسّة والدناءة، والظلم، والهوى والهوس أو النزوات الزائفة التافهة، والأنانية. ويسلِّم لله، فيعتق نفسه من رِبقة الطاغوت، ومسّ القوى الشيطانية الشريرة.

إنّ المحفّز لسلوك الشخص العارف بالله هو فقط التقرّب إلى الله، والسير على منهج التوحيد، لذلك فإنّ ما يقوم به، يقوم به خالصاً لوجه الله. وبما أنّ منهج الله - بنحو تام - يريد خير البشرية وصلاحها، لذلك فإنّ أعماله كفيلة بسعادته وسعادة الآخرين، يقول الإمام عليعليه‌السلام في خطبته حول خلق الكون:

«أوّل الدين معرفتهُ، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه...».

في ضوء ما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ عبادة الله تعني السير على منهج التوحيد، ذلك السير الأمين المتواصل نحو الأبدية، ذلك السير الذي يكفل تنمية الفرد والجماعة في جميع المراحل، ذلك السير الذي تُكتسح فيه كل ألوان الوضاعة والانحطاط، وتترسّخ فيه المُثُل والقيم الأساسية، ذلك السير الذي تتحقق فيه العدالة والإيثار في العلاقات

١٢٤

الإنسانية بنحو تام، ويذيق الإنسان طعم السعادة الأبدية ولقاء ربّه ومعبوده، قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الإنسان إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) ، (الإنشقاق: 6).

وفي هذا المجال، يذكر المرحوم آية الله المطهّري في الجزء الثاني من كتاب (النظرة الكونية التوحيدية) (ص22، ص23) نقاطاً رائعة أرى نقلها هنا مفيداً، يقول المرحوم المطهّري:

(إنّ النظرة الكونيّة التوحيدية مدعومة بقوّة المنطق والعلم والاستدلال، ففي كل ذرّة من ذرّات العالم دليل على وجود الله الحكيم، وكل ورقة من أوراق الأشجار دفتر في معرفة الله. وهذه النظرة تمنح الحياة معنىً وروحاً وهدفاً، لأنّها تجعل الإنسان في مسار من الكمال لا يتوقف عند حد معيّن أبداً، بل يسير قُدُماً نحو الأمام. ولهذه النظرة قوّة جذب.. وهي تهب الإنسان نشاطاً ودفئاً، وتعرض أهدافاً سامية مقدّسة، وتصنع من الأشخاص أُناساً مضحّين. وهذه النظرة الكونية هي النظرة الوحيدة التي يكون للالتزام، ومسؤولية الأشخاص بعضهم أمام بعض، مفهومهما ومعناهما في ظلّها. وكذلك فهي النظرة الوحيدة التي تنتشل الإنسان من التردّي في حضيض العبث والضياع والعدم).

التقوى

التقوى هدف تربوي جوهري. قال تعالى:( والعاقبة للتقوى ) . والتقوى تعني الحفظ والوقاية. وعندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الإنسان في المجال الأخلاقي والتربوي، فهي تعني: حفظه، والتحكّم بنفسه، وإدارة شؤونه، وجعل سلوكه وممارساته في المسار العقلي.

إنّ الهدف الأساس للتربية والتعليم هو تأهيل الإنسان ليكون مديراً لنفسه، ومسيطراً على نزواته وأهوائه النفسانية، ومبعداً عن نفسه كلّ ما هو غير منطقي وغير

١٢٥

عقلي، ومنجزاً ما يليق بإنسانيته.

نحن نعلم بأنّ الاستقلال لدى أفراد النوع الإنساني يشكّل أحد الأبعاد الأساسية للشخصيّة. ولابدّ أن يملك الإنسان ناصية الأُمور بيده شئنا أم أبينا، ينظّم برنامجاً لنفسه، ينجز أعماله في أوقات معيّنة، يختار لنفسه أصدقاء وزملاء صالحين، يجعل علاقاته مع الآخرين بشكل إنساني معقول، يتّخذ قراره بنفسه حول دراسته، يبادر إلى انتخاب المهنة التي يريدها، يدوّن لنفسه معايير في المجال الأخلاقي والاجتماعي، يحدّد هدفه في الحياة، يعيّن فلسفته ومنهجيّته، ينجز كلّ ما عليه من تكاليف في كلّ مرحلة من مراحل النمو، يتعلّم المهارات الأساسية في معاشرته للآخرين، يؤدّي دوره في الحياة رجلاً كان أو امرأة، وشاباً كان أو شابّة، وأخيراً يجدّ في سبيل رُقِيِّه وتكامله.

والآن يجب أن نلحظ أننا كيف يمكن أن نربّي الإنسان الذي يستطيع القيام بالأعمال المارّ ذكرها، وأعمال أُخرى، ضرورية، فهل هو ينجز أعماله شخصيّاً أم يتدخل الآخرون لإنجاز أعماله؟

متى يستطيع الإنسان أن يدير شؤونه شخصياً؟

هل يمكن أن يتمتع بالاستقلال بكلّ ما للكلمة من معنى؟

هل إنّ اضطلاعه بإدارة شؤونه شخصياً، يحظى بقبول والده ووالدته المربّين؟

كما ذكرنا فيما سبق، فإنّ الهدف الأساس للتربية والتعليم هو تربية وإعداد مثل هذه الشخصية، لكنْ يجب أن نلتفت إلى أنّ كثيراً من الأشخاص، سواء كانوا من بين الآباء والأُمّهات أو من بين المربّين والقادة والمسؤولين في المجتمع، لا يتركون الناس أحراراً في إدارة شؤونهم على الصعيد العملي، إذ يعتقد بعض الأشخاص بأنّه يجب إدارة شؤونهم على الصعيد العملي، إذ يعتقد بعض الأشخاص بأنّه يجب إدارة شؤون الناس وتوجيههم في كلّ مرحلة من مراحل النمو، وهم يرون بأنّ الناس أنفسهم غير كفوئين في إدارة شؤونهم بأنفسهم. لا يعتقد بعض المربّين أيضاً بأنّه يجب إدارة شؤون الطلاّب وتوجيههم.

ويتصوّر البعض بأنّ الإنسان في مرحلة الطفولة تدار شؤونه من قِبَل والديه،

١٢٦

وفي المرحلة الابتدائية تدار من قِبَل المعلّم، وفي مرحلة البلوغ يدير القانون والمربّون شؤونه، وبعد التخرّج ومزاولة العمل الوظيفي، فإنّ المقرّرات القانونية لعمله هي التي تتولّى الإشراف عليه، لذلك فإنّ قضيّة الإشراف الذاتي، أو السيطرة على النفس، أو ضبطها، كلّ ذلك غير مطروح في حياة الإنسان.

هذا التصوّر الخاطئ ينعكس في علاقات الوالدين مع ولدهما، وعلاقات المربّي مع الطالب. إنّ الوالدين يشرفان على جميع ممارسات ولدهما من دافع التعلّق به حيناً، ومن أجل تربيته وإعداده حيناً آخر. فهما قد شَرَعا في الإشراف عليه منذ ولادته، ويريد أن يظلّ هذا الإشراف مستمرّاً لشهور وسنين بعد ولادته، وعندما يرغب ابنهما أن يأكل الطعام أو يشرب الماء أو ينظّف نفسه، يمنعانه من القيام بمثل هذه الأعمال، ويتولّيان القيام بها بدلاً عنه.

إنّ التربية الأخلاقية للطفل في هذه المرحلة تتحقق من خلال الأمر والنهي، أو إفعلْ ولا تفعل. فالطفل ليس من حقّه أن يعرف علّة قيامه بالفعل الفلاني أو عدم قيامه به، بل عليه أن يكون أداة طيّعة فقط، فيأخذ بما يُؤمر به، وينتهي عمّا يُنهى عنه.

هذا الطفل نفسه يدخل المدرسة، ويرى المعلّم أنّ من واجبه تربيته وتعليمه، بيد أنّه يفتقد إلى تصوّر واضح مشرق عن التربية والتعليم، حيث يعلم أشياء محدودة، يروم تزريقها في ذهنه. وما على الطفل إلاّ أن يكون مستعدّاً، ويتقبّل من المعلم ما يملي عليه، ويحفظ ذلك. وعند الامتحان، إمّا أن ينسى معلوماته أو يكتبها على ورقة الامتحان. فدور الطفل في المدرسة، إذاً، هو دور المنفعل أو المتقبّل، وعمله - كما قلنا - هو قبول ما يطرحه المعلّم دون نقاش، وليس له دور غير ذلك. والتربية الأخلاقية تطبّق على نفس النسق أيضاً. ينظر المعلّم إلى أشياء على أنّها جيّدة، فيطلب من الطالب القيام بها. وكذلك ينظر إلى أشياء أُخرى على أنّها رديئة، فيمنع الطالب من القيام بها. وكما أنّ الافتراض السائد يقتضي أن يكون الطفل

١٢٧

تحت إشراف أبويه في البيت، وهما اللّذان يتوليّان شؤونه، كذلك الطالب في المدرسة، فإنه تحت إشراف المعلّم دائماً، وهو الذي يتولّى شؤونه. وممّا يؤسف له هو أنّ هذا الوضع قد يستمرّ في الإعدادية، وكما قلنا، فإنّ الطالب بعد تخرّجه، يكون تحت إشراف القانون.

فلا ذلك الضرب من التعليم مؤثّر في تحصيل المعلومات، ولا هذا الضرب من التربية مؤثّر في التنمية الأخلاقية للطالب. والأشخاص الذين يتربّون على هذه الوتيرة، يُحتمل انّهم سوف يحرمون من الاستقلال حتى آخر عمرهم، إذ لابدّ أن تدار شؤونهم من قِبَل الآخرين.

لذا يجب تأهيل الطفل وتربيته منذ بداية حياته بشكل يستطيع أن يقف على قدميه وحده، وما يستطيع أن يفعله في البيت، يجب أن يقوم به بذاته، فلو استطاع - مثلاً - أن يقوم ويملأ القدح ماءً، ويشرب ذلك الماء، فيجب تركه ليُنْجِز هذا العمل بنفسه. فالأُم التي تتصوّر بأنّ منع الطفل من القيام بهذا العمل، وإعطاءها الماء له دليل على حبّها له وتعلّقها به، هي أُمّ غير مصيبة في عملها، فهي لا تقدّم أيّ خدمة لولدها، بل وتحول دون نمّوه الأساس واستقلاله.

وفي حقل التربية الأخلاقية أيضاً، يملك الطفل استعداداً لإدراك بعض المسائل، فهو يستطيع أن يدرك، مثلاً، لماذا يضرب جارَه الصغير مثله؟ ويستطيع أن يتوقّع ماذا تكون نتيجة هذا العمل، فيمتنع من القيام به. وبمقدار ما تسمح به تجربته وإدراكه، ينبغي مساعدته حتى يتوقّع هو نفسه ماذا تكون نتيجة أعماله وممارساته، فما ينبغي فعله، ينجزه، وما لا ينبغي، يتركه.

وينطبق هذا الأمر نفسه على المرحلة الابتدائية، فما يستطيع أن ينجره الطفل أو يتعلّمه، يجب عليه أن يبادر إلى ذلك شخصيّاً، فلو استطاع أن يرتّب بعض الأعداد ويجمعها، فعلى المعلّم أن يتركه، ليقوم بهذا العمل وحده. ولو استطاع أن يستفيد من تجاربه ويعرف مفهوم الجمع، فعلى المعلّم أيضاً أن يفسح له المجال ليقوم

١٢٨

بهذا العمل وحده. صحيح أنّ للمعلّم دوراً أساسياً في بداية المرحلة الدراسية، بيد أنّ هذا الأمر لا يتطلّب أن نتصوّر بأنّ التعليم يتحقّق بواسطته. وما هو إلاّ الطالب حيث يقوم بتعلّم الأمور، ويوسّع تجاربه، ذلك يجب أن يكون له دور فاعل في عملية التعلّم.

وفي مجال التربية الأخلاقية والاجتماعية، يجب أن يؤدّي المعلّم - أيضاً - دور الدليل والمرشد، فيمكنه أن يُعين الطفل من خلال توفير الفرص له؛ ليدرك بنفسه جودة بعض الأعمال أو رداءتها في الظروف المتنوّعة، ويرى نتائجها، وعن هذا الطريق يعمل في حقل تنميته الأخلاقية. وكلّما كبر الشخص، ودخل مراحل لاحقة من النمو، فهو يستطيع أن يتولّى إدارة شؤونه بنفسه. وللوالدين، والمعلّم، والقانون، دور الدليل والمرشد.

إنّ الملفت للنظر هو أنّ الإنسان - حتى لو كان في مرحلة الطفولة - لا يخضع لإشراف والديه أو إشراف الآخرين في جميع الأوقات واللحظات. وسواء كان الطفل لا يزال غير قادر على المشي، أو كان قادراً، فإنّ الأُم أو المشرف - في أوقات متنوّعة - مشغولان بعملهما، ولذلك فهما إمّا يغفلان عن الإشراف عليه، أو يعجزان عن ذلك، فما هو التكليف إذاً في مثل هذه الحالات؟ فلو تربّى الطفل على الاتّكال على أُمّه، أو على المشرف في إدارة شؤونه، فماذا عساه أن يفعل لو كان وحده؟

وبناءاً على ذلك، يقال بأنّه يجب تربية الأطفال من البداية بشكل هم يتولّون فيه إدارة شؤونهم. وعندما يستطيع الإنسان أن يمشي أو يذهب إلى المدرسة، أو يمارس عملاً في مؤسّسة ما، فعند ذلك يخرج من دائرة إشراف الآخرين عليه.

والمعلّم في الابتدائية لا يستطيع أن يراقب الطفل في جميع اللحظات، وكذلك الوضع في الإعدادية. والقانون هو الآخر، ليس له سيطرة على الأشخاص دائماً، لذلك فإنّ الإنسان قادر أن يدير شؤونه بنفسه، فعليه أن يقوم بذلك.

والرسالة التي لها دور تربويّ، عليها أن تذعن لهذه الحقيقة، فتعمل على تربية الإنسان بهذا النسق.

١٢٩

فالتقوى - كما مرّ بنا - تعني السيطرة على النفس وتولّي شؤونها ذاتياً، والإنسان المتّقي يراقب سلوكه، لاخوفاً من الآخرين، ولا خوفاً من القانون، بل لأنّه يعرف أنّ عليه أن يعمل بصورة منطقيّة معقولة. وهذا المعنى للتقوى وبُعدها التربوي، كان يدور في خلدي، من هذا المنطلق، جمعت آيات من القرآن، ونصوصاً من نهج البلاغة حول التقوى، لكي يتسنى لي أن أنقلها عند تأليف هذا الكتاب.

كنت ذات يوم مشغولاً بمطالعة الجزء الأوّل من كتاب (پرتوي از قرآن): (قبس من القرآن) فرأيت أنّ المجاهد الكبير المرحوم آية الله الطالقاني، له رأي يحمل هذا المضمون نفسه، في الجزء الثالث من الصفحة الرابعة والخمسين من الكتاب، وذلك ضمن تفسيره لقوله تعالى:

( الم * ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ ) ، (البقرة: 1 - 2).

يقول فيه: (إنّ الضمير الفاعل الواعي الذي يقي الشهوات والعواطف والغضب من التمرد والاصطدام بحقوق الآخرين هو وقاية النفس الإنسانية، وصاحبها هو المتّقي. هذا الضمير موجود في كلّ نفس مع الاختلاف من شخص إلى آخر).

وللمرحوم آية الله مطهّري مناقشة دقيقة حول مفهوم التقوى وآثارها، ضمن مقالة له تحت عنوان: (التقوى) مطبوعة في كتاب (عشر مقالات) من قِبَل (منشورات الحكمة). يقول في الصفحة الرابعة من الكتاب حول التقوى في العرف الشرعي: (التقوى في عرف الشرع تعني وقاية النفس من أن ينجرّ الإنسان إلى المعصية، فيترك الممنوعات والمحرّمات). ويقول في الصفحة السابعة من الكتاب المذكور تتمّة للبحث: (لذلك فإنّ التقوى - بالمعنى العام للكلمة - ضرورة في حياة كل شخص يريد أن يكون إنساناً يعيش بتوجيه عقله، ويتبع مبادئ معيّنة).

وجاء حول التقوى الدينية قوله أيضاً: (إنّ التقوى الدينية والإلهيّة تعني أنّ الإنسان يصون نفسه من كلّ شيءٍ حدّده الدين في الحياة، على أنّه خطأ وذنب وقبح، فلا يرتكب شيئاً من ذلك).

١٣٠

بإيجاز، فإنّ ما يُستشفّ من التقوى هو أنّها السيطرة على النفس، أي: السيطرة على نزواتها، ومراقبة ممارستها. وكما قلنا - فيما سبق - فإنّ هدف التربية والتعليم هو تربية الشخصية التي تستطيع أن تسيطر على نفسها، وتجعل نزواتها وعواطفها تحت إشرافها، لتعمل وفقاً للمعايير المنطقية والعقلية.

وبالنظر إلى أنّ الأُسس الإسلامية - كما ذكرنا فيما مضى أيضاً - في كلّ مجال، ولا سيّما في مجال التربية والأخلاق، تدعم حكم العقل، لذلك يمكن القول بأنّ التقوى الدينيّة، أو بعبارة أصح: التقوى الإسلامية مؤيّدة للتقوى بصورة عامّة. من جهة أُخرى، فإنّ التقوى المنبثقة من النظام التوحيدي أقوى من التقوى العاديّة.

وهنا يُثار هذا السؤال في حقل الأخلاق، وهو: هل إنّ المعايير الأخلاقية تستطيع أن توجّه الناس وتحول دون انحرافهم بدون التوكؤ على الأُسس الدينية؟

يعتقد البعض بأنّ للأخلاق أن توجّه الناس بدون التوكؤ على الدين أيضاً. وهذا صحيح إلى حدّ ما، لأننا نلتقي بأشخاص غير متدينين يمتنعون من فعل ما هو قبيح، ويجدّون في فعل ما هو حسن. في مقابل هؤلاء، نلتقي بأشخاص آخرين لهم ميول دينية كما يبدو عليهم، بيد أنّ في عملهم شطحات وزلاّت كثيرة.

أمّا فيما يخصّ الفريق الأوّل، فينبغي أن نضع في الحسبان استعداد هؤلاء للانحراف. فالإنسان يخضع لنزواته الشخصية إلى حدٍّ بعيد، ويمكن أن تجرّه الماديّات إلى الانحراف. وفي واقعنا المعاصر، نرى بعض القادة الوطنيّين في ما يسمّى بالدول الديمقراطية أو الإشتراكية يبتلون بالانحراف من الناحية المالية والاقتصادية، مع أنّهم في مناصب يقلّ معها احتمال انحرافهم، وهم موضع ثقة شعوبهم، إذ لولا هذه الثقة لما تمّ انتخابهم، مع ذلك فإنّ طبيعة النفس الإنسانية في المجال العاطفي والنزوات الشخصية تجرّ هؤلاء إلى الانحراف. وفي المجتمعات التي لا تسود فيها سلطة المال، فإنّ حب المنصب والتسلّط يسوق القادة والمسؤولين إلى حضيض الانحراف.

إنّ ما يمكن أن يحول دون الانحراف هو ارتباط الإنسان بعالم الغَيْب الأبدي،

١٣١

أي: ارتباطه بالله بوصفه مَظهر العلم، والقدرة، والعدالة، والرأفة. ففي رحاب هذا الارتباط، يشعر الإنسان أنّه دائماً أمام القوّة الإلهيّة الدائمة، ولذلك قلّما يُبتلى بالانحراف.

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول بأنّ التّقوى الدينية كيان قوي يحول دون انحراف الناس، ومن المفيد هنا الالتفات إلى هذه الآية الكريمة:

( أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ تَقْوَىً‏ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى‏ شَفا جُرُفٍ هَارٍ ) ، (التوبة: 109).

وأمّا ما يخصّ الفريق الثاني، فينبغي القول: إنّ هؤلاء متديّنون في ظاهرهم، وغير متدينين في صعيد الحقيقة والواقع، حيث لا يمتلكون رؤية واعية وإدراكاً صحيحاً للدين وأُسسه. فهم يقومون ببعض الأعمال من وحي التقليد والمجاراة للوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، وليس لهم روح دينية. لقد ذُكرت التقوى في الآيات القرآنية بأشكال متنوّعة، فقد جاءت في الآية التالية بوصفها معياراً للأخلاق ومقياساً للتفاضل بين الناس:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ، (الحجرات: 13).

وقال جلّ من قائل:( .. إِن تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً.. ) ، (الأنفال: 29).

ويقول الإمام عليعليه‌السلام في شأنها:

«فإنّ تقوى الله مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ معاد، وعتْقٌ من كلّ مَلكَة، ونجاةٌ من كلِّ هَلَكة. بها يَنجَحُ الطّالب، وينجو الهارب، وتُنالُ الرغائب».

ووردت التقوى في سورة البقرة بوصفها خير زاد. قال تعالى:

( وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى‏ ) ، (البقرة: 197).

وجاءت في سورة المائدة بوصفها هدفاً للعدالة. قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

١٣٢

عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، (المائدة: 8).

ويوصي الإمام عليعليه‌السلام الناس بالتقوى في خطبة من خطبه الحكمية، منبّهاً على دورها في توجيه أعمالهم، وترسيخ سلوكيّاتهم، فيقول في (ص620) من نهج البلاغة:

«أُوصيكم عبادَ الله بتقوى الله، فإنّها الزمامُ والقِوام، فتمسّكوا بوثائِقها، واعتصموا بحقائقها، تَؤُلْ بكم إلى أكنان الدَّعَة، وأوطان السَّعة، ومعاقلِ الحرز، ومنازل العزّ..».

وفي فقرة من خطبة أُخرى، يتطرّق إلى آثارها ونتائجها، فيقول:

(فإنّ تقوى الله دواءُ داءِ قلوبكم، وبَصرُ عمى أفئدتكم، وشِفاءُ مرضِ أجسادِكم، وصلاحُ فسادِ صدورِكم، وطهورُ دنَسِ أنفسِكم، وجِلاءُ عشا أبصاركم...).

نلحظ في هذه الفقرة أنّهعليه‌السلام يتحدّث حول نتائج التقوى في مجال علاج الأمراض الروحية، وزوال عمى القلوب، واجتثاث فساد العقول والأفكار، وتزكية النفس وتهذيبها، ويصف التقوى في كلماته القصار من نهج البلاغة بأنّها رئيس الأخلاق، فيقول: «التُّقى رئيسُ الأخلاق».

التقوى والحريّة

للتقوى علاقة حميمة مع الحريّة، وربّما يمكننا القول بأنّ التقوى ركيزة الحريّة ودعامتها. ولقد تحدّثت عن موضوع الحريّة في كتابي: (من هو المثقّف؟). وتوضيحاً للعلاقة القائمة بين الحريّة والتقوى، من المناسب أن ننقل هنا شطراً من ذلك الحديث:

نحن نعلم أنّ بعض الكتّاب يعرّف الحريّة بأنّها: تعني أنّ لكلّ أحد أن يفعل ما يشاء بشرط أن لا يُزعج الآخرين.

١٣٣

ثمّة إشكالات على هذا التعريف:

الأوّل: لا يستطيع الإنسان أن ينساق وراء نزواته وميوله في حالات متنوّعة، إذ ليست جميع نزواته ذات قيمة. فقد يكون عرضة لرغبات ونزوات متضاربة في ظروف متباينة.

بكلمة بديلة: إنّ تنوّع الرغبات وعدم استقرارها يمنع من أن يستسلم الإنسان لها. ولو فرضنا أنّ الإنسان حيوان يمكن أن يعيش منفرداً، ففي مثل هذه الحالة أيضاً، لا يمكن للإنسان السير وراء الرغبات بسبب تغيّرها ووجود التضارب فيما بينها.. مبدئيّاً، فإنّ إشباع الرغبات لا يُسعد الإنسان دائماً.

سنرى فيما بعد أنّ الحريّة تعني - من جهة - إزالة العراقيل، والقضاء على الديكتاتوريّين المستبدّين الذين يصادرون حريّات الآخرين، من خلال فرض آرائهم وميولهم ومصالحهم عليهم. والآن يجب أن نلحظ فيما لو أُزيلت العوائق أو انمحت الحوائل، واستسلم المرء لنزواته ورغباته، فهل هو حرّ في مثل هذه الحالة؟ وهل يفيد من الحريّة؟

لا ريب أنّه أنقذ نفسه من عامل خارجي، بيد أنّه - من جهة أُخرى - ارتمى في أحضان عامل آخر لا تقلّ سلطته عن سلطة ذلك العامل، وفي الانجراف وراءه ضرر له، جاء في القرآن الكريم بأنّ الذين يطيعون هوى أنفسهم (رغباتهم)، أو شهواتهم العابرة، فإنّ صنعتهم خاسرة، وتجارتهم غير رابحة. لذلك يمكن القول بأنّه من غير الصحيح أن ينجرف الإنسان وراء رغباته ونزواته تحقيقاً للحريّة، فالانجراف وراء النزوات والرغبات يعني - من جهة - التنكّر للحريّة.

الثاني: إنّ شرط عدم إزعاج الآخرين الوارد في التعريف هو شرط غامض. ومن أجل تبيان هذا الغموض، واثبات عدم جدواه، أُلفت أنظار القرّاء إلى المثال التالي:

افرضوا أنّ أربعة من الطلاّب الجامعيّين يعيشون في غرفة واحدة، وهم جميعهم من أنصار الحريّة. لا ريب أنّ الحياة الجماعية لهؤلاء تحمل معها فوائد لهم، حيث

١٣٤

يستعذبون الحديث فيما بينهم، وأحدهم يفيد من معلومات الآخر، ويقسّمون الأعمال المنزلية فيما بينهم، ويدفعون إيجاراً أقل... وهكذا.

قلنا: إنّ هؤلاء من دعاة الحرية وأنصارها. والآن لنرى هل إنّ للحريّة، التي تعني: اشباع الرغبات بشرط عدم ازعاج الآخرين، معنى في قاموسهم؟ وهل هي قابلة للتطبيق؟

في الليلة الأُولى، وبعد الاستقرار في الغرفة، ونظراً إلى أنّهم طلاّب جامعيّون، فهم مصممّون على مطالعة دروسهم، وهو أمر معقول ومستساغ، فلنر كيف تطبّق الحريّة - التي تعني: إشباع الرغبات - في قضيّة قراءة الدروس؟

افرضوا أنّ أحدهم يقول: بأنّه يرغب أن يقرأ درسه ماشياً، والآخر يرغب أن يقرأ وهو مضطجع على فراشه، والثالث متعوّد أن يقرأ وهو يستمع إلى المذياع، والرابع لا يستطيع أن يقرأ إلاّ في جوٍّ هادئ يسوده الصمت والسكوت.

فمع أنّ الموضوع هو قراءة الدروس، هل يا ترى يستطيع كلُّ واحد من هؤلاء أن يعمل وفق رغبته؟

والنتيجة هي: بما أنّ رغبات هؤلاء الأربعة غير متماثلة، فلا محالة أنّه لا يستطيع كل واحد منهم أن يعمل حسب رغبته.

والقضية الأُخرى هي: أيّ واحد منهم يكون سبباً لإزعاج رفيقه الآخر؟

فهل هو الشخص الذي يقرأ ماشياً؟ أم الذي يقراً مضطجعاً؟

أم إنّ الثاني يزعج الأوّل؟

أم الثالث الذي يرغب أن يقرأ وهو يستمع إلى المذياع، يزعج الآخرين؟

أم إنّ الآخرين يزعجونه؟

فتلحظون، إذاً، أنّ مسألة إزعاج الآخرين غير واضحة، وليس لأيّ واحد من هؤلاء الحق أن يعتبر الآخر مزعجاً له.

في ضوء ذلك ترون أنّ الحريّة - بمعنى إشباع الرغبات، وعدم إزعاج الآخرين - ليس لها معنى في قاموس هذه المجموعة، ولا المجموعة الأكبر منها، وهي: المجتمع.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «الهوى عدوّ العقل»، فاتّباع الهوى لا ينسجم مع السلوك العقلي، فما معنى الحريّة، إذاً؟

للحريّة بُعدان: سلبي،

١٣٥

وإيجابي.

ففي البُعد السلبي - كما مرّ بنا - تعني الحرية إزالة العراقيل أو عدم وجودها، حيث يطمح الشخص أن ينقذ نفسه من شرّ شخص آخر يحول دون حريّته. وعندما يقال بأنّ تاريخ الإنسان كفاح في سبيل الحريّة، فإنّ هذا يعني: قطع يد المستبدّين والديكتاتوريّين من التحكّم في رقاب الناس.

والآن علينا أن ننظر، هل تتحقّق الحريّة عندما يُقضى على الشخص الذي يحدّ من حريّة الآخرين، أو على الدكتاتور؟ كما نرى، أنّ القضاء على مثل هذا الشخص لا يفضي إلى الحريّة بذاته. وهنا يأتي دور البُعد الإيجابي للحرية، فعندما يتخلّص الشخص من شرّ عامل خارجي، ويُحكم سيطرته على نزواته ورغباته، فعند ذلك تعني الحريّة بالنسبة إليه اتّباع العقل أو العمل بتعقّل.

في الحقل الاجتماعي أيضاً، عندما يسقط الدكتاتور، فلا تعني الحريّة أن يَعمل كلُّ شخص مايشاء، أو أن يكتب كلُّ أحد ما يشتهي، بل الحرية تعني أن تسلك الجماعة منهجاً عقلياً أو علمياً في تعاملها مع كل قضيّة، وذلك لأنّه لا وجود لأحد أفضل من الآخرين(*) من الناحية العلمية والفكرية في إدارة الشؤون الاجتماعية وعلاج المشاكل الجماعية.

لذلك يجب أن يكون الناس سادة على مصائرهم، وينبغي أن تتحقّق الحريّة على أيديهم. بيد أنّهم لابدّ لهم من سلوك المنهج العقلي أو العلمي في المسائل المتنوّعة، حتى يتسنّى لهم علاجها بأنفسهم. وهم أنفسهم يعيّنون حدود الحريّة عن طريق وضع القوانين.

إنّ الكاتب حرٌّ، بيد أنّ حريّته في تفكيره، وفي صحّة هذا التفكير، لا في سبابه وشتائمه، وتحريض الآخرين، وتصفية الحساب معهم من خلال تلقين

____________________

(*) هذا رأي مرفوض، لأنّ الواقع الاجتماعي يدفعه من حيث وجود من هو فاضل، ومن هو أفضل، ومن هو الأفضل.. وهكذا. المعرِّب.

١٣٦

الآخرين آراءه. فبسلوكه المنهج العلمي، يقوم بتحليل الظروف الاجتماعية المحيطة به وفقاً لاستعداده وتجاربه، حيث يحدّد المشاكل، ويأخذ بنظر الاعتبار إمكانيات المجتمع، ويقترح حلولاً أساسية، ويقدّم أهمّ حلّ يراه مناسباً للإمكانيات الاجتماعية المتوفّرة. فهذا هو معنى اتّباع العقل، أو العيش بتعقّل، أو كون الإنسان حرّاً.

في ضوء ما تقدم، يظهر لنا أنّ الحريّة تتحقّق في المجتمع من خلال سيادة الناس وحكمهم، وسلوك المنهج العقلي، من هذا المنطق، يقال بأنّ الحريّة تعني: اتّباع العقل أو انتهاج رؤية عقلية في شؤون الحياة.

لقد تحدثنا سابقاً حول رأي الإسلام في العقل، لذلك نُعرض عن تكرار ذلك في هذا الفصل،

يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صديق كلِّ امرئ عقله».

ويقول الإمام عليعليه‌السلام : «إنّ أغنى الغنى العقل».

لقد رأينا في مناقشة معنى التقوى بأنّها تعني - من جهة - السيطرة على النزوات والرغبات، واتّباع العقل. من هذا المنطلق، يمكن القول بأنّ التقوى - من جهة - هي نفسها الحريّة.

وفي فقرة من كلام مرّ بنا للإمام عليعليه‌السلام ، ورد البُعد السلبي والإيجابي للحريّة، في تعريف التقوى، يقول الإمام:

«فإنّ تقوى الله مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ معاد، وعتقٌ من كلِّ ملكَةَ، ونجاة من كلِّ هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتُنال الرغائب..».

ونُقل في كتاب: تحف العقول (ص154) وصف الإمام عليعليه‌السلام للمتّقين، نكتفي هنا بذكر فقرات منه:

«فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسُهم الاقتصاد، ومشيُهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم...».

١٣٧

تعليم الحكمة هدف تربوي أساس

إنّ شمولية النظام التربوي في الإسلام، والترابط الموجود بين أبعاده المتنوّعة يفضيان إلى تداخل المواضيع وتكرارها.

وكما ألمحنا مراراً في هذا الكتاب، فإنّ النظام التربوي في الإسلام يشمل جميع أبعاد الحياة الإنسانية، لذلك عندما نتحدث حوله، أو نناقش خصائصه، لانجد مندوحة من الحديث حول البعد العقلي، والبعد الاجتماعي، والبعد الحركي، والبعد الثوري فيه. وحينما نتكلم حول أهداف النظام التربوي في الإسلام، وأساليبه، ومحتوياته، فإننا نضطرّ إلى تكرار بعض المواضيع.

على القرّاء الكرام الالتفات إلى شتّى المواضيع وفقاً لأرضية طرحها، وجهدنا هو أن نستفيد من الغنى الذي عليه الثقافة والتعاليم الإسلامية، وننقل الآيات والأحاديث غير المذكورة عند دراسة موضوع معيّن في مجالات متنوّعة. وأحياناً نجد أنّ أهميّة الموضوع في المجالات المتنوّعة تتطلّب تكرار حديث أو آية. لاحظوا الآيات التالية فيما يخصّ تعليم الحكمة:

( رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، (البقرة: 129).

( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ، (البقرة: 151).

( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (آل عمران: 164).

( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (الجمعة: 2).

لقد تمّ التأكيد في الآيات المذكورة - كما يُلحظ - على التزكية والتعليم والحكمة. وكما قلنا فيما سبق، فإنّ الإسلام يؤكّد أهميّة العلم والحكمة، ويعتبر رسالة

١٣٨

الأنبياء هي تعليم الحكمة، وواجب الناس هو طلب العلم.

إنّ كلمة الحكمة تعني الكلام المنطقي أو المعرفة الحقيقيّة. ولتعليم الكلام المنطقي أو المعرفة المبرهنة أهميّة خاصّة من الناحية التربوية، حيث يرى بعض المربّين أنّ عملية التربية والتعليم تعني تربية القابلية على إصدار الحكم الصحيح، أو الحكم مع الدليل. بكلمة بديلة: إنّ عمل المربّي هو مساعدة الشخص ليتعلّم ما هو منطقي، ويقرّ به، ويرفض ما هو بعيد عن المنطق. وبما أنّ تعلّم موضوع من المواضيع أو قبوله يتطلّب الحكم عليه، لذلك تشكّل تربية القابلية على إصدار الحكم المنطقي أساس التربية والتعليم وهدفهما. ولهذا المفهوم عن التربية والتعليم عدد من المواصفات الجوهرية منها:

اوّلاً: أنْ يكون معناه واضحاً بيّناً، فالمربّي في الروضة، والمعلّم، والمدّرس، والأُستاذ الجامعي، وأكثر الأشخاص الذين لهم باع في الخدمات التعليمية، كلّ أولئك يدركون معنى الحكم الصحيح، أو الحكم مقروناً بالدليل.

ثانياً: إنّ مفهوم الحكم المنطقي هو غير تحصيل المعلومات. ويُلحَظ - غالباً - أنّ بعض المربّين والأشخاص العاديّين لا يفرّقون بين التربية، وتحصيل المعلومات، ففي رأيهم، إنّ طلب المعرفة، وتصعيد مستوى المعلومات مرادفان للتربّي، بيد أنّ الواقع يحكي انّ التربية منفصلة عن تصعيد مستوى المعلومات. طبيعياً، ومن الناحية التربوية، فإنّ من يتعلّم أمراً، ينبغي عليه أن يجعل التعليم وسيلة لتربيته أو تربية الآخرين، ولكن في الصعيد العملي، فإنّ التعليم بشكلٍ، ينقل المعلّم فيه المواضيع إلى ذهن الطالب، فيصعّد من معلوماته، ولا يستفيد من التعليم كوسيلة للتربية.

ونلتقي في حياتنا بأشخاص على مستوى عالٍ من حيث المعلومات أو الحفظيات، بيد أنّهم ضعفاء جدّاً من حيث الفكر، أو من حيث كيفية التقويم وإصدار الحكم.

ثالثاً: إنّ عملية التربية والتعليم بوصفها تربية القابلية على الحكم المنطقي،

١٣٩

قابلة للتطبيق في كلّ مستوى، وكلّ مرحلة من مراحل النمو، فالمربّي في الروضة يستطيع أن ينمّي في الأطفال القابلية على الحكم المنطقي تدريجاً من خلال انتخاب القصص والألعاب المناسبة، حيث يطلب منهم أن يقدّموا سبباً لانتخابهم لقصّةٍ ما أو لعبة ما، وهو أيضاً يقدم لهم السبب الذي دعاه إلى اختيار لعبة أو قصّة خاصّة، وبواسطة هذا العمل، يربّي فيهم القابلية على الحكم وإبداءِ الرأي.

ونسجاً على نفس المنوال، فإنّ المعلّم في الابتدائية بمقدوره دعوة الطلاّب إلى الحكم والتقويم، وحثُّهم على امتلاك القابلية على الحكم الصحيح تدريجاً، وذلك من خلال طرح المواضيع العلمية المبسّطة، أو النصائح والأمثال، أو القصص التاريخية.

وفي المستويات الأُخرى من التعليم، وبعامّة، في جميع مراحل النموّ، على الشخص أن يحكم بصورة صحيحة.

إنّ الناس يبدون وجهات نظرهم ويحكمون ويقوّمون باستمرار سواء في أمور الحياة، أو في المسائل الاجتماعية والعلمية. ولو كان المربّون - منذ البداية - يهتمّون بهذا المفهوم من التربية والتعليم، لاستطاعوا أن يعينوا طلاّبهم في مجال تربية القابلية على الحكم الصحيح بسهولة. وفي هذا المجال، يذكر المرحوم آية الله مطهّري في (ص136) من كتاب (عشر مقالات) حديثاً أُثر عن السيد المسيحعليه‌السلام ضمن المقالة التي تتحدّث عن فريضة العلم، يقول فيه:

«خذوا الحقّ من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق. كونوا نقّاد الكلام».

ثمّة نقاط رائعة في هذا الحديث:

الأُولى: إنّ كلام الحق قيّم بذاته.

الثانية: يجب أن لا يكون المتكلّم عنصراً مؤثّراً في قبول الكلام أو رفضه.

بكلمة بديلة: يجب تدقيق الكلام ودراسته.

الثالثة: التأكيد على نقد الكلام.

وعلى الأشخاص أنفسهم أن يقوموا بنقد الكلام. كما لحظنا، أنّ كلمة الحكمة

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501