تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125776 / تحميل: 5780
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بشئ من امرك، فخذ هاهنا، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسينعليه‌السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين اني اذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال له الحسينعليه‌السلام : ( أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوفه ابن عمه وقال:أين تذهب؟ فانّك مقتول ؛ فقال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرّجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وباعد(١) مجرما

فإن عشت لم اندم وان متّ لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسينعليه‌السلام في ناحية أخرى، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(٢) .

ثمّ مضى الحسينعليه‌السلام حتّى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال: ( لمن هذا؟ ) فقيل: لعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، فقال:( ادعوه اليّ ) فلما أتاه الرّسول قال له: هذا الحسين بن عليّ يدعوك، فقال عبيد الله: انّا لله وانّا اليه راجعون، والله ماخرجت من الكوفة الّا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرّسول فأخبره فقام الحسين عليه

__________________

(١) في هامش (ش) و (م): وخالف.

(٢) عذيب الهجانات: موضع في العراق قرب القادسية (معجم البلدان ٤: ٩٢ ).

٨١

السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَنا(١) أحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ: أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُعليه‌السلام من عندِه حتّى دخلَ رحله.

ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ: سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ، وهو يقولُ: «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِعليهما‌السلام على فرسٍ فقالَ: ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ؟ فقاَل: «يا بُنَيَّ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ: القومُ يسيرونَ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له: يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ؟ قالَ: «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال: فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه ».

فلما أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الرّكوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه، فارتفعوا فلم

__________________

(١) الواعية: الصارخة. « الصحاح - وعى - ٦: ٢٥٢٦ ».

٨٢

يزالوا يتياسرونَ كذاك حتّى انتهَوا إِلى نينَوى - المكانِ الّذي نزلَ به الحسينُعليه‌السلام - فإِذا راكبٌ على نجيبِ له عليه السِّلاحُ متنكِّبٌ قوساً مقبلٌ منَ الكوفةِ، فوَقَفُوا جميعاً ينتظَرونَه(١) فلمّا انتهى إِليهم سلّمَ على الحرِّ وأصحابِه ولم يسلِّمْ على الحسينِ وأصحابِه، ودفعَ إِلى الحرِّ كتاباً من عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ فإِذا فيه:

أمّا بعدُ فَجَعْجِعْ(٢) بالحسينِ حينَ يَبلُغُكَ كتابي ويقدمُ عليكَ رسولي، ولا تُنْزِلْه(٣) إِلاّ بالعراءِ في غيرِ حصنٍ وعلى غيرِماءٍ، فقد أمرتُ رسولي أن يَلزَمَك ولا يفُارِقَكَ حتّى يأْتيني بإِنفاذِكَ أمري، والسّلامُ.

فلمّا قرأ الكتابَ قالَ لهم الحرُ: هذا كتابُ الأَميرِ عُبيدِاللهِّ يأْمرُني أَن أُجَعْجِعَ بكم في المكانِ الّذي يأْتي كتابُه، وهذا رسولُه وقد أمرَه أَلاّ يفارقَني حتّى أُنَفّذَ أَمْرَه.

فنظرَ يزيد بنُ المهاجرِ الكنانيّ(٤) - وكانَ معَ الحسينِعليه‌السلام - إلى رسولِ ابن زيادٍ فعرفَه فقالَ له يزيدُ: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ، ماذا جئتَ فيه؟ قالَ: أَطعتُ إِمامي ووفيتُ ببيعتي، فقالَ له ابنُ المهاجرِ: بل عصيتَ ربَّكَ وأطعتَ إِمامَكَ في هلاكِ نفسِكَ وكسبتَ العارَ والنّارَ، وبئسَ الإمامُ إِمامكَ، قالَ اللّهُ عزَّ من قائلٍ

__________________

(١) في هامش «ش»: ينظرونه.

(٢) في الصحاح - جعجع - ٣: ١١٩٦: كتب عبيدالله بن زياد الى عُمربن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الاعرابي: يعني ضيّق عليه.

(٣) في « ش » و « م»: تتركه، وما في المتن من هامشهما.

(٤) في هامش « ش » و «م»: الكندي.

٨٣

 ( وَجَعَلنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُوْنَ إِلىَ النًارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصرُوْنَ ) (١) فإِمامُكَ منهم.

وأخذَهم الحرُّ بالنُّزولِ في ذلكَ المكانِ على غيرماءٍ ولا قريةٍ، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « دَعْنا - ويحك - ننزل في هذه القريةِ أوهذه - يعني نينَوَى والغاضِريّةَ - أو هذه - يعني شِفْنَةَ(٢) - » قالَ: لا واللّهِ ما أستطيعُ ذلكَ، هذا رجل قد بُعِثَ اليّ عيناً عليّ، فقالَ له زُهَيرُ بنُ القَيْنِ: إِنِّي واللّهِ ما أراه يكونُ بعدَ هذا الّذي تَرَوْنَ إِلا أَشدَّ ممّا تَرَوْنَ، يا ابنَ رسولِ اللّهِ، إِنّ قتالَ هؤلاءِ السّاعةَ أهونُ علينا من قتالِ من يأْتينا بعدَهم، فلعَمْري لَيَاْتيَنا بعدَهم ما لا قِبلَ لنا به، فقالَ الحسينعليه‌السلام : «ما كنتُ لأَبدأهم بالقتالِ » ثمّ نزل ؛ وذلكَ يومَ الخميسِ وهو اليوم(٣) الثّاني منَ المحرّمِ سنةَ إِحدى وستَينَ.

فلمّا كانَ منَ الغدِ قدمَ عليهم عُمَرُبنُ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ منَ الكوفةِ في أربعةِ آلافِ فارسٍ، فنزلَ بنينوى وبعثَ إِلى الحسينِعليه‌السلام ( عُروةَ بنَ قَيْسٍ )(٤) الأحمسيّ فقالَ له: ائتِهِ فسَلْه ما الّذي جاءَ بكَ؟ وماذا تريدُ؟

وكانَ عُروةُ ممّن كتبَ إلى الحسينِعليه‌السلام فاستحيا منه أن ياْتيَه، فعرضَ ذلكَ على الرؤَساءِ الّذينَ كاتبوه، فكلّهم

__________________

(١) القصص ٢٨: ٤١.

(٢) في هامش « ش » و «م»: شفَيّنة، شُفيّة. وكأنها شفاثا. في هامش «م» نسخة اُخرى:

(٣) في« م» و « ش»: يوم، وما في المتن من «ح » وهامش « ش».

(٤) انظر ص ٣٨ هامش (١) من هذا الكتاب.

٨٤

أبى ذلكَ وكرِهَه، فقامَ إِليه كَثيرُبنُ عبدِاللهِّ الشَّعْبِيّ وكانَ فارساً شُجاعاً لا يَرُدُّ وجهَه لشيءٌ فقالَ: أنا أذهبُ إِليه، وواللّهِ لئن شئتَ لأفْتكنَّ به ؛ فقالَ له عُمَرُ: ما أُريدُ أن تَفتكَ به، ولكنِ ائتِه فسَلْه ما الّذي جاءَ بك؟

فاقبلَ كثيرٌ إِليه، فلمّا رآه أبو ثمامةَ الصّائديُّ قالَ للحسينِعليه‌السلام : أصلَحَكَ اللهّ يا أَبا عبدِاللهِّ، قد جاءَكَ شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤهم على دم، وأفتكُهم(١) . وقامَ إِليه فقالَ له: ضَعْ سيفَكَ، قالَ: لا ولا كرامة، إِنّما أنا رسولٌ، فإِن سمعتم منِّي بلّغتُكم ما أرْسِلْتُ به إِليكم، وان أبَيتم انصرفتُ عنكم، قالَ: فإِنِّي آخذُ بقائِمِ سيفِكَ، ثمّ تكلّم بحاجتِكَ، قالَ: لا واللهِّ لا تمسَّه، فقالَ له: أخبرْني بما جئتَ به وأَنا أُبلِّغهُ عنكَ، ولا أدعُكَ تدنو منه فإِنّكَ فاجرٌ ؛ فاستَبّا وانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأخبرَه الخبرَ.

فدعا عمرُقُرّةَ بنَ قيسٍ الحنظليّ فقالَ له: ويحَكَ يا قُرّةُ، القَ حسيناً فسَلْه ما جاءَ به وماذا يريد؟ فأتاه قُرّةُ فلمّا رآه الحسينُ مقبلاً قالَ: «أتعرفونَ هذا؟» فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرِ: نعم، هذا رجلٌ من حنظلةِ تميم، وهو ابنُ أُختِنا، وقد كنتُ أعرَفه بحسنِ الرٌأي، وما كنتُ أراه يشهَدُ هذا المشهدَ. فجاءَ حتّى سلَّمَ على الحسينِعليه‌السلام وأبلغَه رسالةَ عمرِ بنِ سعدٍ إِليه، فقالَ له الحسينُ: «كَتبَ إِليَّ أهلُ مِصْرِكم هذا أن اقدم، فأمّا إِذ كرهتموني فأنا أنصرفُ عنكم » ثمّ قالَ حبيبُ بنُ مُظاهِر: ويحَكَ يا قُرّةً أينَ ترجعُ؟! إلى القوم الظّالمينَ؟! انْصُرْ هذا الرّجلَ الّذي بآبائه أيّدَكَ اللّهُ بالكرامةِ، فقالَ له قُرّةُ: أَرجعُ إِلى صاحبي

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأجرأُه على دم وأفتكه.

٨٥

بجواب رسالتِه، وأرى رأيي. قالَ: فانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأَخبرَه الخبرَ؛ فَقالَ عمرُ: أرجو أن يعافيَني اللهُ من حربه وقتالِه ؛ وكتبَ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ:

بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمَ، أمّا بعدُ: فإِنِّي حينَ نزلتُ بالحسينِ بعثتُ إِليه رسلي، فسألتُه عمّا اقْدَمَه، وماذا يطلبُ؟ فقالَ: كتبَ إِليَّ أَهْلُ هذه البلادِ، واتتْني رُسُلُهم يسألونَني القدومَ ففعلتُ، فأمّا إِذ كرهوني وبدا لهم غيرُما أتَتْني به رُسُلُهم، فأَنا منصرفٌ عنهم.

قالَ حسّانُ بنُ قائدٍ العَبْسيّ: وكنتُ عندَ عُبيدِاللهِّ حينَ أَتاه هذا الكتابُ، فلمّا قرأه قالَ:

ألآنَ إِذْ عَلِقَتْ مَخَالبنَا بِهِ

يَرْجُو النَّجَاةَ وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصِ

 وكتبَ إِلى عمربن سعدٍ:

أمّا بعدُ: فقد بلغَني كتابُكَ وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرِضْ على الحسينِ أَن يُبايعَ ليزيدَ هو وجميعُ أصحابه، فإِذا فعلَ هو ذلكَ رأينا رأيَنا، والسّلامُ.

فلمّا وردَ الجوابُ على عمر بن سعدٍ قالَ: قد خشيتُ ألاّ يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ.

ووردَ كتابُ ابنِ زيادٍ في الأثرِ إلى عمر بن سعدٍ: أن حُلْ بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ فلا يَذوقوا منه قطرةً، كما صُنعَ بالتّقيِّ الزّكيِّ عُثمان بن عفَّان. فبعثَ عمرُبنُ سعدٍ في الوقتِ عَمْرَو بنَ الحجّاجِ في خمسمائةِ فارس، فنزلوا على الشّريعةِ وحالوا بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ أن يَستَقُوا منه قطرةً، وذلكَ قبلَ قتل الحسين بثلاثةِ

٨٦

أيّامٍ، ونادى عبدُاللّه بن الحُصين(١) الأزديّ - وكانَ عِدادُه في بَجيلةً - بأعلى صوته: يا حسينُ، ألا تنظرُإِلى الماءِ كأنّه كَبدُ السّماءِ، واللّهِ لا تَذُوقونَ منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً؛ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «اللّهمَّ اقْتًلْهُ عَطَشاً ولا تَغْفِرْله أبداً».

قالَ حميدُ بنُ مسلمٍ: واللّهِ لَعُدْتُه بعدَ ذلكَ في مرضِه، فواللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لقد رأيتُه يَشرَبُ الماءَ حتّى يَبغَرَ(٢) ثمّ يقيئه، ويصيحُ: العطشَ العطش، ثمّ يعودُ فيشرَبُ الماءَ حتّى يَبْغَرَثم يقيئه ويتلَظّى عَطَشاً، فما زالَ ذلكَ دأبه حتّى (لَفَظَ نفسَه )(٣) .

ولمّا رأى الحسينُ نزولَ العساكرِ مع عمرِ بن سعدٍ بنينوى ومدَدَهم لقتالِه أنفذَ إِلى عمر بن سعدٍ: «انِّي أُريدُ أن ألقاكَ(٤) » فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً، ثمّ رجعَ عمرُ بنُ سعدٍ إِلى مكانِه وكتبَ إِلى عُبيَدِاللهِّ بن زيادٍ:

أمّا بعدُ: فإِنّ اللّهَ قد أطْفأ النّائرةَ وجَمَعَ الكلمةَ وأَصَلحَ أَمرَ الأمّةِ، هذا حسينٌ قد أَعطاني أن يرجِعَ إِلى المكانِ الّذي أتى منه أو أن يسيرَ إِلى ثَغرٍ منَ الثُّغورِ فَيكونَ رجلاًَ منَ المسلمينَ، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أَن يأَتيَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ فيضعَ يدَه في يدِه، فيرى فيما بينَه وبينَه رأيَه، وفي هذا[لكم](٥) رضىً وللأمّةِ صلاحٌ.

__________________

(١) في «م» وهامش « ش »: حِصْن.

(٢) بغر: كثر شربه للماء، انظر «العين - بغر - ٤: ٤١٥».

(٣) في هامش « ش »: مات.

(٤) في هامش « ش » بعده اضافة: واجتمع معك.

(٥) ما بين المعقوفين اثبتناه من تأريخ الطبري ٥: ٤١٤، والكامل لابن الأثير ٤: ٥٥

٨٧

فلمّا قرأ عُبيدُاللّهِ الكتابَ قالَ: هذا كتابُ ناصحٍ مشفق على قومِه. فقامَ إِليه شِمْرُ بنُ ذي الجَوْشنِ فقالَ: أتَقبلُ هذا منه وقد نزلَ بأرًضِكَ والى جنبكَ؟ واللّهِ لئن رحلَ من بلادِكَ ولم يَضَعْ يدَه في يدِكَ، لَيكونَنَّ أولى بالقَوّةِ ولتكونَنَّ أولى بالضَّعفِ والعجز، فلا تُعْطِه هذه المنزلةَ فإِنّها منَ الوَهْنِ، ولكن لِينَزِلْ على حُكمِكَ هو وأصحابُه، فان عاقبْتَ فأنت (أَولى بالعقوبةِ )(١) وإن عفَوْتَ كانَ ذلكَ لك.

قالَ له ابنُ زيادٍ: نِعْمَ ما رأيتَ، الرأيُ رأيُك، اخْرجُ، بهذا الكتاب إِلى عُمَر بن سعدٍ فلْيَعْرِضْ على الحسينِ وأصحابه النًّزولَ على حُكْمِي، فإِن فَعَلوا فليَبْعَثْ بهم إِليّ سِلماً، وأن هم أًبَوْا فليقاتلْهم، فإِن فَعَلَ فاسمعْ له وأطِعْ، واِن أبى أن يقاتِلَهم فأنتً أَميرُ الجيشِ، واضرِبْ عُنقَه وابعثْ إِليَّ برأسِه.

وكتبَ إِلى عمر بن سعدٍ:انِّي لم أبعثْكَ إِلى الحسينِ لتكفَّ عنه ولا لتُطاوِلَه ولا لتمنّيَه السّلامةَ والبقاءَ ولا لتَعتَذِرَ له ولا لتكونَ له عندي شافعاً، انظرْ فإِن نزلَ حسينٌ وأصحابُه على حكمي واستسلموا فابعثْ بهم إِليَّ سِلْماً، وِان أبوْا فازحَفْ إِليهم حتّى تقتُلَهم وتُمثِّلَ بهم، فإِنّهم لذلكَ مستحقُّونَ، وِان قُتِلَ الحسينُ فأوْطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه، فإِنّه عاتٍ ظلومٌ، وليس أَرى أنّ هذا يَضُرُّ بعدَ الموتِ شيئاً، ولكنْ عليّ قولٌ قد قلتُه: لوقتلتُه لفعلتُ هذا به، فإِن أنتَ مضيتَ لأَمرِنا فيه جزَيْناكَ جزاءَ السّامعِ المطيعِ، وإن أبيتَ فاعتزلْ عَمَلَنا وجُنْدَنا، وخلِّ

__________________

والنسخ خالية منه.

(١) في هامش «ش»: وليّ العقوبة.

٨٨

بينَ شمرِ بنِ ذي الجوشنِ وبينَ العسكرِ فإِنّا قد أمرناه بأمرنا، والسّلام.

فأقبلَ شمرٌ بكتاب عًبيدِاللّهِ إِلى عمربن سعدٍ، فلمّا قدمَ عليه وقرأَه قالَ له عمرُ: ما لَكَ ويْلَكَ؟! لا قَرَّبَ اللّهُ دارَكَ، قَبَّح اللهُ ما قَدِمْتَ به عليّ، واللّهِ إِنِّي لاظنُّكَ أنّكَ نهيتَه(١) أن يَقْبَلَ ما كتبتُ به إِليه، وأفسدتَ علينا أمْرنَا، قد كنّا رَجَوْنا أن يصلحَ، لا يستسلمُ واللّهِ حسينٌ، إِنَّ نفسَ أبيه لبَيْنَ جنبَيْه. فقالَ له شمرٌ: أخبِرني ما أَنتَ صانعٌ، أتمضِي لأَمرِ أميرِكَ وتقاتلُ عدوٌه؟ ِوألاّ فخلِّ بيني وبينَ الجندِ والعسكر؛ قالَ: لا، لا واللّهِ ولاكَرامةَ لكَ، ولكنْ أنا أتولىّ ذلكَ، فدونَكَ فكُنْ أنتَ على الرَّجّالةِ. ونهضَ عمرُبنُ سعدٍ إِلى الحسينِ عشيّةَ الخميسِ لتسعٍ مضَيْنَ منَ المحرّمِ.

وجاءَ شِمرٌ حتّى وقفَ على أصحاب الحسينِعليه‌السلام فقالَ: أينَ بَنُو أُختِنا؟ فخرجَ إِليه العبّاسُ وجَعْفَرٌ(٢) وعثمانُ بنوعليِّ بنِ أبي طالب عليه وعليهم السّلامُ فقالوا: ماتريدً؟ فقلَ: أنتم يابني أُختي امِنونَ ؛ فقالتْ له الفِتْيةُ: لَعَنَكَ اللهّ ولَعَنَ أمانَكَ، أتؤمِنُنَا(٣) وابنُ رسولِ اللّهِ لا أمانَ له؟!

ثمّ نادى عمرُ بنُ سعدٍ: يا خيلَ اللّهِ اركبي وأبشري، فركِبَ النّاس ثمّ زحفَ نحوَهمِ بعد العصرِ، وحسينٌعليه‌السلام جالسٌ أمامَ بيتِه مُحتب بسيفِه، إِذ خفقَ برأسِه على ركبتَيْه، وسمعَتْ أُختُه

__________________

(١) في هامش «ش»، و « م»: ثنيته.

(٢) في هامش «ش»: وعبدالله، وفوقه مكتوب: لم يكن في نسخة الشيخ.

(٣) في «م» وهامش «ش»: تؤمنَنا.

٨٩

الصّيحةَ(١) فدنَتْ من أَخيها فقالت: يا أخي أما تسمعُ الأصواتَ قدِ اقتربتْ؟ فرفعَ الحسينُعليه‌السلام رأسَه فقالَ: «إِنِّي رأيتُ رسولَ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعةَ في المنام(٢) فقالَ لي: إِنّكَ تَرُوحً إِلينا» فلطمتْ أُختُه وجهَها ونادتْ بالويلِ، فقَالَ لها: «ليسَ لكِ الويلُ يا أُخيَّةُ، اسكتي رحمَكِ اللّهُ » وقالَ له العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمةُ اللّهِ عليه: يا أخي أتاكَ القومُ، فنهضَ ثمّ قالَ: «يا عبّاسُ، اركَبْ - بنفسي أنتَ يا أخي - حتّى تَلْقاهم وتقولَ لهم: ما لكم وما بَدا لكم؟ وتسألَهم عمّا جاءَ بهم ».

فأتاهم العبّاسُ في نحوٍ من عشرينَ فارساً، منهم(٣) زُهَيرُ بن القَيْنِ وحبيبُ بنُ مظاهِرٍ، فقالَ لهم العبّاسُ: ما بدا لكم وما تريدونَ؟ قالوا: جاءَ أًمرُ الأميرِأَن نَعْرضَ عليكم أن تنزلوا على حكمِه أَو نناجِزَكم ؛ قالَ: فلا تعجلوا حتّىَ أَرجعَ إِلى أبي عبدِاللهِّ فأعرِضَ عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: الْقَه فأعْلِمْه، ثمّ الْقَنا بما يقولُ لكَ. فانصرفَ العباسُ راجعاً يركضُ إِلى الحسينِعليه‌السلام يخبرُه الخبرَ، ووقفَ أَصحابُه يخاطِبونَ القومَ ويَعِظُونَهم ويكفّونَهم عن قتاَلِ الحسينِ.

فجاءَ العبّاسُ إِلى الحسينِعليه‌السلام فأخبرَه بما قالَ القومُ، فقالَ: «ارجعْ إِليهم فإِنِ استطعتَ أَن تُؤَخِّرَهم إِلى الغُدْوَةِ(٤) وتَدْفَعَهم

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: الضجّة.

(٢) في «م» وهامثر «ش»: منامي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: فيهم.

(٤) في «م» وهامش « ش »: غدوة.

٩٠

عنّا العشيّةَ، لعلّنا نصلِّي لربِّنا الليلةَ وندعوه ونستغفرُه، فهو يَعلمُ أَنَي قد أُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِه والدُّعاءَ والاستغفارَ».

فمضى العبّاسُ إِلى القوم ورجعَ من عندِهم ومعَه رسولٌ من قبَل عمر بن سعدٍ يقول: إِنّا قد أجَّلناكم إِلى غدٍ، فإِنِ استسلمتم سرَّحْناكم إلى أميرِنا عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، وإِن أَبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرفَ.

فجمعَ الحسينعليه‌السلام أَصحابَه عندَ قربِ المساءِ. قالَ عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدينَعليه‌السلام : «فدنوتُ منه لأَسْمَعَ ما يقولُ لهم، وأَنا إِذ ذاك مريضٌ، فسمعتُ أَبي يقولُ لأصحابِه: أُثني على اللهِّ أَحسنَ الثّناءِ، وأَحمده على السّرّاءِ والضّرّاءِ، اللّهمَّ إِنِّي أحْمَدُكَ على أن أكرمْتَنا بالنُّبُوّةِ وعَلّمتنَا القرآنَ وفَقَّهْتَنَا في الدِّينِ، وجعلت لنا أسماعاً وأَبصاراً وأَفئدةً، فاجعلْنا منَ الشّاكرينَ.

أَمّا بعدُ: فإِنِّي لا أَعلمُ أَصحاباً أَوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أَهلَ بيتٍ أَبرَّ ولا أوصلَ من أَهلِ بيتي فجزاكم اللّهُ عنَي خيراً، أَلا وإِنَي لأَظنَّ أَنّه اخرُ(١) يومٍ لنا من هؤلاءِ، أَلا وإِنّي قد أَذنت لكم فانطلِقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منِّي ذِمامٌ، هذا الليلُ قد غشِيَكم فاتّخِذوه جَملاً.

فقالَ له إِخوتُه وابناؤه وبنوأخيه وابنا عبدِاللهِّ بنِ جعفرٍ: لِمَ نفعلُ ذلكَ؟! لنبقى بعدَكَ؟! لا أَرانا اللهُّ ذلكَ أبداً. بدأهم بهذا القولِ العبّاس بنُ عليٍّ رضوانُ اللهِّ عليه واتّبعتْه الجماعةُ عليه فتكلّموا بمثله ونحوِه.

__________________

(١) في «ش» و «م»: لأَظن يوماً. وما اثبتناه من «ح ».

٩١

فقالَ الحسينُعليه‌السلام : يا بني عقيلٍ، حَسْبُكم منَ القتلِ بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد اذِنْتُ لكم. قالوا: سبحانَ اللهِ، فما يقولُ النّاسُ؟! يقولونَ إِنّا تركْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتنا - خيرِ الأعمامِ - ولم نرْمِ معَهم بسهِمٍ، ولم نطعنْ معَهم برُمحٍ، ولم نضْرِبْ معَهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا، لا واللّهِ ما نفعلُ ذلكَ، ولكنْ ( تَفْدِيكَ أنفسُنا وأموالنُا وأهلونا )(١) ، ونقاتل معَكَ حتّى نَرِدَ موردَكَ، فقَبحَ الله العيشَ بعدَكَ.

وقامَ إِليه مسلمُ بنُ عَوْسَجةَ فقالَ: أنُخلِّي(٢) عنكَ ولمّا نُعذِرْإِلى اللهِ سبحانَه في أداءِ حقِّكَ؟! أما واللهِّ حتّى أطعنَ في صُدورِهم برمحي، وأضربَهم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أُقاتلُهم به لقَذَفْتهم بالحجارةِ، واللهِّ لا نُخلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنْ قد حَفِظْنا غيبةَ رسولِ اللّهِ(٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكَ، واللّهِ لوعلمتُ أنِّي أُقْتَلُ ثمّ أحيا ثم أُحرقُ ثم أحيا ثم أُذَرَّى، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرة ما فارقتُكَ حتّى ألقى حِمامي دونَكَ، فكيفَ لا أفعلُ ذلكَ ِوانّما هي قَتْلةٌ واحدةُ ثمّ هي الكَرامةُ الّتي لا انْقِضاءَ لها أبداً.

وقامَ زُهَيرُ بنُ القَيْن البجليّ - رحمةُ اللهِّ عليهِ - فقالَ: واللهِ لوَددْتُ أنِّي قُتِلْتُ ثمّ نُشِرْتُ ثمّ قُتِلْت حتّى أًقتلَ هكذا ألفَ مرّةٍ، وأَنّ الله تعالى يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِكَ، وعن أنفُسِ هؤلاء الفِتْيانِ من أهل بيتِكَ.

__________________

(١) كذا في «م» وهامش «ش»، وفي «ش»:(نُفدّيك أنفسنا وأموالنا وأهلينا).

(٢) في «م» وهامش «ش»: أنحن نخلي.

(٣) في هامش «ش»: رسوله.

٩٢

وتكلّمَ جماعةُ أصحابه(١) بكلام يُشبهُ بَعضُه بعضاً في وجهٍ واحدٍ، فجزّاهم الحسينُعليه‌السلام خيراً وَانصرفَ إلى مضِربه(٢) ».

قالَ عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام : «اِنيّ لَجالسٌ في تلكَ العشيّةِ الّتي قُتِلَ أبي في صبيحتِها، وعندي عمّتي زينبُ تمرّضني، إِذِ اعتزلَ أبي في خباءٍ له وعندَه جُويْنٌ مولى أبي ذرٍّ الغفار وهويُعالجُ سيفَه ويُصلِحُه وأبي يقولُ:

يَادَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ

كَمْ لكَ بالإشراقِ وَالأصِيْلِ

مِنْ صَاحِبٍ أوْ طَالِبِ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالْبَدِيْل

وانَّمَا الأمْرُ إِلى الجَلِيْلِ

وَكلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيْلِيْ

 فأعادَها مرّتينِ أو ثلاثاً حتّى فهِمْتُها وعَرفْتُ ما أرادَ، فخنقَتْني العَبْرةُ فردَدْتُها ولزمتُ السُّكوتَ، وعلمتُ أنّ البلاءَ قد نزلَ، وأمّا عمّتي فإنهّا سَمِعَتْ ماسَمِعْتُ وهيَ امرأةٌ ومن شاْنِ النساءِ الرّقّةُ والجَزعُ، فلم تَملِكْ نفسَها أنْ وَثَبَتْ تجرُّثوبَها(٣) وأنّها لَحاسرة، حتّى انتهتْ إِليه فقالتْ: وا ثكْلاه! ليتَ الموتَ أعدمَني الحياةَ، اليومَ ماتْتْ أُمِّي فاطمةُ وأبي عليّ وأخي الحسنُ، يا خليفةَ الماضِي وثِمالَ الباقي. فنظرَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فقالَ لها: يا أُخيَّةُ لا يذْهِبَنَ حلمَكِ الشّيطانُ، وتَرَقْرَقَتْ عيناه بالدُموعِ وقالَ: لو تُرِكَ القَطَا لَنامَ(٤) ؛ فقالتْ: يا ويلتاه!

__________________

(١) في هامش «ش»: من أصحابه.

(٢) المضرب: الفسطاط أو الخيمة «القاموس المحيط - ضرب ١: ٩٥».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ذيولها.

(٤) يضرب مثلاًَ للرجل يُستثار فيُظْلَم. انُظر جمهرة الامثال للعسكري ٢: ١٩٤ / ١٥١٨.

٩٣

أفتُغتصبُ نفسُكَ اغتصاباً؟! فذاكَ أقْرَحُ لِقَلبي وأشدَّ على نفسي. ثمّ لطمتْ وجهَها وهَوَتْ إلى جيبِها فشقّتْه وخرتْ مغشيّاً عليها.

فقامَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فصبّ على وجهها الماءَ وقالَ لها: يا أُختاه! اتّقي اللهَّ وتعَزَيْ بعزاءِ اللّهِ، واعْلمي أنّ أهَلَ الأرضِ يموتونَ وأهلَ السّماءِ لا يَبْقَوْنَ، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهَ اللهِّ الّذي خلقَ ألخلقَ بقدرتهِ، ويبعثُ الخلقَ ويعودونَ، وهو فردٌ وحدَه، أبي خيرٌ منِّي، وأُمِّي خيرٌ منِّي، وأخي خيرٌ منِّي، ولي ولكلِّ مسلمٍ برسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوةٌ. فعزّاها بهذا ونحوِه وقالَ لها: يا أُخيّةُ إِنِّي أقسمتُ فأبِرِّي قَسَمي، لا تَشُقِّي عليَّ جيبأً، ولا تَخْمشي(١) عليَّ وجهاً، ولا تَدْعِي عليٌ بالويلِ والثّبورِ إِذا أنا هلكتُ. ثمّ جاءَ بها حتّى أجلسَها عنديّ.

ثمّ خرجَ إِلى أصحابه فأمرَهم أَن يُقَرِّبَ بعضُهم بيوتَهم من بعضٍ، وأن يُدخِلوا الأطنابَ بعضها في بعضٍ، وأن يكونوا بينَ البيوتِ، فيستقبلونَ القومَ من وجهٍ واحدٍ والبيوتُ من ورائهم وعن أيْمانِهم وعن شمائِلهم قد حَفّتْ بهم إلاّ الوجهَ الّذي يأْتيهم منه عدوُّهم.

ورجعَعليه‌السلام إِلى مكانِه فقامَ الليلَ كلَّه يُصلّي ويستغفرُ ويدعو ويتضرّعُ، وقامَ أصحابُه كذلكَ يُصَلًّونَ ويدعونَ ويستغفرونَ »(٢) .

__________________

(١) خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضواً منه. «القاموس - خمش - ٢: ٢٧٣».

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ١، ٢.

٩٤

قالَ الضحّاكُ بنُ عبدِاللهِّ: ومرَّ بنا خيلٌ لابنِ سعدٍ يحرسُنا، وِانَّ حسيناً لَيقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا أنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْمَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين * مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْن عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّب ) (١) فسمعَها من تلكَ الخيلِ رجلٌ يُقالُ له عبداللهّ بن سُميرٍ(٢) ، وكانَ مَضحاكاً وكانَ شجاعاً بطلاًَ فارساً فاتكاً شريفاً فقالَ: نحن وربِّ الكعبةِ الطّيِّبونَ، مُيِّزْنا منكم. فقالَ له بَرِيرُ بنُ خُضيرٍ: يا فاسقُ أَنتَ يجعلُكَ اللهُّ منَ الطّيِّبينَ؟! فقالَ له: من أنتَ ويلَكَ؟ قال: أنا بَرِيرُ بنُ خُضَيْرِ، فتسابّا(٣) .

وأصبحَ الحسيُن بنُ عليّعليهما‌السلام فعبّأَ أصحابَه بعدَ صلاةِ الغداةِ، وكانَ معَه اثنان وثلاثونَ فارساً واربعونَ راجلاًَ، فجعلَ زُهيرَ بنَ القينِ في مَيْمَنةِ أصحابِه، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في مَيْسَرةِ أصحابه، وأعطى رايتَه العبّاسَ أخاه، وجعلوا البيوتَ في ظهورِهم، وأمرَ بحَطًبِ وقَصَبٍ كانَ من وراءِ البيوتِ أَن يُتركَ في خَنْدَقٍ كانَ قد حُفِرَ هناكَ وَأن يُحرَقَ بالنّارِ، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبحَ عمرُ بنُ سعدٍ في ذلكَ اليوم وهو يومُ الجمعةِ وقيلَ يومُ السّبتِ، فعبّأ أصحابَه وخرجَ فيمن معَه منً النّاسِ نحوَ الحسينِعليه‌السلام وكانَ على مَيْمَنَتهِ عَمرُو بنُ الحجّاجِ، وعلى مَيْسَرتَه شِمرُ بنُ ذي الجوشنِ، وعلى الخيلِ عُروةُ بنُ قَيْسٍ، وعلى الرّجّالةِ شَبَثُ بنُ رِبعيّ،

__________________

(١) ال عمران ٣: ١٧٨ - ١٧٩.

(٢) في «م» وهامش «ش»: سميرة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢١، مفصلاً نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٣.

٩٥

واعطى الرّايةَ دُرَيداً(١) مولاه.

فروِيَ عن عَليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدينَعليه‌السلام أنّه قالَ: «لمّا صبّحتِ الخيلُ الحسينَ رَفَعَ يديه وقالَ: اللّهَمّ أنتَ ثِقَتي في كلِّ كَرْبِ، ورجائي في كلِّ شدّةٍ(٢) وأنتَ لي في كلِّ أمر نزلَ بي ثقةٌ وعُدَّة، كمَ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فيه الفؤادُ، وتَقِلُّ فيه الحيلةُ، ويخذُلُ فيه الصّديقُ، ويَشمَتُ فيه العدوُّ، أنزلتُه بكَ وشكوتُه إِليكَ رغبةً منِّي إِليكَ عمَّن سواكَ، ففرَّجْتَه وكشفْتَه، وأنتَ وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومُنتهَى كلِّ رغبةٍ»(٣) .

قالَ: وأقبلَ القومُ يَجولونَ حولَ بيوتِ الحسينِعليه‌السلام فيَروْنَ الخندقَ في ظهورِهم والنّار تَضْطَرِمُ في الحَطَب والقَصب الّذي كانَ أُلقِيَ فيه، فنادى شمرُ بنُ ذي الجوشنِ عليه الَلعنةُ بأعلَى صوته: يا حسينُ أتعجّلتَ النّارَ قبلَ يوم القيامةِ؟ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ » فقالوا له: نعم، فقالَ له: «يا ابنَ راعيةِ المِعْزَى، أنتَ أولى بها صلِيّاً».

ورَامَ مسلمُ بنُ عَوسَجَةَ أنِ يرميَه بسهمٍ فمنعَه الحسينُ من ذلكَ، فقالَ له: دعْني حتّى أرميَه فإنّ الفاسقَ من عظماءِ الجبّارينَ، وقد أمكنَ اللّهُ منه. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «لا تَرْمِه، فإِنِّي أكرهُ أن أبدأهم ».

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»نسختان: ١ / دُوَيداً، ٢ / ذوَيداً. وكذا في المصادر.

(٢) في هامش «ش»: شديدة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٤.

٩٦

ثمّ دعا الحسينُ براحلتهِ فركبَها ونادى بأَعلى صوته: «يا أهلَ ألعراقِ » - وجُلّهم يسمعونَ - فقالَ: «أَيًّها النّاسُ اسمعَوا قَوْلي ولا تَعجَلوا حتّى أَعِظَكم بما يَحقُّ لكم عليّ وحتّى أعْذِرَ إِليكم، فإِن أعطيتموني النّصفَ كنتم بذلكَ أسعدَ، وان لم تُعْطُوني النّصفَ من أنفسِكم فأجمعوا رأيَكم ثمّ لا يَكنْ أمرُكم عليكم غُمّةً ثمّ اقضوا إِليَّ ولا تنظِرونَ، إِنَّ وَلِيّي اللّهُ الّذي نزّلَ الكتابَ وهو يتولّى الصّالحينَ ». ثم حَمدَ اللّهَ وأثنى عليه وذَكَرَ اللهَّ بما هو أهلُه، وصَلّى على النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكةِ اللّهِ وأَنبيائه، فلم يُسْمَعْ متكلِّمٌ قطُّ قبلَه ولا بعدَه أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قالَ:

«أمّا بعدُ: فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجِعوا إِلى أنفسِكم وعاتِبوها، فانظروا هل يَصلُح لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي، أوَلم يَبْلُغْكم(١) ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي: هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟! فان صدَّقتموني بما أقولُ وهو الحقُّ، واللّهِ ما تعمّدْتُ كذِباً منذُ عَلِمْتُ أنّ اللهَّ يمقُتُ عليه أهلَهُ، وإِن كذّبتموني فإِنّ فيكم (مَنْ لو )(٢) سأَلتموه عن ذلكَ أخْبَركم، سَلوُا جابرَ بنَ عبدِاللّهِ الأَنصاريّ وأبا سعيدٍ الخُدْريّ وسَهْلَ بن سعدٍ الساعديّ وزيدَ بنَ أرقَمَ وأنسَ بنَ مالكٍ، يُخْبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالةَ من رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله لي

__________________

(١) في هامش «ش» اوما بلغكم.

(٢) في «م» وهامش «ش»: مَن إن.

٩٧

ولأخي، أمَا في هذا ( حاجز لكم )(١) عن سَفْكِ دمي؟! ».

فقالَ له شمرُ بنُ ذي الجوشن: هو يَعْبدُ اللّهَ على حَرْفٍ إِن كانَ يدري (ما تقولُ )(٢) فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: واللّهِ إِنِّي لأراكَ تَعْبُدُ اللّهَ على سبعينَ حرفاً، وأنا أشهدُ أنّكَ صادقٌ ما تدري ما يقول، قد طبَعَ اللّهُ على قلبِكَ.

ثمّ قالَ لهم الحسينُعليه‌السلام : «فإِن كنتم في شكٍّ من هدْا، أفتشكّونَ أَنِّي ابن بنتِ نبيِّكمْ! فواللّهِ ما بينَ المشرقِ والمغرب ابن بنتِ نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيرِكم، ويحكم أتَطلبوني بقتيلِ منكم قَتلتُه، أومالٍ لكم استهلكتُه، أو بقِصاصِ جراحةٍ؟!» فأخَذوا لا يُكلِّمونَه، فنادى: «يا شَبَثَ بنَ ربْعيّ، يا حَجّارَ بنَ أَبجرَ، يا قيسَ بنَ الأشْعَثِ، يا يزيدَ بن الحارثِ، ألم تكتبوا إِليّ أنْ قد أيْنَعَتِ الثِّمارُ واخضَرَّ الجَنابُ، وانمّا تَقدمُ على جُندٍ لكَ مُجَنَّدٍ؟!» فقالَ له قيسُ بنُ الأَشعثِ: ما ندري ما تقولُ، ولكنِ انْزِلْ على حُكمِ بني عمِّكَ، فإِنّهم لن يُرُوْكَ إلا ما تُحِبُّ. فقالَ له الحسينُ «لا واللهِّ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذّليل، ولا أَفِرُّ فِرارَ العبيدِ(٣) ». ثمّ نادى: «يا عبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذُ بربِّي وربِّكم من كلِّ مُتكبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بيومِ الحسابِ ».

ثمّ إنّه أناخَ راحلتَه وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمْعانَ فعقلَها، وأَقبلوا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: حاجز يحجزكم.

(٢) هكذا في النسخ الخطية، لكن الصحيح: ما يقول، وهوموافق لنقل الطبري والكامل.

(٣) في «م»: العبد، وفي «ش»: مشوشة، وهي تحتمل الوجهين، وفي نسخة العلامة المجلسي: العبيد.

٩٨

يزحفونَ نحوَه، فلمّا رأى الحرُّ بنُ يزيدَ أَنّ القومَ قد صمَّمُوا على قتالِ الحسينِعليه‌السلام قالَ لعمر بن سعدٍ: أيْ عُمَر(١) ، أمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرّجلَ؟ قالَ: إِيْ واللّهِ قتالاً أيْسَرُه أَن تَسقطَ الرُّؤوسُ وتَطيحَ الأَيدي، قالَ: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قالَ عمر: أما لو كانَ الأمرُ إِليَّ لَفعلتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى.

فأقبلَ الحرُّحتّى وقفَ منَ النّاسِ موقفاً، ومعَه رجلٌ من قومِه يُقالُ له: قُرّةُ بنُ قَيْسٍ، فقالَ: يا قُرّةُ هل سقيتَ فرسَكَ اليومَ؟ قالَ: لا، قالَ: فما تُريدُ أن تَسقِيَه؟ قالَ قُرّةُ: فظننتُ واللّهِ أنّه يُريد أَن يَتنحّى فلا يشهدَ القتالَ، ويكرهُ(٢) أن أَراه حينَ يَصنعُ ذلكَ، فقلتُ له: لم أسقِه وأَنا منطلق فأسقيه، فاعتزلَ ذلكَ المكان الّذي كانَ فيه، فواللّهِ لوأَنّه أطْلَعَني على الّذي يُريدُ لخرجتُ معَه إِلى الحسينِ بنِ عليٍّعليه‌السلام ؛ فأخذَ يَدنو منَ الحسينِ قليلاً قليلاً، فقالَ له المهاجرُ بنُ أوسٍ: ما تُريدُ يا ابنَ يزيدَ، أتريدُ أن تَحملَ؟ فلم يُجبْه وأخَذَهُ مثلُ الأفْكَلِ - وهي الرِّعدةُ - فقالَ له المهاجرُ: إِنّ أمْرَكَ لَمُريبٌ، واللهِّ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطُّ مثلَ هذا، ولو قيلَ لي: مَنْ أشجعُ أَهلِ الكوفِة ما عَدَوْتُكَ، فما هذا الّذي أرى منكَ؟! فقالَ له الحرُّ: إِنِّي واللّه أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنّارِ، فواللّهِ لا أختارُ على الجنّةِ شيئاً ولو قُطًّعْتُ وحُرِّقْت.

ثمّ ضربَ فرسَه فلحِقَ بالحسينِعليه‌السلام فقالَ له: جُعِلْتُ فِداكَ - يا ابنَ رسولِ اللهِّ - أَنا صاحبُكَ الّذي حبستُكَ عنِ

__________________

(١) في هامش «ش»: يا عمر.

(٢) في «م» وهامش «ش»: فَكَرِه.

٩٩

الرُّجوع، وسايرْتُكَ في الطَريقِ، وجَعْجَعْتُ بكَ في هذا المكانِ، وما ظننتُ انَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ماعَرَضْتَه عليهم، ولايَبلُغونَ منكَ هذه المنزلَة، واللهِّ لو علمتُ أنّهم يَنتهونَ بكَ إِلى ما أرى ما رَكِبْتُ منكَ الّذي رَكِبْتُ، وِانِّي تائبٌ إِلى اللهِ تعالى ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلكَ توبةً؟ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «نَعَمْ، يتوبُ اللّهُ عليكَ فانزِلْ » قالَ: فأنا لكَ فارساً خيرٌ منِّي راجلاً، أقُاتِلهُم على فرسي ساعةً، والى النُّزول ما يَصيرُ اخرُ أمري. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فاصنعْ - يَرحمَكَ اللهُّ - ما بدا لكَ ».

فاستقدمَ أمامَ الحسينِعليه‌السلام ثمّ أنشأ رجلٌ من أصحاب الحسينِعليه‌السلام يقولُ:

لَنِعْمََ الْحُرُّ حُرّ بَنِيْ رِيَاح

وَحُرّ عِنْد َمُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ

وَنِعْمَ الْحُرُّ إِذْ نَادَى حُسَينٌ

وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

 ثمّ قالَ(١) : يا أهلَ الكوفةِ، لأمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ، أدَعَوْتُم هذا العبدَ الصّالحَ حتّى إِذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتُم أنّكم قاتلو أنفسِكم دونَه ثمّ عَدَوْتُم عليه لِتقتلوه، أمسكتم بنفسِه وأخذتم بكظمِه(٢) ، وأحَطْتم به من كلِّ جانبِ لتِمنعوه التّوجُّهَ في بلادِ اللّهِ العريضةِ، فصارَ كالأسير في أَيديكم لاَ يَملكُ لِنفسِه نفعاً ولا يَدفعُ عنها ضَرّاً(٣) ، وحَلأتمُوه(٤) ونساءه وصِبْيتَه وأهله عن ماءِ الفراتِ

__________________

(١) اي الحر عليه الرحمة.

(٢) يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفسه «الصحاح - كظم - ٥: ٢٠٢٣».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ضرراً.

(٤) حلأه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب «الصحاح - حلأ - ١:٤٥».

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

واليمين.

ولو كان باب غرفة البيت مفتوحاً إلى الجار فادّعاها كلٌّ من صاحب الأسفل والجار ، حُكم بالغرفة لصاحب الأسفل ؛ لأنّ مَنْ مَلَك القرار مَلَك الهواء ، وفتح الباب يحتمل الإعارة.

أمّا لو كانت الغرفة تحت تصرّف الجار ، فالأقرب : الحكم له بها ؛ قضاءً باليد الدالّة على الملكيّة.

تذنيب : لو بنى مسجداً في أرضٍ اشتراها من غيره ، فادّعاها ثالثٌ‌ ، فإن صدّقه المشتري أو البائع كان على المصدّق القيمة ، ولو كذّباه فصالحه بعض جيران المسجد صحّ الصلح ؛ لأنّه بذْلُ مالٍ على طريق البرّ.

تذنيبٌ آخَر : لو تداعى ذو البابين في المنقطع الدربيّة ، حُكم بينهما لهما من رأس الدربيّة إلى الأوّل‌ ، وما بين البابين للثاني ، والفاصل إلى صدر الدرب يحتمل قويّاً الشركة ، واختصاصُ الأخير.

تمّ الجزء العاشر(١) من كتابتذكرة الفقهاء بحمد الله تعالى ومنّه ، ويتلوه في الجزء الحادي عشر(٢) - بتوفيق الله تعالى - كتاب الأمانات وتوابعها ، وفيه مقاصد.

فرغتُ من تسويده ثامن عشري صفر - خُتم بالخير والظفر - من سنة خمس عشرة وسبعمائة بالسلطانيّة.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن يوسف بن المطهّر ، والحمد لله وحده ، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد النبي وآله الطاهرين.

____________________

(١ و ٢) حسب تجزئة المصنّفرحمه‌الله .

١٤١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب الأمانات وتوابعها‌

وفيه مقاصد :

الأوّل : الوديعة‌

وفيه فصول :

الأوّل : الماهيّة‌

الوديعة مشتقّة من « ودع ، يدع » إذا استقرّ وسكن ، من قولهم : « يدع كذا » أي يتركه ، والوديعة متروكة مستقرّة عند المستودع.

وقيل : إنّها مشتقّة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل فهو وديع ووادع ، لأنّها في دعة عند الـمُودَع لا تتبدّل ولا تستعمل(١) .

والوديعة تُطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع : الودائع. واستودعه الوديعة ، أي : استحفظه إيّاها.

وعن الكسائي : يقال : أودعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة. وأودعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد(٢) .

والمشهور في الاستعمال المعنى الأوّل.

وهي جائزة بالكتاب والسنّة والإجماع.

قال الله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٣)

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦ - ٢٨٧.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦.

(٣) النساء : ٥٨.

١٤٢

وقال تعالى :( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) (١) .

وما رواه العامّة عن أُبي بن كعب أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك »(٢) .

وروي أنّهعليه‌السلام كان عنده ودائع ، فلـمّا أراد الهجرة أودعها عند أُمّ أيمن ، وأمر عليّاًعليه‌السلام بردّها على أهلها(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ابن أخي الفضيل بن يسار قال : كنتُ عند الصادقعليه‌السلام ودخلَتْ امرأة وكنتُ أقربَ القوم إليها ، فقالت لي : اسأله ، فقلت : عمّا ذا؟ فقالت : إنّ أبي مات وترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرتُه بذلك ، فقال : « لا ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك ، ولا تخُنْ مَنْ خانَك »(٤) .

وعن حسين بن مصعب قال : سمعتُ الصادقَعليه‌السلام يقول : « ثلاثة لا عذر فيها لأحدٍ : أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برَّيْن كانا أو فاجرَيْن ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر »(٥) .

وعن محمّد بن علي الحلبي قال : استودعني رجل من موالي‌

____________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٠ / ٣٥٣٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٣٥ / ١٤١ ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٧٠ ، مسند أحمد ٤ : ٤٢٣ / ١٤٩٩٨.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٥ - ٣٥٦ ، البيان ٦ : ٤٢٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٨٩.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٨ / ٩٨١ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ - ٥٣ / ١٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٨ ، وفي الكافي ٥ : ١٣٢ / ١ بتقديمٍ وتأخير في بعض الجملات.

١٤٣

بني مروان ألف دينار فغاب فلم أدْر ما أصنع بالدنانير ، فأتيت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام فذكرت ذلك له وقلت : أنت أحقّ بها ، فقال : « لا ، لأنّ أبي كان يقول : إنّما نحن فيهم بمنزلة هدنة نؤدّي أمانتهم ونردّ ضالّتهم ونقيم الشهادة لهم وعليهم ، فإذا تفرّقت الأهواء لم يسع أحدٌ المقام »(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « كان أبي يقول : أربع مَنْ كُنّ فيه كمل إيمانه ، ولو كان ما بين قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينتقصه ذلك » قال : « وهي الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق »(٢) .

وقال الكاظمعليه‌السلام : « أهل الأرض مرحومون ما يخافون وأدّوا الأمانة وعملوا بالحقّ »(٣) .

وقال الحسين الشيباني للصادقعليه‌السلام : إنّ رجلاً من مواليك يستحلّ مال بني أُميّة ودماءهم ، وإنّه وقع لهم عنده وديعة ، فقالعليه‌السلام : « أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً(٤) ، فإنّ ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا فيحلّ ويحرّم »(٥) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « اتّقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم ، فلو أنّ قاتل عليٍّ ائتمنني على أداء الأمانة لأدّيتُها إليه »(٦) .

وقد أجمع المسلمون كافّةً على جوازها ، وتواترت الأخبار بذلك.

ولأنّ الحكمة تقتضي تسويغها ، فإنّ الحاجة قد تدعو إليها لاحتياج‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٩.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩٠.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩١.

(٤) في « خ » والكافي : « مجوسيّاً ».

(٥) الكافي ٥ : ١٣٢ - ١٣٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٣.

(٦) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٥.

١٤٤

الناس إلى حفظ أموالهم ، وربما تعذّر ذلك عليهم بأنفسهم إمّا لخوفٍ أو سفرٍ أو عدم حرزٍ ، فلو لم يشرع الاستيداع لزم الحرج المنفيّ بقوله تعالى :( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ولأنّه نفعٌ لا ضرر فيه ، فكان مشروعاً.

مسألة ١ : إذا عرفتَ الوديعة في عرف اللغة ، فهي في عرف الفقهاء عبارة عن عقدٍ يفيد الاستنابة في الحفظ‌ ، لكن قد عرفت أنّ العرف اللغوي يقتضي أن تكون هي المال ، وكذا العرف العامّي ، والإيداع هو العقد.

وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، لكلٍّ منهما فسخه.

ولا بدّ فيها من إيجابٍ وقبولٍ.

فالإيجاب هو كلّ لفظٍ دالٍّ على الاستنابة بأيّ عبارةٍ كان ، ولا ينحصر في لغةٍ دون أُخرى ، ولا في عبارةٍ دون عبارةٍ ، ولا يفتقر إلى التصريح ، بل يكفي التلويح والإشارة والاستعطاء.

والقبول قد يكون بالقول ، وهو كلّ لفظٍ يدلّ على الرضا بالنيابة في الحفظ بأيّ عبارةٍ كان ، وقد يكون بالفعل.

وهل الوديعة عقد برأسه ، أو إذن مجرّد؟ الأقرب : الأوّل.

مسألة ٢ : إذا دفع الإنسان إلى غيره وديعةً وكان المدفوع إليه عاجزاً عن حفظها‌ ، لم يجز له قبولها ؛ لما فيه من إضاعة مال الغير ، وقد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(٢) .

وإن كان قادراً لكنّه غير واثقٍ من نفسه بالأمانة ، لم يجز له القبول ؛

____________________

(١) الحجّ : ٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٣٩ ، و ٩ : ١١٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٣١١ ، مسند أحمد ٥ : ٣٠٥ و ٣١٢ / ١٧٧٢٧ و ١٧٧٦٨.

١٤٥

لما فيه من التعريض للتفريط في مال الغير ، وهو محرَّم ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني لهم : إنّه يكره(١) .

ولو كان قادراً على الحفظ واثقاً بأمانة نفسه ، استحبّ له القبول ؛ لما فيه من المعاونة على البرّ وقضاء حوائج الإخوان.

ولو لم يكن هناك غيره ، فالأقوى : إنّه يجب عليه القبول ؛ لأنّه من المصالح العامّة. وبالجملة ، فالقبول واجب على الكفاية.

ولو تضمّن القبول ضرراً في نفسه أو ماله أو خاف على بعض المؤمنين أو تضمّن إتلاف منفعة نفسه أو حرزه في الحفظ من غير عوضٍ ، لم يجب القبول.

مسألة ٣ : الألفاظ المتداولة بين الناس من الإيجاب الذي يتضمّنه عقد الوديعة : استودعتك هذا المال‌ ، أو : أودعتك ، أو : استحفظتك ، أو : أنبتك في حفظه ، أو : استنبتك فيه ، أو : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، وما في معناه من الصيغ الصادرة من جهة المودِع ، الدالّة على الاستحفاظ.

ولا يعتبر القبول لفظاً كما تقدّم(٢) ، بل يكفي القبض [ بكيفيّته ](٣) في العقار والمنقول ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : لا يكفي القبض ، بل لا بدّ من لفظٍ دالٍّ على القبول(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في ص ١٤٤ ، ذيل المسألة ١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يكفيه ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

١٤٦

وقال بعضهم : إن كان المودِع قد قال : أودعتُك ، وشبهه ممّا هو على صيغ العقود ، وجب القبول لفظاً ، وإن قال : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، لم يفتقر إلى لفظٍ يدلّ على القبول ، كما تقدّم في الوكالة(١) .

مسألة ٤ : لا بدّ من التنجيز‌ ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك مالي معه(٢) ، لم يصح الإيداع - وهو قول بعض الشافعيّة(٣) - لأصالة العدم.

وقال بعضهم : يصحّ(٤) .

وقال آخَرون منهم : القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة(٥) .

وقيل : الإيداع عبارة عن الاستنابة في الحفظ ، وهو توكيلٌ خاصٌّ ، و [ الوكيل والموكّل ] يُسمَّيان في هذا التوكيل الـمُودَع والـمُودَع(٦) .

ولو جاء بماله ووضعه بين يدي غيره ولم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يحصل الإيداع ، فإن قبضه الموضوع عنده ضمنه.

وكذا لو كان قد قال من قبلُ : إنّي أُريد أن أُودعك ، ثمّ جاء بالمال.

ولو قال : هذه وديعتي عندك فاحفظه ، ووضعه بين يديه ، فإن أخذه الموضوع عنده تمّت الوديعة ؛ لأنّا لا نعتبر القبول اللفظي ، وإن لم يأخذه فإن لم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يكن وديعةً ، حتى لو ذهب وتركه فلا ضمان عليه ، لكن يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « بعدُ » بدل « معه ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

١٤٧

وإن قال : قبلت ، أو : ضَعْ ، فوضعه ، كان إيداعاً ، كما لو أخذه بيده ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : لا يكون إيداعاً ما لم يقبض(٢) .

وقال آخَرون بالتفصيل ، فإن كان الموضع في يده ، فقال : ضَعْه ، دخل المال في يده ؛ لحصوله في الموضع الذي هو في يده. وإن لم يكن كما لو قال : انظر إلى متاعي في دكّاني ، فقال : نعم ، لم يكن وديعةً(٣) .

وعلى ما اخترناه من أنّه وديعة مطلقاً لو ذهب الموضوع عنده وتركه ، فإن كان المالك حاضراً بَعْدُ فهو ردٌّ للوديعة ، وإن غاب المالك ضمنه.

مسألة ٥ : قد ذكرنا أنّ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها إجماعاً‌ ، وقد تقدّم(٤) أنّه توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة من الطرفين ، فإذا أراد المالك الاستردادَ لم يكن للمُستودِع المنعُ ، ووجب عليه الدفع ، ولو أراد المستودع الردَّ لم يكن للمودِع أن يمتنع من القبول ؛ لأنّه متبرّع بالحفظ.

ولو عزل المستودع نفسه ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مطلقة شرعيّة في يده ، كالثوب الطائر بالهواء إلى داره ، وكاللقطة في يد الملتقط بعد ما عرف المالك ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : إنّ العزل لغو.

والأصل في هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الوديعة مجرّد إذنٍ ، أم عقد؟

إن قلنا : إنّها مجرّد إذنٍ ، فالعزل لغو ، كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان ،

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٤) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٤٨

فقال بعضهم : عزلت نفسي ، يلغو قوله ، ويكون له الأكل بالإذن السابق ، فعلى هذا تبقى الوديعة بحالها. وإن قلنا : إنّها عقد ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مجرّدة ، وعليه الردّ عند التمكّن وإن لم يطالب المالك - وهو أظهر وجهي الشافعيّة - ولو لم يفعل ضمن(١) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩١ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩.

١٤٩

الفصل الثاني : في المتعاقدين‌

مسألة ٦ : يشترط في المستودع والـمُودَع التكليف‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلّا من مكلّفٍ ، فلو أودع الصبي أو المجنون غيرَه شيئاً ، لم يجز له قبوله منهما ، فإن قَبِله وأخذه من أحدهما ضمن.

ولا يزول الضمان إلّا بالردّ إلى الناظر في أمرهما ، ولو ردّه إليهما لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّهما محجور عليهما.

ولو خاف هلاكه فأخذه منهما إرفاقاً لهما ونظراً في مصلحتهما على وجه الحسبة صوناً له ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه محسن إليهما ، وقد قال تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه [ ضامن ](٢) كالوجهين - عندهم - فيما إذا أخذ الـمُحْرم صيداً من جارحةٍ [ ليتعهّده ](٣) . والظاهر عندهم : عدم الضمان(٤) .

مسألة ٧ : كما أنّ التكليف شرط في المودِع كذا هو شرط في المستودع‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلّا عند مكلّفٍ ؛ لأنّه استحفاظ ، والصبي‌

____________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا ضمان عليه ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ليتعهّدها ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

١٥٠

والمجنون ليسا من أهل الحفظ ، فلو أودع مالاً عند صبيٍّ أو مجنونٍ فتلف فلا ضمان عليهما ؛ إذ ليس على أحدهما حفظه ، فأشبه ما لو تركه عند بالغٍ من غير استحفاظٍ فتلف.

ولو أتلفه الصبي أو المجنون ، فالأقرب عندي : إنّ عليهما الضمان ؛ لأنّهما أتلفا مال الغير بالأكل أو غيره فضمناه ، كغير الوديعة ، وبه قال أحمد والشافعي في أظهر القولين.

والثاني : إنّهما لا يضمنان ؛ لأنّ المالك سلّطهما عليه ، فصار كما لو أقرضه أو باعه منه وأقبضه فأتلفه ، لم يكن عليه ضمان ، ألا ترى أنّه لو دفع إلى صغيرٍ سكّيناً فوقع عليها فتلف ، كان ضمانه على عاقلة الدافع ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وهو ممنوع ؛ للفرق بين الإيداع ، والبيع والإقراض ؛ لأنّ ذلك تمليك وتسليط على التصرّف ، والإيداع تسليط على الحفظ دون الإتلاف والتصرّف ، ويخالف دفع السكّين ؛ لأنّه سبب في الإتلاف ، ودفع الوديعة ليس سبباً في إتلافها.

ولو أودع ماله عند عبدٍ ، فإن تلف عنده من غير تفريطٍ فلا ضمان عليه ، وإن تلف بتفريطه أو أتلفه ضمن ، وكان المال متعلّقاً بذمّته لا برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً.

ولا فرق بين أن يأذن له سيّده في الاستيداع أو يمنعه ، ويتبع ذلك‌

____________________

(١) المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣١٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ - ١٦٨ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ - ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١١٨ ، طريقة الخلاف بين الأسلاف : ٣٠٣.

١٥١

بعد العتق ، فإن مات عبداً سقط المال ، ولم يتعلّق بالسيّد شي‌ء منه وإن أذن له ؛ لأنّه إنّما أذن له في الاحتفاظ لا في الإتلاف.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : إنّ الضمان يتعلّق برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً(١) .

والأصل عندنا ممنوع.

والثاني : إنّه يتعلّق بذمّته دون رقبته - كما قلناه - كما لو باع منه ، فيه الخلاف المذكور في الصبي(٢) .

وإيداع السفيه والإيداع عنده كإيداع الصبي والإيداع عنده.

مسألة ٨ : ولا بُدّ في المتعاقدين من جواز التصرّف‌ ، فلا يصحّ من المحجور عليه للسفه وللفلس الإيداع والاستيداع ، على إشكالٍ في استيداع المفلس ، والأقرب عندي : جوازه.

ولو جنّ المودِع أو المستودِع أو مات أحدهما أو أُغمي عليه ، ارتفعت الوديعة ؛ لأنّها إن كانت مجرّدَ إذنٍ في الحفظ فالمودِع بعرضة التغيّر ، وهذه الأحوال تُبطل إذنه ، والمستودع يخرج عن أهليّة الحفظ ، وإن كانت عقداً فقد سبق(٣) أنّها توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة فلا تبقى بعد هذه العوارض.

ولو حُجر على الـمُودَع لسفهٍ ، كان على الـمُودَع ردّ الوديعة إلى وليّه وهو الحاكم ؛ لأنّ إذنه في الإيداع بطل بذلك ، والناظر عليه الحاكم ، فوجب دفعها إليه.

مسألة ٩ : إن قلنا : إنّ الوديعة عقدٌ برأسه ، لم يضمنه الصبي‌ ،

____________________

(١ و ٢) الوجيز ١ : ٢٨٤ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٣) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٥٢

ولم يتعلّق برقبة العبد ، وهو قول بعض الشافعيّة(١) .

وإن قلنا : إنّها إذن مجرّد ، ضمنه الصبي ، وتعلّق برقبة العبد ، وهو قول باقي الشافعيّة(٢) .

لكنّا بيّنّا أنّ الحقَّ الأوّلُ ، وأنّ الصبي لا يضمن إلّا بالإتلاف على إشكالٍ ، وأمّا العبد فإنّ الوديعة مع التفريط تتعلّق بذمّته.

إذا عرفت هذا ، فولد الجارية الـمُودَعة ونتاج الدابّة الـمُودَعة وديعة كالأُمّ.

وقال الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً فالولد كالأُمّ يكون وديعةً ، وإلّا لم يكن وديعةً ، بل أمانة شرعيّة مردودة في الحال ، حتى لو لم يردّ مع التمكّن ضمن على أظهر الوجهين عندهم(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً ، لم يكن الولد وديعةً ، بل أمانة ؛ اعتباراً بعقد الرهن والإجارة ، وإلّا فيتعدّى حكم الأُمّ إلى الولد كما في الوصيّة(٤) ، أو لا يتعدّى كما في العارية؟ للشافعيّة وجهان(٥) .

وعلى الأصل المذكور خرّج بعضُ الشافعيّة اعتبارَ القبول لفظاً ، إن جعلناها عقداً اعتبرناها ، وإلّا اكتفينا بالفعل(٦) .

والموافق لإطلاق العامّة كون الوديعة عقداً ، وذكروها من العقود الجائزة(٧) .

____________________

(١ - ٣) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٤) في المصدر : « الضحيّة » بدل « الوصيّة ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

١٥٣

الفصل الثالث : في موجبات الضمان‌

اعلم أنّ الوديعة تستتبع أمرين : الضمان عند التلف ، والردّ عند البقاء ، لكنّ الضمان لا يجب على الإطلاق ، بل إنّما يجب عند وجود أحد أسبابه ، وينظمها شي‌ء واحد هو : التقصير ، ولو انتفى التقصير فلا ضمان ؛ لأنّ الأصل في الوديعة أنّها أمانة محضة لا تُضمن بدون التعدّي أو التفريط ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ليس على المستودع ضمان »(١) .

وقالعليه‌السلام : « مَنْ أُودع وديعة فلا ضمان عليه »(٢)

ومن طريق الخاصّة : ما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَعليه‌السلام عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الآخَر : إنّما كانت عليك قرضاً ، قال : « المال لازم له إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة »(٣) والاستثناء يقتضي التناقض بين المستثنى والمستثنى منه ، ولـمّا حكم في الأوّل بالضمان ثبت في الاستثناء عدمه.

وعن زرارة - في الحسن - أنّه سأل الصادقَعليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضّة ، قال : فقال : « كلّما كان من وديعةٍ ولم تكن مضمونةً فلا تلزم »(٤) .

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال : « صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان »(٥) .

____________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٩١ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٨ ، المغني ٧ : ٢٨١.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠١.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٨.

(٤) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٩.

(٥) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٩٠.

١٥٤

ولأنّ الله تعالى سمّاها أمانةً(١) ، والضمان ينافي الأمانة.

وهذا الحكم منقول عن عليٍّعليه‌السلام وعن أبي بكر وعمر وابن مسعود وجابر(٢) ، ولم يظهر لهم مخالف ، فكان إجماعاً.

لا يقال : قد روي أنّه كان عند أنس وديعة فذهبت فرفع إلى عمر ، فقال : هل ذهب معها شي‌ء من مالك؟ قال : لا ، قال : اغرمها(٣) .

لأنّا نقول : قول عمر ليس حجّةً ، وربما قال ذلك عند تفريط المستودع في حفظها.

ولأنّ المستودع إنّما يحفظها لصاحبها متبرّعاً بذلك ، فلو ألزمناه الضمان أدّى إلى الامتناع عن قبولها ، وفي ذلك ضرر عظيم ؛ لما بيّنّاه من الحاجة إليها ، ولأنّ يد المستودع يد المالك.

وإذا عرفت أنّ السبب الجامع لموجبات الضمان هو التقصير ، فلا بُدّ من الإشارة إلى ما به يصير المستودع مقصّراً ، وهي سبعة تنظمها مباحث نذكر لكلّ سببٍ بحثاً.

البحث الأوّل : في الانتفاع.

مسألة ١٠ : من الأسباب الموجبة للضمان الانتفاعُ بالوديعة‌ ، فلو استودع ثوباً فلبسه ، أو دابّةً فركبها ، أو جاريةً فاستخدمها ، أو كتاباً فنظر فيه‌

____________________

(١) النساء : ٨٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، البيان ٦ : ٤٢٥ - ٤٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٢ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥١ - ٢٥٢ / ٤٠٥.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٦ ، وفي المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٢ / ١٤٧٩٩ ، وسنن البيهقي ٦ : ٢٨٩ و ٢٩٠ باختصارٍ.

١٥٥

أو نسخ منه ، أو خاتماً فوضعه في إصبعه للتزيّن به لا للحفظ ، فكلّ ذلك وما أشبهه خيانة توجب التضمين عند فقهاء الإسلام لا نعلم فيه خلافاً.

هذا إذا انتفى السبب المبيح للاستعمال ، أمّا إذا وُجد السبب المبيح للاستعمال لم يجب الضمان ، وذلك بأن يلبس الثوب الصوف - الذي يفسده الدود - للحفظ ، فإنّ مثل هذه الثياب يجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، بل يجب لُبْسها إن لم يندفع إلّا بأن يلبسها وتعبق(١) بها رائحة الآدمي.

ولو لم يفعل ففسدت ، كان عليه الضمان ، سواء أذن المالك أو سكت ؛ لأنّ الحفظ واجب عليه ، ولا يتمّ الحفظ إلّا بالاستعمال ، فيكون الاستعمال واجباً ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به وكان مقدوراً للمكلّف فإنّه يكون واجباً.

أمّا لو نهاه المالك عن الاستعمال للحفظ فامتنع حتى فسدت ، لم يكن ضامناً ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة(٢) .

ولهم قولٌ آخَر : إنّه يكون ضامناً(٣) .

والمعتمد : الأوّل.

وهل يكون قد فَعَل حراماً؟ إشكال ، أقربه ذلك ؛ لأنّ إضاعة المال منهيّ عنها(٤) .

وعند الشافعيّة يكره(٥) .

ولو كان الثوب في صندوقٍ مقفلٍ ففتح القفل ليخرجه وينشره ،

____________________

(١) أي : تبقى. لسان العرب ١٠ : ٢٣٤ « عبق ».

(٢ و ٣ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٤٤ ، الهامش (٢)

١٥٦

فالوجه : إنّه لا يضمن ؛ لأنّه لم يقصد إلّا الحفظ المأمور به ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه يضمن(٢) .

هذا إذا علم المستودع ، أمّا لو لم يعلم بأن كان في صندوقٍ أو كيسٍ مشدود ولم يُعْلمه المالك به ، فلا ضمان على المستودع إجماعاً.

مسألة ١١ : قد بيّنّا أنّ ركوب الدابّة خيانة لا مطلقاً‌ ، ولكن مع عدم احتياج الحفظ إليه ، فلو احتاج حفظ الدابّة المودَعة إلى أن يركبها المستودع إمّا أن يخرج بها إلى السقي أو الرعي وكانت لا تنقاد إلّا بالركوب ، فلا ضمان ؛ لعدم التعدّي والتفريط حينئذٍ.

ولو كانت الدابّة تنقاد بغير ركوبٍ فركب ضمن ، إلّا مع عجزه عن سقيها أو رعيها بدون ركوبها فإنّه يجوز ، ولا ضمان.

مسألة ١٢ : لو أخذ المستودع الدراهم المودَعة عنده ليصرفها إلى حاجته‌ ، أو أخذ الثوب ليلبسه ، أو أخرج الدابّة من مكانها ليركبها ثمّ لم يستعمل ، ضمن - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ الإخراج على هذا القصد خيانة.

وقال أبو حنيفة : لا يضمن حتى يستعمل(٤) .

ولو نوى الأخذ ولم يأخذ أو نوى الاستعمال ولم يستعمل ، ففي‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠.

١٥٧

الضمان إشكال ينشأ : من أنّه لم يُحدث في الوديعة قولاً ولا فعلاً ، فلم يضمن ، كما لو لم يَنْو ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) ، ومن أنّه ممسك لها بحكم نيّته ، كما أنّ الملتقط إذا نوى إمساك اللقطة لصاحبها ، كانت أمانةً ، وإن نوى الإمساك لنفسه ، كانت مضمونةً ، وهو قول ابن سريج من الشافعيّة(٢) .

وفرّق المذكورون بين الوديعة واللقطة بأنّه في الوديعة لم يُحدث فعلاً مع قصد الخيانة ، وفي اللقطة أحدث الأخذ مع قصد الخيانة ، ولأنّ سبب أمانته في اللقطة مجرّد نيّته ، فضمن بمجرّد النيّة ، بخلاف الوديعة(٣) .

فروع :

أ - لو أخذ الوديعة على قصد الخيانة ، فالأقوى : الضمان‌ ؛ لأنّه(٤) لم يقبضها على سبيل الأمانة ، بل على سبيل الخيانة.

وللشافعيّة وجهان(٥) .

ب - قياس ابن سريج في الضمان إذا نوى المستودع الأخذَ والتصرّفَ ولم يفعل على ما إذا أخذ الوديعة من مالكها على قصد الخيانة(٦) (٧) غير تامٍّ.

____________________

(١ و ٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٩ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) الوجيز ١ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّها ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة زيادة : « في الضمان ». وهي متكرّرة.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

١٥٨

أمّا أوّلاً : فلأنّ جماعةً من الشافعيّة(١) لم يوافقوه على هذا الأصل.

وأمّا ثانياً : فللفرق ، وهو أنّ الأخذ فعلٌ أحدثه مع قصد الخيانة.

ج - لو نوى أن لا يردّ الوديعة بعد طلب المالك ، ففي الضمان للشافعيّة الوجهان‌(٢) .

وعندي فيه التردّد السابق مع أولويّة عدم الضمان هنا إذا لم يطلب المالك ، وثبوته إذا طلب.

وبعض الشافعيّة قال : إذا نوى الأخذ ولم يأخذ لم يضمن ، وإذا نوى عدم الردّ ضمن قطعاً ؛ لأنّه إذا نوى أن لا يردّ صار ممسكاً لنفسه ، وبنيّة الأخذ لا يصير ممسكاً لنفسه(٣) .

مسألة ١٣ : لو كان الثوب المودَع في صندوق مالك الوديعة فرفع المستودع رأسه ليأخذ الثوب‌

ويتصرّف فيه ثمّ بدا له ، فلا يخلو الصندوق إمّا أن يكون مفتوحاً لا قفل عليه ولا ختم له ، أو يكون عليه شي‌ء من ذلك ، فإن كان لا ختم عليه ولا قفل ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه لم يُحدث في الثوب فعلاً ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّه يضمن(٤) .

وإن كان الصندوق مقفلاً أو الكيس مختوماً ففتح القفلَ وفضّ الختمَ ولم يأخذ ما فيه ، فالأقوى : الضمان لما فيه من الثياب والدراهم - وهو‌ أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه هتك الحرز.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٥٩

والثاني للشافعيّة : إنّه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرّف فيه ، وبه قال أبو حنيفة(٢) .

وعلى الوجه الأوّل فهل يضمن الصندوق والكيس؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه لم يقصد الخيانة في الظرف.

وللشافعيّة وجهان(٣) .

ولو خرق الكيس فإن كان الخرق تحت موضع الختم فهو كفضّ الختم ، وإن كان فوقه لم يضمن إلّا نقصان الخرق.

فروع :

أ - لو أودعه شيئاً مدفوناً فنبشه ، فهو بمنزلة فضّ الختم‌ ، إن قلنا : يضمن هناك ، ضمن هنا ، وإلّا فلا.

ب - لو حلّ الخيط الذي شدّ به رأس الكيس أو رِزْمة الثياب(٤) لم يضمن ما في الكيس والرِّزْمة‌ وإن فَعَل ذلك للأخذ ، بخلاف فضّ الختم وفتح القفل ؛ لأنّ القصد منه المنع من الانتشار ، ولم يقصد به الكتمان عنه.

ج - لو كان عنده دراهم وديعة أو ثياب فوزن الدراهم أو عدّها أو عدّ الثياب أو ذرعها ليعرف طولها وعرضها ، ففي الضمان إشكال‌ ينشأ : من أنّه تصرّف في الوديعة ، ومن أنّه لم يقصد الخيانة.

وللشافعيّة وجهان(٥) ، وكذا الوجهان فيما لو حلّ الشدّ(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ - ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) الرِّزمة من الثياب : ما شدّ في ثوبٍ واحد. لسان العرب ١٢ : ٢٣٩ « رزم ».

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392