تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179960 / تحميل: 5851
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لأنّ توسيع منهج التعليم العام طيلة المرحلة الثانوية، واحتمال حدوث تبديل في البرامج المهنيّة والعلميّة، سيكون ميسّراً للطلاّب عند الاندماج. ولابد من الاستعانة بالمتخصّصين في التعليم الثانوي، والأخصائيّين في الفروع الدراسية، والأخصائيّين في الثقافة الإسلامية عند انتخاب المواد، وتحديد محتوى البرنامج التعليمي، وتقديم تعليم يسد الحاجات المهنية والعلمية من جهة، والحاجات العامّة من جهة أُخرى.

التعليم الثانوي

يجب أن يخضع مستوى التعليم الثانوي للتبديل والتغيير أكثر من المستويات الأُخرى، فليس هناك أساس منطقي لتعليمنا الثانوي. وتكمن فلسفة التعليم الثانوي في إعداد الطلاّب لدخول الجامعة. وهناك ملاحظات جديرة بالاهتمام في هذا الصدد.

أوّلاً: لا يجد جميع خرّيجي الإعدادية طريقهم إلى الجامعة مباشرة في أيّ قطر من أقطارالعالم.

ثانياً: لا يرى أيّ مجتمع من المجتمعات حاجة في إرسال خرّيجي الإعدادية كافّة إلى الجامعة، سواء من ناحية توسيع التعليم العام، أو من ناحية تربية الطاقة البشريّة. وفي بعض البلدان، مثل: انجلترا يُعد فقط ما يقارب 8% من الخرّيجين أنفسهم لدخول الجامعة.

ثالثاً: في بلادنا، ولا سيّما في السنين الأخيرة، فإنّ أقلّ من عُشر المتقدّمين إلى الجامعات دائماً، كانت تتاح لهم فرصة الدراسة في مراكز التعليم العالي. بكلمة بديلة، لا تستقبل الجامعات أكثر من سبعة أو ثمانية بالمائة من المتقدّمين. وينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كثيراً من الطلاب الجامعيين كانوا يواصلون دراساتهم في فروع لا يمارسون فيها اختصاصاتهم بعد التخرّج.

٢١

رابعاً: وتتعلّق هذه الملاحظة بتبديل برنامج التعليم الثانوي، من حيث الشكل والمحتوى.

وهنا يجب أن ننظر: هل إنّ المجتمع يحتاج إلى خدمات، يمكن بواسطتها إعداد الطلاّب في المرحلة الإعداديّة، لتقديم تلك الخدمات. فما استفدناه من استشارة ذوي الاختصاص، هو: إمكانيّة تقديم خدمات من قبل خرّيجي الإعداديّات في المجالات الصحيّة، والفنيّة، والزراعيّة، والتجارية.

فينبغي تحديد مثل هذه الخدمات من خلال دراسة دقيقة، لتشكل أساس البرامج التعليميّة. وفي مثل هذه الحالة، لعلّ أكثر من ستّين بالمائة من خرّيجي الإعداديّة يدخلون ميدان العمل بعد التخرّج مباشرة، ويذهب عدد منهم إلى الجامعة لتأمين الطاقة البشرية التي يحتاجها المجتمع، ويعمل بعضهم في السلك العسكري، وفي إدارات مؤسّسات أُخرى.

وفي العصر الحاضر يمكن إعداد طلاّب السنة الأخيرة في المرحلة الإعداديّة، لدخول ميدان العمل وتقديم الخدمات اللاّزمة، من خلال إحداث تبديلات عاجلة في المنهج التعليمي للسنة الأخيرة من مرحلة الإعداديّة، والإستعانة بالطاقات الموجودة في المراكز الصحيّة، ودوائر الزراعة، والمكاتب الفنيّة، وكذلك الإستفادة من الإمكانيّات المتوفّرة في المؤسّسات الحكومية والخاصة.

التعليم العالي

لابد للتعليم العالي أن يأخذ بنظر الإعتبار أنّ عليه أن يحقِّق هدفين جوهريين هما: تقديم الخدمات، وتوسيع رقعة الفروع العلميّة، عن طريق البحث والتنقيب.

تحدّثنا سابقاً عن أهداف التعليم العالي في مقالة أُعدّت في شهر مايس، سنة 1968م، وُطبعت في كتاب (المجتمع والتربية والتعليم)، ثمّ طُبعت مرّة أُخرى في رسالة حملت عنوان (رسالة الجامعة والتزام الجامعي). وهذه الأهداف هي:

٢٢

1- رعاية السنن العلميّة وحفظها.

2- إعداد المتخصّصين.

3- التربية العامّة.

4- توسيع التراث الثقافي.

5- تأسيس المراكز التخصصيّة(1) .

6- علاج المسائل الاجتماعية.

7- إعداد المعلّمين.

وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أصبحت الجامعة مُلزمة بتكييف وجودها مع هذه الثورة، أُسوةً ببقيّة الدوائر والمؤسّسات؛ وذلك لتؤدي رسالتها في توطيد أركان النظام الإسلامي، وتحقيق الأهداف المذكورة.

إنّ على الذين تذمّروا من تعطيل الجامعات أن ينظروا، هل أنّ الجامعة أفلحت في أداء رسالتها أم لا؟ هل إنّ التعليم في جامعاتنا كان يجري بشكل أساسٍ وجوهري؟ هل كان الأساتذة المحترمون ملمّين بمبادئ التربية والتعليم؟ هل وُضعت المناهج الدراسيّة وفقاً للأُسس العلميّة لكلّ فرع، وتلبيةً للحاجات الاجتماعية؟ هل كُنّا نراعي السنن العلمية في تدريسنا وتحقيقنا؟ هل كان الهدف من إعداد المختصين هو تأمين الطاقة البشريّة للمجتمع؟ هل كان الأطبّاء، والمهندسون، المتخصّصون في الحقل الزراعي يبادرون إلى علاج مشاكل أغلبيّة الناس؟. يقال إنَّ أربعين بالمائة من أطبّائنا كانوا يقيمون في طهران، فهل إنّ هذا العدد يعمل لصالح ستّة ملايين نسمة يعيشون في طهران، أو أنّه يعمل لصالح شريحة معيّنة؟ ألا يجب على كليّة الطب أن تعد طبيباً يعالج أغلبيّة أبناء هذا الشعب، أعني: أبناء النواحي والأرياف؟ فهل أدّت كليّات الطب لحدّ الآن دورها في هذا المجال؟.

____________________

(1) ورد في المصدر الذي يشير إليه الكاتب (تأسيس المراكز التحقيقية).

٢٣

فما ينتظره المجتمع - إذاً - من الجامعات بعد استقرار النظام الإسلامي يتلخص فيمايلي: ينتظرالمجتمع من الطالب المسلم أن يكون حافزه الأساس من دراسته في الجامعات هو التقرّب إلى الله، وخدمة عباده، بديلاً عن الحوافز الشخصيّة، والماديّة. وهذا لايعني - بالطبع - أن يقدّم الطبيب، أو المهندس، أو القاضي خدماتهم اللاّزمة، وهم يتضوّرون جوعاً. فممّا لا ريب فيه هو أنّ كلّ فريق من أرباب هذه المهن لابد له أن يتمتّع ببعض الامتيازات الماديّة متناسباً مع وضعه، ووضع أرباب المهن الأُخرى في المجتمع الإسلامي.

وينتظر المجتمع من الطالب غير المسلم أن يكون مع النظام الإسلامي بكلّ صدق وإخلاص، وأن يقدِّم خدماته للناس في مجال اختصاصه من خلال شعوره بالالتزام، والمسؤوليّة، أمام المجتمع، وتحلّيه بالمعايير الأخلاقيّة السليمة.

وينتظر المجتمع من الجامعيّين أن يجعلوا من الجامعة مركزاً للتعليم الحقيقي، والبحث والتنقيب المهمَّين. ولابد للأُستاذ أن يكون مُلمّاً بمبادئ التعليم، ويعمل على تصعيد مستواه العلمي ومستويات الآخرين.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للبحث والتحقيق. وليس التحقيق من أجل إعداد مقالة في صفحات معدودة بهدف نيل درجة أُستاذ مساعد، أو أُستاذ؛ إنّما التحقيق من أجل توسيع نطاق الاختصاص، وإضافة معلومات جديدة إلى المعلومات السابقة. وفي هذا المجال وحده يتحقّق الاستقلال العلمي للجامعات. مضافاً إلى أنّ البحث والتحقيق يجب أن يتركزا على المسائل الداخليّة للبلاد. يقول الإمام الخميني (رحمه الله) في إحدى خطاباته: (إنّ معلّمي مدارسنا ليسوا إسلاميّين بشكلٍ عام، إذ لم تكن التربية إلى جانب التعليم في يوم من الأيّام. لذلك لم تخرِّج جامعاتنا إنساناً ملتزماً، ومتحمساً لخدمة بلاده، لا تهمّه مصلحته الشخصية.. فليس عندنا خرّيج جامعيّ يحمل هذه المواصفات).

٢٤

هل إنّ التربية - كمهمّة جوهريّة لجامعاتنا - متحقّقة في الجامعات؟ فمعظم عملنا يتركّز على تصعيد مستوى الطلاّب في مجال الحفظ، ويندر أن يتركّز على تصعيد مستواهم في المجال العلمي. والشيء الذي لا ننظر إليه بعين الاهتمام والأهميّة هو التربية.

يجب أن تكون الجامعة مركزاً للتفكير الحر، وتلاقح الآراء، وتبادل وجهات النظر. بيد أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هي أَنّ التفكير الحر يتناقض مع التعصب، كما لا يتّفق مع السباب والشتم، ومهاجمة الآخرين، وانتقاصهم، وكذلك فهو يتعارض مع تشويه الحقائق. وقد ذُكرت أُسس التفكير والتفكير الحر في الإسلام، من خلال عدد من الآيات القرآنيّة، مثل قوله تعالى:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، (الإسراء: 36)، وقوله تعالى:( لاإكْراه في الدِّين ) ، (البقرة: 256)، وقوله تعالى:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.. ) ، (الزمر: 17 - 18)، وقوله تعالى:( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

فلا إشكال عندنا على تحقيق حريّة النقاش، بل إنّ اشكالنا على النقاش ذاته. بعبارة أُخرى، نحن من أهل النقاش والتحقيق والتفكير، بل ولا نخشى التفكير. يقول الإمام الخمينيّ (رحمه الله) في هذا المجال:

(نحن لا نريد أن نقول: بأنّ العلوم قسمان، كما يناقش بعضهم في ذلك عمداً، أو جهلاً، بل نريد أن نقول: إِنّه لا وجود للأخلاق والتربية الإسلاميّة في جامعاتنا، ولو كانت موجودة، لما أضحتْ ميداناً للمنازلات العقائديّة المضرّة لبلادنا).

إعداد المعلّمين

إنّ إعداد المعلمين هو إحدى الحاجات الجوهرية للمجتمع. وكما أُقترح سالفاً، فبسبب اتّساع المعلومات البشريّة، ونظراً لأهميّة التعليم الابتدائي، وإشباعاً لغريزة

٢٥

حب الاستطلاع عند الناشئة والأحداث، وتربيةً لعنصر الإبداع فيهم، لذلك يجب العمل على تصعيد المستوى العلمي لمعلّمي المرحلة المتوسّطة، ومدرّسي المرحلة الإعداديّة، حتى درجة البكالوريوس.

وينبغي أن يكون المعلّم - في أيّ مستوىً كان - مُلمّاً بمبادئ التربية والتعليم، وعلم النفس، ومطّلعاً على الثقافة والمعارف الإسلامية، ومتضلّعاً في الفروع الدراسية، وله ثقافة ومعلومات عامّة. فالتركيز على هذه الأركان الأربعة الأساسيّة في البرنامج التعليمي لإعداد المعلمين، يجعل مسألة تصعيد المستوى العلمي لهم حتى درجة (البكالوريوس) ضروريّة.

وفي عقيدتي، فإنّ القسط الأكبر من النشاطات الجامعيّة في: العلوم، والآداب، والعلوم الإنسانية، والإدارة التجارية يجب أن يتركز على إعداد المعلمين؛ وذلك نظراً لدور الجامعات في تأمين حاجات البلاد، وإدراكاً لهذه الحقيقة القائلة: بأنّ تربية الطالب الجامعي بمستوى الظروف المعاصرة وفي بعض الفروع، يسفر عن: تضييع وقت الطالب والأُستاذ، وتبديد المبالغ الطائلة من خزينة الدولة. وتبقى نسبة ضئيلة تكرَّس للطلاّب الراغبين في البحث والتحقيق، ومواصلة الدراسات العليا.

وفي هذا الإطار، فإنّ على الجامعيين التعاون الوثيق المتواصل مع المعلمين والمدرّسين في التخطيط التعليمي، ووضع المناهج الدراسية، وإعداد الإداريّين، وكذلك في توسيع الإمكانيّات التعليميّة.

٢٦

خاصّيّتان أساسيّتان للإنسان

٢٧

٢٨

خاصّيتان أساسيّتان للإنسان

من الخصائص الأساسيّة للإنسان: وعيه لسلوكه، ووجود القوة المفكِّرة لديه. فيمكن للإنسان أن يكون واعياً لسلوكه(1) ، ويستعين بالقوة المفكِّرة المودعة عنده، لدى مواجهته للمسائل والقضايا المختلفة(2) . وينبغي أن ننتبه أنّ الإنسان لا يعي ما يقوم به من أعمال دائماً. بكلمة بديلة، فقد ينهج الإنسان سلوكاً معيناً، بيد أنّه لا يدرك دوافع هذا السلوك وأهدافه.

ولا يستعمل الإنسان قوّته المفكرة بصورة دائمة عند مواجهته لمختلف المسائل. فتجده أحياناً يُقلّد تقليداً أعمى، أو يندفع اندفاعاً طائشاً بدل أن يُعمل فكره. وكما نعلم، فإنّ سلوك الإنسان ليس على وتيرة واحدة، فتارةً يظهر سلوكه على شكل ردود فعل انعكاسيّة، وأُخرى يكون نتيجةً لنموّه وتكامله، وفي بعض المواطن لا يخلو أن ينشأ من التعليم.

ولسلوك الإنسان شكل خاص في المجال الاجتماعي أيضاً، فما يتعلّمه الإنسان من الجماعة ينعكس على سلوكه بأشكال مختلفة. فالتكلّم والتوافق الإجتماعي، والتعاون مع الآخرين، والتكييف والإنسجام، والتعارض، والتشابه، وأمثال هذه الأشياء تُكون الشكل الاجتماعي لسلوك الإنسان. ويراعي الإنسان تقاليد معيّنة

____________________

(1) قال تعالى:( بَلِ الإنسان عَلَى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، (القيامة: 14).

(2) قال الإمام عليعليه‌السلام :«لا يُستعان على الدهرِ إلاّ بالعقل» .

٢٩

في شرائح شتّى. ويبدو في السلوك الاجتماعي نوع من الجبر، واللاّشعور. بعبارة أُخرى، يرى الإنسان نفسه مجبراً على اتّباع تقاليد معيّنة، يغلب فيها عدم شعوره بما يفعل، هذا مع أنّه يمكن أن يكون شاعراً بجميع ما يقوم به. فمثلاً عندما تحضرون مجلس فاتحة، فإنّكم على علم - سابقاً - بأنّ عليكم مراعاة الصمت والهدوء، فتحاولون المحافظة على هذا التقليد.

بصورة عامّة، يتسنّى للإنسان أن يدرك جميع ما يفعله تدريجاً، وهذا الإدراك أمارة من أمارات نموّ شخصيّته.

من جهة أُخرى، فإنّ حياة الإنسان محفوفة بمشاكل كثيرة، ومواجهة هذه المشاكل تُنمِّي في الإنسان القابليّة على التفكير. أمّا الإنسان - كما ذكرنا سالفاً - فإنّه لا يستعمل قوّته المفكِّرة العاقلة دائماً. وفي نفس الوقت، فإنّه يطمح إلى أن يحكم سيطرته على بيئته، ويرقب ظروفه الحياتيّة. فالسيطرة على البيئة تتطلّب منه إدراكاً ووعياً لما يجري فيها، وفي هذا الإطار، كما قلنا،فإنّ علاج المشاكل لا يتيسّر إلاّ عن طريق القوّة المفكِّرة، لذلك فإنّ الإنسان مجبر على استعمال فكره من أجل مواصلة حياته.

إنّ حافز الإنسان في التعرّف على بيئته، ورغبته في الإلمام بما يدور فيها، وكذلك تأمين الحاجات الأساسية، ومساعدة البيئة على الحياة، كلّ ذلك يُرْغم الإنسان على الجِد والسعي والاهتمام. وفي هذا المضمار، استطاع الإنسان أن يعالج بعض مشاكله بمساعدة فكره. وفي خِضَمّ علاج المشاكل، أصبحت نشاطات الإنسان في قالب العلم، والفن، والفلسفة، والآداب والتقاليد.

وإذا أخرجنا عمليّة التربية والتعليم من نطاق الدرس، والكتاب، والمعلّم، والطالب، ونظرنا إليها عمليّة يروم فيها الجيل الأكبر أن يوسِّع من دائرة وعي الجيل الأصغر، في مجالات: معرفة الكون، معرفة الإنسان، الظروف الاقتصادية والسياسيّة، والتقدّم والتطوّر. وعملية تُعِد الإنسان لمواجهة مسائل الحياة عن طريق تربية قدرة

٣٠

التفكير فيه، حينئذ تصبح هذه العملية أهم نشاط من نشاطات الإنسان. إنّ النُظُم ذات الجانب التربوي، سواء تلك التي تُعنى بالمسائل التربويّة الخاصّة، أو التي تهتمّ بحياة الإنسان عموماً لا تؤثِّر في نموّ الإنسان، وتطوّره، إلاّ اذا ركّزت على تربية قوّة التفكير، والوعي فيه، ونظرت إليه على أنّه في تطوّر وتكامل متواصلين.

مقارنة الإسلام مع النُظُم القائمة في الشرق والغرب

إنّ بعض النُظُم الفكرية، مع أنّها تُولي أهمية لعلاقات الإنسان مع الكون، ومع بني جنسه، وتتّخذ من هذه العلاقات ركيزةً لمبادئها وأُسسها، بَيْدَ أنّها تقوِّم الإنسان، سواء في حياته الفردية، أو الاجتماعية، على أنّه نتاج بيئته، ولا تُؤْمن بأيّ دور لوعيه في النموّ والتطوّر.

وهذا خلل، كما أنّ - هناك - خللاً آخر في تلك النُظُم، وهو قصور نظرتها في موقفها من المسائل المختلفة، وقد ينعكس هذا التصور في فهمها لماهيّة الإنسان وهويّته. إنّها لا تأخذ في حسابها الجوانب المختلفة في شخصيّة الإنسان، حيث يرى بعضها أنّ الجانب البيولوجي، أو الفسيولوجي، هو محور سلوك الإنسان، في حين يرى بعضها الآخر أنّ الجانب الاجتماعي هو المحور. فكلاهما يقيِّد الإنسان في نطاق النشاطات البدنية، أو الاجتماعية، ويصادر قدرته الروحية في موقفه من المسائل المختلفة. فأنصار الجانب البيولوجي، يضعون الإنسان في مصاف الحيوانات - على نحو الإرغام - ويستعينون بمشاهداتهم لسلوك الحيوانات، من أجل شرح سلوكه، وتبيانه. أمّا أنصار الجانب الاجتماعي، فيحصرون دائرة نشاطه في المجال الاجتماعي، إذ يرَوْن سلوكه انعكاساً لما يتعلّمه من المجتمع، غافلين عن أنّ الإنسان عضو يعيش في الجماعة، والحياة الجماعية لا تسلب منه شخصيّته الفردية واستقلاله. إنّ كلا الفريقين ينكر جانب الإبداع الكامن في الإنسان، أو أنّهما يتعثّران عند الحديث حول هذا الجانب، وكذلك يُلغِيان دور الإنسان في توجيه نفسه وإرشادها.

٣١

وترى بعضُ النُظُم أنَّ الجانب المادّي في حياة الإنسان يقع في الدرجة الأُولى من حيث الأهميّة، وترى نظُم أخرى أنّ الجانب المعنوي هو الأهم.

في الحقل الاجتماعي، تؤمن بعض المجتمعات الغربيّة - كما يبدو - بأنّ الحريّة، و(الديمقراطيّة)، والحقوق الفرديّة تُمثِّل القيم الأساسية في قاموسها. أمّا المجتمعات الشيوعيّة، فترى بأنّ الهدف الأصلي من الحياة الجماعية هو: العدالة الاجتماعية مع ضمان الإمكانيات الماديّة للجميع، وإنهاء الإستغلال الذي يصبّ في صالح طبقة على حساب طبقة أُخرى.

وفي خِضَمّ هذه التوجّهات، نلتقي فريقاً ينظر بعين الأهميّة إلى الأفراد بصفة أنّهم أفراد، مُلغياً تأثير الجوانب الاجتماعية على حياتهم. فالتربية في قاموس هذا الفريق هي: ذات جانب فردي، ويتصوّر أتباع هذا الفريق بأنّ الأفراد لو تربّوا تربية سليمة، وتخرّجوا منها صالحين، فإنّ المجتمع سوف يتحسّن اوتوماتيكيّاً. ولا يعتقد هؤلاء بقيمة الحياة الجماعية وأهميّتها، كما لا يدركون الحقيقة القائلة بأنّ نموّ الفرد في المجالات المختلفة لا يتيسّر إلاّ من خلال الحياة الجماعيّة.

بكلمة بديلة، إنّ نموّ الفرد في مجال العقل والعاطفة والبدن تابع للحياة الجماعيّة إلى حدّ كبير. وكما مرّ بنا، فإنّ التطرّف في تأثير الحياة الجماعيّة ليس منطقيّاً كالتطرّف في الشخصيّة الفرديّة للإنسان. فلو كان الإنسان نتاج بيئته ومجتمعه، وأنّ الظروف هي التي تمنح سلوكه وشخصيّته قالباً خاصّاً، فما هو دور التربية والتعليم إذَن؟ ولو كان سلوك الفرد خاضعاً للظروف الاجتماعية، فكيف نُبرّر توقّعاتنا من الأفراد؟

إنّ اموراً من نحو الحريّة، والديموقراطيّة، والحقوق الفردية، والعدالة الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الإعتبار الجانب الفردي والاجتماعي، لها شكلها الخاص بها.

وفي المجتمعات الغربيّة ينصبّ الاهتمام - غالباً - على هذه الأمور من خلال

٣٢

التركيز على الجانب الفردي، وعدم تدخّل المجتمع في شؤون الفرد، فالحريّة تعني أنّ في مقدور كل شخص أن يعمل ما يشاء. ويضيفون إلى ذلك شرط عدم إزعاج الآخرين، بيد أنّ ذلك الشرط لايشكّل عائقاً إلى حدٍّ بعيد، لأنّ في مقدور الأشخاص - في مواطن خاصّة - العمل على إشباع ميولهم ورغباتهم دون أن ُيسبّبوا إزعاجاً للآخرين.

يمشي أحدهم بحريّة، ويمارس شخصان الإتصال الجنسي أمام أنظار الآخرين، فالكل أحرار، ويستطيعون القيام بأي عمل تحت غطاء الحريّة. والمتزوّج حر في أن يترك زوجته ويعشق امرأة غيرها، وزوجته - أيضاً - حرّة في أن تعشق رجلاً آخر. فليس من حق المجتمع أن يقف بوجه هذه الممارسات، وذلك لأنّ الناس أحرار، وليس لأحد الحق في أن يحدّ من حريّة الآخرين.

يسود هذا التصوّر عن الديمقراطيّة كثيراً من الأوساط الثقافية في الغرب، حيث يعمل الإنسان ما يشاء تحت لواء الديمقراطية.

وللحقوق الفرديّة أيضاً في المجال الاجتماعي، والنظام الاقتصادي الخاص شكل معيّن. فللمالك الحق في أن يبني علاقاته مع الآخرين كيفما يشاء. ولِربِّ العمل حق استغلال العامل، وليس لأحد أن يطرح حقوق المستضعفين أو الكادحين على بساط البحث. ويبدو أنّ لهؤلاء حقوقاً، بيد أنّ ضمان حقوق أرباب العمل والملاّكين لا يسمح بالحديث عن حقوق المستضعفين، وهنا تفقد العدالة الاجتماعية مفهومها وقيمتها. وبما أنّ الفرد هو المهم، وأنّ المجتمع أو المنظّمات الاجتماعية ليس لها حق التدخّل في شؤون الأفراد، لذلك فإنّ القضاء على الاستغلال يُعدّ تدخّلاً في شؤونهم، وليس له أيّ مبرّر. وفي مجتمع، يحظى فيه الحسُّ الجماعي بأهميّة خاصّة، يكون لمثل هذه الأمور شكل معيّن. وكما نعلم فإنّ الجماعة تُلقي ظلّها على الأفراد في مثل هذه المجتمعات، فالجماعة ومصالحها هي المهمّة، وما على الفرد إلاّ أن يكون تابعاً لها. وفي هذا المجال تُهمل الحريّة والحقوق الفردية، فالفرد ليس حرّاً

٣٣

في إشباع ميوله ورغباته، بل هو محروم من الحريّة حتى في انتخاب النظام الفكري، والتعبير عن رأيه، والخوض في مختلف القضايا، والنقد، ومعارضة الحكومة، وأمور من هذا القبيل، فكلّ شيء في مثل هذا المجتمع تحت ظل الجماعة. ومن الطبيعي فإنّ عمل الجماعة وتشخيص مصالح المجتمع ينحصران بيد فريق معين، أمّا الأَفراد فهم مرغمون على اتّباع هذا الفريق. ففي هذا المجتمع يضمحلّ استقلال الفرد وحريّته وإبداعه.

إنّ المؤسّسات الجماعية ذاتياً تُعتبر مقدّسة وذات قيمة في مثل هذا المجتمع، وما على الأفراد إلاّ تكييف أنفسهم مع هذه المؤسّسات. وهنا يأتي دَور التربية والتعليم، فهو: العمل على تكييف الأفراد مع المؤسّسات الجماعية. وفي مثل هذا الوضع، ما على الأفراد - في أيّ جماعة كانوا - إلاّ أن يستسلموا للوضع القائم، ويواصلوا حياتهم كالأداة الطيّعة، أو ينفصلوا عن الجماعة وعن أفراد آخرين ليعيشوا في وضع متأرجح. وفي الحالة الثانية يكون الأفراد - عادة - غرباء بالنسبة إلى أنفسهم ومجتمعهم، أو أنّهم يشعرون بالغربة. وليس هناك من هدف أو محفِّز قوي يوجّه أعمالهم وممارساتهم. الحياة في قاموسهم عبث وهُراء، وكل شيء - مبدئيّاً - عبث بالنسبة إليهم، كما أنّهم يحسبون أنفسهم ليسوا ذوي شأن أوبال. وتتحقق هذه الحالة لجميع الذين لا يريدون الإستسلام للوضع القائم. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - عاملاً كان أو رئيساً للعمل، وكاتباً كان أو عالماً، ورئيساً كان أو موظّفاً، ومعلماً كان أو طالباً - سيصاب بعدوى هذا الوضع.

والرائع في مثل هذه الظروف هو طرح النظام الفكري للإسلام، فهو - إطلاقاً - لايشبه الأنظمة الأُخرى، هذا من جانب، كما أنّه ليس نظاماً هجيناً ترقيعيّاً من جانب آخر. وهو - بشكل عام - ذو بعد تربوي، ولنظامه التربوي ميزات معيّنة. فلا الفرد وحده هو المحور، ولا المجتمع. الفرد حر، بيد أنّ للحريّة - في قاموسه - معنىً منسجماً مع الحس الإنساني الرفيع، وفي رحاب الحريّة نفسها، يكون الفرد مكلّفاً

٣٤

مسؤولاً. وهو حر في انتخاب عقيدته، وله حق التعبير عن رأيه في شتّى المسائل، ويمكنه أن يستمتع بثمرة عمله وجهده، وتضمن مصالحه المشروعة عندما لا ترتطم مع المصالح الاجتماعية العامّة، وليس في مقدور أيّة سلطة أو جهاز أن يحدّا من سيادته على نفسه في تقرير مصيره.

إنّ الفرد - مضافاً إلى حريّته واختياره - يشعر بالمسؤولية أمام المجتمع في النظام الإسلامي، ولا تنفصل حياته عن حياة المجتمع. بعبارة أُخرى، لا يقف أحدهما مقابل الآخر على نحو التنازع أو التعارض. وتندمج الحقوق والحريّات الفردية مع رفاه الجماعة في النظام الإسلامي، وفي نفس الوقت يضع النظام التوحيدي الفرد والمجتمع على خط التكامل والتطوّر.

يضطلع المجتمع بمهمّات وواجبات معيّنة في النظام التربوي الإسلامي، فهو لا يترك الفرد بدون قيِّم، إنّما يكفل له ضروريّات الحياة، كما يضمن رفاهه، ويهيّئ له مستلزمات رُقيّه وتطوّره.

وفي هذا النظام تُناقَش معرفة الكون مثلما تناقش علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الكون بالله (عزّوجَل).

وفي التربية والتعليم، يدور البحث حول العلم، ويدور حول التفكير في الوقت نفسه. كما يدور حول تربية القدرة العقليّة، وفي الوقت ذاته يدور حول تربية الجانب الاجتماعي في شخصيّة الإنسان. كما يهتم هذا النظام بالحياة المادية والمعنوية على السواء. وكما ذكرنا آنفاً، فإنّ حريّة الفرد - في هذا النظام - تندمج في رفاه الجماعة. ويدور الحديث فيه حول العدالة، وحول الإيثار ونكران الذات على التوازن. ويُشكِّل العمل وبذل الجهد أساس الملْكية في هذا النظام، بيد أنّ كل شيءٍ يعود إلى الله، ويصب في صالح الرفاه العام. ويتميّز هذا النظام بأنّ مقياس التفاضل فيه هو التقوى. ومن الطريف فيه أنّه لا يقصر مهمّة التربية والتعليم على المعلم أو على الوالدين فقط، بل يجعلها مهمّة جماعية من خلال طرح مبدأ الأمر

٣٥

بالمعروف والنهي عن المنكر، فيصبح الجميع مربّين بعضهم للبعض الآخر.

وفي هذا النظام يحظى الفرد، والمجتمع، والنوع الإنساني قاطبةً بالعناية والاهتمام، وتتحرّك العلاقات الإنسانية في خط التطوّر متوكئة على النظام التوحيدي. ويكون مثَل الأخلاق التوحيديّة كمثَل المِنوار أو المشعل الكهربي (Projector) إذ ينير جميع شؤون حياة الإنسان.

٣٦

النّظام التّربوي في الإسلام

٣٧

٣٨

النظام التربوي في الإسلام

نتطرق في البداية إلى ذكر خصائص النظام التربوي في الإسلام، ثمّ نعرِّج على مناقشة أهداف هذا النظام وأساليبه ومحتواه.

خصائص النظام التربوي في الإسلام

الأُولى: البُعد الإلهي

التربية الإسلاميّة تربية إلهيّة، وقد ورد في الحديث المشهور، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». والتربية الإِلهيّة - كما جاءت في القرآن الكريم - صالحة للتطبيق بالنسبة إلى جميع أفراد النوع الإنساني، سواء الأنبياء منهم أو الناس العاديّون.

وفيما يلي عدد من الآيات القرآنية الكريمة التي تخصّ الموضوع، فإلى تلاوتها ودراستها:

قال تعالى:( وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، (البقرة: 31).

وقال (جلّ من قائل):( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ، (العلق: 1 - 5).

ويخبرنا الباري تعالى في الآية الكريمة التالية عن بلوغ الصالحين من أولاد

٣٩

إبراهيم الخليلعليه‌السلام منصب الإمامة، بعد خضوعهم لتربية إلهيّة مركّزة، فيقول:

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) ، (الانبياء: 73 - 72) وحول اصطفاء طالوت، يقول (جلّ شأنه):

( .. إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، (البقرة: 247).

وفيما يرتبط بالتربية الإلهيّة التي خصّها الله نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء في القرآن قوله تعالى:

( .. وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عليك عظيماً ) (النساء: 113).

وذُكرت التربية الإلهيّة التي تخصّ العباد في الآيات التي تتحدّث حول المبعث النبوي الشريف، فقال (عزّ من قائل):

( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) ، (آل عمران: 164).

خصائص التربية الإلهيّة

وردت خصائص التربية الإلهيّة في القرآن الكريم، والأخبار والأحاديث، وسيرة المعصومين، والأدعية المأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، على نحو التفصيل. وها نحن نتحدّث بإيجاز عن قسم من هذه الخصائص:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقال أصحاب الرأي وأ حمد : إنّه يلزمه درهمان ؛ لأنّ الفاء من حروف العطف ، كالواو(١) .

والتحقيق عندي أنّه إن أراد العطف لزمه اثنان ؛ لأنّ المعطوف يغاير المعطوف عليه ، وإن لم يرد العطف لم يلزمه الاثنان قطعاً ، حيث لم يقصد التعدّد ، ولا وجه للاختلاف ، وإن أطلق حُمل على ما يفسّره.

وينبغي أن يكون موضع الخلاف الإطلاقَ ؛ لأنّه يحتمل كلّ واحدٍ منهما ، لكنّ الحقيقة العطف أو لا؟ إن قلنا : العطف ، لزمه المتعدّد ، وإلّا فلا.

ونقل عن الشافعي أنّه يلزمه درهمان ؛ لأنّه إذا قال : له علَيَّ درهم ودرهم ، لزمه درهمان(٢) .

ولا يمتنع فيه مثل التقديرات المذكورة في الفاء.

ولو قال : له علَيَّ درهم فقفيز حنطة ، فما الذي يلزمه؟

قيل : درهم لا غير ؛ لاحتمال إرادة قفيز حنطة خير منه(٣) .

وقيل : الدرهم والقفيز(٤) .

ولو قال : بعتك بدرهم فدرهم ، يكون بائعاً بدرهمين ؛ لأنّه إنشاء.

مسألة ٩٢٩ : لو قال : له علَيَّ درهم بل درهم ، لم يلزمه إلّا درهم واحد ؛ لجواز أن يقصد الاستدراك لزيادة ، فتذكّر أنّه لا حاجة إليه ولا زيادة عليه ، فلم يستدرك فيعيد الأوّل.

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٨ ، المغني ٥ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

(٣ و ٤) الحاوي الكبير ٥ : ٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠.

٣٦١

ولو قال : له درهم ل ا بل درهم ، أو : لا درهم(١) ، فكذلك.

ولو قال : له علَيَّ درهم لا بل درهمان ، أو : قفيز حنطة لا بل قفيزان ، لم يلزمه إلّا درهمان ، وإلّا قفيزان ؛ لأنّ « بل » للاستدراك ؛ ولا يمكن أن يكون المقصود هاهنا نفي المذكور أوّلاً ؛ لاشتمال الدرهمين والقفيزين على الدرهم وعلى القفيز ، فلم يبق المقصود إلّا الاقتصار على الواحد وإثبات الزيادة عليه.

وقال زفر وداوُد : يلزمه ثلاثة أقفزة وثلاثة دراهم ؛ لأنّه أقرّ بقفيز ثمّ نفاه ثمّ أثبت قفيزين ، ومَنْ أقرّ بشي‌ء ثمّ نفاه لم يُقبل رجوعه ، فلزمه القفيز الذي نفاه والقفيزان اللّذان أقرّ بهما أيضاً ، كما لو قال : قفيز حنطة لا بل قفيزا شعير(٢) .

والحقّ أنّه يلزمه القفيزان ؛ لأنّ قوله : « لا بل قفيزان » ليس نفياً للقفيز ، بل نفياً للاقتصار على واحدٍ وإثبات الزيادة عليه ، وهذا بمنزلة ما إذا قال : له قفيز لا بل أكثر ، فإنّه يلزمه أكثر من قفيز ، ولا يطالب بأكثر من قفيزين ، ولا يجوز أن يكون نفياً ؛ لأنّ القفيزين اللّذين أقرّ بهما يشتملان على القفيز.

ويخالف هذا [ ما ] إذا قال : له علَيَّ قفيزا حنطة لا بل قفيزا شعير ؛ لأنّه نفى الإقرار الأوّل حيث لم يدخل في الإقرار الثاني ، وفي صورة النزاع دخل الأوّل في الثاني ، فافترقا.

وقد أورد بعض الشافعيّة إشكالاً ، وهو : ما إذا قال : أنتِ طالق طلقة‌

____________________

(١) كذا قوله : « أو : لا درهم ». والظاهر : « أو : لكن درهم ».

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٧٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٦ ، البيان ١٣ : ٤١٩ ، المغني ٥ : ٢٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٥١.

٣٦٢

بل طلقتين ، فإنّه يقع الثلاث(١) .

تنبيه : هذا الخلاف إنّما هو مفروض فيما إذا أرسل الـمُقرّ به ولم يعيّنه ، أمّا لو قال : له عندي هذا القفيز بل هذا القفيز ، أو : بل هذان القفيزان ، أو :

هذا الدرهم بل هذان الدرهمان ، فإنّه يلزمه الثلاث قطعاً ؛ لأنّ القفيز المعيّن لا يدخل في القفيزين المعيّنين.

وكذا لو اختلف جنس الأوّل والثاني ، لزماه معاً مع الإرسال أيضاً ، كما لو قال : له علَيَّ درهم بل دينار ، أو : بل ديناران ، أو : قفيز حنطة بل قفيز شعير ، أو : قفيزا شعير ؛ لعدم دخول الأوّل في الثاني ، فهو راجع عن الأوّل مثبت للثاني ، والرجوع غير مقبولٍ ، فالذي أقرّ به ثانياً يلزمه.

ولو دخل الأوّل في الثاني ، لزمه الزائد ، فلو قال : له علَيَّ هذا القفيز بل هذا القفيز وهذا الآخَر ، فإنّه يلزمه القفيزان معاً ؛ لأنّه ضمّ الـمُقرّ به أوّلاً إلى الـمُقرّ به ثانياً وأقرّ بهما معاً ، فلزماه معاً ، ولا يلزمه هنا ثلاثة قطعاً.

فروع :

أ - لو قال : له درهمان بل درهم ، أو : له علَيَّ عشرة لا بل تسعة ، لزمه الدرهمان والعشرة لا الأقل ؛ لأنّ الرجوع عن الأكثر لا يُقبل إلّا في الاستثناء ، ويدخل الأقلّ فيه ، ويخالف ما إذا قال : له علَيَّ درهم لا بل درهمان ؛ لأنّه أضرب عن الاقتصار ، وأدخله في إقراره الثاني ، ويخالف ما إذا قال : درهم لا بل قفيز ، فإنّه يلزمه الجميع ؛ لأنّ أحدهما لا يدخل في الآخَر ، وهنا التسعة داخلة في العشرة ، ويخالف الاستثناء ؛ لأنّه ليس بإضرابٍ ، بل « عشرة إلّا درهماً » عبارة عن تسعة ، فافترقا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٤.

٣٦٣

ب - لو قال : له علَيَّ درهم بل درهمان بل ثلاثة ، لزمه ثلاثة لا غير.

ولو قال : له دينار بل ديناران بل قفيز بل قفيزان ، لزمه ديناران وقفيزان.

ج - لو قال : له علَيَّ دينار وديناران بل قفيز وقفيزان ، لزمه ثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة. وعلى هذا القياس.

البحث السابع : في تغاير الزمان.

مسألة ٩٣٠ : إذا قال في يوم السبت : لزيدٍ علَيَّ ألف ، ثمّ أقرّ له يوم الأحد بألف ، لم يلزمه إلّا ألف واحد.

والأصل فيه أنّ تكرير الإقرار تكرير للإخبار ، ولا يلزم من تكرير الخبر تكرير الـمُخبَر عنه ، فقد يُخبر عن الشي‌ء الواحد أشخاص متعدّدة بإخبارات متعدّدة أو مُخبر واحد بإخبارات كثيرة ، ولهذا يحتمل فيه الإبهام ، ولو كان إنشاءً لما احتُمل ، فتعدّد الخبر لا يقتضي تعدّد الـمُخبَر عنه فيجمع ، إلّا إذا عرض ما يمنع الجمع والتنزيل على واحدٍ فحينئذٍ يُحكم بالمغايرة ، أمّا مع عدم المانع من الجمع فإنّه يجمع ، ويكون الخبران عبارتين عن مُخبرٍ واحد ؛ لأصالة البراءة. وأمّا لو اعترف بأنّ الإقرار الثاني عبارة عن شي‌ء مغاير لما أقرّ به أوّلاً ، فإنّه يُحكم بالتعدّد.

وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمّد وأحمد ؛ لأنّ الإقرار إخبار على ما بيّنّاه ، فإذا أقرّ ثمّ أقرّ بذلك ، احتُمل أن يكون الثاني هو الأوّل وأن يكون غيره ، فكان المرجع إليه ، ولا يلزمه بالشكّ(١) .

____________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦١٩ / ١٠٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١٤ / ١٢٠٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٩ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٩ ، بحر المذهب ٨ : ٢٨٢ ، الوجيز ١ : ١٩٩ - ٢٠٠ ، الوسيط ٣ : ٣٤٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، البيان ١٣ : ٤١٦ - ٤١٧ ، العزيز شرح الوجيز

٣٦٤

وقال أبو حنيفة : يلزمه درهمان(١) .

واختلف أصحابه ، منهم مَنْ قال : لا فرق بين المجلس الواحد والمجلسين. ومنهم مَنْ فرّق بين المجلسين والمجلس الواحد(٢) ، إلّا أنّهم لا يختلفون أنّه إذا قال : « درهم درهم » موصولاً أنّه يكون درهماً واحداً(٣) .

وكذلك إذا سمع شاهدان إقراره بألف ثمّ رفع إلى الحاكم فأقرّ بألفٍ ، فقال المدّعي : لي بيّنة بإقراره بألف وهي أُخرى ، وقال الـمُقرّ : هي واحدة ، لم تُسمع البيّنة.

وكذلك إذا أقرّ بما في كتابٍ عند جماعة فهو إقرار ؛ لأنّه إذا أقرّ ثمّ أقرّ ولم يعرّف الأوّل بالألف واللام فالظاهر أنّه إقرارٌ آخَر ، فلزمه ذلك.

وهذا يبطل بما إذا وصل كلامه ، وبما إذا أقرّ به عند الحاكم ، ولأنّ التعريف إنّما يكون عند مَنْ له عهد به وقد يقرّ عند مَنْ لم يسمع الأوّل ، وقد يترك التعريف ، ولا يمنع ذلك صحّة كلامه ، فلم يكن تركه التعريفَ يوجب عليه مالاً آخَر.

واعلم أنّه لا فرق عندنا بين أن يكون الإقراران في مجلسٍ واحد أو مجلسين فما زاد ، وسواء كتب به صكّاً وأشهد عليه شهوداً ، أو على‌

____________________

= ٥ : ٣٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩ - ١٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤١٣ / ١٩١٢ ، المغني ٥ : ٢٩٥.

(١) كان الأولى التمثيل بالألفين ، أو التمثيل بالدرهم في عنوان المسألة.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ١٨ : ٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢١٣ / ١٩١٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٩ و ١٤٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٥٩ ، بحر المذهب ٨ : ٢٨٢ ، حلية العلماء ٨ : ٣٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، البيان ١٣ : ٤١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٥ ، المغني ٥ : ٢٩٥ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٠ / ١٠٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧١٥ / ١٢٠٨.

(٣) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ١٣٥.

٣٦٥

التعاقب بأن كتب صكّاً بألف وأشهد عليه ثمّ كتب صكّاً آخَر بألف وأشهد عليه ، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كتب صكّين وأشهد عليهما ، أو فيما إذا أقرّ في مجلسين(١) .

ومن أصحابه مَنْ لا يفرّق بين المجلس والمجلسين(٢) .

مسألة ٩٣١ : لو أقرّ بإقرارين مختلفين بالعدد في مجلسٍ واحد أو في مجلسين ، دخل الأقلّ في الأكثر ، سواء تقدّم الأقلّ أو تأخّر ، فلو أقرّ في أحد اليومين بألف وفي الآخَر بخمسمائة ، لزمه الألف خاصّةً ، ودخل الإقرار بالخمسمائة تحت الإقرار بالألف عندنا وعند الشافعي(٣) .

ولو أقرّ مرّةً بالعربيّة وأُخرى بالعجميّة ، لم يلزمه إّلا واحد ، ولا اعتبار باختلاف اللغات والعبارات ، فقد يعبّر عن الشي‌ء الواحد ويخبر عن الـمُخبَر الواحد بإخبارات متعدّدة وألفاظ مختلفة ، والمخبر عنه واحد في نفسه غير متعدّدٍ.

مسألة ٩٣٢ : لو لم يمكن الجمع بين الإقرارين في عينٍ واحدة ومُخبَر عنه واحد ، تعدّد الحقّ وتغاير ، كما لو أضاف إلى شيئين مختلفين ، فقال يوم السبت : له علَيَّ ألف من ثمن عبدٍ ، ثمّ قال يوم الأحد : له علَيَّ ألف من ثمن جاريةٍ ، أو وصف كلّ واحدٍ من الـمُقرّ به بوصفٍ مخالفٍ مضادٍّ للوصف الآخَر ، كما إذا قال يوم السبت : له علَيَّ ألف من صحاح الدراهم ، وقال يوم الأحد : له علَيَّ ألف درهم من مكسّر الدراهم ، لزمه الألفان في الصورتين معاً ؛ لتغاير ثمن العبد وثمن الجارية ، وصحيح الدراهم ومكسّرها.

____________________

(١ و ٢) راجع الهامش (٢) من ص ٣٦٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٠.

٣٦٦

وكذا يتعدّد لو قال : قبضتُ منه يوم السبت ألف درهم ، ثمّ قال : قبضتُ منه يوم الأحد ألف درهم ، لزمه الألفان ؛ لتغاير القبضين ، ويلزم منه تغاير المقبوضين ؛ إذ لا يمكن تعدّد القبض في الشي‌ء الواحد ، إلّا مع الدفع إلى الـمُقرّ له ، ولكن ذلك دعوى غير مسموعة إلّا بالبيّنة.

ولو قال : طلّقتُها يوم السبت طلقة ، ثمّ قال : طلّقتُها يوم الأحد طلقة ، حُكم عليه بوقوع طلقتين.

ولو قال يوم السبت : طلّقتُها طلقة ، وقال يوم الأحد : طلّقتُها طلقة ، لم يلزمه إلّا طلقة.

وكذا لو قال : يوم السبت طلّقتُها طلقة ، ثمّ قال : ويوم الأحد تطليقتين ، لم يلزمه إلّا طلقتان.

أمّا لو وصف الدراهم بصفةٍ في أحد الإقرارين وأطلق في الآخَر ، أو أضاف أحد الإقرارين إلى سببٍ وأطلق في الآخَر ، نُزّل المطلق على المضاف ، ولم يجب التعدّد ؛ لإمكان الجمع ، والأصل براءة الذمّة.

وكذا لو قامت البيّنة على إقرارين بتأريخين ، يُجمع بينهما ؛ لأنّ تكرير الإشهاد وتكرير الصكّ لا تأثير له ، لأنّ الحجّة على الإقرارين لا تفيد إلّا ثبوت الإقرارين ، وقد تقدّم(١) أنّ تعدّد الإقرار لا يوجب تعدّد الـمُقرّ به.

مسألة ٩٣٣ : لو شهد شاهد على أنّه أقرّ يوم السبت بألفٍ أو بغصب ثوب ، وشهد شاهدٌ آخَر على أنّه أقرّ يوم الأحد بألفٍ أو بغصب ذلك الثوب ، ثبت الألف والغصب بتلفيق الشهادتين ؛ لأنّ الإقرار لا يوجب حقّاً بنفسه ، وإنّما هو إخبار عن شي‌ء سابق ، فيُنظر إلى المـُخبَر عنه وإلى اتّفاقهما‌

____________________

(١) في ص ٣٦٣ ، المسألة ٩٣٠.

٣٦٧

على الإخبار عنه.

وكذا لو شهد أحدهما على إقراره بألفٍ بالعربيّة ، والآخَر على إقراره بالفارسيّة.

ولو شهد أحدهما على الإدانة والآخَر على الإقرار بها ، لم يثبت الدَّيْن ، سواء اتّفق الزمان أو اختلف. وكذا لو شهد أحدهما أنّه وكّل أو طلّق يوم السبت ، وشهد الآخَر أنّه وكّل أو طلّق يوم الأحد ، أو شهد أحدهما على أنّه وكّل أو طلّق يوم السبت ، والآخَر على أنّه أقرّ بالوكالة أو بالطلاق يوم السبت أو الأحد ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء ؛ لأنّهما لم يتّفقا على شي‌ء واحد ، وليس هو إخباراً حتى يُنظر إلى المقصود الـمُخبَر عنه.

واعلم : أنّ بعض الشافعيّة لم يفرّق بين الإقرارين والإنشاءين ، فكما لا يُقبل إذا شهد أحدهما على إنشاء الطلاق أو الوكالة يوم السبت وشهد الآخَر على إنشائهما يوم الأحد ، كذا لا يُقبل لو شهد أحدهما على أنّه أقرّ يوم السبت وشهد الآخَر على أنّه أقرّ يوم الأحد ؛ لأنّ الشاهدَيْن لم يشهدا على شي‌ء واحد ، بل شهد هذا على إقرارٍ ، وذلك على إقرارٍ آخَر ، والمقصود من اشتراط العدد في الشهادة زيادة التوثّق والاستظهار ، فإذا شهد كلّ واحدٍ على شي‌ء لم يحصل هذا المقصود ، فاتّجه(١) أن لا يُحكم بقولهما(٢) .

وبعض الشافعيّة أجرى الإنشاءات مجرى الإقرارات ، فكما تُقبل شهادة أحدهما بالإقرار يوم السبت مع شهادة الآخَر بالإقرار يوم الأحد ، تُقبل لو شهد أحدهما بإنشاء الطلاق - مثلاً - يوم السبت ، والآخَر بإنشائه‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « فالمتّجه ».

(٢) انظر : الوسيط ٣ : ٣٤٤ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٦ ، وروضة الطالبين ٤ : ٤١.

٣٦٨

يوم الأحد (١) .

وكلا هما غلط.

أمّا الأوّل : فلأنّ أحد الشاهدَيْن إذا شهد بالإقرار يوم السبت فقد شهد بثبوت حقٍّ في ذمّته ، وإذا شهد الآخَر بالإقرار يوم الأحد فقد شهد بثبوت حقٍّ في ذمّته ، فحصل الاتّفاق بينهما على شي‌ء واحد ، والاجتماع لا يفيد زيادةً في هذا المشترك ، وصار كما لو أطلقا الشهادة بالإقرار من غير تعيين الزمان ، ولا يتأتّى هذا في الإنشاء ؛ لأنّ مَنْ طلّق اليوم ثمّ طلّق غداً والمرأة رجعيّة فزعم أنّه أراد طلقة واحدة ، لم يُقبل منه ، خصوصاً عند مَنْ لا يشترط الرجعة ، كالعامّة بأسرهم ، فكيف يُجمع بين شهادة شاهدٍ على طلاق اليوم وشهادة آخَر على طلاق غدٍ!؟ وكذا باقي الإنشاءات والأفعال ، كالقتل والغصب وغيرهما.

على أنّه لا تخلو هذه الشهادة في كثير من المواضع من التضادّ والتنافي ؛ فإنّ شهادة قتل يوم السبت تنافي شهادة قتل يوم الأحد ، بخلاف الإقرارين.

وأمّا الثاني : فلما مرّ من التغاير بين الإنشاءين.

ولو شهد أحدهما على أنّه قذفه يوم السبت ، أو بالعربيّة ، والآخَر أنّه قذفه يوم الأحد ، أو بالفارسيّة ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء.

ولو شهد أحدهما على إقراره بأنّه قذفه يوم السبت ، أو بالعربيّة قذفه ، والثاني على إقراره بأنّه قذفه يوم الأحد ، أو بالعجميّة قذفه ، فلا يلفّق بين الشهادتين أيضاً ؛ لأنّ الـمُقرّ به شيئان مختلفان.

مسألة ٩٣٤ : لو شهد أحدهما عليه بألفٍ من ثمن مبيع ، وشهد الآخَر بألفٍ من قرضٍ ، أو شهد أحدهما بألفٍ استقرضه يوم السبت ، والآخَر‌

____________________

(١) انظر : الوسيط ٣ : ٣٤٤ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٦ ، وروضة الطالبين ٤ : ٤١.

٣٦٩

بألفٍ استقرضه يوم ا لأحد ، لم يثبت بشهادتهما شي‌ء ، إلّا أنّ للمدّعي أن يعيّن أحدهما ، ويستأنف الدعوى عليه ، ويحلف مع الذي شهد به ، وله أن يدّعيهما ويحلف مع كلّ واحدٍ من الشاهدَيْن.

وإن كانت الشهادتان على الإقرار بأن شهد أحدهما على أنّه أقرّ بألفٍ من ثمن مبيعٍ ، وشهد الثاني على إقراره بألفٍ من قرضٍ ، فالأقرب : إنّه لا تثبت الألف بهذه الشهادة ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(١) .

وبنوا الوجهين هنا على الوجهين فيما إذا ادّعى عليه ألفاً من ثمن مبيعٍ ، فقال المدّعى عليه : لك علَيَّ ألف ولكن عن قرضٍ ، فهل يحلّ للمدّعي أخذ الألف ؛ لاتّفاقهما عليه ، أو يحرم ؛ لاختلافهما في الجهة؟ إن قلنا(٢) : اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، لم تثبت الألف ، وإلّا ثبتت(٣) .

ولو ادّعى ألفاً فشهد أحد الشاهدَيْن على أنّه ضمن ألفاً ، والثاني على أنّه ضمن خمسمائة ، ففي ثبوت خمسمائة إشكال. وللشافعي قولان(٤) .

وهو أحد أقسام الإنشاءات ، وقد سلف(٥) البحث فيها.

ولو شهد أحد شاهدي المدّعى عليه أنّ المدّعي استوفى الدَّيْن ، والثاني على أنّه أبرأه ، فلا تلفيق على الأقوى ، وله أن يحلف مع أيّهما شاء.

ولو شهد الثاني على أنّه برئ إليه منه ، احتُمل التلفيق ؛ لأنّ إضافة البراءة إلى المديون عبارة عن إيفائه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٢) في الطبعة الحجريّة زيادة : « إنّ ».

(٣) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « سبق » بدل « سلف ».

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٠

مسألة ٩٣٥ : لو ادّعى على رجلٍ ألفين ، وشهد له شاهد بألفين ، وشهد له آخَر بألف ، ثبتت الألف بشهادتهما ؛ لاتّفاقهما عليها ، وله أن يحلف مع الذي شهد بألفين ، ويأخذهما معاً.

وكذا لو كانت الشهادتان على الإقرار.

هذا إذا لم يختلفا في الشهادة ، أمّا لو اختلفا بأن أضاف كلٌّ منهما ما شهد به إلى سببٍ غير الآخَر ، مثل : أن يقول أحدهما : من ثمن عبدٍ ، ويقول الآخَر : من ثمن جاريةٍ ، فإنّه لا تلفيق ولا اتّفاق ، ولا تقوم البيّنة بأحدهما ؛ لأنّهما مختلفان ، ويحلف مع كلّ واحدٍ منهما ، ويستحقّ ما شهد به.

وكذا لو اختلفا في صفتها ، فقال أحدهما : من ضَرْب كذا ، والآخَر : من ضرب آخَر ، أو قال أحدهما : حالّة ، وقال الآخَر : مؤجّلة ، أو شهد أحدهما أنّه أقرّ عنده أنّها لزمته في شعبان ، وشهد الآخَر أنّه أقرّ أنّها لزمته في شهر رمضان.

وأمّا إذا أضاف الشاهدان الشهادة إلى سببٍ واحد ، فقال كلّ واحدٍ منهما : من ثمن عبدٍ ، أو أطلقا ولم يضيفا إلى سببٍ ، أو أطلق أحدهما وأضاف الآخَر ، فإنّ في هذه المسائل الثلاثة تقوم البيّنة بألفٍ واحدة ، ويحلف للأُخرى ، وبه قال الشافعي ومالك(١) .

وقال أصحاب الرأي : لا يثبت شي‌ء من ذلك ؛ لأنّ الشهادتين اختلفتا‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٣٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧١

لفظاً ومعنىً ، كما ل و أضافا ذلك إلى سببين مختلفين(١) .

وهو غلط ؛ لأنّهما مالان من نوعٍ واحد غير مضافين إلى سببين مختلفين ، فإذا شهد بهما اثنان ثبت الأقلّ منهما ، كما لو شهد أحدهما بألفٍ والآخَر بألفٍ وخمسمائة ، فإنّ أبا حنيفة سلّم أنّه إذا شهد أحدهما بألفٍ والآخَر بألفٍ وخمسمائة تثبت الألف(٢) .

ولو شهد أحدهما بعشرين والآخَر بثلاثين ، ثبتت العشرون بشهادتهما ، كالألف والألفين على إشكالٍ.

ويحتمل عدم الثبوت ؛ لأنّ لفظ « الثلاثين » لا يشتمل على لفظ « العشرين » ولفظ « الألفين » يشتمل على لفظ(٣) الألف ، فربما سمع أحد الشاهدين الألف وغفل عن آخره.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

مسألة ٩٣٦ : لو ادّعى ألفاً ، فشهد له شاهد بألفٍ وآخَر بألفين ، فالثاني قد شهد بالزيادة قبل أن يستشهد ، فيكون متبرّعاً تبطل شهادته بالزيادة خاصّةً.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٧٧ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، المغني ١٢ : ١٥٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٢ : ٣٧٦ ، الفقه النافع ٣ : ١١٧٠ / ٩٣١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٢٦.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٢٧ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٢ : ٣٧٦ ، الفقه النافع ٣ : ١١٧٠ / ٩٣١ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧.

(٣) كلمة « لفظ » لم ترد في الطبعة الحجريّة.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٧ - ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٢

ويحتمل بطلانها في ا لجميع ؛ لأنّه متبرّع بهذه الشهادة ، وهي شهادة واحدة وقد رُدّت ، بخلاف ما لو قال : أشهد له بألفٍ وألفٍ أُخرى ، فإنّه تُردّ شهادته بالألف الأُخرى خاصّةً.

وعلى التقديرين لا يصير مجروحاً بهذه الزيادة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : إنّه يصير مجروحاً. وإذا لم يصر مجروحاً عندهم ، فالشهادة بالزيادة مردودة.

وفي المدّعى قولان :

أحدهما : إنّها تُردّ ؛ لأنّ الشهادة لا تتبعّض ، فإذا رُدّت في البعض رُدّت مطلقاً.

وقال بعضهم : لا تُردّ ، وتثبت الألف خاصّةً ، والتبعيض مخصوص بما إذا اشتملت الشهادة على ما يقتضي الردّ ، كما إذا شهد لنفسه ولغيره ، وأمّا إذا زاد على المدّعى ، فقوله في الزيادة ليس بشهادة ، بل هو كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم. وعلى تقدير قولهم بالجرح فإنّ المدّعي يحلف مع شاهد الألف ويأخذها(١) .

وقال الجويني : إنّه على هذا الوجه إنّما يصير مجروحاً في الزيادة ، فأمّا الألف المدّعاة فلا جرح في الشهادة عليه ، لكن إذا رُدّت الشهادة في الزائد كانت الشهادة في المدّعى على قولَي التبعيض ، فإن لم نبعّضها فلو أعاد الشهادة بالألف ، قُبلت ؛ لموافقتها الدعوى [ وهل ](٢) يحتاج إلى إعادة‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فهل ». والظاهر ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

٣٧٣

الدعوى؟ قال : فيه و جهان ، أظهرهما : المنع(١) .

البحث الثامن : في لواحق هذا الفصل.

مسألة ٩٣٧ : الـمُقرّ به المجهول قد يمكن استعلامه من غير رجوعٍ إلى تفسير الـمُقرّ بأن يحيله على معرّفٍ. وفيه قسمان :

أحدهما : لو قال : له علَيَّ من الدراهم بقدر وزن هذه الصنجة ، أو بالعدد المكتوب في كتاب كذا ، أو بقدر ما باع به فلان عبده ، أو بقدر ما في يدي من الدراهم ، وما أشبه ذلك ، رجع إلى ما أحال عليه.

والثاني : أن يذكر ما يمكن استخراجه بالحساب ، وهو قسمان :

أ - ما اشتمل على العطف ، مثل أن يقول : لزيدٍ علَيَّ مائة درهم ونصف ما لعمرو علَيَّ ، ولعمرو علَيَّ مائة ونصف ما لزيدٍ ، فطريق معرفته بالجبر والمقابلة أن تفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فتقول : لزيدٍ شي‌ء ولعمرو مائة ونصف شي‌ء ؛ لأنّه نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ حينئذٍ مائة وخمسون وربع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط من الشي‌ء ربع شي‌ء مقابلة الربع ، تبقى مائة وخمسون تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالربع خمسون ، والشي‌ء مائتان ، فلزيدٍ عليه مائتان ، وكذا لعمرو عليه مائتان.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ مائة وثلث ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ مائة وثلث ما لزيدٍ ، فلكلٍّ منهما عليه مائة وخمسون ؛ لأنّ لزيدٍ شيئاً ، ولعمرو مائة وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ مائة وثلث مائةٍ وتُسْع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط تُسْع شي‌ء بمثله ، تبقى مائة وثلث مائة تعدل ثمانية أتساع شي‌ء ، فالشي‌ء مائة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٢.

٣٧٤

وخمسون.

ولو قال : لز يدٍ علَيَّ مالٌ ونصف ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ مالٌ ونصف ما لزيدٍ ، فلكلٍّ من زيدٍ وعمروٍ عليه أربعة ؛ لأنّ لزيدٍ شيئاً ، ولعمرو مالٌ ونصف شي‌ء ، فلزيدٍ مالٌ ونصف مالٍ وربع شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط ربع شي‌ء بربع شي‌ء ، يبقى مالٌ ونصف مالٍ يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء مالان ، ولكلّ مالٍ نصفٌ.

مسألة ٩٣٨ : لو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو علَيَّ عشرة وثلث ما لزيدٍ ، نفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فلعمرو عشرة وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ خمسة عشر وسدس شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط السدس بمثله ، تبقى خمسة عشر تعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء ثمانية عشر هي ما لزيدٍ ولعمرو ستّة عشر.

ولو قال : لزيد ستّة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر ونصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ ستّة عشر ، ولعمرو عشرون ؛ لأنّا نفرض ما لزيد شيئاً ، فلعمرو اثنا عشر ونصف شي‌ء ، ولزيدٍ اثنا عشر وربع شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط ربع شي‌ء بمثله ، يبقى اثنا عشر يعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء ستّة عشر ، ولعمرو اثنا عشر وثمانية هي نصف ما لزيدٍ ، فلعمرو عشرون.

ولو قال : لزيدٍ ستّة ونصف ما لعمرو ، ولعمرو اثنا عشر وثلث ما لزيدٍ ، فلزيدٍ أربعة عشر وخُمْسان ، ولعمرو ستّة عشر وأربعة أخماس ؛ لأنّا نفرض ما لزيدٍ شيئاً ، فلعمرو اثنا عشر وثلث شي‌ء ، فلزيدٍ اثنا عشر وسدس شي‌ء يعدل شيئاً ، يسقط سدس شي‌ء من الشي‌ء ، يبقى اثنا عشر يعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة عشر وخُمْسان ، ولعمرو اثنا عشر وثلث أربعة عشر وخُمْسان ، وهو أربعة وأربعة أخماس ، فيكمل لعمرو‌

٣٧٥

ستّة عشر وأربعة أخماس.

ب : ما اشتمل على الاستثناء.

مسألة ٩٣٩ : إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ستّة إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ ستّة إلّا نصف ما لزيدٍ ، نفرض ما لزيدٍ شيئا ، فلبكر ستّة إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ ستّة إلّا ثلاثة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ؛ لأنّك تسقط الربع في مقابلة الربع المستثنى ، فإذا جبرتَ وقابلْتَ ، صارت ستّةً تعدل ثلاثةً وثلاثة أرباع شي‌ء ، فإذا أسقطتَ ثلاثة بمثلها ، بقي ثلاثة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة ، فلكلٍّ منهما أربعة.

ولو قال : لزيدٍ عشرة إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ عشرة إلّا ثلث ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ولبكر عشرة إلّا ثلث شي‌ء ، فلزيدٍ عشرة إلّا خمسة تعدل خمسةَ أسداس شي‌ء ، فإذا جبرتَ وقابلْتَ ، صارت عشرةً تعدل خمسةً وخمسة أسداس شي‌ء ، فإذا أسقطتَ خمسةً بمثلها ، بقي خمسة تعدل خمسةَ أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء يعدل ستّةً ، فهي لزيدٍ ، ولبكرٍ ثمانية.

ولو قال : لزيدٍ عشرة إلّا ثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ خمسة عشر إلّا نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ، ولبكرٍ خمسة عشر إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ عشرة وسدس شي‌ء إلّا خمسة تعدل شيئاً ، يسقط السدس بمثله ، تبقى خمسة تعدل خمسة أسداس شي‌ء ، فالشي‌ء يعدل ستّةً لزيدٍ ، ولبكرٍ اثنا عشر.

واعلم : أنّ الأقسام الممكنة في العطف منفرداً أو الاستثناء منفرداً ثمانية.

أمّا في العطف فأربعة :

أ : أن يتّفق المال فيهما والعطف فيهما.

ب : أن يتّفق المال فيهما ويختلف العطف فيهما.

ج : أن يختلف المال فيهما ويتّفق العطف فيهما.

٣٧٦

د : أن يختلف المال فيهما والعطف فيهما.

وأمّا في الاستثناء فأربعة أيضاً :

أ : أن يتّفق المال فيهما والاستثناء فيهما.

ب : أن يتّفق المال فيهما ويختلف الاستثناء فيهما.

ج : أن يختلف المال فيهما ويتّفق الاستثناء.

د : أن يختلف المال فيهما والاستثناء فيهما.

واعلم : أنّه قد يكو ن في أحدهما الاستثناء وفي الآخَر العطف ، كما إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ألف ونصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ علَيَّ ألف إلّا نصف ما لزيدٍ ، فلزيدٍ ألف ومائتان ، ولبكرٍ أربعمائة ؛ لأنّا نجعل ما لزيدٍ شيئاً فلبكرٍ ألف إلّا نصف شي‌ء ، فلزيدٍ ألف وخمسمائة إلّا ربع شي‌ء تعدل شيئاً كاملاً ، فألف وخمسمائة كملاً تعدل شيئاً وربع شي‌ء ، فالشي‌ء ألف ومائتان هي لزيدٍ ، ولبكرٍ ألف إلّا نصف ما لزيدٍ ، ونصفه ستّمائة تبقى له أربعمائة.

واعلم : أنّه إذا اجتمع العطف في أحدهما والاستثناء في الآخَر ، فقد يتّفق المال وقد يختلف ، ومع الاتّفاق قد يتّفق العطف والاستثناء وقد يختلف ، وكذا مع الاختلاف. وعلى كلّ تقدير فقد يقع الاستثناء في الأوّل والعطف في الثاني ، وبالعكس. فعليك باستخراج ذلك كلّه ، فإنّه سهل بعد ما أعطيناك من القانون.

واعلم : أنّه قد يزيد الإقرار على اثنين. وحكمه كما تقدّم.

فلو قال : لزيدٍ علَيَّ ستّون مثقالاً ونصف ما لعمروٍ - والتقدير على سبيل التسهيل أنّ المثقال يساوي ثلاثةً وعشرين درهماً ، كما في زماننا - ثمّ قال : ولعمرو عندي ستّون وثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ ستّون وربع ما لزيدٍ ، فلزيدٍ شي‌ء ، ولبكرٍ ستّون وربع شي‌ء ، ولعمرو ثمانون مثقالاً وثلث ربع‌

٣٧٧

شي‌ء ، فلزيدٍ مائة وسدس ربع شي‌ء تعدل شيئاً ، يسقط سدس ربع شي‌ء بسدس ربع شي‌ء ، تبقى مائة تعدل ثلاثة أرباع شي‌ء وخمسة أسداس ربع شي‌ء ، فالشي‌ء أربعة وعشرون ، فمائة مثقال تعدل ثلاثة وعشرين جزءاً من أربعة وعشرين ، فإذا بسطْتَ مائة مثقال على ثلاثة وعشرين جزءاً ، كان نصيب الجزء أربعة مثاقيل وثمانية دراهم.

مسألة ٩٤٠ : إذا قال : لزيدٍ علَيَّ ألف درهم إلّا نصف ما لبكرٍ ، ولبكرٍ علَيَّ ألف إلّا ثلث ما لزيدٍ ، فلمعرفة ذلك طُرق :

أ : أن نجعل لزيدٍ شيئاً ونقول : لبكرٍ ألف إلّا ثلث شي‌ء ، فنأخذ نصفه - وهو خمسمائة إلّا سدس شي‌ء - ونسقطه من الألف ، تبقى خمسمائة وسدس شي‌ء ، وذلك يعدل شيئاً المفروض لزيدٍ ؛ لأنّه جعل له ألفاً إلّا نصف ما لبكرٍ ، فيسقط سدس شي‌ء بسدس شي‌ء ، تبقى خمسة أسداس شي‌ء في مقابلة خمسمائة ، فيكون الشي‌ء التامّ ستّمائة ، وهو ما لزيدٍ ، فإذا أخذتَ ثلثها مائتين وأسقطتَه من الألف ، تبقى ثمانمائة ، وهو ما أقرّ به لبكرٍ.

ب : أن نجعل لزيدٍ ثلاثة أشياء ؛ لاستثنائه الثلث منه ، ونسقط ثلثها من الألف المضاف إلى الاثنين ، فيكون لهما ألف ناقص شي‌ء ، ثمّ نأخذ نصفه وهو خمسمائة ناقصة بنصف شي‌ء ، وتزيد على ما فرضناه لزيدٍ وهو ثلاثة أشياء ، يكون خمسمائة وشيئين ونصف شي‌ء ، وذلك يعدل ألف درهم ، تسقط خمسمائة بخمسمائة ، تبقى خمسمائة في مقابلة شيئين ونصف شي‌ء ، فيكون الشي‌ء مائتين ، وقد كان لزيدٍ ثلاثة أشياء ، فهي إذَنْ ستّمائة.

ج : أن نقول : استثنى من أحد الإقرارين النصفَ ومن الآخَر الثلثَ ، فنضرب مخرج أحدهما في مخرج الآخَر يكون ستّةً ، ثمّ ننظر في الجزء‌

٣٧٨

المستثنى من الإقرارين ، وكلاهما واحد ، فنضرب واحداً في واحدٍ يكون واحداً ننقصه من الستّة تبقى خمسة ، فنحفظها ونسمّيها المقسوم عليه ، ثمّ نضرب ما يبقى من مخرج كلّ واحدٍ من الجزءين - بعد إسقاطه - في مخرج الثاني ، وذلك بأن نضرب ما يبقى من مخرج النصف بعد النصف - وهو واحد - في مخرج الثلث - وهو ثلاثة - تحصل ثلاثة نضربها في الألف المذكورة في الإقرار يكون ثلاثة آلاف نقسّمها على العدد المقسوم عليه - وهو خمسة - يخرج نصيب الواحد ستّمائة ، فهي ما لزيدٍ ، ونضرب ما يبقى من مخرج الثلث بعد الثلث - وهو اثنان - في مخرج النصف - وهو اثنان - يكون أربعةً نضربها في الألف يكون أربعة آلاف نقسّمها على الخمسة ، يخرج من القسمة ثمانمائة ، وهي ما لبكرٍ.

ولو قال : لزيد علَيَّ عشرة إلّا ثلثي ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلاّ ثلاثة أرباع ما لزيدٍ ، نضرب المخرج في المخرج يحصل اثنا عشر ، ثمّ نضرب أحد الجزءين في الثاني ، وهو اثنان في ثلاثة ، يكون ستّةً نسقطها من اثني عشر تبقى ستّة ، ثمّ نضرب الباقي من مخرج الثلث بعد إخراج الثلثين - وهو واحد - في أربعة ، يكون أربعةً نضربها في العشرة المذكورة في الإقرار يكون أربعين نقسّمها على الستّة يكون ستّةً وثُلثين ، وذلك ما أقرّ به لزيدٍ. ثمّ نضرب واحداً وهو الباقي من مخرج الربع بعد إخراج الأرباع الثلاثة ، يكون ثلاثةً نضربها في العشرة يكون ثلاثين نقسّمها على الستّة يكون خمسةً ، وهي ما أقرّ به لعمرو.

والطريقان الأوّلان يجريان في أمثال هذه الصُّور بأسرها.

وأمّا الطريق الثالث فإنّه لا يطّرد فيما إذا اختلف المبلغ المذكور في الإقرارين.

٣٧٩

وإذا تكثّرت الإقرارات ، احتاج إلى تطويلٍ ليس هذا موضعه ، كما لو قال : لزيدٍ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلّا ثلث ما لبكرٍ ، ولبكرٍ عشرة إلّا ربع ما لزيدٍ.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو ستّة إلّا ربع ما لزيدٍ ، يكون مُقرّاً لزيدٍ بثمانية ، ولعمرو بأربعة.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لعمرو ، ولعمرو عشرة إلّا ربع ما لزيدٍ ، يكون مُقرّاً لزيدٍ بخمسة وخمسة أسباع ، ولعمرو بثمانية وأربع أسباع.

وقد يتصوّر صدور كلّ إقرارٍ من شخصٍ بأن يدّعي مالاً على زيدٍ وعلى عمرو ، فيقول زيد : لك علَيَّ عشرة إلّا نصف ما لك على عمرو ، ويقول عمرو : لك علَيَّ عشرة إلّا ثلث ما لك على زيدٍ. وطريق الحساب ما تقدّم.

مسألة ٩٤١ : لو أقرّ لزيدٍ بجميع ما في يده أو بجميع ما ينسب إليه أو يعرف به ، صحّ الإقرار ، فلو تنازع الـمُقرّ و الـمُقرّ له في شي‌ء هل كان في يد الـمُقرّ وقت الإقرار أو لا؟ فالقول قول الـمُقرّ ، وعلى الـمُقرّ له البيّنة ؛ لأصالة الاستصحاب ، وقضاء اليد بالملكيّة ، وعدم سبق النسبة على الإقرار.

ولو قال : ليس لي ممّا في يدي سوى ألف ، صحّ الإقرار ، وعُمل بمقتضاه.

ولو قال : لا حقّ لي في شي‌ء ممّا في يد فلان ، ثمّ ادّعى شيئاً منه وقال : لم أعلم كونه في يده يوم الإقرار ، صُدّق بيمينه.

ولو قال : لزيدٍ علَيَّ درهم أو دينار ، لزمه أحدهما ، وطُولب بالتعيين.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501