تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181098 / تحميل: 5860
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

عبداللّهعليه‌السلام : جعلت فداك ، ما معنى قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذريتها على النار؟ فقال : المعتَقون من النار هم ولد بطنها : الحسن ، والحسين ، وزينب ، وأُمّ كلثوم»(١) .

وعن مهران بن أبي نصر ، عن أخيه رباح ، قال : «قلت لأبي عبداللّهعليه‌السلام : إنّا نروي بالكوفة أنّ علياًعليه‌السلام قال : إنّ من تمام الحجّ والعمرة أن يحرم الرجل من دويرة أهله. فهل قال هذا عليعليه‌السلام ؟

فقال : قد قال ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام لمن كان منزله خلف المواقيت ، ولو كان كما يقولون ، ما كان يمنع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخرج بثيابه إلى الشجرة»(٢) .

وعن أبي بكر الحضرمي ، قال : «قال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : إني خرجت بأهلي ماشياً فلم أهلّ حتى أتيت الجحفة ، وقد كنت شاكياً ، فجعل أهل المدينة يسألون عني فيقولون : لقيناه وعليه ثيابه وهم لا يعلمون ، وقد رخّص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن كان مريضاً أو ضعيفاً أن يحرم من الجحفة»(٣) .

٧ ـ بيان مفهوم الحديث وشرح غريبه :

لا يخفى أن من الحديث ما يلفه الابهام ويكتنفه الغموض ، الأمر الذي جعل علماء العربية يوجهون فائق عنايتهم إلى شرحه وبيان معانيه ، ولعل من روادهم النضر بن شميل (ت / ٢٠٣هـ) ، وقطرب (ت / ٢٠٦هـ) ،

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٠٦ / ٣.

(٢) الكافي ٤ : ٣٢٢ / ٥.

(٣) الكافى ٤ : ٣٢٤ / ٣.

٤١

وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت / ٢٠٩هـ) ، وأول تصنيف وصلنا في هذا الصدد من أبي عبيد القاسم بن سلام (ت / ٢٢٤هـ) ، وقد أسهم أئمة الهدىعليهم‌السلام في رفد مكتبة غريب الحديث بكثير من الروايات التي تعنى بمعاني الأخبار وشرح غريبها ، سواء من خلال بيان مفهومها العام ، أو من حيث بيان معاني مفرداتها ، وقد أفرده الشيخ الصدوق (ت / ٣٨١هـ) بكتاب سمّاه (معاني الأخبار) ونظرة سريعة إليه تكشف عن مقدار جهودهمعليهم‌السلام في هذا الاتجاه.

ومن ذلك ما رواه عبد المؤمن الأنصاري ، قال : «قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : انّ قوماً يروون أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اختلاف أمتي رحمة؟ فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة ، فاجتماعهم عذاب؟!

قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، وإنما أراد قول اللّه عزّوجلّ : «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ »(١) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويختلفوا إليه فيتعلّموا ، ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم. إنّما أراد اختلافهم من البلدان ، لا اختلافاً في دين اللّه ، إنّما الدين واحد ، إنّما الدين واحد»(٢) .

وعن أبي إسحاق ، قال : «قلت لعلي بن الحسينعليهما‌السلام : ما معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ قال : أخبرهم أنّه الإمام بعده»(٣) .

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٢.

(٢) علل الشرائع : ٨٥ / ٤.

(٣) معاني الأخبار : ٦٥ / ١.

٤٢

وعن أبان بن تغلب قال : «سألت أبا جعفر محمد بن عليعليه‌السلام عن قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال : يا أبا سعيد ، تسأل عن مثل هذا؟! أعلمهم أنّه يقوم فيهم مقامه»(١) .

وعن المفضل بن عمر ، قال : «قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : أخبرني عن قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فاطمةعليها‌السلام : إنّها سيدة نساء العالمين ، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال : ذاك لمريم ، كانت سيدة نساء عالمها ، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»(٢) .

وعن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن عليعليهم‌السلام قال : «سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن معنى قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب اللّه وعترتي. من العترة؟ فقال : أنا والحسن والحسين والأئمّة التسعة من ولد الحسين ، تاسعهم مهديهم وقائمهم ، لا يفارقون كتاب اللّه ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول اللّه حوضه»(٣) .

وعن مسمع أبي سيار ، عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام أنّ رجلاً قال له : «إنّ من قبلنا يروون أنّ اللّه عزّوجلّ يبغض بيت اللّحم؟ فقال : صدقوا ، وليس حيث ذهبوا ، إنّ اللّه عزّوجلّ يبغض البيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس»(٤) .

__________________

(١) معاني الأخبار : ٦٦ / ٢.

(٢) معاني الأخبار : ١٠٧ ، بحار الأنوار ٤٣ : ٢٦ / ٢٥.

(٣) إكمال الدين : ٢٤١ / ٦٤.

(٤) الكافي ٦ : ٣٠٩ / ٦.

٤٣

ومما يعنى ببيان معاني مفردات الحديث ما رواه سليمان بن خالد ، عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام أنّه سئل عن قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعوذ بك من شرّ السامة والهامة والعامة واللامة. فقال : السامة : القرابة ، والهامة : هوام الأرض ، واللامة : لمم الشياطين ، والعامة : عامة الناس»(١) .

ونجد أن من الحديث ما يؤدي عند بعض الجامدين على الظواهر إلى انحراف في العقيدة ، إذا لم يصلهم معناه ، ومن ذلك ما رواه عبدالسّلام بن صالح الهروي ، قال : قلت لعليّ بن موسى الرّضاعليه‌السلام : «يابن رسول اللّه ، ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث : أنّ الموءمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟

فقالعليه‌السلام : يا أبا الصّلت ، إنّ اللّه تبارك وتعالى فضّل نبيّه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع خلقه من النبيّين والملائكة ، وجعل طاعته طاعته ، ومتابعته متابعته ، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته ، وقال عزّوجلّ : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ »(٢) ، وقال : «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ »(٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار اللّه. ودرجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة أرفع الدرجات ، فمن زاره إلى درجته في الجنّة من منزله فقد زار اللّه تبارك وتعالى ـ إلى أن قال : ـ يا أبا الصلّت ، إنّ اللّه تبارك وتعالى لا

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٧٣ ، بحار الأنوار ٩٥ : ١٤١.

(٢) سورة النِّساء : ٤ / ٨٠.

(٣) سورة الفتح : ٤٨ / ١٠.

٤٤

يُوصف بمكانٍ ، ولا تُدْركه الأبصار والأوهام»(١) .

تدوين الحديث :

لعلّ من أبرز معالم التصحيح في ميدان الحديث الشريف ، هو الانفتاح الواسع على تدوين الحديث حيث لم يُمنع في مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام منذ فجر الإسلام حتى آخر عهد صدور الحديث عنهمعليهم‌السلام ، أي في آخر الغيبة الصغرى للإمام المهديعليه‌السلام وذلك (سنة / ٣٢٩هـ) ، وقد دأبواعليهم‌السلام على حثّ أصحابهم كي يباشروا الكتابة ويقيدوا العلم ، ودعوهم إلى الحفاظ على مدوّناتهم الحديثية ، كما تركوا آثاراً في الحديث لا يزال بعضها ماثلاً إلى اليوم ، وفي المقابل تجد أن سلطة الخلافة تدعو إلى حظر تدوين الحديث الشريف منذ رحيل المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان عمر بن عبد العزيز ، ومن أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام التي تدعو إلى تقييد العلم وكتابته ، ما رواه الحارث ، عن عليّعليه‌السلام قال : «قيّدوا العلم ، قيّدوا العلم»(٢) .

وعن حبيب بن جري ، قال : قال عليعليه‌السلام : «قيّدوا العلم بالكتاب»(٣) .

وعن المفضل بن عمر ، قال : قال لي أبو عبد اللّهعليه‌السلام : «اكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإن مت فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم»(٤) .

__________________

(١) التّوحيد : ١١٧ / ٢١ ، الاحتجاج : ٤٠٨.

(٢) تقييد العلم / الخطيب البغدادي : ٨٩.

(٣) تقييد العلم : ٩٠.

(٤) الكافي ١ : ٥٢ / ١١.

٤٥

وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبداللّهعليه‌السلام يقول : «اكتبوا ، فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا»(١) .

وعن عبيد بن زرارة ، قال : قال أبو عبداللّهعليه‌السلام : «احتفظوا بكتبكم ، فإنّكم سوف تحتاجون إليها»(٢) .

وكان بعض الكتب المتداولة عند أهل البيتعليهم‌السلام وبعض الأصحاب بخط أمير المؤمنينعليه‌السلام أو إملائه ، فقد كتب عليعليه‌السلام صحيفة من حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحملها في قائم سيفه(٣) ، ولهعليه‌السلام كتاب كبير يعرف بكتاب عليّ ، وهو من إملاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّهعليه‌السلام (٤) ، وقد احتفظ به أهل البيتعليهم‌السلام وتوارثوه ، فقد كان عند الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام (٥) .

وكان لعلي بن أبي رافع كتاب من إملاء أمير المؤمنينعليه‌السلام في فنون من فقه الوضوء والصلاة وسائر الأبواب(٦) ، وكتب أمير المؤمنينعليه‌السلام صحفا للحارث الأعور المتوفّى (٦٥ هـ) فيها علم كثير(٧) .

وللإمام علي بن الحسين السجادعليهما‌السلام (الصحيفة السجّادية) و (رسالة الحقوق) وأُثر عنهمعليهما‌السلام (مسند الإمام الكاظمعليه‌السلام ) و (مسائل علي بن

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٢ / ٩.

(٢) الكافي ١ : ٥٢ / ١٠.

(٣) فتح الباري ١ : ١٦٦ ، تدوين السنة / الجلالي : ٥٢.

(٤) تدوين السنة / الجلالي : ٦٢.

(٥) رجال النجاشي : ٣٦٠.

(٦) رجال النجاشي : ٦ / ٢.

(٧) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٦ : ١٦٨.

٤٦

جعفر) عن أخيه الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام و (صحيفة الإمام الرضاعليه‌السلام ) و (رسالته الذهبية) في الطبّ وغيرها كثير(١) .

وقد انعكس هذا المنهج على عمل أصحابهم ، فراحوا يدوّنون العلم فور إلقائه. روي بالإسناد عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور ، قال : « خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام خطبة بعد صلاة العصر ، فعجب الناس من حسن صفته ، وما ذكره من تعظيم اللّه جلّ جلاله ، قال أبو إسحاق : فقلت للحارث : أو ما حفظتها؟ قال : قد كتبتها ، فأملاها علينا من كتابه : الحمد للّه الذي لا يموت ، ولا تنقضي عجائبه »(٢) .

وعلى هذا السياق دوّن بعض أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام كتباً وصحفاً ونسخاً من حديثه وخطبه ومواعظه ، وقد كان لحجر بن عدي الكندي الشهيد سنة (٥١ هـ) صحيفة فيها حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام (٣) .

وكان زيد بن وهب الجهني المتوفّى (٩٦ هـ) قد جمع خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها في كتاب(٤) . ولعبيداللّه بن الحرّ الجعفي المتوفّى (٦٨ هـ) نسخة يرويها عنهعليه‌السلام (٥) ، وغير هؤلاء كثير.

__________________

(١) راجع : تدوين السنّة / الجلالي : ١٣٥ ـ ١٨٦.

(٢) الكافي ١ : ١٤١ / ٧ ، التوحيد : ٣١ / ١.

(٣) الطبقات الكبرى ٦ : ٢٢٠.

(٤) الفهرست / الطوسي : ٧٢ / ٢٩١.

(٥) رجال النجاشي : ٩ / ٦.

٤٧

وصنّف أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام في الأحاديث المروية من طرقهمعليهم‌السلام والمستمدّة من مدينة العلم النبوي ما يزيد على ستة آلاف وستمائة بين أصل أو كتاب أو نسخة(١) ، وامتاز من بين تلك الكتب أربعمائة كتاب ، عرفت عند الشيعة بالاُصول الأربعمائة(٢) ، وقد استقرّ الأمر على اعتبارها والتعويل عليها والاحتفاظ بها حتى بقي بعضها إلى يومنا هذا.

ومن هنا كان لهمعليهم‌السلام الدور الأكبر في الحفاظ على السنة النبوية المشرّفة من أن تمسّها يد النسيان والضياع ، أو تطالها يد التحريف والتغيير.

تصحيح كتب الحديث وأصوله :

وهذا من المعالم الأساسية في تصحيح الحديث ، حيث وقف الأئمّةعليهم‌السلام على أُصول أصحابهم التي قدّمنا ذكرها مباشرة فقرأوها ونظروا فيها أو قرئت عليهم ، وقالوا فيها كلمتهم ، مثل كتاب عبيد اللّه الحلبي الذي عُرض على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وكتاب يونس بن عبدالرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الإمام العسكريعليه‌السلام وغيرها ، وفيما يلي نسجل بعض الأمثلة على جهودهمعليهم‌السلام في هذا المضمار.

عن أبي الصباح قال : «سمعت كلاماً يروى عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن

__________________

(١) راجع : وسائل الشيعة ٣٠ : ١٦٥ ، أعيان الشيعة ١ : ١٤٠.

(٢) راجع : دائرة المعارف الإسلامية ٥ : ٣٢ ، أعيان الشيعة ١ : ١٤٠ ، الذريعة ٢ : ١٢٥ ـ ١٦٧.

٤٨

عليعليه‌السلام ، وعن ابن مسعود ، فعرضته على أبي عبد اللّهعليه‌السلام فقال : هذا قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرفه ، قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشقيّ من شقي في بطن أُمّه» ، وذكر الحديث بطوله(١) .

وعن محمد بن فلان الواقفي قال : «كان لي ابن عمّ يقال له الحسين ابن عبد اللّه ، وكان زاهداً ، فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : اذهب فتفقّه واطلب الحديث ، قال : عمّن؟ قال : عن فقهاء أهل المدينة ، ثمّ اعرض عليّ قال : فذهب فكتب ، ثم جاء فقرأه عليه فأسقطه كله»(٢) .

.عن أبي السري سهل بن يعقوب بن إسحاق ، عن الإمام الهاديعليه‌السلام ، «قال : قلت له ذات يوم : يا سيدي ، قد وقع لي اختيار الأيام عن سيدنا الصادقعليه‌السلام مما حدثني به الحسن بن عبد اللّه بن مطهر ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه ، عن سيدنا الصادقعليه‌السلام في كل شهر فأعرضه عليك؟ فقال لي : افعل. فلما عرضته عليه وصححته ، قلت له : يا سيدي ، في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد ، لما ذكر فيها من النحس والمخاوف ، فتدلّني على الاحتراز من المخاوف فيها ، فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟» إلى آخر الحديث(٣) .

وعن أبي عمرو المتطبب قال : «عرضت هذه الرواية على أبي عبد اللّهعليه‌السلام فقال : نعم هي حقّ ، وقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يأمر عمّاله

__________________

(١) الكافي ٨ : ٨١ / ٣٩ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٨٤ / ٢٨.

(٢) الكافي ١ : ٣٥٣ / ٨ ، الارشاد ٢ : ٢٢٣.

(٣) الأمالي / الطوسي : ٢٧٦ / ٥٢٩.

٤٩

بذلك»(١) .

وعن الحسن بن الجهم قال : «عرضته على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فقال لي : ارووه ، فانّه صحيح»(٢) .

وعن ابن فضال ، ومحمد بن عيسى ، عن يونس ، جميعاً عن الرضاعليه‌السلام قالا : «عرضنا عليه الكتاب فقال : هو حقّ ، وقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يأمر عماله بذلك ، قال : أفتىعليه‌السلام في كلّ عظمٍ له مخّ فريضة مسمّاة ، إذا كسر فجبر على غير عثم ولا عيب ، فجعل فريضة الدية ستة أجزاء» ، إلى آخر الحديث(٣) .

وعن أحمد بن أبي خلف قال : «كنت مريضاً ، فدخل عليّ أبو جعفرعليه‌السلام يعودني عند مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه من أوله إلى آخره وجعل يقول : رحم اللّه يونس ، رحم اللّه يونس ، رحم اللّه يونس»(٤) .

وعن داود بن القاسم الجعفري قال : «أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكريعليه‌السلام ، فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحقّ كلّه»(٥) .

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٥٤ / ١٩٤.

(٢) الكافي ٧ : ٣٢٤ / ٩.

(٣) التهذيب ١٠ : ٢٩٥ / ١١٤٨.

(٤) رجال الكشي ٢ : ٤٨٤ / ٩١٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ / ٧٤.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٤٨٤ / ٩١٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ / ٧٥.

٥٠

وعنه ، قال : «عرضت على أبي محمد العسكريعليه‌السلام كتاب يوم وليلة ليونس فقال لي : تصنيف من هذا؟ قلت : تصنيف يونس مولى آل يقطين ، فقال : أعطاه اللّه بكلّ حرفٍ نوراً يوم القيامة»(١) .

وفي حديث آخر عن بورق البوشجاني ، قال : «خرجت إلى سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمدعليه‌السلام وأريته ذلك الكتاب ، وقلت له : إن رأيت أن تنظر فيه؟ فلمّا نظر فيه وتصفّحه ورقة ورقة ، قال : هذا صحيح ، ينبغي أن تعمل به»(٢) . وفي هذا الكلام ما لا يخفى من الحثّ على سلامة التصنيف في الحديث.

وذكر النجاشي أنّ كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي عُرِض على الصادقعليه‌السلام فصححه واستحسنه(٣) .

وقال الشيخ في الفهرست : «عبيداللّه بن علي الحلبي. له كتاب مصنف معوّل عليه ، وقيل : إنّه عُرِض على الصادقعليه‌السلام ، فلما رآه استحسنه وقال : ليس لهؤلاء ـ يعني المخالفين ـ مثله»(٤) .

وقال الشيخ الطوسي في ترجمة عبيد بن محمد البجلي : « عبيد بن محمد بن قيس البجلي. له كتاب ، يرويه عن أبيه وقال أبوه : عرضنا هذا

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٤٧ / ١٢٠٨ ، رجال ابن داود : ٢٠٧ / ١٧٤٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٢ / ٨٠.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٥٣٨ / ١٠٢٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ / ٧٦.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٢ / ٨١ ، رجال النجاشي : ٢٣١ / ٦١٢.

(٤) الفهرست : ١٠٦ / ٤٥٥ ، رجال ابن داود : ١٢٥.

٥١

الكتاب على أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، فقال : هذا قول أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إنّه كان يقول إذا صلّى قال في أول الصلاة وذكر الكتاب»(١) .

وذكر الكشي أن الفضل بن شاذان عرض كتابه على الإمام العسكريعليه‌السلام ، فتناوله منه ونظر فيه ، فترحّم عليه وقال : «أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان ، وكونه بين أظهرهم»(٢) .

وقال النجاشي في ترجمة عبد اللّه بن أبجر : « شيخ من أصحابنا ، ثقة ، وبنو أبجر بيت بالكوفة أطباء ، وأخوه عبد الملك بن سعيد ثقة ، عمّر إلى سنة أربعين ومائتين. له كتاب الديات ، رواه عن آبائه ، وعرضه على الرضاعليه‌السلام ، والكتاب يعرف بين أصحابنا بكتاب عبد اللّه بن أبجر»(٣) .

* * *

__________________

(١) الفهرست : ١٠٨ / ٤٥٩.

(٢) رجال ابن داود : ١٥١ / ١٢٠٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠١ / ٣٣٣٢٢.

(٣) رجال النجاشي : ٢١٧ / ٥٦٥.

٥٢

الفصل الثاني

معالم التصحيح في العقائد

أولى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مسألة التصحيح العقائدي أهمية فائقة؛ لأنّ العقيدة أساس الدين في كلّ تشريع ، وهي المقصود الأول من مقاصد الإصلاح الديني ، فسعوا إلى تخليص أصول الاعتقاد من الاتجاهات المدمّرة للفكر والعقيدة ، وتبنّوا إصلاح ما ضلّ من العقائد والمفاهيم والأفكار ، وما فسد من الأعمال ، وكشفوا عن جنايات المحرّفين والمبدّلين ، وسعوا إلى إعادة التوحيد إلى اُصوله الخالصة من تضليل المجبرة والمرجئة والمعطلة وغيرها من الفرق التي نشأ أغلبها في أحشاء السياسة ، وأرشدوا الضالين إلى ينابيعه الصافية ، وردّوا العقول الضالة إلى رشدها ، فلم يدعوا حجة لمحتجّ ، ولا معذرة لمعتذر. وفي كتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق ، وكتاب التوحيد من (اصول الكافي) المزيد من الأمثلة حول الاصلاح العقائدي الذي مارسه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

وقبل الوقوف في أهم محطات التصحيح في الاتجاه العقائدي ، لابدّ أولاً من الاشارة إلى دورهمعليهم‌السلام في تربية أصحابهم عقائدياً ضمن اتجاهين :

٥٣

الأول : مباحثة أصحابهم في المسائل الكلامية وتصحيحها :

كان هشام بن الحكم واحداً من الذين سألوا الإمام الصادقعليه‌السلام عن مئات المسائل الكلامية ، وقد تعرض الإمامعليه‌السلام خلال أجوبته للوضع الفكري السائد آنذاك بالتقويم والتصحيح ، قال هشام بن الحكم : «سألت أبا عبد اللّهعليه‌السلام بمنى عن خمس مئة حرف من الكلام ، فأقبلت أقول : يقولون كذا وكذا ، قال : فيقول : قل كذا وكذا ، قلت : جعلت فداك ، هذا الحلال وهذا الحرام ، أعلم أنك صاحبه ، وأنك أعلم الناس به ، وهذا هو الكلام. فقال لي : ويك يا هشام! لا يحتجّ اللّه تبارك وتعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه»(١) .

الثاني : استعراض عقائد أصحابهم وتصحيحها :

لدينا هنا نموذجان جديران بالأهمية ، لما فيهما من استعراض لأصول الاعتقاد والفرائض الواجبة في الإسلام ، تولى التصحيح في أحدهما الإمام الصادقعليه‌السلام ، وفي الآخر الإمام الهاديعليه‌السلام .

١ ـ عن عمرو بن حريث قال : «دخلت على أبي عبد اللّهعليه‌السلام وهو في منزل أخيه عبد اللّه بن محمد فقلت له : جعلت فداك ، ألا أقصّ عليك ديني؟ فقال : بلى ، قلت : أدين اللّه بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن اللّه يبعث من في القبور ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٦٢ / ٥.

٥٤

وحج البيت ، والولاية لعلي أمير المؤمنين بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والولاية للحسن والحسين ، والولاية لعلي بن الحسين ، والولاية لمحمد بن علي ولك من بعده (صلوات اللّه عليهم أجمعين) وأنكم أئمتي ، عليه أحيا ، وعليه أموت ، وأدين اللّه به.

فقال : يا عمرو ، هذا واللّه دين اللّه ، ودين آبائي الذي أدين اللّه به في السرّ والعلانية ، فاتق اللّه وكفّ لسانك إلاّ من خير ، ولا تقل إني هديت نفسي ، بل اللّه هداك ، فأدِّ شكر ما أنعم اللّه عزّ وجلّ به عليك ، ولا تكن ممن إذا أقبل طعن في عينه ، وإذا أدبر طعن في قفاه »(١) .

٢ ـ وعن عبد العظيم الحسني ، قال : «دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالبعليهم‌السلام ، فلما بصر بي قال لي : مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاً. قال : فقلت له : يا ابن رسول اللّه ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى اللّه عزّوجلّ؟ فقال : هات يا أبا القاسم.

فقلت : إني أقول إن اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين؛ حد الإبطال ، وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ، ومصور الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، ورب كل شيء ومالكه ، وجاعله ومحدثه ، وأن

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٣ / ١٤.

٥٥

محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله خاتم النبيين ، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة ، وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير الموءمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي.

فقالعليه‌السلام : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي؟ قال : لأنه لا يرى شخصه ، ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

قال : فقلت : أقررت ، وأقول : إن وليهم ولي اللّه ، وعدوهم عدو اللّه ، وطاعتهم طاعة اللّه ، ومعصيتهم معصية اللّه ، وأقول : إن المعراج حق ، والمساءلة في القبر حق ، وإن الجنة حق ، وإن النار حق ، والصراط حق ، والميزان حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وإن اللّه يبعث من في القبور ، وأقول : إن الفرائض الواجبة بعد الولاية : الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقالعليه‌السلام : يا أبا القاسم ، هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ، ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة»(١) .

موارد من التصحيح العقائدي :

١ ـ صفات الذات :

في خضمّ الجدل الدائر في صفات الذات الإلهية ، حرص أهل

__________________

(١) اكمال الدين : ٣٧٩ / ١ ، التوحيد : ٨١ / ٣٧.

٥٦

البيتعليهم‌السلام على تأكيد حقيقة أن الخالق لا يمكن أن يوصف بغير ما وصف به نفسه ، وأن البشر لا يتمكن من معرفة صفات الذات إلاّ من خلاله سبحانه ، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد سواه ، وإذا حاول أحد ذلك فقد يصفه من خلال ما يتوهمه فيقول ما لا يرضي اللّه ، الأمر الذي يعني إبطال كل المقولات التي كانت تموج بها الساحة الإسلامية من المشبهة والمجسمة والمعطلة وغيرهم.

عن محمد بن حكيم ، قال : «كتب أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام إلى أبي : إن اللّه أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفوا عما سوى ذلك»(١) .

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني ، قال : « ضمني وأبا الحسن الهاديعليه‌السلام الطريق حين منصرفى من مكة إلى خراسان ، وهو صائر إلى العراق ، فسمعته وهو يقول : إن الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الاحاطة به ، جل عما يصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيّف الكيف فلا يقال كيف ، وأيّن الأين فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية ، هو الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فجل جلاله »(٢) .

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٢ / ٦.

(٢) كشف الغمة ٣ : ١٧٩.

٥٧

كيف وصف أهل البيتعليهم‌السلام الذات الإلهية؟

على ضوء ما تقدم مارس آل البيتعليهم‌السلام التصحيح في هذا الاطار بكلمات منتزعة من ألفاظ الكتاب الكريم وسنة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، محذرين من رواسب الشرك ومقولات أهل البدع والأوهام الباطلة المستندة إلى تقديرات العقول.

فمن كلام لأمير المؤمنينعليه‌السلام وقد سأله ذعلب اليماني : «هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام : أفأعبد ما لا أرى؟ فقال : وكيف تراه؟ فقال : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان. قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم لا بروّية ، مريد لا بهمّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته»(١) .

وعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «قلت : جعلت فداك ، يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر ، ويبصر بغير الذي يسمع؟ قال : فقال : كذبوا وألحدوا ، وشبّهوا ، تعالى اللّه عن ذلك ، إنه سميع بصير ، يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع.

قال : قلت : يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه. قال : فقال : تعالى اللّه ، إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق ، وليس اللّه كذلك»(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٥٨ ـ الخطبة ١٧٩.

(٢) الكافي ١ : ١٠٨ / ١.

٥٨

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام وقد قال رجل عنده : اللّه أكبر ، فقال : اللّه أكبر من أيّ شيء؟ فقال : من كلّ شيء. فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : حدّدته. فقال الرجل : كيف أقول؟ قال : قل : اللّه أكبر من أن يُوصَف»(١) .

وهنا يمارس الإمامعليه‌السلام عملية تصحيح للمقولة ، وما أكثر الناس الذين يقولون : اللّه أكبر من كل شيء! فيجعلون للّه تعالى حدّاً من حيث لا يشعرون ، من هنا جاء في الحديث الشريف : «الشرك أخفى من دبيب النمل».

وعن أبي الصلت الهروي ، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، قال : يابن رسول اللّه ، إن قوماً يقولون : لم يزل عالماً بعلم ، وقادراً بقدرة ، وحياً بحياة ، وقديماً بقدم ، وسميعاً بسمع ، وبصيراً ببصر؟ فقالعليه‌السلام : من قال ذلك ودان به ، فقد اتخذ مع اللّه آلهة اُخرى ، وليس من ولايتنا على شيء. ثم قالعليه‌السلام : لم يزل اللّه عزّوجلّ عليماً ، قادراً ، حياً ، قديماً ، سميعاً ، بصيراً لذاته ، تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علواً كبيراً»(٢) .

٢ ـ تنزيه الذات عن مقولات المشبهة والمعطلة :

يختلف الرأي في صفات الذات بين المتكلمين ، فمنهم من يثبت الصفات البشرية على الذات الإلهية ، كامتلاك الجارحة ، والنزول والانتقال من مكان إلى مكان ، والجلوس على العرش ، وهؤلاء هم المشبهة ، ومنهم من يذهب إلى تعطيل العقول عن المعرفة ، وهم المعطّلة ، وإزاء ذلك دعا

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٧ / ٨.

(٢) التوحيد : ١٣٩ / ٣ ، عيون أخبار الرضا ١ : ١١٩ / ١٠ ، الاحتجاج : ٤١٠.

٥٩

أهل البيتعليهم‌السلام إلى التحدث بلغة القرآن ، وأخذ العناوين الكبرى في العقيدة منه لا من غيره ، فنفوا التشبيه والتعطيل جميعاً ، وأكدوا أن اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين ؛ حد الابطال ، وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم لأنّه خالق الأجسام ، ولا صورة لأنّه خالق الصور ومبدعها ، ولا عرض ولا جوهر ، لأنه خالق الأعراض والجواهر ، وهو رب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه. وفيما يلي نستعرض بعض الروايات الواردة عنهمعليهم‌السلام ، وهي تؤكد هذه المضامين ، وتشير إلى تصدي أهل البيتعليهم‌السلام إلى أمثال هذه المقولات الباطلة :

عن أبي حمزة الثمالي قال : «رأيت علي بن الحسينعليهما‌السلام قاعداً واضعاً احدى رجليه على فخذه فقلت : إنّ الناس يكرهون هذه الجلسة ، ويقولون : إنها جلسة الرب؟! فقال : إني إنما جلست هذه الجلسة للملالة ، والربّ لا يملّ ، ولا تأخذه سنة ولا نوم»(١) .

وعن عبدالرّحيم القصير ، قال : «كتبتُ على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبداللّهعليه‌السلام بمسائل فيها : أخبرني عن اللّه عزّوجلّ هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ، فإن رأيت ـ جعلني اللّه فداك ـ أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد؟ فكتبعليه‌السلام بيدي عبدالملك بن أعين : سألت ـ رحمك اللّه ـ عن التوحيد ، وما ذهب إليه من قبلك ، فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٦١ / ٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

القاضي يسأل [ حسبةً ](١) ليصل الحقّ إلى مستحقّه ، فإن مات قبل البيان ، كان كما لو أقرّ لإنسانٍ فردّه(٢) .

وقال بعضهم : يطالب ورثته ليفسّر(٣) .

وإن انفصل حيّاً للمدّة التي قدّرنا من قَبْلُ - وهي أقلّ من ستّة أشهر - فالكلّ له ، ذكراً كان أو أُنثى.

وإن انفصل لأقصى مدّة الحمل ، فإن كان لها زوج يطؤها أو مولى ، لم يصح الإقرار ؛ لأنّا لا نعلم وجوده حين الوصيّة ؛ لجواز أن يحدث بعدها.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ الإقرار وغيره يُحمل على الصحّة ما أمكن.

وإن لم يكن لها زوج ولا مولى ، صحّت الوصيّة ؛ لأنّا نحكم بوجوده حال الوصيّة ، فصحّت له.

وإن ولدت ولداً بعد آخَر ، فإن كان بينهما أقلّ من ستّة أشهر ، فالمال لهما ؛ لأنّهما حملٌ واحد. وإن كان بينهما ستّة أشهر فصاعداً ، فهو للحمل الأوّل ، دون الثاني.

وإن ولدت ذكراً وأُنثى ، فهو لهما بالسويّة ؛ لأنّ ظاهر الإقرار يقتضي التسوية ، ومن المحتمل أن تكون الجهة الوصيّةَ.

ومتى انفصل حيّ وميّت ، جُعل الميّتَ كأن لم يكن ، ويُنظر في الحيّ على ما ذكرنا.

مسألة ٨٦٨ : لو أقرّ بحمل جاريةٍ أو حمل دابّةٍ لإنسانٍ ، صحّ الإقرار ، وفيه ما تقدّم من التفصيل فيما إذا أقرّ للحمل ، ويُنظر كم بين انفصاله وبين‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حبسه ». والمثبت - كما في المصدر - هو الصحيح.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٢ - ١٣.

٢٨١

يوم الإقرار من المد ّة على ما سبق ، ويرجع في حمل البهيمة إلى أهل الخبرة.

وإن أطلق أو أسند إلى جهةٍ فاسدة ، خرج على ما تقدّم من الخلاف.

ولو أقرّ لرجلٍ بالحمل ، وبالأُم لآخَر ، صحّ الإقرار.

وللشافعيّة خلاف.

قالوا : إن جوّزنا الإقرار بالحمل ، صحّ الأمران ، وإلّا فلا(١) .

قال بعضهم : هُما جميعاً للأخير ؛ بناءً على أنّ الإقرار بالحامل إقرار بالحمل(٢) .

مسألة ٨٦٩ : لو أقرّ لمسجدٍ أو مشهدٍ أو مقبرةٍ أو رباطٍ أو مدرسةٍ ونحوها من القناطر وغيرها ، فإن أسنده إلى جهةٍ صحيحة ، كغلّة وقف عليه أو نذر لمصالحه ، صحّ.

وإن أطلق ، فكذلك.

وللشافعيّة وجهان تخريجاً من القولين في مسألة الحمل(٣) .

وعلى قياسه ما إذا أضاف إلى جهةٍ فاسدة(٤) .

والأقوى عندي اللزوم ، ولا يلتفت إلى الإضافة الفاسدة على ما تقدّم.

المطلب الثاني : في اشتراط عدم التكذيب.

مسألة ٨٧٠ : يشترط في الإقرار والحكم بصحّته عدم تكذيب المـُقرّ له للمُقرّ وعدم إنكاره لما أقرّ له به.

نعم ، لا يشترط قبوله لفظاً على رسم الإيجاب والقبول في الإنشاءات.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٦ ، بحر المذهب ٨ : ٢٢٥ ، الوجيز ١ : ١٩٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦١ ، البيان ١٣ : ٣٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

٢٨٢

فإذا أقرّ لزيدٍ بأل فٍ فكذّبه زيد ، لم يدفع إليه ، ولا شي‌ء عليه في ذمّته.

ولو أقرّ بعينٍ له ، فأنكر زيد أنّها له ، لم تُدفع العين إلى المُقرّ له.

ثمّ للقاضي الخيار إن شاء انتزعه(١) من يده وسلّمه إلى أمينه ليحفظه لمالكه إذا ظهر سلّمه إليه ، وإن شاء أبقاه في يد المُقرّ كما كان ؛ لأنّ يده أولى الناس بحفظه.

وبالجملة ، فالحاكم هو المتولّي لحفظ ما يضيع ، وهذا في حكم مالٍ ضائعٍ ، فيحتاط لمالكه ، فإذا رأى استحفاظ صاحب اليد ، فهو كما لو استحفظ عَدْلاً آخَر.

وقال بعض الشافعيّة : فيه وجهان :

أظهرهما : تركه في يد المـُقرّ.

والثاني : يحفظه القاضي(٢) .

وقال قوم منهم : إنّه يُجبر المـُقرّ له على القبول والقبض(٣) .

وهو بعيد عن الصواب.

وقال بعضهم : موضع الخلاف ما إذا قال صاحب اليد للقاضي : في يدي مال لا أعرف مالكه ، فالوجه : القطع بأنّ القاضي يتولّى حفظه(٤) .

وأبعد بعضهم فقال : لا يجوز انتزاعه هنا أيضاً(٥) .

مسألة ٨٧١ : لو رجع الـمُقرّ له عن الإنكار وصدّق المُقرّ في إقراره‌ ،

____________________

(١) تذكير الضمير هنا وفيما يأتي باعتبار الـمُقرّ به ، أو المال.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٢٤ ، الوجيز ١ : ١٩٦ ، البيان ١٣ : ٣٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

٢٨٣

فالأقرب : إنّ له الأخذ ؛ عملاً بإقرار المـُقرّ ، السالم عن الإنكار ، لزوال حكمه بالتصديق الطارئ فتعارضا ، وبقي الإقرار سالماً عن المعارض ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .

وقال آخَرون : هذا تفريع على الخلاف السابق ، إن قلنا : يُترك في يد الـمُقرّ ، فهذا حكمٌ منّا بإبطال ذلك الإقرار ، فلا يصرف إلى الـمُقرّ له إلّا بإقرارٍ جديد. وإن قلنا : ينتزعه الحاكم ويحفظه ، فكذلك لا يُسلّم إليه ، بل لو أراد إقامة البيّنة على أنّه ملكه ، لم تُسمع. وإنّما يُسلّم له إذا فرّعنا على الوجه البعيد من أنّ الـمُقرّ له يُجبر على أخذه ، والظاهر من قول الشافعيّة أنّه لا يُسلّم إليه(٢) .

مسألة ٨٧٢ : لو أقرّ لزيدٍ فأنكر زيدٌ ثمّ رجع المُقرّ حال إنكار زيد ، فقال : غلطت ، أو تعمّدت الكذب والمال ليس لزيدٍ ، لم يلتفت إلى رجوعه إن قلنا : ينتزعه الحاكم.

وإن قلنا : يُترك في يده ، احتُمل أنّه لا يُقبل إنكاره أيضاً ؛ بناءً على أنّه لو عاد الـمُقرّ له إلى التصديق قُبِل منه ، فإذا كان ذلك متوقَّعاً ، لم يلتفت إلى رجوعه.

واحتُمل القبول ؛ بناءً على أنّ الترك في يده إبطال للإقرار.

وللشافعيّة وجهان أظهرهما : الثاني(٣) .

مسألة ٨٧٣ : لو أقرّ لزيدٍ بعبدٍ فأنكر زيد ملكيّته ، فالحكم كما لو أقرّ بغيره من ثوبٍ وشبهه‌ ؛ لأنّه محكوم له بالرقّ ، فلا يرفع إلّا بيقينٍ.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ - ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤ - ١٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

٢٨٤

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّه يُحكم بعتقه - وهو قول الشيخ(١) رحمه‌الله - لأنّ صاحب اليد لا يدّعيه ، والـمُقرّ له ينفيه ، فيصير العبد في يد نفسه ، ويُعتق ، وهذا كما إذا أقرّ اللقيط بعد البلوغ بأنّه مملوك زيدٍ فأنكر زيد ، يُحكم له بالحُرّيّة ، كذا هنا.

والثاني : المنع - كما قلناه - ويبقى على الرقّيّة المجهولة المالك ، بخلاف صورة اللقيط ؛ فإنّه محكوم بحُرّيّته بالدار ، فإذا أقرّ ونفاه المُقرّ له ، بقي على أصل الحُرّيّة ، فإذاً لا فرق بين العبد وغيره من أعيان الأموال(٢) .

ولو أقرّ العبد بأنّه ملكٌ لفلان غير مَنْ أقرّ له مولاه به ، كان لغواً ، وبقي على الرقّيّة المجهولة المالك.

ولو كان الـمُقرّ به قصاصاً أو حدَّ قذفٍ فكذّبه الـمُقرّ له ، سقط الإقرار. وكذا لو أقرّ بسرقةٍ توجب القطع ، وأنكر ربٌّ المال السرقةَ ، سقط القطع. وفي المال ما تقدّم(٣) .

ولو أقرّت المرأة بنكاحٍ فأنكر الزوج ، سقط حكم الإقرار في حقّه.

مسألة ٨٧٤ : لو كان في يده عبدان ، فقال : أحد هذين العبدين لزيدٍ ، طُولب بالتعيين ، فإن عيّن واحداً منهما ، فقال زيد : ليس هذا عبدي ، بل الآخَر ، فهو مكذّب للمُقرّ في المعيَّن ، وحكمه ما تقدّم ، ومُدّعٍ في العبد الآخَر ، فإن أقام البيّنة به حُكم له ، وإلّا حلف الـمُقرّ ، وسقطت دعواه فيه.

ولو ادّعى على آخَر ألفاً من ثمن مبيعٍ ، فقال المدّعى عليه : قد‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٣ : ٢٣.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

(٣) في المسألة ٨٧٠.

٢٨٥

أقبضتُك ، فأقام البائع على المشتري بيّنةً بعد بيّنته بأنّه ما أقبضه الثمن بَعْدُ ، سُمعت ، وأُلزم المشتري الثمن ؛ لأنّه وإن قامت البيّنة على إقراره بالقبض فقد قامت على أنّ صاحبه كذّبه ، فيبطل حكم الإقرار ، ويبقى الثمن على المشتري.

مسألة ٨٧٥ : قد ذكرنا أنّ من شرط صحّة الإقرار تعيينَ الـمُقرّ له‌ ، فلو قال : لإنسانٍ عندي كذا ، أو لواحدٍ من بني آدم ، أو لواحدٍ من خلق الله تعالى ، أو لواحدٍ من أهل البلد ، احتُمل البطلان ؛ لعدم التعيين ، فلا يطالب به.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّه إذا أقرّ لمعيَّن بشي‌ء فكذّبه الـمُقرّ له ، هل يخرج من يده؟ إن قلنا : نعم ؛ لأنّه مال ضائع ، فكذا هنا ، ويصحّ الإقرار ، ويكون معتبراً ، ويخرجه الحاكم من يده ويحفظه من صاحبه. وإن قلنا : لا ، لم يصح هذا الإقرار(١) .

والأقرب عندي القبول ، وصحّة هذا الإقرار ، ثمّ للحاكم انتزاعه من يده وإبقاؤه في يده.

فعلى قولنا بالصحّة لو جاء واحد وقال : أنا الذي أردتَني ولي عليك ألف ، فالقول قول الـمُقرّ مع يمينه في نفي الإرادة ونفي الألف.

ومَنْ أبطل هذا الإقرار فرّق بينه وبين قوله : غصبت هذا من أحد هذين الرجلين ، أو هؤلاء الثلاثة ، حيث يعتبر ؛ لأنّه إذا قال : هو لأحد هذين ، فله مُدّعٍ وطالب ، فلا يبقى في يده مع قيام الطالب واعترافه بأنّه ليس له ، وأمّا إذا قال : لواحدٍ من بني آدم ، فلا طالب له ، ويبقى في يده(٢) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠.

٢٨٦

والوجه : ما قلناه م ن عدم اشتراط تعيينه.

والقائلون به لا يشترطون التعيين من كلّ وجهٍ ، بل أن يكون معيّناً ضرب تعيينٍ تتوقّع منه الدعوى والطلب(١) .

البحث الرابع : في المُقرّ به.

مسألة ٨٧٦ : يشترط في الـمُقرّ به أن يكون مستحقّاً إمّا بأن يكون مالاً مملوكاً ،أو بأن يكون حقّاً تصحّ المطالبة به ، كشفعةٍ وحدِّ قذفٍ وقصاصٍ وغير ذلك من الحقوق الشرعيّة ، كاستطراقٍ في دربٍ ، وإجراء ماءٍ في نهرٍ ، وإجراء ماء ميزابٍ إلى ملكٍ ، وحقّ طرح خشبٍ على حائطٍ ،أو بأن يكون نسباً.

ولو أقرّ بما لا يصحّ تملّكه مطلقاً - كالأبوال والعذرات وجميع الفضلات - لم يصح ، وكان الإقرار لاغياً لا يجب به شي‌ء.

ولو أقرّ بما يتموّله أهل الذمّة - كالخمر والخنزير - للمُسلم ، لم يصح ، ويصحّ للذمّي ؛ لأنّ المـُسلم يضمنه بقيمته عند مستحلّيه لو أتلفه عليهم وكانوا مستترين به.

مسألة ٨٧٧ : يشترط في القضاء والحكم بالإقرار بالملكيّة لمن أُقرّ له كون المـُقرّ به تحت يد الـمُقرّ وتصرّفه‌ ، فلو أقرّ بما ليس في يده بل في يد الغير - كعبدٍ في يد زيدٍ أقرّ به لغيره - لم يُحكم بثبوت الملكيّة في العبد للمُقرّ له بمجرّد الإقرار ، بل يكون ذلك دعوىً أو شهادةً.

ولا يلغو الإقرار من كلّ وجهٍ ، بل لو حصل الـمُقرّ به في يده بملكيّةٍ ظاهرة ساعةً من الزمان ، أُمر بتسليمه إلى المـُقرّ له.

فلو قال : العبد الذي في يد زيدٍ مرهون عند عمرو بكذا ، ثمّ ملك

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠.

٢٨٧

العبد ظاهراً ، أُمر ببيعه في دَيْن عمرو.

ولو أقرّ بحُرّيّة عبدٍ في يد زيدٍ ، لم يُقبل منه ، أو شهد [ بها ](١) فردّت شهادته ، لم يُحكم بحُرّيّته في الحال.

فإذا أقدم على شرائه من زيدٍ صحّ ؛ تنزيلاً للعقد على قول مَنْ صدّقه الشرع ، وهو البائع صاحب اليد ، بخلاف ما إذا قال : فلانة أُختي من الرضاع ، ثمّ أراد أن ينكحها ، لم يُمكّن منه ؛ لأنّ في الشراء يحصل غرض استنقاذه من أسر الرقّ ، وهذا الغرض لا يوجد في النكاح ؛ للاستمتاع بفرجٍ اعترف بأنّه حرام عليه.

ثمّ إذا اشترى العبد ، حُكم بُحرّيّته ، وأُمر برفع يده عنه ؛ عملاً بإقراره.

مسألة ٨٧٨ : إذا كان صورة إقراره : إنّ عبد زيدٍ حُرّ الأصل ، أو أنّه أُعتق قبل أن أشتريه‌ ، فإذا اشتراه فهو فداء من جهته إجماعاً.

فإذا مات العبد وقد اكتسب مالاً ولا وارث له من الأنساب ، فالمال للإمام ، وليس للمشتري أن يأخذ منه شيئاً ؛ لأنّه بتقدير صدقه لا يكون المال للبائع حتى يأخذ منه عوض ما دفعه إليه من الثمن.

ولو مات العبد قبل أن يقبضه المشتري ، لم يكن للبائع أن يطالبه بالثمن ؛ لأنّه لا حُرّيّة في زعمه ، والمبيع قد تلف قبل قبضه ، فبطل البيع.

مسألة ٨٧٩ : لو كانت صيغة الإقرار : إنّك أعتقته والآن أنت تسترقّه ظلماً ، ثمّ عقد البيع معه ، فالوجه : إنّه بيع من جهة البائع ؛ لأنّه ملكه ، وهو يدّعي ملكيّته ، واليد تشهد له ، فلا يلتفت إلى إقرار الغير عليه ، فكان بمنزلة‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « به ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٨٨

ما لو باعه على غيره ، ويكون افتداءً من جهة الـمُقرّ ؛ لاعترافه بالحُرّيّة ، وأنّ هذا العقد ليس بصحيحٍ ، حيث لم يصادف محلّاً قابلاً له ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : إنّه بيع من الجانبين.

والثالث : إنّه افتداء من الجانبين(١) .

وهذا الثالث خطأ ؛ لأنّه كيف يقال : إنّه استنقاذ في طرف البائع!؟ وكيف يأخذ المال لينقذ مَنْ يسترقّه ويعرفه حُرّاً فيفتديه به!؟ بل لو قيل فيه المعنيان معاً والخلاف في أنّ الأغلب منهما ما ذا؟ كان محتملاً على ضعفٍ.

وأكثر الشافعيّة على أنّه بيع من جهة البائع ، وأمّا من جهة المشتري فوجهان :

أحدهما : إنّه شراء ، كما في جانب البائع.

والثاني : إنّه افتداء ؛ لاعترافه بحُرّيّته وامتناع شراء الحُرّ(٢) .

مسألة ٨٨٠ : إذا ثبت أنّه بيع من طرف البائع وافتداء من طرف المشتري ، لا يبطل خيار المجلس في طرف البائع ، بل يثبت له الخيار ما داما في المجلس. وكذا يثبت له خيار الشرط لو شرط وإن طال زمانه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ؛ بناءً على ظاهر مذهبهم من أنّه بيع من جانبه(٣) .

ولو كان البيع بثمنٍ معيّنٍ فخرج معيباً وردّه البائع ، كان له أن يستردّ العبد ، بخلاف ما لو باع عبداً وأعتقه المشتري ثمّ خرج الثمن المعيّن معيباً ورُدّ ، فإنّه لا يستردّ العبد ، بل يعدل إلى القيمة ؛ لاتّفاقهما على العتق هناك.

وأمّا المشتري فلا يثبت له خيار المجلس ولا خيار الحيوان ؛ لأنّه‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

٢٨٩

ليس شراء في طرفه ، بل هو فداء.

ومَنْ قال من الشافعيّة : إنّه شراء في طرفه ، أثبت له الخيار(١) .

وعلى الوجهين فلا ردّ له لو خرج العبد معيباً ؛ لاعترافه بحُرّيّته ، لكن يأخذ الأرش إن جعلناه شراءً ، وإلّا فلا أرش له.

وبهذا الثاني نقول.

وقال الجويني : إذا لم يثبت خيار المجلس للمشتري ، ففي ثبوته للبائع وجهان ؛ لأنّ هذا الخيار لا يكاد يتبعّض(٢) .

وليس بمعتمدٍ.

وقال بعض الشافعيّة : لا يثبت للبائع خيار أيضاً ، كما لو باع عبده من نفسه ، أو باع عبده على مَنْ يعتق عليه(٣) .

وقال بعضهم بثبوت الخيار للبائع في هاتين الصورتين أيضاً(٤) .

وليس بجيّدٍ.

مسألة ٨٨١ : إذا حكمنا بالعتق في هذا العبد ، لم يكن للمشتري ولاؤه‌ ؛ لاعترافه بأنّه لم يعتقه ، ولا للبائع ؛ لأنّه يزعم أنّه لم يعتقه ، فيكون موقوفاً.

ولو مات العبد وقد اكتسب مالاً ، فإن كان له وارث بالنسب ، فهو له ، وإلّا فيُنظر إن صدّق البائع المشتري ، ردّ الثمن.

وإن كذّبه وأصرّ على كلامه الأوّل ، قال بعض(٥) فقهائنا : للمشتري أن‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٣) الوجيز ١ : ١٩٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٥) المحقّق في شرائع الإسلام ٣ : ١٥٥.

٢٩٠

يأخذ منه قدر ما دفعه ثمناً إلى البائع ؛ لأنّ المشتري إن كان كاذباً فجميع كسبه له ؛ لأنّه مملوكه ، وإن كان صادقاً فالكسب للبائع إرثاً بالولاء ، وهو قد ظلمه بأخذ الثمن وتعذّر استرداده ، فإذا ظفر بماله كان له أن يأخذ منه حقّه ، وهو قول المزني(١) .

وظاهر مذهب الشافعي أنّه يوقف المال بأسره ، كما كان الولاء موقوفاً(٢) .

واضطرب أصحابه.

فقال بعضهم : قول المزني خطأ ؛ لأنّ المشتري لو أخذ شيئاً فإمّا أن يأخذ بجهة أنّه كسب مملوكه ، وقد بانَ أنّه حُرٌّ بإقراره ، أو بجهة الظفر بمال ظالمه ، وهو ممتنع ؛ لأنّه إنّما بذله فداءً تقرّباً إلى الله تعالى باستنقاذ حُرٍّ ، فيكون سبيلُه سبيل الصدقات ، والصدقات لا يرجع فيها ، ولأنّه لا يدري أنّه يأخذ بجهة الملك ، أو بجهة الظفر بمال ظالمه ، فيمنع من الأخذ إلى ظهور جهته(٣) .

وأكثر الشافعيّة على ما قال المزني(٤) .

وقال جماعة منهم : إنّ الشافعي ذكر ما قاله المزني أيضاً ، وإنّما حَكَم بوقف الزائد على الثمن وقف الولاء ، وأمّا المستحقّ بكلّ حالٍ فلا معنى للوقف فيه ، ويجوز الرجوع في المبذول فيه على جهة الفدية والدية ، كما‌ لو فدى أسيراً في يد المشركين ثمّ استولى المسلمون على بلادهم ووجد الباذل عين ماله ، أخذه. واختلاف الجهة لا يمنع الأخذ بعد الاتّفاق على أصل الاستحقاق ، كما لو قال : لي عليك ألف ضمنته ، فقال : ما ضمنت

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

٢٩١

شيئاً ولكن لك علَيَّ ألف عن قيمة متلفٍ(١) .

والأصحّ : الثبوت ، وقطع النظر عن الجهة.

مسألة ٨٨٢ : لو استأجر العبد الذي أقرّ بحُرّيّته بدلاً عن الشراء ، صحّ العقد بالنسبة إلى المؤجر ، وكان له المطالبة بالأُجرة ، ولا يحلّ للمستأجر استخدامه والانتفاع به ، فإن استخدمه وجب عليه دفع أُجرة المثل إليه ، ولم يكتف بما دفعه إلى المؤجر.

ولو أقرّ بحُرّيّة جارية الغير ثمّ قَبِل نكاحها منه ، لم يحل له وطؤها إلّا برضاها بما عقد عليه مولاها ، وللمولى مطالبته بالمهر ، وعليه مهرٌ آخَر لها إن أجازت نكاحه.

ولو قال لزيدٍ : العبد الذي في يدك غصبتَه من فلان ، وأنكر زيد ، فالقول قوله.

فإن اشتراه ، فالأقرب : صحّة العقد ، كما لو أقرّ بحُرّيّته ثمّ اشتراه.

ويحتمل البطلان ؛ لأنّه مكذّب لإقراره ، وإنّما صحّحناه في طرف الحُرّيّة ؛ لأنّ الشراء هناك افتداء له من العبوديّة و [ إنقاذ ](٢) من الرقّ ، وهذا غير آتٍ هنا.

وللشافعيّة وجهان(٣) كهذين.

ولو أقرّ بعبدٍ في يده لزيدٍ ، وقال العبد : بل أنا ملك عمرو ، سُلّم إلى زيدٍ دون عمرو ، ولم يعتبر قول العبد ؛ لأنّه في يد مَنْ يسترقّه ، لا في يد نفسه ، فلو أعتقه زيد لم يكن لعمرو أخذه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ - ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الإنقاذ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠.

٢٩٢

ولو مات العبد عن ما لٍ ، لم يكن لعمرو التصرّفُ فيه ؛ لما فيه من إبطال الولاء على المعتق ، واستحقاق الكسب فرع الرقّ ، ولم يثبت له.

مسألة ٨٨٣ : لا يشترط في الإقرار أن يكون الـمُقرّ به ملكاً للمُقرّ حين يُقر ، بل الشرط في الإقرار بالأعيان أن لا تكون مملوكةً للمُقرّ حين إقراره ؛ لأنّ الإقرار لا يزيل الملك عن صاحبه ، وإنّما هو إخبار عن كونه مملوكاً للمُقرّ له ، والخبر حكاية عن المخبر به ، والحكاية متأخّرة ، وذو الحكاية متقدّم ، فلا بدّ وأن يكون الملك للمُقرّ له في نظر الـمُقرّ وعنده حتى تقع المطابقة بين إقراره وما هو في نفس الأمر عنده.

فلو قال : داري هذه أو ثوبي الذي أملكه لفلان ، بطل الإقرار ؛ لما فيه من التناقض ، والمفهوم منه الوعد بالهبة.

ولا يحتمل أن يقال : إنّه أضاف إلى نفسه ؛ لما بينهما من الملابسة ، وقد يضاف الشي‌ء إلى غيره بأدنى ملابسةٍ ، كما في قوله :

إذا كوكب الخرقاء(١)

وقول الرجل لأحد حاملي الخشبة : خُذ طرفك.

ولا ريب في أنّ هذه الدار في يده ، أو قد كانت ملكه ، أو أنّها تُعرف بأنّها ملكه عند الغير ، فيُحكم بصريح إقراره للغير ؛ لأنّ الاحتمال ولو كان نادراً ينفي لزوم الإقرار ، عملاً بالاستصحاب.

ولو قال : مسكني هذا لفلان ، كان إقراراً ؛ لأنّه أضاف إلى نفسه السكنى ، وقد يسكن ملك غيره.

____________________

(١) البيت لشاعر مجهول ، وتمامه هكذا :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسُحرةٍ

سهيلٌ أذاعت غزلها في الغرائب

راجع : لسان العرب ١ : ٦٣٩ « غرب ».

٢٩٣

ولو قال : هذه الدار التي في يدي ، أو تُنسب إلَيَّ ، أو تُعرف بي ، أو التي كانت ملكي ، كان إقراراً لازماً.

ولو شهدت البيّنة على أنّ فلاناً أقرّ بأنّ له دار كذا ، وكانت ملكه إلى أن أقرّ ، كانت الشهادة باطلةً.

ولو قال الـمُقرّ : هذه الدار لفلان وكانت ملكي إلى وقت الإقرار ، نفذ إقراره ، والذي قاله بعده مناقض لأوّله ، فيلغو ، كما لو قال : هذه الدار لفلان ، وليست له.

ولو قالت البيّنة : نشهد أنّه باع هذه الدار أو وقفها ، وكانت ملكه إلى حين البيع أو الوقف ، سُمعت الشهادة ، بل كانت مؤكّدةً للبيع والوقف.

مسألة ٨٨٤ : حكم الديون حكم الأعيان في ذلك ، فلو كان له دَيْنٌ على زيدٍ في الظاهر من قرضٍ أو أُجرةٍ أو ثمن مبيعٍ ، فقال : دَيْني الذي على زيد لعمرو ، فهو باطل.

ولو لم يُضف ، بل قال : الدَّيْن الذي على زيد لعمرو ، واسمي في الكتاب عاريّة ومعونة وإرفاق ، صحّ ؛ لإمكان أن يكون وكيلاً عنه في الإقراض والإجارة والبيع ، ثمّ عمرو يدّعي المال على زيدٍ لنفسه ، فإن أنكر زيد ، تخيّر عمرو بين أن يُقيم البيّنة على دَيْن الـمُقرّ على زيدٍ ثمّ على إقراره له بما على زيدٍ ، وبين أن يُقيم البيّنة أوّلاً على الإقرار ثمّ على الدَّيْن.

واستثنى بعض الشافعيّة ثلاثة ديون منع من الإقرار بها : أحدها :

الصداق في ذمّة الزوج ولا تقرّ المرأة به. والثاني : بدل الخُلْع في ذمّة المرأة ولا يُقرّ الزوج به. والثالث : أرش الجناية ولا يُقرّ به المجنيّ عليه ؛ لأنّ الصداق لا يكون إلّا للمرأة ، وبدل الخُلْع لا يكون إلّا للزوج ، وأرش الجناية لا يكون إلّا للمجنيّ عليه.

٢٩٤

نعم ، لو كانت الجنا ية على عبدٍ أو مال آخَر ، جاز أن يُقرّ به للغير ؛ لاحتمال كونه له يوم الجناية(١) .

وهذا خطأ فاحش ؛ فإنّ هذه الديون وإن امتنع ثبوتها للغير ابتداءً و [ تقديراً بوكالةٍ ](٢) فلا امتناع من انتقالها من مُلاّكها إلى الغير إمّا بالحوالة أو بالبيع ، فيصحّ الإقرار بها عند احتمال جريان ناقلٍ.

نعم ، لو أقرّ بها عقيب ثبوتها بلا فصلٍ بحيث لا يحتمل جريان [ ناقلٍ ](٣) لم يصح.

لكن سائر الديون كلّها كذلك ، بل الأعيان أيضاً كذلك ، حتى لو أعتق عبده ثمّ أقرّ له السيّد أو غيره عقيب العتق بلا فصلٍ بدَيْنٍ أو عينٍ ، لم يصح ؛ لأنّ أهليّة التملّك لم تثبت له إلّا في الحال ، ولم يَجْر بينهما ما يوجب المال.

ولو فُرض ذلك - كما لو نذر الصدقة على عبده بعد عتقه بشي‌ءٍ - جاز له الإقرار به.

والضابط : إمكان التملّك ، فمتى فُرض ، صحّ الإقرار ، وإلّا فلا.

قال بعض الشافعيّة : إن أسند الإقرار بالديون الثلاثة إلى جهة حوالةٍ أو بيعٍ ، فذاك ، وإلّا فعلى قولين ؛ بناءً على ما لو أقرّ للحمل بمالٍ وأطلق(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩١ - ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تقدير الوكالة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

٢٩٥

الفصل الثالث : في الأقارير المجهولة‌

وفيه مباحث :

الأوّل : الإقرار بالشي‌ء المطلق

مسألة ٨٨٥ : لا يشترط كون المـُقرّ به معلوماً ، بل يصحّ الإقرار بالمجهول ؛ لأنّ الإقرار إخبار عن حقٍّ سابق ، والخبر قد يقع عن الشي‌ء على جهة الإجمال ، كما قد يقع عنه على جهة التفصيل ، وربما كان في ذمّة الإنسان شي‌ء لا يعلم قدره ، فلا بدّ له من الإخبار عنه ليتواطأ هو وصاحبه على الصلح بما يتّفقان عليه ، فدعت الحاجة واقتضت الحكمة إلى سماع الإقرار بالمجمل ، كما يسمع بالمفصّل ، بخلاف الإنشاءات التي لا تحتمل الجهالة والإجمال في أغلبها ؛ احتياطاً لابتداء الثبوت ، وتحرّزاً عن الغرر ، وبخلاف الدعوى ؛ فإنّها لا تُسمع إلّا محرّرة لكون الدعوى له والإقرار عليه ، فيلزم مع الجهالة ، دون ما له.

ولأنّ المدّعي إذا لم يُحرّر دعواه ، انتفى داعيه ، مع أنّ له داعياً إلى تحريرها ، وأمّا الـمُقرّ فلا داعي له إلى التحرير ، ولا يؤمن رجوعه مع إقراره ، فيضيع حقّ المُقرّ له ، فألزمناه إيّاه مع الجهالة.

ولا فرق في الأقارير المجملة بين أن يقع ابتداءً أو في جواب دعوى معلومة ، كما لو ادّعى عليه ألف درهم ، فقال : لك علَيَّ شي‌ء.

والألفاظ التي يقع فيها الإجمال لا تنحصر ، فلنقتصر على أكثرها دوراناً بين الناس وأظهرها في الألسنة ولنبدأ بأعمّها ، وهو : « الشي‌ء » ثمّ نعقّبه بما يتلوه من مشهورات الألفاظ إن شاء الله تعالى.

٢٩٦

مسألة ٨٨٦ : إذا قال : علَيَّ شي‌ء ، طُولب بالبيان والتفسير ، فإن امتنع ، فالأقرب : إنّه يُحبس حتى يبيّن ؛ لأنّ البيان واجب عليه ، فإذا امتنع منه حُبس عليه كما يُحبس على الامتناع من أداء الحقّ ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه لا يُحبس ، بل يُنظر إن وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى وامتنع من التفسير ، جُعل ذلك إنكاراً منه ، وتُعرض اليمين عليه ، فإن أصرّ جُعل ناكلاً عن اليمين ، وحلف المدّعي ، وإن أقرّ ابتداءً قلنا للمُقرّ له : ادّع عليه حقّك ، فإذا ادّعى فأقرّ بما ادّعاه أو أنكر ، أجرينا عليه حكمه ، وإن قال : لا أدري ، جعلناه منكراً ، فإن أصرّ جعلناه ناكلاً ؛ لأنّه إذا أمكن تحصيل الغرض من غير حبسٍ لا يُحبس.

والثالث : إنّه إن أ قرّ بغصبٍ وامتنع من بيان المغصوب حُبس ، وإن أقرّ بدَيْنٍ مبهم فالحكم كما ذكرناه في الوجه الثاني(١) .

وقال بعض الشافعيّة : إذا قال : علَيَّ شي‌ء ، وامتنع من التفسير ، لم يُحبس. وإن قال : علَيَّ ثوب أو فضّة أو طعام ، ولم يبيّن ، حُبس ؛ بناءً على ما لو فسّر الشي‌ء بالخمر أو الخنزير قُبِل ، فحينئذٍ لا يتوجّه بذلك مطالبة ولا حبس(٢) .

مسألة ٨٨٧ : إذا أقرّ بالشي‌ء وطُولب بالبيان ، فإن فسّره بما يتموّل ، قُبِل ، سواء كان قليلاً أو كثيراً.

وإن فسّره بما لا يتموّل ، فإن كان من جنس ما يتموّل - كحبّةٍ من الحنطة أو الشعير أو السمسم ، وقمع باذنجانة - فالأقوى : القبول - وهو‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ - ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

٢٩٧

أصحّ وجهي الشافعيّة (١) - لأنّه شي‌ء يحرم أخذه ، وعلى مَنْ أخذه ردّه.

والثاني لهم : إنّه لا يُقبل منه هذا التفسير ؛ لأنّه لا قيمة له ، فلا يصحّ التزامه بكلمة « علَيَّ » ولهذا لا تصحّ الدعوى به(٢) .

ونمنع عدم سماع الدعوى به.

والتمرة الواحدة والزبيبة الواحدة حيث لا قيمة لها من هذا القبيل ، وهي أولى بالقبول ممّا لو فسّره بحبّة حنطةٍ.

وإن لم يكن من جنس ما يتموّل ، فإمّا أن يجوز اقتناؤه لمنفعةٍ ، أو لا.

فالأوّل كالكلب المعلَّم والسرجين.

وفي التفسير بهما إشكال ، أقربه : القبول ؛ لأنّهما أشياء يثبت فيها الحقّ والاختصاص ، ويحرم أخذها ، ويجب ردّها ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : لا يُقبل ؛ لأنّها ليست بمالٍ ، وظاهر الإقرار للمال(٣) .

ولو فسّر بجلد الميتة ، لم يُقبل عندنا ؛ لأنّه لا يطهر بالدباغ.

وللشافعيّة وجهان ؛ لقبوله(٤) الدباغ(٥) .

ومن هذا القسم : الخمر المحترمة ، والكلب القابل للتعليم.

وكلب الماشية والزرع والحائط مُلحَق بالمعلَّم.

____________________

(١ و ٢) الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٥.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لقبولها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

٢٩٨

والثاني : كالخمر ال تي(١) لا حرمة لها ، والخنزير ، وجلد الكلب ، والكلب الذي لا منفعة فيه ، وهذا لا يُقبل تفسيره به عندنا.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أصحّهما ، والثاني : أنّه يُقبل(٢) .

والصحيح ما قلناه ؛ لأنّه ليس فيه حقّ واختصاص ، ولا يلزم ردّه ، وقوله : « علَيَّ » يقتضي ثبوت حقٍّ للمُقرّ له.

مسألة ٨٨٨ : لو قال : له علَيَّ شي‌ء ، وفسّره بالوديعة ، قُبِل ؛ لوجوب ردّها عليه عند الطلب ، وقد يتعدّى فيها فتكون مضمونةً عليه.

ونقل الجويني وجهاً للشافعيّة : إنّه لا يُقبل ؛ لأنّها في يده ، لا عليه(٣) .

وهو غلط بما تقدّم.

ولو فسّره بحقّ الشفعة ، أو حدّ قذفٍ ، قُبِل. أمّا لو فسّره بالعيادة أو ردّ السلام أو جواب الكتاب ، لم يُقبل ؛ لبُعْده عن الفهم في معرض الإقرار ؛ إذ لا مطالبة بهما ، والإقرار في العادة بما يطلبه الـمُقرّ له ويدّعيه ، ولأنّهما يسقطان ؛ لفواتهما ، ولا يثبتان(٤) في الذمّة ، والإقرار يدلّ على ثبوت الحقّ في الذمّة.

وكذا لو فسّره بتسميت عطسةٍ.

ويحتمل القبول إذا أراد أنّ حقّاً علَيَّ ردّ السلام إذا سلّم وتسميته إذا‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الذي ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢.

(٤) كذا قوله : « بهما لأنّهما يسقطان ؛ لفواتهما ، ولا يثبتان » بتثنية الضمير والفعل في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والظاهر هكذا : « بها لأنّها تسقط ؛ لفواتها ، ولا تثبت ».

٢٩٩

عطس ؛ لما روي في ال خبر : « للمسلم على المسلم ثلاثون حقّاً : يردّ سلامه ، ويُسمّت عطسته ، ويُجيب دعوته »(١) .

أمّا لو قال : له علَيَّ حقٌّ ، فإنّه يُقبل التفسير بالعيادة وردّ السلام.

وقال بعض الشافعيّة : لا فرق بين أن يقول : له علَيَّ شي‌ء ، أو حقٌّ ، كيف! والحقّ أخصّ من الشي‌ء ، فيبعد أن يُقبل تفسير الأخصّ بما لا يُقبل به تفسير الأعمّ(٢) .

مسألة ٨٨٩ : لو قال : غصبته شيئاً ، طُولب بالتفسير والبيان ، فإن فسّر بما يُقبل به التفسير في الصورة السابقة ، قُبِل هنا بطريق الأولى إذا احتمله اللفظ ليخرج الوديعة وحقّ الشفعة ؛ إذ لا يحتملهما لفظ الغصب.

ولو فسّره بالخمر والخنزير وغيرهما ممّا لا يُعدّ مالاً ، قُبِل هنا ؛ لأنّ الغصب لا يقتضي إلّا الأخذ قهراً ، وليس في لفظه ما يشعر بالتزامٍ وثبوت حقٍّ ، بخلاف قوله : « علَيَّ » وبه قال الشافعي(٣) .

ويحتمل قبوله إن كان المـُقرّ له ذمّيّاً ، وإن كان مسلماً فإشكال.

وما ليس بمالٍ يقع اسم الغصب عليه.

ولو قال : غصبته شيئاً ، ثمّ قال : أردت نفسه فحبستُه ساعةً ، لم يُقبل ؛ لأنّه جعل له مفعولين ، الثاني منهما : « شيئاً » فتجب مغايرته للأوّل.

أمّا لو قال : غصبتُه ، ثمّ قال : أردت نفسه ، قُبِل.

وقيل : لا يُقبل ؛ لأنّ الغصب لا يثبت عليه(٤) .

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٥ : ٣١٥ ، والشرح الكبير ٥ : ٣٣٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢.

(٣) الوجيز ١ : ١٩٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) المغني ٥ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٨.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501