ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه13%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126265 / تحميل: 6996
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

ابن تيميه المجلّد الأوّل

ترجمة حياته

حبيب طاهر الشمّريّ

مراجعة: جعفر البياتيّ

١

٢

إهداء

إلى سادة الورى

- محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد الأنبياء والرسل.

- عليّعليه‌السلام نفس رسول الله وسيّد العرب.

- فاطمةعليها‌السلام بنت رسول الله سيّدة نساء العالمين.

- الحسن والحسينعليهما‌السلام سبطي رسول الله سيّدي شباب أهل الجنّة.

- الكوثر الطيّب الطّاهر الذي حباكَ الله إيّاه سيّدي يا رسول الله، لتسري السيادة فيه حتّى يخرج مهديّكم فيقطع قرن الشيطان.

والسلام عليكم سادتي؛ راجياً شفاعتكم لي ولوالديّ فننهل من حوضكم.

مقدّمة

( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مُهْتَدُونَ ) (١) .

( وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) (٢) .

( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّى‏ سَعَى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ

____________________

(١) الزخرف: ٣٦ - ٣٧.

(٢) النساء: ٣٨.

٣

* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (١) .

شهد القرن الهجريّ السابع وقائع عظام عصفت بالعالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ؛ فقد ظهرت قوّة متغطرسة تلك هي (المغول) التي دكدكت ممالك ودوّخت أخرى فركعت تخطب ودّها، وكانت حاضرة الدولة العبّاسية ببغداد لا تحسد على ما هي عليه، فمثلها مثل بيت العنكبوت، إذ القصر الحاكم يمور بالفساد والعسف وبؤرة موبوءة بالدسائس والمؤامرات بين أفراد الأُسرة الحاكمة! وللمرأة يدٌ طولى في تحريك وتثوير الأُمور؛ وللعنصر الأجنبيّ دورٌ في إفساد الراعي والرعيّة؛ منه أُمّ الحاكم وزوجته ونساء اللّهو والغناء، وبعض قادة الجيش وقد ذكروا أنّ هولاكو أمر بأن يُفرز جميع النساء اللّواتي باشرهنّ المستعصم وبنُوه، فعُزلنَ عن غيرهنّ فكنّ سبعمائة امرأة أُخرِجنَ ومعهنّ ألف وثلاثمائة وصيف وخامدم!

كانت أخبار المغول وتهديداتهم تترى على بغداد، والمستعصم سادر في ملذّاته غافل عن الطلب الذي أرسله إليه هولاكو يأمره فيه أن يرسل إليه مجانيق ليدكّ بها بغداد!!

وفي كلّ نَوبة لم يكن للمستعصم من يمحضه النُّصح والرأيَ في معالجة المغول إلاّ الوزير ابن العلقميّ، فيتبادر رجالُ السوء ممّن حسد ابن العلقميّ حُظوته عند المستعصم فما يزالون به حتّى يستزلّوه، وهكذا حتّى وقعت النُوبّة ودخل المغول بغداد وكان الذي كان.

____________________

(١) البقرة: ٢٠٤ - ٢٠٦.

٤

زامَنَ عاصفة المغول فتنة أعظم وأشدّ انبعثت من داخل الكيان الإسلاميّ؛ فإنّ الفاتح لم يمضِ عليه حين حتّى ضعف وانمحى أثره وبغداد ضمّدت جراحها ولو بعد حين؛ إلاّ أنّ حالب ضَرْع شيطان قد حمل لواء فتنته لنشر أفائك وبدع خالف بها القرآن الكريم وسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و إجماع مذاهب المسلمين؛ وما زالت فتنته تمدّ ظلالها وضلالها حتّى يومنا متّخذة من أرض الزلازل والفتن حيث يطلع منها قرن الشيطان (نجد) مأوىً لها في حركة تكفيريّة إرهابيّة وهّابيّة تيميه؛ فلا عدم الشيطان أتباعاً!! صاحب الفتنة تلك: ابن تيميه، واسمه أحمد، وتيميه هي الجدّ الرّابع! التي إليها ينتهي كلّ اخوانه وأعمامه؟! وهذه واحدة من عقده التي سنعرض لها.

من عقيدة ابن تيميه هذا القول بتشبيه الله وتجسيمه ورؤيته في الدنيا وأنّه على عرشه بذاته، وأنّه يتحرّك وينتقل ويصعد وينزل ويتكلّم بحرف وصوت، وأنّه خلق آدمعليه‌السلام على صورته. ولأمرٍ سيتّضح أنكر خلود جهنّم! وأنّ جهنّم لا يسكت زفيرها حتّى يضع الرحمان ساقه فيها!! هاجم الأشعريّة، والمعتزلة، والصوفيّة ...، واختصّ أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم، بالقسط الأوفر خصوصاً في كتابه (منهاج السُنّة) سباباً مقذعاً وكذباً لا حدّ لوصفه، وأنكر كلّ فضيلة لأهل البيتعليهم‌السلام وفضّل عليهم بني أُميّة والخوارج والنّواصب!!!

والذي أثار عليه حفيظة الأُمّة الإسلاميّة بشامها ومصرها: أنّ ابن تَيميه هذا، نال من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فقد أفتى بتحريم شدّ الرّحال لزيارة قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، والأولياء، وجعل السفر إليهم سفر معصية! فاعتقل

٥

و طيف به في سكك دمشق مضروباً بالدِّرّة، ثمّ عُقد له مجلس قضاء وحُبس بقلعة دمشق ثلاث مرّات في كلّ مرّة يُعلن توبته وبراءته من عقيدته! فيخرج فيعود لفتنته( وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) ، ليعود إلى السجن بحكم القضاة للمذاهب الثلاث: الشّافعيّ والمالكيّ والحنفيّ؛ وهكذا في المرّة الثالثة إذ انضمّ إليهم القاضي الحنبليّ. وأمّا التُّهم المـُوجّهة لابن تيميه فهي: الفِسق، الزندقة، الكفر، النّفاق ...؛ وفي المرّة الثالثة من سجنه لم يتبرّأ من عقيدته ومات عليها في سجن دمشق سنة ٧٢٨ هـ؛ ليحمل راية عقيدته رجال أوفياء له منهم: ابن قيّم الجوزيّة الحنبليّ الدمشقيّ، الذي اُشرب في نفسه الولع والإكبار لابن تيميه وتعشّق آراءه وفتاواه فناله العقاب وسُجن مرّات عدّة ولكنّه نجا ليشيّع اُستاذه ويعاهده على أن يكون القيّم الوفيّ على إحياء عقيدته وآرائه. ومنهم تلميذه ابن عبد الهادي الذي تجاوز الحدود فلم يكتفِ بإظهار الحماس لعقيدة ابن تيميه في ذات الله تعالى، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما شنّ الغارة الشديدة على علماء وقضاة المذاهب الإسلاميّة الذين عارضوا شيخه وأصدروا أحكامهم العادلة بحقّه.

ومن تلامذته يوسُف المِزّيّ (ت ٧٤٢ هـ) السَلَفيّ، كان معجباً في أوّل أمره بابن تَيميه؛ ثمّ لمّا تبيّن له حاله وخُبث طويّته، ابتعد عنه حتّى أنّه لم يُترجم له في موسوعته (تهذيب الكمال في أسماء الرجال). وتلميذ آخر كان مسحوراً بابن تيميه، لا يخرج عن قول يقوله! ذلك هو الذهبيّ الحنبليّ؛ فلمّا انكشف حال ابن تَيميه؛ باعدَهُ وكتب إليه كتاباً طويلاً ينصحه على ترك سفاسفه الّتي أدّت إلى إضعاف الأُمّة الإسلاميّة ويأسف على الأيام التي أمضاها معه!

عصم الله أُمّتنا الإسلاميّة من مضلاّت الهوى ومرديات الفِتَن وقطع قرن

٦

الشيطان المنبعث من أرض النبوّات الكاذبة: مسيلمة الكذّاب، وسجاح التميميّين النَّجديّين، وقد ضمّ مسيلمة نبوّة سجاح إلى نبوّته في ليلة! وقَطام وكحيلة.. من تميم قوم ابن عبد الوهّاب النّجدي التميميّ الخارجيّ الثالث الذي انتهت إليه راية ضلالة الخارجي الثاني: ابن تيميه.

تأخّر إسلام نجد حتّى العام التاسع وجاء وفدُ تميم يظهرون إسلامهم وفيهم وفي قبائل نجديّة اُخرى نزلت سورة الحجرات، وآيات من سورة (المنافقون)؛ ولم يستقم إسلامهم، وظهر فيهم رجال ونساء من تميم ادّعوا النبوّة وشكّلوا خطراً على الإسلام؛ ومن نَجد من تميم رهط ابن عبد الوهّاب كان الخارجيّ الأوّل ذو الخويصرة التميميّ الذي خرج على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحذّر منه النبيّ إذ قال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرقُ السهمُ من الرمِّية ...)، وقد عقدنا باباً ذكرنا فيه رؤوس الخوارج ومجتهديهم نساءً ورجالاً نادراً من هو غير تميميّ نجدي!، وما خارجة يومنا إلاّ أبناء نجد وأتباع أعراب نَجد حاملي لواء الضّلالة التيميه؛ وهم يعفون عن الكافر ويقتلون المسلم كأسلافهم. هذه هي فتنة ابن تيميه وأفراخ السامرة، وليس فيهم ثمّة مغوليّ.( وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلّا نَكِداً ) (١) .

وكان مجمع البحوث الإسلاميّة قد رأى أنّ من الأوجه أن يقدّم هذا الكتاب في ثلاث مجلّدات، تييسيراً لتناوله ومراجعته، وبيانا لمواضيعه المتعددة التي يصعب تناولها أو جمعها تحت عنوان واحد.

____________________

(١) الأعراف: ٥٨.

٧

٨

تمهيد

لم تحملني أحكام قُضاة المذاهب الإسلاميّة الأربعة التي أدانت ابن تَيميه بالفِسق، والكفر، والزندقة، والنّفاق..؛ وتعزيره والتشهير به مكشوف الرأس على بغلةٍ في سكك دمشق محذّرين من اتّباعه، ونال الحنابلة بسببه أذًى كثيراً وحُبس منهم خلق واختفى آخرون؛ وسجنه ثلاثاً ثمّ موته في السجن.

ولا انفصال أشدّ تلامذته وأقرانه انبهاراً به، وفصم العُرى معه.

ولا الحملة ضدّه والتي صارت إجماعاً لم ينقطع من يومه وحتّى يومنا، لم يشذّ في ذلك مذهب من المذاهب وقد أثبتّ جدولاً بأسماء العلماء والمشايخ والأساتذة ممّن تكلّموا في هذا الشأن.

كلّ ذلك لم يكن هو الدافع عن الكتابة عن الرجل وإن كان مثيراً للانتباه والتساؤل: علامَ هذه الصاخبة؟! فلنبحث بموضوعيّة.

قرأ ابن تيميه بأقلام روّاد، ورجعت إلى المـُنصفين، ثمّ عوّلت على كتبه التي هي بخطّه مثل: العقيدة الحمويّة، والتفسير الكبير، والفتاوى الكبرى، وبيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، والعقيدة الواسطيّة، والتوسّل والوسيلة؛

٩

وضممتُ إليها ما وجدته في مصنّفات تلميذيه الوفيّين: ابن عبد الهادي (ت ٧٤٤ هـ) وابن القيّم الجوزيّة (ت ٧٥١ هـ)؛ فوجدتُ الهول لما رأيت وسمعت! رجل أبيض بض لم تصبه من سمرة العرب شيء، شعره أسود فاحم يصل شحمة أُذنيه، تجاوز الستّين من عمره وهو في كلّ نشاطه، ولم يتحمّل أعباء الزواج والذرّيّة بعد! يحاجج في الله تعالى وصفاته.. وتعتريه حِدّة غير معهودة لدى أهل الكلام! وقد أوقف كتبه تلك على ما ذكرنا من عقيدته في تشبيه الله وتجسيمه وكلّ ما ذكرنا من الحوادث وصفات النقص التي هي صفات المخلوقات، تعالى ربّنا الواحد الأحد عن كلّ ذلك.

وقرأت ابن تيميه في عقيدته بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ في كتابه: قاعدة جليلة في التوسّل والوسيلة، وكتاب الزيارة؛ فوجدته يمنع من الشفاعة والتوجّه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته، وناضل النضال الشديد في تحريم زيارة قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر الخليلعليه‌السلام وقبور الأولياء واعتبر ذلك سفر معصية.

هذا في عقيدته في المـُرسِل تعالى، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمّا في أهل بيت رسول الله وعترته؛ الثقل الثاني بعد القرآن الكريم وبهم غلب النبيّ نصارى نَجران يوم المباهلة، فكانوا معجزة النبيّ يومئذ وعليّ نفسه وفاطمة نساءه والحسن والحسين أبناءه وبهم أنزل الله تعالى آية التطهير، وفرض سبحانه مودّتهم ...

فقد وجدت ابن تيميه ناصبيّاً خارجيّاً، وكتابه (منهاج السُّنّة) بأجزائه الأربع من القطع الكبير يبدأ وينتهي بالحطّ من أهل بيت النبيّ وتكذيب فضائلهم وخصائصهم، استكمالاً منه لمنهجه: المـُرسِل، والرسول، وآل الرسول.

١٠

تتبّعت ابن تيميه نسَباً منقطعاً ينتهي إلى امرأة (تَيمية)؛ فكانت هذه عُقدته النفسيّة الأولى. وأثر البيئة في تكوينه الفكري (حرّان) مهد الصابئة، والنصرانيّة، وانتهى إلى قربها أحد الخوارج الذي سلموا من معركة النهروان وتناسل هناك، واحتضنت حرّان مروان الحمار حتّى قُتل وغلب على أهلها حبّ الأمويّين، قبيلته المجهولة؛ عُقدة أخرى، التقلّبات السياسيّة في عصره: هجوم المغول وفرار أسرته إلى دمشق التي أكثر أهلها آنذاك هواهم مع بني أُميّة، رجل تجاوز الستّين ولم يتزوّج على ما ذكرنا؛ عُقدة أخرى، طموحه في الإمامة الكبرى! فلم ينلها واشتهر غيره ونالوا مناصب القضاء والدرس، ونال هو التكفير والتعزير والسجن، ورأى شيئاً لأن يخرّ من السماء أهون عليه من أن يراه، ذلك هو عالم الشيعة (المطهّر الحلّيّ) الذي وفّقه الله تعالى لأن يؤثّر على حفيد السلطان المغولي (خدا بنده) فاعتنق هذا مذهب أهل البيت؛ ولذلك قصّة نأتي عليها. فاستشاط ابن تيميه وانتفخ سحرُه وتخلّى عن مهاجمته الفرق الإسلاميّة، ولو مهادنةً وخطب ودٍّ لظنّه أنّهم سيكونون له عوناً مع الشيطان؛ فخاب ظنّه وزاد في إداناته، فاستُدعي وحُوقق واُلزم بالنفاق لتنقيصه من مقام أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام هذا في الدنيا، وفي الآخرة( ها أَنْتُمْ هؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) (١) .

هادن ابن تيميه الأشعريّ بعد أن كان هدفاً لناره، فلعلّه بذلك يرضي فرق السنّة، وراح يهملج بسبّ الشيعة وعالمهم (الحلّيّ) وأهل البيتعليهم‌السلام ظنّاً منه أنّهم

____________________

(١) النساء: ١٠٩.

١١

أئمّة الشيعة وليسوا قرآناً يتلى في المحاريب، فإذا حذفت تلك الآيات كانت ردّاً على الله تعالى ورسوله! وكتب الحنابلة والمالكيّة والحنفيّة والشافعيّة مشحونة بفضائل أهل البيت، مضافاً إلى كتب التصانيف والسنن والسير والتاريخ.

بدأ ابن تيميه كتاب (منهاج السُّنّة) بشتيمة العلاّمة الحلّيّ فقال: وإنّ من سمّى نفسه بالمطهّر هو أولى أن يُسمّى بالمنجّس ...، وإنّ كتابه الّذي سمّاه (منهاج الكرامة) هو أولى أن يُسمّى بـ (منهاج الندامة)! ثمّ راح يسفّ يكذّب كلّ فضيلة لأهل البيتعليهم‌السلام بلهجة حادّة لا دليل له في كلّ ذلك إلاّ أن يقول: هذا كذب موضوع باتّفاق أهل العلم! وإجماع أهل الحديث؛ ثمّ لا يذكر واحداً من أولئك العلماء، والإجماع! ثمّ يلوذ بالمسلمين السّنّة، فيقول: هذا مخالف لقول أهل السُّنّة والجماعة؛ وقصده من ذلك استغفال السذّج ليحسبوه مسلماً من أهل السنّة وأنّ قوله قولهم! فمن هم أهل السُّنّة بمصطلحه المعروف، هل هم الخوارج والنواصب؟ أم المذاهب الإسلاميّة: الشافعيّة والحنفيّة، والمالكيّة، والحنبليّة؛ الذين قامت قيامتهم على ابن تيميه لله ورسوله وأوليائه ...؟! ولم يقل من السُّنّة ممّن عاصر العلاّمة (الحلّيّ) أو جاء بعده كلمةً نابيةً ممّا قالها ابن تيميه فيه، إنّما كان محلّ احترام وإعجاب وتبجيل.

ومن منهجي في البحث أنّي اخترت لهذا الكتاب هذا العنوان (نقد منهج ابن تيميه)، للمجلّد الثاني (ابن تيميه، نقد منهجه) فكلمة (منهج) لو قلبت صارت (جهنّم) إزاء كتاب ابن تيميه (منهجا السُّنّة) الّذي هو في حقيقته منهاج البدعة والضلال والنّاصبيّة العمياء ...! ولذا كان الأصل في البحث هو نقض النقض وردّ

١٢

مفتريات ابن تيميه في منهاجه. وقد عوّلت في هذا الحقل واعتمدت القرآن الكريم الّذي لا يأتيه الباطل أبداً، ثمّ تناولت كتب السيرة ممّن عاش أصحابها القرن الأوّل وتُوفّوا منتصف القرن الثاني الهجريّ، أو أوائل القرن الثالث الهجريّ، وكتب الصحاح للبخاريّ ومسلم والترمذيّ، والمسانيد للطيالسيّ (ت ٢٠٤ هـ) وأحمد (ت ٢٤١ هـ) وأبي يعلى (ت ٣٠٧ هـ) والمسند الحميدي (ت ٢١٩ هـ) ومسند أبي داود السجستاني (ت ٢٧٥ هـ) وتاريخ البخاريّ، وتفسير القرآن لابن وَهْب (١٣٥ - ١٩٧ هـ) وتاريخ خليفة (ت ٢٤٠ هـ) والمغازي للواقدي (٢٠٧ هـ) والموفّقيّات للزبير بن بكّار (ت ٢٥٦ هـ) والمعرفة والتاريخ للفَسَويّ (ت ٢٧٧ هـ) والمصنّف لابن أبي شيبه (ت ٢٣٥ هـ) والمصنّف لابن أبي شيبه (ت ٢٣٥ هـ) والمصنّف لعبد الرزّاق (ت ٢١١ هـ) وتفسير القرآن العزيز، له، وتفسير سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ) وتفسير مقاتل (٨٠ - ١٥٠ هـ) و كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل، وأنساب الأشراف للبلاذري (ت ٢٧٩ هـ)، وأسباب النزول للواحديّ (ت ٤٦٨ هـ) و أحكام القرآن للجصّاص (ت ٣٧٠ هـ) و الاستيعاب لابن عبد البرّ المالكيّ (ت ٤٦٣ هـ) و أسد الغابة لابن الأثير الشافعيّ (ت ٦٣٠ هـ) والإصابة لابن حجر الشافعيّ (ت ٨٥٢ هـ) والأغاني لأبي الفرج الإصفهاني (ت ٣٥٦ هـ) والإمامة والسياسة لابن قُتيبة (ت ٢٧٠ هـ) والبحر المحيط في تفسير القرآن لمحمّد بن يوسف أبو حيان الأندلسيّ (ت ٧٤٥ هـ) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ)، وسنن ابن ماجة وسنن النّسائيّ (ت ٣٠٣ هـ)، والسنن الكبرى للبيهقيّ (ت ٤٥٨ هـ)، وخصائص أمير المؤمنين للنّسائيّ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ت ٢٣٠ هـ)، وتاريخ اليعقوبي (القرن

١٣

الثالث الهجري)، وتاريخ ابن مَعين (ت ٢٣٣ هـ)، ومروج الذهب للمسعوديّ (ت ٣٤٦ هـ)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (ت ٤٠٥ هـ)، ومشكل الآثار للطحاوي الحنفيّ (ت ٣٢١ هـ)، ومصابيح السّنة للبغويّ الشافعيّ (ت ٥١٦ هـ)، ومعالم التنزيل للفرّاء الشافعيّ (ت ٥١٦ هـ)، ومطالب السّؤول لابن طلحة الشافعيّ، والمعجم الكبير، والصغير، كلاهما للطبراني السَلَفيّ (ت ٣٦٠ هـ)، وتاريخ الطبريّ، وتفسيره، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي، الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة لابن الصبّاغ المالكيّ، وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحسكانيّ الحنفيّ (ت ٤٩٠ هـ)، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، تاريخ الإسلام للذهبيّ الحنبليّ، وسير أعلام النبلاء، له، والعِبر في خبر مَن غَبر، له، وجمهرة النّسب لابن الكلبيّ (ت ٢٠٤ هـ)، وشفاء السقام في زيارة خير الأنام لشيخ الإسلام تقيّ الدين السُّبكي (٦٨٣ - ٧٥٦ هـ)، ودفعُ الشُّبه عن الرسول والرسالة للإمام تقيّ الدين الحِصْني الدمشقيّ (٧٥٢ - ٨٢٩ هـ)، والسيف الصقيل: كتبه السُّبكي ردّاً على ابن قيمّ الجوزيّة تلميذ ابن تيميه؛ والكتابة عن الأبناء تبقى واحدة لوحدة الأصل والمبنى في العقيدة والأفكار والسُّبكي في سيفه شنّ حملةً على ابن القيمّ في عقيدته في التجسيم ...، وما يتفرّع منها من كفريات أُستاذه ابن تيميه، وللكوثريّ حاشية مع كلّ جملة ذكرها السُّبكي في أصل كتابه، ثمّ ألحق الكتاب بخاتمة مشكورة تلك هي رسالة الذهبيّ الّذي تيقّظ لنفسه فطلّق أفكار أُستاذه ابن تيميه ثمّ بعث إليه تلك الرسالة الذهبيّة الطويلة يأسف فيها على أيّام أمضاها مع هذا الرجل ويحذّره عاقبة أمره أثبتناها في فصل أصحاب الردود.

١٤

هذا بعضٌ من مصادرنا التي آلينا في منهجنا أن نحاكم ابن تيميه وقد انتهى إلى ربّ لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض، نسأله تعالى أن يعامله بعدله إنّه عزيز ذو اقتدار؛ إلاّ أنّا رأينا أنّ الوظيفة الشرعيّة تسترعينا أن نضع يد القارئ الكريم تمهيداً وقبل الولوج في أصل البحث على كشف قناع المفتري العنيد فهل وجدت أخي الغيور فيما ذكرت لك مصدراً شيعيّاً؟ وستجد ضعف العدد هذا بل ويزيد بكثير، ممّن تصدّى لابن تيميه، أو أثبت فضائل وخصائص أهل البيتعليهم‌السلام ، التي أنكرها ابن تيميه في منهاج ضلاله.

بعد المقدّمة والتمهيد حان أن ندرس ابن تيميه، فكان:

المجلّد الأوّل: حياته؛ أُسرته تنتهي إلى امرأة، تيميه مجهولة؟ منحدره القبليّ مجهول؟ بيئتُه: حرّان، مشتبك الصّابئة واليهوديّة والأمويّة والخارجيّة والنّصرانيّة، إلى دمشق أمويّة الهوى.

عصره السياسيّ: ظهور أقوى موجة عصفت بالممالك، ففرّت أُسرته إلى دمشق. نزاعه مع الفرق الإسلاميّة. مع الصوفيّة. مع ابن عربيّ. عقيدته في تشبيه الله تعالى وتجسيمه وأنّه محلّ الحوادث ...، منهجه في التفسير. عقيدته في التوسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارة قبور الأنبياء والأولياء. قصّة تشيّع خدابنده.

ابن تيميه في مجلس القضاء. نهاية المطاف في السجن الثالث.

المجلّد الثاني: تتبّعت فيه عثرات ابن تيميه وسقطاته وسبابه بحقّ أهل بيت الوحي وشيعتهم في كتابه (منهاج السّنّة) فوجدته رجلاً أشاح عن القرآن وجهه، وأسمع لُهاث تركاضه، فقد أوعكه رجال القرن الهجريّ الأوّل فما بعد يُخبتون

١٥

للقرآن والسُّنّة في شأن البيت العَلَويّ العُلْويّ لم يشاركهم بذلك خارجيّ ولا أُمويّ، فوجدته ينكر وذريعته إجماع أهل المعرفة بالعلم ...، وأهل الحديث، وأهل السُّنذة؛ وبعد الرجوع إلى المصادر ربّما ربت على الخمسين أو السبعين أو أكثر!

مسألة أُخرى في منهاجه: وهو ينكر، فإنّه يُطيل بما لا طائل فيه، ثمّ يفرّع في الإنكار تفريعات لا معنى لها إظهاراً منه للسذّج أنّه كثير العلم.

وهو إذ يرى مصيره الّذي هو صائر إليه، إلاّ أنّه العناد الإبليسيّ! تجده ينسى أو يتناسى فيذكر المطلب في أكثر من موضع وأكثر من جزءٍ من أجزائه الأربعة.

المجلّد الثالث: أصحاب الردود: جمعتُ فيه جمعاً جمّاً من علماء وأساتذة وفقهاء المسلمين بمختلف مذاهبهم ممّن عاصروا ابن تيميه وحتّى يومنا ممّن ردّ على الرجل زيادةً في الحجّة.

والله وليّ التوفيق

١٦

تعريف بـ (ابن تَيمِيه) ٦٦١ - ٧٢٨ هـ

هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تَيمِيه الحرّانيّ، ثمّ الدمشقيّ، الحنبليّ.(١)

واختلفت بعض المصادر في عدّ أجداده انتهاءً إلى تَيمِيه؛ فاتّفقت جمعيها على عدم تعدّي تَيمِيه، وما ذكرناه من نسبه مأخوذ من كتابه (منهاج السُّنّة) وكتابه الآخر (علم الحديث) و (تاريخ ابن الوردي) وكتاب تلميذه الوفيّ: ابن عبد

____________________

(١) منهاج السنّة، لابن تَيمِيه ١: ٢، وعلم الحديث، له ٤١، والعقود الدرّيّة في مناقب ابن تَيمِيه، لابن عبد الهادي ٩، وتاريخ ابن الوردي ٢: ٢٧٥، وتذكرة الحفّاظ، للذهبيّ ٤: ١٤٩٦، والوافي بالوفيات، للصفديّ ٧: ١٥/٢٩٦٤، والبداية والنهاية، لابن كثير ١٣ و ١٤ عدّة مواضع وشذرات الذهب، لابن العماد الحنبليّ ٦: ٨٠، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغري بردي ٩: ٢٧١، والمنهل الصافيّ ن له، ١: ٣٥٨، وعقد الجُمان، لبدر الدين العينيّ ٢ و ٣ عدّة مواضع، ودائرة المعارف الإسلاميّة ١: ١٠٩، وتاريخ ابن خلدون ٥: ٤٧٤، والبدر الطالع، للشوكانيّ ١: ٦٣/٤٠، وابن تَيمِيه حياته وعصره، لمحمّد أبي زهرة.

١٧

الهادي (العقود الدرّيّة).

في حين ذكرت بعض المصادر له خمسة، وأخرى سبعة، فيما ذكرت أخرى لصاحب الترجمة ثلاثة أجداد وكلّها تنتهي عند (تَيمِيه)، فالأُسرة جميعاً إخواناً وأعماماً، تُعرف بأُسرة ابن تَيمِيه.

استباق الأحداث: كان علينا أن نتكلّم عن تاريخ مولد صاحب الترجمة، وبيئته، وتعريف بأُمّه ونسبها وقبيلتها على ما جرى عليه المترجمون؛ إلاّ أنّ أمراً استوقفنا متسائلين: علامَ انتهت سلسلة نسب هذا الرجل الذي أحدث ضجّة وصار أُمّة رغم القيامة عليه وعلى أتباعه من الحنابلة، وما سمعته من التشنيع به والتشهير، وتكفيره وتفسيقه وزندقته والتعزير، وموته بالسجن؛ فنفَخ الشيطان بعقيدته وآرائه من أرض الزلازل والفتن (نَجْد) فعاد ابن تَيمِيه في حركة وهّابيّة!

إنّ استباق الأحداث في المنهج فرض نفسه: مَن هو هذا (الجدّ) الذي تنتهي إليه هذه الأسرة (تَيمِيه) ذكر هو أم أنثى، ما حظّه من الخير ومنزلته الاجتماعيّة، هل كان مثل حفيده صاحب الترجمة (أحمد بن عبد الحليم) شيخ الإسلام - كذا، والإمام المـُطلق؟!

الجواب: إنّ تَيمِيه، امرأة.

ملاحظة جديرة بالتحقيق: ليس في تاريخ العرب ولا النّصارى أن تنتمي أُسرة واسعة إلى امرأة، وجعل الإسلام النّسب للآباء، ولم أجد ملّة جعلت النسب للأُمّهات إلاّ: اليهود.

١٨

منزلتها العلميّة: كانت واعظة(١) .

تسمية تَيمِيه

وقع اختلاف قليل في المناسبة التي بها سُمِّيت (تَيمِيه)، حتّى من قِبَل بعض الأسرة!

قال ابن خلّكان في ترجمته لمحمّد بن الخضر الحرّانيّ: (محمّد بن الخضر المعروف بابنِ تَيمِيه الحرّانيّ، الخطيب الواعظ الحنبليّ.

قدِم بغداد وسمع الحديث بها من شهدة بنت الإبري، وابن البطّي، وصنّف في مذهب الإمام أحمد. وكانت إليه الخطابة بحرّان، ولأهله من بعده.

ولد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بمدينة حرّان. وتوفّي بها سنة إحدى وعشرين وستّمائة.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي في حقّه: كان ضنيناً (أي حسوداً) بحرّان، متى نبغ فيها أحد لا يزال وراءه حتّى يخرجه منها ويبعده عنها!

قال: وذكره أبو البركات ابن المستوفي في (تاريخ إربل) فقال: ورد إربل حاجًّا في سنة أربع وستّمائة فسألته عن اسم تَيمِيه، ما معناه؟ فقال: حجّ أبي أو جدّي، أنا أشكّ أيّهما، قال: وكانت امرأته حاملاً، فلمّا كان بتَيْماء، رأى جُوَيرية قد خرجت من خباء، فلمّا رجع إلى حرّان وجد امرأته قد وضعت جارية، فلمّا رفعوها إليه قال: يا تَيمِيه، يا تَيمِيه، يعني أنّها تشبه التي رآها بتَيْمَاء، فسُمّي بها، أو

____________________

(١) المصادر جميعاً، ولم تزد.

١٩

كلاماً هذا معناه.

قال ابن خلّكان تعقيباً على ذلك، وتَيماء، بُليدة في بادية تَبُوك إذا خرج الإنسان من خَيبر إليها تكون على منتصف طريق الشام، وتَيمِيه منسوبة إلى هذه البُليدة، وكان ينبغي أن تكون تَيماويَه، لأنّ النسبة إلى تَيْماء تَيْماوي، لكنّه هكذا قال واشتهر كما قال!(١)

وقفة تأمّل

إنّ صفات الخير، وصفات الشرّ تُتوارث كما تُتوارث الصفات الخَلْقيّة (البدنيّة) ولذا دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وندب إلى التحرّي في اختيار الزوج والزوجة من حيث صلاح دينهما لسريان ذلك إلى ذُرّيّتهما، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّ الخال أحدُ الضجيعين، إشارة لما ينتقل من صفات سيّئة أو حميدة إلى الذُرّيّة.

وهذا هو الجدّ الأعلى (ما قبل الجدّ المرأة المجهول: تَيمِيه!) حظّه من العِلم أن يأخذ الحديث من امرأة مجهولة لم أجد لها ترجمة (شهدة بنت الإبري)؛ قد كان حسوداً (ضنيناً) ما أن ينبغ أحد بحرّان حتّى يكون وارءه حتّى يخرجه منها ...؛ فورث هذه الصفة الإبليسيّة صاحبُ ترجمتنا أحمد بن تَيْماوِيَه! ونجد غيره من إخوته أحسن صفته أنّه (أقلّ شرًّا).

____________________

(١) وفيات الأعيان، لابن خلّكان (ت ٦٨١ هـ) ٤: ٣٨٦ - ٣٨٨ - الترجمة ٦٥٧، والوافي بالوفيات ٣: ٣٧، والعقود الدرّيّة ١٤.

٢٠

الأجساد بألفي عام(١) . وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بالأرواح الملائكة، وبالأجساد العنصريّات. كذا قيل، فليتأمّل.

لا قدمها الذاتيّ الّذي [هو] عبارة عن عدم سبق الغير على موصوفه أصلا ومطلقا، وهو من خواصّ الحقّ تعالى لا يشركه فيه شيء.

ويدلّ عليه أدلّة التوحيد المسلّمة عند المحقّقين.

والقول به تدفعه البراهين الساطعة التي أقاموها على حدوث الأجسام وأعراضها ونفوسها المتعلّقة بها، وعلى أنّه لا قديم بالذات سوى الحقّ تعالى.

فيتّضح من ذلك فساد كلمة النصارى، حيث قالوا بقدم الأقانيم الثلاثة، والثنويّة القائلين بقدم النور والظلمة، والحرنانيّين بقدم الفاعلين الباري والنفس والمنفعل غير الحيّ وهو الهيولى، والدهر والخلأ وهما غير فاعلين ولا منفعلين.

وما ذكرنا من جواز تعدّد القدماء بالقدم الدهريّ هو مذهب أكثر الحكماء، ولا دليل على امتناعه أصلا، والتفصيل مذكور في محلّه ينافي الوجيزة.

وكذا ما اخترناه من ثبوت المعدومات لا ينافي التوحيد على جميع المسالك، لأنّ القديم عندهم ما لا أوّل لوجوده، ولا مدخل للثبوت في ذلك، وقد عرفت الوجه فيما أسلفناه.

وأمّا لو جعلنا «هل» بمعنى «قد» فكذلك لو صرفنا النفي إلى القيد، ولو

__________________

(١) أنظر بصائر الدرجات: ٨٨.

٢١

صرفنا إلى المقيّد فتدلّ الآية على نفي القدم مطلقا، كما هو مسلك بعض المتكلّمين.

بوارق

الاولى: ذكر بعض الحكماء أنّ الشيئيّة إنّما هي من المعقولات الثانية الّتي ليست لها هويّات خارجيّة متأصلة بذاتها، متصوّرة بنفسها، متعقّلة أوّل الأمر، قائمة بموضوعاتها في الخارج بحيث يكون بإزائها شيء، بل هي أمر انتزاعيّ ينتزعها العقل من المهيّة حين وجودها أو ثبوتها، ومثلها الوجود والوحدة والكثرة والعلّيّة والمعلوليّة ونحو ذلك، وذلك واضح.

وبرهانه: أنّ الشيئيّة المطلقة لو كانت متأصّلة لزم أن يكون بإزائها شيء في الخارج وليس، فليس، ويتفرّع على ذلك امتناع ثبوت شيء بلا خصوص المهيّة. والتفصيل يطلب من الحكمة.

الثانية: قال الطبرسيّ رحمه الله: «لم يكن شيئا» جملة في محلّ الرفع، لأنّها صفة «حين»، والتقدير: لم يكن فيه شيئا مذكورا(١) .

أقول: ويحتمل أن يكون في محلّ النصب، لكونها حالا من «الإنسان» والرابطة هي المستتر، وهو الأولى لعدم الحاجة إلى التقدير.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ الآية الشريفة تدلّ على بطلان القول بالتناسخ الّذي هو عبارة عن وجود شخص مرّة أخرى بعد وجوده في حين آخر، وهكذا لأنّه لو وجد إنسان قبل وجوده الآن لم يصدق أنّه أتى عليه، أي سبق على وجوده ومضى على ما هو إنسان بالقوّة زمان غير معيّن لم يكن فيه

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٢٢

شيئا مذكورا، ضرورة أنّه لو كان موجوداً مرّة أخرى كان شيئا مذكورا في حين.

وعلى بطلان القول بقدم النفوس الناطقة مطلقا دهريّا وذاتيّا، لأنّ الدهر عبارة عن زمان وجود العالم من أوّله إلى آخره، والحين بعضه، فلو كانت النفس قديمة لما صحّ القول بأنّه لقد مضى عليها حين لم يكن شيئا مذكورا.

هذا حاصل كلامه.

الرابعة: من التفسيرات المليحة، تفسير «الإنسان» في الآية بـــ«القائم المهديّ المنتظر» عجّل الله فرجه، والمذكور بالشهود، أي: قد أتى على ابن الحسن العسكريّ عليه السلام زمان لم يكن فيه مشهودا مرئيّا للناس لعدم استعدادهم لرؤيته والفوز بمشاهدته وهو زماننا هذا، زمن الغيبة الطويلة.

فأخبر الله تعالى عن ذلك الزمان بلفظ الماضي، إشارة إلى أنّه يكون لا محالة كما في قوله:( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) (١) و( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (٢) و( فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) (٣) .

وأمثال ذلك مطّردة في فصيح الكلمات.

هذا على تفسير «هل» بـــ«قد» وأمّا على تفسيرها بـــ«ما» فالمراد بالآية الإخبار عن لزوم الحجّة القائمة لكلّ أمّة في جميع الأعصار، فما مضت أمّة إلّا وقد أخبر نبيّها بالقائم الهادي المهديّ الّذي يجعل الأديان كلّها دينا واحدا

__________________

(١) النحل: ١.

(٢) القمر: ١.

(٣) النبأ: ١٩ ـ ٢٠.

٢٣

ويحمل الناس كلّهم على عبادة الله مخلصين له الدين، لا يشركون به شيئا.

فمعنى كونه عليه السلام «مذكورا» هو كونه بحيث يذكره كلّ نبيّ من آدم عليه السلام إلى محمّد صلّى الله عليه وآله الناسخ لجميع الأديان، والباقي دينه إلى آخر الزمان وأممهم بالذكر الحسن، وينتظرون فرجه، ويفرحون بمشاهدته، ويعتقدون بمجيئه وتمكنه من الأرض كلّها، وإن طالت المدّة، وعمّت الشدّة، ولا يشكّون في أمره، ولا يضلّون بغيره إلّا شرذمة مبتدعة.

أما طالعت أيّها الطالب، الفصل الثامن والسبعين من كتاب «مار متّى» من تلاميذ يسوع المسيح عليه السلام؟ فإنّه ذكر فيه: أنّ المسيح عليه السلام قال بعد كلام له لـمـّا سأله تلاميذه عن انقضاء الزمان ومجيء ابن الإنسان: الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام، وسيكون ضيق عظيم لم يكن مثله من أوّل العالم حتّى الآن، ولا يكون ولو لا أنّ تلك الأيّام قصرت لم يخلص ذو جسد، لكن لأجل المنتجبين قصرت تلك الأيّام، حينئذ إن قال لكم: إنّ المسيح هنا أو هاهنا فلا تصدّقوا، فإن قالوا لكم: إنّه في البريّة فلا تخرجوا، وكما أنّ البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر، وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوء، والكواكب تتساقط من السماء، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وتنوح حينئذ كلّ قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آئبا على سحاب السماء إلى آخره.

وقريب من ذلك ما في كتاب «مارلوقا» و «مار مرقص» من تلاميذ عيسى عليه السلام.

٢٤

وعنه أيضا قد أخبر الله في «التوراة» وغيرها من الكتب السماويّة، فكان عليه السلام مذكورا في جميع الأعصار في كلّ أمّة إلى ذلك العصر، فإنّه مذكور في لسان أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله برفيع الذكر إلى زمان حضوره عليه السلام فيذكر فيه بذكر مناسب لذلك الزمان على التفصيل المذكور في كتب أخبارنا.

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (١) بـــ«القائم عليه السلام» أيضا. أي: الله بصفته الرحمانيّة لقد علّم محمّدا القرآن وأمر أمّته بما فيه ظاهرا، وخلق القائم عليه السلام الّذي من نسله وعلّمه بيان حقائق القرآن، وأجاز له الحكم بباطنه في زمانه، كما قال:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (٢) فزمان البيان متأخّر عن زمان القرآن، لمكان «ثمّ» الدالّة على التراخي قطعا.

وقريب من ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» بـــ«عليّ عليه السلام» فإنّه كان مذكورا في جميع الأعصار والدهور بنوع من الذكر، وكان مع كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد بصور مختلفة، كما قال: نحن نظهر في كلّ زمان على صورة.

ويدلّ على ذلك أيضا ما بيّنه عليه السلام في بعض خطبه المشهورة، كما لا يخفى على من تتبّعها.

__________________

(١) الرحمن: ١ ـ ٤.

(٢) القيامة: ١٧ ـ ١٩.

٢٥

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) بـــ«عليّ عليه السلام». أي: حمل «عليّ» الولاية الخاصّة واتّصف بها، وكان مظلوما لتصدّي غيره الغير المستحقّ لبعض خواصّها، مجهول القدر والمقام بين أكثر الناس.

فإنّهم لو كانوا عرفوه بالنورانيّة والروحانيّة لما اختاروا غيره عليه، وما جعلوا غيره متبوعا!

فإنّ مقامه عليه السّلام مقام ساذجيّ لا يدركه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان سوى الإجمال منه، كدرك الأدنى مقام الأعلى، وذلك واضح، فمن أدرك مقامه عليه السّلام ورتبته في القرب ولو إجمالا لا يصطفي عليه غيره بحقيقة الإيمان، فإعراضهم عنه عليه السّلام ونصبهم غيره دليل بيّن على أنّهم ما عرفوا نورانيّته فضلّوا ولم يهتدوا سبيلا.

وهذا التفسير أيضا ممّا لم يذكره أحد من المفسّرين، فاغتنم وكن من الشاكرين.

قال الله جلّ برهانه:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

أقول: ليس المراد من «الإنسان» في تلك الآية المشيّة التي عبّر عنها بـــ«الإنسان» في الآية المتقدّمة، لأنّها كما عرفت ما خلقت من النطفة، بل

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٦

خلقها الله من نفسها، وخلق الأشياء كلّها منها وبها، وهي بأجمعها راجعة إليها، ساجدة لها، متحيّرة فيها، مقبلة عليها، فهي الحاكمة على الكلّ في الكلّ، والمشهودة في الكلّ للكلّ، والمحيطة بالكلّ، والسارية في الكلّ.

فالكلّ بوجودها قائمون، وفي اكتناه مقامها متحيّرون، فهي العلّة الثانويّة لوجود كلّ شيء، والمبدأ لخلق كلّ شيء، كما قال:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) (١) .

وقال عليه السّلام: إنّ الله خلق الأشياء بالمشيّة(٢) .

ولعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ «الإنسان» مع أنّ المقام مقام الإضمار، كما لا يخفى.

نعم يحتمل كونها مرادة منه في تلك الآية أيضا بملاحظة أنّه تعالى أراد أن يخبر عن الخلق الجديد الثانويّ للمشيّة، وهو إبرازها في الهيكل الناسوتيّ العنصريّ الجسمانيّ، أي لقد أتى على المشيّة حين من الدهر كانت روحانيّة ساذجيّة غير مكبولة بالجسد العنصريّ، ثمّ ألبسناها لباس العنصريّات، وخلقناها من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة.

وأكثر المفسّرين لقد فسّروا «الإنسان» بولد آدم عليه السّلام خاصّة نظرا إلى أنّهم خلقوا من النطفة الكذائيّة دون آدم عليه السّلام، فإنّه خلق من صلصال من طين على التفصيل المسطور في كتب الأخبار.

وبعضهم بجميع أفراد البشر، فيشمل آدم عليه السّلام أيضا نظرا إلى أنّ

__________________

(١) النساء: ١، الأعراف: ١٨٩، الزمر: ٦.

(٢) الكافي ١: ١١٠.

٢٧

باب التغليب واسع، ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى ذلك الاعتذار لو فسّرت النطفة بالمادّة منيّا كانت أو غيرها، وسيأتي إلى ذلك الإشارة إن شاء الله.

بوارق

الاولى: في نسبته تعالى خلق الإنسان إلى نفسه إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه، من أنّ الممكن الحادث محتاج إلى المؤثّر القديم، فلا يمكن له الوجود بنفسه من غير تأثير المؤثّر الواجب.

وادّعى جماعة من الحكماء على ذلك أنّه ضروريّ أوّليّ، فإنّ العقل بعد تصوّر الممكن من حيث يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته، وتصوّر المؤثّر المرجّح لأحد الطرفين على الآخر يجزم بأنّ الممكن محتاج في حصول الوجود أو العدم إلى المرجّح ويحكم ببداهة ذلك.

وبعضهم جعلوا بطلان وجود الممكن بنفسه من غير حاجة إلى العلّة القديمة نظريّا، واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة لا يخلو بعضها عن وهن.

منها: أنّ مهيّة الممكن تقتضي تساوي الطرفين، ووقوع أحدهما بلا مرجّح مستلزم لرجحانه، وهو مناف للفرض.

ومنها: أنّ الواجب ما كان بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى العلّة، والممتنع ما كان ذاته منشأ لانتزاع العدم من غير حاجة إلى شيء آخر، والممكن ما ليس ذاته منشأ لانتزاع شيء من الوجود والعدم، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علّة، فلو كان ذاته بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى ضمّ علّة لزم كونه واجبا، فإنّ المستغني بنفس ذاته عن العلّة مطلقا هو الواجب القديم الّذي يعبّر عنه المشّائيّون بالوجود الحقيقيّ.

٢٨

والإشراقيّون بالنور العينيّ.

والمتألّهون بمنشأ انتزاع الموجوديّة.

والصوفيّة بمرتبة الأحديّة وحضرة الجمعيّة وعين الكافور والوحدة الحقيقيّة وغير ذلك، واللازم باطل، فلا بدّ من كونه مفتقرا إلى علّة، وهو المطلوب.

ومنها: أنّ الممكن ما لم يترجّح لم يوجد، لأنّ ذلك هو قضيّة الإمكان، وذلك الترجّح أمر حادث لم يكن فيكون وجوديّا، فلا بدّ له من محلّ، وليس هو الأثر لتأخّره عن الترجّح، فيكون هو المؤثّر، وهو المطلوب.

ولهم أدلّة أخرى مذكورة في الكتب المبسوطة في الحكمة.

ويدلّ على ذلك أيضا بعض ما دلّ على وجوب وجود صانع حكيم، كدليل الدور ونحوه. ولسنا نحن بصدد التفصيل.

ثمّ هل الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه إليها أم لا، مسألة خلافيّة متفرّعة على أنّ علّة احتياج الممكنات إلى المؤثّر هل هي الإمكان أو الحدوث، فمن قال بالأوّل ـ كما هو المشهور ـ قال بالأوّل، ومن قال بالثاني قال بالثاني، إذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج.

دليل المشهور: أنّ العقل حاكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه، وما كان كذلك فهو محتاج إلى المرجّح المغاير حتى يرجّح أحد الطرفين، فيعلم منه أنّ علّة الحاجة في الواقع هي الإمكان، حيث رتّب العقل الاحتياج على تساوي الوجود والعدم، وأنّه قد يتصوّر الممكن ولا يحصل العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ إمكانه حتّى لو فرض حادث واجب بالذات يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

٢٩

وبعد ثبوت أنّ علّة الحاجة هي الإمكان يتّضح القول بأنّ الممكن الباقي حال بقائه محتاج إلى المؤثّر، فإنّ الإمكان لازم لمهيّة الممكن غير منفكّ عنها حال البقاء أيضا، فإنّ الممكن إنّما يصير ممكنا بوصف الإمكان بالضرورة، فمتى تحقّق العلّة وهي الإمكان يتحقّق المعلول وهو الحاجة بالبديهة، ضرورة وجوب تحقّق المعلول بتحقّق علّته التامّة. وذلك واضح.

واستدلّ الآخرون بأنّ تأثير المؤثّر في الباقي محال، لأنّه إن أفاد الوجود الّذي كان حاصلا يلزم تحصيل الحاصل، وإن أفاد أمرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي، بل في ذلك الأمر المتجدّد، وبأنّ البناء كما يبقى بعد فناء البنّاء، كذلك يجوز أن يبقى الممكن من غير احتياج إلى المؤثّر.

وأجيب عن الأوّل بأنّ المؤثّر يؤثّر في استمرار الوجود وبقائه، فإنّ الحاصل بالحدوث ليس إلّا الوجود في زمانه، وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه، فإبقاء الوجود وإدامته من المؤثّر وهو غير حصول نفس الوجود.

وعن الثاني بأنّ الكلام في العلّة الموجدة وليس البنّاء موجدا للنباء، وإنّما هو علّة لحركات الآلات، وتلك الحركات علل عرضيّة معدّة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات، وتلك الأوضاع مفاضة من علل فاعليّة غير تلك الحركات المستندة إلى حركة يد البنّاء.

ويتّضح من ذلك كلّه أنّ الغنيّ المطلق عن كلّ شيء هو الذات الأحديّة، فإنّها في مقامها الجليل ورتبتها الجليلة غير مفتقرة إلى شيء في الذاتيّة والوجود والبقاء التي هي شيء واحد بحقيقة الواحديّة في عالم الحقّ، لأنّ

٣٠

ذلك من لوازم العينيّة المسلّمة، وأنّ غيرها من الأشياء الممكنة محدثة بأمرها، موجودة بإفاضة الوجود منها إليها لها، باقية بإدامة رحمتها بها بحيث لو كان فيض الحقّ منقطعا عنها في أوّل الأمر لما كانت شيئا مذكورا.

وكذا لو انقطع الفيض الآن لما يبقى شيء. ونعم ما قيل: إنّ الممكن بالنسبة إلى فيض الحقّ كالمستضيء في مقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوؤه وصار مظلما.

الثانية: في تعليق «الخلق» على «الإنسان» وإيقاعه عليه إشعار بأنّ المهيّات غير مجعولات بجعل الجاعل، كما هو مذهب بعض الحكماء.

والدليل على ذلك الإشعار أنّ تعليق أمر على الشيء فرع ثبوت ذلك الشيء، فقوله( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) (١) معناه إنّا أوجدنا مهيّة الإنسان الثابتة، وألبسناها لباس الوجود، وأصبغناها بذلك الصبغ، كما يفعل الصبّاغ بالثوب، فالمهيّة شيء ثابت أزلا، والوجود شيء آخر يعرضها عروض الوصف بالموصوف.

كذا قد يخطر بالبال، وللمناقشة فيه مجال، لأنّ تعليق الأمر على شيء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: أن يكون ذلك الأمر من الأوصاف الصرفة التي ينفكّ عن الموصوف المتصوّر، كزينة البيت، وصبغ الثوب، ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون من الأوصاف اللازمة المقارنة التي هي في نفس الأمر مقدّمات وشرائط للشيء، كبناء البيت، ونسج الثوب.

__________________

(١) الإنسان: ٢.

٣١

ولا يخفى أنّ الأمر المعلّق إذا كان من الأوّل يجب ثبوت المعلّق عليه قبل التعليق، ولا يستلزم المقارنة، فإنّك إذا قلت: صبغت الثوب، يفهم منه ثبوت الثوب أوّلا حتّى يصبغ، وإذا كان من الثاني فلا يستلزم الثبوت السابق، بل التعليق يدلّ على المقارنة، فإنّك إذا قلت: بنيت البيت، يفهم منه أنّ ثبوت البيت قارن بناءه، وذلك واضح.

ولعلّ «الخلق» من ذلك القبيل، أي أوجدنا الإنسان وجعلنا مهيّته مهيّة مقارنة لوجوده، بمعنى أنّا جعلنا المهيّة المعقولة موجودة في الخارج بالجعل البسيط الّذي [هو] عبارة عن موجوديّة المهيّة في الخارج من غير أن تكون شيئا ثابتا في نفسها قبل ذلك، فيصبغها الجاعل بصبغ الوجود، كفعل الصبّاغ.

والحاصل أنّ فعل الحقّ للمهيّة وجعله لها هو بعينه إيجادها في الخارج، واتّصافها بالوجود مقارن لثبوتها، بل لا تمايز بينهما في الخارج حينئذ أصلا.

نعم يحصل التمايز بالتحليل العقليّ، وهما في غير خزينة العقل شيء واحد ثابتان في آن واحد، ألا ترى أنّ المتحرّك إذا تحرّك لا يجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة، بل يفعل الحركة، وبمجرّد فعله لها تصير موجودة.

وكذا الخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا، بل يفعل الخطّ، وبمجرد فعله يصير موجودا في الخارج.

وهكذا، لا الجعل المركّب الّذي [هو] عبارة عن جعل الماهيّة إيّاها أوّلا، ثمّ إطراء الوجود عليها بحيث يكون كلّ منهما متميّزا عن الآخر، فإنّ

٣٢

ذلك باطل للزوم الجبر المنفيّ عقلا وشرعا، ولاستلزام وقوع الشكّ في كونها مهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر الجاعل. وهو باطل، فتأمّل.

وهنا مسلك آخر لبعض الحكماء، وهو أنّ الماهيّات قديمة أزليّة ثابتة بنفسها من نفسها غير مجعولة بجعل الجاعل، ولا تأثير للباري فيها لأزليّتها، وإنّما الباري خلعها خلعة الوجود، وصبغها بصبغ الوجود، كما قال:( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (١) فزمان الإيجاد غير زمان الثبوت متأخّر عنه، كيف وهي الحقائق الأزليّة الّتي أشار إليها عليّ عليه السلام في دعاء «سهم الليل» حيث قال: أللّهمّ إنّي أسألك بالحقائق الأزليّة(٢) إلى آخره، فتأمّل.

فقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) معناه: إنّا أبدعنا وجوده وأثّرنا فيه لا في مهيّته، والقول بأنّ الوجود أمر اعتباريّ لا يصلح، لكونه أثرا للمؤثّر ممّا لا نفهمه.

والحاصل أنّه تعالى لقد أشار في تلك الآية إلى تأثيره الاختراعيّ بالنسبة إلى الوجود خاصّة، وهو التأثير الإبداعيّ على هذا المسلك، لا بالنسبة إلى المهيّة لأزليّتها، وبعض الحكماء يطلقون التأثير الاختراعيّ على إفاضة الأثر على قابل كالصور والأعراض على المادّة القابلة، والإبداعيّ على إيجاد الأليس عن الليس المطلق.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ التقديم مع التأكيد والتقرير في قوله: ( إِنَّا

__________________

(١) البقرة: ١٣٨.

(٢) انظر: البلد الأمين: ٣٤٩، مصباح الكفعميّ: ٢٦٥.

٣٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) مفيد للحصر، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.

وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها، وقالوا: إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.

قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء: إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح أخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.

ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.

وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له، كما قيل:

٣٤

ذات نايافته از هستى بخش

كى تواند كه شود هستى بخش

ولكن ما استفاده من بطلان التفويض والتوسيط فغير مستفاد، لأنّ الشيء كثيرا ما يستند إلى العلّة التامّة، فيقال: أثمر الله، وأنبت الله.

ولا ريب في أنّ الله هو العلّة لجميع العلل، فكيف ينكر عليه في نسبته الخلق إلى ذاته خاصّة مع الحصر، كيف ونسبة الشيء إلى غير العلّة التامّة من العلل المعدّة مجازيّة، يقال: أثمر الشجر، وأنبتت الأرض، وإن صحّت تلك النسبة أيضا.

ألا ترى إلى قوله تعالى:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) (١) وقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٢) كيف نسب التوفّي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملك.

ولا ريب أنّ الأوّل حقيقيّ، كما قال:( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) وإن كان بواسطة الغير.

ألا ترى أنّ الأشياء كلّها خلقت من المشيّة مع أنّه ينسب الخلق إلى الحقّ، كما قال:( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وربّما ينسب إلى المشيّة، نظرا إلى كونها واسطة، كما قال عليه السلام: أنا خالق السماوات والأرض بإذن ربّي.

وذلك واضح، فليس في الآية دلالة على أنّ الله خلق الإنسان بمباشرة ذاته من غير أن يفوّض إفاضة الوجود إليه إلى غير، وإن كان القول بالتفويض

__________________

(١) النحل: ٧٠.

(٢) السجدة: ١١.

(٣) غافر: ٦٨.

(٤) الزمر: ٦٢.

٣٥

بذلك المعنى باطلا بدليل آخر، وهنا أبحاث كثيرة لا يسعها المقام، ولا يتحمّلها أكثر الأنام.

الرابعة: يحتمل أن يكون المراد من النطفة ما هو المنشأ للوجود وهو المشيّة الأزليّة الّتي هي العلّة لوجود الأشياء الممكنة كما عرفت، وتخصيص الإنسان بالذكر لأنّ له من المقام والشرف ما ليس لغيره من الأشياء الّتي خلقت من المشيّة وبها.

وفي توصيف النطفة بالأمشاج الّتي هي الأطوار المختلفة إشارة إلى تطوّرات المشيّة وتحوّلاتها وترقّياتها وتعرّجاتها في حدّ ذاتها، فإنّها لا تزال يفيض الحقّ إليها في جميع الأحوال والأعصار بحسب ما يعلمه من المصلحة والقوّة.

ألا ترى أنّ للنطفة تحوّلات وتنقّلات بحسب الاستعداد. وإن فسّرنا «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله حينئذ، ففيه إشارة إلى مبادئ حاله صلّى الله عليه وآله ونهاية مآله.

أي لقد ترقّينا بمقام محمّد، بأن جعلناه إنسانا كاملا في الأنس بالحقّ، والفوز بنور الصدق بحيث لا مقام أعلى من مقامه، ولا معراج أرفع من معراجه، بعد ما كان في أوّل الأمر غير كامل واقعا موقع النطفة المستعدّة لتلك المرتبة، وذلك في زمان تشكّله بشكل آدم عليه السّلام، فإنّه في تلك الصورة له مقام النطفة. وهكذا إلى أن برز في هيكله الشريف الّذي كان عليه في زمانه بعد وساطة سائر المراتب كمرتبة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السّلام.

٣٦

ولقد أشار إلى تلك المراتب والتحوّلات بقوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ويناسب ذلك التفريع في قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أي جعلنا محمّدا في ذلك الهيكل الشريف والمقام المنيف، سميعا لكلماتنا المنزّلة، قابلا للحقائق الّتي ما اطلعنا على علمها أحدا من العالمين، بصيرا بآياتنا الجماليّة والجلاليّة، والبوارق الجذبيّة، والبارقات الكشفيّة الّتي لا يستطيع لها مادّة سوى مادّته الشريفة الّتي استعدّت من الأزل.

وهنا مطالب مكنونة لم يعثر عليها سوى العارفين، ولسنا نذكرها لما فيه من مظنّة ضلالة الغافلين.

وقيل: «النطفة» هي ماء الرجل الخارج من الصلب، وماء المرأة الخارج من الترائب، فما كان من عظم وعصب وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن المرأة.

وعن بعض الحكماء أنّ المراد بها العناصر المعروفة، أي ركّبنا الإنسان من تلك العناصر على التفصيل المقرّر في مقامه.

و «الأمشاج» إمّا جمع لمشج ومشيج، كالخلط والخليط، والجمع أخلاط، وإمّا مفرد بمعنى المشيج، فيستقيم التوصيف، كما في الثوب الأكياس، أي نطفة مختلطة من الماءين.

وقيل: أي نطفة أطوار متغيّرة من حال إلى حال، طورا علقة، وطورا

__________________

(١) المؤمنون: ١٢ ـ ١٤.

٣٧

مضغة، وطورا عظاما، إلى أن صار إنسانا.

وقيل: مختلفة اللون، فإنّ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.

وقيل: أي نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. والكلّ محتمل.

الخامسة: قال الطبرسيّ رحمه الله: «نبتليه» في موضع نصب على الحال(١) . انتهى.

أقول: هذا على المذهب المشهور متعيّن، وأمّا على مذهب من أجاز تقديم الوصف على الموصوف سيّما في مقام يراعى فيه السجع فالتعيين لا دليل عليه، فيحتمل كونه في موضع النصب على الوصفيّة لقوله:( سَمِيعاً بَصِيراً ) بل هو الأقوم لأنّه لا وجه للابتلاء قبل جعله سميعا بصيرا، إذ المراد به هو الاختبار بالتكليف ليظهر حاله من السعادة والشقاوة إلّا على تفسير «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله والنطفة الأمشاج بمراتب المشيّة، فإنّه صلّى الله عليه وآله لقد اختبر بالتكاليف في تلك المراتب السابقة بحسبها، وفي المرتبة الأخيرة الّتي هي نهاية المراتب بحسبها.

والإخبار عن جعله سميعا بصيرا بحسب تلك الرتبة لا ينفي كونه سميعا بصيرا في غيرها من المراتب بحسبها، فإنّ للإنسان الواحد تكاليف مختلفة في الأزمنة المختلفة. وذلك واضح.

والتكاليف الّتي اختبر الله بها محمّدا إمّا تعمّ التكاليف الّتي كلّف بها

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٣٨

لأجل نفسه من الطاعات والرياضات وما كلّف به لأجل الخلق كالدعوة إلى الإيمان والأمر بالعمل بما في القرآن، كما قال( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

ولقد كان محمّد عبده الخاصّ ورسوله الّذي اصطفاه واختبره بجميع أنواع الاختبارات، فوجده قويّا لحمل التكاليف، جليدا في طاعة الخالق، صابرا على كلّ ما يصيبه في سبيل المرضاة، راضيا بجميع ما جرى عليه، كما قال:( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) فأعطاه من الشرف والمقام ما لم يعط أحدا من العالمين، حيث قال( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً ) (٣) أي للكلمات الإلهيّة، والتغنّيات اللاهوتيّة، والترنّيات الهاهوتيّة، والتفرّدات الملكوتيّة الإنسيّة( بَصِيراً ) أي بمشاهدة الأنوار القدسيّة، والشعاشع الجذبانيّة، واللوامع الربّانيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ الابتلاء في ذلك الكلام وغيره ممّا نطق به القرآن ليس على حقيقته، إذ حقيقة الابتلاء هو طلب الاطّلاع على المجهول، ولا يتصوّر جهل على الحقّ الموصوف بجميع صفات الكمال على أكمل الاتّصاف.

كيف ولا يعزب عن علمه شيء، وهو بكلّ شيء عليم.

كيف وهو العالم بما كان قبل أن يكون، والمطّلع على أحوال كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء، فلا شيء إلّا وهو العالم به قبل وجوده، والمطّلع على جميع أحواله قبل شهوده، ولا تغيير في علمه أصلا.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) القلم: ٤.

(٣) الإنسان: ٢.

٣٩

كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.

بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه، أي في قابليّته الأزليّة، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر، ولكن لـمـّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة، الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء، كما قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (١) وقال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.

هذا على المذهب المختار، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة، فالابتلاء على حقيقته، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.

ولا يخفى سخافة ذلك المذهب، كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.

السادسة: قد استفاد بعض العارفين من قوله: ( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى، فإنّ في «الفاء» المفيدة

__________________

(١) هود: ١٠٣.

(٢) الطارق: ٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432