ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه12%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169285 / تحميل: 5905
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصدق مَنجاة

ما أكثر الأفراد الذين التزموا الصدق، في المواقع الحرجة، والمآزق الشديدة؛ وكان ذلك سبب خلاصهم.

لا يجهل أحد، مدى الجرائم التي قام بها الحَجَّاج بن يوسف الثقفي، والدماء التي أراقها بغير حَقٍّ.

وفي يوم مِن الأيَّام، جيء بجماعة مِن أصحاب عبد الرحمان مأسورين، وكان قد صمَّم على قتلهم جميعاً، فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام، ثمَّ قال:

إنَّ لي عليك حَقَّاً! فأنقذني وفاءً لذلك الحَقَّ.

قال الحَجَّاج: وما هو؟

قال: كان عبد الرحمان يسبُّك في بعض الأيَّام، فقمت ودافعت عنك.

قال الحَجَّاج: ألك شهود؟

فقام أحد الأُسارى وأيَّد دعوى الرجل، فأطلقه الحَجَّاج، ثمَّ التفت إلى الشاهد، وقال له: ولماذا لم تُدافع عنِّي في ذلك المجلس؟

أجاب الشاهد - في أتمِّ صراحة ـ: لأنِّي كنت أكرهك.

فقال الحَجَّاج: أطلقوا سراحه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤١

احِفظ الله يَحفظك

خطب الحَجَّاج مَرَّة فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة، فإنَّ الوقت لا ينتظرك، والرَّبَّ لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه، وزعموا أنَّه مجنون، وسألوه أنْ يُخلِّي سبيله، فقال: إنْ أقرَّ بالجنون خلَّيت سبيله.

فقيل له، فقال: مَعاذ الله، لا أزعم أنَّ الله ابتلاني، وقد عافاني.

فبلغ ذلك الحَجَّاج فعفا عنه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤٢

المَنطق السليم

بلغ المنصور الدوانيقي، أنَّ مَبْلغاً ضَخماً مِن أموال بني أُميَّة مُودعة عند رجل، فأمر الربيع بإحضاره.

يقول الربيع: فأحضرت الرجل، وأخذته إلى مجلس المنصور.

فقال له المنصور: بلغني أنَّ أموال بَني أُميَّة مودَعة عندك، ويجب أنْ تُسلِّمني إيَّاها بأجمعها.

فقال الرجل: هل الخليفة وارث الأُمويِّين؟!

فأجاب: كلاَّ.

فقال: هل الخليفة وصيُّ الأُمويِّين؟!

فقال المنصور: كلاَّ.

فقال الرجل: فكيف تُطالبني بأموال بَني أُميَّة؟!

فأطرق المنصور بُرهةً، ثمَّ قال: إنَّ الأُمويِّين ظلموا المسلمين، وانتهكوا حُقوقهم، وغصبوا أموال المسلمين وأودعوها في بيت المال.

فقال الرجل: إنَّ الأُمويِّين امتلكوا أموالاً كثيرة، كانت خاصَّة بهم، وعلى الخليفة أنْ يُقيم شاهداً عدلاً، على أنَّ الأموال التي في يدي لبَني أُميَّة، هي مِن الأموال التي غصبوها وابتزُّوها مِن غير حَقٍّ.

فكَّر المنصور ساعة، ثمَّ قال للربيع: إنَّ الرجل يصدق.

فابتسم بوجهه، وقال له: ألك حاجة؟!

قال الرجل: لي حاجتان:

٤٣

الأُولى: أنْ تأمر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت؛ حتَّى يهدأ اضطرابهم، ويذهب رَوعهم.

والثانية: أنْ تأمر بإحضار مَن أبلغك بهذا الخبر؛ فو الله، لا توجد عندي لبَني أُميَّة وديعة أصلاً، وعندما أُحضرت بين يدي الخليفة، وعلمت بالأمر، تصوَّرت أنِّي لو تكلَّمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل.

فأمر المنصور الربيع بإحضار المُخبِر.

وعندما حضر نظر إليه الرجل نظرة، ثمَّ قال: إنَّه عبدي سَرَق مِنِّي ثلاثة آلاف دينار وهرب.

فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام، وأيَّد الغلام كلام سيِّده في أتمِّ الخَجَل، وقال: إنِّي اختلقت هذه التُّهمة لأنجو مِن القَبض عليَّ.

هنا رَقَّ قلب المنصور لحال العبد، وطلب مِن سيِّده أنْ يعفو عنه، فقال الرجل: عفوت عنه، وسأُعطيه ثلاثة آلاف أُخرى، فتعجَّب المنصور مِن كرامة الرجل وعظمته.

وكلَّما ذُكِر اسمه كان يقول: لم أرَ مثل هذا الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٤

النبي أولى بالمسلمين مِن أنفسهم

وزَّع رسول الله غنائم حُنين - تبعاً لمصالح مُعيَّنة - على المُهاجرين فقط، ولم يُعط الأنصار سَهماً واحداً...

ولمَّا كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة، في رُفعة لواء الإسلام، وخدمات جليلة في نُصرة هذا الدين؛ فقد غَضب بعضهم مِن هذا التصرُّف، وحملوه على التحقير والإهانة، فبلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر بأنْ يُجمع الأنصار في مكان ما، وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس، ثمَّ حضر هو وعلي (عليهما السلام)، وجلسا في وسط الأنصار، ثمَّ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: (أُريد أنْ أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها).

قال الأنصار: سَلْ، يا رسول الله.

قال لهم: (ألم تكونوا في ضَلال مُبين، وهداكم الله بيَّ؟).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (ألم تكونوا على شَفا حُفرة مِن الهلاك والنار، والله أنقذكم بيَّ؟).

قالوا: بلى.

قال: (ألم يكن بعضكم عدوَّ بعض، فألَّف الله بين قلوبكم على يديَّ؟).

قالوا: بلى.

فسكت لحظة، ثمَّ قال لهم: (لماذا لا تُجيبونني بأعمالكم؟).

قالوا: ما نقول؟!

قال: (أما لو شِئتم لقُلتم: وأنت قد جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنَّاك، وجئتنا مُكَذَّباً فصدَّقناك...).

هذه الكلمات الصادرة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أفهمت الأنصار

٤٥

أنه لا يُنكَر فضلهم، ولا يُنسى جهودهم، ولم يكن ما صدر منه تِجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة...

ولذلك فقد أثَّر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً، وارتفعت أصواتهم بالبُكاء، ثمَّ قالوا له: هذه أموالنا بين يديك، فإنَّ شِئت فاقسمها على قومك، وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللَّهمَّ اغفر للأنصار، ولأبنا الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٦

الكريم يَسأل عن الكريم

في إحدى الغزوات، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُصلِّي في مُعسكره، فمَرَّ بالمُعسكر عِدَّة رجال مِن المسلمين، وتوقَّفوا ساعة، وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوا له، ثمَّ اعتذروا مِن عدم تمكُّنهم مِن انتظار النبي حتَّى يفرغ مِن الصلاة فيُسلِّموا عليه؛ لأنَّهم كانوا على عَجلٍ، ومضوا إلى سبيلهم. فانفتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُغضباً، ثم قال لهم: (يقف عليكم الركب ويسألونكم عنِّي، ويُبلِّغوني السلام، ولا تعرضون عليهم الطعام!).

ثمَّ أخذ يتحدَّث عن جعفر الطيار، وعظمة نفسه، وكمال أدبه، واحترامه للآخرين... (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٧

مَن كانت أفعاله كريمة اتَّبعه الناس

ليست فضيلة احترام الناس، وتكريمهم في الشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء، خاصَّة بالمسلمين فيما بينهم فقط، فإنَّ غير المسلمين أيضاً، كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم مِن المسلمين، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل ذِمِّيٍّ خارج الكوفة، في أيَّام حكومته، وكان الذِمِّيُّ لا يعرف الإمام، فقال له: أين تُريد يا عبد الله؟

قال الإمام علي (عليه السلام): (أُريد الكوفة).

ولمَّا وصلا إلى مُفترق الطُّرق المؤدِّية إلى الكوفة، توجَّه الذِّمِّيِّ إلى الطريق الذي يُريده، وانفصل عن الإمام (عليه السلام)... ولكنَّه لم يَخطُ أكثر مِن بِضع خُطوات، حتَّى شاهد أمراً عَدَّه غريباً؛ فقد رأى أنَّ صاحبه الذي كان قاصداً الكوفة، ترك طريقه وشايعه قليلاً. فسأله ألست تقصد الكوفة؟

قال الإمام: (بلى؟).

قال الذِّمِّيُّ: (ذلك هو الطريق المؤدِّي إلى الكوفة).

قال الإمام: (أعلم ذلك).

سأل الذِّمِّيُّ باستغراب: ولماذا تركت طريقك؟

قال الإمام (عليه السلام): (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة، أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هُنيَّهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيِّنا).

قال الذِّمِّيُّ: هكذا أمر نبيُّكم؟!

قال الإمام: (أجلْ).

٤٨

قال الذِّمِّيُّ: لا جَرَمَ، أنَّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.

ثمَّ ترك طريقه الذي كان يقصده، وتوجَّه مع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وهما يتحدَّثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة، فأسلم الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٩

انزل عن مِنبر أبي!

زيد بن علي، عن أبيه: (إنَّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أتى عمر بن الخطاب، وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال: انزل عن مِنبر أبي، فبكى عمر، ثم قال: صدقت - يا بُني - مِنبر أبيك لا منبر أبي. وقام عليٌّ (عليه السلام).

وقال: ما هو - والله - عن رأيي.

قال: صدقت! والله، ما اتَّهمتك يا أبا الحسن).

هذا دليل على أنَّ عمر أيضاً، كان يعرف أنَّ الحسين ذو شخصيَّة مُمتازة، وله إرادة مُستقلَّة، وليس كلامه صادراً عن تلقين مِن أبيه، بل هو نِتاج فِكره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٠

يَفرُّ مَن أخطأ!

قصد المأمون بغداد بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)، وخرج يوماً للصيد، فمَرَّ في أثناء الطريق برَهط مِن الأطفال يلعبون، ومحمد بن علي الجواد (عليه السلام) معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حوله... فلمَّا رآه الأطفال فرُّوا، بينما وقف الجواد (عليه السلام) في مكانه ولم يَفرَّ. مِمَّا أثار تَعجُّب المأمون؛ فسأله:

لماذا لم تلحق بالأطفال حين فرُّوا؟

ـ يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضِيقٌ لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنِّي بك حَسنٌ أنَّك لا تضرب مَن لا ذنب له فوقفت.

تعجَّب المأمون مِن هذه الكلمات الحكيمة، والمنطق الموزون، والنبرات المُتَّزنة للطفل فسأله: ما اسمك؟

ـ محمد.

ـ محمد ابن مَن؟

ابن عليٍّ الرضا...

عند ذاك ترحَّم المأمون على الرضا (عليه السلام)، ثمَّ ذهب لشأنه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥١

رِفقاً بالحسين!

روي عن أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، مُرضعة الحسين (عليه السلام) أنَّها قالت: أخذ مِنِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسيناً أيَّام رضاعه، فحمله فأراق شيئاً على ثوبه، فأخذتُه بعنف حتَّى بكى. فقال (صلى الله عليه وآله): (مَهلاً يا أُمَّ الفضل، إنَّ هذا مِمَّا يُطهِّره الماء، فأيُّ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين؟!) (1).

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٢

كرهت أنْ أُعجِّله!

دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة، والحسن مُتعلِّق، فوضعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه وصلَّى، فلمَّا سجد أطال السجود، فرفعت رأسي مِن بين القوم، فإذا الحسن على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمَّا سلَّم قال له القوم: يا رسول الله، لقد سَجدت في صلاتك هذه سَجدةً ما كنت تسجدها! كأنَّما يوحى إليك؟!

فقال: (لم يوحَ إليَّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أنْ أُعجِّله حتَّى نزل).

هذا العمل مِن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه ولده الصغير، أمام ملأٍ مِن الناس، نموذج بارز مِن سلوكه في تكريم الطفل.

إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل أقصى ما يُمكن مِن احترام الطفل، في إطالته سجدته، وأرشد الناس ضمناً إلى كيفيَّة بناء الشخصيَّة عند الطفل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٣

تكريم الطفل

عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: (صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر، فخفَّف في الرَّكعتين الأخيرتين.

فلمَّا انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة شيء؟!

قال: وما ذاك؟

قالوا: خفَّفت في الرَّكعتين الأخيرتين.

فقال لهم: أما سمعتم صُراخ الصبي؟!).

هكذا نجد النبي العظيم، يُطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة، ويُخفِّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أُخرى، وهو في كلتا الحالتين، يُريد التأكيد في احترام شخصيَّة الصبي، وتعليم المسلمين طريق ذلك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٤

هلاَّ ساويتَ بينهما؟!

نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فهلاَّ ساويت بينهما!).

وفي حديث آخر: (اعدلوا بين أولادكم، كما تُحبُّون أنْ يعدلوا بينكم).

إنَّ الأمل الوحيد للطفل، ومبعث فرحه ونشاطه، هو عطف الوالدين وحنانهما، ولا يوجد عامل يُهدِّئ خاطر الطفل، ويبعث فيه الاطمئنان والسكينة، مِثل عَطف الوالدين، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القَلق والاضطراب، مِثل فُقدان جزء مِن حَنان الوالدين أو جميعه.

إنَّ حسد الولد تِجاه أخيه الصغير، الذي وِلد حديثاً لا غرابة فيه؛ لأنَّه يشعر بأنَّ قِسماً مِن العناية، التي كانت مُخصَّصة له، قد سُلِبت منه، والآن لا يُستأثر باهتمام الوالدين. بلْ إنَّ الحُبَّ والحنان يجب أنْ يتوزَّع عليه وعلى أخيه الأصغر (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٥

التصابي مع الصبي

عن يعلى العامري: أنَّه خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبي (صلى الله عليه وآله) أمام القوم، ثمَّ بسط يديه، فطفر الصبي ههنا مَرَّة وههنا مَرَّة أُخرى، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه، والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله.

إنَّ نبيَّ الإسلام العظيم، يُعامل سِبطه بهذه المُعاملة أمام الناس؛ لكي يُرشد الناس إلى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال، وأهميَّة اللعب معهم، فضلاً عن قيامه بواجب تربوي عظيم (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٦

أو ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله الرسول؟!

عن أبي رافع، قال: كنت أُلاعب الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو صبيٌّ بالمَداحي، فإذا أصابت مِدحاتي مِدحاته؛ قلت احملني فيقول: (ويحَك! أتركب ظهراً حمله رسول الله؟!)، فأتركه.

فإذا أصابت مُدحاته مُدحاتي قلت: لا أحملك كما لا تحملني!

فيقول: (أوَ ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!)، فأحمله.

مِن هذا الحديث يظهر جليَّاً إباء الحسن (عليه السلام)، وعِزَّة نفسه، وعُظم شخصيَّته.

إنَّ الطفل الذي يُربيه الإسلام في حِجره، ويُحيي شخصيَّته النفسيَّة، يعتقد بسموِّ مقامه، ولا يرضى التكلُّم بذلَّة وحقارة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٧

وا حيائي مِنك يا أمير المؤمنين!

رأى الإمام علي (عليه السلام) امرأة في بعض الطُّرقات، تحمل قِربة مِن الماء، فتقدَّم لمُساعدتها، وأخذ القِربة وأوصلها إلى حيث تُريد، وفي الطريق سألها عن حالها، فقالت: إنَّ عليَّاً أرسل زوجي إلى إحدى النواحي فقُتِل، وقد خلَّف لي عِدَّة أطفال، لا أقدر على إعالتهم؛ فاضطررت للخدمة في بعض البيوت. فرجع عليٌّ (عليه السلام) وأمضى تلك الليلة في مُنتهى الانكسار والاضطراب، وعند الصباح حمل جِراباً مَملوءاً بالطعام، واتَّجه إلى دار تلك المرأة. وفي الطريق كان بعض الأشخاص يطلبون منه أنْ يَحمل عنه الجراب فيقول لهم: (مَن يحمل عني أوزاري يوم القيامة؟).

وصل إلى الدار، وطرق الباب، فقالت المرأة: مَن الطارق؟

قال: (الرجل الذي أعانك في الأمس على حمل القِربة. لقد جئتك ببعض الطعام لأطفالك).

فتحت الباب وقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!

فقال لها: (أتخبزين أم تُسكِّتين الأطفال فأخبز؟).

قالت: أنا أقدر على الخبز، فقُم أنت بتسكيت الأطفال.

أخذتْ المرأة تعجن الدقيق، وأخذ عليٌّ (عليه السلام) يخلط اللَّحم بالتمر، ويُطعم الأطفال منه، وكلَّما ألقم طفلاً لقمة قال له برفق ولين: (يا بُني، اجعل علي بن أبي طالب في حِلٍّ).

ولمَّا اختمر العجين، أوقد عليٌّ (عليه السلام) التنور، وفي الأثناء دخلت امرأة تعرفه، وما أنْ رأته حتَّى صاحت بصاحبة الدار ويحَك! هذا أمير المؤمنين!

فبادرته المرأة، وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال: بلْ وا حيائي منكِ - يا أمة الله - فيما قصَّرت مِن أمرك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٨

لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصِّبيان

ورد في الحديث: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يُصلِّي يوماً في فِئة، والحسين صغير بالقُرب منه، فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره، ثمَّ حرَّك رجليه فقال: (حَلٍ، حَلٍ!).

فإذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ يرفع رأسه، أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد إلى ظهره، وقال: (حَلٍ، حَلٍ!)، فلم يزل يفعل ذلك حتَّى فرغ النبي مِن صلاته.

فقال يهودي: يا محمد، إنَّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان).

قال: فإنِّي أؤمن بالله وبرسوله؛ فأسلم لمَّا رأى كرمه مع عظيم قدره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٩

أين الدُّرُّ والذهب مِن سورة الفاتحة؟

كان عبد الرحمان السلمي، يُعلِّم وَلداً للإمام الحسين (عليه السلام) سورة الحمد، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده مَلأ الإمام فمَ مُعلِّمه دُّرَّاً، بعد أنْ أعطاه نقوداً وهدايا أُخَر. فقيل له في ذلك!

فقال (عليه السلام): (وأين يقع هذا مِن عطائه)، يعني: تعليمه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريّ، جاء في ترجمته: محمّد بن المنكدر بن عبد الله بن الهُذَير بن عبد العُزّى من بني تَيْم بن مُرّة، قوم أبي بكر، كان المـُنكدر خال عائشة.

روى عن: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزّبير، وعبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير، ومحمّد ابن كعب القُرَظيّ، وأبي أيّوب الأنصاريّ، وأبي هُريرة، وسعيد بن المسيّب، وحُمران مولى عثمان، وسَفينة مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسماء بنت عُمَيس، وعائشة...

روى عنه: جعفر بن محمّد الصادق، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثّوريّ، وشُعبة بن الحجّاج، وعليّ بن زيد بن جُدعان، ومالك بن أنس، ومحمّد بن مسلم ابن شهاب الزّهريّ، ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وأبو حنيفة، وهشام ابن عروة، ومَعمَر بن راشد، وأبو معشر، ومحمّد بن إسحاق بن يَسار، وعبد العزيز بن أبي سَلَمة الماجِشون، وأسامة بن زيد الليثيّ، والحجّاج بن أرطاة... وثّقه إسحاق بن راهوية، وابن عُيينة، والحُمَيدي، وأبو حاتِم وابن حبّان.(١)

____________________

= ورجال صحيح مسلم ١٦٤، وحلية الأولياء ٢: ١٤٦، والجرح والتعديل ٨ / الترجمته ٤٢١، وتهذيب الكمال ٢٦: ٥٠٣.

(١) الجرح والتعديل ٨ / الترجمة ٤٢١، وتاريخ الدارميّ ترجمة ٧٤٩، وثقات ابن حبّان ٥: ٣٥٠. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة رجل صالح تاريخه ٤١٤ / ١٥٠٦. وهو غير متّهم في روايته الحديث لما علمت من نسبه!

٤٢١

وعن عمرو بن مرزوق(١) ، عن شعبة بن الحجّاج، عن الأعمش، عن أبي عبد

____________________

(١) تاريخ البخاريّ الكبير ٦ / الترجمة ٢٦٧٧، والمعرفة والتاريخ للفسوي ١: ٢٢٥ و ٢: ٧٦، ٢١٣، وتاريخ خليفة ٤٧٨، وطبقاته ٢٢٨، والكنى للدّولابي ٢: ٢٦، وتاريخ أبو زرعة الرازي ٤٠٦، والجرح والتعديل ٦ / الترجمة ١٤٥٦، وطبقات ابن سعد ٧: ٣٠٥، وتهذيب الكمال ٢٢: ٢٢٤ / ٤٤٦...

روى عن: مالك بن أنس، وأبي إدريس صاحب أنس، وعبد العزيز بن الماجشون، وشعبة بن الحجّاج، وحمّاد بن زيد، وحماد بن سَلَمة وزهير بن معاوية، وزائدة بن قُدامة، وحرب بن شدّاد...

روى عنه: البخاريّ، وأبو داود، وأبو زرعة الرازيّ، وأبو حاتم محمّد بن إدريس الرازيّ، ويعقوب بن سفيان الفارسيّ، ويعقوب بن شيبة السّدوسيّ، ومحمّد بن بشّار بُنْدار...

قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل، وقلت له: إنّ عليّ بن المديني يتكلّم في عمرو بن مرزوق؟ فقال: عمرو بن مرزوق رجلٌ صالح لا أدري ما يقول عليّ. الجرح والتعديل ٦ / الترجمة ١٤٥.

وعن أحمد بن حنبل قال: كان عفّان يرضى عمرو بن مرزوق، ومن كان يُرضي عفّان؟! المصدر نفسه. وجاء في ترجمة عفّان: عفّان بن مسلم بن عبد الله الصفّار، كنيته أبو عثمان، مولى زيد بن ثابت الأنصاريّ من أهل البصرة. سكن بغداد. مات سنة عشرين ومائتين. البخاريّ الكبير ٧: ٧٢، والبخاريّ الصغير ٢: ٣٤٢، والجرح والتعديل ٧: ١٦٥، وتاريخ بغداد ٢: ٢٦٩، والثقات لابن حبّان ٥: ٣٧٧ / ٢٧٨٦.

وذكره العجليّ قال: ثبت صاحب سنّة. تاريخ الثقات ٣٣٦ / ١١٤٥.

وقال عبد الله بن محمّد بن الفضل الأسديّ: قال أحمد بن حنبل لابنه صالح حين قدِمَ البصرة: لِمَ لم تكتب عن عمرو بن مرزوق؟ فقال: نُهيتُ. فقال: إنّ عفّان كان يرضى عَمْراً، ومن كان يُرضي عفّان؟ نفس المصدر، وقال أبو عُبيد الله الحُدّانيّ عن أحمد بن حنبل: ثقة مأمون فتّشنا عمّا قيل فيه فلم نجدله أصلاّ. تهذيب الكمال ٢٢: ٢٢٧. =

٤٢٢

الرحمان السُّلَمي(١) ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اطلبوا الشّمس

____________________

= وقال محمّد بن عيسى بن السّكن الواسطيّ: سألت يحيى بن معين عنه فقال: ثقة مأمون صاحب غزوٍ وقرآن وفضل، وحَمِده جدّاً. نفس المصدر. وقال أبو زرعة: سمعت سليمان بن حرب، وذكر عمرو بن مرزوق فقال: جاء بما ليس عندهم فحسدوه. الجرح والتعديل.

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عن شعبة. طبقاته ٧: ٣٠٥.

(١) طبقات ابن سعد ٦: ١٧٢، والمصنّف لابن أبي شيبة ١٣ / ١٥٧٨٢، وتاريخ الدوري ٢: ٣٠١، وتاريخ خليفة ٢٧٣، وطبقاته ١٥٣، وتاريخ البخاري الكبير ٥ / الترجمة ١١٨ و ٩ الترجمة ٨٣٥، وتاريخ الثقات ٥٠٣ / ١٩٩٠، و ٢٥٣ / ٧٩٣، والمعارف ٥٢٨، والمعرفة ليعقوب ١: ٢١٩ / ٢٢٠، ومواضع عدّة من الجزء الثانيّ، والثالث والجرح والتعديل ٥ / الترجمة ١٦٤، وثقات ابن حبّان ٥: ٩، ورجال صحيح مسلم ٩٠، وأنساب السمعاني ٧: ١١٢...

وهو: عبد الله بن حَبيب بن رُبَيّعة - بالتصغير - أبو عبد الرحمان السُّلَميّ الكوفيّ القارئ، ولأبيه صحبة.

روى عن: عليّ بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وعمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقّاص، وأبي موسى الأشعريّ! وأبي الدّرداء، وأبي هريرة. وفي قول: وعن عبد الله بن مسعود، وعثمان بن عفّان.

روى عنه: إبراهيم النخعيّ، وإسماعيل بن عبد الرحمان السّدّيّ، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، وعطاء بن السائب، وأبو إسحاق السّبيعي، وأبو البَخْتر الطائي، وعلقمة بن مَرْثَد...

قال العجليّ: أبو عبد الرحمان السلَميّ المدنيّ من أصحاب عبد الله - بن مسعود - ثقة، وكان يُقرئ في زمان عثمان، وعَرضَ على عليّ بن أبي طالب.

تاريخ الثّقات ٥٠٣ / ١٩٩٠. وقال النّسائيّ: ثقة. تهذيب الكمال ١٤: ٤٠٩. مات سنة أربع وسبعين. ثقات ابن حبّان ٥: ٩. وقيل غير ذلك.

٤٢٣

فإذا غابت فاطلبوا القمر...»(١) الحديث.

وعن موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّعليهم‌السلام ، عن جابر عبد الله الأنصاريّ، قال: صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً صلاة الفجر، ثمّ انفَتَلَ وأقبل علينا يحدّثنا، فقال: «أيّها النّاس، من فقد الشّمس فليتمسّك بالقمر ومن فقد القمر فليتمسّك بالفرقدين. قال: فقمت أنا وأبو أيّوب الأنصاريّ، ومعنا أنس بن مالك، فقلنا: يا رسول الله، ومن الشّمس؟ قال: أنا، فإذا هوصلى‌الله‌عليه‌وآله ضرب لنا مثلاً، فقال: إنّ الله تعالى خلقنا وجعلَنا بمنزلة نجوم السّماء، كلّما غاب نجم طلع نجم، فأنا الشّمس فإذا ذهب بي فتمسّكوا بالقمر. قلنا: فما القمر؟ قال: أخي ووزيري وقاضي دَيْني وأبو ولدي في أهلي: عليّ ابن أبي طالب. قلنا فمن الفرقدان؟ قال: الحسن والحسين. ثمّ مكث مليّاً، وقال: فاطمة هي الزُّهرة، وعِتْرتي أهل بيتي هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفترقان، حتّى يردا عليّ الحوض».(٢)

فهذه الأحاديث صريحة في وجوب طاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطاعة عترته أهل بيته، وقد عرّف عترته، وأنّهم عليّ، وفاطمة، والحسن والحسين:؛ لا ما تقوّله ابن تيميه من أنّهم عموم بني هاشم! فعموم بني هاشم أفضل من عموم غيرهم إلاّ أنّ فيهم مَن لا يصلح للإمامة والاستخلاف ؛ وحديث الكساء حيث منع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً أن يشرك عليّاً وزوجته وابنيه:، وشرك نفسه الزكيّة معهم، وفي رواية:

____________________

(١) فرائد السمطين للجوينيّ ٢: ١٦ - ١٧.

(٢) أمالي الطّوسي (ت ٤٦٠ هـ) ٥١٦ - ٥١٧.

٤٢٤

استأذن جبريلعليه‌السلام أن يدخل معهم فأذن له النبيّ ؛ فلم يشركهم بهذه الكرامة إلاّ نبيّ وسفير الله تعالى إلى نبيّه. ونزلت آية التطهير بهم ودعا لهم النبيّ بكلّ خير وأعلن يومئذ أنّهم أهل بيته دون غيرهم ولقد استمرّ رسول الله ستّة أشهر بعد نزول آية التطهير يمرّ على بيت عليّعليه‌السلام ويرفع صوته وذلك إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول: الصّلاة رحمكم الله( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .(٢)

وفي النّهاية لابن الأثير: «خلّفت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعِتْرتي». عترة الرجل: أخَصُّ أقاربه. وعِتْرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بنو عبد المطّلب. وقيل: أهل بيته الأقربون، وهم أولادهُ وعليّ وأولاده.(٣)

فأخصُّ أقاربه يدخلُ فيهم عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين:، ويخرج منهم الأبعدون ؛ فيكف بمَن لا يمسّه برحم؟! وعلى قول بني عبد المطّلب فعليّ منهم بدأ شرفهم لسابقته وعلمه وجهاده، وغيره لا.

وعلى لفظ «أهل بيته الأقربين» فقد عرّفهم ابن الأثير فكفانا.

أضف إلى ذلك نزول آية التطهير فيهم، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي»، يعني هؤلاء هم أهل بيتي لا غيرهم!

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) ما نزل من القرآن في عليّ: ابن مردويه ٣٠١ ح ٤٧٥، نور الأبصار: ٢٢٦، الشرف المؤبّد ٦ - ٨ و ١٢ - ١٣، أنساب الأشراف ١: ٣٥٣.

(٣) النهاية ابن الأثير ٣: ١٧٧.

٤٢٥

وكما ذكرنا: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الأمور الخطيرة يعيد القول ويذكّر أمّته بما أوجب الله تعالى عليها لئلاّ تنسى، ولئلاّ يظهر مَن يقلّب الأمور ويُموّه الحقائق ؛ فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكّرهم بعترته في حصاره للطّائف: عن عبيد الله بن موسى، عن طلحة ابن جبر، عن المطّلب بن عبد الله، عن مصعب بن عبد الرحمان، عن عبد الرحمان ابن عوف قال: لما افتتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة، انصرف إلى الطّائف، فحاصرهم تسع عشرة أو ثمان عشرة فلم يفتحها، ثمّ ارتحل رَوْحةً أو غَدوةً، فنزل ثمّ قال: «أيّها النّاس إنّي فرطٌ لكم فأوصيكم بعترتي خيراً، وإنّ موعدَكُمُ الحَوْضُ، والذي نفسي بيده لَيُقيمَنّ الصلاةَ ولَيُؤتُنّ الزكاة أو لأَبعثَنَّ إليهم رجلاً منّي أو كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتلتهم ولْيَسبَينَّ ذراريهم». قال: فرأى النّاس أنّه أبو بكر أو عمر، فأخذ بيد عليّ فقال: «هذا»(١) .

وكلامنا عليه مثل ما سبق من أحاديث، فقد أوصى بعترته خيراً، ووصيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله واجب تأديتها، ثم نصب من العترة عَلَماً أقامه مقام نفسه، وهو عليّ ابن أبي طالب ولذا أقرّ أبوبكر بالحقّ فيما كبُر على ابن تيميه أن يقرّ بما اقرّبه أبوبكر وهو سَلَفُه! قال مَعقِل بن يسار المُزنيّ(٢) : سمعتُ أبا بكر يقول لعليّ بن

____________________

(١) المصنّف: ابن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) ٨: ٥٤٣ / ٢. والفرط: دليل القوم أو الذي يتقدّمهم بحثا عن الماء والكلأ.

(٢) معقل بن يَسار: يكنّى أبا عليّ، من أصحاب النبيّ. (تاريخ الثّقات للعجليّ ٤٣٤ / ١٦٠٧. وفي التهذيب (١٠: ٢٣٥): وكان ممّن بايع تحت الشجرة.

٤٢٦

أبي طالب: عِتْرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .(١)

حديث السفينة

وأمّا قوله: «مَثلُ أهل بيتي مَثلُ سفينة نوح» فهذا لا يُعرف له إسناد صحيح.

جوابه: عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن أبي إسحاق عن حنش بن امعُتَمِر، أنّه سمع أبا ذرّ الغفاريّ يقول: سمعت رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ في قوم نوح: من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك، ومَثَلِ باب حطّة في بني إسرائيل»(٢) .

محاكمة السند:

عبد الله بن عبد القدّوس التميميّ السعديّ، أبو محمّد الرازيّ. روى عن جابر الجُعفيّ، وسليمان الأعمش.. حُكيَ عن محمّد بن عيسى أنّه قال: هو ثقة. (الكامل لابن عديّ ٢: ١٣٧). وقال البخاريّ: هو في الأصل صدوقٌ إلاّ أنّه يروي عن أقوام ضِعاف.

استشهد به البخاريّ، وروى له الترمذيّ. قال أبو أحمد بن عَدِيّ: عامّة ما

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١٨: ٢٨.

(٢) كتاب الفضائل - فضائل الحسنين: أحمد بن حنبل، حديث «٥٥»، المعارف: ابن قتيبة: ٢٥٢، تفسير ابن كثير ٤: ١١٤ ذيل آية المودّة، المستدرك على الصحيحين: ٣: ١٥٠، المعرفة والتاريخ ١: ٥٣٨، علل الدار قطنيّ ٦: ٢٢٦، المعجم الأوسط: الطبرانيّ ٦: ١٨٦ / ٥٣٨٦ المعجم الصغير ١: ٢٢، مناقب ابن المغازليّ ١٣٣ حديث ١٧٥.

٤٢٧

يرويه في فضائل أهل البيت!(١)

إذن: العلّة في خَدْشِ ابن تيميه في سند حديث السفينة وقوله: لا يصحّ! هو كثرةُ ما يرويه ابن عبد القدّوس من فضائل العترة، وهو غيضٌ من فيضِ فضائلهم:. قد وثقه ابن عدي وحكم البخاريّ بصدقه، واستشهد به، وروى له الترمذيّ.(٢)

وأمّا الأعمش: فهو سليمان بن مهران الأعمش، أخرج له الجماعة. ذكره العجليّ، قال: ثقة، كوفيّ، كثير الحديث وكان عالماً بالقرآن رأساً فيه...(٣) .

وذكره يحيى بن معين فقال: ثقة(٤) . قال: قال أبو معاوية الضرير: حفظتُ عن الأعمش ألفاً وستمائة.(٥) وقال: هذه الأحاديث حفظتها من في الأعمش.(٦)

قال يحيى: وكان عند وكيع عن الأعمش ثمانمائة. قلت - أي الدّوريّ - ليحيى: كان أبو معاوية أحسنهم حديثاً، عن الأعمش؟

قال: كانت عند الأحاديث الكبار العالية عنده.(٧)

____________________

(١) الكامل: ابن عديّ ٢: ١٣٧.

(٢) تهذيب الكمال: المزّيّ ١٥: ٢٤٣ / ٣٣٩٧.

(٣) تاريخ الثّقات: العجليّ (١٨٢ - ٢٦١) ٢٠٤ / ٦١٩.

(٤) تاريخ يحيى بن معين (١٥٨ - ٢٣٣ هـ) ١: ٢٢١ / ١٤٣٣ ؛ والجرح والتعديل: الرازي ٢: ٣ / ٩٦.

(٥) تاريخ يحيى بن معين ٢٧٦ / ١٨٢٧ ؛ وتاريخ بغداد ٥: ٢٤٦.

(٦) تاريخ يحيى بن معين ١: ٢٧٦ / ١٨٣٠.

(٧) نفسه ١: ٢٧٦ / ١٨٢٨ ؛ وتاريخ بغداد ٥: ٢٤٦.

٤٢٨

وذكره ابن حبّان في الثّقات.(١)

وترجم له المزّيّ ترجمة ضافية جاء فيها: رأى أنس بن مالك، وأبا بكرة الثقفيّ.

وروى عن: أنس بن مالك، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي وائل شقيق بن سلمة الأسديّ، وعامر الشّعبيّ، وعطاء بن أبي رَباح، وعطيّة العَوْفيّ، وعكرمة مولى ابن عبّاس، وأبي إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعيّ، وقيس بن أبي حازم، وأبي الزّبير محمّد بن مسلم المكّيّ، والمِنهال بن عمرو، وأبي صالح مولى أمّ هانئ، وسالم بن أبي الجعد، وخيثمة بن أبي خيثمة البصريّ...

روى عنه: أبان بن تغلب، وإبراهيم بن طهمان، وأسباط بن محمّد القرشيّ، وإسرائيل بن يونس، وحفص بن غياث، وحمزة بن حبيب الزيّات، وسفيان الثّوريّ، وسفيان بن عُيَينة، وشريك بن عبد الله النّخعيّ، وشعبة بن الحجّاج، وزياد ابن عبد الله البكّائيّ، وعبد الله بن عبد القدّوس الرازيّ، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن نمير، وعبيد الله بن موسى، وأبو نُعيم الفضل بن دُكين، وفُضيل بن مرزوق، ووكيع بن الجرّاح، ويحيى بن سعيد القطّان، وأبو إسحاق السبيعيّ - وهو من شيوخه - وأبو عَوانة، وأبو معاويةَ الضّرير....(٢)

قال البخاريّ، عن عليّ ابن المدينيّ: له نحو ألف وثلاثمائة حديث.(٣)

____________________

(١) الثقات لابن حبّان ٢: ١٨٤ / ١٤٢١.

(٢) تهذيب الكمال: المزّيّ ١٢: ٧٦ - ٨٣ / ٢٥٧٠.

(٣) نفسه ١٢: ٨٣.

٤٢٩

وقال عليّ ابن المدينيّ: حفظ العلم على أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ستّةٌ: فلأهل مكّة عمرو بن دينار، ولأهل المدينة ابن شهاب الزّهريّ، ولأهل الكوفة أبو إسحاق السّبيعيّ، وسُليمان بن مهران الأعمش...(١) .

قال عاصم الأحْوَل: مرّ الأعمش بالقاسم بن عبد الرحمان فقال: هذا الشيخ أعلم النّاس بقول عبد الله بن مسعود. (تهذيب الكمال ١٢: ٨٥).

وقال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق والأعمش رجلا أهل الكوفة.(٢)

وقال زهير بن معاوية: ما أدركت أحداً أعقل من الأعمش والمغيرة.(٣)

وقال يحيى بن معين: كان جرير إذا حدّث عن الأعمش، قال: هذا الدّيباج الخسروانيّ.(٤)

وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش.(٥)

وقال عبد الله الخُرَيبيّ: سمعت شعبة إذا ذكر الأعمش، قال: المـُصحَف المـُصحَف!(٦)

____________________

(١) نفسه ١٢: ٨٤.

(٢) تهذيب الكمال ١٢: ٨٥.

(٣) نفسه ؛ وتاريخ بغداد ٩: ٩.

(٤) تهذيب الكمال ١٢: ٨٦ ؛ و تاريخ بغداد ٩: ١٠، والمعرفة والتاريخ ليعقوب الفسويّ ٢: ٦٧٨، والجرح والتعديل: ٤ / الترجمة ٦٣٠ وزاد: وهو أستاذ أهل الكوفة.

(٥) تهذيب الكمال ١٢: ٨٦ ؛ و تاريخ بغداد ٩: ١٠.

(٦) تهذيب الكمال ١٢: ٨٦ ؛ و تاريخ بغداد ٩: ١١.

٤٣٠

وقال عمرو بن عليّ: كان الأعمش يسمّى المصحف من صِدقه.(١)

وقال عبّاس الدّوريّ، عن سهل بن حليمة: سمعت ابن عُيينة يقول: سبق الأعمش أصحابه بأربع خصال: كان أقرأهم للقرآن، واحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى.(٢)

ويطول الكلام عن الأعمش وما قيل فيه ؛ فنكتفي بما ذكرنا.

أبو إسحاق السبيعيّ واسمه عمرو بن عبد الله. وقد ذكرنا في ترجمة الأعمش: أنّ أبا إسحاق من شيوخه وقد حدّث كلّ واحد منهما عن الآخر ؛ ممّا يُظهر فضلهما وثقتهما.

ذكره العجليّ، قال: «كوفيّ»، تابعيّ، ثقة.

قال: وروى أبو إسحاق السّبيعيّ عن ثمانية وثلاثين من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

حدّثنا أبي: عبدُ الله، قال: كان أبو إسحاق يقول لإسرائيل: الزم هؤلاء الثلاثة، فإنّهم أصحاب علم وفصاحة: عبد الملك بن عمير، والأعمش وسِماك بن حرب.(٣)

وترجم له في التهذيب: عَمرو بن عُبيد... أبو إسحاق السّبيعيّ الكوفيّ الهمدانيّ.

ذكر شريك عن أبي إسحاق أنّه وُلِدَ لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.

____________________

(١) تهذيب الكمال ١٢: ٨٧ ؛ وتاريخ بغداد ٩: ١١.

(٢) تهذيب الكمال ١٢: ٨٥ ؛ وتاريخ بغداد ٩: ٩.

(٣) تاريخ الثّقات: العجليّ ٣٦٦: ١٢٧٢.

٤٣١

روى عن: أنس بن مالك، وأسامة بن زيد بن حارثة، والبراء بن عازب، والأشعث بن قيس الكندي، وجرير بن عبد الله البجلي، وحُبشي بن جنادة، وزيد بن أرقم، وسعيد بن جبير، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وصعصعة بن صوحان، وعامر بن شراحيل الشّعبي، وعبد الله بن الزبير بن العوّام، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وزيد بن يُثيع، والحارث بن عبد الله الأعور، وعبد خَير الهمدانيّ، وعديّ بن ثابت الأنصاريّ، وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وعديّ بن حاتم الطائيّ، وعطاء بن أبي ربَاح، وعِكرمة مولى ابن عبّاس، وعليّ بن أبي طالب، وعمرو بن ميمون الأودي، وقيس بن أبي حازم، وكُميل بن زياد، ومجاهد بن جبر المكّي، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين، ونافع مولى ابن عمر، والنّعمان بن بشير، وأبي بُردة بن أبي موسى الأشعري...(١)

روى عنه: أبان بن تغلب، وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي، والحسن ابن صالح بن حَيّ، وسفيان الثوريّ، وهو أثبت النّاس فيه، وسفيان بن عُيينة، وسليمان الأعمش، وشريك بن عبد الله، وشعبة بن الحجاج، وفضيل بن مرزوق، و فطر بن خليفة، وقتادة بن دِعامة، ومالك بن مِغوَل، ومسعر بن كدام، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن عقبة، وأبو بكر بن عيّاش، وأبو حمزة الثّمالي، وحمزة بن حبيب الزّيّات...(٢)

____________________

(١) تهذيب الكمال ٢٢: ١٠٢ - ١٠٨ / ٤٤٠٠.

(٢) تهذيب الكمال: ١٠٨ - ١١٠.

٤٣٢

قال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق ثقة.(١)

وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة.(٢)

وكذلك قال النسائي.(٣)

وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وهو أحفظ من أبي إسحاق الشّيباني، ويشبه الزّهري في كثرة الرواية واتّساعه في الرّجال.(٤)

وقال أبو داود الطّيالسي: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: ما كان يصنع بمجاهد! كان هو أحسن حديثاً من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين.(٥)

حنش بن المعتمر الكنانيّ الكوفيّ:

قال العجليّ: تابعيّ، كوفيّ، ثقة.(٦)

وفي التهذيب: روى عن عُلَيم الكنديّ، وعليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ الغفاريّ.

روى عنه: أبو إسحاق السبيعيّ، وأبو صادق وسماك بن حرب...

____________________

(١) تهذيب الكمال ٢٢: ١١٠ ؛ والجرح والتعديل: ٦ / الترجمة ١٣٤٧.

(٢) تهذيب الكمال ٢٢: ١١٠ ؛ والجرح والتعديل: ٦ / الترجمة ١٣٤٧.

(٣) نفسه.

(٤) نفسه.

(٥) نفسه.

(٦) تاريخ الثقات للعجليّ ١٣٦ / ٣٤٧.

٤٣٣

قال أبو داود: حنش بن المعتمر ثقة.

قال عبد الرحمان بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو عندي صالح.

روى له أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائي في خصائص عليّ وفي مُسنده.(١)

أبو ذرّ الغفاريّ: لا حاجة للحديث عنه لجلالته...

هذا هو سند الحديث الذي قال عنه شيخ الإسلام: لا يُعرف له إسنادٌ صحيحٌ.

وبنفس السند، عن حنش الكنانيّ قال: سمعت أبا ذرّرضي‌الله‌عنه يقول وهو آخذ بباب الكعبة: مَن عرفني فأنا مَن عرفني ومَن أنكرني فأنا أبو ذرّ سمعتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق».(٢)

ولن نستغرق في الكلام على أسانيد الحديث من طُرقه الأخرى بعد أن ثبت لنا صحّة سند الحديث السابق ؛ فحقّ القول وبطل ما كانوا يفترون.

وعن عليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثَل أهل بيتي مَثَل سفينة نوح: من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، ومن قاتَلَنا في آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجّال».(٣)

____________________

(١) تهذيب الكمال ٧: ٤٣٢ / ١٥٥٦، والجرح والتعديل: ٣ / الترجمة ١٢٩٧.

(٢) المعارف: ابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) ٢٥٢، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٣ / ٤٧٢٠.

(٣) المعرفة والتاريخ للفسويّ ١: ٢٩٦، ومناقب الإمام عليّ: ابن المغازليّ الشّافعيّ: ١٣٤ حديث ١٧٧، وميزان الاعتدال، حديث ١٨٢٦.

٤٣٤

وعن أبي سلمة الصّائغ، عن عطيّة - العوفيّ - عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «إنّما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مَثَلُ أهل بيتي فيكم مَثَلُ باب حطّة في بني إسرائيل: من دخله غُفِر له».(١)

و لحديث السفينة عن ابن عبّاس، وأبي ذرّ، طرق أخرى.(٢)

ونظير حديث السفينة، ما ذكره القاضي عياض من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «معرفةُ آلِ محمّدٍ براءةٌ من النّار، وحبُّ آلِ محمّدٍ حَوازٌ على الصِّراط، والولاية لآلِ محمّدٍ أمانٌ من العذاب».(٣)

قال القاضي: قال بعض العلماء: معرفتهُم هي معرفةُ مكانتهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا عَرَفهم بذلك عرفَ وجوبَ حقّهم وحُرمتهم بسببه.(٤)

أهل البيتعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض:

وبسنده أخرج الحاكم مستدركاً على الشّيخين:

عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله «النّجوم أمانٌ لأهل الأرض من

____________________

(١) المعجم الصغير للطبرانيّ ٢: ٢٢.

(٢) انظر المعرفة والتاريخ: الفسويّ (ت ٢٧٧ هـ) ١: ٢٩٦، المعارف: ابن قتيبة: ٨٦، عيون الأخبار، له ١: ٢١١، حلية الأولياء ٤: ٣٠٦، الصواعق المحرقة: ابن حجَر: ١٨٤، و ٢٣٤، الخصائص الكبرى: السيوطي ٢: ٢٦٦، تاريخ الخلفاء، له ٥٧٣، ينابيع المودّة ٢٨.

(٣) الشفا: القاضي عياض ٣١.

(٤) نفسه.

٤٣٥

الغرق، وأهلُ بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف. فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس».

قال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.(١)

ووقع الذي حذّر منه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فظهر أكثرُ من ناصبيّ يعبدُ الله بعداوتهم! فكان مسلسل المآسي الذي ما زلنا نتجرّع غصّته وأثره السيِّئ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

وبسندٍ عن أبي عاصم، قال: حدّثنا موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة ابن الأكوع، عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهلُ بيتي أمانٌ لأُمّتي».(٢)

وقعة الجمل

قال ابن تيميه: وأمّا الحديث الذي رواه وهو قوله لها: «تقاتلين عليّاً وأنتِ

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٢ / ٤٧١٥. والمعرفة والتاريخ: يعقوب الفسويّ ١: ٥٣٨ و ٢٩٦.

(٢) مناقب الإمام علي: محمّد بن سليمان الكوفي (القرن الرابع)، ١: ٨٢٨ / ٦٦٧. والأمالي الخميسيّة: المرشد بالله (ت ٤٩٩ هـ) ١: ١٥٥، والمعجم الكبير: الطبرانيّ (ت ٣٦٠ هـ) ٧: ٢٥، وجواهر العقدين، للسمهوديّ: ٩٥، وموضّح أوهام الجمع والتفريق: الخطيب البغداديّ ٢: ٤٠٢، وكنز العمّال ١٢: ١٠١. والأمالي للطوسيّ ٢ / ٢٥٢ باب ٤٨، والمعرفة والتاريخ ١: ٥٣٨، وفرائد السمطين ٢: ٢٤١ باب ٤٧.

٤٣٦

ظالمة». قال: فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة... بل هو كذب قطعاً، فإنّ عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنّما خرجت بقصدِ الإصلاح بين المسلمين وظنّت أنّ في خروجها مصلحةً للمسلمين، ثمّ تبيّن لها فيما بعد أنّ تركَ الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتّى تبلّ خمارها، وهكذا عامّة السّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعليّ رضي الله عنهم أجمعين.(١)

قال: (و أمّا قوله): وخالفت أمر الله في قوله تعالى:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى ) (٢) ؛ فهي رضي الله عنها لم تتبرّج تبرّج الجاهليّة الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحةٍ مأمورٍ بها كما لو خرجت للحجّ والعُمرة...، فعائشة اعتقدت أنّ ذلك السفر مصلحةٌ للمسلمين...(٣) .

قال: وأمّا قوله: خرجت في ملأٍ من الناس تقاتل عليّاً على غير ذنبٍ فهذا كذِبٌ عليها فإنّها لم تخرج لقصد القتال ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما القتال لعليّ...(٤)

قال: (وأمّا قوله) إنّ عائشة كانت تأمر بقتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتلُه فرحت بذلك ؛ فيقال له: أوّلاً: أين النقل الثابت عن

____________________

(١) منهاج السنّة: ابن تيميه ٢: ١٨٥.

(٢) الأحزاب: ٣٣.

(٣) منهاج السنّة: ابن تيميه ٢: ١٨٦.

(٤) منهاج السنّة: ابن تيميه ٢: ١٨٦.

٤٣٧

عائشة بذلك، ويقال ثانياً: إنّ المنقول عن عائشة يكذّب ذلك ويُبيّن أنّها أنكرت قتْله وذمّت مَن قتله.

ويقال ثالثاً: هب أنّ واحداً من الصحابة، عائشة أو غيرها، قال في ذلك كلمةً على وجه الغضب لإنكاره بعضَ ما يُنكرُ، فليس قولُه حجّة! ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له ؛ بل قد يكون كلاهما وليّاً لله تعالى، من أهل الجنّة، ويظنّ أحدُهما جوازَ قتْل الآخر بل يظنّ كفرَه! وهو مخطئ في هذا الظنّ...(١) .

قال: ويقال رابعاً: إنّ هذا المنقولَ عن عائشة من القدح في عثمان إن كان صحيحاً، فإمّا أن يكون صواباً أو خطأً، فإن كان صواباً لم يُذكر في مساوي عائشة وإن كان خطأً لم يُذكر في مساوي عثمان، والجمع بين بُغض عائشة وعثمان باطل ؛ وأيضاً فعائشة ظهر منها من التألّم لقتل عثمان! والذمّ لقتلِته وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك... ؛ وأيضاً ما ظهر من عائشة وجمهور الصّحابة وجمهور المسلمين من الملام لعليّ، أعظم ممّا ظهر منهم من الملام لعثمان، فإن كان هذا حجّة في لوم عثمان، كان حجّة في لوم عليّ وإلاّ فلا...(٢) .

قال: وما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير، ينقلب ما هو أعظم منه في حقّ عليّ ؛ فإن أجابوا عن ذلك بأنّ عليّاً كان مجتهداً فيما فعل وإنّه أولى بالحقّ من طلحة والزبير ؛ قيل: نعم، طلحة والزبير كانا مجتهدين وعليّ وإن كان أفضل

____________________

(١) نفسه: ١٨٨.

(٢) منهاج السنّة: ابن تيميه ٢: ١٩٠.

٤٣٨

منهما، لكن لم يبلغ فعلُهما بعائشة ما بلغ فعلُ عليّ!! فعليّ أعظم قدراً منهما ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معها ذنباً، ففعلُ عليّ أعظم ذنباً فَتقاوَم كبر القدْر وعِظَم الذنب(١) .

قال: فإن قالوا: هما أحوجا عليّاً إلى ذلك لأنّهما أتيا بها، فما فعله عليّ مضاف إليهما لا إلى عليّ ؛ قيل: وهكذا معاوية، لمّا قيل له: قتلت عمّاراً وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «تقتلك الفئة الباغية» قال: أوَ نحنُ قتلناه؟ إنّما قتله الذين جاؤوا به حتّى جعلوه تحت سيوفنا، فإن كانت هذه الحجّة مردودةً فحجّةُ مَن احتجّ بأنّ طلحة والزبير فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانة عسكر عليّ لها واستيلائهم عليها مردودة أيضاً، وإن قُبلتْ هذه الحجّة ؛ قُبلتْ حجّة معاويةرضي‌الله‌عنه !(٢)

جوابنا:

كشف الرجل عن صفحة نفسه وأنّه ناصبيّ و...، فلو أنّه اكتفى بتسويغ خروج عائشة وطلحة والزبير، والتمس لهم المعاذير في ذلك ؛ وإن كانت مهلهلةً إذ هي أوهنُ من بيت العنكبوت!

لكان ذلك أفضل له وأستر، لكنّه كذب في تكذيب الحقائق الثابتة وخاض مناضلاً لقلب الأمور لتبرئة ساحة المذنبين وقد أقرّوا بذنبهم! ودافع عن النّاكثين والخوارج وأسقط ذنبهم على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، بل وذهب إلى القول بأنّ

____________________

(١) نفسه: ١٩٥.

(٢) نفسه: ١٩٦.

٤٣٩

ذنبه أعظم من ذنبهم!

والحديث معه يفرض علينا أن نتحدّث عن حرب الجمل بشكلٍ وافٍ ليكون القارئ على بيّنة، ولضيق المجال فنذكر الضروريّ منها إجمالاً.

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحذّر عائشة:

قال: وأمّا الحديث الذي رواه وهو قوله لها: «تقاتلين عليّاً وأنت ظالمة»، كذب قطعاً! وعلّل ذلك أنّها لم تقاتل! ولم تخرج لقتال وإنّما خرجت لطلب الإصلاح...

نقول: لقد حذّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائشة من خروجها، وأمرُهصلى‌الله‌عليه‌وآله مطاعٌ لا يجوز عصيانه، وقد عصته أمّ المؤمنين، وعصاه الزّبير - وسنذكر خبره -

وهذه بعض الآثار في ذلك:

- أبو نُعيم الفضل بن دُكين، حدّثنا عبد الجبار بن الورد، عن عمّار الدُّهنيّ، عن سالم بن أبي الجعد، عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خروج بعض أمّهات المؤمنين، فضحكت عائشة فقال: انظري يا حُميراء أن لا تكوني أنت» ثمّ التفت إلى عليّ فقال: «إنْ ولِيتَ من أمرها شيئاً فارفِق بها».(١)

ما أبينَها من حجّةٍ وما أصدقَه من دليلٍ على خروجها على عليّ محاربةً لا مُصلحةً كما زعم! وإلاّ فلِمَ استَبَقصلى‌الله‌عليه‌وآله الزمنَ وذكر ما سيكون، ولِمَ حذّر عائشة دون غيرها في الخروج على عليّعليه‌السلام ، وطلب من عليّ الرِّفق بها، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لا

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين: الحاكم ٣: ١٢٩ / ٤٦١٠.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492