ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه13%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127060 / تحميل: 7148
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

والسلام؟!

أفرسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحقُّ أن تتَّبعوا سُنَّتَهُ؟ أم سُنّةَ عُمر(١)

وللشافعيّ في ذلك قول قاطع، قال:

لقد ضَلّ مَنْ ترك قولَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقولِ مَن بعده(٢) . وقال ابن حزم: ومن جاءه خبرٌ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يُقرُّ أنّه صحيح، وأنّ الحجّة تقوم بمثله، أو قد صحّح مثل ذلك الخبر في مكان آخر، ثمّ ترك مثله في هذا المكان، لقياسٍ، أو لقولِ فلان وفلان؛ فقد خالفَ أمر الله ورسوله، واستحقّ الفتنة، والعذاب الأليم(٣) .

وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق: لا يصحّ لنا أن نقول بالتعارض بين قول صحابيٍّ، وبين قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والإجماع، فإنّهما مقدّمان عندنا.

وقال: إنّ عملَ الصحابيّ، أو قوله، ليس بحجّة(٤) .

أساليب عمر في المنع

«قال قرظة بن كعب: بَعَثنا عمرُ بن الخطّاب إلى الكوفة، وشيَّعَنا إلى موضع قرب المدينة، يقال له: «صِرَار»، وقال: أتدرون لِمَ شيّعتُكم، أو مشيت معكم؟

قال: قلنا: نعم؛ لِحَقِّ صُحبة رسول الله، أو: نحنُ أصحابُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(١) مسند أحمد - طبعة شاكر - ٨: ٧٧/ ٥٧٠٠. وإسناده صحيح ونقله ابن كثير في البداية والنهاية ٥: ١٤١، السنّة قبل التدوين: ٩٠.

(٢) الفقيه والمتفقّه ١: ١٤٩.

(٣) الأحكام، لابن حزم ١: ٩٨.

(٤) حجيّة السنّة، عبد الغني عبد الخالق: ٤٦٥.

١٨١

ولِحَقِّ الأنصار.

قال عمر: لكنّي مشيتُ معكم لحديثٍ أردتُ أن أُحدّثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم: إنّكم تُقْدِمون على قوم، أو تأتون قوماً تهتزُّ ألسنتُهم بالقرآن اهتزازَ النَخْل - أو: للقرآن في صدورهم هَزيرٌ كهزير المِرْجَل، أو: لهم دَوِيّ بالقرآن كدويّ النَّحْل - فإذا رأوكم مَدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحابُ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله - أو: فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث -؟

فأقلّوا الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا شريكُكم(١) !

وفي المستدرك على الصحيحين، بسنده عن قرظة بن كعب قال:

خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر بن الخطّاب إلى صِرَار، فتوضّأ ثمّ قال: لِمَ مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مشيت معنا، قال: إنّكم تأتون أهل قرية لهم دَويّ بالقرآن كَدَويّ النحْل، فلا تبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم، جَرّدوا القرآنَ، وأقلّوا الرّواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمضوا وأنا شريككم. فلمّا قدم قرظة قالوا: حدّثنا، قال: نهانا ابن الخطّاب.

هذا حديث صحيح الإسناد له طُرُق تُجمع ويُذاكر بها، وقرظة بن كعب الأنصاري صحابيّ سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن شرطنا في الصحابة أن لا

____________________

(١) ذكرناه بألفاظه المختلفة من مصادره:

طبقات ابن سعد: ٦، سنن الدارمي ١: ٧٣ ح ٢٨٥ و ٢٨٦، سنن ابن ماجة ١: ١٢ ح ٢٨، باب التّوقّي في الحديث، شرف أصحاب الحديث، للخطيب: ٩٢، جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ ٢: ١٢٠، تذكرة الحفّاظ ١: ٧، كنز العمّال ٢: ٢٨٤ - ٢٨٥/رقم ٤٠١٧.

١٨٢

نطويهم، وأمّا سائر رواته فقد احتجّا به(١) .

عجب! أُناس لهم دَويّ بالقرآن كَدَويّ النّحل، فلماذا أرسل عمر إليهم عدداً من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ألاَ يكفيهم كتاب الله تعالى أم أنّهم مفتقرون إلى من صحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلِم سننه ممّا ليس في القرآن الكريم، وسمعوا منهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيل المـُجْمَل من كتاب الله تعالى؛ فهم بهذا حملة قرآن كريم وحديث شريف، فلِمَ النهي الشديد عن حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدخول من قِبَلِ صاحب الأريكة في شراكة مع وفده في ذلك المنع؟! وما هذا التعلّل بتجريد القرآن؟! أي أن لا يتحدّثوا بأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لئلاّ يختلط بالقرآن!!

قومٌ ليسوا من البربر ولا أقاصي الصين والهند، إنّما هم جمجمة العرب وأشهر أمصارها «الكوفة» حاضرة العلم والفقهاء وبعد: فهم قوم لهم دَويّ بالقرآن كَدَويّ النَحْل - بوصف عمر -، فكيف والحال هذه يغيب عليهم ما هو من القرآن أو من غيره؟

والقرآن جاء معجزاً ببلاغته ولفظه، فكيف يجاريه حديث بشر حتّى وإن كان من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! إنّ القرآن الكريم الذي بأيدي الصحابة وبأيدي أولئك الذين لهم دَويّ بالقرآن كَدَويّ النَّحْل؛ القرآن هو نفس القرآن الذي بأيدينا اليوم، وسيبقى نفسه إذ تكفّل الله تعالى بحفظه حتّى قيام الساعة:( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢) .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١: ١٨٣/٣٤٧. قال في التلخيص ذيل المصدر: صحيح وله طرق.

(٢) الحِجْر: ٩.

١٨٣

فالقرآن غير الكتب السابقة التي امتدّت إليها يدُ التحريف والتغيير وأمّا القرآن فالإجماع حاصل على أنّه لم تزد فيه سورة ولا آية، بل ولا كلمة ولا نقطة؛ ولم يسقط منه شيء من كلّ ذلك، فهو معصوم بمشيئة الله تعالى.

إلاّ أن يكون مصحف الفاروق عمر فيه اختلاف وزيادات غابت عن أهل الكوفة وغيرهم وثبتت في مصحفه لعنايته الفائقة بالقرآن، فأراد أن يفيدهم بها - هذا في أحسن الظنّ -، فضلاً عن سوء ظنّه بالنّاس! وأنّهم سيعرض لهم ما عرض له - أي لعمر - من تجربة التهوّك، فنهره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على رؤوس الأشهاد أَخْذَه من اليهود ونبّهه أن لا يعود لمثل ذلك ولا يُلبس القرآن بغيره ممّا يجده بأيدي اليهود، لا بأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ الأخيرة لفظها مُباين لألفاظ أهل الكتاب، ولأنّ الصحابة قد سمعوها وميّزوها، وسيأتي الكلام عن التهوّك.

مُصحف عمر بن الخطّاب

عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا أفاض عمر من مِنْى أناخ بالأبطح فكوّم كَوْمة من بطحاء وطرح عليها طرف ثوبه ثمّ استلقى عليها ورفع يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ كبُرتْ سِنّي وضعُفت قوّتي وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غيرَ مضيِّع ولا مفرِّط. فلمّا قدم المدينة خطبَ الناس فقال: أيّها الناس، قد فُرضت لكم الفرائض وسُنّتْ لكم السُّنن وتُركتم على الواضحة، ثمّ صفَقَ يمينه على شماله، وقال: إلاّ أنْ تضلّوا بالناس يميناً وشمالاً، ثمّ إيّاكم ان تهلِكوا عن آية الرجم وأنْ يقول قائل: لا نُحَدّ حَدّين في كتاب الله، فقد رأيت رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله ]

١٨٤

رجم ورجمنا بعده، فواللهِ لو لا أن يقول الناس أحدثَ عمرُ في كتاب الله، لكتبتها في المـُصحف، فقد قرأناها، والشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة. قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجّة حتّى طُعن(١) .

إنّ عمر يؤكّد على مسألة خطرة تلك هي نقصان القرآن الكريم من آية فتعطّل بذلك حكم من أحكام الشريعة!

وإذا كان قد ذكر هنا أنّه قد سقطت من القرآن آية واحدة، فإنّه ذكر أنّ كثيراً من القرآن قد سقط!

«أخرج عبد الرزّاق في المصنّف عن ابن عبّاس قال: أمر عمر بن الخطّاب مناديه فنادى أنّ الصلاة جامعة، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس، لا تجزعُنّ من آية الرَّجْم، فإنّها آية نزلت في كتاب الله وقرأناها، ولكنّها ذهبت في قرآن كثير ذهب مع محمّد(٢) !!

وهنا المصيبة أعظم وأدعى من وجهين أوّلهما:

أنّه لم يكتفِ بالتشكيك بصحّة القرآن الكريم وأنّه على حاله الذي أنزله الوحي الكريم وتكفّله الربّ العظيم، فلم يشبع رغبته في ذلك آية الرجم المزعومة، وإنّما ذهب إلى القول: لكنّها ذهبت في قرآن كثير! ولم يحدّد هذا الكثير ممّا يفتح الباب لمن يزعم بعده أنّ هذا كان من القرآن وقد سقط، ويأتي بكلامٍ من عنده!

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٣: ٢٥٥.

(٢) الدرّ المنثور ٥: ١٧٩.

١٨٥

ومسألة أخرى: أنّه لم يذكر من هذا الكثير الذي كان من القرآن الكريم ثمّ سقط إلاّ آية الرجم للشيخ والشيخة، وما ذكره من سقوط سورتين من القرآن!! وتحريفه لنصّ آية - سنأتي على ذلك -؛ فلو أنّه ذكر ذلك الكثير أو الكثير من الكثير، فلعلّه أفاد المسلمين بذلك؟!

واعتراض آخر: أين غاب طليعة السبق إلى الإسلام، وأوّل سابق هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي تربّى في حِجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يفارقه ليلة الخميس فيلتحق في صفّ أهل السقيفة التي وطّأت الأمر لأهل «الأريكة»، وكانعليه‌السلام يسمع الوحي ويراه إلاّ أنّه ليس بنبيّ كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . هلاّ سمع وسمع صاحبه «أبوبكر» وأفاضل الصحابة ما سمعه عمر؟!

الطّامّة العظمى: وكما أنّ عمر كان من المتهوّكين كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كان من المفتتنين بأهل الكتاب وأحضر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نُسخاً من كتبهم أعجبته فنهره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بغضب - يأتي بيانه -، وأنّه هدم ركن النبوّة كما ذكرنا في أكثر من موضع من ذلك يوم أُحد حينما كان مع طلحة ومجموعة فلمّا سُئلوا قالوا: قُتل محمّد! ويوم الرزيّة وما أحدثه من الجَلَبة في معارضته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب وقوله: إن الرجل لَيَهْجُر، أي يهذي لا يدري ما يقول - معاذ الله -، وكما سمّاه وجماعته «محمّد»! من غير أن يكلّفوا أنفسهم أن يقولوا: قُتل رسول الله، أو قُتل نبيّ الله؛ فهو هنا أيضاً سلك ذات المسلك، فإنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل جاء بشيء اسمه قرآن فلمّا ذهب؛ وهذه لا تخلو من سوء، فهي تعني انتهى أمره ...؛ ذهب معه كثير ممّا جاء به من قرآن!.

١٨٦

وممّا جاء في مصحف عمر: ما ذكره في كنز العمّال، من مسند عمر، عن المِسْوَر بن مَخْرَمة قال: قال عمر لعبد الرحمان بن عَوْف: ألَم نجد فيما أُنزل علينا أن (جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة)؟، فإنّا لم نجدها، قال: أُسقط من القرآن(١) !.

غفرانك ربَّنا أن نقول ما قالوا، ونبرأ إليك من ذلك.

ومن ذلك: عن عَدي بن عَدي بن عَميرة بن فَرْوة(٢) عن أبيه عن جدّه، أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي: أوَ ليسَ كنّا نقرأ من كتاب الله: أنّ انتفاءكم من آبائكم كفرٌ؟ فقال: بلى، ثمّ قال: أوّ ليسَ كنّا نقرأ: الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجر؟ فُقد فيما فقدنا من كتاب الله؟ قال: بلى(٣) .

آيةٌ أُخرى

وأخرج في كنز العمّال «من مسند عمر» عن حذيفة، قال: قال عمر بن الخطّاب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلتُ: اثنتين أو ثلاثاً وسبعين، قال: كانت

____________________

(١) كنز العمّال ٢: ٥٦٧/٤٧٤١.

(٢) ذكره العجليّ فقال: ثقة (تاريخ الثقات: ٣٣٠/ ١١١٦). عمل لمر بن عبد العزيز مات سنة (١٢٠). تاريخ البخاري الكبير (٤: ١: ٤٤) والثقات، لابن حبّان ٥: ٢٧٠، الجرح والتعديل: ٧/ الترجمة ٦،

(٣) كنز العمّال ٦: ٢٠٨/ ٣٧٢١٥.

١٨٧

لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها آية الرَّجْم(١) . ومثله ذكر ابن مَرْدَويه بسنده عن حُذيفة(٢) .

وعن زِرّ - بن حُبَيْش، قال: قال لي أُبي بن كعب: يا زِرّ، كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قلتُ ثلاثاً وسبعين آية، قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة، وإن كنّا لنقرأ فيها آية الرَّجْم. وفي لفظ آخر في آخرها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله. واللهُ عزيزٌ حكيم. فرفع فيما رُفع(٣) .

وعن عمر قال: قرأ رجلان من الأنصار سورةً أقرأهما رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانا يقرآن بها فقاما يقرآن بها ذاتَ ليلة يصلّيان، فلم يقدرا على حرفٍ منها، فأصبحا غاديين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرا ذلك له فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّهما ممّا نُسخ أو نُسيَ فالْهَوا عنها(٤) .

وقد شايعه ابنُه عبد الله مع اختلاف في آخره، قال: وأُنسي. رواه الطبراني في الأوسط(٥) .

____________________

(١) نفسه ٢: ٤٨٠/٤٥٥٠، مسند أحمد ٥: ١٣٢؛ المستدرك على الصحيحين ٢: ٤١٥، و ٤: ٣٥٩، سنن البيهقي ٨: ٢١١.

(٢) نفسه.

(٣) نفسه: ٥٦٧.

(٤) مجمع الزوائد ٦: ٣١٥.

(٥) نفسه ٧: ١٥٦.

١٨٨

تحريفُ كتاب الله عزّ وجلّ

أنزل الله تعالى القرآن العظيم وتكفّل حفظَه وصَوْته من التحريف الذي مارسه اليهودُ والنصارى وغيرُهم بما أنزل الله عزّ وجلّ:( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) ،( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) (٢) ،( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٣) فالقرآن الكريم نزل به جبريل الأمين على النبيّ الصادق الأمين من لَدُن حَكيمٍ في أقواله، خبير بعواقب الأُمور. فآياته محكمة في لفظها، مصونة من أيّ دخَل؛ مفصّلة في معناها، فهو كامل صورةً ومعنىً، ولذا بقي على الصورة التي نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم محاولات البعض العبث ببعض ألفاظه فذهبت محاولاتهم هباءً منثوراً.

محاولات البعض: من طُرُقٍ مختلفة، أنّ عمر بن الخطّاب كان يقرأ «فاسعوا» في سورة الجمعة «فامضوا».

ذكر مالك في الموطّأ، قال: حدّثني يحيى عن مالك أنّه سأل ابن شهاب - الزهريّ - عن قول الله عزّ وجلّ( يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى‏ ذِكْرِ اللّهِ ) (٤) الآية؛ فقال ابن شهاب: كان عمرُ بن الخطّاب يقرؤها: إذا

____________________

(١) الحِجْر: ٩.

(٢) يونس: ١.

(٣) هود: ١.

(٤) الجُمعة: ٩.

١٨٩

نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله.(١)

ومثله ذكر البخاري(٢) .

وأخرج الطبريّ بسنده، قال: حدّثنا عبد الحميد بن بيان السكّريّ، قال: أخبرنا سفيان، عن الزُهريّ، عن سالم - بن عبد الله بن عمر -، عن أبيه، قال: ما سمعتُ عمر يقرؤها قطّ إلاّ فامضوا(٣) .

والطبريّ: حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا ابن عَديّ، عن شُعبة، قال: أخبرني مغيرة، عن إبراهيم أنّه قيل لعمر: إنّ أُبيًّا يقرؤها: «فاسعوا»، قال: أما إنّه أقرؤنا وأعلمـُنا بالمنسوخ، وإنّما هي «فامضوا»(٤) .

هذا بعضُ ما ورد عن عمر بشأن القرآن؛ فجمع بذلك أمرين:

الأوّل: هو المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومارسه عمليّاً بجمع كتب الحديث لدى الناس فأحرقها، ففُقد بذلك كثير من أحكام الله تعالى!.

والثاني: نسبته إلى القرآن ما ليس منه، وتحديّه للهِ تعالى بهتكه حُرمة القرآن الكريم، بزعمه سقوط الكثير منه، فخالف بذا وذا قول الله تعالى بتكلّفه صَوْن القرآن وحفظه.

ولعلّ ما كان من عمر بشأن القرآن هو الذي شجّع غيره على ممارسة

____________________

(١) المـُوطّأ، لمالك ١: ١٠٦/١٣.

(٢) صحيح البخاري ١: ١٠٦/١٣ - باب تفسير القرآن -.

(٣) تفسير الطبريّ ٢٧: ١٢٧/٢٦٤٢٨.

(٤) نفسه/٢٦٤٢٩.

١٩٠

إساءاتٍ في تحريف بعض آيات القرآن المبين؛ أو تأييد قول عمر، وقد ذكرنا قول أُبيّ بن كعب: إنّ سورة الأحزاب كانت أطول من سورة البقرة، ثمّ زعم أنّ آية الرَّجْم منها؛ وهو قول عمر، ثمّ قرأ آيةً مفتعلة.

وذكرنا تأييد ابن عمر لأبيه في زعمه أنّ سورتين من القرآن نُسختا أو نُسيتا.

أُمّهات المؤمنين يُحرّفن آية

حدّث يحيى بن يحيى التميميّ، قال: قرأتُ على مالك عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي:( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ) (١) ، فلمّا بلغتُها آذنتُها فأملت عليَّ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت عائشة: سمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وبسندين عن أمّ حميد بنت عبد الرحمان، أنّها سألت عائشة عن الصلاة الوسطى، قالت: كنّا نقرؤها في الحرف الأوّل عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، «وحافظوا على الصلوات الوسطى صلاةِ العصر وقوموا لله قانتين»(٣) .

____________________

(١) البقرة: ٢٣٨.

(٢) تفسير الطبريّ ٢: ٦٦٥، و ٦٧٥.

(٣) نفسه ٢: ٦٦٥.

١٩١

وعن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حَفْصة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها قالت لكاتبِ مصحفها: إذا بلغتَ مواقيتَ الصلاة فأخبرني حتّى أُخبرك بما سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أخبرها، قالت: اكتب، فإنّي سمعتُ رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله - يقول: «وحافظوا على الصّلاة والصّلاة الوسطى وهي العصر»(١) .

أيضاً عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أن حَفْصة أمرت مولىً لها أن يكتب مصحفاً فقالت: إذا بلغت هذه الآية( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ) فلا تكتبها حتّى أمليها عليك! كما سمعتُ رسول الله يقرؤها، فلمّا بلغها أمرته فكتبها «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر». قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدتُ فيه الواو(٢) .

ومن الصحابة ممّن اقتدى بأُمّهات المؤمنين ثمّ رجع عن ذلك:

البَراءُ بن عازِب، قال: نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة العصر»، قال: فقرأتُها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نقرأها، ثمّ إنّ الله نسخها فأنزل:( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ) (٣) .

أحاديث التهوّك

كان من المبرّرات التي احتجّ بها عن لمنع تدوين الحديث، وشايعه آخرون

____________________

(١) نفسه: ٦٦٦.

(٢) تفسير الطبريّ ٢: ٢٧٤.

(٣) نفسه: ٦٧٣.

١٩٢

على ذلك، هو التخوّف من ترك القرآن والاشتغال بغيره، ذلك قوله: «إنّي كنتُ أردتُ أن أكتب السنن، وإنّي ذكرتُ قوماً كانوا قبلكم كبتوا كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتابَ الله تعالى، وإنّي - والله - لا ألْبس كتابَ الله بشيءٍ أبداً»(١) .

وكان عبد الله بن مسعود يؤكّد على تبرير المنع بهذا.

عن إبراهيم التميميّ، قال: بلغَ ابنَ مسعود أنّ عند ناسٍ كتاباً يُعجبون به، فلم يزل معهم حتّى أتوه به فمحاه، ثمّ قال: إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كُتب علمائهم، وتركوا كتاب ربّهم(٢) .

والرّوايات عن ابن مسعود في هذا الميدان عدّة نكتفي بالرّواية السابقة وما سنذكره من رواية:

عن سليم بن الأسود، قال: كنتُ أجالس أباناً في المسجد، فأتيتُهم ذات يوم، فإذا عندهم صحيفة يقرؤونها، فيها ذِكرٌ، وحمدٌ، وثناءٌ على الله، فأعجبتني، فقلتُ لصاحبها: أعطنيها، فأنسخها.

قال: فإنّي وعدتُ بها رجلاً، فأعدّ صحفك، فإذا فرغ منها، دفعتُها إليك.

فأعددتُ صحفي، فدخلتُ المسجدَ ذات يومٍ، فإذا غلامٌ يتخطّى الخَلْق، يقول: أجيبوا عبد الله بن مسعود في داره.

فانطلق الناس، فذهبتُ معهم، فإذا تلك الصحيفةُ بيدِه، وقال: ألاَ إنّ ما في هذه الصحيفة فتنة، وضلالة، وبِدعة، وإنّما هلك مَن كان قبلكم من أهل الكتب -

____________________

(١) تقييد العلم: ٤٩.

(٢) سنن الدارمي ١: ١٠٠ ح ٤٧٥.

١٩٣

باتّباعهم الكتب، وتركهم كتاب الله، وإنّي أُحرّج على رجلٍ يعلم منها شيئاً إلاّ دلّني عليه، فوالذي نفسُ عبد الله بيده، لو أعلم منها صحيفة بدَيْر هندٍ لأتيتُها، ولو مشياً على رجلي، فدعا بماءٍ فغسل تلك الصحيفة(١) .

وروى الدارميّ ذلك، ومحتوى الكتاب في روايته: «سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر». فقال عبد الله: إنّ ما في هذا الكتاب: بدعة، وفتنة، وضلالة، وإنّما أهلك من كان قبلكم هذا وأشباه هذا، إنّهم كتبوها، فاستلذّتها ألسنتُهم واُشربتها قلوبُهم(٢) .

وعن أبي موسى الأشعريّ، قال: إنّ بني إسرائيل كتبوا كتاباً واتّبعوه، وتركوا التوراة(٣) .

وقد ذكر الخطيبُ البغداديّ هذا التبرير، وقال: فقد ثبت أنّ كراهة مَنْ كره الكتابَ من الصدر الأوّل إنّما هي لئلاّ يُضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يُشتغل عن القرآن بسواه.

ونُهي عن الكتب القديمة أن تُتّخذ، لأنّه لا يُعرف حقّها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أنّ القرآن كفى عنها، وصار مهيمناً عليها(٤) .

____________________

(١) تقييد العلم: ٥ - ٦٥.

(٢) سنن الدارمي ١: ١٠٢ ح ٤٨٥.

(٣) تقييد العلم: ٥٦.

(٤) نفسه: ٥٧.

١٩٤

نقدُ التبرير

أوّلاً: لا يخفى أنّ بعض هذا التبرير حقّ، وبعضه باطلٌ، وقد أراد أصحابه الخلط بينهما؛ فالمفروض في كلامهم أمران:

١ - إنّ ترك القرآن منهيّ عنه، وحرامٌ شرعاً.

وهذا حقّ لا ارتياب فيه.

٢ - إن الاشتغال بغير القرآن يؤدّي إلى ترك القرآن، وهو أيضاً حرام، وهذا ليس بإطلاقه صحيحاً، بل:

إن كان الاشتغال بغير القرآن مؤدّياً إلى ترك القرآن، كان حراماً. وإلاّ، فإنْ لم يكن الاشتغالُ بغير القرآن  مؤدّياً إلى ترك القرآن، فهو ليس بحرامٍ قطعاً!

فانظر رحمك الله! مَن جعل الفرض الأوّل، كالفرض الثاني - في الحكم - وإطلاق أنّهما يؤدّيان إلى ترك القرآن، فهو خلطٌ بين حقّ وباطل وإيهام وإغراء قبيح!

ونجدهم قد استعملوا كلمات «الاشتغال» و «الانكباب» و «الانهماك» ليضخّموا ويهوّلوا الأمر ويزيدوه تبشيعاً.

وإلاّ، فليس في مجرّد كتابة شيءٍ من الحديث «اشتغال» أو «انكباب» أو «انهماك» عن القرآن، ولا يؤدّي إلى «ترك» القرآن.

ومن هنا، نجد بشاعة قول ابن مسعود: إنّ الصحيفة المحتوية على قول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر» بدعة وفتنة وضلالة!! ولماذا، متى كانت هذه الكلمات الأربع باطلة؟! وهي من الأذكار التي جاء بها الإسلام،

١٩٥

ومفرداتها إنّما هي كلماتٌ وجُمَل من القرآن، توحيد لله تعالى وتسبيح وحمدٌ وتكبير؛ فأيّ باطل فيها، وكيف تُؤدّي إلى ترك القرآن؟!

ثانياً: إن ترك القرآن - وهو فعل محرّم باطل عند المسلمين - مَن هو المتّهمُ به من بين المسلمين الذين أرادوا جمع الحديث، وتأليفه، وتدوينه وتقييده؟ وهم في ذلك العصر، بين صحابيّ جليل، أو تابعيّ فاضل، أو مؤمن طالب للعلم الذي هو حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أو كلمة ذكرٍ وثناءٍ وتمجيدٍ لله، كما كان في صحيفة ابن مسعود؟

أليس اتّهام أهل تلك الطبقة، اتّهاماً لأهل خير القرون وهم سلف المسلمين وهتكاً لحرماتهم؟

فلا يبقى مَن يتصوّر أنّ ترك القرآن والاشتغال بغيره بحقّهم، إلاّ القلائل من الشذّاذ الجهلة، أو الذين دخلوا الإسلام طمعاً أو خوفاً، أو بغرض التشويش بين المسلمين كالمتهوّكين، وخاصّة من أهل الديانات الأُخرى وحتّى من الجاهليّة، ممّن لم يكن يرغب في تدوين السنّة وكتابة الحديث قطعاً!

ثالثاً: إنّ ما يؤدّي إلى ترك القرآن من الكتب هو ما كان منافياً للقرآن في أهدافه ومحتوياته، من عقائد، وأحكام، وأخبار. وأشهرها آنذاك كتب الضلالة التي كان يتداولها أهل الكتاب من يهود ونصارى، وهي: التوراة، والإنجيل المحرّفان، وما دار حولهما من أساطير.

وقد جاء التصريح بذلك في أكثر كلمات المانعين بهذا التبرير. فقد ذكر عمر

١٩٦

ذلك - لما أحرق كتب الناس - فقال: اُمنية كاُمنية أهل الكتاب(١) ، أو: مثناة كمثناة أهل الكتاب(٢) .

ويلاحظ أنّ كلمة «مشناة» إنّما هو مصطلح يهوديّ عبّروا به عن التوراة المبدّلة المحرّفة، في قبال التوراة التي لم تبدّل، وقد فسّر الكلمة بهذا المعنى أبو نعيم الإصفهاني(٣) .

وكان ابن مسعود تلميذ عمر في هذه السياسة لا يتخطّاها. وقد علّق مُرَّة - الذي نقل عن ابن مسعود أنّه محا كتاباً - بقوله: «لو كان من القرآن أو السنّة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب»(٤) .

ولا ريب أنّ الاعتماد على كتب أهل الكتاب يؤدّي إلى ترك القرآن، لما بين القرآن وتلك الكتب من التنافي البيّن.

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٢.

(٢) طبقات ابن سعد ٥: ١٤٠ - طبع ليدن -، والصواب (مشناه) ويلاحظ أن عمر هو أوّل مَن أطلق (مشناه) على السنّة المحمّديّة والحديث النبويّ، حيث استعملها في مقام تشبيه ما كتبه الناس من الحديث بما كتبه اليهود.

ولاحظ بهذا الصدد: الإسلام عقيدةً وشريعة لمحمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر (٤٩٢ - ٤٩٤)، والسنّة النبويّة وعلومها لأحمد عمر هاشم (١٨ - ١٩). وعن ارتباطه بالتوراة وسائر الكتب اليهوديّة، وبأحبار اليهود في المصنّف، لعبد الرزّاق (١٠: ٣١٣) وسنن الدارمي (١: ١١٥) وتقييد العلم: ٥٢.

(٣) دلائل النبوّة، لأبي نعيم - طبعة حلب: ٦٣٨، ذيل رقم ٤٢٨.

(٤) سنن الدارمي ١: ١٠٢.

١٩٧

فالقرآن جاء ناسخاً لتلك الكتب، والإسلام جاء ناسخاً لتلك الأديان. مع عدم وضوح ما في تلك الكتب من الحقّ والباطل، وكفاية القرآن عن حقّها - كما يقول الخطيب البغداديّ(١) .

ويكون نفس الالتزام بتلك الكتب دليلاً على الضلال، حيث يكون الملتزم بها غير مُعتقدٍ بحقّية القرآن أو بطلان تلك الكتب، أو أنّ ميله إليها وإعجابه بها - على الأقلّ - يكشف عن تردّده في الإسلام، وشكّه في القرآن، وهو «التهوّك» الذي أغضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحذّر عنه بأساليب، هذه بعض الروايات في ذلك:

١ - روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا نسمع أحاديث من يهود، تُعجبنا! أفترى أن نكتبّها؟

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أمُتَهوِّكُون أنتم؟ كما تَهَوَّكَتْ اليهودُ والنصارى، لقد جِئْتُكم بها بيضاءَ نقيّةً(٢) .

٢ - روى الخطيب البغداديّ بسنده، عن عبد الله بن ثابت الأنصاريّ - خادم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - قال: جاء عمر بن الخطّاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه «جوامع من التوراة» فقال: مررتُ على أخٍ لي من قُريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، أفلا أعْرضُها عليك؟

فتغيّر وجهُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال الأنصاريّ: أما ترى ما بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال عمر: رضيتُ باللهِ ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمّدٍ رسولاً.

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٧.

(٢) تقييد العلم: ٥٧.

١٩٨

فذهب ما كان بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده لو أنّ موسى أصبحَ فيكم ثمّ اتّبعتموه وتركتموني لَضللتم؛ أنتم حظّي من الأُمم وأنا حظّكم من النبيّين(١) .

وعن بعض المصادر: إنّ الذي ردّ على عمر هو عبد الله بن زيد - الذي اُري الأذان - قال لعمر: أمسَخَ اللهُ عقلك؟ ألا ترى الذي بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

٣ - وقال عمر: انطلقتُ أنا، فانتسختُ كتاباً من أهل الكتاب، ثمّ جئتُ به في أديمٍ.

فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا في يدك يا عمر؟

قلتُ: يا رسول الله، كتابٌ انتسختُه، لنزداد به علماً إلى علمنا! فغضبَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى احمرّت وجنتاه، ثمّ نُودِيَ بـ «الصلاة جامعة».

فقالت الأنصار: أُغضِبَ نبيّكم صلّى الله عليه، السلاحَ السلاحَ، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال: يا أيّها الناس، إنّي اُوتيتُ جوامع الكلم وخواتيمه، واختُصر لي اختصاراً، ولقد أتيتُكم بها بيضاء نقيّة، فلا تتهوّكوا، ولا يقربنّكم المتهوّكون. قال عمر: فقمتُ، وقلتُ: رضيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً! ثمّ نزل رسول

____________________

(١) الأسماء المبهمة، للخطيب: ١٨٨ - ١٨٩ رقم ٩٥، مجمع الزوائد ١: ١٧٤ عن أبي الدرداء. وفي ثلاث روايات برقم ١٠١٦٣ - ١٠١٦٥ - والمعترض على عمر في الثانية (عبد الله بن ثابت).

(٢) الأسماء المبهمة، للخطيب البغداديّ: ١٨٩، رقم ٩٥.

١٩٩

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

٤ - وروى ابن أبي شيبة، بسنده عن جابر: أنّ عمر بن الخطّاب أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب، فقال: يا رسول الله، إنّي أصبتُ كتاباً حسناً من بعض أهل الكتاب إلى آخره(٢) .

٥ - روى أبو داود عن أبي قلابة: أنّ عمر مرّ بقوم من اليهود، فسمعهم يذكرون دعاءً من التوراة، فاستحسنه، ثمّ جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يقرؤه، ووجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتغيّر.

فقال رجل: يا ابن الخطّاب، ألا ترى ما في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فوضع عمر الكتاب.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّ وجلّ بعثني خاتماً، واُعطيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي الحديث اختصاراً، فلا يُلهِيَنّكم المتهوِّكون؟

قلت لأبي قلابة: ما المتهوّكون؟

قال: المتحيّرون(٣) .

٦ - ذكر عبد الغني عبد الخالق رواية عن الدارميّ، عن جابر بن عبد الله: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أتاه عمر فقال: إنّا نسمع أحاديث من يهود تُعجبنا، أفَترى أن نكتب بعضها؟

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٢، وجامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ ٢: ٤٢.

(٢) المصنّف، لابن أبي شيبة ٩: ٤٧ رقم ٦٤٧٢، مجمع الزوائد ٨: ٢٦٢، جامع بيان العلم ٢: ٤٢.

(٣) المراسيل، لأبي داود السجستاني ٣: ٢٢٤، رقم ١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) )

التّفسير

ظهرت علامات القيامة!

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا ، في حين لا نرى أثرا

٣٦١

للحديث حولهم في السور المكية ، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة ، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار ، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم ، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين ، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهدا في التآمر ضد الإسلام ، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها ، يعتبرون سندا للمنافقين.

وعلى أي حال ، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين ، وكانوا يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاركون في صلاة الجمعة ، إلّا أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.

تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفا» من مادة (أنف) ، ولما كان للأنف بروزا متميّزا في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

ثمّ إنّ التعبير بـ( لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي ، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان ، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا ، فقال : إنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن غامضا ولا معقّدا ، بل( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاولى ، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها ، ويلقي الحجاب على قلبه ، بحيث

٣٦٢

أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم ، فلا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء.

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) .

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم ، وألقى نور الإيمان في قلوبهم ، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.

وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى ، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية ، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.

إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة ، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل ، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوما بعد يوم ، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.

وتحذّر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) .

أجل ، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم ، ومفيدا لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.

إنّ هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان : أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت ، ولا ينفع حينئذ علاج ، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة ، فإنّ السعي الآن ذو فائدة ،

٣٦٣

وبعد اليوم لا ينفع.

«الأشراط» جمع (شرط) ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا ، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة ، في هذا الباب. إلّا أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لذلك الحديث المروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر» ، وقسما آخر من حوادث عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشراط الساعة أيضا.

لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب ، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة ، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنا»(٢) .

بل ، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة ، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.

لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة ، فنسأل : ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هو ما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة ، وسنشير إليها فيما يأتي(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، وتفاسير أخرى ، في ذيل الآيات مورد البحث ، بتفاوت يسير في التعبير.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٧.

(٣) يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة : (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة وظهورها في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد أنّ بعضها قد ظهر ، وهو يخبر عن اقتراب القيامة ، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.

٣٦٤

هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟

يطرح هنا سؤال ، وهو : كيف عدوا ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علامات اقتراب القيامة ، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة ، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها ، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جدا ، وهو سريع الانقضاء ، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب ، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلّا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلّا اليسير»(١) .

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفّار :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبناء على هذا ، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالما بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الحمد ، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ، والارتقاء إلى المقامات الأسمى ، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ، عامل يؤثر بحدّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٤٨.

٣٦٥

والتّفسير الثّالث أنّ المراد : الجوانب العملية للتوحيد ، أي : اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ، فالتجئ إليه ، ولا تطلب حل معضلاتك إلّا منه ، ولا تخف سيل المشاكل ، ولا تخش كثرة الأعداء.

ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ، فتقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) .

لا يخفى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(١) . وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.

إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ، فإنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.

وهنا نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة ، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعا.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلّة( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٦٦

ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديهو وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ، و «المثوى» هو محل الاستقرار(١) .

والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور ، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة :

فقال بعضهم : إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ، وسكونه في الليل.

وقال آخرون : إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ، واستقراره في الآخرة.

وقال بعض آخر : إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وثباته في القبر.

وأخيرا ذكر البعض أنّ المراد : حركاته في السفر ، وسكناته في الحضر.

ولكن كما قلنا ، فإنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ هذه المعاني.

* * *

بحث

ما هي أشراط الساعة؟

قلنا سابقا : إنّ الأشراط جمع شرط ، وهي العلامة ، ويقال لعلامات اقتراب القيامة : أشراط الساعة ، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنّة ، ولم يشر القرآن إليها إلّا في هذه الآية.

ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب ، الحديث الذي رواه ابن

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان ، إلّا أنّ جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.

٣٦٧

عباس عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية حجّة الوداع ، وهو يعلّمنا كثيرا من المسائل ، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة ، ولهذا نورده كاملا :

قال ابن عباس : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ـ فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : «ألا أخبركم بأشراط الساعة»؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه فقال : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون

٣٦٨

المطر غيضا ، ويغيض الكرام غيضا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق ، قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا : لم أربح شيئا ، فلا ترى إلّا ذاما لله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق ، وشيء من المغرب [فقوانين من الشرق ، وقوانين من الغرب] يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، ولا يتجافون عن مسيء ، جثّتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن] فعليهن من أمّتي لعنة الله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويتّخذون جلود النمور صفافا».

٣٦٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالعينة والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد ، ولن يضرّوا الله شيئا [وإنّما يضرّون أنفسهم]».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم أشرار أمّتي».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يحج أغنياء أمّتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأمة ، ويظهر قرّاؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها لا يخشى الغني على الفقير ،

٣٧٠

حتى أنّ السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يتكلم الرويبضة».

قال سلمان : ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟

قال : «يتكلّم في أمر العامة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة ، فلا يظن كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها» قال : «ذهبا وفضة» ، ثمّ أومأ بيده إلى الأساطين ، فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ـ ويحل أمر الله ـ فهذا يعني معنى قوله :( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، وتفسير الصافي ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٧١

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

التّفسير

يخافون حتى من اسم الجهاد!

تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

٣٧٢

تقول الآية الأولى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلّادين الذين لا منطق لهم سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا ، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج ، هذا حال المؤمنين.

وأمّا المنافقون :( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع ، ويضطرب كيانهم أجمع ، وتتوقف عقولهم عن التفكير ، وتتسمّر عيونهم ، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت ، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد ، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به ، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته ، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان الشرف والفضيلة ، ميدان تفجّر الاستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.

إلّا أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!

والمراد من «السورة المحكمة» ـ باعتقاد بعض المفسّرين ـ هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التّفسير ، بل الظاهر أنّ «المحكم» هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع ، والخالي من أي غموض أو إبهام ، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحيانا ، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي ، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر ، إلّا أنّها ليست منحصرة فيه.

والتعبير بـ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن

٣٧٣

المنافقين عادة ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن ، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها ، التي تتحدّث جميعا عن المنافقين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة ، فتقول :( فَأَوْلى لَهُمْ ) .

إنّ جملة( فَأَوْلى لَهُمْ ) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(١) .

وفسّرها البعض بأنّها تعني : الموت أولى لهم ، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.

وتضيف الآية التالية :( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) (٢) .

إنّ التعبير بـ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد ، فقد كانوا يقولون تارة( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (٣) ، وأخرى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (٤) ، وثالثة كانوا يقولون :( هَلُمَّ إِلَيْنا ) (٥) ، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.

ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد ، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد ، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) وسيرفع

__________________

(١) اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح : يليه مكروه ، وهو يعادل معنى ويل لهم.

(٢) (طاعة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل لهم ، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف ، وكان التقدير : أمرنا طاعة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٣) التوبة ، الآية ٨١.

(٤) الأحزاب ، الآية ١٢.

(٥) الأحزاب ، الآية ١٨.

٣٧٤

رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة( عَزَمَ الْأَمْرُ ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّا أنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) (١) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتما ، ولم يكن في الجاهلية إلّا الفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.

غير أنّ كثيرا من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية» ، أي : الحكومة ، فيكون المعنى : إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلّا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.

وكأنّ جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم ، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟

فيجيبهم القرآن قائلا : ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم ، ولم يظهر منكم إلّا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلّا تذرّع وتهرّب ، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة ، لا الفساد في الأرض ، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود ، لا قطع الرحم.

وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية في بني

__________________

(١) بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية ، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها ، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض) ، والتقدير : إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلّا الفساد في الأرض؟

٣٧٥

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا ، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(١) .

من المعلوم أنّ بني أمية جميعا ، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده ، كانوا مصداقا واضحا لهذه الآية ، وهذا هو المراد من الرواية ، إذ أنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفسادا في الأرض ، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة!

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين ، أنّه قال لولده الإمام الباقرعليه‌السلام : «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللهعزوجل في ثلاثة مواضع ، قال اللهعزوجل : فهل عسيتم ...»(٢) .

«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء ، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.

وجاء في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة : مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم»(٣) .

__________________

(١) راجع : نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤٠.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، باب «من تكره مجالسته» ، الحديث ٧. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (٢٥) من سورة الرعد ، والأخرى الآية (٢٧) من سورة البقرة ، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا ، وفي الأخرى كناية وتلميحا.

(٣) التّفسير الأمثل ذيل الآية (٧٧) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).

٣٧٦

ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم ، وطردهم من رحمته ، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق ، لا يستلزم الجبر ، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم ، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ؟

نعم ، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين : إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن ، برنامج الهداية الإلهية ، والوصفة الطبية الشافية تماما ، أو أنّهم يتدبّرونه ، إلّا أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل ، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.

وبتعبير آخر ، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات ، فلا سراج في يده ، ولا هو يبصر إذ هو أعمى ، فلو كان معه سراج ، وكان مبصرا ، فإنّ الاهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

«الأقفال» جمع قفل ، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع ، أو من القفيل ، أي الأشياء اليابسة ، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل ، فكلّ من يأت يقفل راجعا ، وكذلك لمّا كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شيء ، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.

* * *

بحث

القرآن كتاب فكر وعمل :

تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب ، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر ، والتدبّر في عواقب الأمور والإنذار ، وإخراج البشر من الظلمات ، والشفاء والرحمة والهداية.

٣٧٧

فنقرأ في الآية (٥٠) من سورة الأنبياء :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة ص :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) .

وجاء في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

وأخيرا ، جاء في الآية (٨٢) من سورة الإسراء :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كلّ أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكنّ ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلّا على أنّه مجموعة أوراد وأذكار ، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجرّدة ، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت ، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر ، واكتفوا بترديد ألفاظه ، وقنعوا بذلك.

والجدير بالانتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة : إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن ، فلاقوا هذا المصير الأسود.

«التدبّر» من مادة دبر ، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه ، بعكس «التفكر» الذي يقال غالبا عن علل الشيء وأسبابه ، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.

لكن ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت

٣٧٨

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق ، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.

وما أروع كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبته حول صفات المتّقين ، إذ يقول : «أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطّلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(١) .

حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) : «إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول اللهعزوجل :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٢) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ، المعروفة بخطبة همام.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤١.

٣٧٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) )

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن :

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ) .

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432