تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181020 / تحميل: 5858
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ما وجب معه عليه الطلب والخروج. فلما انعكس ذلك وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتفاق ، رام الرجوع والمكافّة والتسليم كما فعل أخوه ، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه. فالحالان متفقان ، إلا أن التسليم والمكافّة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه ، ولم يجب إلى الموادعة ، وطلبت نفسه فمنع منها بجهده ، حتّى مضى كريما إلى جنة الله ورضوانه ، وهذا واضح لمتأمله (انتهيكلام السيد المرتضى).

٢٨٧ ـ تعليق العلامة المجلسي :(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٢٦)

قال المحقق المحدث المجلسي بعد نقل كلام السيد المرتضى :

وقد مضى في كتابه (الإمامة) وكتاب (الفتن) أخبار كثيرة دالة على أن كلا منهمعليه‌السلام كان مأمورا بأمور خاصة ، مكتوبة في الصحف السماوية النازلة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم كانوا يعملون بها. ولا ينبغي قياس الأحكام المتعلقة بهم على أحكامنا. وبعد الاطلاع على أحوال الأنبياءعليهم‌السلام وأن كثيرا منهم كانوا يبعثون فرادى في ألوف من الكفرة ، ويسبّون آلهتهم ويدعونهم إلى دينهم ، ولا يبالون بما ينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار ، ولا ينبغي الاعتراض على أئمة الدين في أمثال ذلك ، مع أنه بعد ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة ، لا مجال للاعتراض عليهم ، بل يجب التسليم لهم في كل ما صدر عنهم.

على أنك لو تأملت حق التأمل علمت أنهعليه‌السلام فدى بنفسه المقدسة دين جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تنزلزل أركان دولة بني أمية إلا بعد شهادته ، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلا عند فوزه بسعادته. ولو كان يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم ويشتبه على الناس أمرهم ، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة وآثار الهداية مندرسة. مع أنه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنهعليه‌السلام هرب من المدينة خوفا من القتل.

إلى مكة ، وكذا خرج من مكة بعد ما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله ، حتّى لم يتيسّر له أن يتمّ حجّه ، فتحلل وخرج منها خائفا يترقب. وقد كانوا ضيّقوا عليه جميع الأقطار ولم يتركوا له موضعا للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاه أمر الموسم ، وأمّره على الحاج كلهم ، وكان قد أوصاه بقبض

٢٨١

الحسينعليه‌السلام سرا ، وإن لم يتمكن منه بقتله غيلة. ثم إنه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية ، وأمرهم بقتل الحسينعليه‌السلام على أي حال اتفق. فلما علم الحسينعليه‌السلام بذلك حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة.

وقد روي بأسانيد معتبرة ، أنهعليه‌السلام لما منعه محمّد بن الحنفية عن الخروج

إلى الكوفة ، قال : «والله يا أخي لو كنت في جحر هامّة من هوام الأرض ، لاستخرجوني منه حتّى يقتلونني». بل الظاهر أنه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه ، لشدة عداوتهم وكثرة وقاحتهم ، بل كانوا يغتالونه بكل حيلة ويدفعونه بكل وسيلة. وإنما كانوا يعرضون البيعة عليه أولا لعلمهم بأنه لا يوافقهم في ذلك.ألا ترى مروان ابن الحكم كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه؟. وكان عبيد الله بن زياد يقول : اعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ، ثم نرى فيه رأينا؟.

ألا ترى كيف أمنّوا مسلم بن عقيل ، ثم قتلوه؟!.

فأما معاوية فإنه مع شدة عداوته وبغضه لأهل البيتعليهم‌السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم ، وكان يعلم أن قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه ، فكان يداريهم ظاهرا على كل حال. ولذا صالحه الحسنعليه‌السلام ولم يتعرض له الحسينعليه‌السلام . ولذا كان معاوية يوصي ولده اللعين بعدم التعرض للحسينعليه‌السلام لأنه كان يعلم أن ذلك يصير سببا لذهاب دولته (انتهى كلام العلامة المجلسي).

٢٨٨ ـ لماذا خرج الحسينعليه‌السلام بعياله إلى العراق؟ :(مقتل المقرم ص ١٢٥)

ان الكلمة السديدة الناضجة في وجه حمل الحسين عياله إلى العراق مع علمه بما يقدم عليه ومن معه على القتل ، هو أنهعليه‌السلام لما علم بأن قتلته سوف تذهب ضياعا لو لم يتعقبها لسان ذرب(١) وجنان ثابت ، يعرّفان الأمة ضلال ابن ميسون(يزيد) وطغيان ابن مرجانة (ابن زياد) ، باعتدائهما على الذرية الطاهرة الثائرة في وجه المنكر ، ودحض ما ابتدعاه في الشريعة المقدسة.

وعرف سيد الشهداءعليه‌السلام من حرائر الرسالةعليه‌السلام الصبر على المكاره وملاقاة

__________________

(١) ذرب اللسان : ذو لسان حادّ. ولسان ذرب : أي فصيح.

٢٨٢

الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال ، فلا يفوتهن تعريف الملأ المغمور بالترّهات والأضاليل ، نتائج أعمال هؤلاء المضلين ، وما يقصدونه من هدم الدين ، وأن الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهم إحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الحقيقة لقد أدت عقائل الوحي هذه الرسالة الجوهرية الخطيرة ، بجرأة وإخلاص ، وثبات ورباطة جأش ، رغم تفاقم الخطب وعظم المصيبة وقساوة المحنة فهاهي عقيلة الوحي زينبعليها‌السلام أخت الحسينعليه‌السلام تقف بجرأة وحزم أمام ابن زياد الجبار المتهور ، تفرغ عن لسان أبيها ، تقول له بكلام أنفذ من السهم ، وتلقمه حجرا وهي تقول :

«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج (أي الفوز) ثكلتك أمك يابن مرجانة».ثم لا ننسى خطبها في الكوفة ومواقفها في الشامعليها‌السلام .

وها هي فاطمة بنت الحسين وأم كلثوم وسكينةعليهم‌السلام يتحدثن بمثل ما تحدثت به عمتهن زينبعليها‌السلام ، في ذلك الموقف الرهيب المحفوف بسيوف الخسف والغدر والجور ، فما يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة واحدة مهما أوتي من الجرأة والثبات والصمود ، ومهما بلغ من القوة والمنعة والمنزلة ، فكيف بهنّ وقد أعلنّ للملأ أجمع عن كل موبقات ابن ميسون وابن مرجانة.

هذا على أنه وإن وضع الله الجهاد ومكافحة الأعداء عن المرأة وأمرها بلزوم بيتها ، فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال ، وأما إذا توقف إقامة الحق عليها فقط ، بحيث لولا قيامها لدرست أسس الشريعة وذهبت الغاية من تضحية الصفوة ، كان الواجب القيام به.

ينتج من هذا أن جهاد العقيلات في معركة كربلاء كان في طرف موازنة مع جهاد الشهداء.

وجاء في (اللهوف) ص ٤٧ : ومما يمكن أن يكون سببا لحمل الحسينعليه‌السلام عياله ، أنه إن تركها بالحجاز أو غيرها من البلاد ، كان يزيد بن معاوية قد أنفذ ليأخذهن إليه ، وصنع بهن من الاستئصال وسيّئ الأعمال ، ما يمنع الحسين من الجهاد والشهادة.

٢٨٣

٥ ـ هل ألقى الحسينعليه‌السلام بيده إلى التهلكة؟

٢٨٩ ـ هل عرّض الحسينعليه‌السلام نفسه للتهلكة؟ :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ٣٩)

يقول السيد عبد الرزاق المقرّم عن استشهاد الأئمةعليهم‌السلام :

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسية وإلقائها في التهلكة الممنوع منه بنص الذكر المجيد ، فإن الإبقاء على النفس والحذر من إيرادها مورد الهلكة إنما يجب إذا كان مقدورا لصاحبها أو لم يقابل بمصلحة أهمّ من حفظها. وأما إذا وجدت هنا لك مصلحة تكافىء تعريض النفس للهلاك ، كما في الجهاد والدفاع عن النفس ، مع العلم بتسرب القتل إلى فئة من المجاهدين ، فيجب عندها بذل النفس والتضحية بها. ولقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدما موطّنين أنفسهم على القتل وكم فيهم سعداء ، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة!. وقد تعبّد الله طائفة من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فقال :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ ) [البقرة : ٥٤].

وقد أثنى سبحانه على المؤمنين في إقدامهم على القتل والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية ، فقال تعالى :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة : ١١١] وقال تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) [البقرة : ٢٠٧] وقال تعالى :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١٦٩) [آل عمران : ١٦٩].

٢٩٠ ـ التعبّد بالقتل أسمى درجات السعادة ، وليس هو إلقاء إلى التهلكة :

(اللهوف للسيد ابن طاووس ، ص ١٢)

يقول السيد ابن طاووس : ولعل بعض من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة ، يعتقد أن الله لا يتعبّد بمثل هذه الحالة. أما سمع في القرآن الصادق المقال ، أنه تعبّد قوما بقتل أنفسهم ، فقال تعالى :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ) [البقرة : ٥٤] أنه هو القتل ، وليس الأمر كذلك ، وإنما التعبد به من أبلغ درجات السعادة.

٢٨٤

ثم يعرض تفسير آية التهلكة بما ذكره الإمام الصادقعليه‌السلام ، وهو أن بعض الصحابة تخلّفوا عن نصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقاموا في بيوتهم لإصلاح أحوالهم ، فنزلت الآية :( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة : ١٩٥] ومعناه : إن تخلّفتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم. وليست هذه الآية في رجل يحرّض على العدو أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء الثواب والآخرة.

٢٩١ ـ دفع شبهة : هل ألقى الحسينعليه‌السلام بنفسه إلى التهلكة؟ :

(الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري :

واعلم أن جماعة من مخالفينا أورد واهنا شبهة ، بل وربما قاله بعض الجهال فينا ، وهو أن الحسينعليه‌السلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره إلى العراق ، فلم سار إليها حتّى صار كالمعين على نفسه؟. وهذه شبهة ركيكة ، والجواب عنها من وجوه :

الوجه الأول : أن الإمام إذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد ، ولا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له ، كما لم يجز للأنبياءعليهم‌السلام ترك الجهاد لهذه المظنّة ، بل قاموا بالدعوة حتّى أصيبوا من الأمة بالمصائب العظام ، كما وقع لأولي العزم وغيرهم ، استتماما لحجة الله تعالى على الخلائق.

الوجه الثاني : أنهعليه‌السلام لو لم يسر إلى العراق لما تركوه ، ولو ذهب إلى المكان البعيد ، مصداقا لقولهعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية ، حين نصحه بأن يلحق بالرمال من اليمن حتّى ينظر بواطن أهل العراق ، فقال له : يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح ، ولكن هؤلاء القوم ما يسكتون عن طلبي أينما ذهبت حتّى يسفكوا دمي ، فعند ذلك يلبسهم الله ذلّ الدنيا والآخرة.

الوجه الثالث : أن الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام قد خصّهم الله تعالى بأنواع من التكاليف ، فلعل هذا ـ وهو الإلقاء إلى التهلكة ـ منها ، نظرا إلى الحكم والمصالح الإلهية.

فإن قلت : كيف لم يبايع ليزيد حتّى لا يصل إليه الضرر ، كما بايع أخوه الحسنعليه‌السلام ؟ قلت : هذا مجرد كلام ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وذلك

٢٨٥

أنهعليه‌السلام رأى أخاه الحسنعليه‌السلام لما سالم معاوية ، وكيف فعل به أولا ، وكيف غدر به آخرا ، حتّى قتله مسموما. فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسينعليه‌السلام إلا أسوأ من هذا ، لأن معاوية كان فيه الدهاء ، وما كان يتجرأ على قتل الحسينعليه‌السلام ظاهرا ، ولهذا أوصى عند موته ليزيد ، أنك [إن] تظفر بالحسينعليه‌السلام فلا تقتله ، واذكر فيه القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٩٢ ـ بين هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرة السبطعليه‌السلام :

(من وحي الثورة الحسينية لهاشم معروف الحسني ، ص ٣١)

يقول السيد هاشم معروف الحسني :

هناك هجرتان من أجل الإسلام ورسالة الإسلام :

الأولى منهما : كانت فرارا من الموت الّذي استهدف رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه ، وقد نفّذها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من ربه ، ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش وعلى رأسهم أبو سفيان.

والثانية : قام بها سبطه الزكي الحسين بن عليعليه‌السلام ولكنها كانت للشهادة ، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده ، لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته.

لقد هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة لأجل رسالته ، بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها وانتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت أن جميع وسائل العنف التي استعملتها معه خلال ثلاثة عشر عاما لم تغير من موقفه شيئا ، كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية. وكان ردّه الأخير على عروض أبي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما أن قال : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتّى يحكم الله أو أهلك دونه».

وظل الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان وأبنائه يتحيّن الفرص ويستغل المناسبات ليجهض على الإسلام وعلى قادة الإسلام ، بعد أن عملوا بكل جهدهم لإفراغ الإسلام من مضمونه الحقيقي واتخاذه أداة ظاهرية للوصول إلى الحكم.

وحين عادت الجاهلية تعصف برياحها على بلاد الإسلام ، وتلقي بظلها على المسلمين ، سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي ، وأضاءت للملأ

٢٨٦

ملامح أمل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق ، وبدا للعالم إنسان يخطّ على التراب بدمه هذه الكلمات :

«ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما».

إنه الحسين ، ابن علي وفاطمة الزهراءعليهم‌السلام سبط ذلك الرسول الّذي هاجر [الهجرة الأولى] من مكة إلى المدينة ، لأجل رسالته ولا نقاذها من الشرك والوثنية.جاء يهاجر [الهجرة الثانية] لأجل نفس الرسالة ولانقاذها من الشذوذ والانحراف والجور والفساد. خرج من مدينة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عاصمة أبيه الكوفة ، خرج مهاجرا لإحياء دين جده ورسالته ، وإيقاظ الآمال في نفوس الفقراء والمستضعفين ، الذين باتوا يساقون كالأنعام بيد الولاة والحكام.

ولقد رضي الحسينعليه‌السلام أن يقدّم نفسه وأهله قربانا لهذه الرسالة ، حين رأى الموت والشهادة أحلى إلى قلبه من العقد الّذي يزيّن جيد الفتاة ، وحين أدرك أن لا عزّة ولا كرامة إلا بالجهاد والفداء.

لقد هاجر الحسينعليه‌السلام من مدينة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أرض الشهادة والخلود ، ليقدّم دمه الزكي ودماء إخوته وأنصاره ثمنا لإحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنقاذها من الضياع والاندثار.

وهكذا كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الامتداد الطبيعي لرسالة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجهاد الحسينعليه‌السلام امتدادا لجهاد جده وأبيهعليه‌السلام ، مصداقا لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«حسين مني وأنا من حسين». فعقيدة الحسين هي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحيى وتبقى بالحسينعليه‌السلام .

٦ ـ معالم النهضة المقدسة

٢٩٣ ـ ثلاثة مشاعل من رسالة الحسينعليه‌السلام :

(مجلة الإسلام في معارفه وفنونه للشيخ حبيب آل إبراهيم ، بعلبك ،

السنة العاشرة ، العدد الأول ، نيسان ١٩٦٨)

ماهي رسالة الحسينعليه‌السلام ؟

تعال نسأل عنها الإمام الحسين نفسه

في يوم شهادته بالذات رفع الشهيد شعارات ثلاثة ،

٢٨٧

كانت خير عنوان للرسالة التي خرج يؤديها بدمه ،

ودم الشهداء الذين معه.

هذه الشعارات هي : المسؤولية ـ التصميم ـ العزّة.

١ ـ المسؤولية :

قال الإمام الحسينعليه‌السلام : «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين».

هذه الكلمات مشاعل ، تضيء الطريق للسالكين ، بها يحدد سيد الشهداء أغراض نهضته : إنه لم يخرج طمعا بمنصب ولا عن انحراف ، إنما خرج يطلب الإصلاح في دين جده خاتم الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يريد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر.

ها هنا مشعل!. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه المسؤولية ؛ مسؤولية المسلم عن عقيدته وممارستها.

ولقد كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام حيثما سار وثار ، نموذجا مثاليا للمسلم حين تحيق بعقيدته الآفات والأخطار.

ثم قال الحسينعليه‌السلام : «فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر ، حتّى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين».

إنه ينادي : أيها الناس لا يكن ميزان قبولكم إياي شخصي ، إنما اقبلوني لأني أمثّل حقا. فمن قبلني فإنما يقبل الحق ، ومن ردّ عليّ فإنما يردّ على الحق هكذا ترتفع المبادئ فوق الأشخاص. وحينذاك تضيع النفوس وحاجاتها ، ويبقى المبدأ هو القائم البارز. ونعم ، يبقى الشخص بمقدار ما يمثّل من مبدأ.

٢ ـ التصميم :

وقالعليه‌السلام : «ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين : بين السّلةّ والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

٢٨٨

ها هو الحسينعليه‌السلام يعلن تصميمه على أداء رسالته ، وأنه لن يتراجع. وأنه يؤثر أن يموت ميتة الكرام في سبيل الرسالة ، على أن يطيع اللئام ولكن لماذا؟. من أين ينبع هذا التصميم؟.

من الله ورسوله ، ومن تربيته ، ومن نفسه. فلا الله يرضى له التراجع ولا رسوله ، ولا حقّ من ربّوه ، ولا نفسه.

مزيج من الدوافع ، لا أشمل ولا أكمل : الدين والتربية والنفسية. كلها تدفعه لأن يعلنها صريحة مدوّية : أنه لن يتراجع عن أداء رسالته ، ولو كلّفه ذلك مصرعه ...والدين في المقدمة.

وهذا مشعل!. الدين حافز لا يرضى التراجع ، ولا يقبل بأنصاف الحلول.

٣ ـ العزّة :

ثم قالعليه‌السلام : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».

كلمات تنضح بالعزة

إنه لن يسكت ذليلا ، ولن يسكت عبدا والمنحرفون يريدونه ذليلا وعبدا معا. ولو أنه ذل واستعبد لربما أنالوه ما يرضيه ؛ ولكنه عزّ ، وإذ عزّ ثار ولكم تكلّف.

العزة غاليا( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [المنافقون : ٨].

وهذا مشعل!. الإيمان عزّ ، ولا ذلّ مع الإيمان.

٧ ـ أهداف نهضة الحسينعليه‌السلام

* مدخل :

قبل أن يسير الحسينعليه‌السلام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، دعا بدواة وبياض وكتب وصية تاريخية لأخيه محمّد بن الحنفية. وهذه الوصية هي أفضل وثيقة صادرة عن صاحب النهضة ، يوضح فيها بجلاء أهداف نهضته المباركة ، يقول فيها :

«إني لم أخرج أشرا (أي فرحا) ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن

٢٨٩

المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرة أبي علي بن أبي طالبعليه‌السلام .فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين».

ففي هذه الوثيقة يبيّن الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ أن نهضته ليس غرضها السلطان والدنيا وما يلازمها من الفرح والبطر ، ولا الإفساد والظلم.

٢ ـ أن نهضته تنطلق من مبدأ وجوب الإصلاح لكل فاسد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣ ـ أن غايته الأولى والأخيرة إحقاق الحق الّذي أبطله المتحكمون والمبطلون ، المتمثل بسيرة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيه عليعليه‌السلام .

٤ ـ أنه سوف يعمل جاهدا لتطبيق مبادئه السامية مستعينا بأنصار الحق ، وسوف يبذل في سبيل ذلك كل غال ورخيص ، ويصبر على تنفيذ ذلك ولو ضحّى بنفسه وما يملك.

والحسينعليه‌السلام رغم علمه بمصيره وشهادته ، التي وصلت حدّ الاشتهار ، إلا أنه كان يعمل وفق تكليفه الشرعي المبني على ظواهر الأمور.

٢٩٤ ـ هدفان رئيسيان للنهضة :

(الوثائق الرسمية لثورة الحسين لعبد الكريم الحسيني القزويني ، ص ١٢)

لو تصفحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة ـ الحسينعليه‌السلام ـ لرأيناها تحمل الهدفين التاليين :

١ ـ الثورة على حكم يزيد ، أي تغيير الجهاز الحاكم.

٢ ـ إقامة الشريعة الاسلامية وتطبيقها ، في مقابل المخالفات التي أشاعها الحكام آنذاك.

٢٩٥ ـ الحسينعليه‌السلام فاتح وليس مغامرا :(مقتل الحسين للمقرم ، ص ٥٦)

كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور ، لما في شهادته من إحياء دين الرسول وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين وتفهيم الأمة أنه أحق بالخلافة من غيره ، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم :

٢٩٠

«من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلفّ لم يبلغ الفتح»(١) .

فإنهعليه‌السلام لم يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن الشريعة المطهرة ، وإقامة أركان العدل والتوحيد ، وأن الواجب على الأمة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله

لما سأله حين رجوعه إلى المدينة : «من الغالب؟». فقال السجّادعليه‌السلام : إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم ، تعرف الغالب!(٢) .

فإنه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء بنفسه القدسية من أجلها ، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمائة الشهادة له بالرسالة ، بعد أن كان الواجب على الأمة في أوقات الصلوات الخمس الإعلان بالشهادة لنبي الإسلام ، ذلك الّذي هدم صروح الشرك وأبطل عبادة الأوثان. كما وجب على الأمة الصلاة على النبي وعلى آله الطاهرين في التشهدين ، وأن الصلاة عليه بدون الصلاة على آله : بتراء(٣) .

كما أن العقيلة زينبعليها‌السلام أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد : «فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها وشنارها».

تصريحات الفيلسوف الألماني ماربين

٢٩٦ ـ أسرار شهادة الحسينعليه‌السلام للفيلسوف الألماني (ماربين):

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ٥٢)

قال الحكيم الألماني ماربين في كتابه (السياسة الإسلامية) من جملة كلام طويل :

لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذاك العصر ، وكيفية نجاح بني

__________________

(١) كامل الزيارات ، ص ٧٥ ؛ وبصائر الدرجات للصفار ، ج ١٠ ص ١٤١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي.

(٣) الصواعق المحرقة ، ص ٨٧.

٢٩١

أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين ، أن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام. ولو لم تقع تلك الواقعة ، ولم تظهر تلك الحسّيات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، لم يكن الإسلام على ماهو عليه الآن قطعا ، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد.

عزم الحسينعليه‌السلام على إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده ، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسينعليه‌السلام من المدينة ، وكان يظهر مقصده العالي ، ويبث روح الثورة في المراكز الإسلامية المهمة كمكة والعراق وأينما حل ، فازدادت نفرة قلوب المسلمين ، التي هي مقدمة الثورة على بني أمية ، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسينعليه‌السلام ، وكان يعلم أن الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموما من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسينعليه‌السلام ، عمّت جميع البلدان ، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم ، فعزم يزيد قبل كل شيء من يوم بويع على قتل الحسينعليه‌السلام . ولقد كان هذا أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية ، فجعلهم نسيا منسيا ولم يبق منهم أثر ولا خبر.

وأعظم الأدلة على أن الحسينعليه‌السلام أقدم على قتل نفسه ولم تكن من غرضه سلطنة ولا رئاسة ، هو أنه مضافا إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية ، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد ، لا يمكنه المقاومة والغلبة.

وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل ، وأظهر ذلك لأصحابه والذين أتبعوه من باب إتمام الحجة ، حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعا بالدنيا ، وطالما كان يقول «وخير لي مصرع أنا لاقيه». ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامدا ، لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده ، لا أن يفرق الذين كانوا معه. ولكن لما لم يكن له قصد إلا القتل مقدمة لذلك المقصد العالي ، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد ، رأى أن خير الوسائل إلى ذلك (الانفراد والمظلومية) ، فإنّ أثر هذه المصائب أشد وأكثر في القلوب.

من الظاهر أن الحسينعليه‌السلام مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين

٢٩٢

في ذلك الزمان ، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشا جرارا ، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة ، ولم يفز (بالمظلومية) التي انتجت تلك الثورة العظيمة. هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وإخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه ، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته ، ولكنهم أبوا عليه ذلك ، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة. نعم إن الحسينعليه‌السلام بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كل طريق.

ولما كان يعلم الحسينعليه‌السلام عداوة بني أمية له ولبني هاشم ، ويعرف أنهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ـ وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين سيما العرب كما قد وقع ـ حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه. ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم. لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : «إني أمضي إلى القتل» ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسينعليه‌السلام العالية ، لم يألوا جهدهم في منعه ، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم «شاء الله ذلك وجدي أمرني به». فقالوا إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ، فقال : «إن الله شاء أن يراهن سبايا». ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحانيا لم يكن لهم بدّ من السكوت.

ومما يدل على أنه لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودارية ـ كما تصوره بعض المؤرخين منا ـ أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة ، على سبيل السلوة : إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة ، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا ، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي ، وأنا وجدي نحبهم وهو يحشرون معنا يوم القيامة. وليتأمل المتأمل في كلام

٢٩٣

الحسينعليه‌السلام وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه ، في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره ، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصة (عبد الله الرضيع). فلما كان الحسينعليه‌السلام يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم.

ويغلب على الظن أن غرض الحسينعليه‌السلام من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم وأنها إلى أي درجة بلغت. ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحال بتلك الكيفية ، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية ، منافية لقواعد كل دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم ، سيما المسلمين ، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد وجعلهم أيدي سبأ.

ونظرا لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسينعليه‌السلام مضافا إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان لم يرتكب أمرا يوجب إجبار بني أمية للدفاع عن أنفسهم ، حتى أنه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر لم يسع في تسخير البلاد الإسلامية وضمها إليه ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في واد غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية لم يقل الحسينعليه‌السلام سأكون ملكا أو سلطانا أو أصبح صاحب سلطة. نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور. ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسينعليه‌السلام في قلوب المسلمين غاية التأثير.

لقد قتل قبل الحسينعليه‌السلام ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب

٢٩٤

الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء ، كما وقع مكررا في بني إسرائيل ، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التاريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسينعليه‌السلام فاقت الجميع لم يرشدنا التاريخ إلى أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنه أقدم على قتل نفسه عالما عامدا لمقاصد عالية لا تنجح إلا بقتله ، فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا ، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما ، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ، ومقاصد الحسينعليه‌السلام كانت على علم وحكمة وسياسة وليس لها نظير في التاريخ ، فإنه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظرا لذلك المقصد العالي ، ولم نجد في التاريخ رجلا ضحّى بحياته عالما عامدا لترويج ديانته من بعده إلا الحسينعليه‌السلام .

المصائب التي تحمّلها الحسينعليه‌السلام في طريق إحياء دين جده تفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ، ولم ترد على أحد منهم. نعم إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين ، فإنه ضحّى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دين جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله ، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة ، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى ، ويختص الحسينعليه‌السلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ.

لم تنته المصائب التي وردت على الحسينعليه‌السلام من قتله وقتل أصحابه وتسيير نسائه وبناته ، إلا وانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية وقبائح أعمالهم ، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية ، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني أمية ، وعلم الجميع أن بني أمية مخربو الإسلام ، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم ، وعرفوا بالظلم والغصب ، بالعكس من بني هاشم فإنهم عرفوا بالمظلومية وأن لهم الرئاسة الروحانية بالاستحقاق ، وإليهم تنمى الحقيقة الروحانية.

كأن المسلمين بعد قتل الحسينعليه‌السلام قد دخلوا في دور جديد وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مندرسة غائبة عن أذهان المسلمين وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسينعليه‌السلام على جميع مصائب روحاني السلف ، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر ، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية

٢٩٥

آل محمد) فكانت أولى نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم ، وخصوصا في أولاد الحسينعليه‌السلام (فكان منهم أئمة الشيعة) ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين. ولم يطل العهد حتى نزعت تلك السلطة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن ، واندرست آثارهم على وجه لم يبق منهم عين ولا أثر. وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة ، وكل ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال إنه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسينعليه‌السلام .

قبل أن تصل سبايا الحسين إلى الشام قامت الثورة ضد يزيد وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية ، وكشف الغطاء عن نياتهم وتوجه اللوم على يزيد حتى من أهل بيته وحرمه(١) . وصار يزيد يسمع تقديس الحسينعليه‌السلام وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير. وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بدّ غير السكوت ، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسينعليه‌السلام . قال يزيد ذات يوم : إن سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم.

وأخيرا فشيعة الحسينعليه‌السلام لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات ، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتى لم يمض أقل من قرن إلا وصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم ، وأبادوا بني أمية على وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم. (انتهى كلام ماربين).

__________________

(١) قال السيد عبد الرزاق المقرم في مقتله صفحة ٢٠ : ولقد فشا الانكار على يزيد حتى من حريمه وأهل بيته ، حتى أن زوجته هند بنت عمرو بن سهيل وكان زوجة عبد الله بن عامر بن كريز ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد فيها فإنها لما أبصرت الرأس مصلوبا على باب دارها ، والأنوار النبوية تتصاعد منه إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر طريا ويشم منه رائحة طيبة ، عظم مصابه في قلبها فلم تتمالك أن دخلت على يزيد في مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا. فقام إليها وغطاها وقال لها : أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد قصد بذلك تعمية الامر وإبعاد السبة عنه وذلك بإلقاء التبعة على عامله

٢٩٦

إنها لكلمات حرة صادقة جاءت على لسان رجل غربي مدقق مطّلع. ومن المؤسف أن نرى أمثال هذا الفيلسوف من الغربيين أشد إنصافا ودفاعا عن الحق ، حتى من علماء العرب أنفسهم (وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) صدق الله العظيم.

٢٩٧ ـ مختصر ما حصل للحسينعليه‌السلام حتّى مقتله :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٧)

يقول السيوطي : فأما ابن الزبير فلم يبايع ، ولا دعا إلى نفسه.

وأما الحسينعليه‌السلام فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية ، وهو يأبى. فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما ، يجمع الإقامة مرة ، ويريد المسير إليهم أخرى. فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.

وكان ابن عباس يقول له : لا تفعل.

وقال له ابن عمر : «لا تخرج ، فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وإنك بضعة منه ، ولا تنالها (أي الدنيا).

(وفي رواية تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، ج ٢ ص ٣٥٧) : «لا ينالها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير ، فأبى».

واعتنقه [ابن عمر] وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل!. فكان ابن عمر يقول :غلبنا حسين بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.

وكلّمه في ذلك أيضا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو واقد الليثي وغيرهم ، فلم يطع أحدا منهم.

وصمم على المسير إلى العراق. فقال له ابن عباس : والله إني لأظنك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان ، فلم يقبل منه. فبكى ابن عباس وقال : أقررت عين ابن الزبير.

وبعث أهل العراق إلى الحسينعليه‌السلام الرسل والكتب يدعونه إليهم ، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة ، ومعه طائفة من آل بيته ، رجالا ونساء وصبيانا.

فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله ، فوجّه إليه جيشا من أربعة آلاف ، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فخذله أهل الكوفة ، كما هو شأنهم مع

٢٩٧

أبيه من قبله. فلما رهقه السلاح عرض عليهم الاستسلام والرجوع ، والمضي إلى يزيد فيضع يده في يده [هذه الدعوى مغلوطة من وضع الإعلام الأموي] فأبوا إلا قتله!. فقتل وجيء برأسه في طست ، حتّى وضع بين يدي ابن زياد ؛ لعن الله قاتله ، وابن زياد معه ويزيد أيضا.

ويتابع السيوطي حديثه فيقول : وكان قتله بكربلاء. وفي قتله قصة فيها طول ، لا يحتمل القلب ذكرها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته

ولما قتل الحسينعليه‌السلام وبنو أمية ، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد ، فسرّ بقتلهم أولا ، ثم ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك ، وأبغضه الناس ، وحقّ لهم أن يبغضوه. اه

٨ ـ ثمرات النهضة الحسينية

٢٩٨ ـ نهضة الحسينعليه‌السلام تحقق أهدافها القريبة والبعيدة ، ثمرات نهضة الحسينعليه‌السلام :

(الأئمة الاثنا عشر لعادل الأديب ، ص ١٣٦)

لقد استطاعت ثورة الحسينعليه‌السلام أن تحقق من قيامها الثمرات التالية :

١ ـ وضع الحدّ الفاصل أمام الجماهير ، بين الإسلام الصحيح والحكم الأموي الخادع ، وتحطيم الإطار الديني المزيّف الّذي كان الأمويون يحيطون به سلطانهم ، وبيان مدى بعده عن الدين.

٢ ـ الشعور بالإثم : ولّد استشهاد الحسينعليه‌السلام المفجع في كربلاء في ضمير كل مسلم استطاع أن ينصره فلم ينصره ، بعد أن عاهده على الثورة ولّد فيهم الشعور بالإثم ، ولزوم التكفير عن ذلك التقصير.

ولقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يظل دائم الأوار ، حافزا دائما إلى الثورة والانتقام ، من رؤوس الفتنة والانحراف ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الأمويين والظالمين كلما سنحت الفرصة.

٣ ـ تنمية الروح النضالية في الإنسان المسلم ، وتحطيم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي حالت دون الثورة.

٢٩٨

ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير ثورة الحسينعليه‌السلام في بعث روح الثورة والنضال في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع خلال عشرين عاما من مقتل الإمام عليعليه‌السلام وحتى ثورة الحسينعليه‌السلام أخلد إلى السكون ولم يقم بأي ثورة أو احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والظلم والقتل وسرقة أموال الأمة ، التي كان يقوم بها الأمويون وأعوانهم ، بل خلد إلى الخنوع والنوم والتسليم.

أما بعد ثورة الحسينعليه‌السلام واستشهاده ، فقد اندلعت الثورات على يد الجماهير وتوثّبت الروح النضالية فيهم ، وبدؤوا يبحثون عن زعيم يقودهم لنزع قيد الخنوع والاستسلام ، وإرجاع الحياة والحركة للإسلام. ونلاحظ هذه الروح الثورية في كل الثورات التي حملت شعار الثأر لدم الحسينعليه‌السلام والتي هي في واقعها تثأر لكرامة الإسلام والمسلمين.

٢٩٩ ـ ثورات على خطّ الحسينعليه‌السلام :(المصدر السابق ، ص ١٣٩)

ونجمل هنا ذكر بعض هذه الثورات :

١ ـ ثورة التوابين : التي اندلعت في الكوفة بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت ردّ فعل مباشر لمقتل الحسينعليه‌السلام ، وانطلقت من مبدأ الشعور بالإثم والتقصير في نصرة الحسينعليه‌السلام . وكانت سنة ٦٥ ه‍.

٢ ـ ثورة أهل المدينة : وكانت تهدف إلى تقويض سلطان الأمويين الظالم اللاإسلامي ، وقد بدأت هذه الثورة بطرد حاكم يزيد من المدينة ، ومعه كل الأمويين وعددهم ألف شخص. فكان من نتيجة ذلك أن بعث يزيد بالمجرم السفّاك مسلم بن عقبة المرّي ، الّذي اشتهر باسم (مسرف) من شدة ما أسرف في قتل أهل المدينة من أبناء الصحابة والتابعين. وقد سبى المدينة ثلاثة أيام ، حتّى أن جيشه افتضّ ألف فتاة عذراء من بنات الصحابة الأجلاء.

٣ ـ ثورة المختار الثقفي : الّذي خرج من العراق طالبا الأخذ بالثأر من قتلة الحسينعليه‌السلام ، وذلك سنة ٦٦ ه‍. فتتبّع المختار قتلة الحسينعليه‌السلام وآله ، وقتلهم ومثّل بهم. فقتل منهم في يوم واحد مائتين وثمانين رجلا ، حتّى قتل منهم الآلاف.ولم ينج منه أحد ، حتّى عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وأضرابهم.

٢٩٩

٤ ـ ثورة ابن الأشعث : وفي سنة ٨١ ه‍ ثار عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج في العراق ، وخلع عبد الملك بن مروان. وقد استمرت ثورته إلى سنة ٨٣ ه‍ ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثم قضى عليها الحجاج بمساعدة جيوش شامية.

٥ ـ ثورة الشهيد زيد بن علي : وفي سنة ١٢٢ ه‍ ثار في الكوفة على طغيان الأمويين زيد بن علي ، وهو ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام . ولكن سرعان ما أخمدت ثورته ، وقتل وصلبرحمه‌الله .

وكان من نتيجة هذه الثورات تقويض ملك بني أمية خلال تسعين سنة ، وقد كان يتوقع له أن يستمر مئات السنين.

فلسفة الابتلاء

٣٠٠ ـ الدنيا دار ابتلاء :

(الأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري : اعلم أيّدك الله أن البلاء إنما كتب على المؤمن ، وأن الدنيا ليست بدار ثواب ولا بدار عقاب ، لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها ولا عقاب الكافر فيها ، وذلك لقلة أيامها ونقصان الأعمار فيها ، ومن ثم بعث الدواهي والمصائب فيها إلى أحبابه وأقاربه.

ولا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسينعليه‌السلام ، فإنها هدّت أركان الدين وصدّعت قواعد الشرع المبين ، وأبكت الأجفان وأقرحت القلوب. ولعمري إنها المصيبة التي يتسلى بها المؤمن عن كل مصاب ، والداهية المنسية له مفارقة الخلان والأحباب.

٣٠١ ـ المؤمن أشدّ ابتلاء :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦٨)

روي أن رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف بين يديه ، فقال : يا رسول الله إني أحب اللهعزوجل ، فقال : استعدّ للبلاء!. فقال : يا رسول الله وإني أحبك ، فقال له : استعدّ للفقر!. فقال : وإني أحبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال : استعدّ لكثرة الأعداء!.

٣٠٠

وكذا لو قال : غبنته ؛ لأنّه قد يغصب ويغبن في غير المال.

قال الشافعي : إذا قال الرجل للرجل : غصبت منك شيئاً ، ثمّ قال : أردت به كلباً ، أُجبر على دفعه إليه. وكذا إن قال : جلد ميتة. فإن قال :

خمراً أو خنزيراً ، لم أُجبره على دفعه إليه ، وقتلتُ الخنزيرَ وأرقتُ الخمرَ(١) .

وحكي عن أبي حنيفة أنّه قال : لو قال : لفلان علَيَّ شي‌ء أو كذا ، لم يُقبل تفسيره بغير المكيل والموزون ؛ لأنّ غير ذلك لا يثبت في الذمّة بنفسه(٢) .

وهو خطأ ؛ لأنّ غير المكيل والموزون متموَّل يدخل تحت العقود ، فجاز أن يُفسَّر به الشي‌ء ، كالمكيل والموزون.

وتعليله باطل ؛ لأنّه يثبت في الذمّة ، ولا اعتبار بسبب ثبوته في الإخبار عنه والإقرار به.

مسألة ٨٩٠ : لو قال : له عندي شي‌ء ، قُبِل تفسيره بالخمر والخنزير على إشكال - وهو المشهور من مذهب الشافعيّة(٣) - لأنّه شي‌ء ممّا عنده.

ويحتمل عدم القبول - وهو قول الجويني(٤) - لأنّ لفظة « له » تُشعر بثبوت ملكٍ أو حقٍّ.

ويمكن منعه ؛ لتسويغ قول القائل : لفلان عندي خمر أو خنزير.

إذا عرفت هذا ، فلو شهد بالمجهول ، احتُمل السماع ، كما إذا كان له‌ عليه مائة فأقرّ صاحب الدَّيْن أنّه قبض منه شيئاً من الحقّ وقامت بذلك

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢٤١ ، الوسيط ٣ : ٣٣٢.

(٢) حلية العلماء ٨ : ٣٣٩ ، المغني ٥ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

٣٠١

بيّنة ، فإنّها تُسمع ، ويُقبل قول صاحب الدَّيْن في قدره مع اليمين ، فإن لم يحلف حتى مات ، قام وارثه مقامه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّ البيّنة إن شهدت بالإقرار بالمجهول ، جاز. وإن شهدت بالمجهول ، فلا ؛ لأنّ البيّنة سُمّيت بيّنةً ؛ لأنّها تبيّن ما تشهد به وتكشف عنه ، بخلاف الإقرار ؛ لأنّه ليس ببيّنةٍ(١) (٢) .

وعلى هذا فالأقوى أنّ الدعوى كالإقرار ، فإذا ادّعى أنّه أقرّ له بقبض شي‌ءٍ ، أو بأنّ له عليه شيئاً ، سُمعت دعواه ، وإلّا فلا.

مسألة ٨٩١ : إذا أقرّ بالمجهول وفسّره بتفسيرٍ صحيح وصدّقه المُقرّ له ، فلا بحث.

وإن كذّبه الـمُقرّ له ، فليبيّن جنس الحقّ وقدره ، ويدّعيه ، ويكون القولُ قولَ الـمُقرّ في [ نفيه ](٣) .

ثمّ لا يخلو التنازع إمّا أن يكون في القدر أو في الجنس.

فإن كان في القدر(٤) ، مثل : أن يفسّر إقراره بمائة درهم ، فيقول المُقرّ له : بل عليه مائتان ، فإن صدّقه على إرادة المائة ، فهي ثابتة باتّفاقهما ، ويحلف المُقرّ على نفي الزيادة.

وإن قال : أراد به المائتين ، حلف الـمُقرّ على أنّه ما أراد مائتين ، وأنّه ليس عليه إلّا مائة ، ويجمع بينهما في يمينٍ واحدة ، وبه قال بعض الشافعيّة(٥) .

____________________

(١) في « ث ، ج » : « بيّنةً ».

(٢) راجع : حلية العلماء ٨ : ٣٣٨ ، والتهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٨.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في ظاهر الطبعة الحجريّة وبعض النسخ الخطّيّة وصريح بعضها الآخَر : « نفسه ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) يأتي حكم التنازع في الجنس في المسألة التالية.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

٣٠٢

وقال بعضهم : لا بدّ من يمينين(١) .

والمشهور : الأوّل.

فإن نكل الـمُقرّ ، حلف الـمُقرّ له على استحقاق المائتين.

ولا يحلف على الإرادة ؛ لعدم إمكان الاطّلاع عليها ، بخلاف ما إذا مات الـمُقرّ وفسّر الوارث وادّعى الـمُقرّ له زيادةً ، فإنّ الوارث يحلف على [ نفي ](٢) إرادة المورّث ؛ لأنّه قد يطّلع من حاله مورّثه على ما لا يطّلع عليه غيره.

وكذا لو أوصى له بمجمل ، فبيّنه الوارث ، وزعم الموصى له أنّه أكثر ، حلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة ، ولا يتعرّض للإرادة.

والفرق أنّ الإقرار إخبار عن سابقٍ وقد يفرض فيه الاطّلاع ، والوصيّة إنشاء أمرٍ [ على ](٣) الجهالة ، وبيانه - إذا مات الموصي - إلى الوارث.

مسألة ٨٩٢ : لو كان التنازع في الجنس ، مثل : أن يقول : له علَيَّ شي‌ء ، ثمّ يفسّره بعبدٍ أو درهمٍ أو بمائة درهم ، فيقول المُقرّ له : بل لي عليك جارية أو دينار أو مائة دينار ، فيُنظر إن صدّقه المُقرّ له في الإرادة وقال : هو ثابت لي عليه ولي عليه مع ذلك كذا ، ثبت المتّفق عليه ، وكان القولُ قولَ الـمُقرّ في نفي غيره.

وإن صدّقه في الإرادة وقال : ليس لي عليه ما فسّره به ، إنّما لي عليه كذا ، بطل حكم الإقرار بردّه ، وكان مدّعياً في غيره.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عن ». والمثبت هو الصحيح.

٣٠٣

وإن كذّبه في دعوى ا لإرادة وقال : إنّما أراد ما ادّعيتُه ، حلف الـمُقرّ على نفي الإرادة ونفي ما يدّعيه. ثمّ إنّ الـمُقرّ له إن كذّبه في استحقاق الـمُقرّ به ، بطل الإقرار فيه ، وإلّا ثبت.

ولو اقتصر الـمُقرّ له على دعوى الإرادة وقال : ما أردتَ بكلامك ما فسّرتَه به وإنّما أردتَ كذا إمّا من جنس الـمُقرّ به أو من غيره ، لم يُسمع منه ذلك ؛ لأنّ الإقرار والإرادة لا يُثبتان له حقّاً ، بل الإقرار إخبار عن حقٍّ سابق ، فعليه أن يدّعي الحقّ بنفسه.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ضعيف عندهم : أنّه تُقبل دعوى الإرادة المجرّدة(١) .

وهو كالخلاف في أنّ مَن ادّعى على غيره أنّه أقرّ له بألف هل تُسمع منه دعوى الإقرار ، أم عليه [ دعوى ](٢) نفس الألف؟

واعلم أنّ مَنْ لا يسمع دعوى الإرادة لا يريد عدم الالتفات إليها أصلاً ، وإنّما المراد أنّها وحدها غير مسموعة ، فأمّا إذا ضمّ إليها دعوى الاستحقاق ، فيحلف المُقرّ على نفيهما على الأظهر.

وللشافعيّة في البيع وجهان : إنّه إذا ادّعى المشتري عيباً قديماً بالمبيع ، وقال البائع : بعتُه وأقبضتُه سليماً ، يلزمه أن يحلف كذلك ، أو يكفيه الاقتصار على أنّه لا يستحقّ الردّ؟ فيجي‌ء لهم هنا وجه : أنّه يكفيه نفي اللزوم ، ولا يحتاج إلى التعرّض للإرادة(٣) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٨.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٥.

٣٠٤

مسألة ٨٩٣ : إذا أقرّ بالمبهم ثمّ مات قبل التفسير ، طُولب الوارث به‌ ؛ لأنّه المستحقّ للتركة ، فإن فسّر قُبِل منه بمهما كان ، فإن ادّعى الـمُقرّ له خلافه قُدّم قول الوارث مع اليمين ، فإن نكل حلف الـمُقرّ له ، وأخذ ما حلف عليه.

وإن امتنع الوارث من البيان ، احتُمل أن يوقف أقلّ ما يتموّل ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(١) ، وأن يوقف الكلّ - وهو الأظهر - لأنّ الجميع وإن لم يدخل في التفسير فهو مرتهن بالدَّيْن.

ولو قال الوارث : لا أدري ما أراد ولا أعلم لك شيئاً ، حلف - إن طلب الـمُقرّ له - على نفي العلم ، ثمّ سلّم إلى المدّعي أقلّ ما يتموّل ، ولا يُسلّم إليه ما يدّعيه مع اليمين ؛ إذ لا يمين على المدّعي إلّا بالردّ.

البحث الثاني : في الإقرار بالمال.

مسألة ٨٩٤ : إذا قال : له علَيَّ مال ، قُبِل تفسيره بأقلّ ما يتموّل ، ولا يُقبل تفسيره بما ليس بمالٍ إجماعاً ، كالكلب والخنزير وجلد الميتة.

ويُقبل بالتمرة الواحدة حيث يكثر ؛ لأنّه مال قليل وإن لم يتموّل في ذلك الموضع ، وكلّ متموَّلٍ مالٌ ، ولا ينعكس.

وكذا لو فسّره بالحبّة من الحنطة والشعير.

إذا عرفت هذا ، فإنّه يُقبل - فيما إذا قال : له علَيَّ مال - التفسير بالقليل والكثير ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأحمد(٢) - لصدق اسم المال‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٨.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٣ ، التنبيه : ١٧٥ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٨ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣١ ، الوجيز ١ : ١٩٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٢ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٩ ، البيان ١٣ : ٤١١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٨ ، منهاج =

٣٠٥

عليه ، والأصل عدم ا لزائد.

وقال أبو حنيفة : لا يُقبل تفسيره بغير المال الزكوي ؛ لقول الله تعالى :( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (١) وقوله تعالى :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ ) (٢) (٣) .

والآية عامّة دخلها التخصيص بالسنّة المتواترة ، فلا يخرج اللفظ عن حقيقته.

وقوله :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ ) ليس المراد الزكاة ؛ لأنّها نزلت بمكة قبل فرض الزكاة ، فلا حجّة له فيها.

ثمّ ينتقض بقوله تعالى :( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) (٤) والتزويج جائز بأيّ نوعٍ كان من المال قليله وكثيره ولو بدرهمٍ.

وعن مالك ثلاثة أوجُهٍ.

أحدها : كما قلناه.

والثاني : لا يُقبل إلاّ أقلّ نصابٍ من نُصُب الزكاة من نوع أموالهم.

[ و ] الثالث : ما يُستباح به البُضْع والقطع في السرقة ؛ لقوله تعالى :( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ ) (٥) (٦) .

____________________

= الطالبين : ١٤٠ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٢ / ١٠٤٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٠١ - ١٧٠٢ / ١١٩٨ ، المعونة ٢ : ١٢٤٥ ، المغني : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٠.

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) الذاريات : ١٩.

(٣) حلية العلماء ٨ : ٣٣٩ ، البيان ١٣ : ٤١٢ ، المغني ٥ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٠.

(٤ و ٥) النساء : ٢٤.

(٦) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٢ / ١٠٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٨٨ - ٢٨٩ ،

٣٠٦

ويبطل بوقوع اسم الم ال على القليل والكثير ، والبُضْع - عندنا وعند الشافعي(١) - يُستباح بالقليل والكثير.

وهل يُقبل تفسيره بالمستولدة؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّها مال يجوز بيعها بعد موت ولدها ، ويُنتفع بها وتُستأجر وإن كانت لا تُباع ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) .

ولو فسّره بوقفٍ عليه ، قُبِل.

وخرّج بعض الشافعيّة ذلك على الخلاف في أنّ الملك في الوقف هل هو للموقوف عليه أم لا؟(٣) .

مسألة ٨٩٥ : لو قال : له علَيَّ مالٌ عظيم أو جليل أو نفيس أو خطير أو غير تافه أو مال وأيّ مال ، قُبِل تفسيره بأقلّ ما يتموَّل أيضا ، كما لو قال : « مال » لم يزد عليه ؛ لأنّه يحتمل أن يريد به عظم خطره بكفر مستحلّه ووزر غاصبه والخائن فيه ؛ لأنّ أصل ما يبنى عليه الإقرار الأخذ بالمتيقّن والترك لغيره ، ولا يعتبر الغلبة.

واختلف أصحاب أبي حنيفة :

فمنهم مَنْ قال : لا يُقبل أقلّ من عشرة دراهم - وذكر أنّه مذهب‌

____________________

= عيون المجالس ٤ : ١٧٠١ - ١٧٠٣ / ١١٩٨ ، المعونة ٢ : ١٢٤٥ ، جامع الأُمّهات : ٤٠١ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٩ - ٣٤٠ ، البيان ١٣ : ٤١٢ ، المغني ٥ : ٣١٥ - ٣١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٠.

(١) الحاوي الكبير ٩ : ٣٩٦ - ٣٩٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٥٦ ، الوسيط ٥ : ٢١٥ ، حلية العلماء ٦ : ٤٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ٤٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٨ : ٢٣٢ - ٢٣٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٥٧٥ ، بداية المجتهد ٢ : ١٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٧١٤ / ١٢٩١ ، المغني والشرح الكبير ٨ : ٥.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٨.

٣٠٧

أبي حنيفة - لأنّه يُقطع به السارق ، ويكون صداقاً عنده(١) .

وقال أبو يوسف ومحمّد : لا يُقبل أقلّ من مائتي درهم - قال الرازي :

هذا مذهب أبي حنيفة - لأنّه الذي تجب فيه الزكاة(٢) .

وقال أبو عبد الله الجرجاني : نصّ أبو حنيفة على ذلك ، وقال : إذا أقرّ بأموال عظيمة ، يلزمه ستمائة درهم(٣) .

واختلف أصحاب مالك :

فمنهم مَنْ يقول : يُقبل ما يُقبل في المال.

ومنهم مَنْ قال : يزيد على ذلك أقلّ زيادة.

ومنهم مَنْ قال : قدر الدية.

ومنهم مَنْ قال : ثلاثة دراهم نصاب القطع ؛ لأنّ الدانق والحبّة لا يُسمّى عظيماً ، فلا يصحّ التفسير به ، كما لو قال : مال جزيل(٤) .

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ١٩٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩٨ ، الفقه النافع ٢ : ٥٢٥ / ٢٧٤ ، و ٨١٣ / ٥٤٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٠ - ١٨١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٣ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٠ - ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٨ ، البيان ١٣ : ٤١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٦ ، المغني ٥ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٩٧ - ١٩٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٢٠ / ١٩٢٤ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٦ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣١ ، الوسيط ٣ : ٣٣٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٨ ، البيان ١٣ : ٤١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩.

(٣) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٣٦٠ ، ضمن المسألة ١ من كتاب الإقرار ، وانظر بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٠ ، وفتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٦ ، وبحر المذهب ٨ : ٢٣٢.

(٤) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٣ / ١٠٤٤ ، جامع الأُمّهات : ٤٠١ ، =

٣٠٨

وهو غلط ؛ لأنّا نجر ي الجزيل مجرى العظيم.

والأصل في ذلك أنّه ليس في العظيم حدٌّ في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف ، والناس يختلفون في ذلك ، فبعضهم يستعظم القليل ، وبعضهم لا يستعظم الكثير ، فلم يثبت في ذلك حدٌّ يرجع إليه ، ولا في اللغة ولا في العرف قانون يُعوَّل عليه ، فيرجع إلى تفسيره وبيانه ؛ لأنّه أعرف بمراده.

مسألة ٨٩٦ : لو قال : له علَيَّ مالٌ كثير ، قال الشيخرحمه‌الله : إنّه يلزمه ثمانون ؛ بناءً على الرواية التي تضمّنت أنّ الوصيّة بالمال الكثير وصيّة بثمانين(١) ، ولم يعرف هذا التفسيرَ أحدٌ من الفقهاء(٢) .

وقد عرفتَ قولهم في العظيم ، وكذا في الكثير عندهم.

وقال الليث بن سعد : يلزمه اثنان وسبعون درهماً ؛ لأنّ الله تعالى قال :( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (٣) وكانت غزواتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسراياه اثنين وسبعين(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك ليس بحدٍّ لأقلّ الكثير ، وإنّما وصف ذلك بالكثرة ، ولا يمنع ذلك وقوع الاسم على ما دون ذلك ، وقد قال الله تعالى :

( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (٥) وليس المراد ما ذكره ، وكذا قوله‌

____________________

= الذخيرة ٩ : ٢٨٩ ، المعونة ٢ : ١٢٤٦ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤١ ، المغني ٥ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٣.

(١) راجع الكافي ٧ : ٤٦٣ - ٤٦٤ / ٢١ ، ومعاني الأخبار : ٢١٨ ( باب معنى الكثير من المال ) ح ١ ، والتهذيب ٨ : ٣٠٩ / ١١٤٧.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٥٩ ، المسألة ١ من كتاب الإقرار.

(٣) التوبة : ٢٥.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ١٣ و ١٤ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤١ ، المغني ٥ : ٣١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩.

(٥) البقرة : ٢٤٩.

٣٠٩

تعالى : ( اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (١) ولم ينصرف إلى ذلك ، ولهذا أمثال كثيرة في القرآن ، وأصحابنا التجئوا في ذلك إلى الرواية(٢) ، وكانت المواطن عندهم ثمانين موطناً.

إذا عرفت هذا ، فنقول : تُقصر الرواية على ما وردت عليه ، ويبقى الباقي على الإجمال.

مسألة ٨٩٧ : وافقنا أبو حنيفة(٣) في الجليل والنفيس والخطير على قبول التفسير بأقلّ ما يتموّل.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال ؛ ليكون لوصفه بالعظيم فائدة(٤) .

واكتفى بعضهم بالعظم من حيث الجرم والجثّة(٥) .

ولو قال : له علَيَّ مال عظيم جدّاً ، أو : عظيم عظيم ، فكقوله : له علَيَّ مالٌ ، ويُقبل تفسيره بما قلّ وكثر.

وكذا لو قال : وافر ، أو : خطير.

ولو قال : له علَيَّ مالٌ قليل أو خسيس أو تافه أو يسير ، فهو كما لو قال : مال ، وتُحمل هذه الصفات على استحقاق الناس إيّاه ، وعلى أنّه فانٍ زائل ، فكثيره بهذه الاعتبار قليل ، وقليله بالاعتبار الأوّل كثير ، وقد يستعظم‌ الفقير ما يستحقره الغني.

مسألة ٨٩٨ : لو قال : لزيدٍ علَيَّ أكثر من مال فلان ، قُبِل تفسيره بأقلّ

____________________

(١) الأحزاب : ٤١.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٠٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٥ - ٣٠٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٦.

٣١٠

ما يتموّل وإن كثر مال فلان ؛ لأنّه يحتمل أن يريد به أنّه دَيْنٌ لا يتطرّق إليه الهلاك ، وذلك عين معرَّض للهلاك ، أو يريد أنّ مال زيد علَيَّ حلال ، ومال فلان حرام ، والقليل من الحلال أكثر بركةً من الكثير من الحرام ، وكما أنّ القدر مبهم في هذا الإقرار ، فكذلك الجنس والنوع مبهمان.

ولو قال : له علَيَّ أكثر من مال فلان عدداً ، فالإبهام في الجنس والنوع.

ولو قال : له علَيَّ من الذهب أكثر ممّا لفلان ، فالإبهام في القدر والنوع. ولو قال : من صحاح الذهب ، فالإبهام في القدر وحده.

ولو قال : له علَيَّ أكثر من مال فلان ، وفسّره بأكثر منه عدداً أو قدراً ، لزمه أكثر منه ، ويرجع إليه في تفسير الزيادة ولو حبّة أو أقلّ.

ولو قال : ما علمتُ أنّ مال فلانٍ كذا ، أو ما علمتُ لفلانٍ أكثر من كذا ، وقامت البيّنة بأكثر منه ، لم يلزمه أكثر ممّا اعترف به ؛ لأنّ المال يخفى كثيراً عن الغير ، ولا يعرف أحد قدره في الأكثر ، وقد يكون ظاهراً وباطناً ، فيملك ما لا يعرفه الـمُقرّ ، فكان المرجع إلى ما اعتقده الـمُقرّ مع يمينه إذا ادّعي عليه أكثر منه. وإن فسّره بأقلّ من ماله مع علمه بماله ، لم يُقبل.

مسألة ٨٩٩ : لو قال : لي عليك ألف دينار ، فقال : لك علَيَّ أكثر من ذلك ، لم يلزمه أكثر من الألف ، بل ولا الألف ؛ لأنّ لفظة « أكثر » مبهمة ؛ لاحتمالها الأكثريّة في القدر أو العدد ، فيحتمل أنّه أراد أكثر منه فلوساً أو حَبّ حنطة أو حَبّ شعير أو دخن ، فيرجع في ذلك إلى تفسيره.

واستبعده بعض العامّة ؛ لأنّ « أكثر » إنّما تُستعمل حقيقةً في العدد أو في القدر ، فيُصرف إلى جنس ما أُضيف « أكثر » إليه ، لا يُفهم في الإطلاق غير‌

٣١١

ذلك ، قال الله تعالى :( كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ) (١) وقال تعالى :( أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً ) (٢) ( وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ) (٣) مع أنّه إذا قال : له علَيَّ دراهم ، لزمه ثلاثة أقلّ الجمع وازنة صحيحة حالّة ، مع احتمال إرادة الأدون والأردأ والمؤجَّل ، ولا يُقبل تفسيره بهذه ؛ حملاً للّفظ على ظاهره ، واحتمال « أكثر » هنا أبعد(٤) .

والتحقيق أنّ « أكثر » إن قُرن بـ « من » لم تجب مشاركته في الجنس ، وإلّا وجب ؛ لأنّ « أفعل » بعض لما يضاف إليه.

مسألة ٩٠٠ : لو قال : لزيدٍ علَيَّ مال أكثر ممّا تشهد به الشهود على فلان ، قُبِل تفسيره بأقلّ ما يُتموّل أيضا ؛ لاحتمال أنّه يعتقد أنّهم شهدوا زوراً ، ويريد أنّ القليل من الحلال أكثر بركةً.

ولو قال : أكثر ممّا قضى [ به ] القاضي على فلان ، فهو كما لو قال : أكثر ممّا شهد به الشهود ؛ لأنّ قضاء القاضي قد يكون مستنداً إلى شهادة الزور وإلى شهادة الفُسّاق ، ويجوز أن يغلط أو يعصي ، فيقضي بغير الحقّ ، والحكم الظاهر لا يغيّر ما عند الله.

وهذا أظهر وجهي الشافعيّة. والثاني : إنّه يلزمه القدر الذي قضى به القاضي ؛ لأنّ قضاء القاضي محمول على الحقّ والصدق(٥) .

وليس جيّداً.

مسألة ٩٠١ : لو قال : لفلانٍ علَيَّ أكثر ممّا في يد زيدٍ ، قُبِل تفسيره

____________________

(١) غافر : ٨٢.

(٢) الكهف : ٣٤.

(٣) سبأ : ٣٥.

(٤) المغني ٥ : ٣١٧ - ٣١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٣٠.

٣١٢

بأقلّ ما يُتموّل ، كما لو قال : أكثر من مال فلان.

ولو قال : له علَيَّ أكثر ممّا في يد فلان من الدراهم ، لا يلزمه التفسير بجنس الدرهم ، لكن يلزمه ذلك العدد من أيّ جنسٍ شاء وزيادة بأقلّ ما يُتموّل ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .

واعتُرض بأنّه يخالف قياس ما سبق ؛ لوجهين :

الأوّل : التزام ذلك العدد.

والثاني : التزام زيادةٍ عليه(٢) .

والتأويل الذي تقدّم للأكثريّة ينفيهما جميعاً.

ولو قال : له علَيَّ من الدراهم أكثر ممّا في يد فلان من الدراهم ، وكان في يد فلان ثلاثة دراهم ، قال بعض الشافعيّة : يلزمه ثلاثة دراهم وزيادة أقلّ ما يُتموّل(٣) .

وقال بعضهم : لا يلزمه زيادة ؛ حملاً للأكثر على ما سبق(٤) .

والأقرب عندي : إنّه يُقبل لو فسّر بما دون الثلاثة أيضاً.

ولو كان في يده عشرة دراهم وقال الـمُقرّ : لم أعلم وظننتُ أنّه ثلاثة ، قُبِل قوله مع يمينه.

البحث الثالث : في الإقرار بكناية العدد.

مسألة ٩٠٢ : لو قال : لفلان علَيَّ كذا ، فهو مبهم بمنزلة قوله : له علَيَّ شي‌ء ، فيُقبل تفسيره بما يُقبل به تفسير الشي‌ء.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٣٠.

(٢ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٣٠.

٣١٣

ولو قال : له علَيَّ كذا كذا ، فهو كما لو قال : كذا ، والتكرار للتأكيد لا للتجديد ، فكأنّه قال : له علَيَّ شي‌ء شي‌ء.

ولو قال : له علَيَّ كذا وكذا ، فعليه التفسير بشيئين مختلفين أو متّفقين يُقبل كلّ واحدٍ منهما في تفسير « كذا » من غير عطفٍ.

وكذا لو قال : علَيَّ شي‌ء ، أو قال : شي‌ء وشي‌ء.

ولو عقّبه بالدرهم مثلاً ، فقال : له علَيَّ كذا درهم ، فلا يخلو إمّا أن ينصب الدرهم أو يرفعه أو يجرّه أو يقف عليه.

فإن نصبه فقال : له علَيَّ كذا درهماً ، لزمه درهم واحد ، وكان الدرهم منصوباً على التمييز ؛ لأنّه تفسير لما أبهمه.

وقال بعض الكوفيّين : إنّه منصوب على القطع ، فكأنّه قطع ما ابتدأ به وأقرّ بدرهمٍ(١) .

وبه قال الشافعي(٢) .

وقال أبو حنيفة : يلزمه عشرون درهماً ؛ لأنّه أقلّ اسم عددٍ مفرد ينتصب الدرهم المفسّر عقيبه(٣) .

وهو جيّد إن كان المـُقرّ عارفاً بالعربيّة. والأقرب : الأوّل ؛ لأنّه المتيقّن.

____________________

(١) المغني ٥ : ٣١٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٢٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٣ ، البيان ١٣ : ٤٢٢ - ٤٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨ ، المغني ٥ : ٣١٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٢ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١١ / ١٢٠٥.

(٣) روضة القضاة ٢ : ٧٢١ ، ذيل الرقم ٤٠٧٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٠٥ ، الوسيط ٣ : ٣٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١١ / ١٢٠٥.

٣١٤

وإن رفعه فقال : كذا درهمٌ ، لزمه درهم واحد إجماعاً ، وتقديره : شي‌ء هو درهم ، فجعل الدرهم بدلاً من « كذا ».

وإن جرّه ، لزمه بعض درهمٍ ، وصار تقديره : له علَيَّ جزء درهمٍ ، أو بعض درهمٍ ، ويرجع في تفسير قدره إليه ، ويكون « كذا » كنايةً عن ذلك الجزء.

وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : إنّه يلزمه مائة درهم ؛ لأنّه أقلّ عددٍ يضاف اسم العدد إليه(١) ويجرّ به(٢) .

وما ذكرناه أولى ؛ لأنّه المتيقّن ، ولا يُنظر إلى الإعراب في تفسير الألفاظ المبهمة ، ولا تُوازن المبهمات المبيّنات.

ولا فرق بين أن يقول : علَيَّ كذا درهم صحيح ، أو لم يقل لفظة « صحيح ».

وبعضهم فرّق بأنّه إذا قال : له علَيَّ كذا درهم صحيح ، بالجرّ ، لم يجز حمله على بعض درهمٍ ، فتتعيّن المائة(٣) .

والحقّ أنّه يلزمه درهم واحد.

وقال بعض الشافعيّة : إذا جرّ ، لزمه درهم واحد إذا لم يقل : « صحيح »(٤) .

ولو وقف ، لزمه بعض درهمٍ ، كما في حالة الجرّ ؛ لأنّه المتيقّن ، لأنّه يجوز أن يسقط حركة الجرّ للوقف.

____________________

(١) كذا قوله : « لأنّه أقلّ عددٍ يضاف اسم العدد إليه ». وفيه اضطراب.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨.

(٣) راجع العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨ ، وروضة الطالبين ٤ : ٣٠ - ٣١.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٣١ ، المغني ٥ : ٣١٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٢.

٣١٥

وقال بعض الشافعيّة : يلزمه درهم(١) .

مسألة ٩٠٣ : لو قال : له علَيَّ كذا كذا ، فهو بمنزلة مَنْ لم يكرّر ، يلزمه درهم واحد.

ثمّ التقدير أن نقول : إمّا أن ينصب الدرهم أو يرفعه أو يجرّه أو يقف.

فإن نصب ، لزمه درهم لا غير ، ولا يقتضي التكرير الزيادة ، كأنّه قال : له شي‌ء شي‌ء.

وقال أبو حنيفة : يلزمه أحد [ عشر ](٢) درهماً ؛ لأنّه أقلّ عددٍ مركّبٍ ينتصب بعده المميّز إن كان عالماً بالعربيّة(٣) .

والأجود ما قلناه ؛ تنزيلاً للإقرارات على المتيقّن ، لا على المظنون ؛ حيث أُخرجت أصالة براءة الذمّة عن أصلها.

ولو رفع ، لزمه درهم واحد أيضاً. وتقديره : كذا كذا هو درهم. ولا خلاف فيه.

ولو جرّ ، لزمه بعض درهمٍ ؛ لاحتمال أن يكون قد أضاف جزءاً إلى جزءٍ ثمّ أضاف الجزء الآخر إلى الدرهم ، فيصير كأنّه قال : له بعضُ بعضِ‌

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٢٤٦ ، البيان ١٣ : ٤٢٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٣١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وعشرون ». والمثبت كما في المصادر هو الصحيح.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٠٥ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٦ ، الفقه النافع ٣ : ١٢١٨ / ٩٧٢ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٢١ / ١٩٢٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨١ ، الوسيط ٣ : ٣٣٤ - ٣٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩.

٣١٦

درهمٍ ، ويُقبل تفسيره .

وكذا لو وقف.

وقال بعض الشافعيّة : يلزمه في الجرّ والوقف والنصب والرفع درهم واحد(١) .

والوجه ما قلناه.

ولو قال : كذا كذا كذا درهم ، لزمه بعض درهمٍ أيضاً ؛ لاحتمال أنّه أراد ثُلث سُبع عُشر درهمٍ.

مسألة ٩٠٤ : لو كرّر « كذا » مع العطف ، فقال : له علَيَّ كذا وكذا ، فإن رفع الدرهم ، لزمه درهم واحد ؛ لأنّه ذكر شيئين ثمّ أبدل منهما درهماً ، فكأنّه قال : هُما درهم ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : إنّه يلزمه درهم وزيادة(٢) .

ولو نصب ، فالأقرب : إنّه يلزمه درهم واحد ؛ لأنّ « كذا » يحتمل أن يكون أقلّ من درهمٍ ، فإذا عطف عليه مثله ثمّ فسّرهما بدرهمٍ واحد ، جاز.

وقال الشافعي : يلزمه درهمان ؛ لأنّ « كذا » يقع على درهمٍ ، يعني لمّا وصل الجملتين بالدرهم كان كلّ واحدٍ من المعطوف والمعطوف عليه واقعاً على درهمٍ ، فكأنّه كناية عنه(٣) .

قال المزني : وقال في موضعٍ آخَر : إذا قال : كذا وكذا درهماً ، قيل : أعطه درهماً أو أكثر من قِبَل أنّ « كذا » يقع على أقلّ من درهمٍ ، وقوله :

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٣١.

(٣) الأُم ٦ : ٢٢٣ ، مختصر المزني : ١١٢ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٠ ، بحر المذهب ٨ : ٢٤٦ - ٢٤٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٢١ / ١٩٢٥.

٣١٧

« أو أكثر » أي : إذ ا فسّره بأكثر من درهمٍ ، لزمه ، وإلّا فالدرهم يقين. ويُروى في بعض النسخ : « وأكثر ». هذا ما نقله المزني(١) .

واختلف أصحاب الشافعي في المسألة على طريقين :

أشهرهما : إنّه على قولين :

أصحّهما : إنّه يلزمه درهمان ؛ لأنّه أقرّ بجملتين مبهمتين ، وعقّبهما بالدرهم ، فالظاهر كونه تفسيراً لهما ، كما لو قال : له علَيَّ عشرون درهماً ، فإنّ الدرهم تفسير للعشرين.

والثاني - وهو اختيار المزني - : إنّه لا يلزمه إلاّ درهم واحد ؛ لجواز أن يريد به تفسير اللفظين معاً بالدرهم ، وحينئذٍ يكون المراد من كلّ واحدٍ نصف درهمٍ(٢) .

وزاد بعضهم قولاً ثالثاً ، وهو : إنّه يلزمه درهم وشي‌ء ، أمّا الدرهم : فلتفسير الجملة الثانية ، وأمّا الشي‌ء : فللأُولى الباقية على إبهامها. وهو موافق لرواية مَنْ روى « أعطه درهماً وأكثر »(٣) .

والطريق الثاني : القطع بأنّه يلزمه درهمان.

واختلفوا في نقل المزني والتصرّف فيه من وجوه :

أ - حمل ما نقله عن موضعٍ آخَر على ما إذا قال : « كذا وكذا درهم » ‌

____________________

(١) مختصر المزني : ١١٢ ، الأُم ٦ : ٢٢٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٧ و ٢٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، البيان ١٣ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٢١ / ١٩٢٥.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٧ - ٢٨ ، الوجيز ١ : ١٩٨ ، الوسيط ٣ : ٣٣٤ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٣١.

٣١٨

بالرفع ، كأنّه يقول : وكذا الذي أبهمته درهم.

ب - إنّه حيث قال : « درهمان » أراد ما إذا أطلق اللفظ ، وحيث قال : « درهم » أراد ما إذا نواه ، فصرف اللفظ عن ظاهره بالنيّة.

ج - إنّه حيث قال : « درهم » أراد ما إذا قال : « كذا وكذا درهماً » فشكّ أنّ الذي يلزمه شيئان أو شي‌ء واحد.

د - إنّه حيث قال : « يلزمه درهم » صوّر فيما إذا قال : « كذا كذا درهماً »(١) .

وقال أبو حنيفة : يلزمه أحد وعشرون درهماً ؛ لأنّه أقلّ مفرد ميّز عددين أحدهما معطوف على الآخَر(٢) .

وحكي عن أبي يوسف أنّه إذا قال : « كذا وكذا ، أو : كذا وكذا درهماً »(٣) لزمه أحد عشر درهماً(٤) .

ولو جرّ الدرهم ، لزمه درهم عند بعض الشافعيّة(٥) .

والحقّ أنّه يلزمه بعض الدرهم ، والتقدير أنّه يلزمه شي‌ء وبعض درهمٍ ، وكلاهما بعض درهمٍ.

ولو قال : كذا وكذا وكذا درهماً ، فإن قلنا : إن كرّر مرّتين لزمه‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٢٨ ، البيان ١٣ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩.

(٢) بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٠٥ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٦ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨١ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٢١ / ١٩٢٥ ، الوسيط ٣ : ٣٣٤ - ٣٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٩.

(٣) « درهماً » لم ترد في النسخ الخطّيّة.

(٤) بحر المذهب ٨ : ٢٤٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٠ ، المغني ٥ : ٣٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٤٤.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٣.

٣١٩

درهمان ، فهنا يلزمه ثلاثة. وإن قلنا : يلزمه درهم ، فكذا هنا.

مسألة ٩٠٥ : لو قال : له علَيَّ ألف ودرهم ، أو ألف ودراهم ، أو ألف وثوب ، أو ألف وعبد ، فقد عطف معيّن الجنس على مبهمه ، فله تفسير الألف بغير جنس المعطوف بأيّ شي‌ء أراد ، عندنا - وبه قال الشافعي ومالك(١) - إذ لا منافاة بين عطف بعض الأجناس على ما يغايرها ، بل هو الواجب ، فبأيّ شي‌ء فسّره قُبِل ، حتّى لو فسّره بحبّات الحنطة قُبِل.

ولو فسّره بألف كلب ، فوجهان على ما سلف(٢) .

وقال أبو حنيفة : إن عطف على العدد المبهم موزوناً أو مكيلاً ، كان تفسيراً له. وإن كان مذروعاً أو معدوداً ، وبالجملة يكون [ متقوّماً ](٣) لم يكن تفسيراً - كالثوب والعبد - لأنّ « علَيَّ » للإيجاب في الذمّة ، فإذا عطف عليه ما يثبت في الذمّة بنفسه ، كان تفسيراً له ، كقوله : مائة وخمسون درهماً ، وقوله : خمسة وعشرون درهماً ، فإنّ الدرهم تفسير العشرين ، والعشرون تفسير الخمسة(٤) .

____________________

(١) الأُم ٦ : ٢٢٣ ، مختصر المزني : ١١٢ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٠ ، بحر المذهب ٨ : ٢٣٥ ، الوجيز ١ : ١٩٨ ، الوسيط ٣ : ٣٣٥ ، حلية العلماء ٨ : ٣٥٠ - ٣٥١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٠ ، البيان ١٣ : ٤٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٣٢ ، منهاج الطالبين : ١٤١ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٥ / ١٠٤٦ ، الذخيرة ٩ : ٢٧٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٠٦ - ١٧٠٧ / ١٢٠١ ، المعونة ٢ : ١٢٥٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٨٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٣.

(٢) في ص ٢٩٧ ، المسألة ٨٨٧.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مفهوماً » وذلك تصحيف.

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ١٩٩ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢٢٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : =

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501