ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه12%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169423 / تحميل: 5916
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

جملة عارضة:

لقد بدأ ابن تيميه كلامه بنفي الثابت، وإثبات المنفي، ومحاولة النيل من شخص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وتفضيل الخوارج وبني أميّة على شيعة عليّ وأهل بيت النبوّة الطاهر؛ إلاّ أنّه، ولدفع دَخَلٍ، قد ذكر في تفريعه الثاني «أنّ إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عليّاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسوله حقّ»، وعقّب بعدها بشتم الشيعة والتشكيك بإيمان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام !

نقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث من بعث، لم يقل بشأن أحدٍ منهم، ما قاله بحقّ عليّعليه‌السلام ، فماذا يعني ذلك؟ ولقد قرنصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الحبّ الخاصّ بتحقيق النّصر والفتح على يَدي عليّعليه‌السلام ؛ ولذا لسنا - بعد هذا - بحاجة إلى شهادة ابن تيميه وأضرابه!

الخوارج

أفصح ابن تيميه عمّا في نفسه فألقاه على لسان الخوارج ليقول بردّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وموته على الكفر!

وقبل الحديث حول الخوارج وما جاء فيهم من أحاديث توجب قتلهم، وأنّ لقاتلهم من الأجر الجزيل، نذكر طرفاً من أخبارهم تُظهر جهالتهم وأنّهم رجال سوء؛ ومع ذلك لم نجدهم قد كفّروا أميرالمؤمنينعليه‌السلام . فمِن خبرِهم: بعد أن فرغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام من قتال (الناكثين) أهل الجَمَل، بدأت فتنة (القاسطين) في الشام، فقد أعلن معاوية تمرّده وخروجه على أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فكانت

١٠١

وقعة صفّين، وكانت أشدّ أيذامها هي الواقعة الخميسيّة، نسبةً إلى اليوم الذي حصلت فيه وهو: يوم الخميس؛ وتسمّى أيضاً «ليلة الهرير»؛ سمّيت بذلك لشدّتها، حيث جعل بعضهم يهرّ على بعض، ويعتنق بعضهم بعضاً، وجعل عليّعليه‌السلام يقف ساعةً بعد ساعةٍ ويرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «اللّهمّ إليك نُقِلَت الأقدام، وأفضت القلوب، ورُفعت الأيدي، وامتدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وطُلبت الحوائج...»« رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (١) .

ثمّ إنّه حمل في سواد اللّيل وحملت مع الناس، فكلّما قتل بيده رجلاً من أهل الشام كبّر تكبيرة، حتّى أحصي له ما يزيد على خمسمائة تكبيرة، في كلّ تكبيرة له قتيل(٢) .

رفعُ المصاحف

صبيحة تلك اللّيلة، كاد أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحسم المعركة بالنصر المؤزّر ويُنهيَ الفتنة، وقد أشرف مالك الأشتر على دخول عسكر معاوية. وهنا وقعت الفتنة، إذ قال معاوية لعمرو بن العاص: ويحك أبا عبدالله! أين حيَلُك التي كنتُ أعرفها منك؟ فقال عمرو: تريد ماذا؟ قال: أُريد أن تسكّن هذه الحروب؛ فقد أُبيد أهل الشام. فقال عمرو: إن أحببتَ فأمر بالمصاحف أن تُرفع على رؤوس الرماح، ثمّ ادعهم إليها. فأمر معاوية بالمصاحف فرفعت على رؤوس

____________________

(١) الأعراف: ٨٩.

(٢) وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ت ٢١٢ هـ) ٤٧٧، وفي الفتوح لابن أعثم (ت ٣١٤ هـ) قال: خمسمائة تكبيرة وثلاثٌ وعشرون تكبيرة (الفتوح ٢: ١٧٨).

١٠٢

الرماح، وصاح أهل الشام: يا عليّ اتّق الله أنت وأصحابك في هذه البقيّة، هذا كتاب الله بيننا وبينكم(١) .

الفتنة

في هذه المرحلة الحاسمة، وقع اللّجاج في صفوف جيش أميرالمؤمنينعليه‌السلام في شأن المصاحف المرفوعة؛ فالذين ملّوا الحرب وفي نفوسهم مرض تداعوا مطالبين أميرالمؤمنينعليه‌السلام بوقف الحرب والإجابة إلى حُكم القرآن! فقال لهم: «ويحكم! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعُني في ديني أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنّما قاتلتهم ليدينوا بحُكم القرآن، فإنّهم قد عصَوُا الله فيما أمرهم فيه، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون»(٢) .

إلاّ أنّ الفرقة المارقة أصرّت على موقفها وحملته على أن يبعث إلى الأشتر وبذلك انقلب الموقف ونجا معاوية الذي كان يمنّي نفسه الفرار، فلقد كان بعد ذلك يقول: «واللهِ رجع عنّي الأشتر يوم رفع المصاحف، وأنا أُريد أن أسأله أن يأخذ لي الأمان من عليّ، وقد هممتُ بالهرب»(٣) .

____________________

(١) الفتوح ٢: ١٧٩، وفي وقعة صفّين بتوسّع واختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) وقعة صفّين ٤٨٩ - ٤٩٠، الفتوح ٢: ١٨٣، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢١٧.

(٣) الفتوح ٢: ١٨٥.

١٠٣

الهُدنة

بعد الذي كان من المارقين، توقّف الناس عن القتال وجرت مكاتبات طويلة انتهت بالاتّفاق على عقد هدنة مدّتها سنة، وكتبوا بذلك كتاباً وموثقاً وتقرّر أن يعيّن كلُّ فريق حكماً يرضون حكمه. فاختار أهل الشام: عمرو بن العاص، واختار الأشعث والذين صاروا خوارج بعد ذلك أبا موسى الأشعريّ، رغم رفض أمير المؤمنينعليه‌السلام له!

رفض التحكيم

بعد كتابة الكتاب وشهادة الشهود؛ خرج الأشعث بنسخةٍ منه يقرؤها على الناس، فتعالت أصوات المخالفين لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لا حُكم إلا لله، الحُكم لله يا عليّ لا لك! لا نرضى أن يُحكِّم الرّجال في دين الله، وقد كنّا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا خطأنا وزللُنا فرجعنا إلى الله وتبنا! فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا، وتُبت إلى الله كما تُبنا، وإلاّ برئنا منك!

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ويحكم! أبعدَ الرّضى والميثاق والعهد نرجع؟!

أليس الله تعالى قد قال:« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ، وقال:« وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » (٢) . فأبى عليّعليه‌السلام أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، فبرِئتْ من

____________________

(١) وقعة صفّين ٤٠٨ - ٥٥٢، الفتوح ٣: ٣١٨ - ٣٢٥ و ٤: ٨٩ - ٩٠، وشرح نهج البلاغة ٢: ٢٩.

١٠٤

عليّعليه‌السلام ، برئ عليّ منهم.

فلمّا رجع أهل العراق لعراقهم، وأهل الشام لشامهم، انحاز مخالفوا أمير المؤمنينعليه‌السلام وساروا حتّى نزلوا بحروراء، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء(١) .

وقفة تأمّل

إن الخوارج الذين أقامهم ابن تيميه بيّنةً على تضليل الشيعة وتكفير أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ قد وجدناهم غارقين في وحل جهل مظلم وأعرابيّة غليظة أوردتهم المهالك! فهم الذين حملوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام على قبول التحكيم عملاً منهم بخديعة ابن العاص، ورفضوا عبد الله بن عبّاس الذي اختاره عليٌّ حكماً له، وأصرّوا على أبي موسى الأشعريّ ولم يكن موضع رضى أميرالمؤمنين لأسبابٍ بيّنها لهم، فإذا صار التحكيم والاتّفاق على عقد هدنة أمدها سنة؛ رفضوا التحكيم! وحجّتهم أنّه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله! إلاّ أنّهم كانوا أصدق من ابن تيميه إذ ردّوا الخطأ إلى أنفسهم، ولكنّهم انتقلوا إلى مفارقة أُخرى.

فقد طلبوا من أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يتوب من ذنب ارتكبوه هُم! فينقض العهد والميثاق بعد توكيده، فأبىعليه‌السلام مستدلاًّ عليهم بكتاب الله؛ فلمّا انتهوا إلى الحدّ هذا؛ فارقوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وعاثوا فساداً؛ والمرء مع من أحبّ!

١٠٥

مناظرة ابن عبّاس للخوارج

بعد انحياز الخوارج إلى حروراء، قرية قرب الكوفة، بعث أمير المؤمنين إليهم ابن عبّاس ليناظرهم، فأقبل عليهم ابن عبّاس وطلب أن يخرج إليه رجل منهم ليكلّمه، فخرج إليه: عتاب بن الأعور الثعلبيّ، فحاججه ابنُ عبّاس حتّى ألزمه الحجّة، وحمله على أن يقول: إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، ويحك يا ابن عباس! احتلتَ واللهِ حتّى أوقعتني في أمر، وألزمتني الحجّة حتّى جعلتني ممّن أُخرّب دار الله. لكن ويحك يا ابن عبّاس! فكيف التخليص ممّا أنا فيه؟ قال ابن عبّاس: الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخْربته الأمّة من دار الإسلام. قال: فدُلّنيعلى السّعي في ذلك. قال ابن عبّاس: إنّ اوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديَه، وتعلم من يريد عمارتها فتُواليَه. قال: صدقت يا ابن عبّاس، واللهِ ما أعرفُ أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، لو لا أنّه حكّم عبد الله بن قيس(١) في حقٍّ هو لَهُ!...؛ فصاحت الخوارج: هيهات يا ابن عبّاس! نحن لا نتولّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ويسمع من كلامنا.

فخرج عبد الله بن عبّاس إلى عليّعليه‌السلام ، فخبّره بذلك، فركب إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتّى وافاهم بحروراء، فلمّا بلغ ذلك الخوارج ركب عبد

____________________

(١) هو أبو موسى الأشعريّ.

١٠٦

الله بن الكوّاء في مائة رجل من أصحابه حتّى واقفه، فقال له أمير المؤمنين: يا ابن الكوّاء، إنّ الكلام كثير، ابرزْ إليّ من أصحابك حتّى أُكلّمك؛ قال ابن الكوّاء: وأنا آمنٌ من سيفك؟ قالعليه‌السلام نعم، وأنت آمنٌ من سيفي. فخرج ابن الكوّاء في عشرةٍ من أصحابه، ودنوا من عليّعليه‌السلام فذكر عليّعليه‌السلام الحرب الذي كان بينه وبين معاوية، وذكر اليوم الذي رُفعت فيه المصاحف وكيف اتّفقوا على الحكمين...، ومخالفة الخوارج له، فانحاز ابن الكوّاء مع العشرة الذين معه إلى صفّ أمير المؤمنين، وقد رجعوا عن رأي الخوارج، ومضى الباقون وهم يقولون: لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله(١) .

وقفة تأمّل أخرى

لقد وجدنا فيما ذكرنا أنّ عتاب بن الأعور الثعلبيّ الخارجيّ قد أقرّ لابن عبّاس أنّه قد ألزمه الحجّة، وأنّ سعي الخوارج فسادٌ في الأرض، وأنّ الحقّ مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأين هذا ممّا ادّعاه ابن تيميه؟!

وقد وجدنا ابن الكوّاء، وهو رأس الخوارج، بعد مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام له، قد رجع هو والعشرةُ الذين كانوا معه عن رأي الخوارج وصاروا إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأمّا بقيّة الخوارج فإنّهم قد استزلّهم الشيطان وركبتهم الحميّة الجاهليّة، ومضوا ينادون:لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله؛ أي أنّهم لم يكفّروا عليّاًعليه‌السلام كما زعم ابن تيميه.

____________________

(١) الفتوح ٤: ٩٠ -٩٧.

١٠٧

مقتل عبد الله بن خَبّاب بن الأَرَتّ

إنّ الخوارج الذين تشدّق ابن تيميه بهم وجعلهم حجّةً على الإمام عليّعليه‌السلام وشيعته، عاثوا في الأرض فساداً؛ فبعد انحياز رئيسهم ابن الكوّاء وعشرةٍ منهم إلى صفّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ تدارسوا أمرهم فأمّروا عليهم عبد الله بن وهب التّميميّ الراسبيّ، وحرقوص بن زهير البَجَليّ. وعقدوا العزم على أن يعسكروا بالنَّهروان والتحق بهم أصحابٌ لهم من البصرة مع مِسعَر بن فدكيّ التميميّ، فاستعرض هؤلاء الناس في طريقهم، فإذا هم برجلٍ يسوق بامرأتِه على حمارٍ له، فدعوه وانتهروه ورعّبوه، وقالوا له: من أنت؟ فقال: رجلٌ مؤمن. قالوا: فما اسمُك؟ قال: أنا عبد الله بن خبّات بن الأرتّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفّوا عنه، قالوا له: ما تقول في عليّ؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين وإمام المسلمين وحدّثني أبي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل، فيُصبح مؤمناً ويُمسي كافراً؛ ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً». فقالوا: والله لنقتلنّك قتلةً ما قُتِلَها أحد! وأخذوه فكتّفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى مُتمّ حتّى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها، فقذفها بعضهم في فيه، فقال له رجل منهم: أبغير حِلّها ولا ثمن لها؟! فألقاها من فيه واخترط سيفه فمرّ به خنزير لذمّيّ فقتله، فقال له بعض أصحابه: إنّ هذا لمن الفاسد في الأرض! فطلب صاحب الخنزير حتّى أرضاه، فقال ابن خبّاب: لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع؛ إنّي لآمنٌ من شرّكم. فجاءوا به وألقوا به على الخنزير فذبحوه، وبقروا بطن امرأته وهي تقول: أما تتّقون الله؟! وقتلوا ثلاث نسوةٍ كُنّ معها.

١٠٨

وقد قال الخوارج لعبد الله بن خبّاب ساعة ذبحه: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك! وكان في عنقه مصحف. وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جَنا خلة إلاّ بثمن؟!

وبلغ أميرَ المؤمنينعليه‌السلام ما اجترأه الخوارج من ترويع الناس بالاستعراض، وقتلهم عبد الله بن خبّاب وتلكُم النّسوة، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبديّ ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم، فخرجوا إليه فقتلوه(١) .

سؤال

قومٌ يقتلون صحابيّاً ولم يكن رافضيّاً! لأنّه صدقهم القول في معتقده في عليّعليه‌السلام ، ويبقرون بطن امرأته الحامل فيقتلونها مع ثلاث نسوة! والإسلام يأبى قتل النساء والذّريّة، وهذا هو مبدأ الإمام عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها، وهم إذ يقتلون المؤمنين من غير ذنب، فإنّهم يرون للخنزير حرمةً لا يجوز هتكها، وحمل سلوكهم رجلاً نصرانيّاً أن قال لهم: «واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جنا نخلةٍ إلاّ بثمن؟!»؛ وإنّ من مبادئ الإسلام حرمة قتل الرّسل، فما بالُهم عَدَوا على رسول الإمام عليّعليه‌السلام فقتلوه؟!

كلّ هذه المفاسد العظيمة، وما سبقها من إقرارٍ على أنفسهم وانحياز أميرهم

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١: ١٢٢، وأنساب الأشراف للبلاذريّ ٣: ١٤١، وتاريخ الطبري ٤: ٦١، والفتوح ٤: ١٩٨.

١٠٩

وعشرة آخرين منهم إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وما سنذكره من رجوع ألوف منهم، ومع كلّ ذاك يبقى الخوارج حجّة عند ابن تيميه فيما ذكر!!

مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام للخوارج

بعد الذي كان من الخوارج، سار إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأصحابه، حتّى إذا صار قريباً من النهروان جاء رجلٌ يعدو، فسأله أمير المؤمنين: ما وراءك؟ فقال: إنّ القوم لمّا علموا أنّك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين، فقالعليه‌السلام : أنت رأيتهم حين عبروا؟ قال نعم؛ فقال له: كلاّ والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لا يعبرون حتّى يَقتُلَ اللهُ مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلاّ أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلاّ أقلّ من عشرة، ذلك عهدٌ معهود وقضاءٌ مقضيّ(١) .

ولمّا صار قبالة القوم مدّوا الرماح في وجهه وهم يقولون: لا حكم إلاّ للهِ، فقال أميرالمؤمنين: لا أنتظر فيكم إلا حُكم الله(٢) .

ثمّ إنّهعليه‌السلام دخل معهم في مناظرة طويلة، فكانوا كلّما أشكلوا عليه أمراً أجابهم بدليلٍ من القرآن أو السنّة، حتّى قطع جميع حججهم، وجعل بعضُهم يقول لبعض: صدق فيما قال، ولقد دحَضَ جميع ما احتججنا عليه؛ ثمّ صاح القوم من كلّ ناحية وقالوا: التوبةَ التوبة يا أمير المؤمنين!

فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، وأقبلعليه‌السلام

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٢٠، والكامل للمبرد ٥٤٣.

(٢) الفتوح ٤: ٢٦٨.

١١٠

إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال: اعتزلوا عنّي في وقتكم هذا وذروني والقوم.

ثمّ اشتبك العسكران في معركة عدم نظيرها؛ فلم يُقتَل من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام إلاّ ثمانية، وقيل: تسعة رجال، ولم يفلت من الأربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة رجال، انتهى أحدُهم إلى قرب حرّان؛ ونسله فيها(١) ، وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيميه وترعرع بها.

تعقيب

إنّ الخوارج، لمّا فنّد أميرالمؤمنينعليه‌السلام آراءهم وأبطل حججهم فأعلنوا توبتهم، نادوا عليّاًعليه‌السلام بأمرة المؤمنين، ممّا يعني أنّهم كانوا يعتقدون ذلك ولكن استحوذ عليهم الشيطان ثمّ ثابوا إلى رُشْدهم، ولم يبق إلاّ مَن حقّ عليه العذاب فما الدنيا أصابوا وهم في الآخرة من الخاسرين.

وقبل ذكر ما ورد فيهم من الأحاديث نقول لابن تيميه: هلاّ كنت مع الثمانية آلاف، وأحد عشر ممّن سبقهم إلى التوبة - ابن الكوّاء وجماعته - فكنت معهم في صفّ عليّ وشيعته، لا مع أهل اللّجاجة ممّن أخبر الإمام عليّعليه‌السلام أنّه لن ينجو منهم إلاّ دون العشرة؛ فكان كما قال؟!

الأخبار والآثار الواردة في الخوارج

ذو الخُوَيصرة التّميميّ: وهو الخارجيّ الأوّل، ومن قصّته: حينما كان رسول

____________________

(١) الفتوح ٤: ٢٦٩ - ٢٧٥.

١١١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعطي الناس من أموال حنين، جاء ذو الخويصرة التّميميّ فقال: يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، فقال رسول الله أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلتَ؛ فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: ويحك! إذا لم يكن العدلُ عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فقال: «لا، دَعهُ، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السّهم من الرّميّة، يُنظَر في النَّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القِدْح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدمّ»(١) .

رواية جابر: مسلم صاحب الصحيح: حدّثنا محمّد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا اللّيث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمّد! أعدل! قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟! لقد خِبتَ وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ١٣٩.

«يتعمّقون في الدّين» أي يتتبّعون أقصاه، «والنّصل»: حديد السهم. و «القدح»: السّهم.

والفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر. و«الفرث»: ما يوجد في الكرش. والمعنى: أنّهم ليس لهم من الدّين شيء، كالسهم يخترق البدن ويخرج من غير أن يعلق به أثر من دم وغيره.

١١٢

من الرَّمِيّة.(١)

كلمة مع ابن تيميه: ذو الخويصرة هو الخارجيّ الأوّل، له أصحاب؛ فخرج هو على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أصحابه على عليّعليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله كما في آية المباهلة، وأخوه يوم المؤاخاة، وقد أنكرته يا ابن تيميه وأثبتناه، وبحديث المنزلة إذ هارون أخو موسىعليهما‌السلام ...؛ وأنت تتولّى الخوارج من غير

____________________

(١) صحيح مسلم، بشرح النوويّ ٧: ١٥٩.

ذكر النوويّ هامش المصدر: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنّ من سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كُفِّر وقتل، وهذا الرجل قال: اعدل يا محمّد واتّق الله يا محمّد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتّى استأذن وخالد في قتله؛ فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أن محمّداً يقتل أصحابه! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنّه صبر استبقاءً لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلاّ يتحدّث الناس أنّه يقتل أصحابه فينفروا. وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم، وعدوّه من جملتهم. قوله ٩: «ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرتَ»، روي بفتح التاء في خبتَ وخسرت، وبضمّهما فيهما، ومعنى الضّم ظاهرٌ؛ وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع إذا كنتُ لا أعدل لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل، والفتح أشهر والله أعلم. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» قال القاضي - عياض -: فيه تأويلان، أحدهما معناه: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ فيه سوى تلاوة الفم: الحنجرة والحلق، إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة»، وفي الرواية الأُخرى يمرقون من الإسلام، معناه: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلّق به شيء منه.

وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة، أي من طاعة الإمام، وفي هذه الأحاديث دليل لمن يُكفّر الخوارج.

١١٣

تمييز، فبالضرورة أنّك تتولّى الخارجيّ الأوّل، فهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عادل عندك؟!

رواية أبي ذرّ: مسلم: حدّثنا شيبان بن فرّوخ، حدّثنا سليمان بن المُغيرة، حدّثنا حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ بعدي من أمّتي قومٌ يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقِيَهم، يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرّميّة ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة».

فقال ابن الصامت: لقيت رافع بن عمرو الغفاريّ أخا الحكم الغفاريّ فقلت له: ما حديث سمعته من أبي ذرّ كذا وكذا؛ فقال وأنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

فالخوارج شرّ خلق الله، وفسّر ذلك بخروجهم من الدين، ومن طاعة الإمام، وكلُّ ذلك متحقّق في الخوارج منفيّ عن شيعة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ذكرنا شيئاً من أخبارهم وفساد معتقدهم وفساد سلوكهم، ونعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ؛ من حديث توزيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مغنماً بعثه إليه الإمام عليّعليه‌السلام ، وفيه: فجاء رجلٌ كثُّ اللّحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس(٢) ؛ فقال: اتّق الله يا محمّد، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمن يطع الله إن عصيتُه، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تأمنونني؟! قال: ثمّ أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله؛ فقال رسول الله: «إنّ من ضِئْضِىء هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان! يمرقون

____________________

(١) صحيح مسلم ٧: ١٧٤.

(٢) كثّ اللّحية: كثير اللّحية. والوجنة: لحم الخدّ. غائر العينين: صغيرهما كأنّهما مطموستان. ناتئ الجبين: بارز الجبين وهو جانب الجبهة. محلوق الرأس: واضح، وكانت حلاقة الرأس علامة لهم.

١١٤

من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(١) .

وأورده بسندٍ آخر عن أبي سعيد الخدريّ، وفيه «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل ثمُود»(٢) .

فهنيئاً لمن يوالى قوماً يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان! ولذلك توعّدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو أدركهم لاستأصلهم وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الصادق المصدّق؛ فلقد وجدناهم يقتلون الصحابيّ عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، ويبقرون بطن امرأته الحامل، ويقتلون النّسوة الثلاث؛ إلاّ أنّهم أشكلوا على صاحبهم إذ قتل خنزيراً لذمّيّ معاهد! وأخبارهم في استعراض الناس بالقتل مشهور.

وإذا فات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدركهم فيقتلهم قتلاً عامّاً؛ فقد أدركهم أمير المؤمنينعليه‌السلام فكانت له فضيلة قتالهم كما ذكر النوويّ، ولم يسلم من مجموع أربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة انتهى أحدهم إلى قرب حرّان، وتناسل هناك؛ ولا ندري جزماً لِمَ احتجّ ابن تيميه الحرّانيّ بالخوارج على عليّ أميرالمؤمنين وشيعته؟!

____________________

(١) صحيح مسلم ٧: ١٦٢. وفي شرح النوويّ: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ من ضِئضِي هذا» هو الأصل، والسنخ، والعنصر، والأرومة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» أي قتلاً عامّاً مستأصلاً كما قال تعالى:( فَهَلْ تَرَى‏ لَهُم مِن بَاقِيَةٍ ) (الحاقّة: ٨) وفيه الحثّ على قتالهم، وفضيلة لعليّرضي‌الله‌عنه في قتالهم.

(٢) نفسه / ١٦٣.

١١٥

الحثّ على قتل الخوارج؛ واختصاص أميرالمؤمنين بذلك

أخرج النّسائيّ، قال: أخبرنا عليّ بن المنذر قال: أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه، قال: كنت عند عليّرضي‌الله‌عنه جالساً إذ دخل رجلٌ عليه ثياب السفر، وعليّ يكلّم الناس ويكلّمونه، فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتكلّم؟ فلم يلتفت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت عائشة فقالت: هؤلاء القوم الذين خرجوا في أرضكم يسمّون حروريّة؟ قلت: خرجوا في موضع يسمّى حروراء؛ فقالت: طوبى لمن شهد منكم، لو شاء ابن أبي طالب لأخبركم خبرهم! فجئت أسأله عن خبرهم، فلمّا فرغ عليّعليه‌السلام قال: أين المستأذن؟ فقصّ عليه كما قصّت عليه؛ قال: إنّي دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس عنده غير عائشة، فقال لي كيف أنت يا عليّ وقومٌ كذا وكذا؟

قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: ثم أشار بيده فقال: قوم يخرجون من المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فيهم رجلٌ مُخَدَّج(١) ، كأنّ يده ثدْيُ حبشيّة، أنشدكم باللهِ أخبرتكم أنّه فيهم؟ قالوا: نعم؛ فجئتموني وأخبرتموني أنّه ليس فيهم، فحلفت لكم باللهِ أنّه فيهم، ثمّ أتيتموني به كما نعتّ لكم؟ قالوا: نعم؛ صدق اللهُ ورسوله(٢) .

وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج قوم في آخر الزمان، يقرأون

____________________

(١) مُخَدَّج: أي ناقص اليد.

(٢) خصائص أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائيّ ١٤٥ - ١٤٦ / ح ١٧٨.

١١٦

القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرّميّة، قتالهم حقّ على كلّ مسلم»(١) .

والروايات كثيرة في أنّ الخوارج هم شرّ الخلق، يقتلهم أولى الناس بالحقّ، وقد قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه أهل العراق.

عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: والحديث نظير الذي قبله، إلاّ أنّ آخره: «فأينما أدركتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»(٢) .

وبسندٍ عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر أناساً يخرجون في فرقةٍ من الناس سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ، وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق(٣) .

التفريع الثالث

افترض ابن تيميه أمراً بلا دليل! وذلك: إن كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أفضل من غيره في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلا يدلُّ ذلك على أفضليّته بعد!

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١٥٦، وخصائص أمير المؤمنين ١٤٤ / ح ١٧٤، ومسند أبي يعلى ١: ٢٧٣.

(٢) صحيح البخاريّ ٣٦١١، ٥٠٥٧، ٦٩٣٠ باب علامات النبوّة، وصحيح مسلم ٧: ١٦٧ - ١٦٨، ومسند أحمد ١ / ٨١، ١١٣، ١٣١، والفضائل لأحمد / ١١٩٨، وسنن أبي داود / ٤٧٦٧، ومسند أبي يعلى ١ / ٢٢٦، والخصائص للنّسائيّ ١٤٣ / ١٧٣.

(٣) صحيح مسلم ٧: ١٦٩، والخصائص للنّسائيّ ١٤٠ / ١٦٨.

١١٧

ولو كان عنده ثمّة ما يعضّد ما ذهب إليه لذكره؛ فعليه: إنّ عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حياته وبعد مماته.

التفريع الرابع

وفرّع رابعاً، ذلك قوله: لو قدّرنا أفضليّته، لم يدلّ ذلك على أنّه إمام معصوم منصوصٌ عليه.

وجوابنا: لقد جارينا ابن تيميه، بغية إمامة الحجّة على من وقع في حبائل فتنته من غير تدبّر؛ وإلاّ فأمير المؤمنين قد نطق القرآن الكريم بأفضليّته إذ اختاره الله تعالى وليّاً للمسلمين؛ وذلك قوله تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (١) ، وقد تكلّمنا حول الآية فيما مضى، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، فقرن الله سبحانه ولاية عليّعليه‌السلام بولايته وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يجوز على الله عزّ وجلّ أن يختار إلاّ من هو أفضل.

ولم ينزل سبحانه بياناً ينسخ ذلك، فالآية محكمة، وعليّعليه‌السلام ولايته دائمة، خالدة مع خلود القرآن؛ فهو الأفضل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر الدهر.

____________________

(١) المائدة: ٥٥.

ولا بأس بذكر بعض مصادر نزول الآية في أمير المؤمنينعليه‌السلام : تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) ١: ٤٨٥ - ٤٨٧، والذرّيّة الطّاهرة للدولابيّ (ت ٣١٠ هـ) ١٠٩ / ١١٤، وتفسير الطبريّ ٦: ١٥٦، وتفسير الحبريّ (ت ٢٨٩ هـ) ٢٦١، وأنساب الأشراف (ت ٢٧٩ هـ) ٢: ٣٨١، وشواهد التنزيل ١: ١٨١، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ ٣: ٤٣١، وتفسير ابن كثير ٢: ٧١.

١١٨

وهذا دليل على عصمة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ الله تعالى اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً، والنبيّ معصومٌ بالضرورة، فكذلك وليُّ الله.

ومن أدلّة عصمتهعليه‌السلام : آية التطهير؛ وذلك قوله تعالى« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (١) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين:.

روى ذلك: أم سلمة، وعائشة، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عبّاس عن عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن أبي يسار، عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . قالت: فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي»، قالت أمّ سلمة، يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ قال: «إنّك أهلي، وهؤلاء أهل بيتي»(٢) .

وعن فضيل بن مرزوق، عن عطيّة العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ عن أمّ سلمة أنّها قالت: نزلت هذه الآية في عليّ:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . وقالت: قلت: يا رسول الله، ألست من أهل

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢: ٤١٦ و ٣: ١٤٦ وبذيله التلخيص للذهبيّ. وفي سنن الترمذيّ ٥: ٣٢٨ عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ النبيّ قال: «أنت على مكانك وأنت إلى خير». وفي الباب عن أمّ سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء، وأنس بن مالك.

١١٩

البيت؟ قال: «إنّك على خير، إنّك من أزواج النّبيّ». وكان في البيت: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين:(١) .

ومثله عن عائشة: قال جُمَيع بن عُمَير: دخلت مع أمّي على عائشة فقالت: أخبريني كيف كان حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ؟ فقالت عائشة: كان أحبّ الناس إلى رسول الله، لقد رأيته يوماً أدخله تحت ثوبه وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ فقال: «اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». قال: فذهبت لأدخل رأسي فمنعني، فقلت: يا رسول الله، أولستُ من أهلك؟ قال «إنّك على خير»(٢) .

منزلة دعوان

قال أبو الفرج: كتب إليّ عبد الله الجبائيّ قال: رأيت دعوان بن عليّ بعد موته وكأنّ عليه ثياباً بيضاً وعمامةً بيضاء وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجمعة، فأخذت يده اليسرى ومضينا، فلمّا بلغنا إلى حائط الجامع قلت له: يا سيّدي، إيش لقيت؟ فقال: عُرِضتُ على الله خمسين مرّة وقال لي: إيش عملت؟ فقلت: قرأتُ القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاّك، أنا أتولاك. قال عبد الله: فأصابني الوجد وصحت: آه، وضربتُ بيدي حائط الجامع ثلاث مرّات أتأوّه وأضرب الحائط بكتفي، ثمّ استيقظت.(٣)

____________________

(١) مشكل الآثار للطحاويّ ١: ٣٣٤، وتفسير الحبريّ ٢٩٨، والمعجم الكبير للطبرانيّ ١: ١٢٧، وشواهد التنزيل الرقم ٧١٢ - ٧١٣، وتفسير ابن كثير ٣: ٤٨٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٦٥.

(٣) المنتظم لأبي الفرج ابن الجوزيّ ١٨: ٥٨ / ٤١٣٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

غانمة تنتصر لهاشم

بلغ غانمة بنت غانم سبُّ ابن هند وابن النابغة بني هاشم! فقالت لأهل مكة: أيها الناس، إنّ قريشاً لم تَلِد من رَقم ولا رُقم، سادت وجادت، ومُلِّكت فملكت، وفُضِّلت فَفَضَلت، واصطُفِيَت فاصطَفَت، ليس فيها كدرُ عيب ولا أفْنُ(١) ريب، ولا حشروا طاغين، ولا حادوا نادمين، ولا المغضوب عليهم ولا الضالّين. إنّ بني هاشم أطولُ الناس باعاً، وأمجَدُ الناس أصلاً، وأحلمُ الناس حلماً، وأكثر الناس عطاءً. منّا عبد مَناف الذي يقول فيه الشاعر:

كانت قريش بيضةً فتفلّقت

فالمخُّ خالِصُها لعبدِ مَناف

وولده هاشم الذي هشَمَ الثَّريدَ لقومشه، وفيه يقول الشاعر:

هشم الثريد لقومه وأجارَهم

ورجال مكّة مُسْنِتُون عِجافُ(٢)

ثمّ منّا عبد المطّلب الذي سُقينا به الغَيث، وفيه يقول الشاعر:

ونحن سِنيَّ المحلِ قامَ شفيعُنا

بمكّةَ يدعو والمياهُ تَغورُ

وابنُه أبوطالب عظيمُ قريش، وفيه يقول الشاعر:

آتيتُه مَلِكا فقام بحاجتي

وترى العُلَيّجَ خائباً مذموما

ومنّا العبّاس بن عبد المطّلب، أردفه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاه ماله، وفيه يقول الشاعر:

رَدِيفُ رسولِ الله لم أرَ مثلَهُ

ولا مِثلُهُ حتّى القيامةِ يُوجَدُ

____________________

(١) أفْن: ضعيف الرأي.

(٢) في جمهرة النسب: فولَدَ عبد مَناف بن قُصَيّ: هاشماً، وهو عمرو، وسُمِّيَ هاشماً لأنّه هشم الثَّريدَ، وله يقول الشاعر:

عمرو العُلى هَشَمَ الثَّرِيدَ لقومِهِ

ورجالُ مكّةَ مُسْنتِونَ عِجافُ

٢٦١

ومنّا حمزة سيّد الشهداء، وفيه يقول الشاعر:

أبا يَعلى لكَ الأركانُ هُدّتْ

وأنتَ الماجدُ البرُّ الوَصُولُ

ومنّا جعفر ذو الجناحين أحسنُ الناس وأكملهم كمالاً، ليس بغدّار ولا ختّار، بدّله الله عزّ وجلّ بكلّ يد له جناحاً يطير به في الجنّة، وفيه يقول الشاعر:

هاتوا كجعفرنا الطيّار أو كعليّنا

أليسا أعزّ النّاس عند الخلائق؟!

ومنّا أبو الحسن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أفرس بني هاشم وأكرم من احتفى وتنعّل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن فضائله ما قصر عنكم أنباؤها، وفيه يقول الشاعر:

ومن يكُ جدُّه حقّاً نبيّاً

فإنّ لَهُ الفضيلة في الأنام

ومنّا الحسين بن عليّ رضوان الله عليه، حمله جبرئيل علىعليه‌السلام عاتقه وكفى بذلك فخراً، وفيه يقول الشاعر:

نفى عنه عيبَ الآدميّين ربُّهُ

ومن مجدِه مجدُ الحسينِ المطهَّرِ(١)

ثمّ قالت: يا معشر قريش! والله ما معاوية بأميرالمؤمنين، ولا هو كما يزعم، هو والله شانئ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّي آتيةٌ معاوية وقائلة له بما يعرق جبينُه ويكثر منه عويله(٢) .

فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلمّا بلغه أنّ غانمة قد قرُبت منه أمر بدارِ ضيافةٍ

____________________

(١) صريح في العصمة.

(٢) لـمّا تأتي ابن هند بعد، حتّى جعلتها تظاهرة في مكّة صدحت بفضائل الشجرة المباركة. ولكن لا أظن سيعرق جبين ابن هند فهو نسيج عاهات وعورات سارت بها الركبان!

٢٦٢

فنُظّفت وألقي فيها فرش، فلمّا قربت من المدينة استقبلها يزيد في حَشَمه ومماليكه، فلمّا دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: إنَّ عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته، فقالت: من أنت كّلأكّ الله؟ قال: يزيد بن معاوية. قالت: لا رعاك الله يا ناقص! لست بزائد، فتمعّر لون يزيد(١) ، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسَنّ قريش وأعظمهم. فلما قال يزيد: كم تعدّ لها؟ قال: كانت على عهد رسول الله أربعمائة عام وهي من بقيّة الكرام.

فلمّا كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها، فقالت: وعلى المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان! ثمّ قالت: من منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذا. فقالت: وأنت تسبّ بني هاشم وأنت والله أهل السبّ وفيك السبّ وإليك يعود السبّ يا عمرو! إنّي والله عارفة بعيوبك وعيوب أمّك، وإنّي أذكر لك عيبا عيباً؛ ولدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء تبول من قيام ويعلوها اللّئام، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذَ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً! وأما أنت، فقد رأيتُك غاويا غير راشد ومفسدا غير صالح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غِرتَ ولا أنكرتَ!

وأمّا أنت يا معاوية، فما كنت في خير ولا رُبّيت في خير، فما لَكَ ولبني هاشم؟ أنساء بني أميّة كنسائهم أم أُعطي أميّة ما أُعطي هاشم في الجاهليّة والإسلام؟ وكفى برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال معاوية: أيّتها الكبيرة أنا كاف عن بني هاشم. قالت: فإنّي أكتب عليك عهداً، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا ربّه أن يستجيب لي خمس دعوات، فأجعل تلك الدعوات كلّها فيك. فخاف معاوية وحلف لها أن لا يسبّ بني هاشم أبداً(٢) .

____________________

(١) أي تغيّر وعَلَته صُفرة.

(٢) المحاسن والمساوئ، للبيهقي: ٩١ - ٩٤.

٢٦٣

أخذ الله تعالى على ابن هند وحاشيته الفاسدة أبصارهم وأسماعهم، وطبع على قلوبهم، فهم يتعاوون. يسبّون (خير البشر؛ ومن أبى فقد كفر) و (خير البريّة)...، وشجرته المباركة! ولا يأتي السبّ إلّا عن أفن وسوء منبت وفساد طبع وفقدان حجّة. فسلّط الله سبحانه عليهم من يذيع فضائحهم التي تزكم الأنوف.

وللهِ محتدك يا غانمة! إذ بدأت بقريش، فهي المبرّزة بين قبائل العرب فبدأت بها لتنتقي منها جوهرتها (عبد مناف) ومن ولد عبد مناف: ذورة السنام من غير منازع (بني هاشم) موضع سبّ ابن النابغة وابن هند وكفى بصنعهما هذا حقارة وصغاراً! وتحوّلت إلى وريثه في المجد: ولده (عبد المطّلب)، ومن ولد عبد المطلب، انتقت ولده مؤمن قريش وعظيمها (أبا طالب). وراحت تعدد من بني هاشم الأماجد، فكان (العباس بن عبد المطلب)، رديف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فحمزة؛ سيد الشهداء بن عبد المطلب؛ فجعفر ذا الجناحين بن أبي طالب. ثمّ حطّت رحالها في دوحة الفخر عند عليّ بن أبي طالب أكرم خلق الله بعد رسوله؛ ومنه إلى شبله سبط رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة وكفى بذلك فخراً (الحسن المجتبى بن عليّ المرتضى) فإلى الحسين بن عليّ الذي طهّره الله وتشرّف جبريل بحمله على عاتقه. فمن ذا حمل ابن هند ووضعه على قارعة الطريق؟!

وبعد أن أحكمت كلامها إذ بدأت بقريش وانتهت بخامس أصحاب الكساء، عادت تخاطب قريشا وتذكرهم بفعل ابن هند وتسلبه الإمارة الجبريّة، فهو شانئ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فهي لذلك منتصرة لهذا البيت المنيف والشجرة المباركة، من بيت الطغاة والكفر والشجرة الملعونة.

فكان أوّل من وقع بين براثنها: الناقص حفيد هند، ولو لاها لم ندر أنّ النابغة من الشّبق والتبذّل أن ركبها واحد وأربعون رجلاً في يوم واحد، وانّ ابنها عمرو مع

٢٦٤

نبوغه في الضلال؛ فإنّه رأي عاهرا مع زوجته في فراشه فلم يغر ولم ينكر!

والتفتت غانمة إلى ابن هند، فلم يكن في بيئة اجتماعيّة طيّبة ولم يتولّ تربيته أهل خير؛ وإن شاءت المقادير أن ينسب إلى بني أميّة، مثلما نسب هو ابن سُميّة زيادا ونقل نسبه إلى نسبه وادّعى أخوّته وزوّجه وزوّج ولده من بنات آل سفيان؛ ومع ذا فليس نساء بني أميّة مثل نساء بني هاشم واشتُهر منهنّ حَمامة جدّة أبي سفيان بغيّ لها راية تؤتى؛ ومنهنّ هند أمّ معاوية، وقد عرضنا لحالها. وإغراق رجالهم في الجهل والغدر والكفر والنفاق وحرب الإسلام...، وإذا اقتصرنا على اشتقاق الأسماء؛ فإنّ (سفيان) اشتقاقه من (السفيه)(١) .

قال: وأبو سفيان، واسمه صخر بن حرب بن أميّة. والصخر، معروف، وليس كلّ الحجارة تسمّى صخراً، وإنّما الصخرة الصّفاة العظيمة التي لا يمكن حملها وإزالتها عن مكانها. (ابن حربٍ) الحرب: ضد السلم. ورجل محرب ومحراب، إذا كان صاحب حرب يسعرها(٢) .

و (أميّة): تصغير أَمَة(٣) .

و (معاوية): استعوى الكلاب ليسمع نُباحَها فيعلمُ أنّه قريب من ماء(٤) .

وابن هند حقيق بهذه التسمية وكأنّ مشيّة الله تعالى أملت على هند أن تسمّيه به، لـما يعلمه سبحانه ممّا سيكون منه تناوش وتهارش ونباح على كلّ قريب وبعيد.

____________________

(١) الاشتقاق، لابن دريد: ٧٣.

(٢) نفس المصدر السابق: ٧٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٥٤.

(٤) نفس المصدر السابق: ٧٥.

٢٦٥

عواؤه على شريك بن الأعور

دخل شريك بن الحارث بن عبد الله الهمدانيّ الحارثيّ البصريّ المعروف بشريك بن الأعور، على معاوية. وكان شريك هذا من خيار الشيعة وكان سيّد قومه، فقال له: ما اسمك؟ قال: شريك. قال: ابن من؟ قال: ابن الأعور. قا ل: إنّك شريك وما لله شريك، وإنّك لابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنّك لدميم سيّئ الخلق فكيف سُدتَ قومَك؟(١)

فقال: وأنت والله معاوية، وما معاوية إلّا كلبة عوت فاستعوت(٢) فسمّيت معاوية، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصَّخر، وإنّك لابنُ حَرْبٍ والسِّلمُ خيرٌ من الحرب، وإنّك لابن أميّة وأميّة أَمَة صغر بها، فكيف سمّيت أميرالمؤمنين؟!

قال معاوية: واحدة بواحدة والبادي أظلم.

ولشريك شعر في المناسبة يتوعّد فيه ابن هند، فقاسمه(٣) معاوية أن يسكت وقرّبه وأدناه(٤) .

فهل تمسّك ابن هند بقَسَمِه هذا، أم حنَثَ فعاد إلى المحارشة وقد حلف لغانمة كما مرّ بنا أن لا يعود، ولغيرها، ثمّ عاد؟!

وفي التنازع والتخاصم: روى سفينة عن أمّ سلمة أنّه قال لها: إنّ بني أميّة يزعمون

____________________

(١) ابن هند، يعرف شريك حقّ المعرفة، إلّا أنّ سجيّته حملته على سؤاله عن اسمه! وابن من؟! وعرف شريك مرمى ابن هند؛ فلم يقل ابن الحارث وتعمّد أن يقول: ابن الأعور ليستنطقه فيصبّ عليه شؤبوب سخطه!

(٢) استعوت: أي نبحت فتبعها الكلاب. وفي لسان العرب: المعاوية، الكلبة المستحرمة تعوي إلى الكلاب إذا صرفت ويعوين إليها. ومعاوية اسم وهو منه.

(٣) قاسمه: أي حلف له يميناً.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٠: ٣٠٥.

٢٦٦

أنّ الخلافة فيهم، فقالت: كذبت بنو الزرقاء، بل هم ملوك ومن شرّ الملوك(١) .

قال: ويقال إنّ الزرقاء هذه هي أمّ بني أميّة؛ واسمها: أرنب، وكانت في الجاهليّة من صواحب الرايات(٢) .

وذكرها ابن حزم في ولد الحكم بن أبي العاصي بن أميّة، فذكر مروان وإخوته وقال: أمّهم اسمها أرنب، وهي من بني مالك بن كنانة، وهي الزّرقاء التي كان يعيّر بها عبد الملك وغيره من بني مروان(٣) .

إنّ قول المقريزي: إنّ الزرقاء، واسمها أرنب، وهي في الجاهليّة من صواحب الرايات؛ هي أمّ بني أميّة.

وقول ابن حزم: إنّ أرنب وهي الزرقاء، هي أمّ ولد الحكم بن أبي العاص بن أميّة، التي يعيّر بها عبد الملك وغيره من بني مروان؛ قريب منه جواب أروى بنت الحارث ابن عبدالمطّلب لمروان في مجلس ابن هند - وقد ذكرناه - إذ خاطبته بقولها: يا ابن الزرقاء، مع نفيها إيّاه من الانتساب إلى الحكم، ونسبته إلى سفيان بن الحارث بن كلدة. وزادت بياناً أنّه يشبه سفيان في زرقة عينيه وحمرة شعره. وذكرت صفات في الحكم غير موجودة في مروان. فما أنكر عليها مروان.

إذاً: الزَّرقاء وهي أرنب، وهي بغيّ من ذوات الرايات، ابنها مروان؛ فمروان وبنوه: بنو الزرقاء، وأيضاً بنو الأزرق لنسبتهم إلى سفيان، أزرق العينين.

وهذا لا يمنع أن تكون الزرقاء ثانية على ما ذكر المقريزي وأنّها أمّ بني أميّة، ولا داعي للتوقّف عند ورود اسم أرنب في أمّ بني أميّة، وفي أمّ بني مروان، فما أكثر تشابه

____________________

(١) النزاع والتخاصم، للمقريزي: ٤٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) جمهرة أنساب العرب، لابن حزم: ٨٧، والعقد الفريد ١: ٣٥٧.

٢٦٧

الأسماء؛ وإلاّ لوجب حذف أكثر التاريخ لهذه الشُبهة! والقاسم مشترك بين بني مروان وبني أميّة؛ فإنّ في نسب أميّة قول إذ ذهب البعض إلى أنّهم ليسوا من العرب وإنّما من الروم. ولأجل ذلك توقّف شريك بن الحارث (الأعور) الهمدانيّ وهو يلقم المعاوية حجراً مسكتاً، عند حدود أميّة ووسمه بالأمة أي العبد المسترق، وهو لفظ مؤنّث! ثمّ صغّره لا عن شماتة، وإنّما هكذا به يعرف. ولم يكن أميّة في نفسه هناك، وإنّما رفعه أبوه الذي يتبنّاه - ومعذرةً أن نقول: أبوه، إلّا أنّه غلب فصار العبد الرومي (أميّة) يعرف بابن عبد شمس؛ وبنوه الذين أخذوا شهرة بمعاداتهم لبني هاشم! فهم في حالي سلامهم وموادعتهم؛ أو حال حربهم محقّقوا مجد وسمعة: فهم أنداد هاشم وكفى بذلك فخراً! ولئلاّ يشطبهم التاريخ لخمول ذكرهم، فلمّا ناوؤا هاشماً عرفوا.

ولئلاّ ننسى: فلا ننسى (حمامة) وقد أشرنا إليها، جدّة أبي سفيان صخر بن حرب ابن أميّة؛ بَغيّ نابغة في هذا الفنّ من ذوات الرايات.

ولا ننسى (أمّ جميل)؛ اسمٌ جميل لامرأةٍ خلّدها عملُها مع زوجها في جهنّم؛ وهذا هو الوفاء: أن تسير المرأة على خطى زوجها في الدنيا، وتعانقه في الآخرة، فهي معه في السّراء والضّراء وإن كان باطلاً!

(أمّ جميل) بنت حرب بن أميّة؛ أخت أبي سفيان صخر بن حرب، عمّة معاوية - تنزّلاً؛ إذ قامت البراهين أنّه ابن شُبهة، فتارة للصُّبّاح، وأخرى لأربعة، وثالثة لرجل آخر...، وهي: حمّالة الحطب، امرأة أبي لهب، ولا نعرف لها فضيلةً! إلّا حملها الحطب والشوك وطرحه في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولشدّة عداء زوجها (أبي لهب) وعداءها وإيذائهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنزل الله تعالى فيهما سورة كاملةً من القرآن تخلّد عملهما، وتخلّدهما في جهنّم، تلك هي سورة (تبّت) أو (المسد).

وللمعاويةَ حوار مع عقيل بن أبي طالب، قطعه فيه عقيل النسّابة المعروف بسرعة

٢٦٨

البديهة. وقبل ذكر ذلك، لا ندري هل جرى ذلك بعد الوعد الذي أعطاه ابن هند لشريك أن يسكت عن التهارش أم قبله، وهل كان ذلك بعد وعده لغانمة أم قبل ذلك...؟!

ذكر أبو عمرو بن العلاء، قال: قال معاوية يوماً وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل: لأضحكنّك من عقيل! فلمّا سلّم قال له معاوية: مرحباً برجل عمّه أبو لهب. فقال له عقيل: أهلاً برجلٍ عمّته حمّالةُ الحَطَب في جيدها حبْلٌ من مَسَد.

قال معاوية: يا أبا يزيد، ما ظنّك بأبي لهب؟ قال: يا معاوية - ولم يكنّه كما فعل ابن هند إذ كنّى عقيلاً -، إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمّتك حمّالة الحطب؛ أفناكحٌ في النار خيٌر أم منكوح؟! قال: كلاهما سواءٌ شرٌّ والله(١) .

ليس مثل عقيل بن أبي طالب رضي الله عنهما، مَن يكعّ عن جواب ابن هند أو تخونه بديهته حتّى يجعله أضحوكة لابن النابغة، لكن شاء الله لـما علم من حال ابن هند، وحال أسرته؛ أن يُخليهم وأنفسهم يعمهون ولا يكفّ عنهم قرناءهم ليزيّنوا لهم أعمالهم، فهم عمون.

واتّفق من حال ابن هند أنّ فيه شيئاً يحركه فلا يطيق إلّا أن يعود فيعاد عليه شرّه. وله مع عقيل مواقف غير ما ذكرنا، من ذلك:

قال معاوية لعقيل: ما أبين الشَّبَق(٢) في رجالكم يا بني هاشم!

قال: لكنّه في نسائكم يا بني أميّة أبيَن!(٣)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٤: ٩٣؛ وبلفظ قريب منه في العقد الفريد ٤: ٩١، الموفقيّات: ٣٣٥، البيان والتبيين، للجاحظ ٢: ٣٢٦، عيون الأخبار ٢: ١٩٧، أنساب الأشراف ٢: ٣٣٠، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ١٢٢.

(٢) الشّبق: إشتداد الشهوة الجنسيّة.

(٣) العقد الفريد ٤: ٩١، أنساب الأشراف ٢: ٣٣٠، عيون الأخبار ٢: ٢١٠، شرح نهج البلاغة ٢: ٣٢٩، وفي نثر الدرّ ٢: ١٩٨ قال معاوية لعقيل: إنّ فيكم شبقاً يا بني هاشم. قال: هو منّا في الرجال، ومنكم في النساء.

٢٦٩

وقال معاوية لعقيل وقد ابتلي به: إنّ فيكم يا بني هاشم لِيناً. قال: أجل، إنّ فينا لينا من غير ضعف، وعزّاً من غير عنف، وإنّ لينكم يا معاوية غَدْر وسِلمكم كفر، فقال معاوية: ولا كلّ هذا يا أبا يزيد!(١)

فلم يكن عقيل يتكلّم من غير بيّنة؛ فهند أعطت لوحشي ضمير الصدر، ومعاوية مردّد بين الصُّبّاح؛ وبين أربع رجال، حاله حال أخيه عُتبة؛ وعدا الصُّبّاح والأربع فهناك رجل آخر...، ومن قبل تزوّجت هند رجالاً ثلاث؛ فأيّ شبق بعد هذا؟!

لم يكن معاوية يجهل حال أمّه هند؛ وهو يرى أنّ عمر بن الخطّاب يوصيه بها خاصّةً ويعرف كثيراً عن حياة هذا الرجل (أبوسفيان) الذي ارتبط بأمّه؛ وجدّة هذا الرجل (حمامة) ذكرناها في مشاهير البغايا من ذوات الرايات. ولـمّا كان من شأن هؤلاء وما اشتهروا به هو الاستلحاق والادّعاء، وقد استلحق ابن هند ابن سميّة زياداً فادّعى إخوّته، وهو مثله ابن زنىً يدعى إلى أربعة وأمّه من ذوات الرايات؛ فليس صعباً على ابن هند أن يمارس الزنا وإن تربّع على منبر المسلمين، فورث يزيد القرود ذلك منه!

المدائني عن محمّد الثقفيّ قال: دعا معاوية بجارية له خراسانيّة فخلا بها، وعرَضتْ له وصيفةٌ مولّدة فترك الخُراسانيّة وخلا بالوصيفة فنال منها وخرج فقال للخراسانيّة: ما اسم الأسد بالفارسيّة؟ فقالت: كَفْتار، فخرج وهو يقول: أنا الكَفْتار، فقيل له: أتدري ما الكفتار؟ قال: نعم الأسد، قالوا: لا ولكنّه الضّبُع العرجاء، فقال: ما لها لله دَرُّها! سرعان ما أدركت بثأرها(٢) .

ومن شابه أُمَّه فما ظلم! فكلاهما سواءٌ شرٌّ.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤: ٩٣.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٦٤.

٢٧٠

سوء تقدير، أم حسن تدبير

لا أظنّ أنّ بيتاً في جاهليّة ولا إسلام ضمّ بين حناياه ما ضمّه البيت الأمويّ من خزايات وعاهات، لا يفتحون ماخُورَهم إلّا لمعْرِقٍ في الغَدْر والكفر والعُهْر ومَن ضُرب في ضياع النسب بسهم وافر!

فكانت خضراء ابن هند بدمشق، وخضراء الحجّاج بواسط، وخضراء المنصور العباسيّ ببغداد؛ وأخيراً خضراء فرعون العصر وأعتى الطواغيت صدّام ببغداد أيضاً، مواخير فسق ومراتع إبليس ومناحر لأطهر وأشرف عباد الله، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

كان لابن هند هيئة استشارية يركن إليها في الملمّات منهم الصحابي الأعور الزنّاء المغيرة بن شعبة، وقد عرفت من قصّة غدره ببني مالك فذبحهم أجمعين، حسداً...، وإحصانه في الإسلام أكثر من ثمانين امرأة، ثمّ كان من فضائله زناه الذي شهد عليه فيه عند حاكم المسلمين عمر بن الخطّاب، وقد ناضل عمر أشدّ النضال في درأ الحدّ عن الصحابيّ حتّى جاء ابن سميّة زياد فأسمعه عمر ما يريده منه! ولذا فلم يشهد مثل سابقيه الّذين أذهبا بشهادتهما ثلثي دين المغيرة، فأبقى على الثالث الآخر فلهو لم يرَ مثلهما أنّه يدخله فيها ويخرجه إدخال الميل في المكحلة، وإنّما رآه متبطّنها جالساً بين فخذيها - ربما يعالجها من مرض! - ولم ير من عورته إلّا خصيته السوداويين؛ ونفساً يعلو؛ ونكص عن الشهادة برؤية ميل المغيرة يولجه في المرأة ويخرجه مثل الميل في المكحلة؛ فكبّر عمر وجلد الشهود...؛ وقد علمتَ مَن هي المرأة.

ومن لُجنته وإن شئت سمّيته وزيره: ابن النابغة عمرو الذي ينسب إلى ستّة، وتلونا عليك من أنبائه أنّ أمّه من ذوات الرايات، وما أكثر رايات البغاء والعُهْر والضلال في

٢٧١

هذا البيت! ولـمّا انعقدت نطفته سألوها إلى من تنسبه من هؤلاء الزّناة فاختارت العاص بن وائل السَّهميّ. ذكره ابن حبيب (ت ٢٤٥ هـ) في كتابيه (المحبّر: ١٦١) و (المنَمَّق: ٤٨٧) في (زنادقة قريش) - تعلّموا الزندقة من نصارى الحيرة - وهم: أبو سفيان صخر بن حرب، أظهر الإسلام؛ وعقبة بن أبي معيط، ضربت عنقه يوم بدر، ضربها عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وأبيّ بن خلف الجُمَيّ، قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد، والنَّصر بن كَلَدة من بني عبد الدار، قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر؛ ومنبّه، ونبيه ابنا الحجّاج السّهميّان، قتلا يوم بدر كافرين، قتلهما عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام. وقتل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : العاص بن منبّه السَّهْميّ يوم بدر. وقد ذكرنا الذين قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام من بني عبد شمس، وبني أميّة وغيرهم مع مصادر ذلك في غير هذا الموضع. وإنّما أردنا أن نشير إلى دواعي انضمام ابن النابغة إلى ابن هند، وكلاهما يعرف بأمّه، سارت بذلك الرّكبان. ولا يستحي عمرو أن ينتمي إلى أمّه موضع فخره! ركبها في يوم واحد، واحد وأربعون رجلاً وعاشرت العبيد بمكّة، ثمّ كانت الليلة المشؤومة التي تراودها فيها ستّة وانعقدت نطفة عمرو؛ فنسبته إلى العاص بن وائل.

قلنا: إنّ ابن حبيب ذكر العاص في الزنادقة؛ وكذلك قد ذكره في المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وماتوا ميتات مختلفات.

قال: وأمّا سبب موته، فإنّ العاص بن وائل خرج في يوم مطير على راحلته ومعه ابنان له يتنزّه ويتغدّى، فنزل شعباً من تلك الشعاب، فلمّا وضع قدمه على الأرض صاح، فطافوا فلم يروا شيئاً، فانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق البعير، فمات من لدعة الأرض(١) .

____________________

(١) المحبّر: ١٥٩، المنمّق: ٤٨٦.

٢٧٢

فالعاهة واحدة، وعقدة النسب؛ تؤلّف بين قلبي ابن هند، وابن النابغة وتجعلهما يداً على من حاز دونهما كلّ فخر، وزكى عليهما في طهارة المولد، ومفاخر آبائه وأمّهاته.

وهما مع علمهما أن لا نسب لهما بأبي سفيان صخر بن حرب، والعاص بن وائل السهميّ؛ فهما لم يجدا بدّاً من الرضا بهذا النسب حتّى أشربا إيّاه، يوترهما ما يوتره؛ وقد وتر أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ابن هند بما ذكرناه؛ ووتر ابن النابغة بما ذكرناه؛ فصار هذا سبباً آخر في أن يكونا جبهةً واحدةً.

النابغة: سأل رجل عمرو بن العاص عن أمّة فقال: سلمى بنت حَرمَلة، تُلقَّب النابغة من بني عنزة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكِهُ بن المغيرة، ثمّ اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثمّ صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له، فأنجبت، فإن كان جُعِل لك شيء فخذه(١) .

عمرو، أعرف بأمّه، فهي سبيّ، بيعت في الأسواق كما تباع البضائع، فاشتراها الفاكه بن المغيرة المخزوميّ(٢) ، وبعد أن نال منها وطراً! اشتراها منه عبد الله بن جدعان التيميّ، من قوم طلحة وأبي بكر؛ فأصاب منها دهراً، وأخيراً، برواية ابنها عمرو، صارت إلى العاص بن وائل.

فهو لا يجد حرجاً في الكلام عن أمّه وتقلّبها بين الرجال، إلّا أنّه لم يصرّح كيف صارت إلى العاص بن وائل، هل بالشراء مثل الفاكه، وابن جُدْعان؟

ثمّ خلط الأمور بقوله (فولدت له، فأنجبت)؛ إيحاءً منه بما حدث؛ فأنجبت

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ٢٤٤.

(٢) الفاكه بن المغيرة المخزوميّ، ابن عمّ خالد بن الوليد المخزوميّ. والفاكه هو الزوج لهند أمّ معاوية، قتل عنها بالغميصاء؛ ثمّ حفص بن المغيرة، مات؛ ثمّ صخر (أبو سفيان) بن حرب. (المحبّر: ٤٣٧).

٢٧٣

عمرو؛ إلّا أنّه جعل الأمر وكأنّه بعد أن صارت النابغة إلى العاص وليس عكس ذلك أي: لـمّا واقعها عدّة رجال منهم العاص بن وائل فحملت بعد ذلك، فلمّا وضعت حملها سئلت: بمن يلحقوه؟ فاختارت العاص: فعلى ذلك؛ كان على عمرو أن يقول: إنّ النابغة وقع عليها العاص في رجال...، ويتمّ الخبر كما هو، وكيفما قال عمرو فإنّ النابغة لم تسمّ بذلك إلّا لنبوغها في الزنا، وهي من ذوات الرايات.

فحال عمرو في الانتساب إلى العاص مثل حال انتساب معاوية إلى أبي سفيان. إنّ انتساب عمرو إلى النابغة، هو الثغرة الأولى التي ينفذ منها كلّ من أراد تنقّصه وتوهين أمره؛ فإذا ذكره قال: يا ابن النابغة؛ وأعرض عن كفره وكشف عورته يوم صفّين ووشايته بجعفر وجماعته لدى النجاشيّ، وعدم غيرته وهو يرى رجلاً مع امرأته في فراشه؛ فإنّ النابغة غطّت على كلّ هذه الفضائح وغيرها وقد خاطبه سيّد الصادقين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام، يوم صفّين بذلك، لـمّا وقع الخلاف عند كتابة وثيقة التحكيم، فرفض ابن هند وابن النابغة صيغة الكتاب وامتنعا من تسمية عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام، مثلما كان من مشركي قريش في صلح الحديبيّة، إذ أصرّ مفاوضهم سهيل بن عمرو على محو عبارة (رسول الله) من وثيقة الصلح. وقد أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى ذلك، طاعناً بإسلام عمرو وحزبه، فقال عمرو: سبحان الله! ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟ فقال له عليّعليه‌السلام : (يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً، وهل تشبه إلّا أمّك التي وُضعت بك!)(١) .

المعاوية تكشف عورات حرب

قال ابن عبّاس: قدِمت على معاوية وقعد على سريره وجمع أصحابه، ووفودُ العرب

____________________

(١) وقعة صفّين: ٥٠٨.

٢٧٤

عنده، فدخلت وسلمت وقعدت، فقال: مَن الناس يا ابن عباس؟ فقلت: نحن. قال: فإذا غبتم؟ قلت: فلا أحد! قال: ترى أنّي قعدت هذا لا مقعد بكم؟ قلت: نعم، فبمن قعدت؟ قال: قال: بمن كان مثل حرب بن أميّة.

قلت: من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه. قال: فغضب وقال: وارِ شخصك شهراً قد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك. فلمّا خرج ابن عبّاس قال لخاصّته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنّه(١) لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبه أو مضيق مع قوم إلّا لم يتقدّمه أحد حتّى يجوزه، فالتقى حرب بن أميّة مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدّمه التميميّ، فقال حرب: أنا حرب بن أميّة، فلم يلتفت إليه التميميّ وجازه، فقال: موعدك مكّة؛ فبقي التميميّ دهراً، ثم أراد دخول مكّة فقال: من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا: عبد المطلب. قال: عبد المطلب أجَلّ قدَراً من أن يُجير على حرب! فأتى ليلا دارَ الزبير بن عبد المطّلب فدقّ عليه، فقال الزبير للغَيْداق(٢) : قد جاءنا رجلٌ إمّا طالب حاجة وإمّا طالب قِرىً وإمّا مستجير، وقد أعطيناه ما أراد.

قال: فخرج إليه الزبير، فقال التميميّ:

لاقَيْتُ حَرْباً في الثَّنِيّةِ مُقْبِلاً

والصبحُ أبْلَجَ ضَوؤُهُ للساري(٣)

فَدَعا بصوتٍ واكتَنَى لِيَرُوعَني(٤)

ودَعا بِدَعْوتِهِ يُريدُ فَخاري

فتركتُه كالكلبِ يَنبَحُ وحدَهُ

وأتيتُ أهلَ معالمٍ وفَخَارِ

____________________

(١) عائدة إلى حرب بن أميّة.

(٢) الغَيداق بن عبد المطّلب، واسمه نوفل، وأمّه ممتّعة بنت عمرو الخزاعيّة (جمهرة النسب: ٢٩، النسب: ١٩٧، الاشتقاق: ٤٧. وفي نسب قريش: ١٨: الغيداق، واسمه مصعب).

(٣) الثّنيّة: طريق الصعبة. أبلَجَ: أشرق وأضاء.

(٤) يروعني: يفزعني.

٢٧٥

لَيْثاً هِزَبراً يُستجارُ بقُربِه

رَحْبَ المباءةِ مُكِرماً للجارِ(١)

ولقد حلفتُ بزمزمٍ وبمكّةِ

والبيت ذي الأحجار والأستارِ

إنّ الزبير لَمانعي من خوفِه

ما كبَّر الحُجّاجُ في الأمصارِ

قال: تقدّم فإنّا لا نتقدّم من نُجيره. فتقدّم التميميّ فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف فعدا حتّى دخل دار عبد المطّلب، فقال: أجرني من الزبير، فأكفأ عليه جفنةً كان عبد المطّلب يطعم فيها الناس، فبقي هناك ساعةً ثمّ قال له: أُخرج. فقال: كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتَبَوا بسيوفهم على الباب؟! فألقى عليه رداء كان كساه إيّاه سيف بن ذي يَزَن، له طرّتان خضراوان. فخرج عليهم فعلموا أنّه قد أجاره، فتفرّقوا عنه(٢) .

مكرمة جديرة بالذكر

من الإنصاف ذكر مكارم الناس وليس الاقتصار على الخوض في مثالبهم مهما كان خمول ذكرهم.

قال محمّد بن كعب: إنّا لجلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاصّ، فجلس فقصّ، ثمّ دعا للعامّة والخاصّة، ثمّ دعا للخليفة، ومعاوية يومئذ خليفة!

فقلنا للبراء: يا أبا إبراهيم! دخل هذا فدعا للعامّة والخاصّة، ثمّ دعا لمعاوية فلم نسمعك قلت شيئاً، فقال: إنّا شهدنا وغِبْتُم، وعلما وجهِلْتم، إنّا بينا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحنين إذ أقبلت امرأة فوقفت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: إنّ أبا سفيان ومعاوية أخذا

____________________

(١) هِزَبر: شديد صلب. المباءة: المنزل، المحيط.

(٢) المحاسن والمساوئ، للبيهقيّ: ٨٩ - ٩٠، المحاسن والأضداد، للجاحظ: ٨٦ - ٨٧. وهذا معنى قول ابن عبّاس: (من أكفاً عليه إناءه وأجاره بردائه).

٢٧٦

بعيراً لي فغيّباه عليَّ. فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية: أن ردّا على المرأة بعيرها. فأرسلا: إنّا والله ما أخذناه، وما ندري أين هو. فعاد إليها الرسول فقالا: والله ما أخذناه وما ندري أين هو. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى رأينا لوجهه ظلالا ثمّ قال: انطلق اليهما فقل لهما: بل والله إنّكما صاحباه، فأديّا إلى المرأة بعيرها. فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه فقالا: إنّا والله ما أخذناه، ولكن طلبناه حتّى أصبناه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهبا(١) .

وقفة أخرى مع أميّة

فيما تقدّم، ذكرنا أنّ أميّة عبدُ عبدِ شَمْس، روميّ اشتراه عبد شمس من أرض مصر ثمّ أعتقه واستحلقه فصار يعرف بأميّة بن عبد شمس.

وإذا وقع شكّ في عبوديّة نسب أميّة؛ فلا شكّ في عبوديّة السبب! وقبل الحديث عن هذه باختصار نقول: لم يكن لأميّة في نفسه ميزة أو خليقة ترفعه إلى شرف ونُبْل. ولو افترضنا نسبته إلى عبد شمس، فلم يكن لهذا في نفسه ميزة كذلك؛ إنّما يذكر بأبيه وبأخيه هاشم الذي كان يكفل عيشه ويسدّ مسغبته(٢) .

ثمّ إنّ أميّة إنّما صار شيئاً مذكوراً ببنيه(٣) الذين إنّما أحيا ذكرهم ما قرنهم ببني هاشم، إذ صاروا خصوماً ألدّاء لهاشم وبنيه فلا يذكر الهاشميين ذاكر إلّا ذكر معهم الأمويّين مهما كانت المناسبة والذكر.

وذكره المقريزي أيضاً فقال: (ولم يكن أمية هناك...، وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار)(٤) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٧٢ - ٧٣.

(٢) انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٤٦٦.

(٣) النزاع والتخاصم، للمقريزي: ٢١.

(٤) نفس المصدر السابق: ٤١.

٢٧٧

ونورد نصّين نستجلي منهما حقيقةً مهمّة في أميّة:

في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى ابن هند، عقد فيه موازنة بين هاشم وأميّة وبين حرب وعبد المطّلب وبين نفر من آل هاشم ونفر من آل أميّة؛ وفيه: (وليس المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق)(١) .

ويقول أبوطالب من أبيات أنشأها حين تظاهر عليه وعلى رسول الله، بنو عبد شمس، ونوفل.

توالى علينا موالينا كلاهما

وإذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تراجما

كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر

أخصّ خصوصاً عبد شمس ونوفلا

هما نبذانا مثل ما نبذ الخمر

قديماً أبوهم كان عبداً لجدّنا(٢)

بني أَمَة شهلاء جاش بها البحر

فهاتان شهادتان صادرتان من رجلين برَّيْن تقيّين يتحرّجان القولَ من غير علم، ويأنفان أن تأخذهما الحميّة فيتعمّد الهجاء؛ وإذا أخبرنا؛ لم يصدرا إلّا عن صدق وإنصاف.

ففي قول أمير المؤمنين إذ يخاطب ابن هند فيصفه بـ (اللصيق)؛ فليس أدلّ في اللغة العربيّة على انتحال أميّة نسبه إلى عبد شمس.

وفي قول أبي طالب زيادة في الدلالة وتفصيلاً لـِما أجمله ولده أمير المؤمنينعليهما‌السلام.

فقد نصب (بني) - في آخر بيت - بإضمار فعل يخصّص من كان أبوهم عبداً لجدّ الطالبيّين، فالمعنيّون في البيت: بنو أميّة بقرينة نصب (بني) بفعل (أعني أو أخصّ) وبهذا التقدير يتّسق البيت ويتّضح معناه.

____________________

(١) من كتاب لهعليه‌السلام جواباً على كتاب معاوية إليه، وهو في نهج البلاغة - باب الكتب رقم ١٧.

(٢) إشارة إلى واقعة استبعد فيها عبد المطلب أميّة عشر سنين، يأتي خبرها.

٢٧٨

والملفت أنّه أنّث الموصوف (أمة) وأتبع ذلك بتأنيث الصفة (شهلاء) وتأنيث الضمير (بها). أنّث كلّ ذلك باعتبار اللفظ ثمّ أنّثه قاصداً إلى تأنيثه استصغاراً له وتعويضاً عن تصغير لفظه الذي لا يستقيم معه الوزن لو جاء بلفظ (أميّة) فكأنّه حين أراد المصغر ولم يُواتِه الوزن، جاء بمُكبَّرهِ (أمَة) ثمّ دلّ على ما يريده منه بتوهين أمره واستصغار شأنه بهذا التأنيث المطّرد وبهذا الوصف الزريّ.

والبيت صريح بأنّ أميّة ممّا قذفه البحر إلى الحجاز مع هذه التجارة التي كانت ترد إلى مكّة من الروم وغيرها.

ولا يجيش البحر بسلع آدميّة إلّا الرقيق والإماء! وليس عبثاً انتقاء أبي طالب كلمة (شهلاء)، فهي صفة لا تعرف بها العين العربيّة التي هي في الأغلب سوداء؛ والشّهلة دون الزرقة، وهي صفة عرفت بها العين الروميّة، أو ربّما كثرت هذه الصفة في عيون الروم.

ويؤيّد ذلك، ما ذكرناه من نقيضته التي ناقض عصره ومحيطه الاجتماعيّ بها؛ المتمثّلة في استلحقاه عبده (ذكوان) وتسميته (أبو عمرو) ثمّ تزويجه امرأته في حياته، فهو بهذه الإباحيّة والتردّي في أخلاق ليست من أخلاق العرب في جاهليّتهم من شيء، وإنّما تناقضها تماماً إذ كانت الحميّة تطبع العصر الجاهليّ وتدمغ العفاف بسنّة قاسية غشوم تلك هي سنّة الوَأْد هرباً من خيال العار! وحرصاً على المرأة من تلك المهاوي الوقاح.

وربّما صلح هذا الأسلوب من أساليب الفسق الذي لا يعرفه العرب في الدلالة على الشكّ في نسبه وأيّد القول بعروضه على مكّة من وراء البحر حيث تشيع أمثال هذا المجون الذي يأنفه العرب وينكرونه(١) .

____________________

(١) نذكّر بما ذكرناه: فهو أميّة؛ تصغير أمَة؛ وهو عبد روميّ مُتبنّى؛ وتبنّى عبده (ذكوان) فسمّاه (أبو عمرو)؛ وزوّجه من امرأته.

٢٧٩

ومن هذا شأنه، فهو منبت كلّ سوء، ولذا تجد فيه الحسد لمن طار صيته في الآفاق ونطق بمجده الصغير والكبير؛ وورث هذا الحسد بنوه أصالةً أو بالاستلحاق مع مصاهرة على امرأته!! فهم يتنسمون الزندقة والإباحيّة والدياثة..؛ وبغض هاشم وبنيه، كلٌّ بغَضَه بوُسع حاله، فمنهم من نافرَه فنفرَه القمرُ الباهر فنفاه عن مكّة إلى الشأم عشرَ سنين.

وعاد اللصيق من منفاه في الشأم وكانّه ذهب في تجارة استغرقت منه عشر سنين في الذهاب والإياب والمتاجرة بماذا؟! وعاد إلى مكّة لم يفد من نفيه إلّا إلحاحاً على العناد وإسرافاً في الفساد ومضيّاً في الحسد وإيغالاً في العداوة؛ وكأنّ ابتعاده إلى تلك الأراضي قرّبه من أنفاس أبناء جلدته؛ ولـمّا وجد هاشماً قد أودع مكارمه (شيبة الحمد) وارتحل؛ فظنّ واهماً أن يصيب بعض الفوز مع عبد المطّلب بعد أن أخفق مع هاشم؛ إلّا أنّ اللصيق مضى يستفزّ عبد المطّلب ويلحّ إلى أن اضطرّ عبد المطّلب إلى قبول منافرة اللصيق ومراهنته؛ إلّا أنّه جعلها مناسبة للقضاء على معنويّة أمويّة وتحقيره وإهانته بما هو أهل له. ولم يكن رهاناً، إنّما امتحاناً صعباً لولا الروحيّة العظيمة وقدس الذات وصفاء النفس الّتي كان عليها عبد المطّلب، لـما أقدم على أمر يتساوى في عقباه مع أميّة؛ إذ طلب إجراء فرسين واحد له والآخر لأميّة، وشرط على المغلوب مائة من الإبل وعشرة من الأعبد، ومثلها من الإماء، واستعباد سنة، وجزّ الناصية وهو علامة على الاستعباد، يشقّ على من عوقب به تحمّله.

فهل مثل عبد المطّلب يضع مثل هذه الشروط وهو لا يدري أنّ فرس أميّة تجري مجرى فرسه وأنّ كلاّ منهما عرضة للكبوة؛ فكيف يكون أمره لو فاز أميّة في هذا الامتحان؟! فلتذهب الإبل وغيرها، أمّا أن يصبح عبد المطّلب - حاشا له! - عبداً

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492