ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه12%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169219 / تحميل: 5896
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

ابن تيميه المجلّد الثاني

نقد منهجه

حبيب طاهر الشمّريّ

مراجعة: جعفر البياتيّ

١

٢

سبَقُ عليّعليه‌السلام إلى الإسلام

امتدّت يدُ النَّصْب إلى فضيلةٍ - وإن شئت فسمّها خصوصيّة من خصائص أمير المؤمنينعليه‌السلام - فأنكَرَتْها، تلك هي سَبْق عليّعليه‌السلام إلى الإسلام!

قال ابن تَيمِيَه: قولُه - أي العلاّمة الحِلّيّ - «وهذه الفضيلة - السَبْق - لم تثبت لغيره من الصحابة» ممنوع، فإنّ الناس متنازعون في أوّل مَن أسلم، فقيل: أبوبكر أوّل مَن اسلم فهو أسبقُ إسلاماً من عليّ، وقيل إنّ عليّاً أسلم قبلَه لكنّ عليّاً كان صغيراً وإسلام الصبيّ فيه نزاعٌ بين العلماء، ولا نزاعَ في أنّ إسلام أبي بكر أكملُ وأنفع؛ فيكون هو أكمل سبقاً وأسبقُ على الإطلاق على القول الآخَر! فكيف يُقال عليّ كان أسبق منه، بلا حجّةٍ تدلّ على ذلك(١) ؟!

جوابنا وبالله التوفيق

إنّ القول بسَبْق أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إلى الإسلام ليس من أقوال العلاّمة

____________________

(١) منهاج السنّة ٤: ٤٢.

٣

الحِلّيّ الّذي كان معاصراً لابنِ تَيميَه، وإنّما هو من أقوال علماء القرن الثاني الهجريّ فما بعد، ومنهم تلقّاه الحِلّيّ. وأمّا قوله بشأن صحّة الحديث: ممنوع! فغريب ومضحك، زاد في خروجه عن المألوف منه في هذه الأحاديث، فلم يقل بشأنه: «وهذا كذِبٌ موضوع عند أهل المعرفة بالحديث» أو «هذا كَذِبٌ بإجماع أهل العلم» ولما كان أبو الفرج قبلةَ ابن تَيميَه قد ذكر سَبْق عليّعليه‌السلام ، فقد ضاقت به السُّبُل، فلاذَ بالناس، وبذا جعل الناسَ جميعاً علماءَ وأهلَ معرفة بالحديث، مستثنياً منهم أصحابَ المصنّفات شيوخ البخاريّ ومسلم، وأصحابَ السُّنن والتراجم والسيرة والتاريخ...؛ فهذه الشرائح من الناس قد أجمعت على سَبْق عليّعليه‌السلام إلى الإسلام؛ ولا ندري إن كان ابن تَيميَه يعدّ هؤلاء من الناس أم لا؟! فإن قال: نعم؛ فقد حكم نفسَه! وإن قال: لا؛ فإلى الله المشتكى! ومع كلّ ذلك، هلاّ ذكر بعضاً من أولئك الناس الذين زعم اختلافهم في أوّل مَن أسلم!

وأمّا التعلّل بمسألة السنّ، وأنّ عليّاًعليه‌السلام أسلَمَ صغيراً...؛ فإنّ هذا المزعم لا موقع له؛ إذِ الكلام جارٍ في سَبْق عليّ إلى الإسلام، وأنت زعمتَ أن أبابكر قال الناس فيه: أنّه هو الذي سَبَق، فكان عليك أن تأتيَ بالحجّة على قولك كما طلبت ذلك منّا! ولمّا لم تفعل فقد سقط زعمك، وأمّا نحن فسنوافيك بما لا تستطيع دفعه فضلاً عن منعه!

وأمّا مسألة السنّ، فقد قيل إنّهعليه‌السلام أسلم وعمره ثلاثَ عشرةَ سنة، وقالوا: خمسة عشر...، والذين قالوا بصغر سنّه إنّما أرادوا حطّ فضيلته هذه، فرفعوا من منزلته - كما سنذكر - وحان أن نذكر حجّتنا:

٤

الناس الذين قالوا بسَبْقِ عليّعليه‌السلام

جارَيْنا ابن تَيميَه حتّى في هذا اللّفظ، فلم نقل مثلاً: إنّ العلماء هم الذين ذكروا فضيلة عليّعليه‌السلام ؛ والعلماء ناسٌ، إلاّ أنّ لهم شأناً في المجتمع وكلمةً مسموعة...

يونس بن بُكير، عن ابن إسحاق(١) قال: حدّثني يحيى بن أبي الأشعث الكنديّ، قال: حدّثني إسماعيل بن إياس بن عفيف، عن أبيه عن جدّه عفيف، أنّه قال: كنتُ امرءًا تاجراً فقدِمتُ أيّامَ مِنى، أيّام الحجّ، وكان العبّاس بن عبد المطّلب امرءًا تاجراً، فأتيتُه أبتاعُ منه وأبيعه؛ قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خِباء يصلّي فقام تجاه الكعبة، ثمّ خرجت امرأةٌ فقامت تصلّي معه، وخرج غلام فقام

____________________

(١) محمّد بن إسحاق بن يَسار، شيخ رجال السّيرة، عاش القرنَين الأوّل والثاني، تُوفّي سنة ١٥٠ هـ قال عبّاس الدُّوريّ: سألتُ يحيى - بن مَعين -: أيُّما أحبُّ إليك: موسى بن عُبيدة الرَّبَذيّ، أو محمّد بن إسحاق؟ فقال: محمّد بن إسحاق. (تاريخ يحيى بن مَعين ١: ٥٠/٢٢٩). وأيضاً الدوريّ، قال: سمعتُ أحمد بن حنبل، وسُئل فقيل له: يا أبا عبد الله، ما تقول في موسى بن عُبيدة الرَّبَذيّ، وفي محمّد بن إسحاق؟ فقال: أمّا محمّد بن إسحاق فهو رجل تُكتَب عنه هذه الأحاديث - كأنّه يعني المغازي ونحوها -، وأمّا موسى بن عُبيدة فلم يكن به بأس، ولكنّه حدّث بأحاديثَ مناكيرَ عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ يحيى / الرقم ٢٣١). وقال العجليّ: محمّد بن إسحاق مدنيّ ثقة. (تاريخ الثِّقات: ٤٠٠/١٤٣٣). وذكره ابن حبّان في الثِّقات وقال: قال عليّ بن المدينيّ - وقد سُئل عن محمّد بن إسحاق - فقال: ثقة. (الثقات لابن حبّان ٤: ٢٣٥/٤٠٦٧). وانظره في: تاريخ البخاريّ الكبير ١: ١: ٤٠، والجرح والتعديل ٣/٢/١٩٢، والكامل لابن عَدِيّ ٣٢٣.

٥

يصلّي معه، فقلتُ: يا عبّاس ن ما هذا الدّين؟! إنّ هذا الدّين ما ندري ما هو؟ فقال العبّاس: هذا محمّد بن عبد الله يزعم أنّ الله أرسله وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستُفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمَنَت به، وهذا الغلام ابن عمّه عليُّ بن أبي طالب آمَنَ به؛ قال العفيف: فليتني آمنتُ يومئذ وكنتُ أكون ثانياً(١) !

وكذلك ابنُ إسحاق، عن يونس بن يوسف بن صُهَيب عن عبد الله بن بُرَيدة قال: أوّل الرجال إسلاماً عليّ بن أبي طالب، ثمّ الرَّهَط الثلاثة: أبو ذرّ، وبُرَيدة، وابن عمٍّ لأبي ذرّ(٢) .

هذه واحدة من حُججنا، وقد طلبتَ حجّةً فأتيناك بها من رجلٍ لا تستطيع خدشَه! كيف وأئمّتُك: ابن حنبل، وابن معين، وابن أبي حاتِم، والعجليّ... قد وثّقوه؟! وسنُلقي على مسامعك حُججاً تَترى؛ لأنّها من الناس إلاّ أنّ رجالها ثقات وليس فيهم نكِرة:

فهذا عبد الرزّاق بن هَمّام الصنعانيّ، لم تبعد الشقّة بينه وبين ابن إسحاق مثلما بعدت بينك وبينه، فهي لا تزيد على ١١ سنة، فقد تُوفّي عبد الرزّاق سنة ٢١١ هـ قال: قال مَعْمَر: أخبرنا قتادة عن الحسن وغيره فقال: كان أوّلَ مَن آمن به عليُّ بن أبي طالب وهو ابن خمسَ عشرةَ أو ستَّ عشرة(٣) . قال: وأخبرني

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق: ١٣٧.

(٢) نفسه: ١٣٨.

(٣) المصنَّف، لعبد الرزّاق ٥: ٢١٩.

٦

عثمان الجَزريّ عن مِقسم عن ابن عبّاس قال: عليٌّ أوّل مَن أسلم(١) .

فمَن كان عمره ستّ عشرة سنة، لا يقال عنه صبيّ لا يرقى في إسلامه إلى صفّ الشيوخ الذين أمضوا قرابة خمسين سنة في جاهليّة وعبادة أوثان...؛ وهل الذين قادوا الحروب على الإسلام وماتوا أو قُتلوا وهم مشركون إلاّ شيوخ قريش؟!

أمّا الإمام عليّعليه‌السلام فلقد كان ممّا أنعم الله عليه أنّه كان قد نشأ في حِجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الإسلام، ولم يكن يفارق رسول الله، فلقد تكفّل النبيُّ عليّاً - في قصّة معروفة - وكان له مِثْلَ الشيء وظِلّه لا يزايله. وكانعليه‌السلام يسمع صوتَ الوحي ويراه - ذكرنا حديثه في حديث مدينة العلم والخطبة القاصعة لأميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ «فكان عليٌّ أوّلَ مَن آمن برسول الله وصلّى معه، وصدّق بما جاءه من الله تعالى... صلّى النبيّ يومَ الإثنين، وصلّى عليٌّ يومَ الثُّلاثاء»(٢) .

مع التذكير: بأنّ خديجةرضي‌الله‌عنها أوّلُ مَن أسلم هي وعليّ، ثمّ تَبِعهم الرهط الثلاثة - مضى ذِكْرهم. ولا ندري كم هو عمرُ هؤلاء الرهط، صبياناً كانوا حين أسلموا، أم شيوخاً فيكونوا أكمل إسلاماً من عليّعليه‌السلام ؟ إلاّ أنّا ندري أنّ خديجة أسنَّ من عليّ بكثيرٍ حين أسلمت، فماذا نقول عن إسلامها وإسلام أبي بكر؟!

والحكم على إسلام مَن أسلم هو من شأن الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا من

____________________

(١) نفسه.

(٢) سيرة ابن إسحاق ١٣٧ - ١٣٨، والسيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٢٦٢، وصحيح الترمذيّ ٥: ٦٤٠، وشواهد التنزيل ٢: ١٢٦....

٧

شأن ابن تَيمِيَه وأضرابه.

وقبل الاسترسال في ذكر الحجج التي طلب ابن تيميه في سَبْق عليّعليه‌السلام ، نذكر حديث العشيرة؛ لنعرف مدى ضرورة السنّ لدى النوابغ في التَّلقّي وأهمّيتها في الإعداد الرساليّ في مثل شخص الإمام عليّعليه‌السلام وتهيأته للوصاية والخلافة الكبرى.

حديث العشيرة

لما نزل قوله تعالى:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١) : بسندٍ عن أبي عَوانة، عن عثمان بن المُغيرة، عن أبي صادق، عن رَبيعة بن ناجذ: أنّ رجلاً قال لعليٍّ: يا أمير المؤمنين، لِمَ وَرثْتَ ابن عمِّك دونَ عمِّك؟ قال: جَمعَ رسول الله بني عبد المطّلب، كلُّهم يأكلُ الجَذَعة ويشربُ الفَرق(٢) . قال: فصنع لهم مُدًّا من طعام فأكلوا حتّى شبعوا، وبقيَ الطعامُ كما هو كأنّه لم يُمَسَّ ولم يُشرب. فقال: يا بني عبد المطّلب، إنّي بُعِثتُ إليكم خاصّةً وإلى الناس عامّةً، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيُّكم يُبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقُمْ إليه أحد. قال: فقُمتُ - وكنتُ أصغرَ القوم سِنّاً - فقال: اجلِسْ. قال: ثمّ قال ثلاثَ مرّاتٍ، كلُّ ذلك أقومُ إليه فيقول لي: اجلِسْ، حتّى كانت الثالثة، ضرب يدَه على يدي.

____________________

(١) الشعراء: ٢١٤.

(٢) الجذعة: الضّأن لم تتمّ سنة. والفرق: مكيال يسع ستّة عشر رطلاً.

٨

فقال: فلذلك ورثتُ ابن عمّي دونَ عمّي(١) .

فلو كان عليّعليه‌السلام صبيّاً ليس له من صفات الكمال التي هي خاصّة بالشيوخ، لَما اختاره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وارثاً وأخاً وصاحباً وخليفةً دون غيره.

ولقد أنكر ابن تيميه حديث العشيرة، وسنأتي عليه في موضعه، وإنّما ذكرناه هنا للمناسبة.

وذكر ابن سعد (المتوفّى سنة ٢٣٠ هـ) قال: أخبرنا وكيع بن الجرّاح ويزيد ابن هارون وعفّان بن مسلم، عن شعبة عن عمرو بن مرّة، عن أبي حمزة مولى الأنصاريّ، عن زيد بن أرقم قال: أوّلُ مَن أسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ. قال عفّان بن مسلم: أوّل مَن صلّى(٢) .

____________________

(١) وفي بعض طُرق الحديث يَرِد بلفظ: «أخي وصاحبي وخليفتي...».

مصادر الحديث: تفسير الطبريّ ١٩: ٧٤ - ٧٥، خصائص النَّسائيّ: ٨٦، مسند أحمد بن حنبل ١: ٢٥٧ / ١٣٧٥، والفضائل له: ٩١، صحيح البخاريّ في كتاب الأشربة: ١٣، دلائل النبوّة، للبيهقيّ: ٤٠١، تفسير الحِبَريّ: ٣٤٧/ ٨٥، تاريخ الطبريّ ٢: ٩٣، صحيح مسلم ١: ١١٨ ح ٣٥٥، التفسير الكبير ١٢: ٢٦، الولاية ن لابن عُقْدة: ١٦١، تفسير البغويّ (معالم التنزيل) ٥: ١٠٥، شواهد التنزيل ١: ٥٤٢، كفاية الطالب: ١٧٧، تفسير الثعلبيّ ٧: ١٨٢، مناقب ابن المغازليّ: ٢٦١، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١٣: ٢١٠، تذكرة الخواصّ: ٣٨، الصواعق المحرقة: ١٥٧، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١٠، مجمع البيان ٤: ٢٠٦، أمالي الطوسيّ: ٥٨٢، العُمدة، لابن البِطريق ك ٧٦، كنز العمّال ٦: ٣٩٦، مناقب ابن شهر آشوب ٢: ٣١، مناقب الكوفيّ ١: ٤٢٩ / ٢٩٦، علل الشرائع - الباب ١٣٣ / ح ٢، وغيرها من المصادر.

(٢) طبقات ابن سعد ٣: ٢١.

٩

وعلى القول الثاني، فلا صلاة بلا إسلام! إذ كان الوحي في الدعوة إلى التوحيد، ثمّ جاءت الفرائض والأحكام، فهو أوّل مَن سبق إلى الصلاة، وهو تأويل ما كان يرفع به صوته فيقول: «أنا أوّلُ مَن صلّى مع رسول الله؛ وصلّيت معه سبع سنين...» وقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّيت الملائكةُ علَيَّ وعلى عليٍّ سبع سنين... لم يكن معي مَن أسلم من الرجال غيرُه...»(١) .

وابن سعد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون وسليمان أبو داود الطيالسيّ قالا: أخبرنا شُعبة عن سلَمة بن كُهَيل، عن حبّة العُرَني قال: سمعتُ عليّ بن أبي طالب يقول: «أنا أوّل مَن صلّى»، قال يزيد: «أو أسلم»(٢) .

وابن أبي شَيْبة (المتوفّى ٢٣٥ هـ): حدّثنا معاوية بن هشام عن سلمة بن كُهَيل، عن أبي صادق، عن عليم، عن سلمان - الفارسيّ - قال: إنّ أوّل هذه الأُمّة وروداً على نبيّها، أوّلُها إسلاماً عليُّ بن أبي طالب(٣) .

عبد الله بن إدريس عن أبي مالك الأشجعيّ عن سالم بن أبي الجَعْد قال: قلت لابنِ الحنفيّة: أبوبكر أوّل القوم إسلاماً؟ قال: لا(٤) .

وفي نثر الدُّرّ: قيل لابن عبّاس، أو لقُثم بن عبّاس: كيف وَرِث عليٌّ

____________________

(١) نفسه ٣: ٢١.

(٢) نفسه.

(٣) المصنَّف، لابن أبي شيبة ٧: ٥٠٣ حديث ٤٩ - من فضائل عليّعليه‌السلام ، و ٨: ٣٥٠ / ٢٢٢ و ٨: ٣٢٩ / ٣٣ - كتاب الأوائل.

(٤) المصنَّف، لابن أبي شيبة ٨: ٣٣٢ / ٦١.

١٠

النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله دونكم؟ فقال: كان أوّلَنا به لُحوقاً، وأشدَّنا به لُصوقاً(١) .

وتكلّم المسعوديّ فيما قيل بشأن سنّ أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام يوم أسلم، قال: وتُنُوزع في سِنّه يومَ أسلم، فقالت فرقة: كان سنُّه يومَ أسلم خمسَ عشرةَ سنة، وقال آخرون: ثلاثَ عشرةَ سنة، وقيل: إحدى عشرة سنة... قال: وهذا قول مَن قصد إلى إزالة فضائله، ودفع مناقبه؛ ليجعل إسلامه إسلام طفلٍ صغير، وصبيٍّ غرير، لا يُفرِّق بين الفضل والنقصان، ولا يميّز بين الشكّ واليقين، ولا يعرف حقًّا فيطلبَه، ولا باطلاً فيجتنبّه(٢) . ونحن مع المسعوديّ فيما ذكر من سنّ الإمام عليّعليه‌السلام يومَ أسلم، فقد ذكروا بشأن غزوة بدر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عرض أصحابَه وردّ مَن استصغر منهم، فكان ممّن ردّ: عبد الله، ورافع بن خديج...، علماً أنّ غزوة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة، فلو كان سنُّ عليّعليه‌السلام كما زعموا، لاستصغره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كما استصغر غيره، فردّه. وبلاءُ الإمام عليّ يوم بدر أشهرُ من أن يُتحدَّث عنه. حتّى أنّ الوحي هتف يومئذ بشجاعته: لا فتى إلاّ عليّ، لا سيف إلاّ ذو الفَقار، ويُقال إنّ الهتاف كان يومَ أُحد في السنة الثالثة من الهجرة - سنتحدّث عنه في: شجاعة عليّ، وقد أنكرها ابن تيميه أيضاً! -، ويوم الخندق أحجم المسلمون عن عمرو بن عبد وَدّ، الذي اقتحم عليهم الخندق وطلب البراز، فلم يقم إليه إلاّ عليّ فأقعده النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنادى عمرو... وهكذا يفعل ثلاث مرّات لا يقوم إلاّ عليّ، فبرز إليه فقَتَله، فأين الشيوخ مكتملو الإسلام عن

____________________

(١) نثر الدُّرّ، للآبيّ (المتوفّى سنة ٤٢١ هـ) ١: ٤١٦.

(٢) التنبيه والإشراف، للمسعوديّ: ١٩٨.

١١

أفعال عليّعليه‌السلام ؟!

ولم يستصغره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ بعثه خلف أبي بكر فأخذ منه سورة براءة فبلّغها، ولم يستصغره إذ أعرضَ عن أبي بكر وعن عمر بن الخطّاب لمّا خطبا بضعته فاطمةعليها‌السلام ، وزوّجها عليّاًعليهما‌السلام .

وما استصغره إذ كان يخلو به يناجيه، ولمّا شَكَوُا انتجاءه إيّاه قال لهم: «ما أنا انتجيتُه، ولكنّ الله انتجاه».

كرامة عليّعليه‌السلام

لو سلّمنا أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام أسلم صغيراً؛ فإنّما ذلك زيادةٌ في كرامته، إذ تربّى في حِجْر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يتلوّث بكَدَر الجاهليّة كما حصل لغيره، فقد كرّم الله وجهه عن عبادة الأوثان؛ فالنقيصة فيمَن تنقّصه؛ ولذا فعليّ سلام الله عليه لم ينتقل من كفر إلى إيمان، وإنّما لمّا جاء الوحي بالإسلام وعرضه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه، أسلم، فكان أوّل مَن أسلم مع خديجة «سلام الله عليها».

ولادة الحسن

في السنة الثالثة من الهجرة وُلد الحسن بن عليّ بن أبي طالب(١) ، فكيف يكون عمر عليّعليه‌السلام سبعاً أو... يومَ أسلم؟!

عن جعفر بن محمّد، عن أبيه قال: بايَعَ رسولَ الله: الحسنُ والحسين وعبد

____________________

(١) الثِّقات، لابن حبّان ١: ٨٢.

١٢

الله بن جعفر، وهم صغار، ولم يبايِعْ قطُّ صغيرٌ إلاّ هُم(١) .

قال ابن حبّان: أوّل مَن آمن برسول الله زوجتُه خديجة بنت خويلد، ثمّ آمن عليُّ بن أبي طالب وصَدَّقه بما جاء به(٢) .

وذكر ابن أبي الدنيا إسلامَ عليّعليه‌السلام على النحو الذي ذكره ابن اسحاق مع زيادة واختلاف في بعض الألفاظ؛ قال: عن ابن أبي يحيى بن عفيف قال: قدمتُ مكّةً في الجاهليّة أُريد شراء بَزٍّ وعطر لأهلي، فنزلتُ على العبّاس، فأنا عنده وأنا أنظر إلى الكعبة، إذ جاء شابٌّ فنظر إلى السماء، فتوجّه إلى الكعبة فصلّى، فجاء غلام عن يمينه، ثمّ جاءت امرأة فقامت خلفهما. فقال: يا عبّاس، ما هذا الذي حدث في بلادكم؟! إنّ هذا لأَمرٌ عظيم! قال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، ابن أخي، وهذا الغلام ابن أخي عليُّ بن أبي طالب، وهذه خديجة بنت خويلد. قال: فصَلّوا، قال: إنّ ابن أخي هذا حدّث حديثاً أنّ ربّه ربُّ السماوات والأرض، ولا واللهِ ما أعلمُ على ظهر الأرض على دِين هؤلاء غيرَ هؤلاء(٣) .

قال أبو عمر بن عبد البَرّ القرطبيّ المالكيّ (المتوفّى سنة ٤٦٣ هـ): رُوي عن سلمان وأبي ذرّ والمقداد وخَبّاب وجابر وأبي سعيد الخُدْريّ وزيد بن أرقمرضي‌الله‌عنهم ، أنّ عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أوّلُ مَن أسلم، وفضّله هؤلاءِ على غيره(٤) .

____________________

(١) العقد الفريد ٥: ١٣٣.

(٢) الثِّقات، لابن حِبّان ١: ٢٤.

(٣) كتاب الأشراف، لابن أبي الدنيا: ٨٣.

(٤) الاستيعاب، لابن عبد البَرّ ٣: ١١١٠.

١٣

وابن عبد البرّ عالم زمانه وهو مالكيّ؛ فهو غيرُ متّهَم فيما يَروي حول الإمام عليّعليه‌السلام . وقد روى إسلامَ عليّ عن طليعة الصحابة وخيرتهم، فهذه حجة أخرى أقمناها على ابن تَيمِيه.

وروى بإسناده عن عِكْرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: لعليّ أربعُ خصال ليست لأحدٍ غيره: هو أوّل عربيّ وعَجَميّ صلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الذي لواؤه معه في كلّ زحف، وهو الذي صبَرَ معه حين فرّ عنه غيرُه، وهو الذي غسّله وأدخله قبره(١) .

وذَكَره المِزّيّ؛ وهو سَلَفيّ العقيدة شافعيّ المذهب، معاصر لابن تيميَه والذهبيّ؛ فقولُنا فيه مثل قولنا في المالكيّ ابن عبد البرّ؛ قال: وروى بإسناده عن أبي عَوَانة، عن أبي بَلْج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس قال: كان عليٌّ أوّلَ مَن آمن مِن الناس بعد خديجة، وقال: هذا إسنادٌ لامَطْعَنَ فيه لأحدٍ؛ لصحّتِه وثقة نَقَلتِه(٢) .

وروى بإسناده عن عبد السلام بن صالح عن الدَّراوَرديّ، عن عمر مولى غَفْرة قال: سُئِل محمّد بن كعب القُرَظيّ عن أوّل مَن أسلم: عليٌّ أو أبوبكر: قال: سبحانَ الله! أوّلُهما إسلاماً عليّ(٣) .

وذكر الذهبيّ، وهو سَلَفيّ وتلميذٌ لابن تيميَه، بسنده عن القُرظيّ: أوّل مَن

____________________

(١) نفسه.

(٢) تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٠.

(٣) تهذيب الكمال: ٤٨١.

١٤

أسلم عليّ.(١)

حجّة بيّنة

اتّخذ ابنُ تيميَه أبا الفرج حجّةً بينه وبين الله! فإذا أراد أن يُنكر حديثاً ذكَرَتْه الصَحاح والسُّنَن والمصنَّفات... هرع إلى أبي الفَرَج ابنِ الجوزيّ، فإن وجده قد جعل الحديث في الموضوعات، أناخ عنده وكذّب ذلك الحديث بكلّ جرأة؛ ولكنّ العجيب أنّ أبا الفرج قد قال: «عليٌّ أوّل مَن أسلم»(٢) .

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصف عليّاًعليه‌السلام

أخرج عبد الرزّاق عن وكيع بن الجرّاح قال: أخبرني شريك عن أبي إسحاق - السَّبيعيّ -: أنّ عليّاً لمّا تزوّج فاطمة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لها: «لقد زوّجتُكِهِ وإنّه لأوّلُ أصحابي سِلْماً، وأكثرُهم عِلْماً، وأعظمُهم حِلْماً»(٣) .

وعن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّت الملائكة علَيّ وعلى عليّ ابن أبي طالب سبع سنين»، قالوا: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟! قال: لم يكن معي مَن أسلم من الرجال غيره، وذلك أنّه لم تُرفَع شهادةُ أن لا إله إلاّ الله إلى السماء إلاّ

____________________

(١) تاريخ الإسلام، للذهبيّ ٣: ٦٢٤.

(٢) المنتظَم، لأبي الفرج ابن الجَوزيّ ٢: ٣٥٩.

(٣) المصنَّف، لعبد الرزّاق ٥: ٣٤١ / ٩٨٤٦.

١٥

منّي ومن عليّ»(١) .

خطبة الحسنعليه‌السلام

ومن خطبة الحسن بن عليّعليهما‌السلام ليلةَ شهادة أبيه أميرالمؤمنينعليه‌السلام : عن جابر، عن أبي الطفيل وزيد بن وهب وعبد الله بن نُجيّ وعاصم بن ضَمْرة، عن الحسن بن عليّ قال: لقد قُبِض في هذه اللّيلة رجلٌ لم يَسْبِقه أحد كان قَبلَه، ولم يخلف بعده مثله، وهو عليّ بن أبي طالب حبيبُ رسول الله وأخوه»(٢) .

شهادة أميرالمؤمنين بحقّ نفسه

بسندٍ عن حبّة العرَنيّ قال: قال عليّ: لا أعرف أنّ عبداً لك من هذه الأُمّة عَبَدكَ قَبْلي غيرَ نبيِّك - ثلاث مرّاتٍ -، لقد صلّيتُ قبلَ أن يصلّيَ الناسُ سبعاً(٣) .

ولو أطلقنا للقلم عنانه فسيطول الكلام عن أسبقيّة الإمام عليّعليه‌السلام في كلّ الفضائل، وهو الأوّل فيها لم يتقدّمه أحد، ولكنّنا نختم بحثنا الموجز هذا بقوله تعالى:( وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ

____________________

(١) شواهد التنزيل ٢: ١٢٥، وفي أسد الغابة ٤: ١٩٤ عن أبي أيّوب الأنصاريّ، وفي مناقب الإمام عليّ: ١٤ (عن أنس)، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٦، والمناقب، للخوارزميّ: ٥٣.

(٢) الذُّرّية الطاهرة: ١٠٩ / ح ١١٤.

(٣) المنتظم، لأبي الفرج ٢: ٣٥٩، ومسند أحمد بن حنبل ١: ١٦٠. ولعلّ شهادة أميرالمؤمنينعليه‌السلام كانت بعد أن تنكّر الناسُ بيعتَهم له في واقعة الغدير العظمى، فأخّروه وقدّموا غيره، وأنكروا فضائله ومنها سبقه إلى الإسلام.

١٦

عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

قالوا: الّذين صَلّوا إلى القبلتين: عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وعشر نفر من أهل بدر(٢) .

فأنت تراهم قد ذكروا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فيما أجملوا النفر العشر، وعن عبد الرحمان بن عوف في قوله تعالى:( وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ ...) الآية، قال: «هم عشرة من قريش، كان أوّلهم عليّ بن أبي طالب»(٣) . فالأوّل السابق هو عليّ، والآخَرون لم يُسَمِّهم، وهم بَعدَه!

المؤاخاة

قال ابن تيميَه: «إنّ أحاديث المؤاخاة لعليّ كلّها موضوعة! والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُؤاخِ أحداً»(٤) .

وبحسب المألوف من منهاجه، فإنّه لم يُقم دليلاً واحداً في تكذيبه كلَّ

____________________

(١) التوبة: ١٠٠.

(٢) تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) ٢: ٦٨، وتفسير الطبريّ ١١: ٧، ومعاني القرآن، للأخفش ٢: ٣٣٦، والجامع لأحكام القرآن ٨: ٢٣٥، والكشّاف ٢: ٢١٠، وإعراب القرآن، للعكبريّ ٢: ١١، وتفسير الفخر الرازيّ ١٦: ١٧١، وإعراب القرآن، للنحّاس ٢: ٣٧، والبحر المحيط ٥: ٩٢.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٧.

(٤) منهاج السنّة ٤: ٩٦، وكذّبه في الجزء الثالث صفحة ١٧.

١٧

أحاديث المؤاخاة لعليّ. وهو إذ يُنكر مؤاخاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام ، فإنّه لم يذكر مَن قد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

قال ابن إسحاق: وآخى رسولُ الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال - فيما بلغنا، ونعوذ باللهِ أنّ نقول عليه ما لم يَقُل(١) -: «تآخَوا في الله أخَوَينِ أخوين»، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطيرٌ ولا نظيرٌ من العباد، وعليُّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أخَوَين(٢) .

ومن طرق عدّة: آخى رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين أصحابه، فآخى بين أبي بكر وعمر، وفلانٍ وفلان، فجاءه عليّرضي‌الله‌عنه فقال: آخيتَ بين أصحابك ولم تُؤاخِ بيني وبين أحد، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت أخي في الدنيا والآخرة(٣) .

وعن سعد بن حذيفة عن أبيه حذيفة بن اليمان، قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين أصحابه الأنصار والمهاجرين، فكان يواخي بين الرجل ونظيره، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». قال حذيفة: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المسلمين

____________________

(١) كان ابن إسحاق دقيقاً يقظاً، فأورد هذه العبارة الحذرة ليؤكّد أمراً بالغ الأهمّية، وهو (المؤاخاة).

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ١٥١؛ السيرة النبويّة، لابن كثير ٢: ٣٢٤، السيرة الحلبيّة ١٠١؛ البداية والنهاية ٣: ٢٢٦؛ الفتاوى الحديثيّة، لابن حجَر ٤٢.

(٣) جامع الترمذيّ ٢: ٢١٣؛ الاستيعاب ٣: ٣٥؛ مستدرك الصحيحين ٣: ١٥ /٤٢٨٨؛ الرياض النضرة ٢: ١٦٧؛ وقال على صفحة ٢١٢: ومن أدلّ دليل على عِظَم منزلة عليّعليه‌السلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، صنيعه في المؤاخاة، فإنّه جعل يضمّ الشكل إلى الشكل يؤلّف بينهما، إلى أن آخى بين أبي بكر وعمر...

١٨

وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له في الأنام شبيه ولا نظير، وعليّ ابن أبي طالب أخَوان(١) .

وطُرق حديث المؤاخاة كثيرة وبألفاظ عديدة، ورواتُه عِلْية الصحابة وأعيان التابعين، هذه طائفة منهم:

أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، الحسن والحسين ابنا عليّ بن أبي طالب، أبوبكر، مُعاذ بن جبل، عثمان بن عفّان، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوّام، عبد الرحمان بن عوف، سعد بن أبي وقّاص، عبد الله بن مسعود، أبوذرّ الغفاريّ، أبو سعيد الخُدْريّ، سلمان الفارسيّ، عبد الله بن عبّاس، أبو رافع، حُذَيفة بن اليمان، أنس بن مالك، جابر بن عبد الله الأنصاريّ، حسّان بن ثابت، عبد الرحمان بن عابس، أسماء بنت عُمَيس(٢) ، أمّ سلَمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليلى الغِفاريّة(٣) ، أبو الطُّفَيل عامر بن واثلة، عبّاد بن عبد الله، زيد بن أبي أوفى(٤) ، عبد الله بن أبي أوفى(١) ،

____________________

(١) أمالي الشيخ الطوسيّ ٢٣؛ مناقب الإمام عليّ، لابن المغازلي ٣٨؛ البداية والنهاية ٣: ٢٢٦؛ ينابيع المودّة ٥٧.

(٢) أخت ميمونة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هاجرت الهجرتين وصلّت القبلتين. روى عنها: عمر بن الخطّاب، وأبو موسى الأشعريّ، وعروة بن الزبير... (الاستيعاب ٤: ٢٣٦، الإصابة ٤: ٢٣١، رجال الطوسيّ: ٣٤).

(٣) كانت تَخرج مع النبيّ في غزواته تُداوي الجرحى وتقوم على المرضى (أُسد الغابة ٧: ٢٥٩ / ٧٢٦٥).

(٤) زيد بن أبي أوفى، واسم أبي أوفى عَلْقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أُسيد بن رفاعة بن ثعلبة ابن هوازن بن أسلم الأسلميّ، له صُحبة، روى عن النبيّ حديثَ المؤاخاة بين الصحابة بالمدينة، =

١٩

عِكْرِمة(٢) ، عمر بن عليّ(٣) ، حذيفة بن أسيد، زيد بن وَهْب(٤) ، عبد الله بن الحارث(١) ،

____________________

= فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان و عبد الرحمان بن عوف، وبين طلحة والزبير... وبين عليّ والنبيّ. (أُسد الغابة ٢: ٢٧٧ / ١٨٢٢).

(١) عبد الله بن أبي أوفى - أخو زيد الماضي - شهد الحديبيّة وبايع بيعة الرضوان، وشهد خيبر وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتّى قُبِض رسول الله ثمّ تحوّل إلى الكوفة (وهو آخر من بقي بالكوفة من أصحاب النبيّ. (أُسد الغابة ٣: ١٨٢ / ٢٨٢٨).

(٢) عكرمة مولى ابن عبّاس، كنيته أبو عبد الله. يروي عن: ابن عبّاس وأبي سعيد الخُدْريّ وعائشة وأبي هريرة، روى عنه الشعبيّ. وجابر بن زيد والناس. (الثِّقات لابن حِبّان ٢: ٣٩٧ / ٣٠٤١). قال العجليّ: ثقة، وهو بريء ممّا يرميه الناس به من الحَروريّة، وهو تابعيّ. (تاريخ الثِّقات للعجليّ ٣٣٩ / ١١٦٠). قال ابن حِبّان: كان عِكْرِمة من علماء الناس في زمانه بالقرآن والفقه، وكان جابر ابن زيد يقول: عكرمة من أعلم الناس، ومَن زعم أنّا كنّا نتّقي حديث عكرمة فلم ينصف... (الثِّقات، لابن حبّان ٢: ٣٩٧).

(٣) عمر بن عليّ بن أبي طالب: تابعيّ، ثقة. (تاريخ الثقات ٣٦٠ / ١٢٤٣).

(٤) حُذيفة بن أسيد الغِفاريّ أبو سُريحة، ثقة. (رجال ابن داود، القسم الأول ١٠١ / ٣٨٤). وذكره البرقيّ في أصحاب الحسن بن عليّعليه‌السلام . (رجال البرقيّ: ٧). وذكره العجليّ في أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثِّقات ١١١ / ٢٦٣). وفي طبقات ابن سعد: حُذيفة بن أسِيد الغفاريّ ويُكنّى أبا سُريحة - بضمّ  أوّله - وأوّل مشهد شهده مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : الحُدَيبيّة. وقد روى عن أبي بكر، ونزل الكوفة بعد ذلك. (الطبقات الكبرى ٦: ١٠١ / ١٨٥٨). وترجم له خليفة وساق نَسَبه إلى جَروة بن غِفار الغِفاريّ وقال: أبو سَريحة. (طبقات خليفة ٧٢ / ١٩٣؛ و ٢١٦ / ٨٤٢: أبو سُريحة - بالضمّ -). و (زيد بن وَهْب الجُهَنيّ) ذكره ابن داود في خواصّ أمير المؤمنين عليّ وذكره العجليّ في الثِّقات قال: زيد بن وَهْب الجُهَنيّ أبو سليمان من أصحاب عبد الله - بن مسعود - (تاريخ الثِّقات للعجليّ ١٧١ / ٤٩٠). وترجم له ابن سعد: زيد بن وَهب الجُهَنيّ. روى عن عمر وعليّ وعبد الله =

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

هذا، فضلاً عن حقد الأمويين على الأنصار، والذي لم يتردّد الأمويون في إظهاره لهم، ومن هنا لم يتلكّأ أهل المدينة في إخراج عامل يزيد عليها، فحاصروا بني أمية وأتباعهم، وكلّم مروان بن الحكم ـ وهو العدوّ اللدود لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الإمام زين العابدينعليه‌السلام في منح الأمان له، فاستجاب الإمامعليه‌السلام لهذا الطلب تكرّماً(١) وإغضاءً عن كلّ ما ارتكبه هذا العدوّ في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، في دفن الإمام الحسنعليه‌السلام وفي الضغط على الإمام الحسينعليه‌السلام من أجل أخذ البيعة ليزيد.

ولمّا بلغ أمر الثورة إلى مسامع يزيد أرسل مسلم بن عقبة ليقضي على ثورة أهل المدينة ـ وهي مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومهبط وحي الله ـ وزوّده بتعليمات خاصّة تجاههم قائلاً له:

اُدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأبحها ـ أي المدينة ـ ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند(٢) . وأمرهُ أن يُجهِز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٣) .

وصل جيش يزيد إلى المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها استبسل فيه الثائرون دفاعاً عن دينهم، واستشهد أغلب المدافعين بمن فيهم عبد الله بن حنظلة ومجموعة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفّذ قائد الجيش أوامر سيّده يزيد، وأوعز إلى جنوده باستباحة المدينة، فهجم الجند على البيوت وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، كما أسروا آخرين.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ /٤٨٥ ، والكامل في التأريخ : ٤ / ١١٣.

(٢) الطبري : ٥ / ٤٨٤ وعنه في الكامل.

(٣) التنبيه والإشراف: ٢٦٣ ط. القاهرة.

٦١

قال المؤرّخ ابن كثير: أباح مسلم بن عقبة ـ الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الأُسارى، فقال: عجّلوه لها، فضرب عنقه، وقال: أعطوها رأسه، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج.

قال المدائني، عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنّه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممّن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف(١) .

وحدث مرةً أن دخلت الجيوش الشامية أحد البيوت، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه، فقالت: إنّه ليس لديها مال، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط(٢) .

ثمّ نصب كرسيّ لمسلم بن عقبة، وجيء بالأُسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كلّ واحد منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبد مملوك ليزيد بن

ــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٠ ، وتأريخ الخلفاء: ٢٣٣. أمّا الطبري فلم يذكر إلاّ إباحة القتال والأموال ثلاثة أيام: ٥/٤٩١ وترك ذكر الفروج وتبعه الجزري في الكامل.

(٢) تاريخ ابن عساكر : ١٠ / ١٣، المحاسن والمساوئ: ١ / ١٠٤.

٦٢

معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(١) .

وكلّ من كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله ـ سبحانه وتعالى ـ كان مصيره القتل(٢) .

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أم سلمة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي، فطلب اليهما أن يبايعا، فقالا: نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال مسلم: لا والله لا أقيلكم هذا أبداً، فقدّمهما فضرب أعناقهما.

فقال مروان بن الحكم ـ وكان حاضراً ـ : سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما؟! فنخس مسلم مروان بالقضيب في خاصرته، ثمّ قال له: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلاّ برقة (أي لقُتِلْتَ)(٣) .

ثمّ جيء بآخر فقال : إنّي أبايع على سنّة عمر، فقال: اقتلوه، فقتل(٤) .

وأُتي بزين العابدينعليه‌السلام إلى مسلم بن عقبة، وهو مغتاظ عليه فتبرّأ منه ومن آبائه. فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٥/٤٩٣ و ٤٩٥ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١١٨ وفي مروج الذهب ٣: ٧٠، الكامل في التاريخ ٤: ١١٨، والبداية والنهاية ٨ : ٢٢٢. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥١: كان الرجل من قريش يؤتى به فيقال: بايع على أنّك عبد قنّ ليزيد، فيقول: لا. فيضرب عنقه.

(٢) الكامل في التأريخ : ٤ / ١١٨، مروج الذهب : ٣ / ٧٠.

(٣) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٢ وعنه في الكامل في التاريخ : ٤ / ١١٨.

(٤) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٣، الأخبار الطوال: ٢٦٥.

٦٣

فقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال:(قلت: اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه) .

قيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أتي به إليك رفعت منزلته؟ فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً، ولم يبايع الإمامعليه‌السلام ليزيد كما لم يبايع عليّ بن عبد الله بن العباس، حيث امتنع بأخواله من كندة، فالحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة قال: لا يبايع ابن اختنا إلاّ كبيعة علي بن الحسين(١) .

وذكر المؤرّخون : أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتى خروج جيش مسلم من المدينة(٢) .

وجاء الحديث من غير وجه: أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك...(٣) .

وواضح أنّ البيعة إذا ما عرضت بشرطها الاستعبادي على الإمامعليه‌السلام فإنّه سيستمرّ على نهجه الرافض، وأنّ معنى الرفض هنا إنّه يتضرّج بدمائه الزكية، وهذا يعني دخول صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات الأموية القمعية التي سوف تزلزل أعمدة الكيان الحاكم.

ــــــــــــــ

(١) النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، محمود البغدادي: ٢٧٣. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ـ الطبعة الأولى سنة ١٤١٥هـ .

(٢) كشف الغمة : ٢/٣١٩ عن نثر الدرر للآبي (ق ٤ هـ) عن ابن الأعرابي.

(٣) الإرشاد: ٢/١٥٢ .

٦٤

وبعد انتهاء الأيام الدامية على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مسلم بن عقبة: اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة(١) .

كان مسلم في تلك الأيام قد تجاوز التسعين من عمره، أي انّه كان قريباً جداً من حتفه وقد هلك بُعيد وقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة، وكان من الذين لم يحملوا من الإسلام إلاّ اسمه، ووظّفوا ظاهر القرآن والحديث لتسويغ جرائمهم، فقد كان من المخلصين لمعاوية بن أبي سفيان، وفي صفّين كان يقود معسكر معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الشرعي للمسلمين، ألا وهو الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) .

ولعلّه لم يسمع حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جاء فيه: (من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (٣) .

ولعلّه قد سمع هذا الحديث، لكنّه لمّا وجد من يعتبر نفسه خليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تجرّأ على قتل ابن بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبي بناته من مدينة إلى أُخرى، دون أن يعترض عليه أحد، فمِمّ يخشى هو إن اعتدى على مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وبعد أن قمع بوحشيّة ثورة أهل المدينة وأجهض انتفاضتهم; توجّه مسلم إلى مكة التي أعلن فيها عبد الله بن الزبير ثورته على الحكم الأموي،

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٧ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١٢٣ .

(٢) وقعة صفين : ٢٠٦ و ٢١٣ وفي الإصابة : ٣ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٣) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٣، رواه عن النسائي، وروى مثله عن أحمد بن حنبل. اُنظر أحاديث أُخرى عن هذا الموضوع في كنز العمال، كتاب الفضائل الحديث ٣٤٨٨٦، ووفاء الوفاء: ٩٠، وسفينة البحار: ٨/٣٨ ، ٣٩ عن دعائم الإسلام.

٦٥

لكنّه لقي حتفه في الطريق، فتسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(١) .

وفي الوقت الذي كانت فيه مكّة تحت حصار الجيش الأموي لقي يزيد حتفه، فعقد قائد الجيش الأموي ـ الذي لم يكن وقتذاك يعرف زعيمه الذي يقاتل معه ـ مفاوضات مع ابن الزبير أعرب له فيها عن استعداده لقبول بيعته شريطة أن يرافقه إلى الشام، إلاّ أنّ ابن الزبير رفض الشرط، فعاد الحصين وجيشه إلى الشام.

انشقاق البيت الأموي :

مات يزيد في ربيع الأول من سنة (٦٤ هـ) وهو في سنّ الثامنة والثلاثين من عمره في حُوّارين، وكانت صحيفة أعماله في مدّة حكمه ـ الذي استمر ثلاث سنوات وبضعة أشهر ـ مُسودّة بقتل ابن بنت النبيّ وأسر أهل بيت الوحي وحرائر الرسالة إلى جانب القتل الجماعي لأهل المدينة وهدم الكعبة المشرّفة.

وبعد موت يزيد بايع أهل الشام ولده معاوية، إلاّ أنّ حكمه لم يستمر أكثر من أربعين يوماً، إذ أعلن تنازله عن العرش، ومات بعدها في ظروف غامضة، فانشقّت القيادات المؤيّدة لبني أمية على نفسها إلى كتلتين: كتلة أيّدت زعامة مروان بن الحكم، وقد مثّل هذا الاتجاه القبائل اليمانية بقيادة حسّان الكلبي، بينما أيّدت قوى القيسيّين بقيادة الضحّاك بن قيس الفهري، عبد الله بن الزبير.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٨ وعنه في الكامل في التأريخ : ٤ / ٢٤ عن الكلبي عن عوانة بن الحكم، ثم روى أخباراً عن ابن عمر تحاول نسبة الحرق إلى أصحاب ابن الزبير خطأً، في محاولة لتبرير يزيد الشّرير.

٦٦

وإبّان خلافة يزيد القصيرة امتدّت; أيدي الكلبييّن تدريجياً إلى مراكز السلطة، فمارسوا ضغوطاً شديدة على القيسييّن،الأمر الذي أزعج الضحّاك كثيراً فانتهز الفرصة بعد موت يزيد ليبايع ابن الزبير ـ وهو من العرب العدنانية ـ واشتبك الكلبيّون والقيسيّون في (مرج راهط) (١) في معركة أسفرت عن انتصار الكلبيّين، فأصبح مروان بن الحكم خليفة، واستقرّت الأوضاع المضطربة في الشام نسبيّاً.

تزايد المعارضة للحكم الأموي :

صعّد عبد الله بن الزبير معارضته للشام التي بدأها بعد موت معاوية، حيث كان قد دعا الحجازييّن لمبايعته كخليفة للمسلمين، فاستجابت له الأكثرية الساحقة منهم، وشهد العراق من جديد تحرّكات ضد الحكم الأموي.

ويبدو أنّ الذين دعو الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق عبر الرسائل المتوالية ورحّبوا بممثّله إليهم ثمّ تخلّوا عنه وعن الحسينعليه‌السلام بتلك الصورة المخزية ندموا على موقفهم المُذلّ ذاك، لكن هل الذين تحرّكوا ضدّ الشام كانوا نادمين جميعاً؟

الجواب : كلاّ، فليس جميع الذين تحركوا بعد موت يزيد كانوا يحملون همّ الإسلام، فقد كان هناك من يريد إخضاع الشام للعراق وإعادة عاصمة الخلافة إلى العراق.

وعلى أيّ حال، فقد أعلن المتديّنون والسياسيّون معارضتهم ضد حكم

ــــــــــــــ

(١) منطقة في شرق دمشق.

٦٧

الشام، لكنّهم لم يحققوا شيئاً يذكر(١) على صعيد إسقاط الحكم على المدى القريب، فقتل سليمان بن صرد قائد التوّابين، ورجع من بقي من جيشه إلى الكوفة، وفي تلك الغضون أظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي دعوته حاملاً شعار يا لثارات الحسينعليه‌السلام .

بدأ المختار بإعداد الشيعة للثورة بعد فشل ثورة التوّابين، وكان يعرف جيداً أنّ أيّ تحرّك شيعي يقتضي زعامة من أهل بيت الرسالةعليهما‌السلام ، وأنّ الانطلاق ينبغي أن يتمّ باسمهم ومَن أفضل من عليّ بن الحسينعليه‌السلام ؟ وإن رفض الإمام الاستجابة لذلك فليس أمامه غير محمد بن علي بن أبي طالب وهو عمّ الإمام السجادعليه‌السلام .

من هنا كاتب المختار الإمام زين العابدينعليه‌السلام وعمّه معاً، أمّا الإمامعليه‌السلام ـ فلم يعلن عن تأييده الصريح له، لكنّهعليه‌السلام أمضى عمله عندما ثأر من قتلة أبيه الحسينعليه‌السلام . أمّا عمه محمد بن الحنفيّة فقد أجاب على سؤال الوفد الذي جاء من الكوفة ليستفسر عن مدى شرعية الانضواء تحت راية المختار قائلاً: أما ما ذكرتم من دعاء مَن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه(٢) .

وفهم الوفد تأييد ابن الحنفية لحركة المختار وهكذا استطاع المختار أن يستقطب كبار الشيعة مثل إبراهيم بن مالك الأشتر وغيره.

ــــــــــــــ

(١) زندگاني عليّ بن الحسين (= حياة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ) : ٩٢.

(٢) تاريخ الطبري : ٦/١٢ ـ ١٤ برواية أبي مخنف وابن نما الحلّي في كتابه: شرح الثأر روى عن والده : أنّه قال لهم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلمّا دخلوا عليه وأخبروه خبرهم الذي جاؤوا لأجله قال لعمّه محمّد : يا عمّ، لو أن عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليّتك هذا الأمر فاصنع ما شئت. فخرجوا وهم يقولون : قد أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية، كما روى عنه في بحار الأنوار : ٤٥/٣٦٥ .

٦٨

وأرسل المختار رأسَيْ عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد إلى الإمام فسجدعليه‌السلام شكراً لله تعالى وقال:(الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً) (١) .

وقال اليعقوبي: ووجّه المختار بالرأس الخبيث (أي: رأس ابن زياد) إلى الإمام عليّ بن الحسين، وعهد إلى رسوله بأن يضع الرأس بين يدي الإمام وقت ما يوضع الطعام على الخوان بعد الفراغ من صلاة الظهر، وجاء الرسول إلى باب الإمام، وقد دخل الناس لتناول الطعام، فرفع الرجل عقيرته ونادى: يا أهل بيت النبوّة! ومعدن الرسالة،ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومعي رأس عبيد الله بن زياد... ولم تبق علوية في دور بني هاشم إلاّ صرخت(٢) ، ويقول المؤرّخون: إنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام لم يُرَ ضاحكاً منذ أن استشهد أبوه إلاّ في اليوم الذي رأى فيه رأس ابن مرجانة(٣) .

وعن بعض المؤرّخين: أنّه لمّا رأى الإمام رأس الطاغية قال:(سبحان الله، ما اغتّر بالدنيا إلاّ من ليس لله في عنقه نعمة، لقد أُدخل رأس أبي عبد الله على ابن زياد وهو يتغدّى) (٤) .

سنوات المحن والاضطرابات :

كانت الفترة الممتدّة بين عامي (٦٦ و ٧٥ هـ) بالنسبة للشام والحجاز

ــــــــــــــ

(١) رجال الكشي: ١٢٧ ح ٢٠٣ وعنه في. المختار الثقفي: ١٢٤.

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢/٢٥٩ ط بيروت.

(٣) المصدر السابق .

(٤) العقد الفريد :٥ / ١٤٣.

٦٩

والعراق فترة محن واضطرابات، فلم يتحقّق في هذه المناطق الهدوء والأمن. وشهد الحجاز هجوم قوات عبد الملك على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير، إلاّ أنّ نصيب العراق من الاضطرابات كان أكبر من المنطقتين السابقتين. ويمكن القول بجرأة أنّ ما لحق بأهل العراق كان هو النتيجة الطبيعية لدعاء سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم، إذ رفع الإمام الحسينعليه‌السلام يده بالدّعاء في كربلاء وقال :(اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا ...) (١) .

وانتقم الله تعالى من أهل العراق الذين كذّبوا الحسين بن عليّعليه‌السلام وخذلوه بواسطة رجل إرهابي مستبد هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان (لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره)(٢) .

واتّخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حرٍّ ولا برد، وكان يعذّب المساجين بأقسى ألوان العذاب وأشدّه، فكان يشدّ على يد السجين القصب الفارسي المشقوق، ويجر عليه حتى يسيل دمه.

يقول المؤرّخون: إنّه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهنّ ستّ عشرة ألف مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(٣) وأحصي في سجنه ثلاثة وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَين ولا تبعة(٤) ، وكان يمرّ على أهل السجن فيقول لهم:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٥/٤٥١ وعنه في وقعة الطف: ٢٥٤ وقريباً منه في الإرشاد : ٢/١١٠، ١١١. وليس فيه: سنين كسنيّ يوسف ، ولا غلام ثقيف .

(٢) حياة الحيوان : ١٦٧ .

(٣) حياة الحيوان : ١ / ١٧٠.

(٤) معجم البلدان : ٥ / ٣٤٩.

٧٠

تُكَلِّمُونِ ) (١) .

وقد كان يسخر من المسلمين الذين يزورون قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول: تباً لهم، إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله(٢) ؟!

وعهد عبد الملك بن مروان بالملك من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالإرهابي الحجّاج خيراً، وقال له: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناواك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناسَ إذا متُّ إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا...(٣) .

ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى الساعات الأخيرة من حياته، إذ لم يبق بعدها إلاّ لحظات حتى وافته المنيّة، وكانت وفاته في شوال سنة (٨٦ هـ)(٤) وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته(٥) .

ــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٢١٢.

(٢) شرح النهج : ١٥ / ٢٤٢ عن كتاب: افتراق هاشم وعبد شمس للدبّاس. وقد ورد الخبر قبله في الكامل للمبرّد : ١/٢٢٢. وفي سنن أبي داود: ٤/٢٠٩ والبداية والنهاية : ٩/١٣١ والنصائح الكافية لابن عقيل: ١١ عن الجاحظ ، وفي رسائل الجاحظ : ٢/١٦.

(٣) تاريخ الخلفاء: ٢٢٠.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ٦٨.

(٥) مروج الذهب : ٣ / ٩٦.

٧١

الفصل الثالث: استشهاد الإمام زين العابدينعليه‌السلام

وتقلّد الوليد أزمّة الملك بعد أبيه عبد الملك بن مروان، وقد وصفه المسعودي بأنّه كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً(١) ، حتّى طعن عمر بن عبد العزيز الأموي في حكومته، فقال فيه: إنّه ممن امتلأت الأرض به جوراً(٢) .

وفي عهد هذا الطاغية الجبّار استشهد العالم الإسلامي الكبير سعيد بن جبير على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي أعتى عامل أموي.

وقد كان الوليد من أحقد الناس على الإمام زين العابدينعليه‌السلام لأنّه كان يرى أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان مع وجود الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

فقد كان الإمامعليه‌السلام يتمتّع بشعبية كبيرة، حتّى تحدّث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه وفقهه وعبادته، وعجّت الأندية بالتحدّث عن صبره وسائر ملكاته، واحتلّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظى برؤيته، ويتشرّف بمقابلته والاستماع إلى حديثه ، وقد شقّ على الأمويين عامّة هذا الموقع المتميّز للإمامعليه‌السلام وأقضّ مضاجعهم، وكان

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٩٦.

(٢) تأريخ الخلفاء : ٢٢٣.

٧٢

من أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك(١) الذي كان يحلم بحكومة المسلمين وخلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروى الزهري: عن الوليد أنّه قال : لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا(٢) .

فأجمع رأيه على اغتيال الإمام زين العابدينعليه‌السلام حينما آل إليه الملك، فبعث سمّاً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسّه للإمامعليه‌السلام (٣) ونفّذ عامله ذلك، فسَمَتْ روح الإمام العظيمة إلى خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوى.

وقام الإمام أبو جعفر محمد الباقرعليه‌السلام بتجهيز جثمان أبيه، وبعد تشييع حافل لم تشهد يثرب نظيراً له; وجيء بجثمانه الطاهر إلى بقيع الفرقد، فحفروا قبراً بجوار قبر عمّه الزكيّ الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام سيّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنزل الإمام الباقرعليه‌السلام جثمان أبيه زين العابدين وسيّد الساجدينعليه‌السلام فواراه في مقرّه الأخير.

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً

ــــــــــــــ

(١) هناك من المؤرّخين من يرى أنّ هشام بن عبد الملك هو الذي دسّ السمّ للإمام عليه‌السلام ، راجع بحار الأنوار: ٤٦/١٥٣، ويمكن الجمع بين الرأيين فيكون أحدهما آمراً والآخر منفّذاً للجريمة.

(٢) راجع : حياة الإمام زين العابدين : ٦٧٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٥٣ عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ١٩٤ .

٧٣

الباب الرابع: فيه فصول:

الفصل الأول: نظرة عامة في مسيرة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية.

الفصل الثاني: ملامح عصر الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الثالث: تخطيط الإمام زين العابدينعليه‌السلام وجهاده.

الفصل الرابع: ظواهر فذة في حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الأوّل: نظرة عامة في مسيرة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية

للوصول إلى التصور الصحيح عن المسيرة الرساليّة لأهل البيتعليهم‌السلام الرسالية لابدّ أن نجيب على الأسئلة التالية:

١ ـ ما هي الرسالة الإسلامية؟

٢ ـ وما هي الأخطار التي كانت تواجهها؟

٣ ـ وما هي التحصينات التي كان ينبغي اتّخاذها ضد تلك الأخطار.

وقبل الإجابة نقول: هناك نظرتان أساسيتان للكون ولموقف الإنسان منه.

النظرة الأولى :أن الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة. والإنسان في الكون هو الأمين والخليفة لا الأصيل والمتحكم; لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود بما فيها نفس الإنسان. والإنسان إنّما يقوم بأعباء الخلافة والأمانة. وهذه الخلافة والأمانة تستبطن ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير. والأمين لابد له أن يطبّق على الأمانة التي استؤمن عليها قرارات المالك. فلابد للإنسان إذن أن يكون رهن أوامر ذلك المليك القدير.

والجزء الآخر لهذه النظرية الأساسية: أن المسؤولية تستبطن الحساب والثواب والعقاب. وهما يستبطنان وجود عالم آخر وراء هذا العالم لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة. وحينئذ لا يكون الإنسان قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، وعلى مستوى أهداف كبيرة لا يستطيع هو أن يستنزفها; إذ تكون أوسع من عمر الإنسان في هذه الدنيا.

٧٤

وإذا أصبحت البشرية على مستوى الأهداف الكبيرة ـ لأنها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها إلى أكثر من حدود هذه الدنيا الفانية ـ حينئذ تستطيع أن تقوم بأعباء تلك الأهداف الكبيرة.

والحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية بكلّ شُعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية إلى تجسيد كامل للعلاقة مع الله سبحانه وتعالى في تفاعل الإنسان في كلّ مجالاته الحيوية والكونية.

والنظرة الثانية : هي أن يرى الإنسان نفسه أصيلاً في هذا الكون، وأن هذا الكون غير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار. وحينما تتركز في نظره هذه الأصالة وهذا الاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية بقي عليه هو أن يتحمل المسؤولية بنفسه.

فهو بدلاً من أن يشعر بأنه مسؤول ومراقب أمام جهة عُليا تضعه أمام أهداف كبرى في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، هو يصنع لنفسه المسؤولية. وحينما يتحمّل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، أي تمام المحتوى الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وانحراف.

وحينما يريد الإنسان أن يحدد لنفسه مسؤولياته ; فإنّما يحددّها على ضوء أهدافه التي سوف يحددها على ضوء ما يراه من الطريق الذي يريد سلوكه.

وحيث إن طريقه محدود في نطاق المادة فسوف تكون الأهداف على مستوى الطريق المحدود... وحينئذ سوف يخسر القيم الأخلاقية ويتولد عن ذلك ـ طبعاً ـ ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية.

وجاء الإسلام لِيربي الإنسان على النظرية الأولى بحيث تصبح جزءً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه وفكره وعواطفه وتنعكس على كل مجالات تصرفه وسلوكه مع الله سبحانه وتعالى ومع نفسه ومع الآخرين.

ولا بدّ للإسلام حينئذ أن يهيمن على هذا الإنسان، وعلى كل طاقاته وعلاقاته ليستطيع أن يربيه; وكلما كانت الهيمنة أوسع نطاقاً كانت التربية أكثر نجاحاً. فإنّ الأب قد لا ينجح في تربية ابنه لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته ; لأن هذا الابن هو ابنه وابن المجتمع أيضاً مادام يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات ، وقد يقيم معه علاقات في الحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع أيضاً.

ومن الطبيعي أن يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد.

٧٥

إذن فالتربية الكاملة لا تتحقق إلاّ إذا هيمن المربي على الإنسان هيمنة كاملة، على كل علاقاته الاجتماعية مع غيره بحيث يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، فيصير شخص واحد هو الأب وهو المجتمع. وحينئذ يصبح هذا مربّياً كاملاً.

وهذا ما صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هيمن على العلاقات الاجتماعية لأنه تزعّم المجتمع بنفسه، فأنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه ووقف يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الإطار الاجتماعي: علاقة الإنسان مع نفسه وعلاقته مع ربّه وعلاقته مع عائلته وعلاقته مع بقية أبناء مجتمعه. ولهذا صارت كل هذه الأمور تحت هيمنته وبهذا استكمل الشرط الأساسي للتربية الناجحة(١) .

وبالرغم من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مارس عملية التغيير الشاملة للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه، لكن الطريق لم يكن قصيراً أمام عملية التغيير الشاملة هذه، بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام، فكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدأ بإنسان الجاهلية فتنشئه إنشاء جديداً ويجعل منه الإنسان الإسلامي الذي يحمل النور الجديد ويجتثّ منه كلّ جذور الجاهلية ورواسبها.

وقد خطا الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعملية التغيير هذه خطوات مدهشة في برهة قصيرة جدّاً(٢) حتّى وأنتجت التربية النبوية إنتاجاً عظيماً وحققت تحوّلاً فريداً.

ولكن الأمة الإسلامية ـ ككل ـ لم تكن قد عاشت في ظل عملية التغيير هذه إلاّ عقداً واحداً من الزمن على أكثر تقدير، وهذا الزمن لا يكفي عادةً في منطق الرسالات العقائدية والدعوات التغييرية ليرتفع الجيل الذي عاش في كنف الرسالة عشر سنوات فقط إلى درجة من الوعي والموضوعية والتّحرر من رواسب الماضي والاستيعاب لمعطيات الرسالة الجديدة استيعاباً يؤهله للقيمومة على الخط الرسالي وتحمّل مسؤوليات الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة تامّة ومواصلة عملية التغيير الشاملة بدون قائد رساليّ.

بل إن منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمرّ الأمة بوصاية عقائدية فترة أطول من الزمن تهيؤها للارتفاع إلى مستوى تلك القيمومة(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: ١١٧ ـ ١٢٢، طبعة دار التعارف.

(٢) بحث حول الولاية: ١٥، طبعة دار التعارف.

(٣) المصدر السابق : ٥٩.

٧٦

وباعتبار أن الإسلام كان يريد تحقيق أهدافه كاملة كان ينبغي أن يستمر تطبيقه على يد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه فيمتدّ به العمر حتى يستكمل كلّ الشروط اللازمة للتربية الشاملة في فترة زمنية كافية أو يوكل أمر تطبيق الإسلام إلى من يخلفه من القادة الأكفاء الذين بلغوا درجة العصمة في مستواهم العقائدي والفكري والعملي ليصونوا أمر التربية من أي انحراف أو انهيار.

إذن منطق العمل التغييري على مسار التاريخ كان يفرض على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصون تجربته من أيّ ضعف أو اندحار، وذلك من خلال استمرار الوصاية على التجربة الانقلابية الجديدة وهكذا كان فقد تمثّلت مهمّة صيانته للتجربة الفتيّة في أهل بيته المعصومين عليهم‌السلام الذين أعدّهم بنفسه إعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً ليكونوا قادرين على مواصلة عملية التغيير الشاملة بالشكل المطلوب، والمنسجم مع أهداف الرسالة الكبرى.

الأخطار التي كان يواجهها الإسلام :

لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّدْ فكرياً من خلال الممارسة والتطبيق وتتبلور مفاهيمه عبر التجربة المخلصة، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة التي تتطلبها التجربة، فلا بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلى استلهام مسبّقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلى نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة من رسالات السماء التي يجب أن تمتد مع الزمن وتتعدى كل الحدود الوقتية والإقليمية

٧٧

والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته ـ التي تشكل الأساس لكلّ ذلك الإمتداد ـ تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار(١) .

وقد برهنت الأحداث بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحقيقة وتجلّت بعد نصف قرن أو أقلّ من خلال ممارسة جيل المهاجرين الذين لم يُرَشَّحوا من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإمامة الدعوة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة عليها.

ولم يمض ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامى فاستطاعوا أن يتسلّلوا إلى مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج ويشغلوا القيادة غير الواعية ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحولت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدرات الناس وأصبح الفيىء والسواد بستاناً لقريش، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية(٢) .

مضاعفات الانحراف في القيادة الإسلامية :

وهكذا واجه الإسلام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية. وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمّة في الدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الأشياء من المفروض أن يتسع ليتعمق بالتدريج على مرّ الزمن; إذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة، وكلما تحققت مرحلة من الانحراف; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب.

فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلى خط منحن طوال

ــــــــــــــ

(١) بحث حول الولاية : ٥٧ ـ ٥٨ .

(٢) المصدر السابق : ٦٠ ـ ٦١.

٧٨

عملية تاريخية زمنية طويلة المدى يصل به إلى الهاوية فتمر التجربة الإسلامية للمجتمع والدولة لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ومن كل صوب، وتصبح عاجزة عن مواكبة الحدّ الأدنى من حاجات الأمة ومصالحها الإسلاميّة والإنسانيّة.

وحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة بعد مدى من الزمن لانهيار كامل. إذن الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية لقيادة المجتمع كان من المفروض أن تتعرض كلّها للانهيار الكامل; لأن هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية; تصبح عاجزة عن حماية نفسها; لأن التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ، كما أن الأمة ليست على مستوى حمايتها; لأن الأمة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو إليها فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن كنتيجة نهائية حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها.

مضاعفات انهيار الدولة الإسلامية:

ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلى عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصى الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأمة، لكن الأمة تبقى طبعاً، حين تفشل تجربة المجتمع والدولة، لكنها سوف تنهار أمام أول غزو يغزوها، كما انهارت أمام الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية.

وهذا الانهيار يعني: أن الدولة والتجربة قد سقطت وأن الأمة بقيت، لكن هذه الأمة أيضاً بحسب تسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار كأمة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه; لأن هذه الأمة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعامة التجربة وبعده عاشت الأمة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام. ولم تجد هذه الأمة نفسها قادرة على تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما أهينت كرامتها وحُطِّمتْ إرادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد إخضاعها لزعامتها القسريّة.

٧٩

إن هذه الأمة من الطبيعي أن تنهار بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الأمة وتذوب الرسالة والعقيدة أيضاً وتصبح الأمة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الإسلام نهائياً(١) .

لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة الدولة والأمة والرسالة بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين أوكلت لهم مهمة صيانة التجربة والدولة والأمة والرسالة جميعاً.

ويتلخص دور الأئمّة الراشدين الذين اختارهم الله ونص عليهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصيانة الإسلام وتطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين بعد أن كانت التجربة الإسلامية تشتمل على عناصر ثلاثة باعتبارها

ــــــــــــــ

(١) راجع: أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: ١٢٧ ـ ١٢٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492