التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف15%

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 368

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184738 / تحميل: 6437
الحجم الحجم الحجم
التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عن ثبوته عليه.

ثم إنه يحتمل أن تكون الرواية مخصوصة بإثبات عهدة العين إلى غاية الاداء من دون تعرض لحكم صورة التلف، وثمرة إثبات العهدة لزوم أدائها.

فإن قلت: إنه لا معنى حينئذ لجعل الاداء غاية لوجوب الاداء، لانه من توضيح الواضح، لثبوت كل شئ إلى أن يرتفع، وثبوت كل حكم إلى أن يمتثل.

قلت: القضية غير مسوقة بمدلولها المطابقي لوجوب الاداء حتى تكون الغاية ثابتة له، بل إنما مدلولها المطابقي هو: الحكم بثبوت العين في العهدة، وسيقت الغاية غاية لهذا الثبوت، ولايخفى أن ارتفاع ثبوت العين فيها بالاداء، ليس من الواضحات ولا مما حكم به العقل، إذ من الممكن ثبوتها فيها على وجه الدوام غير ممتد إلى غاية، إلا أنه حكم الشرع الشريف بارتفاعه عند الاداء.

ولازم هذا الوجه ; أنه لوتلفت العين ; فالعهدة باقية إلى يوم القيامة ولا تسقط بشئ لانحصار الغاية المجعولة في الاداء وإن قلنا بلزوم أداء المثل والقيمة لو قام عليه دليل، إذ الرواية حينئذ ساكتة عن حكم صورة التلف.

لكن الانصاف: أن اللوازم المذكورة مما لا يلتزم به الفقيه، لوضوح إمكان تفريغ العهدة عند الفقهاء، وأنه لامستند لهم في تضمين المثل والقيمة في كثير من الموارد إلا الحديث المذكور بل ترى منهم أنهم استفادوا منه خصوص صورة التلف، فتدبر.

ويحتمل أن تكون مخصوص العين بمرتبتها الشخصية، بل تعمها بجميع مراتبها، الاقرب فالاقرب، والامثل فالامثل، فتكون الرواية بمدلولها المطابقي دالة على ثبوت المراتب في العهدة، وهذا هو المناسب لكلمات الاصحاب، والاعتماد

٢١

عليها لحكم صورة التلف في أغلب الابواب ولباب التضمين ; ويشهد له أن العرف لايعدون مالية المال أمرا مباينا عنه، بل النظر الاصلي في مهم الاموال على ماليتها، وإن كانت لشخصيتها أيضا مدخلية في أغراضهم الخاصة، فيكون توضيح معناها ; ان العين بجميع مراتبها ثابتة في العهدة حتى يؤديها إلى ربها، فإذا أداها إليه فرغت العهدة بمقداره، فإن كان المؤدى عينا حصل الفراغ التام، وإن كان المثل أو القيمة فقد فرغت عن المالية وبقيت مشغولة لشخصية المال، لانها أيضا كانت مثبوتة فيه ولها دخل في الاغراض.

ثم إن الفراغ عن المالية أيضا يختلف بحسب أداء الفرد من النوع أو الجنس أو المساوي في القيمة ; وعليه فلا حاجة في الحكم بوجوب أداء المثل والقيمة، بل ولا في تقديم المثل على القيمة: إلى التماس دليل من خارج، وهذا هو فارق بين هذا الوجه والوجه السابق.

فإن قلت: فعلى هذا صح أداء المثل والقيمة بحكم الرواية مع وجود العين ويحصل معه الخروج عن عهدة المالية ولاينبغي أن يتفوه به أحد.

قلت: ليس ثبوت مراتب العين على نحو واحد، بل ولا عن سبب واحد، بل المقصود أن المفهوم من الرواية ; كون العين بواسطة الاخذ بإذنه بجميع مراتبها في العهدة على نحو التعدد المطلوبي.

فنفس الاخذ سبب لثبوت العين ويترتب عليه وجوب أدائها، وهو مع التلف سبب لثبوت المثل فيها، وهما مع تعذر أداء المثل سبب لثبوت القيمة فيها.

إلا أن الانصاف، أن الالتزام بتعدد السبب مشكل، إذ الرواية غير متعرضة إلا لاثبات ماتسبب عن الاخذ دون ما تسبب عنه شئ آخر.

٢٢

فالوجه أن يقال: إن السبب واحد وهو نفس الاخذ، وإنما يتسبب عنه أمور مترتبة في الوجود، نظير الملكية الحاصلة لمراتب الموقوف عليهم على الترتيب بالجعل الاولي من المالك، بل وأمر المقام أوجه منها ; لان المراتب حاصلة بنفس الحصول الاولي على نحو من الحصول.

غاية الامر أن اختصاص الاداء إنما يحصل بعد تعذر المراتب الفوقانية وهذا كله واضح للمتدبر العارف بوجوه المعاني أو صروف الكلام.

فإن قلت: إن التي تشتمل عليها العين من الحصة أو المالية فهي مقيدة بها متعذر أداؤها بتعذر أدائها، وأما الحصة الاخرى والمالية المطلقة الموجودة في فرد آخر، فثبوتها ووجوب أدائها يحتاج إلى دليل آخر لمغايرتها لما هي الثابتة بثبوت العين.

قلت: لو سلمنا المغايرة عند التدقيق العقلي، فلا يخفى عدمها عند العرف كما عرفت، ومن أن نظرهم الاصلي إلى المالية المطلقة، لاخصوص ماهي القائمة منها بالعين، والرواية مسوقة لاثبات العين مع مراتبها المحكومة في العرف أنها من مراتبها في العهدة، هذا كله.ولكن الانصاف أن هذا الوجه أيضا لا يخلو عن تعسف.

ويحتمل أن تكون مخصوصة بحسب الدلالة المطابقية بعهدة العين، ودلت على وجوب أداء المثل والقيمة بالالتزام العرفي، إذ عهدة الشئ يلازم عندهم لوجوب أداء العين مع بقائه، والمثل عند تلفه.فالغاية إنما سيقت لعهدة العين فقط.

لايقال: لو عمت العهدة صورة التلف فلا يعقل أن يكون الاداء غاية لها، إذ

٢٣

يعتبر فيها إمكان حصولها ويمتنع الاداء مع التلف: لانا نقول: الغاية إنما تصح في مابقي فيه الموضوع، وأما مع ارتفاعه فلاتختص بدلالة الاقتضاء بصورة بقاء العين.ثم مع أن فرض التلف قد عرفت أنه ليس في حقيقة العهدة، بل إنما هو من لوازم العهدة.هذا، ولكن يرد على هذا الوجه لو سلمنا الملازمة العرفية أن مقتضاه ثبوت وجوب أداء المثل والقيمة من دليل خارج، وهذا خلاف ماعليه طريقة الاصحاب من الاعتماد بالحديث لوجوب أداء المثل والقيمة.

إلا أن يقال: إنه بعد ماثبت أن الحكم من لوازم الموضوع عرفا، فإثبات الموضوع جعلا أو إمضاء إثبات لحكمه كذلك، فتدبر.هذا كله في الوجوه المحتملة وقد عرفت أن خيرها أخيرها ثم أوسطها.ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور راجعة إلى حال الاخذ والآخذ والمأخوذ، وأما المأخوذ منه فلا تتفاوت فيه الحالات والصفات إلا من جهة الاسلام والكفر، فإن المعتبر فيه أن يكون مسلما أو من بحكمه من أولى الذمة، وأما مال الحربي بشروطه فهو مما ينتقل إلى صاحب اليد بالاخذ على الوجه المقرر في محله.أما ما يرجع إلى الاخذ فأمور.

الاول: قد يتوهم اختصاص الاخذ بالعدوان والقهر بحسب الاستعمالات العرفية كما يدعى ظهوره فيه بالتتبع في مواردها وعليه ; فيختص مورد التضمين بالغصب وهو فاسد لعموم الوضع وعدم حصول النقل العرفي ولا الانصراف المعتدبه.

٢٤

نعم في بعض المقامات لخصوصية المقام يستفاد العدوان والقهر، وعليه ; فتكون قاعدة اليد أعم من الغصب، بل وهو كذلك قطعا لان مدار رحى(١) باب الضمانات يدور غالبا عليها فيدخل المقبوض بالسوم(٢) والمقبوض بالعقود الفاسدة مجانية كانت أو معوضة، بل وجميع الايدي المأذونة بالاذن الشرعي، بل والمالكي في وجه كما سيجئ إن شاء الله.

ومنه يد الغاصب بعد إذن المالك وغيرها، وهذا واضح للمتدبر والمتتبع في باب الضمانات.

الثاني: قد عرفت عدم اعتبار عنوان القهر على المالك، وهل يعتبر القصد أم لا؟ فنقول: أما القصد إلى عنوان أنه مال الغير فغير معتبر قطعا، لصدق أخذ مال الغير بدونه، وعدم مدخلية القصد والعلم في الحكم الوضعي، فيعم الاخذ السهوي والنسياني والخطائي.

نعم قد يقال: يعتبر القصد إلى عنوان الاخذ، فلو لم يكن قاصدا عنوانه لم يحكم بالعهدة لظهور إرشاد العقل في كونه مقصودا، بل وكونه اختياريا، فلو كان على وجه الاضطرار لم يؤثر، وضعفه واضح لمنع اعتبار القصد والاختيار في نسبة العقل، نعم لو كان الاضطرار بحيث لا يصدق الاستيلاء العرفي أمكن منع التضمين - كما سيأتي إن شاء الله من أن المفهوم هو الاستيلاء العرفي، وعلى هذا فيشمل القاعدة بحكم عموم الخبر فلاخذ المجنون والصغير والمضطر ما لم يبلغ إلى ذلك الحد المشار إليه، بل وربما يمكن دعوى شمولها لمثل يد النائم ولكن لم أجد في كتب الاصحاب في مسألة ضمان النائم من حيث التلف السماوي تصريحا بل

___________________

١ - " الرحى " بفتح الراء والالف المقصورة، الدائرة التي تطحن الحب.

٢ - سام - سوما وسواما - السلعة: عرضها وذكر ثمنها.

٢٥

ولا تلويحا إلا من بعض الطبقة الثالثة(١) في مطاوي كلمات عناوينه، حيث يستفاد منه القبول ; ومن الشيخ في بعض أبواب جواهره حيث يستشم منه المنع.وربما يقرب القبول بعد ما عرفت من عدم اعتبار القصد والاختيار في صدق الاخذ، أن الظاهر عدم الريب عندهم في ضمان ما أتلفه النائم، وليس المدرك فيه إلا عموم قوله: من أتلف، فإذا صدق الاتلاف منه فليصدق الاخذ، هذا مع أنه يمكن دعوى القصد منه ولو من وجه فتدبر، والمسألة محل إشكال.

الثالث: وهل تختص الرواية بالاخذ الحدوثي أو تعمه والاستمراري، فلو كان على غير وجه الضمان من أول الامر، كما لو كان مالا لذي اليد، ثم إنه انتقل بالاسباب القهرية كحلول الحول في الزكاة، أو الاختيارية، أو كان مال الغير ولم يكن مضمونا بأن يكون وديعة أو غيرها ; فيحكم بالعهدة وجهان.والذي يقتضيه النظر هو الاخير.

وتوضيح ذلك ; أنه لا ريب أن الاخذ بخصوص الجارحة المخصوصة وهي اليد ليس له خصوصية، بل نقطع بعدم اعتباره، بل وكذلك الاخذ بمطلق الجوارح، فلابد من الخروج عن الظاهر البدوي ; إما بالتزام أو مجاز مرسل، وحينئذ فقد يتوهم أنه كناية عن الاستيلاء المطلق وهو ضعيف، لانه مع عدم كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي ; مستلزم لان يكون كل على التصرف ضامنا كالسلطان القادر على التصرف في ما بأيدي رعاياه، وكالقوي القادر على ما في أيدي الضعفاء وهو بديهي البطلان، مخالف للاجماع بل الضرورة، بل التحقيق أنه كناية عن التسلط الفعلي الصادق عليه الاخذ عرفا، وهو يختلف باختلاف المقامات، فقد يحتاج إلى

___________________

١ - المراد هو متأخري المتأخرين.

٢٦

التقليب والتحريك وقد لايحتاج إليه نظير القبض المختلف في المنقولات وغيرها، وهذا ليس اختلافا في معنى الاخذ والقبض، بل لهما حقيقتان وجدانيتان، وإنما الاختلاف بحسب خصوصيات المقام، فالمال المطروح في صندوقه الذي بيده مفتاحه ; مقبوض ومأخوذ بلا تحريك، بل ولا قصد مثل المطروح في جيبه، وأما المطروح في الصحراء مثلا فيحتاج في صدق الاخذ عليه غالبا إلى نحو من التقليب والتحريك، ولا يكفي فيه القصد فضلا عن عدمهما، وقد يكفي ف يه القصد ولا يحتاج إلى تحريك وتقليب، فالاوجه إحالة المصاديق إلى العرف، فإن ضبطها على الوجه الكلي متعسر بل متعذر.والميزان هو ما عرفت من صدق الاستيلاء الفعلي.

إذا عرفت هذا، فنقول: قد يتوهم ظهور الاخذ في الحدوثي من جهة أن الماضي بهيئته ظاهر فيه، وهو ممنوع، ولو سلمناه فهو ظهور بدوي لا اعتداد به بعد ما يستفاد من الحديث ومن سائي الاخبار المتفرقة في الابواب ; في أن المناط في التضمين هو الاستيلاء على مال الغير.

والانصاف ; أن هذا الظهور كظهور كون الاخذ على وجه العدوان لو سلمناه في بعض المقامات، فإنما هو لخصوصيات فيها.فالمرجع في المقام هو العموم يعني الحكم بتضمين مطلق الاخذ، عدوانيا كان أو غيره، حدوثيا أو استمراريا بمقتضى الظهور الوضعي بعد منع الانصراف، نعم قد يقال: إن في الاستيلاء الاستمراري يعتبر القصد إلى الاستمرار لعدم صدق الاخذ مع عدمه، إذ يعتبر فيه بحسب تفاهم العرف جهة اتصال إلى المالك وفيه تأمل، لاختلاف الاستمرار بحسب المقامات، فما كان في حدوثه لايحتاج إلى القصد كالمقبوض

٢٧

باليد ; لايحتاج إليه في الاستمرار، إذ الاخذ أمر مستمر على الفرض، وإنما المعتبر هو عنوان كونه ماله أو مال الغير وهو غير محتاج إلى القصد حاصل في نفسه، وأما انتساب الاخذ إليه كما هو ظاهر الخبر فهو أيضا حاصل بدون القصد، وإن قلنا بأن نسبة الفعل ظاهر في الاختيار، إذ الاستمرار تابع للحدوث فتأمل.والحاصل أن حال الاخذ في الحدوث والاستمرار واحد، وإن اختلف بحسب موارد صدقه.ثم إن ما ذكرناه من شمول اليد للاستمرار والحدوث مما اتفقت عليه كلمة الاصحاب في مطاوي الابواب، فإن بناء‌هم في أبواب الامانات كلية على أن الامين إذا تعدى أو فرط يضمن وإن لم يكن التلف مستندا إلى فعله، بل إلى الآفة السماوية، بل ويضمنون الودعي بمجرد قصد الخيانة لزوال أمانته به.

إلا أن يقال: إن الاخذ كما سيأتي يقتضي الضمان حتى في الامناء، وإنما خرجت بالدليل، فإذا زال المانع وهو الامانة فلا مانع من تأثير الاخذ الاولي، وهذا بخلاف ما إذا كان المال أولا مال الآخذ به فإن أخذ مال الغير يقتضي الضمان لامال نفسه، وفيه مع ما يجئ من منع الاقتضاء على وجه العموم أولا، وعدم معنى لتأثير الاخذ الاولي ثانيا كما لايخفى، إن حكمهم بضمان قيمة يوم الخيانة أو يوم التلف ينافي أن يكون المؤثر هو الاخذ الحدوثي فتدبر، ومن هنا يمكن تطبيق حكمهم بأن تلف المبيع، بل وكل مقبوض قبل القبض من مال بائعه على القاعدة من وجه، وإن كان ينافيه التضمين بخصوص الثمن فتأمل.هذا في حال الاخذ، وأما ما رجع إلى الآخذ فأمور:

الاول: لا إشكال في شمول الخبر لاخذ من لم يكن مأذونا من المالك، ولم يقع الاخذ برضاه، وإنما الكلام والاشكال في مقامين:

الاول: أنه هل يعم المأذون أيضا

٢٨

فيكون خروج ماخرج من الايدي المأذونة من باب التخصيص أو لايعمه؟ والثاني: أن الخارج تخصيصا أو تخصصا مطلق اليد المأذونة، بل وما كانت برضا المالك كالاخذ بشاهد الحال ونحوه أو خصوص الامين.

أما المقام الاول ; فمقتضى ظاهر قالب ألفاظ الخبر في نفسه كما عرفت هو الشمول لجميع الايادي.

لكن يمكن أن يقال: إنه لا يشمل مثل يد الامين، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بسط في الكلام فنقول: قد يدعى أن أيدي الامناء منزلة منزلة يد المالك، فإن حقيقة الاستيمان استنابة عن المالك ومعه فخروج الامناء يساوق خروج المالك في أنه خروج موضوعي، إلا أن الدعوى المذكورة لاشاهد لها الفقد الدليل العام الدال على التنزيل وما ثبت من الاستنابة، فإنما هي في خصوص الحفظ وما عنه من التقليب والتحريك، مع أنها لو سلمناها فإنما هي مختصة بمثل يد الوكيل والودعي، وأما سائر الامناء كالمستأجر والمستعير وغيرهما فدعوى الاستنابة فيها ساقطة جدا، والحاصل أن في اغلب الموارد ليست حقيقة الاستيمان استنابة، ولم يدل دليل شرعي أو عقلي من خارج أيضا على التنزيل.

فالاوجه، أن يقال: إن إطلاق الرواية منصرف إلى غير الامين.

والسر فيه أن أسباب الانصراف كثيرة ومن جملتها المناسبات الحكمية، فإن مناط الحكم وإن كان ظنيا ; قد يوجب الانصراف كما عليه بنائهم في كثير من الموارد ومنها: اعتبار الملاقات، ونجاسة الماء القليل مع إطلاق مفهوم قولهعليه‌السلام " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ "(١) وعلى هذا فيمكن دعوى أن المناط في تضمين الآخذ لمال

___________________

١ - الوسائل: ج ١، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق، الحديث: ١ وغيره.

٢٩

الغير، ولو بالتلف السماوي، إما مراعاة عدم وقوع الضرر على المالكين من جهة أنه لو انحصر المضمن في الاتلاف والتعدي لكان طريق إثبات الاتلاف والتعدي مسدودا غالبا، لصعوبة إثباتهما، وإما من جهة مال المسلم وأن وقوع اليد عليه يوجب الغرامة صيانة لماله وكلا الوجهين لا يأتيان في أيدى الامناء إذ بعد تسليط المالك الغير على ماله على وجه الاطمينان به كما هو مفاد الاستيمان لا وجه للملاحظتين لانه المسلط غيره على ماله.

وإن شئت توضيح ذلك بوجه أمتن، فنقول: إذا فرض تسليط المالك غيره على ماله على عنوان الاطمينان به كما عليه بناء العقود الاستيمانية فإن القبض فيها على هذا العنوان وإن كان للتغير محل لايثق به المالك فالاطمينان المذكور وإن كان لايقتضى إلا الفراغ عن جهة التعدي والتفريط إلا أن إعطاء‌ه على هذا الوجه يلازم عرفا لرفع اليد عن نفس تلفه أي عن جهة احترام ماله من حيث التلف السماوي إذ لا معنى لرفع التعدي والتفريط بملاحظة الاطمينان مع كون التلف ولو بدونهما مضمنا إذ عليه فهو ضامن على كل تقدير، فلاثمرة في الملاحظة المذكورة، فهي إنما تنفع بعد رفع اليد عن الجهات الاخر.

وربما يشهد لهذا المعنى الاخبار الواردة في أبواب الاستيمان وتعليلاتها، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سأته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا(١) فإن نفي الغرم عن المستبضع على الاطلاق وتعليله بأنه أمين إما أن يشمل التغريم مطلقا ولو من جهة التلف السماوي كما هو فرض السؤال، أو يختص بدعوى التعدى والتفريط، كما هو المناسب للتعليل فيكون

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ٨.

٣٠

عدم الضمان من جهة التلف السماوي مفروغا عنه بين السائل والمسؤول عنهعليه‌السلام من حيث إن من المركوزات عند العقلاء أن الاستبضاع ونحوه من الاستيمانات، ليس فيها اقتضاء من جهة التلف.

ومثل قولهعليه‌السلام : ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته.(١) فإن النهي عن الاتهام لا يناسب مع كون التلف مضمنا، فدل على أن عدم الضمان بالتلف أمر لا حاجة إلى بيانه لفراغ العقلاء عنه بعد الاستيمان.

ومثل قولهعليه‌السلام : في مكاتبة القاساني بعد السوال عن رجل أمر رجلا أن يشتري له متاعا أو غير ذلك، فاشتراه فسرق أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب المتاع من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتبعليه‌السلام : من مال الآمر.(٢) فإن الظاهر منه أن الامر والتسليط ينافي التطمين.ومثل قولهعليه‌السلام -: صاحب الوديعة والعارية مؤتمن.(٣) بالتقريب المتقدم.إلى غير ذلك من الاخبار التي تشهد له بالتقريبات المتقدمة مما قدمناها.

هذا تمام ما يمكن في توجيه دعوى الانصراف في الحديث الشريف للمناسبة الحكمية، تارة بالرجوع إلى الوجدان، وأخرى باستكشافها من كلمات من علمهم الله جل جلاله الحكمة والبيان ونزل عليهم القرآن والفرقان، عليهم صلوات الله الملك المنان.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: ١٠.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٣٠ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٣ - المصدر نفسه: الباب ١ من أبواب احكام العارية، الحديث: ٦.

٣١

ولكن الانصاف، أن النفس بعد في تزلزل من ذلك إذ نعلم مناط اقتضاء اليد على مال الغير، أن يكون عليه تلفه حتى يدعى انتفاؤه في الامين، إذ من الممكن، أن يكون الوجه أمرا ساريا في جميع الايادي، ومجرد الستنباط مناط لم يعلم كونه مظنونا فضلا عن كونه معلوما لا يوجب صرف الاطلاق بعد احراز كونه في مقام البيان، لان الانصراف في قوة التقييد بل هو تقييد لبي لا يصار إليه إلا بعد ثبوت المقيد على الوجه المعتب ولا يكفي الاحتمال فيه.

وأما الاخبار الواردة، فممنوعة، بشهادتها على التقييد اللبي، سواء كان نفي الضمان المسبب عن التلف السماوي مدلوله التضمني أو الالتزامي، أو لعله من جهة مفروغيته من جهة الشرع، هذا ولكن مع هذا ليس دعوى الانصراف بذلك البعيد، فتدبر.

المقام الثاني: قد يتوهم أن الخارج من قاعدة اليد مطلق الايادي المأذونة، من المالك أو من قام مقامه، بل وما كان برضاه وإن لم يكشف عنه فعل، ولا لفظ كالاخذ بشاهد الحال، وربما يؤيده تعليل كثير من الاصحاب في كثير من الابواب لعدم الضمان، بأنها مأذونة، بل ربما يدعى أن الامين الذي علل به عدم الضمان في الاخبار وفي كلمات الاخيار هو مطلق المأذون إذ ليس المعتبر، الوثاقة الواقعية، بل كونه أمينا، من جهة تسليط المالك إياه على وجه الاطمينان وهذا موجود في موارد الاذن كلها، إذ العاقل لا يسلط على ماله أحدا إلا على وجه الاطمينان ببقائه، وعدم إتلافه وعليه، فالخارج من القاعدة، بمقتضى استيناس الحكم وأخبار الامين ومعاقد الاجماعات، هو المأذون من المالك المساوي في الصدق مع الامين.وأورد عليه، بانتقاض ذلك بموارد كثيرة، حكموا بالضمان، مع وجود الاذن

٣٢

كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالعقد الفاسد والغاصب الذي أذن له المالك ومع عدم التوكيل في القبض، والطبيب والصائغ، والملاح والمكاري والاجير وغير ذلك.

أقول: ولا يخفى عدم ورود أكثر موارد النقض كالمقبوض بالعقد الفاسد الذي أذن المالك فيه على وجه الضمان وكالطبيب والصائغ وغيرهما إذ الحاكم بالضمان فيها لو قلنا به، فإنما هو للاخبار الواردة فيها ولاغرو في ثبوت المخصص في اليد المأذونة إذ ليس مما يدعى عدم قابليته للتخصيص، نعم يبقى مثل المقبوض بالسوم والغاصب المأذون لو قلنا فيها بالضمان.

فالتحقيق في المقام، بحيث يرتفع عنه غواشي الاوهام أن يقال: إن الثابت من الادلة وهي الاجماعات المحكية البالغة حدا يمكن تحصيل الاجماع منها، والاخبار المعللة المستفيضة والمتفرقة في أبواب الاستيمانات التي سنتلو عليك طائفة منها، هو خروج الامين، ولم يدل دليل على خروج المأذون بهذا العنوان إلا دعوى الانصراف للمناسبة الحكمية التي لو سلمناها فهي مقصورة على الامين.

ودعوى أن مطلق المأذون أمين مدفوعة، بوضوح الفرق بين الاستيمان والاذن، فإن الاذن ليس إلا إعلام الرضا ورفع المنع، والاستيمان تسليط الغير على المال على وجه الابانة أي المعاملة معه معاملة الامين، ومن المعلوم أن الثاني أخص من الاول إذ لم يؤخذ في الاول تسليط فضلا عن كونه على وجه الاطمينان.

توضيح ذلك، أن معنى كون العقود الاستيمانية مثل الاجارة والوكالة والرهن والمضاربة والمساقات ونحوها استيمانات، أنها بحقائقها تقتضى تسليط الغير على المال، إذ به تتحقق الانتفاعات المقصودة بالاصالة، وهذا معاملة مع

٣٣

الغير معاملة الامين، لانه سلطه على أن ينتفع ويثقه، وإلا فليس المعتبر فيها أن يكون الغير أمينا موثوقا به قطعا، وأما مطلق الاذن فهو عبارة عن رفع المنع عن التصرف، نظير الامانة الشرعية، ومن المعلوم أن هذا المقدار ليس تسلطا فضلا عن كونه على الوجه الخاص، ولا منافاة بينه وبين القسمين، وإنما المسلم، لو تنزلنا منافاته مع تسليطه.

والحاصل، أنه لاينبغي الريب في أن المالك لو صرح " بأبي لا أمنعك عن التصرف " وقد ارتفع من جانبه المنع من التصرف، فلا يقتضي ذلك لرفع اليد عما تقتضيه اليد من الضمان، عند التلف وليس هذا استيمانا حتى يتمسك بذيل أدلة الامين، نعم لو سلطه ببعثه على الاخذ، أمكن القول بالمنافاة، نظرا إلى ما عرفت من أن من لوازمه عرفا رفع اليد عما تقتضيه اليد مراعاة للمالك وأنه استيمان، وقد اطلعت على كلمات كثيرة من الاصحاب تشهد بما ادعيناه من مغايرة الاذن والاستيمان وإن كانت كثيرة منها تشهد بخلافه، حيث صرحوا في باب العارية بأن حقيقته الاذن وأنه لا يعتبر فيها لفظ خاص ولا مطلق اللفظ، قال في التذكرة: " ويكفي قرينة الاذن بالانتفاع من غير لفظ دال على الاعارة أو الاستعارة "(١) وإن كان ربما يستشكلون في مثل الفراش المبسوطة للانتفاع، إلا أنه من جهة اعتبارهم الاذن لشخص خاص، لالعدم كفاية الاذن فتسالمهم على أن العارية إذن وأنها لاضمان فيها لانها استيمان يكشف عن أن الاستيمان عندهم مساوق للاذن.

ومما يشهد لما ادعيناه ما صرح به في التذكرة أيضا في باب الوكالة " إذا تعدى

___________________

١ - التذكرة: ج ٢، كتاب العارية، ص ٢١٠.

٣٤

الوكيل أو فرط مثل أن يلبس الثوب الذي دفعه الموكل ليبيعه، ضمن إجماعا لان الوكالة تضمنت شيئين الامانة والاذن في التصرف فإذا تعدى زالت الامانة وبقي الاذن بحاله "(١) .

وهذا صريح في أن الاذن بنفسه لا يقتضي سقوط الضمان، فلابد من تأويل في ظاهر كلامه السابق من إرادة الاذن الخاص، فتأمل، وإن أبيت عن ذلك فكلماتهم تسبب التشويش ولا يصح الاعتماد عليها، ولا يحسب ما هو المتيقن منها من التسليطات الخاصة الحاصلة في العقود الاستيمانية، ولو تنزلنا فمطلق التسليط، وأما مطلق الاذن فلا دليل عليه لما عرفت من تشويش كلمات الاصحاب ومعاقد الاجماع، ولقد اطلعت على كلام شيخنا الاستاذ الاكبر في مطاوي كلامه، في قاعدة " مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " ينطبق على بعض ما قررناه " قال: فإن قلت: إن الفاسد وإن لم يكن له دخل في الضمان إلا أن مقتضى عموم " على اليد " هو الضمان خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي تكون مواردها غير مضمونه وبقي الباقي، قلت: ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به المقبوض بفاسدها وهي عموم مادل " أن من لم يضمنه المالك سواء ملكه إياه بغير عوض أو سلطه على الانتفاع به، أو استأمنه عليه لحفظه أو دفعه إليه لاستيفاء حقه أو تصرفه بلا أجرة أو معها، إلى غير ذلك فهو غير ضامن " أما في غير التمليك بلا عوض، أعني: الهبة فإنه مثل المخصص لقاعدة الضمان، عموم مادل على أن من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن بل ليس لك أن تتهمه، وأما في الهبة الفاسدة، فيمكن الاستدلال على خروجها بفحوى ما ذكر - إلى أن قال -

___________________

١ - التذكرة: ج ٢، كتاب الوكالة، ص ١٢٩.

٣٥

فحاصل أدلة عدم ضمان المتأمن، أن في دفع المالك إليه ملكه على وجه لايضمنه بعوض واقعي، أعني: المثل والقيمة ولاجعلي، فليس عليه نماؤه، انتهى كلامه ".وفيه مواقع للتأمل.

فبالحري ذكر الاخبار التي عثرت عليها في الابواب المتفرقة مما يدل على عدم ضمان الامين لانه أمين، تيمنا بها ولعله يستفاد منها ما يغنينا عن هذه الكلمات بالمرة فإن كلامهم - عليهم السلام - نور للقلب وضياء للباصرة.

فمنها: ما رواه القاساني: كتبت إليه - يعني: أباالحسن - عليه السلام - - وأنا بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ومائتين: جعلت فداك رجل أمر رجلا أن يشتري له متاعا أو غير ذلك فاشتراه فسرق منه أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب المتاع؟ من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتبتعليه‌السلام : من مال الآمر.(١) ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر أن مطلق التسليط والبعث، موجب لصرف الضمان.

ومنها: مارواه يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن الرجل يبيع للقوم بالآجر وعليه ضمان مالهم؟ قال: إنما كره ذلك من أجل أني أخشى أن يغرموه أكثر مما يصيب عليهم فإذا طابت نفسه فلا بأس.(٢) أقول: تعلق الضمان على طيب النفس مما لا يصح إلا بأن يراد السؤال عن اشتراط الضمان فليس هذا بذلك البعيد خصوصا بعد ما عرفت وعليه فلا دخل للرواية بالمقام إلا من جهة مفروغية عدم ضمان الاجير للتلف.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٣٦

ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا.(١) أقول: قولهعليه‌السلام " بعد أن يكون الرجل أمينا " يحتمل أن يكون شرطا للحكم في قوة القول، بأنه ليس عليه غرم إذا كان أمينا، ويحتمل أن يكون علة للحكم في قوة القول، بأنه كذا لانه أمين أي من جهة استبضاعه الذي وضع على الاستيمان، فيدل على أن الامين لا يدخله التغريم، لكن غير بعيد ظهوره في الوجه الاول كما يشهد له جملة من الاخبار في أبواب الاستيمانات، مثل قولهعليه‌السلام : إذا كان عدلا مسلما فليس عليه ضمان.(٢) وقولهعليه‌السلام : لاغرم على مستعير عارية إذا هلكت، إذا كان مأمونا.(٣) وقولهعليه‌السلام : العامل إن كان مأمونا فليس عليه شئ وإن كان غير مأمون فهو ضامن.(٤) إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في الابواب، ولكن يبعده، أن الظاهر نفي الضمان بحسب الواقع وهذا لا يدخل للامانة والعدالة فيه إلا إذا كان المراد الضمان من جهة التعدي والتفريط، مع أن الضمان من جهتهما أيضا تابع لواقعهما فلابد أن يراد بالنفي نفي التغريم بلا بينة من مدعيهما فيكون معنى النذي تقديم قوله في مقام الدعوى، ويؤيده، العدول في التعبير عن الضمان إلى الغرم، ولكن مع هذا لا ينفع لاستفادة كلية عدم ضمان الامين بالتلف السماوي

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث ٨.

٢ - المصدر نفسه: الحديث: ٢.

٣ - المصدر نفسه: الحديث: ٣.

٤ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث ١١.

٣٧

منه إلا من جهة المفروغية التي تطابق عليها الاخبار عند الانصاف، وإلا فالاخبار المتقدمة مع شهادة ما عرفت منها في التصريح باشتراط الامانة ظاهرة في دعوى التفريط والتعدي فحمل على الكراهة، وإلا فدعوى التعدي والتفريط، مسموعة حتى على الامين العادل.

ومنها: قول الصادقعليه‌السلام في رواية الحلبي: صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان.(١) أقول: وهذا أحسن روايات الباب من جهة دلالتها على أن الايتمان أمر مفروغ عنه بحسب الحكم بحيث يغني ذكر موضوعه عن حكمه، ولكن فيها ما عرفت فيما تقدم من أنها لا تدل على أزيد من أن الامين يقدم قوله في دعوى التعدي والتفريط، فإنها ناظرة إلى المرسلة المشهورة: ليس على الامين إلا اليمين.نعم هي كسوابقها تدل على عدم الضمان بالتلف السماوي من جهة المفروغية وأنه لاوجه لنفي توجه شئ عليه إلا اليمين، مع كون تلفه مضمنا مطلقا، والحاصل، أن القدر المتيقن من آثار الامانة هي ما عرفت وهو المناسب لعنوان الامانة.

ومنها: مارواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليعليه‌السلام في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر، قال عليعليه‌السلام : يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن لانه أمينه.(٢) أقول: مع ضعف سندها وإعراض الاصحاب غير الاسكافي عنها لبنائهم على تقديم قول الراهن الموافق للاصل في وجه للاخبار المدعى في محكي جامع

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: ١.

٢ - المصدر نفسه: الباب ١٧ من أبواب أحكام الرهن، الحديث: ٤.

٣٨

المقاصد تواترها وموافقتها للتقية أنه لا يلائم التعليل لعدم اقتضاء الامانة لتصديق المرتهن فيما على الرهن لعدم رجوع الدعوى إلى أمر ينافي الامانة، فلذا يحتمل قويا أن يكون المراد الامانة والوثاقة لا الاستيمان العقدي، فتأمل، وعلى كل حال فلايستفاد منها ما ينفع للمقام كما لايخفى.

ومنها: قولهعليه‌السلام : وصاحب العارية والوديعة مؤتمن(١) وقد تقدم الكلام في نظيرها.

ومنها: قولهعليه‌السلام : ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ولا تأمن الخائن.(٢) وفيها أيضا ماعرفت مرارا.

ومنها: قولهعليه‌السلام كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يضمن القصار والصائغ احتياطا للناس كان أبي يتطول عليه إذا كان مأمونا.(٣) ومنها: الاخبار الكثيرة الواردة في باب القصار والحمال والجمال والملاح، من أنه كان مأمونا فلا يضمنه وأنه ضامن إلا أن يكون ثقة مأمونا، وفيها ما عرفت من أنها لاتنفع في المقام بوجه.

أقول: والانصاف أن الاخبار المذكورة بحسب الدلالة المطابقية غير واردة إلا في مقام دعوى التعدي والتفريط، نعم بحسب الالتزام تدل على في الضمان عن الامين بسبب التلف السماوي إذ لولاه لكان نفي الضمان على الوجه المذكور لغوا.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ٦.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٩ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ١.

٣ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ٤.

٣٩

ثم إن الظاهر منها أن المفروغية المذكورة، نظرا إلى منافاة الاستيمان مع التضمين، ليست من جهة وضوح الحكم بحسب الشرع، وإلا لكان في تلك الاخبار بكثرتها سؤالا عنه بل من جهة وضوحه عند العقلاء، على نحو ما عرفت فتكون نفس تلك الاخبار قرينة على ماتقدم من دعوى الانصراف في حديث إلى غير الامين، ومما قررناه في تضاعيف ذكر الاخبار وما بعده ظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ الاكبر، من التسمك بعموم أدلة الاستيمان لقاعدة " ما لا يضمن " في غير التمليك بلا عوض وبفحواه فيه، فتأمل، ثم إن المستخرج منها إما بالمطابقة أو الالتزام، ليس إلا الامين الذي قد عرفت أنه أخص من عنوان المأذون.

ولو فرضنا التمسك في الخارج، وأنه خصوص الامين أو الاعم منه ومن المأذون فإن اعتمدنا في الخروج على الادلة اللفظية، وقلنا بأن عنوان الامين مجمل فالمرجع هو اطلاق دليل " اليد " لدوران التقييد المنفصل بين الاقل والاكثر فيقتصر على الاقل، وإن اعتمدنا على الدليل اللبي، أعني: حكم العقل من جهة الاستيناس بالحكم، فالاقوى سريان الاجمال إلى الاطلاق ووجوب الرجوع إلى الاصول العملية.

ودعوى أن القضايا العقلية كما علم في محله معلومة الموضوع، فكيف يفرض فيها الاجمال الساري، مع أنه لو فرض الاجمال فيها فهي في حكم التقييد المنفصل لاستقلاله في الحكم فلا وجه للحكم بالسريان، مدفوعة بأن المقصود من الحكم العقلي في المقام ماعرفت مرارا هو إدراكه الظني لمناط الحكم الموجب لانصراف المطلق، وهذا قابل لان يدخل فيه الشك والتردد في الموضوع، كما لايخفى.وأما حديث الانفصال، فهو حق في العقل المستقل، وأما في مثل المقام

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

«أشار على أبي بكر أن يجمعه»(١) جمعاً بينه وبين ما دلّ على أنّ «الأول» هو «أبو بكر».

وكذا نرفض ما أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت أنّه قال: «أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ...»(٢) لوجوه منها:

أولاً: إنّ القرآن كان مجموعاً مؤلّفاً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعيد وفاته بأمر منه، وإذ قد فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك كيف يقول زيد لأبي بكر: «كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »؟!

وثانياً: قوله: «فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال» يناقضه ما دلّ على كونه مؤلّفاً ومدوّناً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد رواه هو بل رووا أنّ جبريل عرض القرآن على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عام وفاته مرّتين، بل ذكر ابن قتيبة أنّه كا آخر عرض قام به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للقرآن على مصحف زيد بن ثابت نفسه(٣) .

وثالثاً: قوله: «حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره» ممّا اضطرب القوم في معناه، كما اختلفوا في اسم هذا الرجل الذي وجد عنده ذلك(٤) .

__________________

(١) فتح الباري ٩: ١٠.

(٢) صحيح البخاري ٦: ٢٢٥.

(٣) المعارف: ٢٦٠.

(٤) فتح الباري ٩: ١٢، إرشاد الساري ٧: ٤٤٨، المرشد الوجيز: ٤٣، البرهان ١: ٢٣٦، مناهل العرفان ١: ٢٦٦.

٢٦١

رفض أحاديث قبول الآية بشاهدين

وكذا نرفض ما أخرجه ابن أبي داود: «إنّ أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين من كتاب الله فاكتباه»(١) قال ابن حجر: «رجاله ثقات مع انقطاعه». فإنّه بغضّ النظر عمّا في سنده تدفعه الضرورة، فلا حاجة إلى الوجوه التي ذكرها ابن حجر التوجيهه حيث قال: «كأنّ المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يكتب إلاّ من عين ما كتب بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا مجرّد الحفظ»(٢) مع أنّ بعض تلك الوجوه غير قابل للتصديق به أبداً.

ولهذا الحديث - في الدلالة على كتابة القرآن بشهادة شاهدين - نظائر في كتبهم نذكر بعضها مع إسقاط أسانيده:

١ - «لمّا قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت فقال: أجلسا على باب المسجد فلا يأتينّكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلاّ أثبتمّاه؛ وذلك لأنّه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله قد جمعوا القرآن»(٣) .

٢ - «أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن فقام في الناس

__________________

(١) المصاحف: ٥٥.

(٢) فتح الباري ٩: ١١.

(٣) منتخب كنز العمّال ٢: ٤٥.

٢٦٢

فقال: من كان تلقّى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قالوا: وما هما؟ قال: تلقّيت من رسول الله( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ... ) إلى آخر السورة. فقال عثمان: وأنا أشهد أنّهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة»(١) .

٣ - «كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ) إلى آخرها، فقال عمر: لا أسألك عليها بيّنة أبداً، كذلك كان رسول الله»(٢) .

٤ - خزيمة بن ثابت: «جئت بهذا الآية:( لقد جاءكم ... ) على عمر بن الخطّاب وإلى زيد بن ثابت، فقال زيد: من يشهد معك؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال عمر: أنا أشهد معه على ذلك»(٣) .

٥ - زيد بن ثابت: «لمّا كتبنا المصاحف فقدرت آية كنت أسمعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجدتها عند خزيمة بن

__________________

(١) منتخب كنز العمّال ٢: ٤٥.

(٢) منتخب كنز العمّال ٢: ٤٥ - ٤٦.

(٣) منتخب كنز العمّال ٢: ٤٦.

٢٦٣

ثابت:( من المؤمنين رجال صدقوا ... ) وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين، أجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شهادته بشهادة رجلين»(١) .

٦ - «أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب إلاّ بشهادة عدلين، وإنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع أبي خزيمة ابن ثابت، فقال: اكتبوها فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنّه كان وحده»(٢) .

وممّا يزيد بطلان هذه الأحاديث وضوحاً وجود التكاذب فيما بينها، وبيان ذلك:

إنّ الحديث الثاني صريح في أنّ الجمع كان في زمن عمر والآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت والشاهد معه عثمان. لكن في الثالث «جاء رجل من الأنصار» وقال عمر: «لا أسألك عليها بيّنة أبداً كذلك كان رسول الله». وفي الرابع: «فقال زيد: من يشهد معك؟» قال خزيمة: «لا والله ما أدري، فقال عمر: أنا أشهد معه». وفي السادس: أنّ الجمع كان في زمن أبي بكر والكاتب زيد «فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين» وأنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: «أكتبوها فإنّ رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين».

وأيضاً: وجود التكاذب بينها وبين الحديث التالي: «إنّهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر، وكان رجال يكتبون ويملي

__________________

(١) منتخب كنز العمّال ٢: ٤٩ و ٥٢.

(٢) الإتقان ١: ١٠١.

٢٦٤

عليهم اُبَيّ، فلمّا انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة:( ثم انصرفوا صرف الله ... ) فظنّوا أنّ هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال اُبَيّ بن كعب: أقرأني بعدها آيتين:( لقد جاءكم رسول ... ) (١) .

وهكذا ترتفع جميع الشبهات حول القرآن الكريم بعد سقوط الأحاديث التي هي المناشيء الأصليّة لها ...

حول ما صنعه عثمان

ويبقى الكلام حول ما صنعه عثمان فهل جمع القرآن من جديد؟ وكيف؟ وبواسطة من؟

لقد اختلفت أحاديث القوم وكلمات علمائهم في هذا المقام أيضاً، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدّم ولمّا كان الصحيح كون القرآن مكتوباً على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومجموعاً مدوّناً قبل عهد عثمان بزمن طويل، بل لا دور لمن تقدّم عليه في جمعه فالصحيح أنّ الذي فعله عثمان على عهده لم يكن إلاّ جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة المشهورة المتعارفة بينهم، المتواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنعهم عن القراءات الاخرى المبنيّة على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف.

أمّا هذا العمل فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، لأنّ مصاحف الصحابة والتابعين كانت مختلفة، حتى أنّ بعض العلماء ألّف في أختلافها كتاباً خاصاً،(٢) وكان لكل من الصحابة أتباع في البلاد يقرؤون على

__________________

(١) مجمع الزوائد ٧: ٣٥.

(٢) أنظر: المصاحف لابن أبي داود السجستاني.

٢٦٥

قراءته، ومن الطبيعي أن يؤدّي الإختلاف في قراءة القرآن إلى ما لا تحمد عقباه

بل أعلن بعض الأصحاب تأييده لما قام به عثمان، ورووا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأٍ منّا. قال: ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أنّ بعضهم يقول: إنّ قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفراً، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا يكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت(١) .

وعنه أنّه قال: «لو ولّيت لفعلت مثل الذي فعل»(٢) .

وقد يؤيّده نقل السيّد ابن طاووس ذلك وسكوته عليه، حيث جاء في الباب الثاني الذي عقده لنقل أشياء من كتب التفاسير ونقدها: «فصل فيما نذكره من كتاب عليه: جزء فيه اختلاف المصاحف تأليف أبي جعفر محمد بن منصور رواية محمد بن زيد بن مروان، قال في السطر الخامس من الوجهة الاولة منه: إن القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت، وخالفة في ذلك أبي وعبدالله بن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة، ثم عاد عثمان جمع القرآن برأي مولانا علي بن أبي طالب ...»(٣) .

وأيضاً: أنّ عدج الآي والسور الذي عليه أكثر القرّاء كما تقدم في الفصل الخامس من الباب الأول عن عدةٍ من أعلام الإمامية هو

__________________

(١) فتح الباري ٩: ١٥.

(٢) إرشاد الساري ٧: ٤٤٨، البرهان ١: ٢٤٠ وغيرهما.

(٣) سعد السعود: ٢٧٨.

٢٦٦

العدد الكوفي كما ذكر الشيخ الطوسي(١) وقد ذكر الشيخ الطبرسي في أوّل تفسيره. «أن عدد أهل الكوفة أصح الأعداد وأعلاها إسناداً، لأنه مأخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»(٢) .

وأيضاً: قول العلاّمة الحلّي: «يجب أن يقرأ بالمتواتر من الآيات وهو ما تضمنّه مصحف عليعليه‌السلام ، لأن أكثر الصحابة اتّفقوا عليه، وأحرق عثمان ما عداه، ولا يجوز أن يقرأ مصحف ابن مسعود ولا أبي ولا غيرهما»(٣) .

ما كان بين عثمان وابن مسعود

نعم، انتقد على عثمان أخذه المصاحف من أصحابها بالقوّة وإحراقه لها، وقد رووا عن ابن مسعود الإمتناع من تسليم مصحفه والإنتقاد الشديد لتقديم زيد بن ثابت عليه

قلت: أمّا امتناعه من تسليم مصحفه فهو من الامور الثابتة التي لا تقبل الخدش، ولا حاجة إلى ذكر أخباره ومصادر، وأمّا اعتراضه على تقديم زيد بن ثابت ففيه روايات صحيحة عندهم فقد روى الحافظ ابن عبدالبرّ، عن الأعمش، عن شقيق، قال: «لمّا أمر عثمان في المصاحف بما أمر قام عبدالله بن مسعود خطيباً فقال: أيأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت؟! والّذي نفسي بيده لقد أخذت من فيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين سورة وأنّ زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب به الغلمان، والله ما نزل من القرآن شيء إلاّ وأنا أعلم في أيّ

__________________

(١) التبيان ١٠: ٤٣٨.

(٢) مجمع البيان ١: ١١.

(٣) تذكرة الفقهاء ١: ١١٥.

٢٦٧

شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله منّي، ولو أعلم أحداً تبلّغنيه الإبل أعلم بكتاب الله منّي لأتيته. ثمّ استحيى ممّا قال فقال: وما أنا بخيركم، قال شقيق: فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فما سمعت أحداً أنكر ذلك عليه ولا ردّ ما قال»(١) .

إضطراب القوم في ما رووه عن ابن مسعود في زيد

فهذا الحديث يكشف عن مدى تألّم ابن مسعود وتضجره وشدّة اعتراضه وانتقاده لتقديم زيد بن ثابت عليه ومثله أحاديث وآثار اخرى.

وهذا الموضع أيضاً من المواضع المشكلة ولذا اضطرب القوم فيه إضطراباً شديداً، أمّا البخاري فقد أخرج الحديث محرّفاً وتصّرف فيه تستّراً على عثمان وزيد، فرواه عمن الأعمش، عن شقيق، قال: «خطبنا عبد الله فقال: والله لقد أخذت من فيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم. قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادّاً يقول غير ذلك»(٢) .

وأمّا إبن أبي داود فقد ترجم باب رضى ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان، لكن لم يورد ما يصّرح بمطابقة ما ترجم به(٣) .

 __________________

(١) الإستيعاب ٣: ٩٩٣.

(٢) صحيح البخاري بشرح ابن حجر ٩: ٣٩.

(٣) فتح الباري ٩: ٤٠.

٢٦٨

وقال بعضهم: ما رووا عن ابن مسعود من الطعن في زيد بن ثابت كلّه موضوع(١) .

وأمّا ما كان من عثمان بالنسبة إلى ابن مسعود فمشهور في التاريخ، فقد ضربه حتى كسر بعض أضلاعه، ومنعه عطاءه، ووقعت بينهما منافرة شديدة حتى عهد ابن مسعود إلى عمّار أن لا يصلّي عثمان عليه. وعاده عثمان في مرض الموت فقال له: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. فقال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أدعو لك طبيباً؟ قال: الطيب أمرضني. قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينية وأنا مستغن عنه؟ قال: يكون لولدك. قال: رزقهم على الله تعالى. قال: إستغفر لي يا أبا عبد الرحمن. قال: أسأل الله أن يأخذ لي عنك حقّي»(٢) .

كلمة في زيد بن ثابت

قلت: ما رواه الأعمش عن شقيق أخرجه مسلم والنسائي وأبو عوانة وابن أبي داود وسواء كان صحيحاً أو موضوعاً فإنّ أمر جميع ما ورد حول القرآن. مشتملاً على دور لزيد بن ثابت فيه. مريب

لأنّ هذا الرجل الذي كان حين قدوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ابن إحدى عشرة سنة(٣) قد جعلوه من مؤلّفي القرآن على

__________________

(١) مباحث في علوم القرآن، لصبحي الصالح: ٨٢.

(٢) اُسد الغابة ٣: ٢٥٩، تاريخ ابن كثير ٧: ١٦٣، الخميس ٢: ٢٦٨، السيرة الحلبيّة ٢: ٧٨، شرح النهج ١: ٢٣٦. نقلاً عن هامش نهج الحق: ٢٩٥.

(٣) الاستيعاب ٢: ٥٣٦.

٢٦٩

عهد الرسول وأنّه على قراءة عارض جبريل القرآن مع النبي عام وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه الذي جمع القرآن الموجود على عهد عثمان بأمره وأن القرآن الموجود على حرف زيد ...!!

فإن صحّ هذا كلّه فهي «شنشنة أعرفها من أخزم».

ولكنّ محمد بن كعب القرظي لم يذكر زيداً فيمن جمع القرآن على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وأمّا على عهد أبي بكر فقد عرفت بطلان أحاديث الجمع على عهده، على أنّ أبا بكر لم يصفه إلاّ بـ «إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك» وما كا فيه شيء يتقدّم به على ابن عبّاس وابن مسعود واُبَيّ بن كعب وأضرابهم من حفّاظ القرآن وقرّائه والعلماء فيه

مضافاً إلى أنّ قوماً من أهل السنّة عارضوا بهذا الحديث حديث أنس بن مالك أنّ زيد بن ثابت أحد الّذين جمعوا القرآن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا: «فلو كان زيد قد جمع القرآن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأملاه من صدره وما احتاج إلى ما ذكر»(٢) .

وأمّا حديث معارضة القرآن على قراءته - كما عن ابن قتيبة - فقد تكذّبه رواية وكيع وجماعة معه، عن الأعمش عن أبي ظبيان «قال: قال لي عبدالله بن عبّاس: أيّ القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن امّ عبد، فقال: أجل هي الآخرة، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّة، فلمّا كان العام الذي

__________________

(١) الإتقان ١: ٢٧٢، منتخب كنز العمّال ٢: ٣٧٠.

(٢) الاستيعاب ٢: ٥٣٨.

٢٧٠

قبض فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عرضه عليه مرّتين، فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل»(١) .

خلاصة البحث

ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية:

١ - إنّ القرآن الكريم كان مكتوباً على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان حفّاظه وقرّاؤه يفوق عددهم حدّ التواتر بكثير.

٢ - إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام جمع القرآن الكريم على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ رتّبه ودوّنه بعد وفاته على ترتيب نزوله، وذكر فيه الناسخ والمنسوخ وبعض التفسير والتأويل.

٣ - إنّ الخلفاء الثلاثة لا دور لهم في جمع القرآن ولا في كتابته ولا في حفظه، لا على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في عهد حكومتهم.

٤ - إنّ الذي فعله عثمان هو ترتيب سور القرآن كما هو موجود الآن، من غير زيادة فيه ولا نقصان، وحمل الناس على قراءة هذا المصحف ونبذ القراءات الاخرى التي كان عليها تبعاً لأصحابها.

كلمة لابُدّ منها:

وهي أنّه لو أطاع المسلمون نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله وامتثلوا أمره بالرجوع إلى أهل بيته من بعده والتمسك بهم والتعلم منهم - كما

__________________

(١) الاستيعاب ٣: ٩٩٢.

٢٧١

في حديث الثقلين المتواتر وغيره - لأخذوا القرآن وعلومه من عين صافية، ولكن هل علم الذي قال: «حسبنا كتاب الله» ثم منع عن كتابة السنّة وسعى وراء عزل أهل البيت عن قيادة الامّة، وحرمها من العلوم المودعة عندهمعليه‌السلام بأنّ القرآن سيمزّقه على المدى البعيد على يد «الوليد»، فلا يبقى كتاب ولا سنّة ولا عترة؟!

إنّه قد يصعب على بعض الناس القبول بترتّب كل هذه الآثار، بل تغيّر مصيرامّة بكاملها على كلمة واحدة قالها قائلها!!

٣ - في أحاديث نقصان القرآن

وأمّا أخبار نقصان القرآن فقد ذكرنا ردّ من ردّها مطلقاً، وتأويلات من صحّحها، وأشرنا إلى أنّ المعروف بين المتأوّلين هو الحمل على نسخ التلاوة لكنّا نبحث عن هذه الآثار على التفصيل الآتي:

أمّا ما كان من هذه الآثار ضعيفاً سنداً فهو خارج عن دائرة البحث وقد عرفت ممّا تقدّم أنّ هذا حال قسم ممّا يدلّ على نقصان.

وأمّا التي صحّت سنداً فهي أخبار آحاد، ولا كلام ولا ريب في عدم ثبوت القرآن بخبر الواحد.

ثمّ إنّ ما أمكن حمله منها على تفسير وبيان شأن النزول ونحو ذلك فلا داعي للردّ والتكذيب له - كما لم يجز الأخذ بظاهره الدالّ عل النقصان - فإنّ عدّة من الأصحاب كانوا قد كتبوا القرآن، وكان بين مصاحفهم الإختلاف في ترتيب السور وقراءة الآيات وما شاكل ذلك. وإنّ بعضهم قد أصناف إلى الآيات ما سمعه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من التفسير والتوضيح لها، ومن هذا القبيل جلّ ما في أجزاء

٢٧٢

الآيات، كآية ولاية النبي، وآية المحافظة على الصلوات، وآية المتعة، وآية( يا أيّها الرسول بلّغ ... ) وأمثالها ...

وإن لم يمكن - أو لم يتمّ - الحمل على بعض الوجوه كما هو الحال فيما ورد حول سور وآيات كاملة اسقطت من القرآن فإمّا الحمل على نسخ التلاوة وإمّا الردّ والتكذيب ...

تحقيق في النسخ

لكنّ الحمل على نسخ التلاوة دون الحكم أو هما معاً غير تامّ لوجوه:

هذا النسخ مستحيل أو ممنوع شرعاً

الأول: إنّه لا أصل للقسمين المذكورين من النسخ وتوضيح ذلك: أنّهم قالوا: بأنّ النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب، أحدها: ما نسخ لفظه وبقي حكمة. والثاني: ما نسخ لفظه وحكمة معاً. والثالث: ما نسخ حكمه دون لفظه. وقد مثّلوا للضرب الأول بآية الرجم، ففي الصحيح عن عمر: «إنّ الله بعث محمداً بالحقّ وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها». قال ابن حزم: «فأمّا قول من لا يرى الرجم أصلاً فقول مرغوب، عنه لأنّه خلاف الثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان نزل به قرآن، ولكنّه نسخ لفظه وبقي حكمه»(١) .

__________________

(١) المحلّى ١١: ٣٣٤.

٢٧٣

وعلى ذلك حمل أبو شامة(١) وكذا الطحاوي، قال: «لكنّ عمر لم يقف على النسخ فقال ما قال، ووقف على ذلك غيره من الأصحاب، فكان من علم شيئاً أولى ممّن لم يعلمه، وكان علم أبي بكر وعثمان وعلي بخروج آية الرجم من القرآن ونسخها من أولى من ذهاب ذلك على عمر»(٢) .

قال السيوطي: «وأمثلة هذا الضرب كثيرة» ثمّ حمل عليه قول ابن عمر: «لا يقولنّ ...» وما روي عن عائشة في سورة الأحزاب، وما روي عن أبيّ وغيره من سورة الخلع والحفد(٣) .

وفي (المحلّى) بعد أن روى قال أبيّ في عدد آيات سورة الأحزاب: «هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه» قال: «ولو لم ينسخ لفظها لأقرأها اُبَيّ بن كعب زرّاً بلا شكّ، ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنّها تعدل الآن، فصحّ نسخ لفظها»(٤) .

ومثّلوا للثاني بآية الرّضاع عن عائشة: «كان ممّا انزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ثمّ نسخن بخمس رضعات يحرّمن، فتوفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن». رواه الشيخان. وقد تكلّموا في قولها: «وهنّ ممّا يقرأ» فإنّ ظاهره بقاء التلاوة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس كذلك وقد تقدّم بعض الكلام فيه قال مكّي: «هذا المثال فيه المنسوخ غير متلوّ،

__________________

(١) المرشد الوجيز: ٤٢: ٤٣.

(٢) مشكل الآثار ٣: ٥ - ٦.

(٣) الإتقان ٢: ٨١.

(٤) المحلّى ١١: ٢٣٤.

٢٧٤

والناسخ أيضاً غير متلوذ ولا أعلم له نظيرا»(١) .

وقال الآلوسي: «اسقط زمن الصدّيق مالم يتواتر وما نسخت تلاوته، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة، ولم يأل جهداً في تحقيق ذلك، إلاّ أنّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلاّ زمن ذي النورين. فلهذا نسب إليه» ثمّ ذكر طائفة من الآثار الدالّة على نقصان القرآن عن أحمد والحاكم وغيرهما فقال: «ومثله كثير، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر، قال: لا يقولّون والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى، إلاّ أنّها محمولة على ما ذكرناه»(٢) .

وفي آية الرّضاع قال: «والجواب: أنّ جميع ذلك منسوخ كما صرّح بذلك ابن عبّاس فيما مرّ، ويدلّ على نسخ ما في خبر عائشة أنّه لو لم يكن منسوخاً لزم ضياع بعض القرآن لم ينسخ، وإنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه، وما في الرواية لا ينافي النسخ ...»(٣) .

ووافق الزرقاني على حمل هذه الآحاديث على النسخ لورود ذلك في الأحاديث(٤) .

لكنّ جماعة من علمائهم المتقدّمين والمتأخرين ينكرون القسمين المذكورين من النسخ، ففي الإتقان بعد أن ذكر الضرب الثالث - ما نسخ تلاوته دون حكمه - وأمثلته: «تنبيه: حكى القاضي أبو بكر في الإنتصار عن قوم إنكار هذا الضرب، لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.

__________________

(١) الإتقان ٢: ٧٠.

(٢) روح المعاني ١: ٢٤.

(٣) روح المعاني ١: ٢٢٨.

(٤) مناهل العرفان ٢: ٢٢٥.

٢٧٥

وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنّما يكون بأن ينسيهم الله إيّاه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيّام كشائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله:( إنّ هذا لفي الصّحف الاولى صحف إبراهيم وموسى ) ولا يعرف اليوم منها شيء.

ثمّ لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى إذا توفي لا يكون متلوّاً في القرآن أو يموت وهو متلوّ بالرسم ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانهم، وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) ثمّ أورد كلام الزركشي الآتي ذكره.

وقال الشوكاني: «منع قوم من نسخ اللفظ من بقاء حكمه، وبه جزم شمس الدين السرخسي، لأنّ الحكم لا يثبت بدون دليله»(٢) .

وحكى الزرقاني عن جماعة في منسوخ التلاوة دون الحكم: إنّه مستحيل عقلاً، وعن آخرين منع وقوعه شرعاً(٣) .

ولم يصحّح الرافعي القول بنسخ التلاوة وأبطل كلّ ما حمل على ذلك وقال: «ولا يتوهّمنّ أحد أنّ نسبة بعض القول إلى الصحابة نصّ في أنّ ذلك المقول صحيح ألبتّة، فإنّ الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بما أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك العهد هو ما هو. ثمّ بما

____________

(١) الإتقان ٢: ٨٥، وانظر البرهان ٢: ٣٩ - ٤٠.

(٢) إرشاد الفحول: ١٨٩ - ١٩٠، وتقدّم نصّ عبارة السرخسي عن اصوله ٢: ٧٨.

(٣) مناهل العرفان ٢: ١١٢.

٢٧٦

وهل عنه بعضهم ممّا تحدّثوا من أحاديثه الشريفة، فأخطأوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب أنّ بعضهم كان يرّد على بعض فيما يشبه لهم أنّه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا على أنّ تلك الروايات القليلة [ فيما زعموه كان قرآناً وبطلت تلاوته ](١) إن صحّت أسانيدها أو لم تصحّ فهي على ضعفها وقلّتها ممّا لا حفل به ما دام إلى جانبها إجماع الامّة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق»(٢) .

وقال صبحي الصالح: «والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء منهجية كان خليقاً بهم أن يتجنّبوها لئلاّ يحملها الجاهلون حملاً على كتاب الله لم يكن خفيّاً على أحد منهم أنّ الآية القرآنية لا تثبت إلاّ بالتواتر، وأنّ أخبار الآحاد ظنّية لا قطيعة، وجعلو النسخ في القرآن - مع ذلك - على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم والتلاوة جميعاً.

وليكثروا إن شاؤوا من شواهد الضرب الأول، فإنّهم فيه لا يمسّون النصّ القرآني من قريب ولا بعيد، إذ الآية لم تنسخ تلاوتها بل رفع حكمها لأسرار تروبية وتشريعية يعلمها الله، أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث، اللذين نسخت فيهما بزعمهم تلاوة آيات معيّنة، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها.

والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركّباً

__________________

(١) ما بين القوسين ذكره في الهامش. قلت: ما ذكره في الجواب عن هذه الآحاديث هو الحقّ لكنّ وصفها بالقلّة في غير محلّة فهي كثيرة بل أكثر من أن تحصى كما تقدّم في عبارة الآلوسي.

(٢) إعجاز القرآن: ٤٤.

٢٧٧

فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكل ضرب شواهد كثيرة أو كافية على الأقلّ ليتيسّر استنباط قاعدة منها، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهد أو اثنان على كلّ من هذين الضربين [ أمّا الضرب الذي نسخت تلاوته دون حكمه فشاهده المشهور ما قيل من أنّه كان في سورة النور: الشيخ والشيخة أنظر: تفسير ابن كثير ٣: ٢٦١، وممّا يدلّ على اضطراب الرواية: أنّ في صحيح ابن حبّان ما يفيد أنّ هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور، وأمّا الضرب الذي نسخت تلاوته وحكمه معاً فشاهده المشهور في كتب الناسخ والمنسوخ ماورد عن عائشة أنّها قالت: كان فيما انزل من القرآن ](١) وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخة بأخبار آحاد لا حجّة فيها.

وبهذا الرأي السديد أخذ ابن ظفر في كتابه الينبوع، إذ أنكر عدّ هذا ممّا نسخت تلاوته، قال: لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن»(٢) .

وقال مصطفى زيد وهو ينكر نسخ التلاوة دون الحكم: «وأمّا الآثار التي يحتجّون بها فمعظمها مرويّ عن عمر وعائشة، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما، بالرغم من ورودهما في الكتب الصحاح وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتّفق ومكانه عمر ولا عائشة، ممّا يجعلنا نطمئن إلى اختلافها ودسّها على المسلمين»(٣) .

__________________

(١) ما بين القوسين مذكور في الهامش.

(٢) مباحث في علوم القرآن: ٢٦٥ - ٢٦٦.

(٣) النسخ في القرآن ١: ٢٨٣.

٢٧٨

وقال الخضري: «لا يجوز أن يرد النسخ على التلاوة دون الحكم، وقد منعه بعض المعتزلة وأجازة الجمهور، محتجّين بأخبار آحاد لا يمكن أن تقوم برهاناً على حصوله. وأنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثم يرفعها مع بقاء حكمها»(١) .

هذا، وستأتي كلمات بعض أعلامهم في خصوص بعض الآثار.

وكذا أنكر المحقّقون من الإمامية القسمين المذكورين من النسخ

فقد قال السيد المرتضى: «ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به لأنّه من خبر الآحاد، وهو ما روي أنّ من جملة القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معاً موجود في أخبار الآحاد وهو ما روي عن عائشة ...»(٢) .

وقد تبعه على ذلك غيره(٣) .

لا دليل على أنّ هذه الآيات منسوخة

الثاني: وعلى فرض تمامية الكبرى فإنّه لا دليل على أنّ هذه الآيات التي حكتها الآثار المذكور منسوخة، إذ لم ينقل نسخها، ولم يرد في حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واحد منها أنّها منسوخة، ولقد كان المفروض أن يبلّغصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّة بالنسخ كما

__________________

(١) تاريخ التشريع الاسلامي.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ١: ٤٢٨.

(٣) البيان في تفسير القرآن: ٣٠٤.

٢٧٩

بلّغ بالنزول.

فقد ورد في الحديث أنّه قال لابيّ: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ عليه (آية الرغبة)، فلو كانت منسوخة - كما يزعمون - لأخبره بذلك ولنهاه عن تلاوتها، ولكنّه لم يفعل - إذا لو فعل لنقل - ولذا بقي اُبَيّ - كما في حديث آخر عن أبي ذرّ - يقرأ الآية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتقداً بكونها من آي القرآن العظيم.

ونازع عمر ابيّاً في قراءته (آية الحميّة) وغلّط له، فخصمه ابيّ بقوله: «لقد علمت أنّي كنت أدخل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقرؤني وأنت بالباب، فإن أحببت أن أقرىء الناس على ما أقرأني وإلاّ لم أقرىء حرفاً ما حييت»، فقال له عمر: «بل أقرىء الناس».

وهذا يدلّ على أنّ اُبَيّاً قد تعلّم الآية هكذا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل يقرئ الناس على ما أقرأه، ولو كان ثمّه ناسخ لعلمه ابيّ أو أخبره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفّ عن تلك القراءة هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، فإنّ قول عمر في جوابه: «بل أقرئ الناس» يدلّ على عدم وجود ناسخ للآية أصلاً، وإلاّ لذكره له في الجواب.

حملها على نسخ التلاوة غير ممكن

الثالث: عدم إمكان حمل الآيات المذكورة على منسوخ التلاوة على فرض صحّة القول به:

فآية الرجم قد سمعها جماعة - كما تفيد الأحاديث المتقدّمة - من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصرّ حين بأنّها من آي القرآن

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368