تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: 501

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180047 / تحميل: 5851
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٥

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٦-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

التعليم في الإسلام

٨١

٨٢

التعليم في الإسلام

اتجاهان رئيسان في التّربية والتّعليم

الدراسة والتدريب

يجب أن نفصل بين اتّجاهين في أمر التربية والتعليم. ويُعرّف هذان الاتّجاهان في الأوساط التربوية بالدراسة، والتدريب، علماً بأنّ بعض المربِّين ينظر إليهما على أنّهما اتّجاه واحد، معتبرين الدراسة هي التدريب نفسه.

طريقة تعلّم الإنسان

يتعلّم الإنسان في حياته كثيراً من الأشياء، ويُمارس أفراد النوع الإنساني عادات متنوّعة خلال المراحل المختلفة للنمو. ويمكن القول بأنّ رغبات الإنسان تعلّمية أيضاً، لأسباب متنوّعة وتمثّل بعض رغباته حاجاته الأساسية التي كانت تعتبر في الماضي غرائز. وهذه الرغبات نفسها من حيث الشكل يتمّ تعلّمها بأشكال متباينة في الحضارات المتنوّعة. فالرغبة في الاستطلاع والرغبة في الحياة مع الآخرين، والرغبة في الطعام، والرغبة في الحركة والنشاط، والرغبة في الاستراحة، هي من الرغبات الجوهرية للإنسان. بيد أنّ ظهورها وإشباعها يختلفان تبعاً للحضارات المتنوّعة، والشرائح الاجتماعية المعيّنة. فبعض الرغبات من نحو الرغبات المتعلّقة بالنشاطات العلمية، ومطالعة الكتب، والنشاطات النفنيّة،

٨٣

والرياضة، والنشاطات الاجتماعية، والنشاطات الدينيّة على صعيد واسع هي رغبات تعلّميّة. ولابدّ للإنسان أن يكتسب مهارات معيّنة في تعامله مع الطبيعة، ومع بني جنسه، وكذلك في تعامله مع مختلف المسائل والمشاكل. تبدأ هذه المهارات من أشكال بسيطة، نحو: قطف الثمار، وفصل الحبوب، وتنتهي بمهارات معقّدة من نحو: تصليح السيّارة والباخرة، وكذلك المهارات الفكرية في التعامل مع مختلف المسائل، فهذه المهارات يتمّ تعلّمها أيضاً.

مضافاً إلى العادات والرغبات والمهارات، فإنّ الإنسان - تدريجاً وفي ظلّ دراسة الظواهر المتنوّعة - يقوم بتدوين العلم والفلسفة والفن والأخلاق، ويأتي بمعلومات متنوّعة في هذه الحقول. ومن أجل أن يتعرف الأشخاص على الظواهر، لابدّ لهم من الحصول على المعلومات الضرورية، وعلى نفس النسق، فإنّ فهم الأفراد للأُمور المختلفة، وكذلك طريقة حياتهم، من الأشياء التي يتعلّمونها.

إنّ الحديث يدور حول كيفية تعلّم الإنسان لهذه الأشياء. مضافاً إلى ذلك، فإنّ القضية الأساسية تتمثّل في الشكل الذي تتحقق فيه طريقة التعلّم، والظروف التي تكون فيها مفيدة للإنسان، بحيث تحدث تطوّرات جذرية في سلوكه. وبالنظر إلى أنّ الدراسة ترتبط بعملية التعلّم، لذلك يجب أن نلحظ كيف يتّخذ هذا الاتّجاه طابعاً تربوياً.

اتجاهان في التعلّم

الأول: التدريب(*)

إنّ مدرسة السلوك هي واضعة الحجر الأساس لهذا الاتّجاه، فلقد طُرح التعلّم

____________________

(*) ويطلق عليه الترويض، والترابط، ويعبّر عنه بعض العلماء بقولهم: النظرية الترابطية لوجود الترابط بين المثير والاستجابة. المعرِّب.

٨٤

عن طريق التدريب، أو بتعبير علمي أدق عن الطّريق الترابطي أو الشرطي من قِبَل العالم الروسي (بافلوف)، حيث تنبّه هذا العالِم إلى البعد الشرطي في السلوك من خلال دراسته لسلوك الكلب وردّ الفعل الذي أبداه حيال المثير. ولحظ في تجاربه أنّ مجاورة شيء - من طبيعته أنّه يدفع الحيوان إلى إبداء ردّ فعل معيّن - يؤدّي إلى انتقال ردّ فعل الحيوان إلى ذلك الشيء. وكان (بافلوف) يعلم بأنّ الكلب عندما تقع عينه على قطعة من اللحم، يسيل لعابه ذاتياً، فالقطعة هي المثير أو العامل الطبيعي، والحيوان يبدي ردّ فعل حياله لا إرادياً، وسيل اللعاب في فم الكلب هو ردّ فعل أيضاً إزاء مشاهدة اللحم. فعَلِم (بافلوف) بأنّه لو تمّ قرع الجرس، متزامناً مع تقديم قطعة اللحم أمام الكلب، وتكرر هذا الأمر في ظرف خاص، فإنّ صوت الجرس - بوصفه مثيراً شرطيّاً أو غير طبيعي - هو الذي يحدث ردّ الفعل الطبيعي أو سيل اللعاب. بكلمة بديلة، يتدرّب الكلب على إبداء ردّ الفعل الطبيعي بمجرّد سماع صوت الجرس، وذلك بسبب مجاورة صوت الجرس لقطعة اللحم. وفي المعسكرات تتدرّب الخيول على النوم تدريجاً بمجرّد سماع صوت الصفّارة، علماً أنّه في بادئ الأمر كان الجنود يجبرون الخيول على النوم بمجرّد سماع صوت الصفّارة، بيد أنّ صوت الصفّارة ذاتياً أحدث ردّ الفعل هذا عند الخيول تدريجاً.

يتعلم الإنسان كثيراً من الأشياء عن هذا الطريق أيضاً. على سبيل المثال، يتعلم الأطفال أسماء الأشياء عن هذا الطريق، ففي البداية يسمع الأطفال كلمات ليس لها معنى عندهم، بيد أنّ مجاورة هذه الكلمات للأشياء أو الحركات المعيّنة تفضي إلى تعلّمها من قبلهم.

وهنا يصرّ أتْباعُ مدرسة السلوك أن يفسّروا جميع نشاطات الإنسان في ضوء هذا الاتّجاه، حتى أنّهم يرون أنّ الإدراك البسيط للأشياء، وكذلك الممارسات المعقدة كالتفكير والاستدلال، تخضع للتفسير وفقاً لهذا الاتّجاه.

وكما تقدّم، فإنّ الإنسان لا يتعلم أسماء الأشياء بهذا المنحى فحسب، بل

٨٥

يمكنه أن يحصل على معلوماته بواسطته أيضاً. على سبيل المثال، نجد الطفل الموهوب يقوم بما يسمّى تعلّم القصيدة وعنوانها أو حفظها. ففي بادئ الأمر، نرى أنّه لا يتبادر إلى ذهن الطفل أيّ موضوع من وراء عنوان القصيدة، بيد أنّ تكرار العنوان ومجاورته لأبيات معيّنة يجعلان الطفل يقرأ تلك الأبيات بمجرّد ذكر العنوان. كما يلحظ أنّ الفهم والتعقّل غير ضروريين في مثل هذه الحالة. وفي الأعمّ الأغلب، فإنّ الطلاّب يتعلمون مواضيع درس ما على نفس النسق، حيث يطرح المعلّم عنوان الموضوع، ثم تستتليه مباشرة ما يتعلّق به من آراء أو مواضيع.

إنّ مجاورة العنوان للمواضيع تُحدِثُ علاقةً ميكانيكية في ذهن الطالب، فبمجرّد طرح العنوان، تأتي المواضيع في ذهنه تباعاً. ويصادف أحياناً أن تكون ذاكرة الطلاّب جيّدة، فيستطيعون أن يستعيدوا شريط المواضيع المسموعة أو المقروءة بسهولة، وأحياناً يعتريهم خلل عند تذكّر المواضيع. وعندما تكون هناك حلول معيّنة للمسائل المتنوّعة، وتطرح كلّ مسألة مع حلولها، فإنّ هذه الحلول تباشر ذهن الطالب اوتوماتيكيّاً بمجرّد طرح المسألة.

بيد أنّ الإنسان يمكن أن يتعلّم حتى أسماء الأشياء عن طريق الفهم والتعقل. لقد أصبحت نظرية بافلوف في الإتّحاد السوفيتي (سابقاً) أساس الدراسات الخاصّة بعلم النفس والطبّ النفساني. ويفاد من هذه النظرية أيضاً في الدراسة، ثم أصبحت هذه النظرية - كما ذكرنا - أساس مدرسة السلوك في الولايات المتّحدة.

لقد جاء بعد واتسون، عالم النفس الأميركي: (سكينر)، فواصَلَ أبحاثَه حول ردّ الفعل الشرطي، وبادر إلى طرح النظرية الشرطية - العملية. وفي ضوء هذه النظرية، فإنّ الكائن الحي يقوم بنشاط معيّن إرادياً، ولو كان هذا النشاط مقروناً بالمكافأة، فإنّ الكائن الحي سيقوم بنفس النشاط في ظروف خاصّة مستقبلاً. وعلى هذا الأساس، فإنّ المكافأة ترسّخ سلوكاً معيّناً فيه. والعقوبة أيضاً تردع الكائن الحي - بنفس الشكل - عن القيام بذلك النشاط. فلا ريب أنّ المكافأة والعقوبة

٨٦

مؤثّرتان في ترسيخ سلوك معيّن أو تركه، ويخضع أفراد النوع الإنساني لتأثير هذين العاملين أيضاً.

كان لآراء (سكينر) تأثير بالغ في نظام التربية والتعليم في أميركا، حتى قامت بعض المدارس التربوية بجعل آرائه أساساً لبرامجها التعليميّة.

وهنا لا ننوي أن نتحدث حول النظرية الشرطية، علماً بأنّ ثمّة شبهاً واختلافاً بين النظرية الشرطية الكلاسيكية المتوكّئة على تجارب (بافلوف)، وبين النظرية الشرطية - العملية. فيجب الرجوع إلى كتب علم النفس، للحصول على معلومات أكثر في هذا المجال.

بيد أنّ المقطوع به هو تأثّر النظام التربوي في أميركا بتعاليم (واتسون) و(سكينر) وبقيّة رجال مدرسة السلوك. وبالرغم من أنّ (ديوي) وعدداً من المتخصّصين في حقل التربية والتعليم لم يثمّنوا مدرسة السلوك أو الاتّجاه الشرطي من الناحية التربوية، بيد أنّ كثيراً من المربّين تأثّروا بأُسس هذه المدرسة. من جهة أُخرى، بما أنّ الأبحاث التجريبيّة في هذا المجال تجري بشكل أيسر، وأنّ الباحثين يقدّمون نتائج تجاربهم بالإفادة من التقنيات الإحصائية غالباً، لذلك توجّهت أنظار الأوساط التربوية إلى هذه المدرسة أكثر. وسوف نلحظ أنّ البحث التجريبي فيما يخصّ الفهم والتعقّل لا يتحقّق بسهولة، لذلك فإنّ كثيراً من علماء النفس يبدون اهتماماً أقل بمثل هذه الأمور. وسوف نلحظ في البحوث القادمة بأنّ الفهم والتعقل يشكّلان أساس الدراسة.

الثاني: الدراسة

تخرج عملية التعليم من شكلها الميكانيكي في هذا الاتّجاه، وقد رأينا في حديثنا عن التدريب أنّ مجرّد المجاورة أو التضاد أو الشبه، يكفي بعقد صلة بين أمرين، فينتقل ذهن الإنسان من أمرٍ إلى آخر ذاتياً، أو ينتقل ردّ فعله من أحدهما

٨٧

الى الآخر.

وللتفكير دورٌ أساس في هذا الاتّجاه. فما يريد الإنسان أن يتعرّف عليه أو يتعلّمه، يجب أن يتّخذ طابع المشكلة ليثير تفكيره، وعندها ينبري للتعرّف على الموضوع أو تعلّمه.

إنّ تعلّم اسم الأشياء - حتى في هذا الاتّجاه - بالفهم والتعقّل أيضاً. يقوم الإنسان بتحليل الظرف المحيط به حتى يتسنّى له تحديد المشكلة ذات العلاقة أو الموضوع المراد معرفته. في الآن ذاته، تدخل عناصر ظرف ما، أو إدراك الصلة بين المشكلة ذات العلاقة مع المشاكل الأُخرى، ضمن النشاطات الأساسية في هذا الاتّجاه. وعندما تتحقّق المعرفة أو التعلّم عن طريق طرح المشكلة، فإنّ الشخص يتوفّر على تشخيص تلك المشكلة، ويكون مرغماً على تحديد عناصر أو أجزاء المشكلة، وإدراك صلتها مع بعضها، ثمّ الأخذ بنظر الاعتبار كيفيّة التعامل مع مثل هذه المشاكل ضمن الإفادة من تجاربه، وعند ذلك يبادر إلى حلّ المشكلة. فنشاطه - بعامّة - يشكّل أساس العمل، والمعلّم - هنا - يؤدّي دور المرشد والموجّه، وعلى الشخص نفسه تبيان المشكلة.

ولابدّ له أن ينظّم تجاربه الشخصيّة فيما يخصّ المشكلة المعنيّة، ويستفيد من تجارب الآخرين، ويجعل تجاربه مع تجارب الآخرين في خطّة منطقيّة، ويحاول - عن هذا الطريق - أن يدوّن العلاج الأساس، ووجهة النظر التي ساعدته على معرفة الموضوع. بعامّة، فهو يدرس ويقوّم الأُمور المختلفة عن طريق التفكير والتعقّل، ويبادر هو بنفسه إلى معرفة الموضوع المعنيّ أو علاج المشكل بالإفادة من توجيهات الآخرين.

الاتّجاه التربوي في عصرنا

إنّ الاتّجاه التربوي في عصرنا متوكّئ على التدريب أو الترابط الشرطي، لعدّة

٨٨

أسباب: الأوّل: إنّ مدرسة السلوك في علم النفس تعزّز هذا الإتّجاه.

فكما تقدّم، أنّ العالم الفسلجي الروسي (بافلوف) يعتبر الترابط الشرطي أساس السلوك الاعتيادي وغير الاعتيادي، ويجري النظام التعليمي في الاتّحاد السوفيتي وفقاً لهذه النظرية.

الثاني: إنّ بعض الأبحاث في حقل علم النفس تدعم النظرية الشرطية في تعلّم الأمور المتنوّعة. كما قلنا - فيما سبق - فإنّ قياس التعلّم عن الطريق الشرطي، وتوقّع نتائجه يخضع للبحث والدراسة بشكل أيسر. بكلمة بديلة، يمكن قياس ما يتعلّمه المرء نتيجة مجاورة شيئين، وهذا قابل للتوقّع في حالات مماثلة. فالتعلّم عن هذا الطريق أيسر. يطرح المعلّم موضوعاً، ويكرّره، وبعد التكرار يمكنه أن يتوقّع بأنّ الطالب قد تعلّم ذلك الموضوع. وكذلك على الصعيد العملي. وعند تعلّم كثير من الأُمور، فإنّ للمكافأة دوراً حاسماً. وعالم النفس يستطيع أن يحدّد هذا الدور أثناء التجربة، ويتوقع أثره. لذلك يبدو أنّ للإتكاء على النظرية الشرطية بعداً علمياً. ومن هذا المنطلق، فهي تقنع المربّي. والتعلّم عن هذا الطريق ينسجم أكثر مع التفسير الماديّ لنشاطات الإنسان.

الثالث: إنّ الإنسان - كما ذكرنا آنفاً - يقبل كثيراً من الأُمور عن الطريق الشرطي. عندما شاركت في المؤتمر العالمي للتربية والتعليم في بلجيكا، كان أحد المتخصّصين في التربية والتعليم يتحدث عن (التأهيل الاجتماعي) و(الإعداد الثقافي) للأشخاص، وكان موضوع المؤتمر: التربية والتعليم عن طريق نموّ الشخصية. فتحدّثتُ مع أخصائي ألماني حول التأهيل الاجتماعي والإعداد الثقافي ودورهما في نموّ شخصية الفرد، فقلت له: إنّ التأهيل والإعداد عمليتان شرطيتان، فإذا وضعوا الإنسان في وسط اجتماعي معين، فإنّه يتعلم التقاليد والآداب الاجتماعية ذاتياً، كما إنّ ولادة فرد من الأفراد ونشأته في مجتمع معين، تفضيان إلى أن يتعلّم ذلك الفرد لغة ذلك المجتمع. كذلك فإنّ لتأهيل الفرد اجتماعياً - بالشكل الذي يجعلونه في

٨٩

وسط اجتماعي معين، ويتعلّم التقاليد والآداب ذاتياً - بعداً شرطياً لا ينسجم مع اتجاه الدراسة.

إنّ حضور الفرد في شريحة اجتماعية، وتعامله المكرر مع ذلك الموقع يؤدي إلى أن يتعلّم أشياء معيّنة ذاتياً، وكما قلنا سالفاً، فإنّ هذه الطريقة من التعلّم لا تقترن بالفهم والتعقّل، وفي هذه العملية يؤهّلون الفرد اجتماعياً أو يعرّفونه على تقاليد وآداب معيّنة، وبواسطة هذا العمل يهيّئون مستلزمات انسجامه مع المجتمع.

الرابع: إن ما هو قائم في المجتمعات الغربية من نظام مثالي تقرّه الحضارة الغربية نفسها، وعليه طابع ديني وإنساني شكلياً، بيد أنّه - في الحقيقة - ضد الدين والأخلاق والإنسانية - يُملى على الطلاب ويُلَقَّنونه. وكما نعلم، فإنّ الاستعمار والاستغلال من سمات الحضارة الغربية، حيث إنَّ خلفيات دول مثل: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتّحدة، في علاقاتها مع الدول النامية تدلّ على الطابع الاستعماري والاستغلالي الذي تَتَسم به توجّهات تلك الدول. وقد خرج الدين - بشكل عام - عن شكله الحقيقي فيها، حيث تمّ حصره في ما يسمّى بقوالب ومبادئ لا تخضع للبحث والدراسة.

لقد سلبت المنظّمات الدينية - مع رعاية تسلسلها الهرمي - الفرصة من الأفراد لإبداء وجهات نظرهم. والنشاطات الدينية ذات بعد رسمي غالباً، أو أنّها تأخذ طابع ما يسمّى بالأعمال الخيرية. يسيطر النظام الرأسمالي على الحضارة الغربية. والدين أيضاً يخضع لنفوذ هذا النظام. وبالرغم من وجود توجّهات اشتراكية وديموقراطية في بعض المجتمعات الغربية، بيد أنّ هذه التوجّهات تخضع أيضاً لنفوذ الحضارة الغربية والاتّجاه الاستعماري والاستغلالي لها بكلّ قوّة.

فعندما يؤخذ أربعة مستشارين كرهائن في مكان ما، أو يقع (جومبو) أو (محمد رضا بهلوي) في مأزق، فإنّ جميع الأوساط السياسية والدينية والاجتماعية الغربية ترفع أصواتها بالاحتجاج. ولكن عندما يُذبح مائة شخص بريء من الناس

٩٠

العُزّل، فلا أحد ينبس ببنت شفة، إلاّ بعض وكالات الأنباء، إذ قد تذكُر خبرهم بشكل عابر. والقصد هو أنّ الاشتراكية، والدين، والديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان تطرح في إطار معيّن، وتفقد هذه المفاهيم معناها الحقيقي في علاقات الدول الغربية مع دول العالم الثالث أو الدول النامية، وتطرح بشكل مشوّه، وما أبدته الأوساط المتنوّعة حول السفارة الأميركية في طهران، يدعم وجهة نظرنا حول الموضوع.

يصرّح (كارتر) بأنّه يمتنع عن تسليم (محمد رضا بهلوي) التزاماً بالمبادئ التي يؤمن بها على حدّ زعمه، ولا يبالي بأيّ تهديد في هذا الشأن، ثمّ يصدر أوامره بتجميد الأموال الإيرانية الموجودة في الولايات المتحدّة، وكذلك يأمر بمنع استيراد النفط من إيران. وثمّة سياسيّون آخرون في أميركا من أمثال: (إدوارد كيندي)، و(مك غاورن)، يعلنون عن دعمهم للإجراءات التي اتّخذها (كارتر). وعلى أثر الدعايات التي تبثّها الحكومة الأميركية، يقوم أفراد من الشعب الأميركي بمهاجمة الإيرانيين المقيمين في أميركا، وتنشر الإذاعة والتلفزيون وبعض الصحف والمجلاّت ما تطلبه الحكومة الأميركية منها.

وتَعتبر بعض وكالات الأنباء وبعض الإذاعات، مثل: الإذاعة البريطانية - نقلاً عن معلّقيها - مسألة حجز بعض الأميركيين كرهائن مخالفاً للعهود والمواثيق الدولية، وبعيداً عمّا يتوقّع من شعب متحضّر. ويرسل البابا ممثّلاً عنه للتوسّط في قضية إطلاق سراحهم، ويطالب مجلس الأمن بالإفراج عنهم أيضاً.

إنّ أكثر هذه الأوساط تدين إيران على أساس المعايير الإنسانية، بزعمها، وبذريعة عدم مراعاة العهود والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، ولا أحد يثير السؤال التالي: هل إنّ السفارة الأجنبية مركز للتفاهم، وتبادل وجهات النظر، وتوطيد العلاقات الوديّة بين البلدين، أو هي مركز للتآمر والتجسّس والتحريض ضدّ الشعب؟ ولا أحد يسأل: لماذا سمحتْ أميركا للشاه أن يدخل أراضيها؟ ولماذا دعمته؟ فهل هذا العمل هو

٩١

كما تزمّر الأبواق الإعلامية بأنّه عمل إنساني منبثق عن حب الإنسان؟ ولو كان كذلك، فلماذا لا تسمح أميركا لبعض الناس غير الرسميّين أن يسافروا إليها للعلاج؟ هل إنّ دعم الولايات المتّحدة للشاه من أجل مراعاة حقوق الإنسان؟ أمْ هو إيواء لرجل دموي فاسد محتال وعميل لها؟ هل إنّ اقتراح الطلبة الجامعيّين الذين احتجزوا الرهائن، هو شيء آخر غير محاكمة مجرم دولي؟ ألا يجب على الأوساط المسمّاة بالأوساط الحضارية أو التقدمية أن تدعم قضية تسليم مثل هذا المجرم؟ إنّ دعاء (كارتر) للرهائن في الكنيسة يدلّ على إدراكه لقضية الدين. وما يتّضح من هذه الحادثة الصغيرة هو أنّ الأوساط الغربية لا تنادي بالديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، والأخلاق، والدين، والعلاقات الدولية، ومُثُل إنسانية أُخرى إلاّ على أساس المصالح الاستعمارية. طبيعياً، أنّ هذه الحالة وحدها ليست دليلاً على هذا التقويم والحكم، بيد أنّ ما يُلحَظ في التاريخ المعاصر للمجتمع البشري من علاقات الدول الغربية مع الدول الضعيفة يدعم هذه الحقيقة، ولو كان هناك متكلّم أو كاتب يدافع عن المثل الإنسانية، فإنّه لايصمد أمام أجهزة الدعاية الإعلامية في الغرب، ولا يصل صوته إلى مكان.

إنّ الأجهزة التربوية في الدول الغربية - سواء كانت واعية أو غير واعية - تقع تحت تأثير النُظُم الموجودة فيها. وبالرغم من أنّ الحديث في بعض الأوساط التربوية الغربية يدور حول حريّة الفكر والديمقراطية، بيد أنّ المعلّمين يلقّنون الطلاّب أفكاراً وآراء ونزعات معيّنة بصورة غير مباشرة. وفي المجال التاريخي والاجتماعي، تقدّم الحقائق الملموسة إلى الطلاّب غالباً بشكل مشوّه، وعندما يلتقي الأجانب بطلاّب المدارس والجامعات في المجتمعات الغربية، يشعرون إلى أيّ مدى يعيش هؤلاء الطلاّب بمنأى عن الحقائق الواقعية. أما وسائل الإعلام فهي ناطقة باسم هذه النظم إلى حدّ بعيد، وهي تملي على الشعب آراء خاصّة، وحقائق معيّنة، وأساليب استنباط محدودة، ونزعات خاصّة. ويبدو أنّ الأشخاص أحرار في اختيار

٩٢

الدين، واتّخاذ نهج معيّن، وإيجاد نزعات اجتماعية، والمناقشة والتعبير عن آرائهم حول مختلف المسائل، بيد أنّ الدعايات الإذاعية، والمقالات الصادرة في الصحف والمجلاّت، تؤثّر على أُسلوب التفكير الذي ينهجه الناس، وتقوم الشركات التجارية الكبرى - عادة - والفئات المتنفّذة، ومنظّرو الأحزاب بجعل أفكار الناس حسب الشكل الذي يريدونه، وذلك عن طريق الصحف، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.

بإيجاز، إنَّ هناك آراء وتصوّرات معروفة سابقاً، تُلقى على الناس، سواء في الأجهزة التربوية، أو في وسائل الإعلام، حتى عندما يدور الحديث حول المسائل الاجتماعية والسياسية.

في الأقطار الشيوعية، تسيطر الإيديولوجية الماركسية - من خلال نظام فكري معيّن - على الشؤون الفكرية والتربوية للمجتمع، وفي مثل هذه الأقطار، فإنّ الفرضية تقضي بأنّ هذه الإيديولوجية حدّدت معالم الحركة الفكرية للإنسان في المجالات المتنوّعة، ولا سيّما في: علم الاجتماع، علم النفس، الفلسفة، التاريخ، وفي بعض الفروع العلمية، وهذا الفهم يسيطر على المؤسّسات التربوية والعلمية، وعلى وسائل الإعلام أيضاً.

إنّ عمل التربية والتعليم هو - إلى حدّ بعيد - تقديم الإيديولوجية المتبناة والتعريف بها. وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الإيديولوجية تأخذ طابعاً رسمياً. بكلمة بديلة، فإنّ تفسير الإيديولوجية من شأن العلماء الثقاة، والممثّلين الرسميين للحزب. وجميع الأفراد لا يستطيعون مناقشة الإيديولوجية، وإبداء انطباعاتهم عنها بحريّة. في المؤتمر العالمي آنف الذكر، وبعد أن ألقى ممثّل ألمانيا الشرقية كلمته، وجهّت إليه سؤالاً، فقلت له: أَنتم تعلمون بأنّ الاستقلال الفكري هو روح التربية والتعليم، وعمل المربّي هو إعداد الأفراد الذين يمارسون أعمالَهم مستقلّين في عملية التفكير، وأنتم في مدارسكم تفرضون إيديولوجيّتكم، وتريدون من الطلاّب قبولها، فهنا يثار سؤال هو: كيف ينسجم فرض إيديولوجية معيّنة مع الاستقلال الفكري؟

٩٣

ومن هذا المنطق، فلا يمكن الحديث عن التربية والتعليم في مثل هذه الحالة.

لذلك فإنّ الاتّجاه التربوي الأساس في الظروف المعاصرة - سواء بين الغربيّين أو الشرقيّين - ينسجم مع التدريب أكثر من انسجامه مع الدراسة الصحيحة.

إنّ الفهم ذا البعد الواحد لماهيّة الإنسان - الإنسان كالحيوان ويفترق عنه في بعض الأمور - والإصرار على أنّ الإنسان يتعلّم الأمور المختلفة كالحيوان، والسعي لتفسير عملية التعلّم، والتفكّر، وإبداع الإنسان عن الطريق الشرطي والبعد العلمي، ومحاولة فرض نظام خاص في المجتمعات الغربية، وفرض إيديولوجية معيّنة في المجتمعات الشيوعية، كل ذلك يخرج العملية التربوية عن صورة الدراسة الحقيقيّة، ويجعلها في صورة التدريب. وقبل أن نقوم بدراسة التربية والتعليم في الإسلام، نذكر سمات هاتين العمليتين.

التدريب

التيار الشرطي: ذكرنا فيما سبق أنّ أساس التدريب هو إحداث ردّ فعل شَرْطيّ عند الفرد. ومن خلال ذكر عنوان ما، وطرح مواضيع معيّنة، وتكرار هذا الأمر، تتكون علاقة بين ذينك الشيئين في ذهن الفرد، وينقل الفرد المواضيع المطروحة إلى ذهنه ذاتياً بمجرّد طرح العنوان. لذلك فإنّ الشرط الأساس في مثل هذا اللون من التعلّم هو وجود المجاورة والتكرار والتمرين. فكما يسمع الطفل اسم الشيء مقروناً معه مرّات عديدة، فيتعلّم اسم ذلك الشيء ذاتياً، كذلك يتعلّم مختلف الأمور عن طريق وسائل الإعلام أو في الصف.

يذكر المعلّم عنوان بحث ما، تتلوه مواضيع خاصّة تتعلّق به، يكرّر ذلك العمل، نلحظ هنا أنّ التكرار يفضي إلى أنّ المواضيع المطروحة ترتبط مع عنوان البحث، عند ذلك يتذكّر الطالب الموضوع المطلوب من خلال طرح العنوان.

وعندما يكون عمل المعلّم طرح مواضيع معيّنة، سواء كانت نظريات علمية، أو

٩٤

نظاماً مثاليّاً خاصّاً أو أفكاراً وعقائدَ معيّنة، ففي مثل هذه الحالة تنتقل المواضيع إلى ذهن الطالب عن طريق التكرار، ويتّخذ الامتحان طابع عرض المعلومات المخزونة في الذهن. يذكر الطالب عنوان بحثٍ لنفسه، فيقرأ المواضيع المتعلّقة به في كتاب أو كرّاس، وبتكرار هذا العمل، يودع أشياء في ذهنه، تنساب إلى الورق عند الامتحان.

كما ذكرنا آنفاً، لو تمّ عرض المواضيع العلمية، وطرح المبادئ الأخلاقية، وانتقال أُسس إيديولوجية ما بهذا الشكل، فإنّ الطالب يستطيع أن يتعلم المواضيع عن طريق التكرار والتمرين. وكما أنّ اللاعبين في السيرك يعلّمون الحيوانات القيام ببعض الأعمال. ومن خلال المجاورة بين قرع الجرس أو تحريك الخشبة، أوأيّ نشاط خاص، يدفعون الحيوان إلى القيام بالفعل، بنفس الشكل ينقل المعلّمون أو وسائل الإعلام موضوعاً ما إلى ذهن الأشخاص.

التلقين: في عملية التدريب يتقبّل الطالب ما يُعرض عليه، فعندما يُلقي المعلّم موضوعاً، ويستمع إليه الطالب، وتتكرر هذه العملية مرّات، ففي هذه الحالة، يتقبل الطالب ما يعرض ذاتياً، وبدون وعي وإرادة. وما ينشر في الصحف أو المجلاّت، أو ما يبث من الإذاعة أو التلفزيون، يلقى قبولاً لدى الناس دون نقاش.

إذا بادر الطالب إلى قراءة موضوع ما، وتفاعل مع ما هو مكتوب دون نقاش، فقد تأثّر بكاتب ذلك الموضوع، وشمله تلقينه أيضاً. والذين يتعلّمون مواضيع متنوّعة دون نقاش، وينقلونها إلى الآخرين، فقد خضعوا لعملية تلقين الكتّاب، وأخضعوا الآخرين لتلقين ما حفظوه.

ليس مهمّا في التحصيل الدراسي سعة محفوظات الفرد أو معلوماته، بل المهم هو كيف يقبل الفرد المواضيع المعيّنة. بكلمة بديلة، إنّ مَن عمل على تصعيد معلوماته أو محفوظاته، واستطاع أن يتحدث حول موضوع معيّن لساعات، بيد أنّه - شخصيّاً - لم يدقّق فيما حصل عليه من علم، ولم يناقش ذلك، فقد شمله تلقين

٩٥

الآخرين.

الخضوع للتوقّع

إنّ نتيجة التعلّم - في عملية التدريب - خاضعة للتوقّع، فما يُلقى على الحيوان، يمكن توقّع القيام به من قبل الحيوان في ظروف خاصّة. وفي المعسكرات تنام الخيول بإطلاق صوت الصفّارة، فيمكن توقّع رقود الخيول في الليلة الخامسة مثلاً، بمجرّد إطلاق صوت الصفّارة.

وعندما يقرأ تلميذ في الابتدائية قصيدة عدّة مرات، أو يحفظ جدول الضرب، فيمكن التوقّع بسهولة أن يقرأ القصيدة بمجرّد سماع عنوانها، أو عندما يُسأل عن ناتج ضرب العدد (5) في نفسه، يجيب: خمسة وعشرون.

بعامّة، عندما يُلقَّن أحد عقيدةً، أو فكراً، أو رأياً، أو أُسلوباً، أو طريقة عمل، أو اموراً من هذا القبيل، يمكن أن نتوقّع منه عرضَ ما تلقّاه بنفس الشكل، أو بشكل ناقص في الوقت المعيّن. كما أنّ قيام الحيوان بنشاط معيّن، خاضع للتوقّع في ظروف خاصّة، فكذلك نتيجة هذا الضرب من التعلّم، إذ هي بيّنة جليّة. والفرد كجهاز التسجيل - وهو أقّل بطبيعة الحال - يخزن في ذهنه ما يسمعه، ثمّ ينقل ذلك بنفس الشكل أو بشكل ناقص، وفي مثل هذه الحالة، يمكن أن يتعلم الفرد مواضيع متناقضة، ثم لا يدرك تناقضها. إنّ مثل هذا اللون من التعلّم لا يؤثّر في تغيير شخصيّة الفرد وأعماله، ولو كان له أثر، فهو أثر طفيف، عابر، مؤقت.

إنّ مؤاخذة الناس العاديّين طلاّبَ المدارس تعكس هذا الأمر ذاته، فالوالدان الأُميّان يلحظان ولدهما يذهب إلى المدرسة وقد تعلّم بعض الأشياء، بيد أنّ تغييراً ملحوظاً لم يطرأ على سلوكه.

ففرق الطالب عن غيره يكمن في حجم معلوماته. بكلمة بديلة، إنّ ما يميّز الطالب عن غيره ليس أسلوب التفكير، والعادات، والرغبات، وطريقة التعامل، بل

٩٦

المعلومات التي حصل عليها الطالب خلال مرحلة الدراسة.

الدراسة

الفهم: يحلّ الفهم محلّ المجاورة والتكرار في عملية الدراسة. والفهم يعني أن يقوم الطالب بالتدقيق في كلّ ما يشاهده أو يسمعه. على سبيل المثال، ثمّة عنوان ما واضح لديه، وهو يستطيع أن يتمثّل صورة في ذهنه عن ذلك العنوان.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ صلة العنوان بالمواضيع التي هي مدار البحث واضحة عنده أيضاً. على سبيل المثال، هو يدرك جيّداً معنى كلمة الحرارة، وصلة هذه الكلمة بالمباحث ذات العلاقة. ويعلم ماذا يدرس، وخطّة البحث أو كيفية طرح المواضيع واضحة بالنسبة إليه.

فالتكرار والتمرين ليسا شرطين ضرورين للتعلّم في هذه العملية، فأحياناً يمكن أن يتعلّم الطالب ما يُلقى عليه من خلال طرح عنوان ما وتقديم موضوع معيّن. عندما تطرح معادلة في الرياضيات، ويتّضح مفهومها بالنسبة إلى الطالب، يمكن أن يبادر إلى حلِّها أيضاً قبل أن يقوم المعلّم بذلك. ودليل هذا الأمر هو إدراك معنى عنوان المعادلة وصلتها بطريقة الحل.

إنّ عنوان قصيدة من الشعر وأبياتها واضح بالنسبة إلى الطالب من ناحية المعنى والترابط الموجود فيها، وفي جدول الضرب يستطيع الطالب أن يتصوّر معنى ضرب العدد (4) في العدد (5)، ويلحظ - عن هذا الطريق - لماذا يكون ناتج ضرب العددين عشريناً.

التعقل: إنّ العامل الأساس الثاني في عملية الدراسة هو التعقّل أو التفكير، فلا يدرك الطالب ما يطرح فحسب، بل يقوم بتقويمه، ويحكم عليه بالصواب أو الخطأ أيضاً.

٩٧

ولو سألتَ الطالبَ: ماذا تعلّم؟، فإنّه يستطيع أن يبيّن - بوضوح - ما تعلّمه، ويفهم مغزى بيانه. وكذلك لو سألته عن موضوع ما، هل هو صحيح أم لا؟ فسيقوم بتقويم الآراء، والنظريات، والأساليب، وينتقي ما هو منطقي ومبرهَن ليقدّمه ويقرّبَه.

بعامّة، في عملية الدراسة، فإنّ تربية القابلية على تقديم الحكم الصحيح المتوكّئ على الدليل، تشكّل أساس العمل. وفي الدراسة الحقيقية يقوم المعلّم أو المربّي بمساعدة الطالب في كلّ مرحلة من النمو أو التحصيل الدراسي، لينبري إلى تحليل ما يريده أو يسمعه. يدرس أدلّة وشواهد رأي أو فرضية، أو تصميم، وبعد ذلك يحكم على الموضوع الذي هو موضع البحث والنقاش.

يدور الحديث - في روضة الأطفال - حول اللعب أو القصص. وفي هذا المركز التربوي، إذا كان المربّي واعياً ومدركاً لمفهوم الدراسة الصحيحة، فإنّه سيقوم - عند طرحه للقضية - بذكر دليل جودتها أو انتخابها. وعندما يوصي الأطفال بممارسة لعبة من الألعاب، فإنّه يشفع ذلك بالدليل. وفي المقابل، هو - أيضاً - يطلب من الأطفال أن يذكروا دليل انتخابهم لعبةً معيّنة أو استحسانهم قصّةً من القصص، وكلّما ازداد نموّ الفرد، وتمرّس على المسائل العلمية والاجتماعية أكثر، فإنّه يظفر بفرصة أكبر للتقويم الصحيح.

إنّ دراسة قيمة شعر، أو نصيحة، أو كلام قصير، أو نظرية علمية، أو رأي تاريخي، أو أُسلوب، أو مهارة، أو نظام فكري، وأمثال ذلك، تجري في جميع المراحل التربوية بشكل منطقي، فيقوم المربوّن بمساعدة الفرد ليأخذ بما هو مبرهَن ضمن دراسة الأُمور المختلفة، وينبذ ما هو غير مبرهن. إنّ توظيف الفكر والعقل هو المطلوب في قبول شتى الأُمور أو رفضها، وفي طرح المواضيع.

وينبغي انتهاج هذا الأسلوب نفسه في وسائل الإعلام، إذ على الكاتب أن يأتي بالدليل على ما يطرحه من مواضيع، وعليه أن يفيد من الأسلوب العلمي في

٩٨

الدراسات الاجتماعية، وأن يكون ما يعرضه مدعوماً بالدليل. كذلك ينبغي على العاملين في الحقل الإذاعي والتلفزيوني، وبعامّة، كلّ الذين لهم برامج في مثل هذه الوسائل الإعلامية، عليهم الاهتمام بمنطقيّة مقالاتهم، وأن يحاولوا بأن تكون كتاباتهم وكلماتهم مشفوعة بالدليل.

النتيجة غير خاضعة للتوقّع: عندما تكون عملية الدراسة مرتكزة على الفكر، فإنّ النتيجة غير خاضعة للتوقّع مسبقاً، ولا يقبل في عملية التفكير أو الاستدلال إلاّ ما هو منطقي، لا ما يخزنه المربّي أو المتكلّم في ذاكرته منذ البداية. بكلمة بديلة، إنّ الفرد - في هذه العملية - لا يقرّ بأمر مقتَرح من البداية ما لم يكن مدعوماً بالدليل، وإذا كان ما يطرحه المتكلّم أو الكاتب أو العالم منطقيّاً، فإنّ الفرد يقبله.

ويصادف أحياناً أن يُبدي عالِمٌ من العلماء وجهةَ نظرٍ معيّنة، بيدَ أنّه يلتفت إلى ضعفها أثناء حديثه، فيغيّرها. أو أنّ عالماً آخر يأتي بالدليل على ضعفها، فيقرّ ذلك العالم بضعف وجهة نظره. من هذا المنطلق يقال بأنّ النتيجة على شكل أمر معيّن غير معروفة سابقاً في عملية الدراسة.

إنّ عملية الدراسة الصحيحة تترك آثاراً متألّقة، فينمو الطالب خلالها من الناحية الفكرية بشكل ملحوظ، فهو لا يتعلّم مواضيع جديدة فحسب، بل يُقرن تعلّمه بالفهم، ويبدي رأيه حول صوابها أو خطأها. لذلك فإنّه يتعلّم مواضيع علمية وأدبية، وكذلك يتعلّم كيفية التقويم، والتفكير، والحكم، والتفريق بين الرأي المبرهن من غير المبرهن. هذا النحو من التعلّم - كما قيل - يحدث تغييراً في شخصية الفرد وسلوكه، كما يوفر مستلزمات تطوّره وتكامله.

إنّ الطالب - بحضوره في الصف، أو استماعه لمحاضرة، أو مطالعته لمقالة - لا يتعرّف على مفاهيم، ونظريات، ومبادئ، وقواعد جديدة فحسب، بل يتطوّر أُسلوبُ تفكيره أيضاً ضمن تعلّمه لمثل هذه الأُمور، فهو يُعنى بالمسائل المتنوّعة بصورة

٩٩

مبدئية، ويتجنّب إصدار الأحكام السطحية الساذجة، ولا يقبل شيئاً ما لم يقم عليه الدليل، كما لا يرفض شيئاً على نفس النسق، ويبادر إلى تربية قوّته الفكرية أيضاً مقرونة بتصعيد مستواه العلمي.

وكما لحظنا، فإنّ الفهم والتعقل هما الركنان الأصليان في عملية الدراسة. وفيما يلي نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام:

الأُسس التربوية في الإسلام

إنّ القرّاء على علم بأنّ بحثنا يدور حول خصائص النظام الفكري أو النظام التربوي في الإسلام، وفي هذا القسم، ندرس البعد العقلي في النظام الإسلامي. وبما أنّ للتربية والتعليم في الإسلام بعداً عقلياً إلى حدّ بعيد، فإنّنا نقوم بدراسة الأُسس التربوية في الإسلام. وسنذكر بعض الأُسس التربوية في طيّات حديثنا عن الأهداف، والأساليب. والنظام التعليمي في المدارس الدينية. ونناقش - هنا - الملاحظة القائلة بأنّ الإسلام، ضمن تأكيده على الفهم والعقل، لا يرى في نظامه التربوي بأنّ التدريب من شأن الإنسان، ويطرح الدراسة الحقيقيّة. جاء في الجزء الأوّل من الكافي، (ص20) أنّ هشام بن الحكم روى عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قوله:

قال لي أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : «يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهلَ العقل والفهم في كتابه، فقال:( فَبَشّرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) ».

«يا هشام: إنّ الله - تبارك وتعالى - أكملَ للناس الحُجج بالعقول، ونصرَ النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال:( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّموَات... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ».

لقد ورد في هذا الكلام - وما تضمّنه من آيات قرآنية - عددٌ من النقاط

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

السقوط ؛ لأنّه ثبت نسب الثالث ، فاعتبر موافقته لثبوت نسب الثاني(١) .

ولو أقرّ بأُخوّة مجهولَيْن وصدّق كلّ واحدٍ منهما الآخَر ، ثبت نسبهما.

فإن كذّب كلّ واحدٍ منهما الآخَر ، فللشافعيّة وجهان ، أصحّهما عندهم : ثبوت النسبين ؛ لوجود الإقرار ممّن يحوز التركة(٢) .

وإن صدّق أحدهما الآخَر وكذّبه الآخَر ، ثبت نسب المصدِّق ، دون المكذِّب.

هذا إذا لم يكن المجهولان توأمين ، فإن كانا توأمين فلا أثر لتكذيب أحدهما الآخَر ، فإذا أقرّ الوارث بأحدهما ثبت نسب كليهما.

مسألة ١٠٠٢ : لو أقرّ بنسب مَنْ يحجب الـمُقر - كما إذا مات عن أخٍ أو عمٍّ فأقرّ بابنٍ للميّت - فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّه لا يثبت نسبه ، وإلّا لزم الدور ؛ لأنّه لو ثبت لورث ، ولو ورث لحجب الـمُقرّ ، ولو حجب لخرج عن أهليّة الإقرار ، فإذا بطل الإقرار بطل النسب.

وأصحّهما عندهم - وهو مذهبنا - : إنّه يثبت النسب ؛ لأنّ ثبوت النسب بمجرّده لا يرفع الإقرار ، وإنّما يلزم ذلك من التوريث(٣) ، وسيأتي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٣ ، بحر المذهب ٨ : ٣١٥ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧١ ، التهذيب - للبغوي - ٤: ٢٧٢ ، البيان ١٣ : ٤٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٧.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٣١٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٧ - ٦٨.

(٣) هذا الوجه الأصحّ قد سقط من الطبع في « العزيز شرح الوجيز » وهو موجود في « فتح العزيز » المطبوع بهامش « المجموع » ١١ : ٢٠١.

٤٦١

البحث فيه. ثمّ التو ريث قد ينتفي لأسباب وتوابع ، فلا يبعد أن يكون هذا منها(١) .

وعندنا أنّ الـمُقرّ به يرث ، وسيأتي.

مسألة ١٠٠٣ : الـمُقرّ به لا يخلو إمّا أن يحجب الـمُقرّ عن الميراث ، أو لا يحجب ، أو يحجب بعض الورثة الـمُقرّين دون بعضٍ.

فإن لم يحجب الـمُقرّ ، اشتركا في التركة على فريضة الله تعالى.

ولو أقرّ أحد الابنين المستغرقين بأخٍ وأنكر الآخَر ، فالذي ذهبنا إليه أنّ الـمُقرّ به يرث السدس يأخذه من نصيب الـمُقرّ.

وظاهر مذهب الشافعي - وهو منصوصة - أنّه لا يرث ؛ لأنّ الإرث فرع النسب ، وأنّه غير ثابتٍ كما سبق ، وإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع(٢) .

وعن بعض الشافعيّة : إنّ الـمُقرّ به يرث ، فيشارك الـمُقرّ فيما في يده. وهو منسوب إلى ابن سريج ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد(٣) . وقد تقدّم(٤) بيانه.

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٦٣ - ٣٦٤ ، الوجيز ١ : ٢٠٣ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٢ - ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ٨٧ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٩ ، الوسيط ٣ : ٣٦١ ، البيان ١٣ : ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢١ / ١٠٥٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ٨٧ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٩ ، الوسيط ٣ : ٣٦١ ، حلية العلماء ٨ : ٣٦٨ ، البيان ١٣ : ٤٤٩ ، بدائع الصنائع ٧ : ٢٣٠ ، المبسوط - للسرخسي - ٣٠ : ٧٢ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٠ - ٦٢١ / ١٠٥٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٥٦ ، المعونة ٢ : ١٢٥٦ - ١٢٥٧ ، المغني ٥ : ٣٢٥ ، و ٧ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٠٤ - ٢٠٥.

(٤) في ص ٤٥٧ ، ضمن المسألة ٩٩٩.

٤٦٢

مسألة ١٠٠٤ : لو خلّف الميّت ابنين فقال أحدهما : فلانة بنت أبينا ، وأنكر الآخَر ، حرم على الـمُقرّ نكاحها وإن كان ذلك فرع النسب الذي لم يثبت.

ولو قال أحدهما : إنّ العبد الذي في التركة ابن أبينا ، لم يثبت النسب ؛ لعدم الاتّفاق.

لكنّ الأقرب : إنّه يُعتق ؛ لإقراره بأنّه حُرٌّ ، فيثبت عتق نصيبه ، ولا يسري ؛ لأنّه لم يباشر العتق ، فلا يُقوَّم عليه.

وللشافعيّة في الحكم بعتقه وجهان(١) .

ولو قال أحد شريكي العقار لثالثٍ : بعتُ منك نصيبي ، فأنكر ، لا يثبت الشراء.

وفي ثبوت الشفعة للشريك خلاف.

ولو قال : لزيدٍ على عمرو كذا وأنا به ضامن ، فأنكر عمرو ، ففي مطالبة الـمُقرّ بالضمان خلاف.

والأصحّ عند الشافعيّة : المطالبة(٢) .

ولو اعترف الزوج بالخلع وأنكرت المرأة ، ثبتت البينونة وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل.

فعلى ظاهر مذهب الشافعيّة هذه الأحكام في ظاهر الحكم ، فأمّا في الباطن فهل على الـمُقرّ إذا كان صادقاً أن يشركه فيما في يده؟ فيه وجهان :

أحدهما : لا ، كما في الظاهر.

والثاني : نعم - وهو الصحيح عندهم - لأنّه عالم باستحقاقه ، فيحرم

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨.

٤٦٣

عليه منع حقّه منه (١) .

وعلى هذا فبما يشركه؟ فيه وجهان :

أحدهما : بنصف ما في يده ؛ لأنّ قضيّة ميراث البنين التسويةُ ، فلا يسلم لأحدهم شي‌ء إلّا ويسلم للآخَر مثله ، والثالث بزعمهما غصبهما بعض حقّهما ، وبه قال أبو حنيفة.

وأصحّهما عندهم : ما ذهبنا نحن إليه ، وهو قول مالك وأحمد : بثلث ما في يده ؛ لأنّ حقّ الثالث بزعم الـمُقرّ شائع فيما في يده وما في يد صاحبه ، فله الثلث من هذا والثلث من ذاك(٢) .

ويقال : الوجهان مبنيّان على القولين فيما إذا أقرّ أحد الابنين بدَيْنٍ على أبيه وأنكر الآخَر ، هل على الـمُقرّ توفية جميع الدَّيْن ممّا في يده ، أم لا يلزمه إلّا القسط؟ فإن قلنا بالثاني - وهو مذهبنا - لم يلزمه إلّا الثلث ؛ لجَعْلنا الحقَّ الثابت بالإقرار شائعاً في التركة.

ولكلّ واحدٍ من الوجهين عبارة تجري مجرى الضابط لأخوات هذه الصورة.

فالعبارة على وجه النصف أنّا ننظر في أصل المسألة على قول المنكر ونصرف إليه نصيبه منها ، ثمّ نقسّم الباقي بين الـمُقرّ والـمُقرّ به ، فإن انكسر صحّحناه بالضرب.

وأصل المسألة في الصورة التي نحن فيها اثنان على قول المنكر ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٩١ ، البيان ١٣ : ٤٤٩ - ٤٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٩٢ ، البيان ١٣ : ٤٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨ ، وراجع بقيّة المصادر في الهامش (١ و ٤) من ص ٤٥٧.

٤٦٤

ندفع إليه واحداً من هما ، يبقى واحد لا ينقسم على اثنين ، فنضرب اثنين في أصل المسألة ، يكون أربعةً : سهمان منها للمنكر ، ولكلّ واحدٍ من الآخَرين سهم.

وعلى الوجه الذي حكمنا فيه بالثلث نأخذ أصل المسألة على قول المنكر ، وأصلها على قول الـمُقرّ ، ونضرب أحدهما في الآخَر ، ونقسّم الحاصل باعتبار مسألة الإنكار ، فندفع نصيب المنكر منه إليه ، ثمّ باعتبار مسألة الإقرار ، فندفع نصيب الـمُقرّ منه إليه ، وندفع الباقي إلى الـمُقرّ به.

ومسألة الإنكار فيما نحن فيه من اثنين ، ومسألة الإقرار من ثلاثة ، فنضرب أحدهما في الآخَر يكون ستّةً : ثلاثة منها للمنكر ، وسهمان للمُقرّ ، وسهم للمُقرّ له.

ولو كانت المسألة بحالها وأقرّ أحد الابنين بآخَرين(١) ، فعلى الوجه الأوّل المسألة على قول المنكر من اثنين ، ندفع نصيبه إليه ، يبقى واحد لا ينقسم على ثلاثة ، نضرب ثلاثة في اثنين ، يكون ستّةً : ثلاثة منها للمنكر ، ولكلّ واحدٍ من الباقين سهم.

وعلى الوجه الثاني أصلها على قول المنكر من اثنين ، وعلى قول الـمُقرّ من أربعة ، نضرب أحدهما في الآخَر يكون ثمانيةً : أربعة منها للمنكر ، واثنان للمُقرّ ، ولكلّ واحدٍ من الـمُقرّ بهما سهم(٢) .

وقال بعضهم : نصرف بالتوسّط بين الوجهين ، وهو أن ننظر فيما حصل في يد الـمُقرّ أحصل بقسمةٍ أجبره المنكر عليها ، أم بقسمةٍ هو مختار فيها؟

____________________

(١) في « ج » : « بأخوين » بدل « بآخَرين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٤.

٤٦٥

أمّا على تقدير الإج بار : فالجواب ما ذكرنا في الوجه الثاني.

وأمّا على تقدير الاختيار : فننظر إن كان عالماً عند القسمة بأنّ معهما ثالثاً مستحقّاً ، فالجواب ما ذكرناه في الوجه الأوّل ؛ لأنّه متعدٍّ بتسليم نصف حصّة الثالث إليه ، فيغرم ما حصل في يد صاحبه ، كما يغرم الحاصل في يده.

وإن لم يكن عالماً حينئذٍ ثمّ علم ، فوجهان ، وُجّه أحدهما : بأنّه لا تقصير(١) منه ، والثاني : بأنّه لا فرق بين العلم والجهل فيما يرجع إلى الغرم(٢) .

مسألة ١٠٠٥ : لو كان الـمُقرّ به ممّن يحجب الـمُقرّين عن الميراث أو بعضهم ، كما لو كان الوارث في الظاهر أخاً أو ابنَ عمّ أو معتقاً فأقرّ بابنٍ للميّت ، حاز المالَ الابنُ بأجمعه ، ولا شي‌ء للمُقرّ.

وأمّا الشافعي فقال : إن لم يثبت نسبه فذاك ، وإن ثبت ففي الميراث وجهان :

أحدهما : المنع ، وهو الأظهر عندهم.

والثاني : إنّه يرث - وبه قال ابن سريج - و(٣) يحجب الـمُقرّ(٤) ، كما اخترناه نحن.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا يقتص » بدل « لا تقصير ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٤ - ٣٦٥.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أو » بدل « و». والمثبت هو الصحيح.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٣ ، بحر المذهب ٨ : ٣١٦ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧٢ ، البيان ١٣ : ٤٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨ ، المغني ٥ : ٣٣٠.

٤٦٦

ومنعوا لزوم بطلان ا لإقرار من حرمانه ، وقالوا : المعتبر كونه وارثاً لو لا إقراره ، وذلك لا ينافي خروجه عن الوارثيّة بالإقرار ، كما أنّ المعتبر كونه حائزاً للتركة لو لا إقراره ، وذلك لا ينافي خروجه عن كونه حائزاً بالإقرار ، فلا جرم لو أقرّ الابن الحائز للتركة في الظاهر بأُخوّة غيره قُبِل وتشاركا في الإرث ، كذا هنا(١) .

ولو خلّف بنتاً هي معتقة فأقرّت بأخٍ ، ورثا عندنا جميعَ المال.

وللشافعيّة في ميراثه وجهان - تفريعاً على الوجه الأوّل في المسألة السابقة - :

أحدهما : يثبت ويكون المال بينهما أثلاثاً ؛ لأنّ توريثه لا يحجبها.

والثاني : لا ؛ لأنّه يحجبها عن عصوبة الولاء ، فصار كما لو خلّف بنتاً ومعتقاً فأقرّا بابنٍ للميّت ، لا يثبت الميراث ؛ لحجبه المعتق(٢) .

وقد عرفت مذهبنا في ذلك.

ولو ادّعى مجهولٌ على أخ الميّت أنّه ابن الميّت فأنكر الأخ ونكل عن اليمين فحلف المدّعي اليمينَ المردودة ، ثبت نسبه.

ثمّ إن جعلنا النكولَ وردَّ اليمين كالبيّنة ورث وحجب الأخ ، وإن جعلناهما كالإقرار ففيه الخلاف المذكور فيما إذا أقرّ الأخ به.

ولو مات عن بنتٍ وأُختٍ فأقرّتا بابنٍ للميّت ، فعندنا لا اعتبار بإقرار الأُخت ؛ إذ لا يثبت في حقّها ؛ حيث إنّها لا ترث عندنا ، ولا في حقّ البنت ، لكنّ المعتبر إقرار البنت ، فتُقسّم التركة أثلاثاً : للبنت الثلث ، وللابن الثلثان.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٨.

٤٦٧

أمّا العامّة فإنّهم حيث ورّثوا الأُخت هنا اعتبروا إقرارها.

ثمّ اختلف قول الشافعيّة.

فقال بعضهم : نصيب الأُخت يُسلّم إليها على الوجه الأظهر عندهم ؛ لأنّه لو ورث الابن لحجبها.

وعلى الثاني يأخذ ما في يدها كلّه(١) .

وكذا الحكم فيما لو خلّف زوجةً وأخاً فأقرّا بابنٍ ، فعندنا للزوجة الثُّمن ، والباقي للابن.

وعند الشافعيّة للزوجة الربع على الوجه الأظهر عندهم ، وهذا الابن لا ينقص حقّها ، كما لا يسقط الأخ(٢) .

مسألة ١٠٠٦ : لو خلّف ابناً واحداً فأقرّ بآخَر ، لم يثبت نسب الآخَر ، إلّا إذا صدّقه أو أقام البيّنة ، ومع البيّنة يُحكم بالنسب مطلقاً ، ومع التصديق يتوارثان بينهما ، ولا يتعدّى التوارث إلى غيرهما.

ولو كان للمُقرّ به ورثة مشهورون ، لم يُقبل إقراره في النسب وإن تصادقا ، وكان له الميراث.

ولو أقرّ أحد الابنين ببنتٍ وأنكر الآخَر ، دفع الـمُقرّ خُمْس ما في يده. ولو أقرّا معاً ، ثبت لها خُمْس الجميع.

ولو تناكر الابنان اللّذان أقرّ بهما الوارث دفعةً ، لم يلتفت إلى تناكرهما ، لكن لا يثبت النسب ، ويأخذان الميراث.

مسألة ١٠٠٧ : لا يشترط في الـمُقرّ أن يكون جميعَ الورثة ، عندنا‌ ، بل لو أقرّ بعضهم دون بعضٍ لزم المـُقرّ حكم إقراره في نصيبه ، دون نصيب‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٩.

٤٦٨

الباقي ، فلا يشترط إقرار جميع الورثة.

ولا يشترط عندنا عدد الشهادة ، بل لو أقرّ واحد لزمه الحكم في نصيبه.

وقال الشافعي : يشترط إقرار جميع الورثة(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يشترط الجميع ، بل عدد الشهادة شرط ، فإذا لم يكن إلّا ابنٌ واحد لم يثبت النسب بإقراره(٢) .

فإذا خلّف بنين عدّة فأقرّ اثنان منهم ، فإن كانا عَدْلين أُجيزت شهادتهما على باقي الورثة ، وثبت النسب والميراث ، وإن لم يكونا عَدْلين أخذ الـمُقرّ به من نصيبهما بالنسبة خاصّةً ، وبه قال مالك(٣) .

مسألة ١٠٠٨ : إقرار الورثة بزوجٍ أو زوجةٍ للميّت مقبولٌ ، ويشارك الـمُقرّ به.

ولو أقرّ بعضهم ، ثبت نصيبه عندنا خاصّةً بالنسبة إليه ، دون باقي الورثة.

وللشافعي قولان في أنّه هل يُقبل إقرار جميع الورثة بالزوج أو‌

____________________

(١) مختصر المزني : ١١٤ ، الحاوي الكبير ٧ : ٩٢ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٨ - ٣٠٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٨ ، البيان ١٣ : ٤٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦١ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٦ ، المغني ٥ : ٣٢٦ - ٣٢٧ ، و ٧ : ١٤٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٠١.

(٢) بدائع الصنائع ٧ : ٢٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٩٢ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٦٨ ، البيان ١٣ : ٤٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، المغني ٥ : ٣٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٩ ، و ٧ : ٢٠١.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٩٢ ، بحر المذهب ٨ : ٣٠٨ ، حلية العلماء ٨ : ٣٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٦ ، المغني ٥ : ٣٢٧ ، و ٧ : ١٤٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٩ ، و ٧ : ٢٠١.

٤٦٩

الزوجة؟ ففي الجديد - كما قلناه - : إنّه يُقبل. وفي القديم قولٌ : إنّه لا يُقبل. فإن قبلنا فلو أقرّ أحد الابنين المستغرقين وأنكر الآخَر ، فالتوريث على ما ذكرناه فيما إذا أقرّ أحدهما بأخٍ وأنكر الآخَر(١) .

ولو قال ابن الميّت : فلان أخي ، ثمّ فسّره بالأُخوّة من الرضاع أو في الدين ، فالأقوى عندي : القبول ؛ لاحتماله ، وهو أعلم بمراده من لفظه.

وقال بعض الشافعيّة : لا يُقبل هذا التفسير ؛ لأنّه خلاف الظاهر ، ولهذا لو فسّر بأُخوّة الإسلام لم يُقبل(٢) .

وهو ممنوع.

ولو أقرّ على أبيه بالولاء ، فقال : إنّه معتق فلان ، ثبت الولاء عليه.

وشرط الشافعيّة أن يكون الـمُقرّ مستغرقاً ، كالنسب(٣) .

ونحن لا نشترط ذلك.

مسألة ١٠٠٩ : قد بيّنّا أنّ الـمُقرّ به إذا كان بالغاً رشيداً افتقر المـُقرّ إلى تصديقه ، سواء كان الـمُقرّ به ولداً أو غيره.

وللشيخرحمه‌الله قول : إنّ الولد الكبير لا يعتبر تصديقه ، بل لو كذّب الـمُقرّ في إقراره ثبت نسبه ، كالصغير(٤) .

وليس بمعتمدٍ.

ولو أقرّ الأخوان بابنٍ للميّت وكانا عَدْلين ، ثبت نسبه ، وحاز الميراث ، ولا دَوْر عندنا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٩.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٣١٨ - ٣١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦٩.

(٤) المبسوط - للطوسي - ٣ : ٤١.

٤٧٠

ولو كانا فاسقين ، أ خذ الميراث ، ولم يثبت النسب ، وإنّما يثبت النسب بشهادة رجلين عَدْلين ، ولا يُقبل فيه شاهد وامرأتان ، ولا شهادة فاسقين وإن كانا وارثين.

وإذا أقرّ الولد بآخَر فأقرّا بثالثٍ ، ثبت نسب الثالث إن كانا عَدْلين.

ولو أنكر الثالث الثاني ، لم يثبت نسب الثاني ، وأخذ السدسَ ، والثالثُ النصفَ ، والأوّل الثلثَ. فإن مات الثالث عن ابنٍ مُقرّ ، دفع السدس إلى الثاني أيضاً.

ولو كان الأوّلان معلومَي النسب ، لم يُلتفت إلى إنكاره لأحدهما ، وكانت التركة أثلاثاً.

ولو أنكر الأوّل وكان معلومَ النسب ، لم يُلتفت إلى إنكاره ، وإلّا فله النصف ، وللأوّل السدس إن صدّقه الثاني.

ولو أقرّ الوارث بمَنْ هو أولى منه ، كان المال للمُقرّ له ، فلو أقرّ العمّ بأخٍ سلَّم إليه التركة ، فإن أقرّ الأخ بولدٍ سُلّمت التركة إلى الولد.

ولو كان الـمُقرّ العمَّ بعد إقراره بالأخ ، فإن صدّقه الأخ فالمال للولد ، وإن كذّبه فالتركة للأخ ، ويغرم العمّ التركة للولد إن نفى وارثاً غيره ، وإلّا ففيه إشكال.

مسألة ١٠١٠ : لو أقرّ الأخ بولدٍ للميّت ، فالمال للولد.

فإن أقرّ بآخَر فإن صدّقه الأوّل فالتركة بينهما ، وإن كذّبه فالتركة للأوّل ، ويغرم النصف للثاني.

وإن أنكر الثاني الأوّلَ فإن أقرّ بثالثٍ وكان الأوّل قد كذّب الثاني ، فإن صدّقه الأوّل فللثالث نصف التركة ، وإن كذّبه الأوّل في الثالث أيضاً غرم الـمُقرّ للثالث الثلثَ.

٤٧١

ولو أقرّ الأخ بولدٍ ثمّ أقرّ بآخَر أيضاً ، فصدّقه الأوّل وأنكر الثاني الأوّلَ ، فالتركة للثاني ولا غرم.

ولو أقرّت الزوجة أو الزوج لولد الميّت وهناك إخوة مشهورون ، فإن صدّقهما الإخوة فللزوج أو الزوجة نصيبهما الأدنى ، والباقي للولد ، ولا شي‌ء للإخوة.

وكذا كلّ وارثٍ في الظاهر إذا أقرّ بمن هو أولى منه ، دفع ما في يده إلى الـمُقرّ له ، وإن أقرّ بمساوٍ فبالنسبة.

وإن كذّبهما الإخوة ، فلهم النصف مع الزوج ، وثلاثة الأرباع مع الزوجة ، وللزوج النصف يدفع نصفه إلى الولد ، وللمرأة الربع تدفع نصفه إلى الولد.

مسألة ١٠١١ : لو أقرّ الأخ بولدين دفعةً فصدّقه كلّ واحدٍ عن نفسه خاصّةً ، لم يثبت النسب ، ويثبت الميراث ، فيأخذ كلّ واحدٍ النصفَ ، ولو تناكرا بينهما لم يلتفت إلى تناكرهما.

ولو خلّف الميّت أخوين فأقرّ أحدهما بولدٍ وكذّبه الآخَر ، أخذ الولد نصيبَ الـمُقرّ خاصّةً ، فإن أقرّ المنكر بآخَر دفع إليه ما في يده.

ولو أقرّ بزوجٍ لذات الولد أعطاه ربع ما في يده ، ولو لم يكن ولد أعطاه النصفَ.

فإن أقرّ بزوجٍ آخَر لم يُقبل ، فإن كذّب إقراره الأوّل غرم للثاني ما دفع إلى الأوّل.

وهل يثبت الغرم بمجرّد الإقرار أو بالتكذيب؟ الظاهر من كلام الأصحاب : الثاني.

ولو أقرّ بزوجةٍ لذي الولد أعطاها ثُمن ما في يده ، ولو لم يكن ولد‌

٤٧٢

أعطاها الربعَ.

فإن أقرّ بأُخرى فإن صدّقته الأُولى اقتسمتا ، وإلّا غرم لها نصف ما أخذت الأُولى من حصّته.

ولو أقرّ بثالثةٍ أعطاها الثلث ، فإن أقرّ برابعةٍ أعطاها الربع ، فإن أقرّ بخامسةٍ لم يلتفت إليه على إشكالٍ.

فإن أنكر إحدى الأربع غرم لها ربع الثُّمْن أو ربع الربع.

ولو كان إقراره بالأربع دفعةً واحدة ، ثبت نصيب الزوجيّة لهنّ ، ولا غرم ، سواء تصادقن أو لا.

مسألة ١٠١٢ : لو أقرّ الأخ من الأب بأخٍ من الأُمّ ، أعطاه السدس.

فإن أقرّ الأخ من الأُمّ بأخوين منها وصدّقه الأوّل ، سلّم الأخ من الأُمّ إليهما ثلث السدس بينهما بالسويّة ، ويبقى معه الثلثان ، وسلّم إليهما الأخ من الأب سدساً آخَر.

ويحتمل أن يسلّم الأخ من الأُمّ الثلثين ، ويرجع كلٌّ منهم على الأخ من الأب بثلث السدس.

ولو كذّبه فعلى الأوّل يكون للأوّل ثلثا السدس ، ولهما الثلث ، وعلى الثاني السدس بينهم أثلاثاً.

ولو أقرّ الولد بالزوجة أعطاها الثُّمْن ، فإن أقرّ بأُخرى أعطاها نصف الثُّمْن إذا كذّبته الأُولى ، فإن أقرّ بثالثةٍ فاعترفت الأُوليان بها واعترفت الثانية بالأُولى ، استعاد من الأُولى نصف الثُّمْن ، ومن الثانية سُدسَه ، فيصير معه ثلثا الثُّمن يسلّم إلى الثالثة منه ثلثاً ويبقى له ثلثٌ آخَر.

٤٧٣

ولو كان أحد المذكور ين عبداً أو كافراً فأقرّ الحُرّ المسلم بآخَر فأُعتق العبد أو أسلم الكافر قبل القسمة ، شارك ، وإلّا فلا.

ولو كذّب بعد زوال المانع أو قبله الثاني ، فلا شي‌ء له ، إلّا أن يرجع إلى التصديق.

ولو كان أحدهما غيرَ مكلّفٍ فأقرّ المكلّف بآخَر ، عزل لغير المكلّف النصف ، فإن اعترف بعد زوال المانع ، دفع الفاضل عن نصيبه ، وإن كذّب ملك المعزول.

ولو مات قبل الكمال وقد تخلّف السدس خاصّةً ، فإن كان قد أفرزه الحاكم للإيقاف فهو للمُقرّ له ، وإلّا فثلثاه.

مسألة ١٠١٣ : لو أقرّ أحد الولدين بابنٍ فأنكر الثاني ثمّ مات المنكر عن ابنٍ مصدَّق ، فالأقرب : ثبوت نسب العمّ.

ويحتمل العدم ، لكن يأخذ من تركة الميّت ما فضل عن نصيبه.

ولو أقرّ الولد بزوجةٍ وللميّت أُخرى ، فإن صدّقته الأُخرى فالثُّمن بينهما ، وإلّا فللأُخرى ، ولا غرم على إشكالٍ.

ولو أقرّ الأخ من الأُمّ بأخٍ إمّا من الأب أو من الأُمّ أو منهما ، فكذّبه الأخ من الأب ، فللمُقرّ حصّته كملاً.

وكذا لو أقرّ بأخوين من الأب أو منهما.

ولو كانا من الأُمّ فإنّه يدفع إليهما ثلث السدس ؛ لاعترافه بأنّهما شريكان في الثلث ، لكلٍّ منهما تُسْعٌ وفي يده تُسْع ونصف تُسْعٍ ، فيفضل في يده نصف تُسْعٍ.

ولو أقرّ الأخوان من الأُمّ بأخٍ منها ، دفعنا إليه ثلث ما في يدهما ،

٤٧٤

سواء صدّقهما الأخ من الأب أو كذّبهما.

ولو أقرّ به أحدهما خاصّةً ، دفع إليه ثلث ما في يده.

ولا اعتبار بتصديق الأخ من الأب أو تكذيبه ، لكن لو صدّق وكان عَدْلاً كان شاهداً ، فإن كان الـمُقرّ عَدْلاً ثبت النسب ، وإلّا فلا.

* * *

٤٧٥

الفصل السادس : في ا للواحق‌

مسألة ١٠١٤ : لو كانت جارية في يد إنسانٍ فجاء غيره وقال له : بعتك هذه الجارية بكذا وسلّمتُها إليك فأدِّ الثمن ، وقال المتشبّث : بل زوّجتنيها على صداق كذا وهو علَيَّ ، فإن جرى هذا التنازع وصاحب اليد لم يولدها ، حلف كلّ واحدٍ منهما على نفي ما يدّعيه الآخَر ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما مُدّعٍ وقد اتّفقا معاً على إباحة الوطء ، فإن حلفا سقط دعوى الثمن والنكاح ، ولا مهر ، سواء دخل بها صاحب اليد أو لم يدخل ؛ لأنّه وإن أقرّ بالمهر لمن كان مالكاً(١) فهو منكر له ، وتعود الجارية إلى المالك.

وفي جهة رجوعها احتمال بين أنّها تعود إليه ، كما يعود المبيع إلى البائع لإفلاس المشتري بالثمن ، وبين أنّها تعود بجهة أنّها لصاحب اليد بزعمه ، وهو يستحقّ الثمن عليه ، وقد ظفر بغير جنس حقّه من ماله.

وللشافعيّة وجهان(٢) كهذين.

فعلى هذا الثاني يبيعها ويستوفي ثمنها ، فإن فضل شي‌ء فهو لصاحب اليد ، ولا يحلّ له وطؤها.

وعلى الأوّل يحلّ له وطؤها والتصرّف فيها ، ولا بدّ من التلفّظ بالفسخ.

____________________

(١) فيما عدا « ج » من النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مالكها ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٧ - ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٧.

٤٧٦

وإن حلف أحدهما دون الآخَر ، فإن حلف مدّعي الثمن على نفي التزويج ونكل صاحب اليد عن اليمين على نفي الشراء ، حلف المدّعي اليمينَ المردودة على الشراء ، ووجب الثمن.

وإن حلف صاحب اليد على نفي الشراء ونكل الآخَر عن اليمين على نفي التزويج ، حلف صاحب اليد اليمينَ المردودة على النكاح ، وحُكم له بالنكاح وبأنّ رقبتها للآخَر.

ثمّ لو ارتفع النكاح بطلاقٍ أو غيره ، حلّت للسيّد في الظاهر ، وكذا في الباطن إن كان كاذباً.

وعن بعض الشافعيّة : إنّه إذا نكل أحدهما عن اليمين المعروضة عليه ، اكتفي من الثاني بيمينٍ واحدة يجمع فيها بين النفي والإثبات(١) .

والمشهور عند الشافعيّة : الأوّل(٢) .

مسألة ١٠١٥ : لو جرى هذا التنازع وصاحب اليد قد أولدها ، فالولد حُر ، والجارية أُمّ ولدٍ له باعتراف المالك القديم وهو يدّعي الثمن ، فيحلف صاحب اليد على نفيه ، فإن حلف على نفي الشراء سقط عنه الثمن المدّعى.

وهل يرجع المالك عليه بشي‌ء؟ فيه احتمال أن يرجع بأقلّ الأمرين من الثمن أو المهر ؛ لأنّه يدّعي الثمن وصاحب اليد يُقرّ له بالمهر ، فالأقلّ منهما [ متّفق ](٣) عليه ، وأن لا يرجع عليه بشي‌ء ؛ لأنّ صاحب اليد أسقط الثمن عن نفسه بيمينه ، والمهر الذي يُقرّ به لا يدّعيه الآخَر ، فلا يتمكّن من المطالبة به.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٧.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « متيقّن ». والمثبت هو الصحيح.

٤٧٧

وللشافعيّة (١) كهذين الاحتمالين.

وهل لصاحب اليد تحليف المالك على نفي الزوجيّة بعد ما حلف على نفي الشراء؟ فيه للشافعيّة وجهان :

أحدهما : لا ؛ لأنّه لو ادّعى ملكها وتزويجها بعد اعترافه أنّها أُمّ ولدٍ للآخَر لا يُقبل منه فكيف يحلف على ما لو أقرّ به لم يُقبل!؟

والثاني : نعم ، طمعاً في أن ينكل فيحلف فيثبت له النكاح(٢) .

ولو نكل صاحب اليد عن اليمين على نفي الشراء ، حلف المالك القديم اليمينَ المردودة ، واستحقّ الثمن.

وعلى كلّ حال فالجارية مقرّرة في يد صاحب اليد وأنّها أُمّ ولده أو زوجته ، وله وطؤها في الباطن ، وفي الحلّ ظاهراً وجهان للشافعيّة :

أظهرهما عندهم : الحلّ.

ووجه المنع : إنّه لا يدري أنّه أيطأ زوجته أو أمته؟ وإذا اختلفت الجهة وجب الاحتياط للبُضْع ، كما قال الشافعي [ فيما ](٣) إذا اشترى زوجته بشرط الخيار : إنّه لا يطأها في زمن الخيار ؛ لأنّه لا يدري أيطأ زوجته أو أمته؟(٤) .

واعتذر الجويني عن قول الشافعي هذا ، وقال : ليس المنع من الوطئ في هذه الصورة لاختلاف الجهة ، بل لأنّ الملك في زمن الخيار للمشتري على قولٍ ، وإذا ثبت الملك انفسخ النكاح ، والملك الثابت ضعيف لا يفيد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٨.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إنّه » والمثبت من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٨ - ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٨.

٤٧٨

حلّ الوطىء (١) .

ونفقتها على صاحب اليد إن جوّزنا له الوطء ، وإلّا فللشافعي قولان :

أحدهما : إنّها على المالك القديم ؛ لأنّها كانت عليه ، فلا يُقبل قوله في سقوطها وإن قُبِل فيما عليه ، وهو زوال الملك وثبوت الاستيلاد.

وأصحّهما عندهم : إنّها في كسب الجارية ، ولا يُكلّف بها المالك القديم ، كما لا يُكلّف نفقة الولد وإن كانت حُرّيّته مستفادةً من قوله أيضاً ، فعلى هذا لو لم يكن لها كسبٌ كانت من محاويج المسلمين(٢) .

ولو ماتت الجارية قبل موت المستولد ، ماتت قِنّةً ، وللمالك القديم أخذ الثمن ممّا تركته من كسبها ؛ لأنّ المستولد يقول : إنّها بأسرها له ، وهو يقول : إنّها للمستولد وله عليه الثمن ، فيأخذ حقّه منها ، والفاضل موقوف لا يدّعيه أحد.

وإن ماتت بعد موت المستولد ، ماتت حُرّةً ، ومالُها لوارثها النسيب ، فإن لم يكن فهو موقوف ؛ لأنّ الولاء لا يدّعيه واحد منهما ، وليس للمالك القديم أخذ الثمن من تركتها ؛ لأنّ الثمن بزعمه على المستولد ، وهي قد عُتقت بموته ، فلا يؤدّى دَيْنه ممّا جمعَتْه بعد الحُرّيّة.

هذا كلّه فيما إذا أصرّا على كلاميهما ، أمّا إذا رجع المالك القديم وصدّق صاحبَ اليد ، لم يُقبل في حُرّيّة الولد وثبوت الاستيلاد ، فيكون اكتسابها له ما دام المستولد حيّاً ، فإذا مات عُتقت ، وكان اكتسابها لها.

ولو رجع المستولد وصدّق المالكَ القديم ، لزم الثمن ، وكان ولاؤها‌ له.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٨.

٤٧٩

مسألة ١٠١٦ : إذا أقّر الورثة بأسرهم بدَيْنٍ على الميّت أو بشي‌ء من ماله للغير ، كان مقبولاً‌ ؛ لأنّه كإقرار الميّت ، وذلك لأنّ الإقرار هنا في الحقيقة على أنفسهم ؛ لانتقال التركة إليهم.

ولو أقرّ بعض الورثة عليه بدَيْنٍ وأنكر البعض ، فإن أقرّ اثنان وكانا عَدْلين ثبت الدَّيْن على الميّت بشهادتهما.

وإن لم يكونا عَدْلين ، نفذ إقرار الـمُقرّ في حقّ نفسه خاصّةً ، ويؤخذ منه من الدَّيْن الذي أقرّ به بنسبة نصيبه من التركة ، فإذا كانت التركة مائةً ونصيب الـمُقرّ خمسين فأقرّ الوارث بخمسين للأجنبيّ وكذّبه الآخَر الذي نصيبه أيضاً خمسون ، أُخذ من نصيب الـمُقرّ خمسة وعشرون ، وهو القدر الذي يصيبه من الدَّيْن ؛ لأنّا نبسط جميع الدَّيْن على جميع التركة ، وقد أصاب الـمُقرّ من التركة نصفها ، فعليه نصف الدَّيْن - وبه قال الشافعي في الجديد(١) - لأنّ الوارث لا يُقرّ بالدَّيْن على نفسه ، وإنّما يُقرّ على الميّت بحكم الخلافة عنه ، فلا ينفذ إقراره إلاّ بقدر الخلافة ، ولأنّ أحد الشريكين في العبد إذا أقرّ بجنايةٍ لم يلزمه إلّا بقدر حصّته ، فكذا هنا.

وفي قديم الشافعي : إنّ على الـمُقرّ توفيةَ جميع الدَّيْن من نصيبه من التركة ، فإن كان وافياً ، وإلّا صُرف جميع نصيبه في الدَّيْن - وبه قال أبو حنيفة - لأنّ الدَّيْن مقدَّم على الميراث ، فإذا أقرّ بدَيْنٍ على الميّت ، لم يحل أخذ شي‌ء من التركة ما بقي شي‌ء من الدَّيْن - وبه قال ابن سريج من الشافعيّة - لأنّ الـمُقرّ في نصيبه لا يقصر عن الأجنبيّ في جملة التركة ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ١٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٥٥ ، بحر المذهب ٨ : ٣٢٩ ، حلية العلماء ٨ : ٣٨٠ ، البيان ١٣ : ٤٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٠٨ / ١٩٠٣.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501