تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179938 / تحميل: 5851
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تعني الكلام المنطقي، والنقد أو التفريق بين الجيّد والردئ، وهو من جهة أُخرى نفسه القابلية على الحكم الصحيح. فشرط انتقاء الكلام المنطقي هو تربية القابلية على النقد أو القابلية على الحكم الصحيح.

تربية روح الدعوة إلى العدالة هدف تربوي

نحن نعلم بأنّ العدالة من الدعائم الأصلية للحياة الإنسانية، والمجتمع الذي يسوده الظلم والإجحاف هو مجتمع تنعدم فيه الإنسانية. إنّ المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يسوده العدل الإلهي، والعمل فيه أساس الملكية، ويعتبر استغلال الناس فيه ذنباً لا يغتفر، ورسالة الأنبياء - من وجهة نظر الإسلام - هي إقامة العدل.

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، (الحديد: 25).

وجاء في القرآن الكريم أنّ الله (تعالى) قائم بالقسط. قال تعالى:

( شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ.. ) ، (آل عمران: 18).

وورد في حديث مشهور أنّ الدنيا تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم، وتمّ التأكيد فيه على خطر الظلم:

«الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».

وقال تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّهِ ) ، (النساء: 135).

وفي الآية الكريمة التالية، يأمر الله - تعالى - الناس بالعدل والإحسان:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.. ) ، (النحل: 90).

والآية التالية، ضمن أمرها بأداء الأمانات إلى أهلها، تؤكّد على مراعاة العدالة

١٤١

عند الحكم بين الناس:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.. ) ، (النساء: 58).

وكما نعلم، فإنّ قائد المسلمين يجب أن يكون عادلاً. قال تعالى:( قل أمَرَ ربّي بالقسط ) . والآية التالية، ضمن دعوتها الناس إلى مراعاة العدالة، تذكّر المسلمين بأن شنآن قوم لا يمنعهم عن الحكم بالعدل، بل يجب مراعاة العدل في كلِّ حال، لأنّه أقرب للتقوى من أيّ عمل آخر، قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، (المائدة: 8).

فينبغي - إذاً - مراعاة العدل في شؤون الحياة كافّة، وفي المجتمع - كما ذكرنا - تشكّل العدالة أساس الحياة الجماعية. ولابدّ من مراعاة العدل في البيت، وفي التعامل مع الآخرين، وفي العلاقات مع الشعوب الأُخرى:

( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَيَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) ، (النحل: 90).

كما نعلم، فإنّ القائد الديني يجب أن يكون عادلاً، وكذلك حكّام المسلمين، وعلى كلِّ مسلم مراعاة العدالة في تعامله مع الآخرين. ويجب أن يكون المربّي عادلاً، ويعمل على ترسيخ روح الدعوة إلى العدالة بين طلاّبه، كما ينبغي للوالدين مراعاة العدالة أيضاً في علاقة أحدهما بالآخر، أو في علاقتهما مع بقيّة أعضاء العائلة.

ومن أجل أن يدرك الطلاّب معنى العدالة، ويراعوها عملياً في تعاملهم مع الآخرين، لابدّ للمربين من أن يجعلوهم في ظروف محسوسة، ويساعدوهم حتى يلحظوا بأنفسهم العدالة مع الآخرين، ونتائجها. وضمن إدراكهم لمفهوم العدالة، يطابقون أعمالهم مع موازين العدل تدريجاً.

١٤٢

تكامل الإنسان كهدف تربوي

إنّ للإنسان منزلة مرموقة في الرسالة الإسلامية، يقول الباري - تعالى - في الآية السبعين من سورة الإسراء:

( وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى‏ كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) .

هويّة الإنسان

للإنسان - من منظور إسلامي - أبعاد متنوّعة، فهو - من جانب - يقطع مراحل النمو كسائر الكائنات الحيّة، ومن جانب آخر، فإنّ الأبعاد المعنوية والفكرية لشخصيّته تميّزه عن سائر الحيوانات. قال تعالى:

( مِنْ أَيّ شَي‏ءٍ خَلَقَهُ * مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ ) (عبس: 18 - 20).

مراحل النفس

تحدّث الإسلام حول النفس الأمّارة، التي تُرغّب الإنسان في الانجراف وراء الهوى والهوس. قال تعالى:

( إِنّ النّفْسَ لَأَمّارَةُ بِالسّوءِ.. ) ، (يوسف: 53).

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.. ) ، (ق: 16).

وتحدّث أيضاً حول النفس اللّوامّة، قال تعالى:

( وَلاَ أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامَةِ ) ، (القيامة: 2).

وتحدّث كذلك حول النفس المطمئنّة، كما جاء في سورة الفجر، ويبدو أنّ الإنسان عندما يبلغ مرحلة النفس المطمئنّة، فإنّه يتمتع بالاطمئنان الباطني، والهدوء النفسي، بسبب الإيمان والعمل. قال تعالى:

١٤٣

( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى‏ رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنّتِي ) ، (الفجر: 27 - 30).

والإنسان نفسه، لو خضع للبُعد الحيواني من شخصيّته، وتولّع بالظلم، والفساد، والأنانية، فإنّه يتساقط نحو أكثر المواطن وضاعة وحقارة وخسّة، قال تعالى:

( ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ، (التين: 5).

الفضيلة والرذيلة في الإنسان

لم يُخلَق الإنسان عاصياً - كما يعتقد النصارى، ولم يخلق محسناً، بل خلق مستعدّاً للفضيلة والرذيلة، مع جنوح فطري نحو الإحسان. وهذا ما تنطق به الآية الكريمة التالية:

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا ) ، (الشمس: 7 - 10).

وجاء في سورة العصر:

( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ ) .

استقلال الشخص

إنّ إحدى مواصفات النظام الإسلامي هي تربية الإنسان على الاستقلال. وكما نعلم، فإنّ المسلم، بمجرّد بلوغه سنّ الرشد، حيث يستطيع تمييز الحسن من القبيح، أو ما يسمّى بالوقوف على قدميه، فعليه أن يتقصّى مبادئ الدين عن طريق التعقّل والاستدلال. وقلّما نلحظ مذهباً من المذاهب الاجتماعية يدعو أتباعه إلى تقصّي مبادئه وأُسسه عن طريق التعقّل، ومن ثمّ المبادرة إلى قبولها عن نفس

١٤٤

الطريق. وكما مرّ بنا - فيما مضى - فإنّ أغلب المذاهب الاجتماعية تلقّن أتباعها أُسسها ومبادئها. جاء في الآيات التالية:

( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: 14).

( كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ، (المدّثّر: 38).

( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ.. ) ، (البقرة: 256).

( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ الْسّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ، (الإسراء: 36).

مسؤولية الإنسان

إنّ الإنسان - من منظور إسلامي - مسؤول عن أعماله، كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً، فهو لم يخلق عاصياً، ولم يكن في مقدور أحد غفران ذنوبه. وكما نعلم، فإنّ أتباع(*) السيّد المسيحعليه‌السلام يعتقدون بأنّ الإنسان مذنب بطبيعته، والسيّد المسيحعليه‌السلام يتكفّل غفران ذنوب الجميع، ولذلك فهو منقذ الناس.

إنّ ما يحصل عليه الإنسان من فائدة هو عطاء عمله. قال تعالى:

( وَأَن لّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) ، (النجم: 39).

( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.. ) ، (فاطر: 18).

ويتحقّق عمل الخير أو عمل الشر على يد الإنسان نفسه. قال تعالى:

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ، (الزلزلة: 7 - 8).

وقال تعالى:( وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) ، (النجم: 40).

____________________

(*) لا نستطيع أن نعبّر عنهم: (أتباع)، لأنّهم لو كانوا كذلك لاتّبعوه حقّاً، في حين هم ليسوا كذلك. فالصحيح هو أن نقول: فإنّ الذين يدّعون أنّهم اتباع.. المعرِّب.

١٤٥

ويظهر الفساد في العالم بسبب الإنسان نفسه. قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ.. )

(الروم: 41).

ويتقرّر التكليف في الإسلام وفقاً لاستعداد الإنسان نفسه، وتعود نتيجة عمله الصالح أو القبيح إليه نفسه. قال تعالى:

( لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.. ) ، (البقرة: 286).

وللمسؤولية بعد جماعي أيضاً. قال تعالى:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى.. ) ، (المائدة: 2).

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كُلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته».

تغيير سلوك الإنسان

يرى الإسلام بأنّ سلوك الإنسان خاضع للتغيير، فحياة الفرد أو حياة الجماعة لم تُشَيّد من قبل، حيث إنّ الإنسان، مع خضوعه للعوامل الجغرافية والبيولوجية والاجتماعية، هو سيّد مصيره، وفي مقدوره تغيير سلوكه متى شاء، بالصمود أمام العوامل المؤثّرة على السلوك، ولابدّ لنا أن نتحدث حول بعض النقاط من أجل توضيح هذا الموضوع.

يعتقد بعض علماء النفس، وعلماء الاجتماع، بأنّ سلوك الفرد والجماعة هو من نتاج البيئة أو الوسط الاجتماعي، فهم لا يقولون بأنّ للبيئة الطبيعية والاجتماعية تأثيراً على سلوك الإنسان فحسب، بل ويرون بأنّ البيئة نفسها هي التي تحدّد شكل سلوكه، مصادرين كلّ دورٍ له.

بكلمة بديلة: إنّهم يرون بإنّ شخصية الإنسان أو قدرته الفكرية والأخلاقية غير مؤثّرة في تغيير سلوكه، فالشخص الذي يعيش في وسط عائلي أو اجتماعي خاص، يعمل بشكل خاص، شئنا أم أبينا،

١٤٦

ولا سبيل له إلاّ تطبيق ماتملي عليه بيئته.

إنّ أنصار مدرسة السلوك - سواء أنصار عالم الفسلجة الروسي (بافلوف)، أو أنصار (واتسون) أو (اسكير) يعتقدون عادة بأنّ البيئة هي التي تحدّد سلوك الفرد أو الجماعة، ولا تأثير لعملية الدراسة في تغيير سلوك الإنسان، إذ هو مرغم على ما يفعله. ومن منظار هؤلاء، فإنّ الحديث حول حريّة الإرادة، وتوجيه الإنسان لأعماله وممارساته، حديث ليس له أيّ معنى.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ الإنسان يستطيع الصمود أمام البيئة، فهو قادر على أن يربّي نفسه، أو يُحبط ما تقرّرُه بيئته من خلال الأعمال التربوية، ومن هذا المنطلق، يكون مسؤولاً عن أعماله.

إنّ الإسلام - كما نعلم - يرى بأنّ الأفراد والجماعات مسؤولون عن أعمالهم. ومن وحي هذا المبدأ، يعتقد بأنّ التغييرات الاجتماعية ناتجة عن تغيير الأفراد. لاحظوا الآيات التالية:

( ذلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى‏ قَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. ) ، (الأنفال: 53).

( ..إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. ) ، (الرعد: 11).

( تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ.. ) ، (البقرة: 134).

احترام الإنسان

إنّ من سمات الإسلام البارزة تقويضه المقاييس السابقة في العلاقات الإنسانية، فقد كانت مقاييس التفاضل في الماضي هي: المنصب، والثروة، والموقع الاجتماعي، والجنس واللون، والموقع العائلي، والمَحْتِد، وأمثالها. وممّا يؤسف له أنّنا في القرن العشرين نرى أنّ بعض هذه المقاييس لا يزال سائداً في أجزاء العلاقات الإنسانية أيضاً.

ونلحظ في الساحة الدولية هذا اليوم أنّ أصحاب الشركات متعدّدة الجنسيات،

١٤٧

والعصابات المتكالبة على نهب مصادر الشعوب الاقتصادية والطبيعية وثرواتها، والمتهافتة على تكريس المصادر المالية في العالم لصالحها عن هذا الطريق، هؤلاء جميعاً هم الذين يوجّهون السياسة العالمية وينظّرون لها، وما الحكومات، وعلماء الدين الدنيويّون إلاّ أدوات طيّعة بأيديهم.

ونرى في الأقطار التي تقوّضت فيها سيادة المال، أنّ الذين يشغلون المناصب الرسمية التي حصلوا عليها بواسطة التكتلات، وكمّ الأفواه، والاستعانة بالعسكر، يحظون باحترام خاص، وأنّ كلمة: القوّة العظمى، ودور القوى العظمى في السياسة الدوليّة تكشف لنا هذه الحقيقة، التي تفصح عن سيطرة مثل هذه المفردات على العلاقات الدولية. ونلحظ كذلك أنّ الحديث يدور في الأوساط الدولية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بيد أنّ التمييز العنصري، والحرمان الذي تعيشه النساء، والمستضعفون في العالم، ماثلان للعيان في كلِّ مكان. وتظن بعض الشعوب أنّها أفضل من شعوب أُخرى نتيجة الإيحاءات السّيئة.

أمّا في الإسلام، فقد فقدت جميع هذه المقاييس أهميّتها واعتبارها، فلا المال مجلبة للاحترام، ولا المنصب، ولا تأثير للمنسوبية، والموقع الاجتماعي، والعنصرية، والقومية على منزلة الإنسان سلباً أو إيجاباً. فمقياس التفاضل في الإسلام منذ البداية هو الفضيلة والتقوى. وتصرّح الآية الكريمة التالية بذلك فتقول:

( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) ، (الحجرات: 13).

وقد تمّ التأكيد مراراً على هذا المبدأ - القاضي بأن يكون احترام الناس على أساس التقوى والفضيلة - في كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما احترامهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وأبي ذر، وكذلك احترامه للنساء الاّ معالم لهذا المبدأ.

١٤٨

الإيمان بكفاءة الناس

يدعم الإسلام مسألة كفاءة الناس في تسيير شؤونهم. وفي عصرنا الحاضر، وبالرغم من أنّ معظم الكتّاب والحكّام يتحدثون حول الشعب وكفاءته، بيد أنّهم يحدّون من تدخّله في الأُمور عمليّاً. وفي البلدان التي تنتهج إيديولوجية خاصّة، يحدّد أعضاء الحزب والكادر القيادي خطّة العمل التي تسير عليها البلاد غالباً، فيصبح تدخّل الشعب في الشؤون السياسية محدوداً. وفي الدول التي تدّعي الديمقراطية، أو حكم الشعب للشعب، يخضع الشعب للدعايات التي يبثّها الجهاز الحاكم، وما القرارات التي تتّخذها مجالس النوّاب في القضايا المتنوّعة إلاّ دليل ساطع على ما نقول، فالتصويت على الحرب الفيتنامية من قِبَل الكونغرس الأميركي، والتصويت على قرارات حكومة العمّال أو المحافظين في إنجلترا في المجالات المتنوّعة، وما يجري في فرنسا أو إيطاليا أو السويد، كلّه يمثّل كيفيّة تأثير الحكومات على الرأي العام لشعوبها بصورة غير مباشرة، ومن ثمّ تنفيذ ما تريده باسم الشعب.

طبيعياً، في حالات تُطرح فيها المصالح الملموسة للشعب، يُحتمل أن تتّخذ البرلمانات قرارات لصالح الشعب. لكنْ يرى الإسلام أنَّ الناس يمتلكون الكفاءة والجدارة في تسيير شؤون بلادهم، وفقاً لصريح الآيتين التاليتين:

( ..وَأَمْرُهُمْ شُورَى‏ بَيْنَهُمْ.. ) ، (الشورى: 38).

( ..وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.. ) ، (آل عمران: 159).

وفي عهد الإمام عليعليه‌السلام إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) نقطة ينبّه عليها وهي: أنّه يمكن معرفة المحسنين ممّا يجري على ألسنة الناس بشأنهم. وفي هذه الفقرة من العهد، يطلب الإمام من مالك أن يشاور الناس في تسيير أمور البلاد.

١٤٩

الأُخوّة والتعاون كهدفين تربويين

ينظر الإسلام إلى الوحدة، والتفاهم، والمساواة، والتعاون بين الناس على أنّها أُمور أساسية. إنّ الإنسان كائن اجتماعي، وهذه الكينونة الاجتماعية تثير مسائل، لا مندوحة أمام الأفكار والنظم التربوية، من ترك الاهتمام بها للحياة الجماعية حالة خاصّة بها.

بكلمة بديلة: إنّ الحياة الجماعية منفصلة عن الحياة الفردية، فأعضاء المجتمع خاضعون للحسّ الشخصي، وفي الآن ذاته، خاضعون للحسّ الجماعي. والحياة الفردية تختلف عن الحياة الجماعية من حيث الظروف، والامكانيات، والأهداف. وهناك بعض الأشخاص يهتمّون بحياتهم الخصوصية والشخصية، ولا يهتمّون بعلاقاتهم مع الآخرين، ولا بالحياة الجماعية ومشاكلها ومتمخضاتها، فهم يرون أنّه لو عولجت المشاكل الشخصية، فإنّ الأرضية الاجتماعية سوف تكون مساعدة بذاتها. وتتركز جهود هؤلاء على تأمين الرفاه والمصالح الفردية. ولو كان جميع أعضاء المجتمع يحملون هذا اللون من التفكير، لأُهملت الحياة الجماعية ومشاكلها، ولظّلت المشاكل المنبثقة عن الحياة الجماعية مستعصية في مثل هذا المجتمع، بل وتتضاعف يوماً بعد يوم.

بإيجاز: فإنّ الذين يعيشون معاً، يواجهون مسائل وقضايا مصدرها الحياة الجماعية، مضافاً إلى المسائل الشخصية التي يعيشونها. وبما أنّ أحداً لا يأتي من وراء الحجب لعلاج المشاكل الاجتماعية، لذلك تقع المسؤولية على أفراد المجتمع ليبذلوا جهودهم من أجل علاجها.

وينبغي أن يسود التفاهم والانسجام بين الأفراد والجماعات ليتسنّى لهم علاج مشاكلهم. فالحاجات المشتركة والمسائل المتماثلة يجب أن توجِد - لا محالة - وحدةً بين أفراد المجتمع. وعندما يعيش المجتمع حياة سليمة، فإنّ التعاون يشكّل الأُسلوب الأساس للحياة فيه، مضافاً إلى وجود التفاهم والوحدة بين أفراده.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ وحدة الهدف، وتقسيم العمل، وتحمّل المشؤولية من قبل جميع الأفراد، وتنسيق

١٥٠

النشاطات، والاستمتاع المشترك بنتائج الأعمال الجماعية، كل ذلك يجري على أفضل صورة في عملية التعاون.

من هذا المنطلق يؤكّد الإسلام على أهميّة مبدأ الأُخوّة، ومبدأ التعاون، وقد أوصت الآيتان التاليتان برعاية هذين المبدأين:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. ) ، (الحجرات: 10).

( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏.. ) ، (المائدة: 2).

وكما نعلم، فإنّ الناس - في الإسلام - جميعهم أُمّة واحدة(*) .

بكلمة بديلة: إنّ انتماء الأشخاص غير محدود بوحدة العامل الجغرافي، ووحدة اللغة، والعنصر، والقومية. فالهدف هو تأمين مصالح الجميع، وكذلك فإنّ الثقافة المشتركة، والمثل المشتركة ترسّخ دعائم الحياة الجماعية.

الصداقة مع الشعوب الأُخرى إحدى الأهداف التربوية الأساسية أيضاً

كانت المجتمعات البشرية في الماضي تعيش منفصلة عن بعضها البعض، بسبب تأثير الاتّجاهات القومية، والشوفينيّة، والعقائد الدينية. وفي حالات متنوّعة، كانت هذه العوامل بمعيّة المصالح الاقتصادية تشعل فتيل الاختلاف والتناحر بين الشعوب، فتؤدّي إلى نشوب الحرب فيما بينها. ولا زلنا نشهد في عصرنا الحاضر أيضاً تأثير الاتّجاهات الوطنية والمصالح القومية على بعض الشعوب، ومن بينها شعوب الكتلة الاشتراكية، من نحو: ألبانيا، ويوغسلافيا، والصين، والاتّحاد السوفيتي (المنحل)، فتنجم عن اندلاع نار الصراعات والتناقضات فيما بينها.

ومنذ زمن سحيق، وقادة البلدان المختلفة يضربون على وتر التعايش السلمي، ويدافع ميثاق الأُمم المتّحدة عن هذا المبدأ أيضاً، بيد أنّ الواقع العملي يشهد بأنّ

____________________

(*) في الإسلام، المسلمون أُمّة واحدة وليس الناس جميعهم، هذا مع أنّ القرآن صرّح بأنّ الناس كانوا أُمّة واحدة، لكن هذا له معنى آخر غير المعنى الذي يقصده المؤلّف هنا.

١٥١

الدول الرأسمالية والشيوعية جميعها لا تعمل به في كافّة المواضع والحالات.

أمّا الإسلام، فهو لا يوصي بمبدأ التعايش السلمي فحسب، بل تخطّاه إلى أبعد من ذلك، فحثّ أتباعه على إقامة وشائج الصداقة والمحبّة مع الشعوب غير المسلمة كافّة(*) . قال تعالى:

( لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) ، (الممتحنة: 8).

وفي عهد مالك الأشتر، عندما يوصي الإمام عليعليه‌السلام مالكاً بمحبّة الناس والرأفة بهم، لم يفرِّق الإمامعليه‌السلام بين المسلم الذي عبّر عنه بالأخ في الدين، وغير المسلم الذي عبّر عنه بالنظير في الخَلْق.

تربية قوّة التفكّر هدف تربوي أساس

ذكرنا فيما سبق أنّ تربية قوّة التفكّر، والقدرة العقلية، من الأهداف الأساسية للنظام التربوي. يرغّب الله - تعالى - الناس أن يتفكّروا في خلق الكون، فيقول:

( ...وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّموَات وَالْأَرْضِ... ) ، (آل عمران: 191).

ولا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبادة تبلغ من الأهميّة كما يبلغه التفكّر، فيقول: «لا عبادة كالتفكّر». ويرى أنّ تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة: «تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». ومرّبنا أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام يرى أنّ التفكّر أفضل من العلم، وأكثر منه قيمة، فيقول: «لا علم كالتفكّر».

____________________

(*) طبعاً بشرط أن لا تعتدي على المسلمين، ولا تحاربهم، ولا تخرجهم من ديارهم.. المعرِّب.

١٥٢

تربية الروح الاجتماعية هدف تربوي أساس

تحدّثنا حول تربية الروح الاجتماعية في القسم الخاص بالبعد الاجتماعي من شخصية الإنسان. ويدلُّ تعبير الأُمّة، وتعبير الأخ، الواردان في القرآن بشأن المسلمين، على أهميّة التضامن والترابط بين أفراد المجتمع. ويذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الالتزام الاجتماعي بصراحة في الحديث المعروف الذي مرّبنا ذكره:

«من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم».

تربية الشخصية الأخلاقية هدف أساس آخر للتربية

إنّ النظام الإسلامي - من جهة - نظام أخلاقي. ولو نظرنا إلى الأخلاق - سواء من الناحية الفردية أو الجماعية - على أنّها هي المبادئ، والمعايير، والأهداف، والحركة تلقاء الكمال المطلق، ففي هذه الحالة، تعتبر الرسالة الإسلامية رسالة أخلاقية، يقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق».

وتعتبر العبادات عاملاً مؤثّراً في تهذيب الأخلاق:

( ...إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ... ) ، (العنكبوت: 45).

ذكرنا فيما سبق أنّ التقوى هدف تربوي أساس في الرسالة الإسلامية، وثمّة أهداف أُخرى أيضاً، يمكن استنباطها من القرآن الكريم والمصادر الإسلامية الموثوقة، بيد أنّا نكتفي بذكر ما ارتأيناه من أهداف مذكورة.

إنّ الأهداف التربوية في كلِّ مرحلة من مراحل النموّ، يجب أن تمثّل الحاجات الفردية والاجتماعية للأفراد، وكذلك الأهداف التربوية للمواد الدراسية، عندما تكون ذا بُعد تربويّ حقيقي، فإذا كانت كذلك، فإنّها تحظى بتأييد الإسلام، لذلك فإنّ كلَّ ما يحدث في مرحلة الحضانة، والطفولة، والبلوغ، والكبر، فإنّه ينال نصيبه من الاهتمام والعناية في النظام التربوي للإسلام.

١٥٣

إنّ تعزيز الروح العلمية، والتعرّف على المفاهيم والفرضيات والمبادئ والقوانين في الفروع العلمية، والتعرّف على المجتمع وحضارته وتراثه الثقافي، وتوسيع العلوم والتكنولوجيا، وإيجاد المودّة والمحبّة على صعيد أفراد الأُمّة الإسلامية، وعلى الصعيد العالمي، كلّها من الأهداف الأساسية للرسالة الإسلامية.

الأساليب التربوية في الإسلام

إنّ إحدى خصائص النظام التربوي في الإسلام: تنوّع أساليبه التربوية، حيث تستعمل أساليب متنوّعة في الإسلام لتربية أفراد المجتمع.

ومن بين أساليب التربية الإسلامية، نتحدّث حول الأساليب التالية:

1 - دمج العلم في العمل.

2 - الجمع بين الإيمان والعمل.

3 - التربية العلمية.

4 - المنهج العقلي في التربية الإسلامية.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6 - الجهاد أُسلوب تربوي حاسم.

7 - المكافأة والعقوبة.

8 - التوبة أُسلوب تربوي.

9 - أُسلوب النصح والوعظ.

10 - التربية عن طريق ذكرالأمثال.

11 - التربية عن طريق قصص الأُمم والشعوب.

12 - الدعاء والابتهال.

دمج العلم في العمل

لا ينفصل العلم عن العمل في الإسلام، لاحظوا الآية التالية:

( ..إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.. ) ، (فاطر: 28).

وجاء في (ص67) من الجزء الأوّل من كتاب الكافي، كلام للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير كلمة العلماء:

«يعني بالعلماء من صدّق فعلُه قولَه، ومن لم يصدّق فعلُه قولَه فليس بعالم».

١٥٤

العلم والعمل في التعليم

وفقاً للأبحاث التي قام بها بعض علماء النفس، فإنّ الطلاّب - في معظم الحالات - يتأثّرون بعمل المعلّم لا بكلامه.

بكلمة بديلة: لو تحدّث المعلّم عن الروح العلمية أو الحكم المنطقي، بيد أنّه - عمليّاً - لم يراعِ الروح العلمية عند إبداء وجهات نظره، فإنّ الطلاّب يتأثّرون بكيفية إبداء وجهات نظره أكثر من كلامه. ومن الناحية التربوية، فإنّ عمل المعلّم أكثر تأثيراً من كلامه في عملية التعليم.

وفي علم النفس، ينظرون إلى التعلّم على أنّه تغيير السلوك عن طريق التجربة.

فلو تعلّم أحد علماً، نتيجته فقط إيداع المواضيع العلمية في الذهن وحفظها، فهو لم يتعلّم ذلك العلم حقيقة. وعندما يقال بأنّ سلوك الإنسان يجب أن يتغيّر في التعليم، فالقصد من هذا التغيير هو تغيير طريقة تفكيره، وعاداته، ورغباته، ومهاراته، وفهمه للمسائل، كل ذلك مقرون مع تحصيل المعلومات.

إنّ دراسة مبحث علمي ما، تكون لها قيمتها عندما يُحدِث الفرد تغييرات أساسية في سلوكه على أثرها، فتعلّم الفيزياء غير محدود بحفظ الطالب عدداً من النظريّات التي تصعّد من مستواه العلمي، فهو يجب أن يقوم بتشخيص المسائل العلمية الأساسية ضمن تحليله للنظريات، ويتعلّم كيفية توضيح المسائل، وطريقة جمع الأدلّة عن طريق المشاهدة والتجربة، وكذلك عن طريق دراسة نظريات العلماء، واستعمال قدرته الفكرية، ويتعلّم كذلك كيفية تسجيل الفرضيات أو النظريات، وكيفية تدقيقها وتقويمها أو كيفية اختيار أفضلها، فلابدّ أن يكون الطالب فاعلاً نشيطاً في هذه العملية. ففي مثل هذه الحالة، لا يتعلّم الفرضيات العلمية فحسب، بل ويتعلّم كيفية استعمال المنهج العلمي، ويربّي في نفسه الروح العلمية أو التفكّر المنطقي خلال عملية التحقيق، ويتعلم العادات العلمية ومهارات الاستدلال الأساسية، فتصبح عنده رغبة في الفرع الذي هو موضع اهتمامه.

ويستعمل الطالب أيضاً المنهج العلمي تدريجاً عند مواجهته مسائل غير علمية، ويمتنع

١٥٥

عن إبداء وجهات نظر خاطئة حول المسائل المتنوّعة. لاحظوا كلام الإمام عليعليه‌السلام الوارد في نهج البلاغة حيث يقول:

«أوضع العلم ما وقف على اللّسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان».

علاقة العلم بالتفكّر والأخلاق

نقلنا - فيما سبق - كلاماً للإمام عليعليه‌السلام حول التفكّر وقيمته، وهو: «لا علم كالتفكّر». وأُثر عن الإمام علي والإمام الرضاعليهما‌السلام كلام رواه صاحب الكافي في الجزء الأول من كتابه، (ص67). وذِكرُ هذا الكلام مفيد في توضيح العلاقة القائمة بين العلم والتفكّر والأخلاق.

إنّ ما يُنتظر من عالم ما - عادةً - هو أن لا يدّخر علماً فحسب، بل ويتحلّى بالتفكّر المنطقي، والروح العلمية أيضاً، ويكون أُسوةً وقدوةً من الناحية الأخلاقية.

تحدّثنا - فيما مضى - عن تربية التفكّر في تعلّم العلم، والآن ينبغي أن ننبّه على نقاط جوهرية في المجال الأخلاقي أيضاً.

إنّ تربية الضمير الأخلاقي، والسير وفق معايير أساسية في العلاقات مع الآخرين، هما من الأهداف الأساسية للتربية والتعليم، وينتظر الناس من الدارسين أو العلماء - عادةً - أن يكونوا قدوة في المجال الأخلاقي أيضاً. ويُتوقّع من العلماء أن يقرنوا العلم بالفهم، وأن تكون لهم سيطرة متواصلة على عواطفهم. يقول الإمام عليعليه‌السلام :

«ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر»، (أصول الكافي 1/67).

وجاء عن الإمام الرضاعليه‌السلام بعد هذا الحديث قوله:

«إنّ من علامات الفقه الحلم والصمت».

ويقول الإمام عليعليه‌السلام :

«لا يكون السفه والغِرَّة في قلب العالم».

١٥٦

وجاء في (ص68) من الكافي الجزء الأول، كلام مأثور عن السيّد المسيحعليه‌السلام يقول فيه:

«إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم».

ويقول الإمام عليعليه‌السلام :

«يا طالب العلم، إنّ للعالم ثلاث علامات: العلم، والحلم، والصمت».

الجمع بين الإيمان والعمل

قال تعالى:( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، (البقرة: 82).

وقال جلّ من قائل:( لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى‏ حُبّهِ ذَوي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الّذِينَ صَدَقُوْا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ ) (البقرة: 177).

وجاء في سورة العصر:( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ ) .

وفي الآيات (130 إلى 136) من سورة آل عمران، يمنع الله المؤمنين من الربا، ويدعوهم إلى التقوى، ويذكّرهم بأن يحذروا من النار التي أُعدّت للكافرين، وأن يطيعوا الله ورسوله، ويسارعوا إلى مغفرة من الله، وجنّة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتّقين، ويصف هؤلاء المتّقين، فيقول:

( الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ

١٥٧

وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّوا عَلَى‏ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، (آل عمران: 134 - 135).

وتمّ تبيان أعمال المؤمنين أيضاً في الآيات التالية:

الجهاد في سبيل الله والكفاح ضدّ الطاغوت:

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ، (النساء: 76).

القيام بالقسط:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ... ) ، (النساء: 135).

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، (المائدة: 8).

حرمة أكل أَموال الناس ومنع الكنز وتكديس الثروة:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (التوبة: 34).

الجهاد في سبيل الحق واحتقار الدنيا في مقابل الآخرة:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَلِيلٌ ) ، (التوبة: 38).

١٥٨

تضامن المؤمنين ومودّة بعضهم البعض:

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... ) ، (التوبة: 71).

الإيمان بالله والرسول والجهاد في سبيل الله:

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ، (الحجرات: 15).

دمج الإيمان في العقل

ثمّة حدّ بين العقل والإيمان في الثقافة المسيحية عادةً، فمعظم المتكلّمين المسيحيّين، والعلماء في البلدان الغربية، يفصلون نطاق العقل عن نطاق الإيمان. وبعد ظهور التناقض بين بعض النظريات العلمية، والعقائد الواردة في التوراة والإنجيل، قام بعض المتكلّمين والفلاسفة المسيحيين بالتمييز بين الموضوعين في طُرق دراستهما، وذلك من أجل إزالة التناقض القائم بين العلم والدين المسيحي. فخوّلوا العقل والمنهج العقلي أمر العلم والفلسفة، وخوّلوا الإيمان والشعور والاستنباط الشخصي، أمر الدين والأخلاق، والمُثُل بعامّة.

ومحصّلة هذا الفرز هي المحافظة على العقائد العلمية والمنطقية، وفي نفس الوقت، دعم العقائد التي عليها مسحة دينية ظاهرية، وفي الآن ذاته، منسجمة مع الأُسس العلمية والمنطقيّة.

نحن نعلم أنّ أغلب المسيحيّين يعتقدون بالتثليث والوحدة. فمن جهة، يعتقدون بالأقانيم الثلاثة: الله، عيسى، روح القُدُس، ومن جهة أُخرى، يعتبرون هذه الأقانيم الثلاثة أُقنوماً واحداً.

وقد سُمعتْ هذه العبارة الواردة على لسان بعض القساوسة، في أكثر المرّات، وهي قوله: (أنا لا أُدرك مسألة التثليث والوحدة - البُعد العقلي - بيد أنّي أعتقد بهما - البُعد الإيماني -).

١٥٩

ويطرحون هذه القضية نفسها فيما يخصّ القيم الأخلاقية، فيفرضون مبدأ الحسن والقبح مبدأً إيمانياً أو مبدأً متوكّئاً على الشعور والاستنباط الشخصي، ويعتبرون القضايا العلمية أحكاماً حِسيَّة مادية ملموسة.

ويدور الحديث في الكتب الفلسفية وكتابات المتكلّمين المسيحيّين، حول ضربين من الحُكْم: الحكم المادّي أو التقويم العلمي، والحُكْم المثالي أو التقويم المثالي. فيمكن أن يكون أمر ما قبيحاً من الناحية العقلية، بيد أنّ الإنسان يستحسنه.

وبفصل الحُكْم المثالي عن الحُكْم العقلي أو العلمي، تزول المنازعات الكلامية بين العلماء وأرباب الكنيسة. والآن لابدّ أن نلاحظ، هل يمكن - حقيقةً - التفريق بين هذين الضربين من الحكم؟

كما قلنا - فيما مضى - فإنّ الإسلام لا يفصل بين هذين اللونين من الحُكْم أو التقويم، ففي مبادئه وأُسسه، يشكّل الاستدلال والتعقّل أساس اعتقادات الناس. وما يصطلح عليه النظرة الكونية الإسلامية أو النظام التوحيدي في الإسلام، فإنّه يقوم على أساس العقل، ولذلك لا وجود لأيِّ فرق بين الأحكام العلمية والأحكام الفلسفية، ورأينا في القوانين الإسلامية أنّ العقل هو أحد مصادر الاستنباط الرئيسة في الشريعة الإسلامية. وفيما يخصّ القيم الأخلاقية أيضاً - فكما مرّبنا في فصول ماضية - يدعم الإسلام حكم العقل في هذا المجال أيضاً.

ويمتزج العقل في العاطفة في الاعتقادات الدينية أيضاً، فيعتقد الإنسان بوجود الله عن الطريق العقلي، ويضمن هذا الاعتقاد حبّه لله، يقول الإمام عليعليه‌السلام حول الإيمان كما أُثر عنه في نهج البلاغة:

«الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر منها على أربع شُعَب: على الشوق والشفق والزهد والترقّب. فمن اشتاق إلى الجنّة، سلا عن الشهوات. ومن أشفق من النار، اجتنب المحرّمات. ومن زهد في الدنيا، استهان بالمصيبات. من ارتقب الموت، سارع في الخيرات.

واليقين منها على أربع شُعَب:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقال أصحاب الرأي وأ حمد : إنّه يلزمه درهمان ؛ لأنّ الفاء من حروف العطف ، كالواو(١) .

والتحقيق عندي أنّه إن أراد العطف لزمه اثنان ؛ لأنّ المعطوف يغاير المعطوف عليه ، وإن لم يرد العطف لم يلزمه الاثنان قطعاً ، حيث لم يقصد التعدّد ، ولا وجه للاختلاف ، وإن أطلق حُمل على ما يفسّره.

وينبغي أن يكون موضع الخلاف الإطلاقَ ؛ لأنّه يحتمل كلّ واحدٍ منهما ، لكنّ الحقيقة العطف أو لا؟ إن قلنا : العطف ، لزمه المتعدّد ، وإلّا فلا.

ونقل عن الشافعي أنّه يلزمه درهمان ؛ لأنّه إذا قال : له علَيَّ درهم ودرهم ، لزمه درهمان(٢) .

ولا يمتنع فيه مثل التقديرات المذكورة في الفاء.

ولو قال : له علَيَّ درهم فقفيز حنطة ، فما الذي يلزمه؟

قيل : درهم لا غير ؛ لاحتمال إرادة قفيز حنطة خير منه(٣) .

وقيل : الدرهم والقفيز(٤) .

ولو قال : بعتك بدرهم فدرهم ، يكون بائعاً بدرهمين ؛ لأنّه إنشاء.

مسألة ٩٢٩ : لو قال : له علَيَّ درهم بل درهم ، لم يلزمه إلّا درهم واحد ؛ لجواز أن يقصد الاستدراك لزيادة ، فتذكّر أنّه لا حاجة إليه ولا زيادة عليه ، فلم يستدرك فيعيد الأوّل.

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٨ ، المغني ٥ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

(٣ و ٤) الحاوي الكبير ٥ : ٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠.

٣٦١

ولو قال : له درهم ل ا بل درهم ، أو : لا درهم(١) ، فكذلك.

ولو قال : له علَيَّ درهم لا بل درهمان ، أو : قفيز حنطة لا بل قفيزان ، لم يلزمه إلّا درهمان ، وإلّا قفيزان ؛ لأنّ « بل » للاستدراك ؛ ولا يمكن أن يكون المقصود هاهنا نفي المذكور أوّلاً ؛ لاشتمال الدرهمين والقفيزين على الدرهم وعلى القفيز ، فلم يبق المقصود إلّا الاقتصار على الواحد وإثبات الزيادة عليه.

وقال زفر وداوُد : يلزمه ثلاثة أقفزة وثلاثة دراهم ؛ لأنّه أقرّ بقفيز ثمّ نفاه ثمّ أثبت قفيزين ، ومَنْ أقرّ بشي‌ء ثمّ نفاه لم يُقبل رجوعه ، فلزمه القفيز الذي نفاه والقفيزان اللّذان أقرّ بهما أيضاً ، كما لو قال : قفيز حنطة لا بل قفيزا شعير(٢) .

والحقّ أنّه يلزمه القفيزان ؛ لأنّ قوله : « لا بل قفيزان » ليس نفياً للقفيز ، بل نفياً للاقتصار على واحدٍ وإثبات الزيادة عليه ، وهذا بمنزلة ما إذا قال : له قفيز لا بل أكثر ، فإنّه يلزمه أكثر من قفيز ، ولا يطالب بأكثر من قفيزين ، ولا يجوز أن يكون نفياً ؛ لأنّ القفيزين اللّذين أقرّ بهما يشتملان على القفيز.

ويخالف هذا [ ما ] إذا قال : له علَيَّ قفيزا حنطة لا بل قفيزا شعير ؛ لأنّه نفى الإقرار الأوّل حيث لم يدخل في الإقرار الثاني ، وفي صورة النزاع دخل الأوّل في الثاني ، فافترقا.

وقد أورد بعض الشافعيّة إشكالاً ، وهو : ما إذا قال : أنتِ طالق طلقة‌

____________________

(١) كذا قوله : « أو : لا درهم ». والظاهر : « أو : لكن درهم ».

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٧٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٦ ، البيان ١٣ : ٤١٩ ، المغني ٥ : ٢٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥١.

٣٦٢

بل طلقتين ، فإنّه يقع الثلاث(١) .

تنبيه : هذا الخلاف إنّما هو مفروض فيما إذا أرسل الـمُقرّ به ولم يعيّنه ، أمّا لو قال : له عندي هذا القفيز بل هذا القفيز ، أو : بل هذان القفيزان ، أو :

هذا الدرهم بل هذان الدرهمان ، فإنّه يلزمه الثلاث قطعاً ؛ لأنّ القفيز المعيّن لا يدخل في القفيزين المعيّنين.

وكذا لو اختلف جنس الأوّل والثاني ، لزماه معاً مع الإرسال أيضاً ، كما لو قال : له علَيَّ درهم بل دينار ، أو : بل ديناران ، أو : قفيز حنطة بل قفيز شعير ، أو : قفيزا شعير ؛ لعدم دخول الأوّل في الثاني ، فهو راجع عن الأوّل مثبت للثاني ، والرجوع غير مقبولٍ ، فالذي أقرّ به ثانياً يلزمه.

ولو دخل الأوّل في الثاني ، لزمه الزائد ، فلو قال : له علَيَّ هذا القفيز بل هذا القفيز وهذا الآخَر ، فإنّه يلزمه القفيزان معاً ؛ لأنّه ضمّ الـمُقرّ به أوّلاً إلى الـمُقرّ به ثانياً وأقرّ بهما معاً ، فلزماه معاً ، ولا يلزمه هنا ثلاثة قطعاً.

فروع :

أ - لو قال : له درهمان بل درهم ، أو : له علَيَّ عشرة لا بل تسعة ، لزمه الدرهمان والعشرة لا الأقل ؛ لأنّ الرجوع عن الأكثر لا يُقبل إلّا في الاستثناء ، ويدخل الأقلّ فيه ، ويخالف ما إذا قال : له علَيَّ درهم لا بل درهمان ؛ لأنّه أضرب عن الاقتصار ، وأدخله في إقراره الثاني ، ويخالف ما إذا قال : درهم لا بل قفيز ، فإنّه يلزمه الجميع ؛ لأنّ أحدهما لا يدخل في الآخَر ، وهنا التسعة داخلة في العشرة ، ويخالف الاستثناء ؛ لأنّه ليس بإضرابٍ ، بل « عشرة إلّا درهماً » عبارة عن تسعة ، فافترقا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

٣٦٣

ب - لو قال : له علَيَّ درهم بل درهمان بل ثلاثة ، لزمه ثلاثة لا غير.

ولو قال : له دينار بل ديناران بل قفيز بل قفيزان ، لزمه ديناران وقفيزان.

ج - لو قال : له علَيَّ دينار وديناران بل قفيز وقفيزان ، لزمه ثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة. وعلى هذا القياس.

البحث السابع : في تغاير الزمان.

مسألة ٩٣٠ : إذا قال في يوم السبت : لزيدٍ علَيَّ ألف ، ثمّ أقرّ له يوم الأحد بألف ، لم يلزمه إلّا ألف واحد.

والأصل فيه أنّ تكرير الإقرار تكرير للإخبار ، ولا يلزم من تكرير الخبر تكرير الـمُخبَر عنه ، فقد يُخبر عن الشي‌ء الواحد أشخاص متعدّدة بإخبارات متعدّدة أو مُخبر واحد بإخبارات كثيرة ، ولهذا يحتمل فيه الإبهام ، ولو كان إنشاءً لما احتُمل ، فتعدّد الخبر لا يقتضي تعدّد الـمُخبَر عنه فيجمع ، إلّا إذا عرض ما يمنع الجمع والتنزيل على واحدٍ فحينئذٍ يُحكم بالمغايرة ، أمّا مع عدم المانع من الجمع فإنّه يجمع ، ويكون الخبران عبارتين عن مُخبرٍ واحد ؛ لأصالة البراءة. وأمّا لو اعترف بأنّ الإقرار الثاني عبارة عن شي‌ء مغاير لما أقرّ به أوّلاً ، فإنّه يُحكم بالتعدّد.

وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمّد وأحمد ؛ لأنّ الإقرار إخبار على ما بيّنّاه ، فإذا أقرّ ثمّ أقرّ بذلك ، احتُمل أن يكون الثاني هو الأوّل وأن يكون غيره ، فكان المرجع إليه ، ولا يلزمه بالشكّ(١) .

____________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٩ / ١٠٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١٤ / ١٢٠٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٩ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٩ ، بحر المذهب ٨ : ٢٨٢ ، الوجيز ١ : ١٩٩ - ٢٠٠ ، الوسيط ٣ : ٣٤٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، البيان ١٣ : ٤١٦ - ٤١٧ ، العزيز شرح الوجيز

٣٦٤

وقال أبو حنيفة : يلزمه درهمان(١) .

واختلف أصحابه ، منهم مَنْ قال : لا فرق بين المجلس الواحد والمجلسين. ومنهم مَنْ فرّق بين المجلسين والمجلس الواحد(٢) ، إلّا أنّهم لا يختلفون أنّه إذا قال : « درهم درهم » موصولاً أنّه يكون درهماً واحداً(٣) .

وكذلك إذا سمع شاهدان إقراره بألف ثمّ رفع إلى الحاكم فأقرّ بألفٍ ، فقال المدّعي : لي بيّنة بإقراره بألف وهي أُخرى ، وقال الـمُقرّ : هي واحدة ، لم تُسمع البيّنة.

وكذلك إذا أقرّ بما في كتابٍ عند جماعة فهو إقرار ؛ لأنّه إذا أقرّ ثمّ أقرّ ولم يعرّف الأوّل بالألف واللام فالظاهر أنّه إقرارٌ آخَر ، فلزمه ذلك.

وهذا يبطل بما إذا وصل كلامه ، وبما إذا أقرّ به عند الحاكم ، ولأنّ التعريف إنّما يكون عند مَنْ له عهد به وقد يقرّ عند مَنْ لم يسمع الأوّل ، وقد يترك التعريف ، ولا يمنع ذلك صحّة كلامه ، فلم يكن تركه التعريفَ يوجب عليه مالاً آخَر.

واعلم أنّه لا فرق عندنا بين أن يكون الإقراران في مجلسٍ واحد أو مجلسين فما زاد ، وسواء كتب به صكّاً وأشهد عليه شهوداً ، أو على‌

____________________

= ٥ : ٣٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩ - ١٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤١٣ / ١٩١٢ ، المغني ٥ : ٢٩٥.

(١) كان الأولى التمثيل بالألفين ، أو التمثيل بالدرهم في عنوان المسألة.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٣ / ١٩١٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٩ و ١٤٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٩ ، بحر المذهب ٨ : ٢٨٢ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، البيان ١٣ : ٤١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٥ ، المغني ٥ : ٢٩٥ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٠ / ١٠٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١٥ / ١٢٠٨.

(٣) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٥.

٣٦٥

التعاقب بأن كتب صكّاً بألف وأشهد عليه ثمّ كتب صكّاً آخَر بألف وأشهد عليه ، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كتب صكّين وأشهد عليهما ، أو فيما إذا أقرّ في مجلسين(١) .

ومن أصحابه مَنْ لا يفرّق بين المجلس والمجلسين(٢) .

مسألة ٩٣١ : لو أقرّ بإقرارين مختلفين بالعدد في مجلسٍ واحد أو في مجلسين ، دخل الأقلّ في الأكثر ، سواء تقدّم الأقلّ أو تأخّر ، فلو أقرّ في أحد اليومين بألف وفي الآخَر بخمسمائة ، لزمه الألف خاصّةً ، ودخل الإقرار بالخمسمائة تحت الإقرار بالألف عندنا وعند الشافعي(٣) .

ولو أقرّ مرّةً بالعربيّة وأُخرى بالعجميّة ، لم يلزمه إّلا واحد ، ولا اعتبار باختلاف اللغات والعبارات ، فقد يعبّر عن الشي‌ء الواحد ويخبر عن الـمُخبَر الواحد بإخبارات متعدّدة وألفاظ مختلفة ، والمخبر عنه واحد في نفسه غير متعدّدٍ.

مسألة ٩٣٢ : لو لم يمكن الجمع بين الإقرارين في عينٍ واحدة ومُخبَر عنه واحد ، تعدّد الحقّ وتغاير ، كما لو أضاف إلى شيئين مختلفين ، فقال يوم السبت : له علَيَّ ألف من ثمن عبدٍ ، ثمّ قال يوم الأحد : له علَيَّ ألف من ثمن جاريةٍ ، أو وصف كلّ واحدٍ من الـمُقرّ به بوصفٍ مخالفٍ مضادٍّ للوصف الآخَر ، كما إذا قال يوم السبت : له علَيَّ ألف من صحاح الدراهم ، وقال يوم الأحد : له علَيَّ ألف درهم من مكسّر الدراهم ، لزمه الألفان في الصورتين معاً ؛ لتغاير ثمن العبد وثمن الجارية ، وصحيح الدراهم ومكسّرها.

____________________

(١ و ٢) راجع الهامش (٢) من ص ٣٦٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠.

٣٦٦

وكذا يتعدّد لو قال : قبضتُ منه يوم السبت ألف درهم ، ثمّ قال : قبضتُ منه يوم الأحد ألف درهم ، لزمه الألفان ؛ لتغاير القبضين ، ويلزم منه تغاير المقبوضين ؛ إذ لا يمكن تعدّد القبض في الشي‌ء الواحد ، إلّا مع الدفع إلى الـمُقرّ له ، ولكن ذلك دعوى غير مسموعة إلّا بالبيّنة.

ولو قال : طلّقتُها يوم السبت طلقة ، ثمّ قال : طلّقتُها يوم الأحد طلقة ، حُكم عليه بوقوع طلقتين.

ولو قال يوم السبت : طلّقتُها طلقة ، وقال يوم الأحد : طلّقتُها طلقة ، لم يلزمه إلّا طلقة.

وكذا لو قال : يوم السبت طلّقتُها طلقة ، ثمّ قال : ويوم الأحد تطليقتين ، لم يلزمه إلّا طلقتان.

أمّا لو وصف الدراهم بصفةٍ في أحد الإقرارين وأطلق في الآخَر ، أو أضاف أحد الإقرارين إلى سببٍ وأطلق في الآخَر ، نُزّل المطلق على المضاف ، ولم يجب التعدّد ؛ لإمكان الجمع ، والأصل براءة الذمّة.

وكذا لو قامت البيّنة على إقرارين بتأريخين ، يُجمع بينهما ؛ لأنّ تكرير الإشهاد وتكرير الصكّ لا تأثير له ، لأنّ الحجّة على الإقرارين لا تفيد إلّا ثبوت الإقرارين ، وقد تقدّم(١) أنّ تعدّد الإقرار لا يوجب تعدّد الـمُقرّ به.

مسألة ٩٣٣ : لو شهد شاهد على أنّه أقرّ يوم السبت بألفٍ أو بغصب ثوب ، وشهد شاهدٌ آخَر على أنّه أقرّ يوم الأحد بألفٍ أو بغصب ذلك الثوب ، ثبت الألف والغصب بتلفيق الشهادتين ؛ لأنّ الإقرار لا يوجب حقّاً بنفسه ، وإنّما هو إخبار عن شي‌ء سابق ، فيُنظر إلى المـُخبَر عنه وإلى اتّفاقهما‌

____________________

(١) في ص ٣٦٣ ، المسألة ٩٣٠.

٣٦٧

على الإخبار عنه.

وكذا لو شهد أحدهما على إقراره بألفٍ بالعربيّة ، والآخَر على إقراره بالفارسيّة.

ولو شهد أحدهما على الإدانة والآخَر على الإقرار بها ، لم يثبت الدَّيْن ، سواء اتّفق الزمان أو اختلف. وكذا لو شهد أحدهما أنّه وكّل أو طلّق يوم السبت ، وشهد الآخَر أنّه وكّل أو طلّق يوم الأحد ، أو شهد أحدهما على أنّه وكّل أو طلّق يوم السبت ، والآخَر على أنّه أقرّ بالوكالة أو بالطلاق يوم السبت أو الأحد ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء ؛ لأنّهما لم يتّفقا على شي‌ء واحد ، وليس هو إخباراً حتى يُنظر إلى المقصود الـمُخبَر عنه.

واعلم : أنّ بعض الشافعيّة لم يفرّق بين الإقرارين والإنشاءين ، فكما لا يُقبل إذا شهد أحدهما على إنشاء الطلاق أو الوكالة يوم السبت وشهد الآخَر على إنشائهما يوم الأحد ، كذا لا يُقبل لو شهد أحدهما على أنّه أقرّ يوم السبت وشهد الآخَر على أنّه أقرّ يوم الأحد ؛ لأنّ الشاهدَيْن لم يشهدا على شي‌ء واحد ، بل شهد هذا على إقرارٍ ، وذلك على إقرارٍ آخَر ، والمقصود من اشتراط العدد في الشهادة زيادة التوثّق والاستظهار ، فإذا شهد كلّ واحدٍ على شي‌ء لم يحصل هذا المقصود ، فاتّجه(١) أن لا يُحكم بقولهما(٢) .

وبعض الشافعيّة أجرى الإنشاءات مجرى الإقرارات ، فكما تُقبل شهادة أحدهما بالإقرار يوم السبت مع شهادة الآخَر بالإقرار يوم الأحد ، تُقبل لو شهد أحدهما بإنشاء الطلاق - مثلاً - يوم السبت ، والآخَر بإنشائه‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « فالمتّجه ».

(٢) انظر : الوسيط ٣ : ٣٤٤ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٦ ، وروضة الطالبين ٤ : ٤١.

٣٦٨

يوم الأحد (١) .

وكلا هما غلط.

أمّا الأوّل : فلأنّ أحد الشاهدَيْن إذا شهد بالإقرار يوم السبت فقد شهد بثبوت حقٍّ في ذمّته ، وإذا شهد الآخَر بالإقرار يوم الأحد فقد شهد بثبوت حقٍّ في ذمّته ، فحصل الاتّفاق بينهما على شي‌ء واحد ، والاجتماع لا يفيد زيادةً في هذا المشترك ، وصار كما لو أطلقا الشهادة بالإقرار من غير تعيين الزمان ، ولا يتأتّى هذا في الإنشاء ؛ لأنّ مَنْ طلّق اليوم ثمّ طلّق غداً والمرأة رجعيّة فزعم أنّه أراد طلقة واحدة ، لم يُقبل منه ، خصوصاً عند مَنْ لا يشترط الرجعة ، كالعامّة بأسرهم ، فكيف يُجمع بين شهادة شاهدٍ على طلاق اليوم وشهادة آخَر على طلاق غدٍ!؟ وكذا باقي الإنشاءات والأفعال ، كالقتل والغصب وغيرهما.

على أنّه لا تخلو هذه الشهادة في كثير من المواضع من التضادّ والتنافي ؛ فإنّ شهادة قتل يوم السبت تنافي شهادة قتل يوم الأحد ، بخلاف الإقرارين.

وأمّا الثاني : فلما مرّ من التغاير بين الإنشاءين.

ولو شهد أحدهما على أنّه قذفه يوم السبت ، أو بالعربيّة ، والآخَر أنّه قذفه يوم الأحد ، أو بالفارسيّة ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء.

ولو شهد أحدهما على إقراره بأنّه قذفه يوم السبت ، أو بالعربيّة قذفه ، والثاني على إقراره بأنّه قذفه يوم الأحد ، أو بالعجميّة قذفه ، فلا يلفّق بين الشهادتين أيضاً ؛ لأنّ الـمُقرّ به شيئان مختلفان.

مسألة ٩٣٤ : لو شهد أحدهما عليه بألفٍ من ثمن مبيع ، وشهد الآخَر بألفٍ من قرضٍ ، أو شهد أحدهما بألفٍ استقرضه يوم السبت ، والآخَر‌

____________________

(١) انظر : الوسيط ٣ : ٣٤٤ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٦ ، وروضة الطالبين ٤ : ٤١.

٣٦٩

بألفٍ استقرضه يوم ا لأحد ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء ، إلّا أنّ للمدّعي أن يعيّن أحدهما ، ويستأنف الدعوى عليه ، ويحلف مع الذي شهد به ، وله أن يدّعيهما ويحلف مع كلّ واحدٍ من الشاهدَيْن.

وإن كانت الشهادتان على الإقرار بأن شهد أحدهما على أنّه أقرّ بألفٍ من ثمن مبيعٍ ، وشهد الثاني على إقراره بألفٍ من قرضٍ ، فالأقرب : إنّه لا تثبت الألف بهذه الشهادة ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(١) .

وبنوا الوجهين هنا على الوجهين فيما إذا ادّعى عليه ألفاً من ثمن مبيعٍ ، فقال المدّعى عليه : لك علَيَّ ألف ولكن عن قرضٍ ، فهل يحلّ للمدّعي أخذ الألف ؛ لاتّفاقهما عليه ، أو يحرم ؛ لاختلافهما في الجهة؟ إن قلنا(٢) : اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، لم تثبت الألف ، وإلّا ثبتت(٣) .

ولو ادّعى ألفاً فشهد أحد الشاهدَيْن على أنّه ضمن ألفاً ، والثاني على أنّه ضمن خمسمائة ، ففي ثبوت خمسمائة إشكال. وللشافعي قولان(٤) .

وهو أحد أقسام الإنشاءات ، وقد سلف(٥) البحث فيها.

ولو شهد أحد شاهدي المدّعى عليه أنّ المدّعي استوفى الدَّيْن ، والثاني على أنّه أبرأه ، فلا تلفيق على الأقوى ، وله أن يحلف مع أيّهما شاء.

ولو شهد الثاني على أنّه برئ إليه منه ، احتُمل التلفيق ؛ لأنّ إضافة البراءة إلى المديون عبارة عن إيفائه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٢) في الطبعة الحجريّة زيادة : « إنّ ».

(٣) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « سبق » بدل « سلف ».

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٠

مسألة ٩٣٥ : لو ادّعى على رجلٍ ألفين ، وشهد له شاهد بألفين ، وشهد له آخَر بألف ، ثبتت الألف بشهادتهما ؛ لاتّفاقهما عليها ، وله أن يحلف مع الذي شهد بألفين ، ويأخذهما معاً.

وكذا لو كانت الشهادتان على الإقرار.

هذا إذا لم يختلفا في الشهادة ، أمّا لو اختلفا بأن أضاف كلٌّ منهما ما شهد به إلى سببٍ غير الآخَر ، مثل : أن يقول أحدهما : من ثمن عبدٍ ، ويقول الآخَر : من ثمن جاريةٍ ، فإنّه لا تلفيق ولا اتّفاق ، ولا تقوم البيّنة بأحدهما ؛ لأنّهما مختلفان ، ويحلف مع كلّ واحدٍ منهما ، ويستحقّ ما شهد به.

وكذا لو اختلفا في صفتها ، فقال أحدهما : من ضَرْب كذا ، والآخَر : من ضرب آخَر ، أو قال أحدهما : حالّة ، وقال الآخَر : مؤجّلة ، أو شهد أحدهما أنّه أقرّ عنده أنّها لزمته في شعبان ، وشهد الآخَر أنّه أقرّ أنّها لزمته في شهر رمضان.

وأمّا إذا أضاف الشاهدان الشهادة إلى سببٍ واحد ، فقال كلّ واحدٍ منهما : من ثمن عبدٍ ، أو أطلقا ولم يضيفا إلى سببٍ ، أو أطلق أحدهما وأضاف الآخَر ، فإنّ في هذه المسائل الثلاثة تقوم البيّنة بألفٍ واحدة ، ويحلف للأُخرى ، وبه قال الشافعي ومالك(١) .

وقال أصحاب الرأي : لا يثبت شي‌ء من ذلك ؛ لأنّ الشهادتين اختلفتا‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٣٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧١

لفظاً ومعنىً ، كما ل و أضافا ذلك إلى سببين مختلفين(١) .

وهو غلط ؛ لأنّهما مالان من نوعٍ واحد غير مضافين إلى سببين مختلفين ، فإذا شهد بهما اثنان ثبت الأقلّ منهما ، كما لو شهد أحدهما بألفٍ والآخَر بألفٍ وخمسمائة ، فإنّ أبا حنيفة سلّم أنّه إذا شهد أحدهما بألفٍ والآخَر بألفٍ وخمسمائة تثبت الألف(٢) .

ولو شهد أحدهما بعشرين والآخَر بثلاثين ، ثبتت العشرون بشهادتهما ، كالألف والألفين على إشكالٍ.

ويحتمل عدم الثبوت ؛ لأنّ لفظ « الثلاثين » لا يشتمل على لفظ « العشرين » ولفظ « الألفين » يشتمل على لفظ(٣) الألف ، فربما سمع أحد الشاهدين الألف وغفل عن آخره.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

مسألة ٩٣٦ : لو ادّعى ألفاً ، فشهد له شاهد بألفٍ وآخَر بألفين ، فالثاني قد شهد بالزيادة قبل أن يستشهد ، فيكون متبرّعاً تبطل شهادته بالزيادة خاصّةً.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٧٧ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، المغني ١٢ : ١٥٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٢ : ٣٧٦ ، الفقه النافع ٣ : ١١٧٠ / ٩٣١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٢٦.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٢٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٢ : ٣٧٦ ، الفقه النافع ٣ : ١١٧٠ / ٩٣١ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧.

(٣) كلمة « لفظ » لم ترد في الطبعة الحجريّة.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ - ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٢

ويحتمل بطلانها في ا لجميع ؛ لأنّه متبرّع بهذه الشهادة ، وهي شهادة واحدة وقد رُدّت ، بخلاف ما لو قال : أشهد له بألفٍ وألفٍ أُخرى ، فإنّه تُردّ شهادته بالألف الأُخرى خاصّةً.

وعلى التقديرين لا يصير مجروحاً بهذه الزيادة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : إنّه يصير مجروحاً. وإذا لم يصر مجروحاً عندهم ، فالشهادة بالزيادة مردودة.

وفي المدّعى قولان :

أحدهما : إنّها تُردّ ؛ لأنّ الشهادة لا تتبعّض ، فإذا رُدّت في البعض رُدّت مطلقاً.

وقال بعضهم : لا تُردّ ، وتثبت الألف خاصّةً ، والتبعيض مخصوص بما إذا اشتملت الشهادة على ما يقتضي الردّ ، كما إذا شهد لنفسه ولغيره ، وأمّا إذا زاد على المدّعى ، فقوله في الزيادة ليس بشهادة ، بل هو كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم. وعلى تقدير قولهم بالجرح فإنّ المدّعي يحلف مع شاهد الألف ويأخذها(١) .

وقال الجويني : إنّه على هذا الوجه إنّما يصير مجروحاً في الزيادة ، فأمّا الألف المدّعاة فلا جرح في الشهادة عليه ، لكن إذا رُدّت الشهادة في الزائد كانت الشهادة في المدّعى على قولَي التبعيض ، فإن لم نبعّضها فلو أعاد الشهادة بالألف ، قُبلت ؛ لموافقتها الدعوى [ وهل ](٢) يحتاج إلى إعادة‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فهل ». والظاهر ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

٣٧٣

الدعوى؟ قال : فيه و جهان ، أظهرهما : المنع(١) .

البحث الثامن : في لواحق هذا الفصل.

مسألة ٩٣٧ : الـمُقرّ به المجهول قد يمكن استعلامه من غير رجوعٍ إلى تفسير الـمُقرّ بأن يحيله على معرّفٍ. وفيه قسمان :

أحدهما : لو قال : له علَيَّ من الدراهم بقدر وزن هذه الصنجة ، أو بالعدد المكتوب في كتاب كذا ، أو بقدر ما باع به فلان عبده ، أو بقدر ما في يدي من الدراهم ، وما أشبه ذلك ، رجع إلى ما أحال عليه.

والثاني : أن يذكر ما يمكن استخراجه بالحساب ، وهو قسمان :

أ - ما اشتمل على العطف ، مثل أن يقول : لزيدٍ علَيَّ مائة درهم ونصف ما لعمرو علَيَّ ، ولعمرو علَيَّ مائة ونصف ما لزيدٍ ، فطريق معرفته بالجبر والمقابلة أن تفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فتقول : لزيدٍ شي‌ء ولعمرو مائة ونصف شي‌ء ؛ لأنّه نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ حينئذٍ مائة وخمسون وربع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط من الشي‌ء ربع شي‌ء مقابلة الربع ، تبقى مائة وخمسون تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالربع خمسون ، والشي‌ء مائتان ، فلزيدٍ عليه مائتان ، وكذا لعمرو عليه مائتان.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ مائة وثلث ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ مائة وثلث ما لزيدٍ ، فلكلٍّ منهما عليه مائة وخمسون ؛ لأنّ لزيدٍ شيئاً ، ولعمرو مائة وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ مائة وثلث مائةٍ وتُسْع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط تُسْع شي‌ء بمثله ، تبقى مائة وثلث مائة تعدل ثمانية أتساع شي‌ء ، فالشي‌ء مائة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٤

وخمسون.

ولو قال : لز يدٍ علَيَّ مالٌ ونصف ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ مالٌ ونصف ما لزيدٍ ، فلكلٍّ من زيدٍ وعمروٍ عليه أربعة ؛ لأنّ لزيدٍ شيئاً ، ولعمرو مالٌ ونصف شي‌ء ، فلزيدٍ مالٌ ونصف مالٍ وربع شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط ربع شي‌ء بربع شي‌ء ، يبقى مالٌ ونصف مالٍ يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء مالان ، ولكلّ مالٍ نصفٌ.

مسألة ٩٣٨ : لو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ عشرة وثلث ما لزيدٍ ، نفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فلعمرو عشرة وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ خمسة عشر وسدس شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط السدس بمثله ، تبقى خمسة عشر تعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء ثمانية عشر هي ما لزيدٍ ولعمرو ستّة عشر.

ولو قال : لزيد ستّة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر ونصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ ستّة عشر ، ولعمرو عشرون ؛ لأنّا نفرض ما لزيد شيئاً ، فلعمرو اثنا عشر ونصف شي‌ء ، ولزيدٍ اثنا عشر وربع شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط ربع شي‌ء بمثله ، يبقى اثنا عشر يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء ستّة عشر ، ولعمرو اثنا عشر وثمانية هي نصف ما لزيدٍ ، فلعمرو عشرون.

ولو قال : لزيدٍ ستّة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر وثلث ما لزيدٍ ، فلزيدٍ أربعة عشر وخُمْسان ، ولعمرو ستّة عشر وأربعة أخماس ؛ لأنّا نفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فلعمرو اثنا عشر وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ اثنا عشر وسدس شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط سدس شي‌ء من الشي‌ء ، يبقى اثنا عشر يعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة عشر وخُمْسان ، ولعمرو اثنا عشر وثلث أربعة عشر وخُمْسان ، وهو أربعة وأربعة أخماس ، فيكمل لعمرو‌

٣٧٥

ستّة عشر وأربعة أخماس.

ب : ما اشتمل على الاستثناء.

مسألة ٩٣٩ : إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ستّة إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ ستّة إلّا نصف ما لزيدٍ ، نفرض ما لزيدٍ شيئا ، فلبكر ستّة إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ ستّة إلّا ثلاثة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ؛ لأنّك تسقط الربع في مقابلة الربع المستثنى ، فإذا جبرتَ وقابلْتَ ، صارت ستّةً تعدل ثلاثةً وثلاثة أرباع شي‌ء ، فإذا أسقطتَ ثلاثة بمثلها ، بقي ثلاثة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة ، فلكلٍّ منهما أربعة.

ولو قال : لزيدٍ عشرة إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ عشرة إلّا ثلث ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ولبكر عشرة إلّا ثلث شي‌ء ، فلزيدٍ عشرة إلّا خمسة تعدل خمسةَ أسداس شي‌ء ، فإذا جبرتَ وقابلْتَ ، صارت عشرةً تعدل خمسةً وخمسة أسداس شي‌ء ، فإذا أسقطتَ خمسةً بمثلها ، بقي خمسة تعدل خمسةَ أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء يعدل ستّةً ، فهي لزيدٍ ، ولبكرٍ ثمانية.

ولو قال : لزيدٍ عشرة إلّا ثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ خمسة عشر إلّا نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ، ولبكرٍ خمسة عشر إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ عشرة وسدس شي‌ء إلّا خمسة تعدل شيئاً ، يسقط السدس بمثله ، تبقى خمسة تعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء يعدل ستّةً لزيدٍ ، ولبكرٍ اثنا عشر.

واعلم : أنّ الأقسام الممكنة في العطف منفرداً أو الاستثناء منفرداً ثمانية.

أمّا في العطف فأربعة :

أ : أن يتّفق المال فيهما والعطف فيهما.

ب : أن يتّفق المال فيهما ويختلف العطف فيهما.

ج : أن يختلف المال فيهما ويتّفق العطف فيهما.

٣٧٦

د : أن يختلف المال فيهما والعطف فيهما.

وأمّا في الاستثناء فأربعة أيضاً :

أ : أن يتّفق المال فيهما والاستثناء فيهما.

ب : أن يتّفق المال فيهما ويختلف الاستثناء فيهما.

ج : أن يختلف المال فيهما ويتّفق الاستثناء.

د : أن يختلف المال فيهما والاستثناء فيهما.

واعلم : أنّه قد يكو ن في أحدهما الاستثناء وفي الآخَر العطف ، كما إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ألف ونصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ علَيَّ ألف إلّا نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ ألف ومائتان ، ولبكرٍ أربعمائة ؛ لأنّا نجعل ما لزيدٍ شيئاً فلبكرٍ ألف إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ ألف وخمسمائة إلّا ربع شي‌ء تعدل شيئاً كاملاً ، فألف وخمسمائة كملاً تعدل شيئاً وربع شي‌ء ، فالشي‌ء ألف ومائتان هي لزيدٍ ، ولبكرٍ ألف إلّا نصف ما لزيدٍ ، ونصفه ستّمائة تبقى له أربعمائة.

واعلم : أنّه إذا اجتمع العطف في أحدهما والاستثناء في الآخَر ، فقد يتّفق المال وقد يختلف ، ومع الاتّفاق قد يتّفق العطف والاستثناء وقد يختلف ، وكذا مع الاختلاف. وعلى كلّ تقدير فقد يقع الاستثناء في الأوّل والعطف في الثاني ، وبالعكس. فعليك باستخراج ذلك كلّه ، فإنّه سهل بعد ما أعطيناك من القانون.

واعلم : أنّه قد يزيد الإقرار على اثنين. وحكمه كما تقدّم.

فلو قال : لزيدٍ علَيَّ ستّون مثقالاً ونصف ما لعمروٍ - والتقدير على سبيل التسهيل أنّ المثقال يساوي ثلاثةً وعشرين درهماً ، كما في زماننا - ثمّ قال : ولعمرو عندي ستّون وثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ ستّون وربع ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ، ولبكرٍ ستّون وربع شي‌ء ، ولعمرو ثمانون مثقالاً وثلث ربع‌

٣٧٧

شي‌ء ، فلزيدٍ مائة وسدس ربع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط سدس ربع شي‌ء بسدس ربع شي‌ء ، تبقى مائة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء وخمسة أسداس ربع شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة وعشرون ، فمائة مثقال تعدل ثلاثة وعشرين جزءاً من أربعة وعشرين ، فإذا بسطْتَ مائة مثقال على ثلاثة وعشرين جزءاً ، كان نصيب الجزء أربعة مثاقيل وثمانية دراهم.

مسألة ٩٤٠ : إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ألف درهم إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ علَيَّ ألف إلّا ثلث ما لزيدٍ ، فلمعرفة ذلك طُرق :

أ : أن نجعل لزيدٍ شيئاً ونقول : لبكرٍ ألف إلّا ثلث شي‌ء ، فنأخذ نصفه - وهو خمسمائة إلّا سدس شي‌ء - ونسقطه من الألف ، تبقى خمسمائة وسدس شي‌ء ، وذلك يعدل شيئاً المفروض لزيدٍ ؛ لأنّه جعل له ألفاً إلّا نصف ما لبكرٍ ، فيسقط سدس شي‌ء بسدس شي‌ء ، تبقى خمسة أسداس شي‌ء في مقابلة خمسمائة ، فيكون الشي‌ء التامّ ستّمائة ، وهو ما لزيدٍ ، فإذا أخذتَ ثلثها مائتين وأسقطتَه من الألف ، تبقى ثمانمائة ، وهو ما أقرّ به لبكرٍ.

ب : أن نجعل لزيدٍ ثلاثة أشياء ؛ لاستثنائه الثلث منه ، ونسقط ثلثها من الألف المضاف إلى الاثنين ، فيكون لهما ألف ناقص شي‌ء ، ثمّ نأخذ نصفه وهو خمسمائة ناقصة بنصف شي‌ء ، وتزيد على ما فرضناه لزيدٍ وهو ثلاثة أشياء ، يكون خمسمائة وشيئين ونصف شي‌ء ، وذلك يعدل ألف درهم ، تسقط خمسمائة بخمسمائة ، تبقى خمسمائة في مقابلة شيئين ونصف شي‌ء ، فيكون الشي‌ء مائتين ، وقد كان لزيدٍ ثلاثة أشياء ، فهي إذَنْ ستّمائة.

ج : أن نقول : استثنى من أحد الإقرارين النصفَ ومن الآخَر الثلثَ ، فنضرب مخرج أحدهما في مخرج الآخَر يكون ستّةً ، ثمّ ننظر في الجزء‌

٣٧٨

المستثنى من الإقرارين ، وكلاهما واحد ، فنضرب واحداً في واحدٍ يكون واحداً ننقصه من الستّة تبقى خمسة ، فنحفظها ونسمّيها المقسوم عليه ، ثمّ نضرب ما يبقى من مخرج كلّ واحدٍ من الجزءين - بعد إسقاطه - في مخرج الثاني ، وذلك بأن نضرب ما يبقى من مخرج النصف بعد النصف - وهو واحد - في مخرج الثلث - وهو ثلاثة - تحصل ثلاثة نضربها في الألف المذكورة في الإقرار يكون ثلاثة آلاف نقسّمها على العدد المقسوم عليه - وهو خمسة - يخرج نصيب الواحد ستّمائة ، فهي ما لزيدٍ ، ونضرب ما يبقى من مخرج الثلث بعد الثلث - وهو اثنان - في مخرج النصف - وهو اثنان - يكون أربعةً نضربها في الألف يكون أربعة آلاف نقسّمها على الخمسة ، يخرج من القسمة ثمانمائة ، وهي ما لبكرٍ.

ولو قال : لزيد علَيَّ عشرة إلّا ثلثي ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلاّ ثلاثة أرباع ما لزيدٍ ، نضرب المخرج في المخرج يحصل اثنا عشر ، ثمّ نضرب أحد الجزءين في الثاني ، وهو اثنان في ثلاثة ، يكون ستّةً نسقطها من اثني عشر تبقى ستّة ، ثمّ نضرب الباقي من مخرج الثلث بعد إخراج الثلثين - وهو واحد - في أربعة ، يكون أربعةً نضربها في العشرة المذكورة في الإقرار يكون أربعين نقسّمها على الستّة يكون ستّةً وثُلثين ، وذلك ما أقرّ به لزيدٍ. ثمّ نضرب واحداً وهو الباقي من مخرج الربع بعد إخراج الأرباع الثلاثة ، يكون ثلاثةً نضربها في العشرة يكون ثلاثين نقسّمها على الستّة يكون خمسةً ، وهي ما أقرّ به لعمرو.

والطريقان الأوّلان يجريان في أمثال هذه الصُّور بأسرها.

وأمّا الطريق الثالث فإنّه لا يطّرد فيما إذا اختلف المبلغ المذكور في الإقرارين.

٣٧٩

وإذا تكثّرت الإقرارات ، احتاج إلى تطويلٍ ليس هذا موضعه ، كما لو قال : لزيدٍ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلّا ثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ عشرة إلّا ربع ما لزيدٍ.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو ستّة إلّا ربع ما لزيدٍ ، يكون مُقرّاً لزيدٍ بثمانية ، ولعمرو بأربعة.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلّا ربع ما لزيدٍ ، يكون مُقرّاً لزيدٍ بخمسة وخمسة أسباع ، ولعمرو بثمانية وأربع أسباع.

وقد يتصوّر صدور كلّ إقرارٍ من شخصٍ بأن يدّعي مالاً على زيدٍ وعلى عمرو ، فيقول زيد : لك علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لك على عمرو ، ويقول عمرو : لك علَيَّ عشرة إلّا ثلث ما لك على زيدٍ. وطريق الحساب ما تقدّم.

مسألة ٩٤١ : لو أقرّ لزيدٍ بجميع ما في يده أو بجميع ما ينسب إليه أو يعرف به ، صحّ الإقرار ، فلو تنازع الـمُقرّ و الـمُقرّ له في شي‌ء هل كان في يد الـمُقرّ وقت الإقرار أو لا؟ فالقول قول الـمُقرّ ، وعلى الـمُقرّ له البيّنة ؛ لأصالة الاستصحاب ، وقضاء اليد بالملكيّة ، وعدم سبق النسبة على الإقرار.

ولو قال : ليس لي ممّا في يدي سوى ألف ، صحّ الإقرار ، وعُمل بمقتضاه.

ولو قال : لا حقّ لي في شي‌ء ممّا في يد فلان ، ثمّ ادّعى شيئاً منه وقال : لم أعلم كونه في يده يوم الإقرار ، صُدّق بيمينه.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ درهم أو دينار ، لزمه أحدهما ، وطُولب بالتعيين.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501