التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف15%

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 368

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف
  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184901 / تحميل: 6452
الحجم الحجم الحجم
التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

«... إن النقصان في الكتاب مما لا أصل له»(١) .

* وصرّح السيد محمد الشهشهاني - المتوفىّ سنة ١٢٨٩ - بعدم تحريف القرآن الكريم في بحث القرآن من كتابه (العروة الوثقى) ونسب ذلك إلى جمهور المجتهدين(٢) .

* وصرّح السيد حسين الكوه كمري - المتوفّى سنة ١٢٩٩ - بعدم تحريف القرآن، واستدلّ على ذلك بامور نلخّصها فيما يلي:

١ - الأصل، لكون التحريف حادثاً مشكوكاً فيه.

٢ - الإجماع.

٣ - مناقاة التحريف لكون القرآن معجزة.

٤ - قوله تعالى:( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) .

٥ - أخبار الثقلين.

٦ - الاخبار الناطقة بالأمر بالأخذ بهذا القرآن(٣) .

* وإليه ذهب الشيخ موسى التبريزي - المتوفّى سنة ١٣٠٧ - في (شرح الرسائل في علم الاصول) واستدل له بوجوه، ثم ذكر وجوهاً لتأويل ما دلّ بظاهره على الخلاف.

* وأثبت عدم التحريف بالأدلّة الوافية السيد محمد حسين الشهرستاني الحائري - المتوفّى سنة ١٣١٥ - في رسالة اسمها (رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف)(٤) .

* وقال الشيخ محمد حسن الآشتياني - المتوفّى سنة ١٣١٩ -:

__________________

(١) إشارات الأصول، مبحث حجية ظواهر الكتاب.

(٢) انظر: البيان في تفسير القرآن: ٢٠٠.

(٣) انظر: بشرى الوصول إلى أسرار علم الاصول، مبحث حجية ظواهر الكتاب.

(٤) المعارف الجلية للسيد عبدالرضا الشهرستاني ١: ٢١.

٢١

«المشهور بين المجتهدين والاصوليّين - بل أكثر المحدّثين - عدم وقوع التغيير مطلقاً، بل ادّعى غير واحد الإجماع على ذلك»(١) .

* وإليه ذهب الشيخ محمد حسن بن عبدالله المامقاني النجفي المتوفّى سنة ١٣٢٣ - في كتابه (بشرى الوصول إلى أسرار علم الاصول).

* وقال الشيخ عبدالله ابن الشيخ محمد حسن المامقاني - المتوفّى سنة ١٣٥١ - بترجمة (الربيع بن خثيم) بعد كلام له: «فتحصّل من ذلك كلّه أنّ ما صدر من المحدّث النوري رحمة الله من رمي الرجل بضعف الإيمان ونقص العقل جرأة عظيمة كجرأته على الإصرار على تحريف كتاب الله المجيد ...»(٢) .

* وقال الشيخ محمد جواد البلاغي - المتوفّى سنة ١٣٥٢ - ما نصّه: «ولئن سمعت من الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه، فلا تقم لتلك الروايات وزناً، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين، وفيما جاءت به في رواياتها الواهية من الوهية من الوهن وما ألصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به ...»(٣) .

فهذه طائفة من كلمات أعلام الإمامية - في القرون المختلفة - الصريحة في نفي التحريف عن القرآن الشريف

وهو رأي آخرين منهم:

* كالشريف الرضي - المتوفّى سنة ٤٠٦.

* والشيخ ابن إدريس صاحب «السرائر في الفقه»، المتوفّى سنة ٥٩٨.

* والفاضل الجواد، من علماء القرن الحادي عشر، في «شرح

__________________

(١) بحر الفوائد في حاشية الفرائد في الاصول، مبحث حجية ظواهر الكتاب: ٩٩.

(٢) تنقيح المقال ١: ٤٢٦.

(٣) آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ١٨.

٢٢

الزبدة في الاصول».

* والشيخ أبي الحسن الخنيزي، صاحب «الدعوة الإسلامية» المتوفّى سنة ١٣٦٣.

* والشيخ محمد النهاوندي، صاحب التفسير، المتوفّى ١٣٧١.

* والسيد محسن الأمين العاملي، المتوفى سنة ١٣٧١، في كتابه «الشيعة والمنار».

* والشيخ عبدالحسين الرشتي النجفي، المتوفّى سنة ١٣٧٣، في «كشف الإشتباه في مسائل جارالله».

* والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، المتوفى سنة ١٣٧٣، في «أصل الشيعة واصولها».

* والسيد محمّد الكوه كمري المعروف بالحجّة، التوفّى سنة ١٣٧٢ في فتوىً له.

* والسيد عبدالحسين شرف الدين العاملي، المتوفّى سنة ١٣٨١، في «أجوبة مسائل جار الله».

* والشيخ آغا بزرك الطهراني، المتوفّى سنة ١٣٨٩، في رسالته «تفنيد قول العوام بقدم الكلام».

* وسيدنا الجدّ السيد محمد هادي الميلاني، المتوفّى سنة ١٣٩٥، في فتوىً له.

* والسيد محمد حسين طباطبائي، المتوفّى سنة ١٤٠٢، في تفسيره الشهير «الميزان في تفسير القرآن».

* والسيّد روح الله الموسوي الخميني - قائد الثورة الإسلاميّة - في بحثه الاصولي «تهذيب الاصول» في مبحث حجّية ظواهر القرآن.

* والسيد أبوالقاسم الخوئي في كتابه «البيان في تفسير القرآن» حيث بحث عن هذا الموضوع من جيمع جانبه وشيّد أركانه.

* وسيدنا الاستاذ السيد محمد رضا الگلپايگاني في فتوىً

٢٣

له.

* والسيد شهاب الدين النجفي المرعشي في فتوىً له.

ولو أردنا أن ننقل كلمات هؤلاء الأعاظم من علماء الشيعة في هذا المضمار لطال بنا المقام، فمثلاً يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

«وإنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم.

ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى موجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ يردّه نصّ الكتاب العظيم( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) .

والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإمّا أن تؤوّل بنحو من الإعتبار أو يضرب بها الجدار»(١) .

ويقول السيد شرف الدين: «المسألة الرابعة: نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات

فأقول: نعوذ بالله من هذا القول، ونبرأ إلى الله تعالى من هذا الجهل، وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواتراً قطعياً عن أئمّة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام لا يرتاب في ذلك إلاّ معتوه، وأئمّة أهل البيت كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى، وهذا أيضاً ممّا

__________________

(١) أصل الشيعة وأًصولها ١٠١ - ١٠٢، ط ١٥.

٢٤

لا ريب فيه.

وظواهر القرآن الحكيم فضلاً عن نصوصه أبلغ حجج الله تعالى، وأقوى أدلّة أهل الحق بحكم الضرورة الأوليّة من مذهب الإماميّة، وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح - المخالفة للقرآن - عرض الجدار ولا يأبهون بها، عملاً بأوامر أئمّتهمعليهم‌السلام .

وكان القرآن مجموعاً أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وسائر كلماته وحروفه، بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، ولا تبديل ولا تغيير.

وصلاة الإماميّة بمجرّدها دليل على ذلك، لأنّهم يوجبون بعد فاتحة الكتاب - في كلّ من الركعة الاولى والركعة الثانية من الفرائض الخمس - سورة واحدة تامّة غير الفاتحة من سائر السور، ولا يجوز عندهم التبعيض فيها ولا القران بين سورتين على الأحوط، وفقههم صريح بذلك، فلولا أنّ سور القرآن بأجمعها كانت زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما هي الآن عليه في الكيفية والكميّة ما تسنّى لهم هذا القول، ولا أمكن أن يقوم لهم عليه دليل.

أجل، إنّ القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوّة، ومؤلّفاً على ما هو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتلوه عليه من أوّله إلى آخره، وكان جبرائيلعليه‌السلام يعارضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن في كل عام مرّة، وقد عارضه به عام وفاته مرّتين، وهذا كلّه من الامور الضرورية لدى المحقّقين من علماء الإمامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم، كما لا عبرة بالحشويّة من أهل السنّة القائلين بتحريف القرآن والعياذ بالله فإنّهم لا يفقهون.

٢٥

نعم، لا تخلو كتب الشيعة وكتب السنّة من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن غير أنّها ممّا لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا أجمع، لضعف سندها، ومعارضتها بما هو أقوى منها سنداً، وأكثر عدداً، وأوضح دلالة، على أنّها من أخبار الآحاد، وخبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا اقتضى عملاً، وهذه لا تقتضي ذلك، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع به، فليضرب بظواهرها عرض الحائط»(١) .

وسئل السيد محمد هادي الميلاني عن رأيه في المسألة فأجاب بما معرّبه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الّذين اصطفى، إنّ الذي نقطع به هو عدم وقوع أيّ تحريف في القرآن الكريم، لا زيادةً ولا نقصاناً ولا تغييراً في ألفاظه، ولو جاء في بعض الأحاديث ما يفيد التحريف فإنّما المقصود من ذلك ما وقع من تغيير معاني القرآن حسب الآراء السقيمة والتأويلات الباطلة، لا تغيير ألفاظه وعباراته.

وأمّا الروايات الدالّة على سقوط آيات أو سور من هذه المعجزة الخالدة فمجهولة أو ضعيفة للغاية، بل إنّ تلك الآيات السور المزعومة - كالسورتين اللتين رواهما في (الإتقان) أو تلك السورة التي رويت في (دبستان المذاهب)، وكذا ما جاء في غيرهما من الكتاب - هي وحدها تكشف عن حقيقتها، إذ لا يشكّ الخبير بعد عرضها على اسلوب القرآن البلاغي في كونها مختلفة باطلة.

هذا، على أنّ أحداً لم يقل بالزيادة، والقول بنقصانه - كما توهّمه بعضهم - لا يمكن الركون إليه، لا سيمّا بعد الإلتفات إلى قوله تعالى( إنّ علينا

__________________

(١) أجوبة مسائل جار الله: ٢٨ - ٣٧، وانظر له: الفصول المهمة.

٢٦

جمعه وقرآنه ) وقوله تعالى( وإنّا له لحافظون ) وقول تعالى( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) إلى غيرها من الآيات.

وبهذا الذي ذكرنا صرّح كبار علماء الإمامية منذ الطبقات الاولى كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطبرسي، وهم جميعاً يعتقدون بما صرّح به رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق في كتاب (الإعتقادات) الذي ألّفه قبل أكثر من ألف سنة حيث قال: إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك - إلى أن قال - ومن نسب إلينا أنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب.

والحاصل: إنّ من تأمّل في الآدلّة وراجع تأريخ اهتمام المسلمين في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده بضبط القرآن وحفظه ودراسته يقطع بأنّ سقوط الكلمة الواحدة منه محال.

ولو أنّ أحداً وجد حديثاً يفيد بظاهره التحريف وظنّ صحّته فقد أخطأ، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً».

والسيد أبو القاسم الخوئي بعد أن ذكر أسماء بعض النافين للتحريف من أعلام الإماميّة قال: «والحقّ بعد هذا كلّه، إنّ التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلاً بالأدلّة التالية ...»(١) ثم بيّن أدلّة النفي من الكتاب والسنّة وغيرهما.

وللسيد محمد حسين الطباطبائي بحث في «أنّ القرآن مصون عن التحريف» في فصول، أورده في تفسيره القيّم، في ذيل تفسير قوله تعالى:( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) (٢) .

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن: ٢٠٧.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ج ١٢: ١٠٦.

٢٧

الفصل الثاني

أدلة الشيعة على نفي التحريف

ذكرنا في الفصل الأول كلماتٍ لأعلام الإمامية في نفي التحريف عن القرآن الكريم، وقد جاء في بعض تلك الكلمات - التي ذكرناها على سبيل التمثيل لا الإستقراء والحصر - الاستدلال بوجوه عديدة على ما ذهبوا إليه.

والواقع أنّ الأدلّة الدالّة على عدم وجود النقص في القرآن الكريم هي من القوّة والمتانة، بحيث يسقط معها ما دلّ على التحريف بظاهره عن الإعتبار لو كان معتبراً، ومهما بلغ في الكثرة، ويبطل القول بذلك حتى لو ذهب إليه أكثر العلماء.

وقد عقدنا هذا الفصل لإيراد تلك الأدلة بإيجاز.

٢٨

(١)

آيات من القرآن الكريم

والقرآن الكريم فيه تبيان لكل شيء، وما كان كذلك كان تبياناً لنفسه أيضاً، فلنرجع إليه لنرى هل فيه دلالة على نقصانه أو بالعكس.

أجل، إنّ في القرآن الحكيم آيات تدل بوضوح على صيانته من كلّ تحريف، وحفظه من كلّ تلاعب، فهو ينفي كل أشكال التصّرف فيه، ويعلن أنّه لا يصيبه ما يشينه ويحط من كرامته حتى الأبد.

وتلك الآيات هي:

١ - قوله تعالى:( إنّ الذين يلحدون في اياتنا لا يخفون علينا * أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة * إعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إنّ الذين كفروا بالذكر لمّا جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (١) .

وإذا كان القرآن العظيم لا يأتيه «الباطل» من بين يديه ولا من خلفه، فإن من أظهر مصاديق «الباطل» هو «وقوع النقصان فيه».

فهو إذاً مصون من قبل الله تعالى عن ذلك منذ نزوله إلى يوم القيامة.

٢ - قوله تعالى:( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) (٢) .

والمراد من «الذكر» في هذه الآية الكريمة على الأصح هو

__________________

(١) سورة حم السجدة (فصلت) ٤١: ٤٠ - ٤١.

(٢) سورة الحجر ١٥: ٩.

٢٩

«القرآن العظيم» فالله سبحانه أنزله على نبيّه الكريم، وتعهّد بحفظه، منذ نزوله إلى الأبد، من كلّ ما يتنافى وكونه منهاجاً خالداً في الحياة ودستوراً عاماً للبشرية جمعاء.

ومن الواضح أنّ من أهمّ ما يتنافى وشأن القرآن العظيم وقدسيّته الفذة وقوع التحريف فيه وضياع شيء منه على الناس، ونقصانه عما أنزله عزّ وجلّ على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ - قوله تعالى:( لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرآناه فاتّبع قرآنه * ثم إنّ علينا بيانه ) (١) .

فعن ابن عباس وغيره في قوله تعالى:( إنّ علينا جمعه وقرآنه ) إنّ المعنى: إنّ علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه ويمكنك تلاوته، فلا تخف فوت شيء منه(٢) .

* * *

(٢)

الأحاديث عن النبي والأئمةعليهم‌السلام

والمصدر الثاني من مصادر الأحكام والعقائد الإسلامية هو السنّة النبوية الشريفة الواصلة إلينا بالطرق والأسانيد الصحيحة.

ولذا كان على المسلمين أن يبحثوا في السنّة عما لم يكن في الكتاب، وأن يأخذوا منها تفسير ما أبهمه، وبيان ما أجمله، فيسيروا على منهاجها، ويعملوا على وفقها، عملاً بقوله سبحانه:( ما آتاكم الرسول

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥: ١٦ - ١٩.

(١) مجمع البيان للطبرسي ٥: ٣٩٧.

٣٠

فخذوه * وما نهاكم عنه فانتهوا ) (١) . وقوله تعالى:( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ) (٢) .

وعلى هذا، فإنّا لما راجعنا السنّة وجدنا الأحاديث المتكثرة الدالّة بأقسامها العديدة على أنّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو ما أنزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غير زيادة ونقصان، وأنه كان محفوظاً على عهده،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبقي كذلك حتى الآن، وأنّه سيبقى على ما هو عليه إلى الأبد.

وهذه الأحاديث على أقسام وهي:

القسم الأول

أحاديث العرض على الكتاب

لقد جاءت الأحاديث الصحيحة تنصّ على وجوب عرض الخبرين المتعارضين، بل مطلق الأحاديث على القرآن الكريم، فما وافق القرآن اخذ به وما خالفه اعرض عنه، فلولا أنّ سور القرآن وآياته مصونة من التحريف ومحفوظة من النقصان ما كانت هذه القاعدة التي قرّرها الآئمّة من أهل البيت الطاهرين، آخذين إياها من جدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أمكن الركون إليها والوثوق بها.

ومن تلك الأحاديث:

قول الإمام الصادقعليه‌السلام : «خطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته،

__________________

(١) سورة الحشر ٥٩: ٧.

(٢) سورة النجم ٥٣: ٣.

٣١

وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(١) .

وقول الإمام الرضاعليه‌السلام : «... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حرماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ...»(٢) .

وقول الإمام الصادق عن أبيه عن جده عليعليهم‌السلام : «إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(٣) .

وقول الإمام الهاديعليه‌السلام : «فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل، فوجد لها موافقاً وعليه دليلاً، كان الإقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلاّ أهل العناد ...»(٤) .

وقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتال الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه ...»(٥) .

وقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «... ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ...»(٦) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٧٩ عن الكافي.

(٢) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ٢: ٢٠.

(٣) الأمالي للشيخ الصدوق: ٣٦٧.

(٤) تحف العقول: ٣٤٣.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٨٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧٥.

٣٢

فهذه الأحاديث ونحوها تدلّ على أنّ القرآن الموجود الآن هو نفس ما أنزله الله عزّ وجلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من غير زيادة ولا نقصان، لانّه لو لم يكن كذلك لم يمكن أن يكون القرآن مرجعاً للمسلمين يعرضون عليه الأحاديث التي تصل إليهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيعرف بذلك الصحيح ويؤخذ به، والسقيم فيعرض عنه ويترك.

القسم الثاني

خطبة الغدير

وإنّ من حقائق التاريخ واقعة غدير خم وخطبة النبّي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم العظيم غير أنّا لم نعثر على رواية كاملة لخطبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ في كتاب (الإحتجاج) وفي هذه الخطبة أمر بتدّبر القرآن والرجوع في تفسيره إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال:

«معاشر الناس تدبّروا القرآن، وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهه. فوالله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضّح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إليّ وشائل بعضده ومعلمكم أنّ: من كنت مولاه فهذا علي مولاه. وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيّي. وموالاته من الله عزّ وجلّ أنزلها عليّ»(١) .

إن أمر المسلمين بتدبّر القرآن وفهم آياته والأخذ بمحكماته دون متشابهاته يستلزم أن يكون القرآن مؤلّفاً مجموعاً موجوداً في متناول أيديهم،

__________________

 (١) الاحتجاج ١: ٦٠.

٣٣

بمحكماته ومتشابهاته. غير أنهم مأمورون - للوقوف على أحكامه التفصيلية وأسراره ودقائقه التي لا تبلغها العقول - بالرجوع إلى خليفته ووصيّة وتمليذه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من ولدهعليهم‌السلام .

القسم الثالث

حديث الثقلين

ولم تمرّ على النبي الكريم والقائد العظيم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فرصة إلاّ وانتهزها للوصيّة بالكتاب والعترة الطاهرة، والأمر باتّباعهما والإنقياد لهما والتمسّك بهما.

لذا تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث الثقلين الذي رواه جمهور علماء المسلمين بأسانيد متكثرة متواترة، وألفاظ مختلفة متنوعة، عن أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية، وأحد ألفاظه:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهم لن تضلّوا بعدي أبداً ...»(١) .

__________________

(١) حديث الثقلين من جملة الأحاديث التي لا يشك مسلم في صدورها من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . فقد رواه عنه أكثر من ثلاثين من الصحابة، وأورده من علماء أهل السنّة ما يقارب الـ ٥٠٠ شخصية من مختلف طبقاتهم منذ زمن التابعين حتى عصرنا الحاضر من مؤرخين ومفسرين ومحدّثين وغيرهم.

وهذا الحديث يدل بوضوح على عصمة الأئمة من العترة ووجوب إطاعتهم وامتثال أوامرهم والإهتداء بهديهم في الامور الدينية والدنيوية، والأخذ بأقوالهم في الأحكام الشرعية وغيرها.

 كما يدل على بقائهم وعدم خلو الأرض منهم إلى يوم القيامة كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن.

٣٤

وهذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّناً في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع آياته وسوره حتى يصح إطلاق إسم الكتاب عليه، ولذلك تكرّر ذكر الكتاب في غير واحد من سورة الشريفة.

كما أنّه يقتضي بقاء القرآن كما كان عليه - على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله - إلى يوم القيامة، لتتمّ به - الهداية الأبوية للامة الإسلامية والبشرية جمعاء، ما داموا متمسكين بهما، كما ينصّ عليه الحديث الشريف بالفاظه وطرقه، وإلاّ لزم القول بعدم علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيكون في امته، أو إخلاله بالنصح التام لأمته، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.

القسم الرابع

الأحاديث الواردة في ثواب

قراءة السور في الصلوات وغيرها

وقد وردت طائفة من الأحاديث في فضيلة قراءة سور القرآن الكريم في الصلوات وغيرها، وثواب ختم القرآن وتلاوته في شهر رمضان وغير ذلك، فلولا أنّ سور القرآن وآياته مجموعة مؤلّفة ومعلومة لدى المسلمين لما تمّ أمرهم بذلك.

ولو كان قد تطرق النقصان في ألفاظ القرآن لم يبق مجال للإعتماد على شيء من تلك الأحاديث والعمل بها من أجل الحصول على ما تفيده من الأجر والثواب، لاحتمال أن تكون كلّ سورة أو كلّ آية محرفة

__________________

وقد بحثنا عن هذا الحديث سنداً ودلالة في ثلاثة أجزاء من كتابنا الكبير (خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار) الذي طبع منه حتى الآن عشرة جزء.

٣٥

عما كانت نازلة عليه.

ومن تلك الأحاديث:

قول الإمام الباقر عن أبيه عن جده عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

 «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار ...»(١) .

وقول الإمام الباقرعليه‌السلام : «من أوتر بالمعّوذتين وقل هو الله أحد، قيل له: يا عبدالله أبشر فقد قبل الله وترك»(٢) .

وقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «... وعليكم بتلاوة القرآن، فإن درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن إقرأ وارق، فكلّما قرأ آية رقى درجة ...»(٣) .

وقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربك الأعلى فإذا فعل ذلك فإنما يعمل بعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنة»(٤) .

__________________

(١) الامالي للشيخ الصدوق: ٥٩ - ٦٠، الكافي ٢: ٤٤٨.

(٢) الأمالي للشيخ الصدوق: ٦٠، ثواب الاعمال للشيخ الصدوق ١٥٧.

(٣) الأمالي ٣٥٩.

(٤) ثواب الأعمال: ١٤٦.

٣٦

وقول الإمام الباقرعليه‌السلام : «من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة وأقل من ذلك وأكثر، وختمه يوم الجمعة، كتب الله له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت إلى آخر جمعة تكون فيها، وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك»(١) .

إلى غير ذلك من الأحاديث وما أكثرها، وقد ذكر الفقهاء - رضي الله تعالى عنهم - تفصيل ما يستحب أن يقرأ في الصلوات الخمس من سور القرآن(٢) .

كما روى الشيخ الصدوق - رحمة الله تعالى - ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن بحسب الآحاديث الواردة عن الآئمّةعليهم‌السلام (٣) .

وبهذا القسم من الأحاديث استدلّ بعض أكابر الإمامية كالشيخ الصدوق على ما ذهب إليه من عدم تحريف القرآن(٤) .

القسم الخامس

الأحاديث الآمرة بالرجوع إلى القرآن الكريم واستنطاقه

وهي كثيرة جدّاً، نكتفي هنا منها بما جاء في كتب وخطب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قالعليه‌السلام في خطبة له ينبّه فيها على فضل الرسول والقرآن:

«أرسله على حين فترة من الرّسل، وطول هجعة من الامم

__________________

 (١) ثواب الأعمال: ١٢٥.

 (٢) راجع جواهر الكلام ٩: ٤٠٠ - ٤١٦.

(٣) ثواب الاعمال: ١٣٠ - ١٥٨.

(٤) الإعتقادات للشيخ الصدوق: ٩٣.

٣٧

وانتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن.

فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي ن والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم»(١) .

وقالعليه‌السلام :

«واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان في عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغّي والضلال، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجه العباد إلى الله بمثله.

واعلموا أنّه شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وإنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، ومن محل له القرآن يوم القيامة صدّق عليه، فإنّه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إنّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلّوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم»(٢) .

وقالعليه‌السلام في كتاب له إلى الحارث الهمداني رضي الله عنه:

__________________

(١) نهج البلاغة: ٢٢٣ | ١٥٨.

(٢) نهج البلاغة ٢٠٢ | ١٧٦.

٣٨

«وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه ...»(١) .

«ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها القاصدون، جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاّه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن أئتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسّم، وجنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى»(٢) .

وقالعليه‌السلام : «فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجّة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليه انفسهم، أتم نوره، وأكمل به دينه، وقبض نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه، ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلاّ وجعل

__________________

(١) نفس المصدر ٤٥٩ / ٦٩.

(٢) نفس المصدر ٣١٥ / ١٩٨.

٣٩

له علماً بادياً، وآية محكمة، تزجر عنه أو تدعو إليه ...»(١) .

فهذه الكلمات البليغة وأمثالها تنصّ على أنّ الله تعالى جعل القرآن الكريم نوراً يستضاء به، ومنهاجاً يعمل على وفقه، وحكماً بين العباد، ومرجعاً في المشكلات، ودليلاً عند الحيرة، ومتبعاً عند الفتنة.

وكل ذلك يقتضي أن يكون ما بأيدينا من القرآن هو نفس القرآن الذي نزل على الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرفه أمير المؤمنين وسائر الأئمّة والصحابة والمسلمون أجمعون.

القسم السادس

الأحاديث التي تتضمن تمسّك الأئمة

من أهل البيت بمختلف الآيات القرآنية المباركة

وروى المحدّثون من الإماميّة أحاديث متكاثرة جدّاً عن الأئمّة الطاهرين تتضمن تمسّكهم بمختلف الآيات عند المناظرين وفي كل بحث من البحوث، سواء في العقائد أو الأحكام أو المواعظ والحكم والأمثال، كما لا يخفى على من راجع كتبهم الحديثيّة وغيرها، وعلى رأسها كتاب (الكافي).

فهمعليهم‌السلام تمسّكوا بالآيات القرآنية «في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا، حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات التحريف، وهذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل»(٢) .

__________________

(١) نفس المصدر ٢٦٥ | ١٨٣.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ١٢: ١١١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وثالثا : إنّ عدم تسليم كون العرفان الحاصل بالنظر دافعا للخوف ، لاحتمال فساد النظر ، خطأ ثالث ؛ لأنّ كلّ قاطع لا يتصوّر حين قطعه أنّه مخطئ ، ولا يحتمل فساد نظره ، إذ يرى أنّه قد انكشف له الواقع ، وإلّا لم يكن قاطعا(١) ، فكيف لا يرتفع خوفه وإن كان مخطئا في نفس الأمر والواقع؟!

بل عرفت في المبحث السابق(٢) أنّ النظر دافع للخوف وإن لم يؤدّ إلى القطع ؛ لأنّه غاية المقدور.

فإن قلت :

المقصود : إنّ من يريد النظر يحتمل أنّه على تقدير قطعه يكون مخطئا ، فلا يكون الإقدام على النظر مؤمّنا من الخطأ ودافعا للخوف حتّى يجب.

قلت :

إنّه وإن احتمل ذلك ، إلّا أنّه يعلم بانتفاء الخوف معه ، لعلمه بكون القاطع معذورا وإن أخطأ ، فالإنسان بدون النظر في خوف ، ومع النظر يحصل له الأمان ، لعلمه بأنّه إمّا أن يحصل له القطع ، أو لا.

وعلى التقديرين يكون معذورا آمنا ؛ لأنّ ذلك غاية مقدوره.

وأمّا ما ذكره في دفع الدور ، فلا ربط له بمقدّمتي الدور اللتين

__________________

(١) انظر : كفاية الأصول : ٢٥٨.

(٢) انظر الصفحة ١٤٨.

١٦١

ذكرهما المصنّف

لأنّ الأولى قائلة : إنّ معرفة الإيجاب متوقّفة على معرفة الموجب.

والثانية قائلة : إنّ معرفة الموجب متوقّفة على معرفة الإيجاب.

وصريح ما ذكره الفضل منع توقّف وجوب المعرفة على معرفة الإيجاب ، وهو أجنبي عن المقدّمتين.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى تكليف غير العارف ، فممّا تلقّنه من « المواقف » وشرحها بلفظه ، من دون معرفة بعدم صلوحه للجواب ، فإنّه يرد عليه أمور :

الأوّل : إنّه غير مرتبط بمراد المصنّف ؛ لأنّه أراد بغير العارف من لم يعرف الله تعالى ، لا الغافل عن التكليف.

الثاني : إنّه زعم أنّ شرط التكليف فهمه ، وفسّر الغافل بمن لا يفهم الخطاب ، ثمّ حكم بأنّ تكليفه غير محال ؛ وهو تناف ظاهر ؛ لأنّه إذا اشترط في التكليف فهمه ، وكان الغافل لا يفهم الخطاب ، فكيف يجوز تكليفه؟!

الثالث : إنّ كلام المصنّف اشتمل على مقدّمتين لا ربط لجواب الفضل بهما :

الأولى : إنّ غير العارف بالله ـ بما هو غير عارف به ـ يستحيل أن يعرف أنّ الله قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

الثانية : إنّه إذا استحال ذلك استحال أمر الله تعالى ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يصلح أن يكون ردّا لإحدى المقدّمتين لو كان له معنى!

١٦٢

مباحث الصفات الإلهيّة

١٦٣
١٦٤

الله تعالى قادر على كلّ مقدور

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المسألة الثالثة

في صفاته تعالى

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور

الحقّ ذلك ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات.

وخالف في ذلك جماعة من الجمهور :

فقال بعضهم : إنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٦٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٠ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٦٣ ؛ والقول لأبي القاسم البلخي.

١٦٥

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على غير(١) مقدور العبد(٢) .

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على القبيح(٣) .

وقال آخرون : إنّه لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلّق بما علمناه مكتسبا(٤) .

وكلّ ذلك بسبب سوء فهمهم ، وقلّة تحصيلهم!

والأصل في هذا أنّه تعالى واجب الوجود ، وكلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه إنّما يصدر عنه ، ( أو يصدر عمّا يصدر عنه )(٥) .

ولو عرف هؤلاء الله تعالى حقّ معرفته لم تتعدّد آراؤهم ، ولا تشعّبوا بحسب ما تشعّبت أهواؤهم.

__________________

(١) كذا في الأصل والمصدر ، وفي أغلب المصادر المنقول عنها : « عين » ، وفي بعضها : « نفس » ؛ فلاحظ!

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٦٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤١ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح المواقف ٨ / ٦٤ ؛ والقول لأبي علي وأبي هاشم الجبّائيّين.

(٣) الملل والنحل ـ للبغدادي ـ : ٩١ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ١٣٠ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٤٧ ـ ٤٨ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٠ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٦٣ ؛ والقول للنظّام.

(٤) لعلّ هذا هو قول عبّاد بن سليمان ، تلميذ هشام الفوطي ؛ فانظر مؤدّاه في : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ١٣٣.

(٥) ما بين القوسين ليس في المصدر.

١٦٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ قدرته تعالى تعمّ سائر المقدورات ، والدليل عليه : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها(٢) .

هذا مذهبهم ، وقد وافقهم الإمامية في هذا وإن خالفهم المعتزلة.

فقوله : « خالف في ذلك جماعة من الجمهور » إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس ، وإراءة للطالبين أنّ مذهبهم هذا ؛ لأنّ « الجمهور » ـ في هذا الكتاب ـ لا يطلقه إلّا على الأشاعرة ، وبالجملة : تعصّبه ظاهر ، وغرضه غير خاف.

وأمّا قول بعضهم : إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ؛ فهو مذهب أبي القاسم البلخي(٣) .

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) المواقف : ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ٦٠.

(٣) وأبو القاسم البلخي هو : عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، ولد عام ٢٧٣ ه‍ ، من متكلّمي المعتزلة البغداديّين ، ومن نظراء أبي علي الجبّائي ، صنّف في الكلام كتبا كثيرة ، منها : كتاب المقالات ، وكتاب الغرر ، والتفسير الكبير ، وغيرها.

يقال إنّه كان رئيسا لفرقة من المعتزلة تدعى الكعبية نسبت إليه ، أقام في بغداد ، وعاد إلى بلخ خراسان حتّى توفّي فيها سنة ٣١٩ وقيل ٣٢٩ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ٩ / ٣٨٤ رقم ٤٩٦٨ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٥ رقم ٣٣٠ ، سير

١٦٧

وأمّا أنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا ، فهو مذهب جماعة مجهولين ، ولم أعرف من نقله سوى هذا الرجل ، والحقّ ما قدّمناه.

__________________

أعلام النبلاء ١٤ / ٣١٣ رقم ٢٠٤ ، لسان الميزان ٣ / ٢٥٥ رقم ١١٠٣ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٨١ حوادث سنة ٣١٩ ه‍.

١٦٨

وأقول :

لا يخفى أنّالمقدّمة الأولى من دليلهم ـ المذكور ـ القائلة : « إنّ المقتضي للقدرة هو الذات » مبنية على إنّ صفاته تعالى غير ذاته ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّها عين ذاته.

كما أنّالمقدّمة الثانية القائلة : « المصحّح للمقدورية هو الإمكان » مستلزمة للدور أو التسلسل ؛ لأنّ صفاته سبحانه عندهم ممكنة ، ومنها القدرة ، فيلزم أن تكون القدرة مقدورة ، وهو دور أو تسلسل.

وأمّاالمقدّمة الثالثة القائلة : إنّ نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فمحلّ إشكال ؛ كيف؟! واقتضاء الذات لصفاتها الممكنة عندهم بالإيجاب ، ولباقي الممكنات بالاختيار ؛ فتختلف النسبة.

وعليه : فمن الجائز أن تكون مقدورية بعض الممكنات للذات مشروطة بشرط منتف ، أو أنّ لمقدوريّتها لها مانعا ، فلا يثبت عموم قدرته.

فالأولى الاستدلال عقلا لعموم قدرته تعالى ، بما ذكره المصنّف من أنّ المقتضي ـ أي العلّة ـ لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، ضرورة توقّف ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على القدرة.

فإن قلت :

إنّما يثبت بهذا الدليل عموم مقدورية الممكنات لا عموم قدرته تعالى ، إذ لو أثبت عمومها لأثبت عموم قدرة العبد أيضا ، لجريان الدليل بعينه فيها ، فيجوز أن يكون بعض الممكنات مقدورا لله تعالى ، وبعضها

١٦٩

مقدورا للعبد خاصة لاختلاف الخصوصيات.

قلت :

الإمكان يستدعي الحاجة إلى المؤثّر والانتهاء إلى الواجب تعالى ، فيصلح هذا الدليل دليلا لعموم قدرته تعالى ، بلحاظ ما يستتبعه الإمكان من حاجة كلّ ممكن إليه عزّ وجلّ ، لا بلحاظ ذات الإمكان فقط حتّى يلزم عموم قدرة العبد أيضا.

فإن قلت :

الحاجة إنّما تقتضي تأثّر الممكن عن الواجب ـ ولو بنحو الإيجاب ـ فلا يلزم عموم قدرته لكلّ ممكن ، لجواز كونه سبحانه موجبا لبعض الممكنات كما يقوله الأشاعرة في صفات الباري سبحانه(١) ، والإيجاب مناف للقدرة على الصحيح ، لاعتبار أن تكون صالحة للفعل والترك.

قلت :

لا يصحّ فرض كونه تعالى موجبا ، لاستلزامه تعدّد القدماء ، وهو باطل ، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس »

__________________

(١) المواقف : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ٥٦ ـ ٥٩.

١٧٠

ففيه :

إنّه أراد به من قدّموا على أمير المؤمنين ٧ غيره ، لتصريحه في المبحث الآتي بأنّ أبا هاشم(١) من الجمهور ، وفي مباحث البقاء ، بأنّ النظّام(٢) منهم ، مع إنّهما من المعتزلة ، فلا تلبيس منه.

هذا ، وللقوم أقوال أخر لم يتعرّض لها المصنّف ، ذكر في « المواقف » بعضها(٣) ، وذكر ابن حزم في أواخر الجزء الثاني من « الملل والنحل » جملة منها(٤) .

__________________

(١) هو : عبد السّلام بن أبي علي محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام الجبّائي المعتزلي ، ولد سنة ٢٤٧ ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ، له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب الجامع الكبير ، كتاب العرض ، وكتاب المسائل العسكرية ، توفّي في بغداد سنة ٣٢١ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ٥٥ ـ ٥٦ رقم ٥٧٣٥ ، وفيات الأعيان ٣ / ١٨٣ ـ ١٨٤ رقم ٣٨٣ ، سير أعلام النبلاء ١٥ / ٦٣ ـ ٦٤ رقم ٣٢ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٨٩ حوادث سنة ٣٢١ ه‍.

(٢) هو : أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري ، كان مولى للزياديّين ، وهو من ولد العبيد قد جرى عليه الرقّ في أحد آبائه ، كان من شيوخ المعتزلة ، وهو شيخ الجاحظ ، له تصانيف ، منها : الطفرة ، الجواهر والأعراض ، حركات أهل الجنّة ، كتاب الوعيد ، وكتاب النبوّة.

كان متكلّما أديبا ، وشاعرا بليغا ، وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلّمين ، وقيل : إنّه كان نظّاما للخرز في سوق البصرة ، توفّي سنة بضع وعشرين ومائتين ، وقيل : سنة ٢٣١ ه‍.

انظر : الفهرست ـ للنديم ـ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، الفرق بين الفرق : ١١٣ ـ ١١٤ ، تاريخ بغداد ٦ / ٩٧ ـ ٩٨ رقم ٣١٣١ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٤١ رقم ١٧٢ ، لسان الميزان ١ / ٦٧ رقم ١٧٣.

(٣) المواقف : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٦٣.

(٤) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٦٨ ـ ٧٠ وج ٣ / ١٢٨ وما بعدها.

١٧١

وحكى نصير الدين الطوسي في كتاب « قواعد العقائد » القول بأنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما يتعلّق بما علمناه مكتسبا(١) .

واعلم أنّ قولنا : بأنّه تعالى قادر على القبيح ؛ لا دخل له بالوقوع ، فإنّ القدرة على الشيء بما هو ممكن بالذات لا تنافي امتناعه أو وجوبه بالغير ، وهو ظاهر.

ويدلّ من النقل على عموم قدرته تعالى ، مثل قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(٢) .

__________________

(١) انظر مؤدّاه في قواعد العقائد : ٤٤٦ ، وراجع الصفحة ١٦٦ الهامش ٤ من هذا الجزء.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٤ ، سورة آل عمران ٣ : ٢٩ و ١٨٩ ، سورة المائدة ٥ : ١٧ و ١٩ و ٤٠ ، سورة الأنفال ٨ : ٤١ ، سورة التوبة ٩ : ٣٩ ، سورة الحشر ٥٩ : ٦.

١٧٢

الله تعالى مخالف لغيره

قال المصنّف ـ طيّب الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الثاني

في أنّه تعالى مخالف لغيره

العقل والسمع متطابقان على عدم ما يشبهه تعالى ، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته.

وذهب أبو هاشم ـ من الجمهور ـ وأتباعه إلى أنّه تعالى يخالف ما عداه بصفة الإلهية ، وأنّ ذاته مساوية لغيره من الذوات(٢) .

وقد كابر الضرورة ـ ها هنا ـ الحاكمة بأنّ الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد ، لا يجوز اختلافها فيه.

فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات ، لساواها في اللوازم ، فيكون القدم ، أو الحدوث ، أو التجرّد ، أو المقارنة إلى غير ذلك من اللوازم ، مشتركا بينها وبين الله ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ إنّهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ هذه الصفة الموجبة

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٣٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٢٣ ، المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٥.

١٧٣

للمخالفة غير معلومة ، ولا مجهولة ، ولا موجودة ، ولا معدومة!(١) .

وهذا الكلام غير معقول ، وفي غاية السفسطة(٢) .

* * *

__________________

(١) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٦٩.

(٢) في المصدر : السقوط.

١٧٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه(٢) .

وهكذا ذهب إلى أنّ : المخالفة بين كلّ موجودين من الموجودات إنّما هي بالذات ، وليس بين الحقائق اشتراك إلّا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقوّمة(٣) .

وقال قدماء المتكلّمين : ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة ، وإنّما يمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة : الوجوب ، والحياة ، والعلم التامّ ، والقدرة التامّة(٤) .

وأمّا عند أبي هاشم : فإنّه يمتاز عمّا عداه من الذوات بحالة خاصة خامسة ، هي الموجبة لهذه الأربعة ، تسمّى ب‍ « الإلهيّة »(٥) ، وهذا مذهب أبي هاشم ، وهو من المعتزلة.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢ ـ ٥) تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ المسألة الخامسة ، المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤ ـ ١٥.

١٧٥

وأقول :

هذا كلّه من كلام « المواقف » وشرحها إلى قوله : « تسمّى ب‍ :

الإلهية »(١) ، فكأنّه جاء ناقلا لكلامهما بلا فائدة تتعلّق بالجواب عن أبي هاشم وغيره من مثبتي الأحوال.

وقوله : « هو من المعتزلة » لا ينفعه ؛ لأنّ بعض مثبتي الأحوال من الأشاعرة(٢) ، وهم قائلون بمقالة أبي هاشم! على إنّ المصنّف بصدد الردّ على الجمهور مطلقا من دون خصوصية للأشاعرة.

ثمّ إنّ الأشعري يقول : إنّ الاشتراك بالأحكام يستلزم الاشتراك بالذات والذاتيّات(٣) ؛ فما معنى حكمه بالمخالفة بين الموجودات في الذات مع اشتراكها في الأحكام؟! اللهمّ إلّا أن يريد ب‍ « الأحكام » الأمور الاعتبارية لا الحقيقية.

هذا ، واستدلّ ـ أيضا ـ أصحابنا وغيرهم على المخالفة ، بأنّه تعالى لو شاركه غيره في الذات والحقيقة لخالفه بالتعيين ، لضرورة التعدّد ، ولا ريب أنّ ما به الافتراق غير ما به الاتّفاق(٤) ، فيلزم التركيب في هويّة الواجب تعالى ، وهو باطل.

__________________

(١) المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤ ـ ١٥.

(٢) كالقاضي أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني ، المتوفّى سنة ٤٠٣ ه‍.

انظر : الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٢.

(٣) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤) انظر : المراسلات بين القونوي والطوسي : ٩٩ وما بعدها ، نهاية الحكمة : ١٨.

١٧٦

وبقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(١) .

واستدلّ أبو هاشم وأتباعه على المساواة ، بأنّ الذات تنقسم إلى : الواجب والممكن ، ومحلّ القسمة مشترك بين أقسامه(٢) .

وردّ بأنّ « المشترك » هو مفهوم الذات ، وهو اعتباري ، فلا ينفع الاشتراك فيه في إثبات الاشتراك بالحقيقة والماهيّة.

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ : ١١.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٧١.

١٧٧
١٧٨

إنّه تعالى ليس بجسم

قال المصنّف ـ ضاعف الله ثوابه ـ(١) :

المبحث الثالث

في أنّه تعالى ليس بجسم

أطبق العقلاء على ذلك ، إلّا أهل الظاهر كداود(٢) ، والحنابلة كلّهم ، فإنّهم قالوا : إنّ الله تعالى جسم يجلس على العرش ، ويفضل عنه من كلّ جانب ستّة أشبار بشبره(٣) !!

وإنّه ينزل في كلّ [ ليلة ] جمعة على حمار [ و ] ينادي إلى الصباح :

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) هو : داود بن علي بن خلف الكوفي ، أبو سليمان الأصفهاني ، المعروف بالظاهري ، ولد سنة ٢٠٢ ، وتوفّي سنة ٢٧٠ ه‍ ، وهو إمام أهل الظاهر.

رحل إلى نيسابور ، ثمّ قدم بغداد فسكنها وصنّف كتبه بها ، ومنها : إبطال التقليد ، إبطال القياس ، كتاب المتعة ، كتاب مسألتين خالف فيهما الشافعي.

انظر : تاريخ بغداد ٨ / ٣٦٩ ـ ٣٧٥ رقم ٤٤٧٣ ، وفيات الأعيان ٢ / ٢٥٥ رقم ٢٢٣ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٢ / ٢٨٤ رقم ٦٢ ، هديّة العارفين ٥ / ٣٥٩.

أو هو : داود الجواربي ، الذي هو رأس في التجسيم.

انظر : لسان الميزان ٢ / ٤٢٧ رقم ١٧٥٧.

(٣) انظر : التوحيد ـ لابن خزيمة ـ : ١٠٧ ، الكامل في التاريخ ٧ / ١١٤ في ذكر فتنة الحنابلة سنة ٣٢٣ ه‍.

١٧٩

هل من تائب؟ هل من مستغفر؟(١) !!

وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها.

والسبب في ذلك قلّة تمييزهم ، وعدم تفطّنهم بالمناقضة التي تلزمهم ، وإنكار الضروريات التي تبطل مقالتهم.

فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ جسم لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وقد ثبت في علم الكلام أنّهما حادثان ، والضرورة قاضية بأنّ ما لا ينفكّ عن المحدث فإنّه يكون محدثا ، فيلزم حدوث الله تعالى.

والضرورة [ الثانية ] قاضية بأنّ كلّ محدث فله محدث ، فيكون واجب الوجود مفتقرا إلى مؤثّر ، ويكون ممكنا ، فلا يكون واجبا [ وقد فرض أنّه واجب ] ، وهذا خلف.

وقد تمادى أكثرهم فقال : إنّه تعالى يجوز عليه المصافحة ، وإنّ المخلصين ( في الدنيا )(٢) يعانقونه في الدنيا(٣) .

وقال داود(٤) : أعفوني عن الفرج واللحية ، واسألوني عمّا وراء ذلك!!(٥) .

__________________

(١) انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٧ ، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ: ١٢٦ ، الأسماء والصفات ـ للبيهقي ـ ٢ / ١٩٦.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢١٤ ، شرح المواقف ٨ / ٣٩٩.

(٤) هو داود الجواربي ، وقد تقدّمت الإشارة إليه في الصفحة السابقة ه‍ ٢.

(٥) الفرق بين الفرق : ٢١٦ ، التبصير في الدين ـ للإسفرايني ـ : ١٢٠ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٩٣ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ٥ / ٦٤٣ ( الهشامي ) ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٤ ؛ وانظر : شرح المواقف ٨ / ٣٩٩ ولم يصرّح باسم القائل ، بل نسبه إلى : « بعضهم ».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368