ابن تيميه الجزء ٢

ابن تيميه8%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 492

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 492 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169421 / تحميل: 5915
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الطبيعيّ لأحد أنبيائه بعد أن دعا الله تعالى أن يحبسها عليه وهو في حال جهاد، فاستجاب له - وهو ما قرّره الابنان: ابن الجوزيّ، وابن تيميه فيما أنكرا رجوعها! -، وانشقاق القمر يومَ وُلِد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربت النّجومُ بعضُها بعضاً، وغيض ماء بُحيرة ساوه، ونبع الماء من بين أصابعهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانفلق البحر لموسىعليه‌السلام ، فسلكه ومن معه، فلمّا جاوزه انطبق على فرعون وجنده فكانوا من المُغرقين.

ومن آيات عيسىعليه‌السلام : إحياء الموتى بإذن الله تعالى، والموت والحياة من شأن الله سبحانه.

وأوتي سليمانعليه‌السلام من الآيات الباهرات وخوارق العادات الكثير وكانت النار التي أوقدها نمرود برداً وسلاماً على إبراهيم الخليلعليه‌السلام «وهو مخالف لما جعله الله تعالى للنار من طبيعة الإحراق.

ومثلما حُبست الشمس ليوشع فتأخّر غروبها وطوّل الله تعالى له النهار، إلى آخر كلامه؛ فنقول: إنّ حبس الشمس عن جريها الطبيعيّ وتأخير الغروب وتطويل النّهار، كلّ ذلك خروج عن سنّة الله تعالى في خلقه، لكنّه واقع في مشيّته كما ذكرنا من قبل، ولا فرق بين حبسها وبين ردّها!

وإضافة إلى ما ذكرناه من معاجز الأنبياء، ومنها ما كان لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً آخر من ذلك، مثل: تسبيح الحصى في يده الشريفة، واستجابة النخلة له لمّا طلب منه المشركون فتحوّلت من مكانها وانحنت أمامه وشهدت له بالنبوّة، وهذا خروج للجمادات عمّا هو مألوف منها من حال الجمود. وهذه أمثلة من حرمة الجمادات وشأنها؛ فكيف بسادات الورى؟

١٨١

حرمة الحجر الأسود

للحجر الأسود شأن خاصّ ليس لبقيّة موجودات الله تعالى مثله، حتّى ولا للشمس.

عن أبي الطّفيل: رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمِحْجنٍ معه، ويقبّل المحجن.(1)

وعن ابن عبّاس قال: رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يسجد على الحجر.(2)

ولقد قيل في الحجر الأسعد أنّه نزل من الجنّة. روي ذلك عن ابن عبّاس، قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «الحَجَرُ الأَسودُ من الجنّة».(3)

وقد استنّ المسلمون بفعلِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانوا يقبّلون الحجر الأسود ويتبرّكون به، إلاّ أنّه قد عرض لبعضهم شبهة للجهلِ بعلّة تقبيل الحجر والسجود عليه!

عن عابس بن ربيعة(4) ، قال: رأيت عمر بن الخطّاب قام عند الحجر وقال: والله إنّي أعلم أنّك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا أنّي رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك ما قبّلتُك. فقال له عليّ: بلى؛ هو يضرّ وينفع، ولو علمت ذلك من كتاب الله لعلمت أنّه كما أقول، قال الله تعالى:« وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ

____________________

(1) سُنن أبي داود 2: 176؛ سنن ابن ماجة 2: 983؛ صحيح مسلم 2: 893.

(2) السنن الكبرى للبيهقيّ 5: 75.

(3) سنن النَّسائيّ 5: 226؛ الدّر المنثور 1: 135.

(4) عابس بن ربيعة: كوفيّ، تابعيّ، ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 239 / 734).

١٨٢

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى‏ أَنْفُسِهِمْ) (1) ، فلمّا اقرّوا أنّه الربّ عزّوجلّ، وأنّهم العبيد، كتب ميثاقهم في رَقّ وألقمه في هذا الحجر، وأنّه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان، يشهد لمن وافى بالموافاة، فهو أمين الله في هذا الكتاب. فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم يا أبا الحسن!(2)

وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن عاصم عن عبد الله بن سَرْجِس قال: رأيتُ عمر بن الخطّاب يقبّل الركن وكان يقول: والله إنّي لأقبّلك وأعلم أنّك حجر، وأعلم أنّ الله ربّي، ولكن رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك فقبّلتك.(3)

وعبد الرزّاق بسنده عن سُوَيد بن غفلة قال: رأيت عمر بن الخطّاب يقبّل الحجر ويقول: والله إنّي لأعلم أنّك حجر، ولكن رأيت أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله بك حفيّاً.(4)

وعبد الرزّاق عن محمّد بن راشد قال: سمعتُ مكحولاً يحدّث أنّ عمر بن الخطّاب استقبل الركن فقال: قد علمت أنّك حجر، وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا

____________________

(1) الأعراف: 172.

(2) المستدرك على الصحيحين 1: 457، شرح نهج البلاغة للمعتزليّ 3: 122، السيرة الحلبية 1: 188، كنز العمّال 5: 93، وذكره أبو داود في سننه 2: 175 / 1873، واقتصر على شطره الأوّل من غير كلام أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 53 / 9096. وأخرجه مسلم / الحديث (1270) برقم فرعيّ (250). وذكره ابن ماجة بتغيير وإضافة بعض الألفاظ، سنن ابن ماجة 2: 981 / 2943.

(4) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9097. وأخرجه مسلم / الحديث (1271) من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى. وحفيّاً: مبالغاً في إكرامه.

١٨٣

أنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك ما قبّلتك. قال: ثمّ قبّله.(1)

الحجر يمين الله

فلمّا كان الحجر الأسود من الجنّة، كما في رواية ابن عبّاس التي ذكرناها، فهو بذاته حجر مبارك وجاز التبرّك به لذلك. إلاّ أنّ ما أوضحه أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام من أنّ الحجر هو أمينُ الله في أرضه يشهد لمن وافاه بالبيعة! زاد في كرامة الحجر وتعظيمه عند رسول الله وطليعة الصحابة.

عن ابن عبّاس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستلم الحجر، فقد بايع الله ورسوله!(2)

فما أعظم شأنه؟! وكم تخفى علينا أمور وعلل نجهلها؛ فما علينا إلاّ التسليم بعد ثبوت شرعيّتها والإتيان بها من غير حرج.

عن فاطمة بنت حسين، عن أبيها قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لمّا أخذ الله ميثاق العباد جُعل في الحجر، فمِن الوفاء بالبيعة استلامُ الحجر»(3) .

حُرمة الكعبة، والتعوّذ بالبيت

عبد الرزّاق عن ابن جُرَيْج قال: حُدّثتُ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يضع يده على

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9098.

(2) الدّر المنثور 1: 134.

(3) الذّرية الطاهرة للدولابيّ 131 / 160.

١٨٤

الركن اليمانيّ.(1)

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه قال: طفت مع عبد الله بن عمر -، فلمّا فرغنا من السبع ركعنا في دبر الكعبة، فقلت: ألا تتعوّذ، قال أعوذ بالله من النار. ثمّ مشى فاستلم الركن، ثم قام بين الحجر والباب فألصق صدره ويديه وخدّه إليه، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله يصنع.(2)

عبد الرزّاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّه كان يلصق بالبيت صدره ويده وبطنه.(3)

عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «مَن طافَ بالبيت وصلّى ركعتين، كان كعتقِ رقبةٍ».(4)

سأل ابن هشام عطاء بن أبي رباحٍ عن الركن اليمانيّ، وهو يطوف بالبيت. فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّ النبيّ قال: «وُكِل به سبعون ملكاً، فمن قال: اللّهمّ إنّي أسألك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار؛ قالوا: آمِين».

فلمّا بلغ الرّكن الأَسود قال: يا أبا محمّدٍ، ما بلغك في هذا الرّكن الأسود؟

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9102.

(2) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9106، سنن ابن ماجة 2: 987 / 2962، سُنن أبي داود 1: 181 / 1899.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 56 / 9111.

(4) سنن ابن ماجة 2: 985 / 2956.

١٨٥

فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع رسول الله يقول: «مَن فاوضَه(1) فإنّما يفاوض يدَ الرحمان».

قال له ابن هشام: يا أبا محمّد، فالطّواف؟ قال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع النبيّ يقول: «من طاف بالبيت سبعاً ولا يتكلّم إلاّ بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ اللهُ، واللهُ أكبر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ مُحِيَت عنه عشر سيّئات، وكُتبت له عشر حسنات ورُفع له بها عشرةَ درجات. ومن طاف فتكلّم وهو في تلك الحال، خاض في الرحمة برِجْلَيه، كخائض الماء برجلَيه».(2)

عبد الرزّاق عن معمر قال: رأيت أيّوب يلصق بالبيت صدره ويديه.(3)

عن مكحول قال: إذا طفت بين السّادس والسابع فالتزم بالبيت ما بين الركن الأسود والركن اليمانيّ، ثم تعوّذ بالله.(4)

تكريم البيت

اللّيث عن عطاء، وطاووس، ومجاهد؛ قالوا: لا يُدخَل البيت بحذاء ولا بسلاح، ولا خُفَّين، وكان عطاء ومجاهد يريان الحِجر من البيت.(5)

وعن عبد الله بن عبّاس قال: كانت الأنبياء تدخل الحرم مُشاةً حُفاة،

____________________

(1) فاوضه: أي قابله بوجهه.

(2) سنن ابن ماجة 2: 24 / 957.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9105.

(4) نفسه / 9109.

(5) نفسه: 61 / 9135.

١٨٦

ويطوفون بالبيت، ويقضون المناسك حفاةً مشاة.(1)

عن سهل بن سعد الساعديّ، عن رسول الله قال: «ما من مُلَبٍّ يُلَبِّي إلاّ لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَر، حتّى تنقطع الأرض من ههنا وههنا».(2)

ضيوف الرحمان

و للمنزلة الخاصّة لبيت الله الحرام، فإنّ من قصده من قريب أو بعيد فهو في ضيافة الله تعالى؛ الكريم، ومن كرمه، وقد نزلوا أشرف البقاع وأقربها إليه عزّوجلّ، وأن يستجيب دعاءهم.

بسندٍ عن أبي هريرة، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «الحُجّاج والعُمّار وفدُ اللهِ، إن دَعَوْه أجابهم، وإن استغفروه غَفَرلهم».(3)

و بسندٍ عن ابن عمر، عن النبيّ قال: «الغازي في سبيل الله والحاجُّ والمُعتمر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوهُ فأعطاهم».(4)

وبسند عن سعيد بن جُبير قال: سمعتُ ابنَ عبّاس يقول: قال رسول الله «ليأتينّ هذا الحجر يوم القيامة، وله عينان يُبصرُ بهما، ولسان ينطق به، يشهد على

____________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 980 / 2939.

(2) نفسه: 974 / 2921.

(3) سنن ابن ماجة 2: 966 / 2892.

(4) نفسه / 2893.

١٨٧

من يَستلِمُه بحقّ».(1)

وعن نافع، عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي فقال: «يا عمر، ههنا تُسكبُ العَبَراتُ».(2)

عثمان بن أبي شيبة بسنده عن عبد الرحمان بن صفوان قال: لما فتح رسول الله مكّة، انطلقتُ فرأيتُ النبيَّ قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت.(3)

حرمةُ المؤمن

جرى الكلام عن بيت الله وحُرمته، وأثره في النفوس وفضيلته، والمقام الخاصّ للحجر الأسود وعظمته، إلاّ أنّ النصوص من القرآن والسنّة تقرّر حقيقةً هي عظم حرمة المؤمن، فيذكر القرآن الكريم المنزلة الخاصّة للإنسان بين مخلوقاته:« لَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ) (4) الآية.

هذا في عموم بني آدم، إلاّ أنّ الإنسان يستأهل هذا التكريم بقدر قربه من الله وتقواه:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » . (5)

____________________

(1) نفسه: 982 / 2944.

(2) نفسه.

(3) سُنن أبي داود 2: 181 / 1898.

(4) الإسراء: 70.

(5) الحجرات: 13.

١٨٨

ولأجل الإنسان خلقت الجنّة يسعد بها المؤمن في نعيمٍ مقيم خالد، فإذا كانت تلك هي حرمة الحجر الأسعد لأنّه من الجنّة، وتلك هي حرمة الكعبة ومنزلتها إذ هي بيت الله تعالى ومحلّ ضيافته؛ فما هو موقع الإنسان المؤمن المتّقي، وما هي حُرمته؟ بسندٍ عن مكحول: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا رأى البيت حين دخل مكّة رفع يديه وقال: «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرّفه وكرّمه ممّن حجَّه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبِرّاً».(1)

إنّ أشرف بقاع الأرض هي مكّة المكرّمة، فيها أوّلُ بيتٍ وضعه الله تعالى لعبادته« إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (2) .

والمؤمن أولى بهذا البيت، وكلّما حجّه واعتمره زاد شرفاً إلى شرفه، إذ كما للبيت والحجر وظيفة هي الشّهادة لمن وافاهما، فكذلك المؤمن فهو شاهد على غيره« لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (3) ، والآية بيان منه سبحانه لفضل هذه الأمّة على سائر الأمم. ومعنى شهداء على الناس أي: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم، أو لتكونوا حُجّةً على الناس فتُبيِّنوا لهم الحقّ والدّين ويكون الرسول عليكم شهيداً بما يكون من أعمالكم، وحجّةً عليكم. (4)

ولسعة أُفق مسؤوليّة المؤمن في هذه الحياة، كانت حُرمته أعظم، فعن ابن

____________________

(1) الدرّ المنثور 1: 132.

(2) آل عمران: 96.

(3) البقرة: 143.

(4) مجمع البيان - تفسير الآية 143 سورة البقرة.

١٨٩

عبّاس قال: لما نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة قال: «مرحباً بكِمن بيتٍ ما أعظمك وأعظمَ حرمتك، لَلْمُؤمنُ أعظمُ عند الله حرمةً منكِ».(1)

تفاوت منازل المؤمنين

تتفاوت منازل المؤمنين عند الله تعالى، وميزان هذا التفاوت هو التقوى:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » (2) وأتقى الأمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو سيّد البشر مطلقاً، وهو خاتم الأنبياء، قد بشّر به مَن كان قبله منهم، ورسالته خاتمة الرسالات؛ فهو أولى بالشرف الباذخ الذي لا تنال ذُراه الكعبة. وهو الذي حرّر البيت الحرام، فطهّر الكعبة من أدران الجاهليّة وحطّم الأصنام التي على سطحها، فكان النظر إلى وجهه الكريم وتعظيمه هو مثلما يكون للكعبة. وكان الذي باشر عمل ذلك هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أصعده رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنْكِبَيه، فكان ذلك منزلةً له وكرامة.(3)

وللشافعيّ نظم في هذه المكرمة العلويّة:

قيلَ لي: قُل في عليّ مدحاً

ذكرُهث يخمدُ ناراً مُوصَدَهْ

____________________

(1) الدّر المنثور 1: 132.

(2) الحجرات: 13.

(3) مسند أحمد 1: 84، 151، خصائص أمير المؤمنين للنّسائيّ 31، المستدرك على الصحيحين 2: 367 و 3: 5، تاريخ بغداد 13: 2، 3، صفة الصفوة لابن الجوزيّ 1: 119، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ: 202 - 203، المناقب للخوارزميّ: 123، ذخائر العقبى: 85، كفاية الطالب: 257، ينابيع المودّة: 139 الرياض النضرة 2: 200، المواهب اللّدنيّة للقسطلانيّ 1: 204.

١٩٠

قلتُ: لا أقدم في مدح امرئ

ضلّ ذواللُّبّ إلى أن عَبَدهْ

والنبيُّ المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لمّا صَعده

وضع اللهُ بظهري يدَهُ

فأحسّ القلبُ أنْ قد بردَهْ

وعليّ واضعٌ أقدامَهُ

في محلٍّ وَضَعَ اللهُ يَدَهْ(1)

فبهذا اللّحاظ، وبلحاظ بقيّة مناقبهعليه‌السلام : من سابقته إلى الإسلام، وأنّه لم يسجد لصنمٍ قطّ ولم يوجّه وجهه في ركوع ولا سجود إلاّ إلى الكعبة التي وُلد فيها، ولم يولد قبله ولا بعده فيها أحد غيره، ولأعلميّته وشرائه النّفسَ في سبيل الله، وغير ذلك من المناقب الخاصّة به ممّا سيأتي الكلام عنها. لكلّ ذلك؛ ولأنّه نَفْسُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في آية المباهلة(2) ، فكان له ما لرسول الله إلاّ النبوّة، ولذا.. فكما أنّ النظر إلى وجه النبيّ عبادة؛ كذلك النظر إلى وجه عليّعليه‌السلام عبادة.

النظر إلى وجه عليّ عبادة

والأحاديث في هذا المعنى من الكثرة نذكر بعضها: بسندٍ عن عبد الله بن

____________________

(1) ينابيع المودّة للقندوزيّ: 140.

(2) تفسير مقاتل 1: 282، مسند أحمد 1: 185، صحيح مسلم 7: 120، الجامع الصحيح للترمذيّ 4: 293، كتاب الولاية لابن عقدة: 186، دلائل النبوّة لأبي نعيم: 124، المستدرك للحاكم 3: 150، أسباب النزول للواحديّ: 68، تفسير الطبريّ 3: 212، شواهد التنزيل 1: 128، مصابيح البغويّ 2: 277، تفسير الحِبَريّ 248، تفسير فرات: 29، تذكرة الخواصّ: 17؛ تفسير الثعلبيّ 3: 85، تفسير ابن كثير 1: 371، مناقب عليّ لابن مردويه: 226 - 228، أسد الغابة 4: 105، وله مصادر كثيرة نذكرها في موضعها.

١٩١

مسعود قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(1)

وكيع عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنّ النبيّ قال: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(2)

وعن أبي هريرة قال: رأيت مُعاذ بن جبل يُديم النظر إلى عليّ بن أبي طالب، فقلت: ما لكَ تديم النظر إلى عليّ كأنّك لم تره؟! فقال: سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(3)

وبطرقٍ عدّة عن عمران بن حصين: «النظر إلى عليّ عبادة».(4)

معمر، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه عليّ، فقلت له: يا أبه، أراك تُكثر النظر إلى وجه عليّ! فقال: يا بُنيّة سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(5)

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 152 / 4682، المناقب للخوارزميّ 361، حلية الأولياء 5: 58، ميزان الاعتدال للذهبيّ 4: 401، لسان الميزان لابن حجر 6: 178، الصواعق المحرقة: 73.

(2) حلية الأولياء 2: 182، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، لسان الميزان 1: 242، منتخب كنز العمّال 5: 30.

(3) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، ميزان الاعتدال 3: 484.

(4) مناقب الإمام عليّ: 209، المناقب للخوارزمي: 363، كفاية الطّالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، البداية والنهاية 7: 357، ينابيع المودّة: 90، تاريخ الخلفاء: 66.

(5) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ: 211، كفاية الطّالب: 161.

١٩٢

مثَلُ عليّ في الأُمّة

و لكون عليّعليه‌السلام المَثَل الأعلى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أنزله النبيّ منزلة الكعبة، فعلى المسلمين أن يشدّوا الرّحال إليه ليستمدّوا منه معالم دينهم، فهم جميعاً محتاجون إليه وعليهم أن يقصدوه كما يقصدون الكعبة.

عن صالح بن ميثم(1) عن يَريم بن العلا(2) ، عن أبي ذرّ قال:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثَلُ عليّ فيكم - أو قال: في هذه الأمّة - كَمثَلِ الكعبة المستورة - أو المشهورة -، النظرُ إليها عبادة، والحجّ إليها فريضة».(3)

عن شريك، عن سَلَمة، عن الصُّنابحي(4) ، عن عليّ قال: قال رسول الله لعليّ:

____________________

(1) صالح بن ميثم. قال له أبو جعفر - الباقرعليه‌السلام - (إنّي أحبّك وأُحبّ أباك حبّاً شديداً) (رجال ابن داود 186 / 760). وذكره البرقيّ في أصحاب الباقرعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 15). وذكره هو وابنه عُقبةَ بن صالح في أصحاب الصادقعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 16).

(2) لم أعثر له على ترجمة.

(3) مناقب الإمام عليّ 107، كفاية الطالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، مجمع الزوائد 19: 119، كنز العمّال 6: 158.

(4) شَرِيك بن عبد الله النّخعيّ القاضي، كوفيّ ثقة. (تاريخ الثقات للعجلي 217 / 644).

وسَلَمة بن كُهَيل الحضرميّ: كوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، تابعيّ. قال سفيان الثّوري لحمّاد بن سلمة: رأيتَ سلمة بن كهيل؟ قال: نعم، قال: لقد رأيت شيخاً كيِّساً، قال: وكان فيه تشيّع قليل، وهو من ثقات الكوفيّين (تاريخ الثقات 197 / 591). وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين، وقال تابعيّ. ثمّ ذكره في أصحاب الأئمّة: عليّ بن الحسين، والباقر، والصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ: 43، 91، 124، 211). وذكره البرقيّ في خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب: =

١٩٣

«أنت بمنزلة الكعبة: تؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسَلَّمُوها إليك - يعني الخلافة - فاقبَلْ منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتّى يأتوك».(1)

فالسعيُ إلى عليّعليه‌السلام كالسعي بين الصفا والمروة، والتزامُه مثل التزام ملتزم الكعبة، فهو وبنوه مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق.

أخرج الشريف الرضيّ بسندٍ عالٍ، عن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي عليّ، قال حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني أبي موسى، قال: حدّثني أبي جعفر، قال: حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني الحسين بن عليّ، عن أبيه أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، مَثَلُكُم في الناس مَثَلُ سفينة نوح: من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، فمن أحبّكم يا عليّ نجا، ومن

____________________

= السجّاد والباقرعليهم‌السلام (رجال البرقيّ: 4، 8، 9). قال ابن سعد: توفّي سلمة بن كهيل الحضرميّ سنة اثنتين وعشرين ومائة حين قُتل زيد بن عليّ بالكوفة. (الطبقات الكبرى 6: 314 / 2415).

والصّنابحي: شاميّ، تابعيّ، ثقة، من خيار التابعين. (تاريخ الثقات 230 / 705). وهو عبد الرحمان بن عسيلة المراديّ الصّنابحي، رحل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجده قد مات فنزل الشام، روى عن النبيّ مرسلاً، وعن أبي بكر وعمر وعليّ وغيرهم (تهذيب الكمال 6: 229). ومثله في (طبقات ابن سعد) عبد الرحمان بن عسيلة الصّنابحي، من حِمْيَر، ويكنّى أبا عبد الله، وكان ثقة قليل الحديث، روى عن أبي بكر وعمر وبلال. وذكر بسنده عن الصّنابحي قال: ما فاتني رسول الله إلاّ بخمس ليالٍ، توفّي رسول الله وأنا بالجحفة، فقدمت على أصحابه متوافرين، فسألت بلالاً عن ليلة القدر فقال: ليلة ثلاث وعشرين (الطبقات الكبرى 7: 353 / 4038).

(1) أسد الغابة 4: 112. وبلفظٍ آخر في: كفاية الطالب: 161، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام : 107، كنز العمّال 6: 158، ومجمع الزوائد 9: 119.

١٩٤

أبغضكم ورفض محبّتكم هوى في النار». ومَثَلُكُم يا عليّ مثل بيت الله الحرام: من دخله كان آمناً، فمن أحبّكم ووالاكُم كان آمناً من عذاب النار، ومن أبغضكم ألقي في النار يا عليّ« وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (1) ، ومن كان له عذر فله عذره، ومن كان مريضاً فله عذره، والله لا يعذر غنيّاً ولا فقيراً ولا مريضاً ولا أعمى ولا بصيراً في تفريطه في موالاتكم ومحبّتكم.(2)

وأخرج سفيان الفسويّ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي».(3)

وعن قتادة، عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف؛ فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس».(4)

وعن أبي إسحاق - السّبيعيّ -، عن حنش الكنانيّ(5) قال: سمعت أبا ذرّ يقول وهو آخذ بباب الكعبة: «مَن عرفني فأنا مَن عرفني، ومن أنكرني فأنا أبوذرّ، سمعتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ألا إنّ مَثَل أهل بيتي فيكم مَثَلُ سفينة نوح في

____________________

(1) آل عمران: 97.

(2) خصائص أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب للشريف الرضيّ: 48.

(3) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296.

(4) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 162 / 4715.

(5) حنش بن المعتمر الكنانيّ، كوفيّ ثقة تابعيّ (تاريخ الثقات للعجليّ 136 / 347)، ووثّقه ابن داود وأخرج له في سُننه، والترمذيّ في جامعه.

١٩٥

قومه، من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غَرِق».(1)

وعليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثَلُ أهل بيتي مَثَلُ سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، ومَن قاتلنا في آخر الزمان فإنّما قاتل مع الدّجال».(2)

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه قال: حدّثنا معاوية بن هشام(3) ، قال: حدّثنا عمّار، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، عن عليّ قال: إنّما مثَلُنا في هذه الأمّة كسفينة نوح، وكتاب حِطّة في بني إسرائيل.(4)

هذا هو شأن عليّ ومنزلته، ومن كان كذلك لا يكبر عليه ردّ الشمس إليه كرامةً له من عند الله تعالى.

وأمّا من حيث الوقوع: فيكفي أنّ أميرالمؤمنين عليّاعليه‌السلام ، ذكر ذلك في محاججته القوم يوم الشّورى، فأخبتوا له في كلّ ما احتجّ به من فضائله.

أبو ساسان(5) ، وأبو حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن عامر بن واثلة قال:

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 163 / 4720، والمعارف لابن قتيبة 252.

(2) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296، والكنى والأسماء للدولابيّ 1: 137 / الترجمة 241 ولكن من غير العبارة الأخيرة.

(3) معاوية بن هشام القصّار الأزديّ، أبو الحسن الكوفيّ. قال العجليّ: ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 433 / 1598).

(4) المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 / 52.

(5) حُضين بن المنذر، أبو ساسان السدوسيّ (بصريّ) تابعيّ، ثقة، وكان على راية عليّ يوم صفّين (تاريخ الثقات 123 / 304). =

١٩٦

____________________

= قال خليفة في صفة جيش أميرالمؤمنين يوم صفّين:... وعلى بكر البصرة حُضين بن المنذر (تاريخ خليفة 146).

وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين قال: أبو سنان الأنصاريّ (رجال الطوسيّ: 63).

وذكر البرقيّ أنّ له صحبة (رجال البرقيّ: 1). ثم ذكره في طبقة الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 3). وذكره كذلك في شرطة الخميس من أصحابهعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 4).

وذكره ابن داود في أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود القسم الأوّل 398 / 42). إلاّ أنّ البرقيّ وابن داود سمّياه: الحصين - بصادٍ مهملة غير منقوطة -.

وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة (الطبقات الكبرى 7: 155). وأبو حمزة: هو ثابت بن أبي صفيّة واسم أبي صفيّة دينار الأزديّ الكوفيّ، مات سنة خمسين ومائة. ذكره الطوسي في: أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر، وفي أصحاب الصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 84، 110، 160).

قال النجاشيّ: كوفي ثقة، وأولاده: نوح، ومنصور، وحمزة - قُتلوا مع زيد بن عليّ قال: لَقِيَ عليَّ ابن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسنعليهم‌السلام ، وروى عنهم، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث. ورُوي عن أبي عبد الله أنّه قال: أبو حمزة في زمانه مثلُ سلمان في زمانه. وروى عنه العامّة. له كتاب تفسير القرآن، وكتاب النوادر ورسالة الحقوق عن عليّ بن الحسين (رجال النجاشي 83 - 84).

وذكره ابن داود فقال: ثقة، له كتاب (رجال ابن داود 76 / 273).

وذكره البرقيّ في أصحاب عليّ بن الحسينعليه‌السلام (رجال البرقيّ 8).

وترجم له المزّيّ ترجمة وافية نذكر منها أسماء من روى عنهم، ومن رَوَوا عنه؛ لنعرف منزلته ووثاقته، قال: روى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، وعكرمة مولى ابن عبّاس، والأصبغ بن نُباتة، وأنس بن مالك، وسعيد بن جُبير، وعامر الشعبيّ، وسالم بن أبي الجعد الغطفانيّ، وأبي إسحاق السّبيعيّ... وغيرهم. =

١٩٧

____________________

= روى عنه: سفيان الثّوريّ، وشريك بن عبد الله النخعيّ وعمرو بن أبي المقدام ثابت بن هرمز، و عبيدالله بن موسى وأبونعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجرّاح، وأبوبكر بن عيّاش، وحفص بن غياث، والحسن بن محبوب... وغيرهم. روى له الترمذيّ، والنّسائيّ في (مسند عليّ) (تهذيب الكمال للمزّيّ 4: 357 / 819).

وأبو إسحاق: هو أبو إسحاق السبيعيّ، واسمه عمرو بن عبد الله بن عليّ... بن سبيع... بن هَمْدان، السّبيعيّ الهَمْدانيّ الفقيه (النّسب لابن سلام 337، الطبقات الكبرى 6: 311 / 2411).

قال العجليّ: أبو إسحاق السّبيعيّ (كوفيّ) تابعيّ، ثقة، روى عن ثمانية وثلاثين من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 366 / 1272).

روى عن: زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، عديّ بن حاتم، وعبد الله بن عمرو و أسامة بن زيد، وأنس بن مالك، وحُبْشيّ بن جُنادة وزيد بن يُثيع، وسعيد بن جبير، وسليمان بن صرد الخزاعيّ، وجرير بن عبد الله البجلي، وعامر بن شراحيل الشّعبي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وعبد الله بن الزبير بن العوّام، وعبد الله بن عبّاس والحارث بن عبد الله الأعور، وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وعبد خير الهمدانيّ وعكرمة مولى ابن عباس، وكميل بن زياد، ومجاهد بن جبر المكّيّ، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين... وخلقٍ كثير.

روى عنه: أبان بن تغلب، وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، وسفيان الثّوريّ وهو أثبت الناس فيه، وسفيان بن عيينة، وسليمان الأعمش، وشريك بن عبد الله وشعبة بن الحجّاج، وفضيل بن مرزوق، وفِطْر بن خليفة، وأبو حمزة الثّماليّ، وموسى بن عقبة، ومنصور بن المعتمر، ومِسعَر بن كِدام، وعبد الله بن المختار، وحمزة بن حبيب الزّيّات، ومالك بن مِغْول... وكثيرون.

مات سنة سبع وعشرين ومائة (الطبقات الكبرى 6: 311، الكنى والأسماء للدولابيّ 1: 100، التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / الترجمة 2594، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347، طبقات خليفة 275 / 1210، وقد ذكره في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة ن من مُضَر اليمن).

قال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق ثقة، وكذلك يحيى بن معين والنّسائي (الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347). =

١٩٨

كنت مع عليّعليه‌السلام في البيت يوم الشورى، فسمعت عليّاً يقول لهم: لأحتجّنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم يُغيّر ذلك. ثمّ قال: أنشدكم بالله أيّها النّفر جميعاً! هل فيكم أحد ردّت عليه الشّمس حتّى صلّى العصر في وقتها، غيري؟

____________________

= قال أبو داود الطّيالسيّ: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما كان يصنع بمجاهد، كان هو أحسنَ حديثاً من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين (الجرح والتعديل: 6: الترجمة 1347).

وسبق أن ذكرنا قول العجليّ فيه وتوثيقه له.

وعامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو، أبو الطّفيل اللّيثيّ الكنانيّ، آخر الصحابة موتاً. ولد عام اُحدٍ، وأدرك ثماني سنين من حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . روى عن: النبيّ، وعليّ، وأبي بكر، وعمر، ومعاذ، وابن مسعود، وحذيفة بن أسيد الغفاريّ، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدريّ، وسلمان الفارسيّ، وابن عبّاس... وغيرهم.

روى عنه: جابر بن يزيد الجعفيّ، والزهريّ، وحبيب بن أبي ثابت، وفطر بن خليفة، وعليّ بن زيد ابن جدعان، وحمران بن أعين، وعمرو بن دينار، وقتادة، وإسماعيل بن مسلم المكّيّ.. وخلق كثير (الطبقات الكبرى 5: 457، طبقات خليفة 68 / 176، 216 / 841، 488 / 2519، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1829، جمهرة أنساب العرب 183، جمهرة النسب 145).

وذكره ابن داود في خواصّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود) 194 / 194).

وكذلك البرقيّ (رجال البرقيّ: 4)، وذكر الطوسيّ في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب الحسن (رجال الطوسيّ: 25، 47، 69).

قال العجليّ: عامر بن واثلة، أبو الطفيل (مكّيذ) ثقة، سكن الكوفة مع عليّ، وكان من كبار التابعين، وقد رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 245 / 757).

١٩٩

قالوا: اللّهمّ لا.(1)

____________________

(1) كتاب الولاية لابن عقدة: 174، وهي واحدة من (29) فقرة احتجّ بها أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فشهدوا له بتصديقها. والسند الذي ذكرناه من القوّة والوثاقة ممّا يقطع بصحّة المناشدة وإخبات القوم وتصديقهم لأميرالمؤمنين فيما احتجّ به ومنه ردّ الشمس. وذكرها ابن المغازليّ الشافعيّ المتوفّى سنة (542 هـ) في كتابه (مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب: 112 / 155)، والجوينيّ في كتابه (فرائد السمطين 1: 319 / 215)؛ والخوارزميّ الحنفيّ المتوفّى سنة (568 هـ) في كتابه (المناقب: 313 / 314) بسنده عن زافر بن سليمان بن الحارث [ زافر بن سليمان، ثقه (تاريخ يحيى بن معين 2: 273 / 4751، الجرح والتعديل للرازيّ 1: 2 / 625) ]، عن عامر ابن واثلة؛ وذكر من المناشدة (24) فقرة.

وذكرها الگنجي الشافعيّ (المقتول سنة 658 هـ) في كتابه (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 386) بسنده عن أبان بن تغلب [ أبان بن تغلب بن رياح القاري الربعيّ، أبو سعد الكوفيّ. مات سنة إحدى وأربعين ومائة. روى عن أبي إسحاق السبيعيّ والحَكَم، روى عنه شعبة بن الحجّاج، وحمّاد بن زيد (كتاب الثّقات لابن حبّان 3: 215 / 290). وفي (تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين 67 / 75): قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: أبان بن تغلب ثقة، كان شعبة يحدّث عنه. قيل له: أبان، وإدريس الأوديّ؟ فقال: أبان أكبر.

ووثّقه أبو حاتم الرازيّ، حيث قال عن أحمد أنّه سُئل فقال: ثقة، وكذا ابن معين (الجرح والتعديل للرازيّ 1: 1 / 296).

ذكره الطوسيّ في أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 82، 106).

وذكره البرقيّ في أصحاب الباقر، وأصحاب الصادقعليهما‌السلام (رجال البرقيّ 9، 16).

وترجم له النجاشيّ: أبان بن تغلب بن رباح، أبو سعيد البكريّ الجُريريّ، ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي عليّ بن الحسين، وأبا جعفر - الباقر - وأبا عبد الله - الصادق -عليهم‌السلام ، روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقَدَم. وذكره البلاذريّ قال: روى عن عطية العوفيّ [ عطيّة بن =

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

يا ابن حُنيفٍ قد أتُيتَ فانْفِرْ

وطاعِنِ القومَ وضارِب واصبِرْ

وابرزْ لهم مُستلئِماً وشَمِّرْ

فقال عثمان بن حُنيف: إي وربّ الحرمَين لأفعلنّ. ونادى عثمان بن حنيف في الناس فتسلّحوا.(١)

يوم الجمل الصغير

أقبل طلحة والزبير وعائشة حتّى دخلوا المِربد، حيّ قديم من أحياء البصرة ؛ وجاء أهل البصرة مع عثمان بن حنيف رُكباناً ومشاة، وخطب طلحة والزبير أنّ عثمان أحدث أحداثاً ثمّ أعتب لمّا استعُتب، وقُتل مظلوماً. واتّهما بذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال قائلون: نَطَقا بالحقّ! وقال آخرون: كذِبا، ولهما كانا أشدّ الناس على عثمان. وارتفعت الأصوات، وأُتي بعائشة على جمَلها، فتكلّمت، وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة، فقالت: صَهْ صَهْ، فأسكت لها الناس، ثمّ قالت: إنّ عثمان خليفتكم! قُتل مظلوماً... فينبغي في الحقّ أن يُؤخذ قتلته فيُقتلوا به ويُجعل الأمر شورى.(٢)

فقال قائلون: صدَقتْ. وقال آخرون: كذَبتْ حتّى تضاربوا بالنّعال وتمايزوا

____________________

(١) المعيار والموازنة: ٥٧ - ٥٨، أنساب الأشراف ٣: ٢٤ - ٢٥، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٠.

(٢) العجبُ من أمّ المؤمنين! فهي تطالب بردّ الأمر شورى وهو أمر لم يعمل به أبوها أبوبكر أذ عيّن عمرَ بن الخطّاب بعده، ثمّ عيّن عمرُ ستّةً ليختاروا واحداً منهم مع ترجيح الكفّة التي فيها عبد الرحمان بن عوف، وعلى الآخرين الطّاعة في حال الاختيار وإلاّ يقتلوا! فاختار لهم عثمان بن عفّان. واختار المسلمون وفيهم طلحة والزبير عليّاً، طائعين غير مُكرهين على ما مرّ بنا.

٤٦١

فصاروا فرقتين، فرقة مع عائشة، وفرقة مع ابن حُنيف، وكان على خيل ابن حُنيف: حكيم بن جَبَلة العبديّ. وتأهبّوا للقتال فانتهوا إلى الزابوقة.

وأقبل جارية بن قدامة السعديّ فقال: يا أمّ المؤمنين، والله لقتلُ عثمان بن عفّان أهونُ من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضةً للسلاح ؛ إنّه قد كان لكِ من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحتِ حرمتكِ. إنّه مَن رأى قتالكِ يرى قتلكِ. إن كنتِ أتيتينا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنتِ أتيتينا مُستكرَهةً فاستعيني بالناس. ثمّ أنشد:

صُنتم حَلائلكم وقُدتم أُمَّكم

هذا لَعمُرك قلّةُ الإنصاف

أمرَت بجرّ ذيولها في بيتها

فهوتْ تشق البيد بالإيجاف

هُتكَت بطلحةَ والزّبير سُتورُها

هذا الـمُخَبَّرُ عنهُمُ والكافي

وأقبل غلام من جُهَينة على محمّد بن طلحة فقال له: ناشدتك الله، عند من دم عثمان؟ فقال: أما إذ ناشدتني الله، فإنّ دم عثمان ثلاثةُ أثلاث: ثلث عند صاحب الكوفة - يعني عليّاً، وثلث عند صاحب الهودج - يعني عائشة، وثلث عند صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة. فسمعته عائشة فقالت: فَعلَ الله بلك وفَعَل! وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! ولَحِق بعليّ وقال في ذلك شعراً:

سألت ابن طلحة عن هالك

بجوف المدينة لم يُقبرَ

فقال: ثلاثةُ رَهْط هُمُ

أماتوا ابنَ عفّانَ، واستعبر

فثلث على تلك في خدرها

وأخطأتَ في الثالث الأزهر(١)

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٢ - ٤٨٣، الاشتقاق: ١٤٥. =

٤٦٢

فقلتُ: صَدَقتَ على الأوّلَيْن

وثلثٌ علي راكب الأحَمر

- عن الزهريّ قال: لمّا قدم طلحة والزبير البصرة أتاهما عبد الله بن حكيم التميميّ بكتب كتبها طلحة إليهم يؤلّبهم فيها على عثمان، فقال له حكيم: أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على التأليب أمس والطلب بدمه اليوم؟ فقال: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلاّ التوبة والطلب بدمه.(١)

التأهّب للقتال:

وتأهّبوا للقتال، فقام طلحة والزبير خطيبين وزعما أنّهما لم يريدا قتل عثمان... فقال الناس لطلحة: يا أبا محمّد، قد كانت كتبُك تأتينا بغير هذا! فقال الزبير: فهل جاءكم منّي كتاب في شأنه؟ ثمّ ذكر قتل عثمان... وأظهر عيب عليّ! فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: يا معشر المهاجرين، أنتم أوّل من أجاب رسول الله، فكان لكم بذلك فضل، ثمّ دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلمّا توفّي رسول الله بايعتم رجلاً منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك، فرضينا واتّبعناكم. ثمّ مات واستخلف عليكم رجلاً منكم، فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلّمنا، فلمّا توفّي الأمير جعل الأمر إلى ستّة نفر، فاخترتم عثمان

____________________

= وهي وثيقة صادقة تضاف إلى ما سبق وما يأتي أن القتلة هم أصحاب الجمل لأنّها صادرة من رجل لصيق بالأحداث هو ابن طلحة وإن كذب في بعضها إذ أضاف عليّاً إلى القتلة! ممّا حمل الفتى على مغادرة عسكرهم والانضمام إلى معسكر عليّعليه‌السلام .

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨.

فأمّا التوبة فنعم وأمّا طلب الدم فليبداً بنفسه ومن معه من القتلة!

٤٦٣

وبايعتموه من غير مشورة منّا، ثمّ أنكرتم من ذلك الرجل شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منّا، ثمّ بايعتم علياً من غير مشورة منّا، فما الذي نقمتم عليه فناقتله؟ هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحقّ أو عمل شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلاّ فما هذا؟! فهمّوا بقتله، فقام من دونه عشيرته، فلمّا كان من الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه فقتلوا سبعين رجلاً.(١)

وزحف إليهم عثمان بن حُنيف فقاتلهم أشدّ القتال، فكثُرت بينهم القتلى وفشَت الجراح. ثمّ إنّهم تداعَوا إلى الصُّلح فكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة إلى قدوم عليّ، على أن لا يعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشَرعة، وأنّ لعثمان بن حُنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد. فلمّا كان في بعض الليالي بيّتوا عثمان ابن حُنيف وهو يصلّي بالناس العشاء الآخرة، فأسَروه وأمرت عائشة بقتله! ثمّ إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مُخلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حُنيف وغيره من الأنصار. فاكتفوا بضربه وحلقوا رأسه ونتفوا لحيته وشاربيه وأشفار عينيه، ثمّ حبسوه. وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزّان والموكّلون به وهم السَّبابجة، فقُتل من أولئك السبابجة سبعون رجلاً غير مَن جُرح، ضُربت أعناق سبعين منهم صبراً من بعد الأسر، وهم أوّل من قُتل ظلماً في الإسلام وصبراً، وقتلوا رئيسهم أبا سلمة الزطّيّ، وكان عبداً صالحاً.

وركب حكيم بن جبلة العبديّ، معه إخوته: الرّعل والأشراف ابنا جَبَلة، في

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٦، وأنساب الأشراف، موجزاً ماذا قال الرجل إلاّ أنّه احتجّ عليهم بما هو حقّ، فعمد طلاب الصلح - كذا! - إلى قتله وسبعين رجلاً ؛ فما لكم كيف تحكمون!

٤٦٤

ثلاثمائة فارس، فطلب من طلحة والزّبير أن يحلاّ عثمان بن حُنيف ويرجع إلى دار الإمارة وبيت المال، فأبوا عليه ذلك ووقع القتال، فقتل حكيم وإخوته، وقُتل من قوم حكيم سبعون رجلاً. وهذا هو يوم الجمل الصغير ؛ وكانت الوقعة لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين.(١)

التزاحم على الإمامة:

بعد قتل من قُتل، تدافع الزبير وطلحة في الصلاة!! وكانا بويعا أميرين غير خليفتين... ثمّ اتّفقا أن يصلّي هذا يوماً وهذا يوماً.

وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم فقال عبد الله ابنه: إن ارتزقوا تفرّقوا! واصطلحوا على عبد الرحمان بن أبي بكر فصيّروه على بيت المال.(٢)

وعن عوف الأعرابيّ قال: جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما بالمسجد في البصرة فقال: نشدتكما بالله في مسيركما، أعَهِد إليكما فيه رسولُ الله شيئاً؟ فقام

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٦ - ٢٨، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٦ - ٤٩١، الفتوح ٢: ٢٨٩ - ٢٩٠، مروج الذهب ٢: ٣٥٨.

أيّ قوم هؤلاء الذين ينافح عنهم ابن تيميه! فهم غُدَّر يأسرون رجلاً بعد صلح وهو في حال صلاة! وعائشة تأمر بقتله، ولو لا خيفتهم على أهلهم بالمدينة لقتلوه ؛ فاكتفوا بما فعلوا به...

وكما أحدثوا أوّل حدث في الإسلام وهو شهادة الزّور، فقد أحدثوا أوّل حدث وهو قتل سبعين أسيراً مسلماً ظلماً وصبراً!!

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٧ - ٦٩، الفتوح ٣: ٢٩٠، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٠ - ٤٩١، مروج الذهب ٢: ٣٥٨.

٤٦٥

طلحة ولم يُجبه، فناشد الزبير فقال: لا، ولكن بَلَغنا أنّ عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها.(١)

عن أبي عمرة مولى الزبير قال: لمّا بايع أهل البصرة الزبير وطلحة قال الزبير: ألا ألف فارس أسيرُ بهم إلى عليّ، فإمّا بيَّتُّه وإمّا صبّحتُه لَعَلّي أقتله قبل أن يصلَ ألينا! فَلم يُجبه أحد، فقال: إنّ هذه لهي الفتنة التي كنّا نُحدَّث عنها! فقال له مولاه: أتسمّيها فتنةً وتُقاتل فيها؟! قال: وَيْحَك إنّا نُبصِر ولا نبصُر، ما كان أمرٌ قطّ إلاّ علمتُ موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ؛ فإنّي لا أدري أمُقبِل أنا فيه أم مُدبِر!(٢)

وعن عبد الله بن مصعب قال: أخبرني موسى بن عقبة قال: سمعت علقمة ابن وقّاص الليثي قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها وهو ضاربٌ بلحيته على زَوْره - أي أعلى صدره - فقلت له: يا أبا محمّد، أرى أحبّ المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على زَورك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: يا علقمة، بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً. إنّه كان منّي في شيء ليست

____________________

(١) المصنّف لابن ابي شيبة ٧: ٥٤٤ / ٣٧٧٥. فحركة القوم وكلّ حرف صدر منهم محض باطل، فطلحة والزبير أميران! وكلّما كانت صلاة تشاحّا على الإمامة، وليس فيهما أهل للأمانة على بيت المال، والزبير جاء طالب دراهم...!

(٢) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٢. وثيقة إدانة تتبع أختها، فمن قبل بيّتوا ابن حنيف وهو في الصلاة... وها هو يريد تبيت عليّعليه‌السلام فلمّا لم يتمّ له ما أراد أقرّ أنّه في الفتنة سقط، فهلاً استنفذ نفسه منها؟!

٤٦٦

توبتي إلاّ أن يُسفَك دمي في طلب دمه!(١)

مسير أمير المؤمنين إلى العراق:

بلغ أمير المؤمنينعليه‌السلام ما أحدث البغاة النّاكثون من قتلهم السّبابجة وحكيم ابن جبلة وأصحابه، وما فعلوه بعثمان بن حُنيف ؛ فسار في سبعمائة من المهاجرين والأنصار منهم سبعون بدريّاً، واستخلف على المدينة سهل بن حُنيف.

وبعثعليه‌السلام ابنه الحسن، وعمّار بن ياسر، إلى الكوفة، فخطبا الناس، فنفر معهما من أهل الكوفة تسعة آلاف، وانضمّ إليهم أهل المدينة والحجاز وأهل مصر... ونزلوا الموضع المعروف بالزاوية. فكانوا تسعة عشر ألف من فارس وراجل، فصلّىعليه‌السلام أربع ركعات، وعفّر خدّيه بالتراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثمّ رفع يديه يدعو: «اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّت، والأرضين وما أقلّت، وربَّ العرش العظيم ؛ هذه البصرة أسألك من خيرها، وأعوذ بك من شرّها. اللّهمّ أنزِلنا منها خير منزلٍ، وأنت خير المُنزِلين. اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم خلعوا طاعتي وبغَوا عليّ ونكثوا بيعتي، اللّهم احقن دماء المسلمين».

وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء وقال: علامَ تقاتلونني؟ فأبَوا إلاّ

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٩٢، المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٩ / ٥٥٩٥ وقال في التلخيص: سنده جيّد.

فهذا طلحة يقرّ على نفسه بما كان منه بشأن عثمان ولا يرى كفّارة ذنبه هذا إلاّ أن يسفك دمه، فهلاّ ذبح نفسه فأراح العباد من فتنة عظيمة...؟!

٤٦٧

الحرب.

تعبئة أمير المؤمنين

عبّأ أمير المؤمنينعليه‌السلام عسكره، فكان على خيل ميمنته عمّار بن ياسر، وعلى الرجّالة شُريح بن هانئ، وعلى خيل الميسرة سعيد بن قيس الهمدانيّ، وعلى رجّالتها عَديّ بن حاتم الطائيّ، وعلى خيل الجناح زياد بن كعب الأرحَبيّ، وعلى رجّالتها حجر بن عديّ الكنديّ، وعلى خيل الكمين عَمرو بن الحَمِق الخزاعيّ، وعلى رجّالتها جُندب بن زهير الأزديّ ؛ وأعطى رايته العظمى ابنه محمّد ابن الحنفية. ثمّ جعل على كلّ قبيلة سيّداً من ساداتهم يرجعون إليه في أمورهم ؛ فكان خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ذو الشهادتين معه راية، وأبو أيّوب الأنصاريّ معه راية، وقيس بن سعد بن عُبادة معه راية، وأبو قتادة النّعمان بن ربعيّ الأنصاري معه راية، وعبد الله بن العبّاس معه لواء، وعبيد الله بن العبّاس معه راية. وتقدّم الجميع أمير المؤمنين، عن يمينه ولده الحسن، وعن شماله ولده الحسين، وبين يديه ولده محمّد ابن الحنفيّة، وخلفه عبد الله بن جعفر الطيّار ومشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار.

هذه هي تركيبة جيش عليّعليه‌السلام ، ليس فيها طليق ولا لصيق، ولا خائن أمانة ولا مزوّر شهادة ولا ناكث بيعة، ولا طالب دراهم، ولا دعيّ ولا مجهول النّسب...

٤٦٨

مبدأ عليّ في القتال

إنّ مبدأ عليّعليه‌السلام ، في كلّ حروبه: أن لا يبدأ قوماً بقتال. عن جويرية بن أسماء، عن يحيى بن سعيد، قال: حدّثني عمّي قال: لمّا كان يوم الجمل نادى عليّ في النّاس: لا ترموا أحداً بسهم ولا تطعنوا برمح ولا تضربوا بسيف ولا تطلبوا القوم ؛ فإنّ هذا مقام من أفلح فيه فلح يوم القيامة.

قال: ثمّ إنّ القوم قالوا بأجمع: يا ثارات عثمان! فمدّ عليّ يديه وقال: اللّهم أكبّ قتلة عثمان اليوم بوجوههم.

ثمّ إنّ الزبير قال للأساورة كانوا معه: ارموهم برشق، وكأنّه أراد أن ينشب القتال، فلمّا نظر أصحابه إلى الانتشاب لم ينتظروا وحملوا، فهزمهم الله ورمى مروانُ بن الحكم طلحةَ بن عبيد الله بسهم فشكّ ساقه بجنب فرسه، فقبض به الفرس حتّى لحقه فذبحه، فالتفت مروان إلى أبان بن عثمان وهو معه فقال: لقد كفيتك أحدَ قتلَةِ أبيك!(١)

زيادة بيان:

«أمر أميرُ المؤمنينعليه‌السلام أصحابه أن يصافّوهم ولا يبدأوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح، وأن لا يُجهزوا على جريح ولا يُمثّلوا بقتيل، ولا يدخلوا داراً بغير إذن ولا يشتموا أحداً ولا يلحقوا مُدبراً ولا يَهيجوا امرأة، ولا يأخذوا إلاّ ما في عسكرهم، ولا يكشفوا عورة، ولا يهتكوا

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٨ / ٥٥٩٣.

٤٦٩

ستراً.

ثمّ دعا عليّ بالدرع فأفرغه عليه وتقلّد بسيفه واعتجر بعمامته واستوى على بغلة رسول الله...

ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف فقالت: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوالَ الشمس. فقالعليه‌السلام : يا عائشة، «عَمّا قَلِيلٍ لّيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ »(١) .

ثمّ قال لأصحابه: أيّكم يَعرِض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قُطِعت يده أخذه بيده الأخرى، وإن قُطِعت أخذه بأسنانه؟! قال فتى شابّ يقال له: مسلم المجاشعيّ من تميم: أنا ؛ فقال له أمير المؤمنين: أعرض عليهم هذا، وقل لهم: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم. فحمل الفتى وفي يده المصحف فقُطعت يداه فأخذه بأسنانه حتّى قُتل. فقالت أُمّه:

يا ربّ، إنّ مسلماً دعاهُم

يتلو كتاب الله لا يخشاهُم

فَرَمَّلُوه رُمِّلت لحاهُم!

ورمى أصحابُ الجمل أصحاب أمير المؤمنين، فعقروا منهم جماعة، ثمّ جيء برجل من أصحابه من الميمنة قد رُمي بسهم فقُتل، فقالعليه‌السلام : اللّهم اشهد. ثمّ أذن بالقتال وهو يقول: الآنطاب الضِّراب. ثمّ دفع رايته إلى ابنه محمّد ابن الحنفيّة وقال: تقدّم يا بنيّ فتقدّم محمّد فطعن في أصحاب الجمل طعناً منكراً وأمير المؤمنين ينظر، فأعجبه ما رأى من فعاله فجعل يقول:

____________________

(١) المؤمنون: ٤٠.

٤٧٠

اطعن بها طَعْنَ أبيك تُحمَدِ

لا خيرَ في الحرب إذا لم تُوقَدِ

فقاتل ساعةً ثمّ رجع، وحمل أصحاب الجمل على ميمنة أمير المؤمنين وميسرته فكشفوها، فأتاه بعض ولد عقيل وأمير المؤمنين يخفِق نعاساً على قربوس سرجه، فقال له: يا عمّ، قد بَلَغَت ميمنتك وميسرتك حيث ترى، وأنت تَخفِق نعاساً؟ قال: اسكت يا ابن أخي ؛ فإنّ لعمّك يوماً لا يَعدوه، والله ما يبالي عمُّك وقع على الموت أو وقع الموت عليه. ثمّ ضرب بيده إلى سيفه فاستلّه، وأخذ الراية من ولده محمّد وحمل، وحمل معه الناس فما زال يضرب فيهم يميناً وشمالاً ثمّ رجع وقد انحنى سيفه، فجعل يسوّيه بركبته... ثمّ حمل ثانية حتّى اختلط بهم، فجعل يضرب فيهم قُدماً حتّى انحنى سيفه، ثمّ رجع إلى أصحابه وهو يقول: «والله ما أريد بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة».

وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضَبّة، وجعل بنوضبّة يأخذون بَعْرَ الجمل فيفتّونه ويشمّونه ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى بعر جمل أمّنا كأنّه المسك الأذفر!!

وعرقب جماعة من عسكر أمير المؤمنين الجمَل فوقع لجنبه... فبادر إليها محمّد بن أبي بكر، بأمر أمير المؤمنين لمواراتها... وجاء عليّعليه‌السلام فقال: يا عائشة، رسول الله أمرك بهذا؟! ألم يأمرك أن تقرّي في بيتك؟! والله ما أنصفك الذين أخرجوك ؛ إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك! فقالت: قد ظفرت فأحسن. فأمر أخاها محمّداً أن يحملها ويدخلها البصرة ولا يدع أحداً يقترب منها، فحملها فأدخلها بيت صفيّة بنت طلحة العبديّ.

٤٧١

وبعد الوقعة نادى أمير المؤمنين في أصحابه: «لا تتّبعوا مولّياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالاً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

وكانت وقعة الجمل يوم الخميس لعشر ليالٍ خلون من جُمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين. قُتل فيها من أصحاب أمير المؤمنين ألف وسبعون شهيداً، وهلك من أصحاب الجمل عشرون ألفاً.

وقُتل من وجوه أصحاب الجمل: طلحة بن عبيد الله التّيميّ، وابنه محمّد.

وقُتل الزبير بن العوّام، وجُرح ابنُه عبد الله جراحاتٍ بليغة، وجُرح مروان.

وطلحة ابن عمّ أبي بكر وزوج ابنته أمّ كلثوم بنت أبي بكر.

وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عند عبد الله بن عبد الرحمان بن أبي بكر، وقد خلف عليها مصعب بن الزبير بن العوّام. وكان الزبير صهر أبي بكر، زوجته أسماء بنت أبي بكر، وولده منها عبد الله بن الزبير. ومروان بن الحكم بن العاص ابن عمّ عثمان وزوج ابنته أمّ أبان بنت عثمان بن عفّان.

فأمّا طلحة فإنّ مروان بن الحكم لمّا وقعت الهزيمة وفرّ أتباع الجمل، سدّد سهماً أصاب قدم طلحة. وقيل: إنّ عبد الملك بن مروان جرح طلحة في جبهته، ورماه مروان بسهمه وقال: لا أطلب بثأري في عثمان بعد اليوم أبداً!

وكان عثمان قد خيّب آمال طلحة والزبير وحرمهما من ولاية الكوفة والبصرة، فتسخّطاه، وكانا فيمن كتب إليه يذكرون له عيوبه. وحين اشتدّ الأمر

٤٧٢

على عثمان كان طلحة والزبير قد استوليا على الأمر.(١)

وكانا في القوم الذين حصروه، وقد أشرف عليهم عثمان من جدار داره ثمّ قال: هل فيكم عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: لا، فسكت ونزل. وبلغ ذلك عليّاً وهو في منزله، فأرسل إليه غلامه قنبر...، فجاء قنبر إلى عثمان ثمّ قال: إنّ مولاي يقول لك: ما الذي تريد؟ فقال عثمان: أردته أن يوجّه إليّ بشيء من الماء ؛ فإنّي قد مُنِعْتُه وقد أضرّ بي العطش وبَمن معي! فرجع قنبر إلى عليّ فأخبره بذلك، فأرسل إليه عليّ ثلاث قِرَب من الماء مع نفرٍ من بني هاشم، فلم يتعرّض لهم أحد حتّى دخلوا على عثمان، فأوصلوا إليه الماء...

ثم أقبل عثمان حتّى أشرف على الناس ثانية فسلّم عليهم فردّوا عليه سلاماً ضعيفاً، فقال أفيكم طلحة؟ قال: نعم ها أنا ذا، فقال عثمان: سبحان الله! ما كنتُ أظنّ أن أسلّم على جماعة أنت فيهم ولا تردّ عليّ السلام! ثمّ قال: أهاهنا سعد بن أبي وقّاص؟ أهاهنا الزبير بن العوّام؟ فقالا: نعم نحن هاهنا، فقل ما تشاء. فراح يناشدهم الله ويذكّرهم بمناقبه وأنّه لا يجوز لهم قتله، فسمع صوتاً يهدّد بقتله.(٢)

وذكر البلاذري أنّ طلحة منع أن يدخل الماء العذب على عثمان، فأرسل عليّ إلى طلحة أن دَع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره ولا تقتلوه من

____________________

(١) أنساب الأشراف ٦: ٢١١.

(٢) الفتوح ٢: ٢١٩ - ٢٢٢، مروج الذهب ٢: ٣٤٤.

٤٧٣

العطش، فأبى.(١)

وبعث أمير المؤمنين ولديه الحسن والحسين مع مواليه للدفع عن عثمان، وجُرح الحسن وشُجّ قنبر. فلمّا علمعليه‌السلام بمقتل عثمان غضب، فقال له طلحة: لو دفع إليهم مروان ما قتل.(٢)

وبذا يتّضح العداء الخفيّ بين طلحة ومروان: فطلحة محرّض على عثمان، فلمّا قُتل عثمان صار محرّضاً على مروان! ثم جمعهم الشيطان ليطالبوا بدم عثمان، فلمّا كانت الهزيمة قتل مروان رفيقه طلحة!!

مزيد بيان في أمر مروان:

إنّ قول طلحة لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لو دفع عثمان إليهم مروان ما قتل، ذلك أنّ مروان كان أحد الأسباب المهمّة(٣) في إثارة الفتنة ومسير أهل الأقاليم من مصر والعراق...

احتجاجاً على الأحداث التي صارت أيام عثمان وانتهت بمقتله. ولم يكن عند عثمان أحد يفزع إليه ويثق به إلاّ عليّ! ولذا لمّا علم بنزول الثوّار بذي خشب بعث إلى الإمام عليّعليه‌السلام وسأله أن يخرج إليهم ويضمن لهم عنه كلّ ما يريدون من العدل وحسن السّيرة، فسار عليّ إليهم، فأجابوه إلى ما أراد

____________________

(١) أنساب الأشراف ٦: ٢١١.

(٢) مروج الذهب ٢: ٣٤٥.

(٣) لم نتعرّض لأسباب ثورة الأقاليم على عثمان إذ يطول شرحها.

٤٧٤

وانصرفوا، فبينما هم في الطريق إذا غلام عثمان مقبل من قبل المدينة، فقرّروه فأقرّ وأظهر كتاباً إلى ابن أبي سرح صاحب مصر وفيه: «إذا قدم عليك الجيش فاقطع يد فلان، واقتل فلاناً وافعل بفلان كذا...».(١)

وعلم القوم أنّ الكتاب بخطّ مروان، فرجعوا إلى المدينة. فمروان أحد قتلة عثمان! من لون آخر ؛ فعائشة وطلحة والزبير من أشدّ المؤلّبين على عثمان، ومروان يلعب بعثمان ويقلب المواقف ويضيّع جهود أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في إطفاء الفتنة. عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا حصر عثمان الحصر الآخر فلقيهم الآخر فلقيهم عليّ بذي خشب فردّهم عنه، وقد كان والله عليٌّ له صاحب صدق، حتى أوغر نفس عليّ عليه، جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على عليّ فيتحمل ويقولون: لو شاء ما كلّمك أحد وذلك أنّ عليّاً كان يكلّمه وينصحه ويُغلِظ عليه في المنطق في مروان وذويه، فيقولون لعثمان: هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه، فما ظنّك بما غاب عنك منه؟!(٢)

ولم يتغيّر موقف الإمام عليّعليه‌السلام من نصرته لعثمان في حياته عنه بعد مماته! إذ لمّا قُتل عثمان، فرّ بنو أميّة ومعهم مروان و «خرج به ناس يسير من أهله يريدون به حائطاً بالمدينة يقال له «حشّ كوكب» كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلمّا خرج على الناس رجموا سريره وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك عليّاً

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٤٤.

(٢) تاريخ الطبريّ ٣: ٤٣٣ - ٤٣٤.

٤٧٥

فأرسل إليهم يعزم عليهم لَيكفُنّ عنه ففعلوا، فدفن في حشّ كوكب».(١)

تفويت عثمان الأمر على طلحة:

ولمّا أدرك عثمان حقيقة الناس وأنّه مقتول لا محال، سعى إلى تفويت الفرصة على عائشة وطلحة «وكان طلحة قد استولى على حصار عثمان مع نفر من بني تيم - قوم عائشة وطلحة - وبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى عليّ:

فإن كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكل

وإلاّ فأدركني ولما أُمَزَّق

أترضى أن يُقتل ابن عمّتك وتُسلب ملكك - ويُسلب نعمتك وأمرك -؟ فقال عليّ: صدق والله، لا نترك ابن الحضرميّة يأكلها، يعني طلحة.

ثمّ خرج عليّ إلى الناس فصلّى بهم صلاة الظهر والعصر، وتفرّق الناس عن طلحة، ومالوا إلى عليّ. فلمّا رأى طلحة ذلك أقبل حتّى دخل على عثمان فاعتذر إليه ممّا كان منه! فقال له عثمان: يا ابن الحضرميّة، وألبّت عليّ الناس ودعوتهم إلى قتلي، حتى إذا فاتك ما كنت ترجو وعلاك عليّ على الأمر جئتني معتذراً! لا قَبِل الله ممّن قَبِل منك.(٢)

فعاد طلحة إلى التأليب على عثمان، فلَمّا قُتل بايع عليّاًعليه‌السلام ، ثمّ نكث وغدر فلم يُصب من دنياه إلاّ سهم مروان!

وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو لا أنّ أمير المؤمنين - كذا! أخبرني أنّه

____________________

(١) نفسه: ٤٣٨.

(٢) أنساب الأشراف ٦: ١٩٦ و ٢١٢، الفتوح ٢: ٢٢٩.

٤٧٦

هو الذي قتل طلحة ما تركتُ من ولد طلحة أحداً إلاّ قتلتهُ بعثمان بن عفان.(١)

أخبار الزبير وروايات مقتله:

كتب معاوية إلى الزبير يخدعه: «أن أقبِل إليَّ أبايعْك ومَن يَحضُرني»، فكتم ذلك طلحة وعائشة، ثمّ بلغهما فكُبر ذلك عليهما، وأخبرت عائشة به ابن الزبير، فقال لأبيه: أتريد أن تلحق بمعاوية؟ فقال: نعم، ولِمَ لا أفعل وابن الحضرميّة ينازعني في الأمر؟! ثمّ بدا له في ذلك.(٢)

فالزبير على أُهْبة أن يتخلّى عن عسكر الناكثين فينضمّ إلى القاسطين وليس في الأمرين إلاّ الطّمع في الإمرة الّتي قُتل دونها.

والرّوايات صريحة في مقتل الزبير في ساحة المعركة:

عن الزّهري قال: خرج عليّ على فرسه فدعا الزبير فتواقفا، فقال له عليّ: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً و لا أولى به منّا! فقال عليّ: لست له أهلاً بعد عثمان؟!

قد كنّا نَعُدّك من بني عبد المطّلب حتّى بلغ ابنُك ابنُ السوء ففرّق بيننا وبينك. وعظّم عليه أشياء فذكر أن النبيّ مرّ عليهما فقال لعليّ: «ما يقول ابن عمّتك؟ لَيُقاتلنّك وهو لك ظالم». فانصرف عنه الزبير وقال: إنّي لا أقاتلك. ورجع إلى ابنه عبد الله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنّك خرجت

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٦: ٢٢٣.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٥٣.

٤٧٧

على بصيرة ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفتَ أنّ تحتها الموت فجبُنتَ! فأحفَظه ذلك حتّى أرعد وغضب وقال: ويحك! إنّي حلفت له ألاّ أقاتله ؛ فقال له ابنه: كفّر عن يمينك غلامك سرجس، فأعتَقَه وقام في الصفّ.(١)

وذكره الحاكم من طرق عدّة جميعاً عن أبي حرب بن أبي الأسود الديليّ قال: شهدتُ عليّاً والزبير لمّا رجع الزبير على دابّته يشقّ الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله فقال: ما لك؟ فقال: ذكر لي عليٌّ حديثاً سمعته من رسول الله يقول: «لَتُقاتلنّه وأنت له ظالم» فلا أُقاتله. قال: وللقتال جئت، إنّما جئت لتصلح بين الناس ويصلح الله هذا الأمر بك. قال: قد حلفت أن لا أقاتل، قال: فأعتق غلامك جرجس وقف حتّى تُصلح بين الناس، فأعتق غلامه جرجس.(٢)

وعن قتادة: خرج عليّ إلى طلحة والزبير، فدنا منهما حتّى اختلفت أعناق دوابّهما، فقال عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلاً وسلاحاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فأتّقيا الله سبحانه ولا تكونا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثاً. ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دماءكما؟! فهل من حدثٍ أحلّ لكما دمي؟! قال طلحة: ألّبت الناس على: عثمان!! قال عليّ( يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ وَيَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ ) (٣) يا طلحة، تطلب بدم عثمان؟! فلعن الله قَتَلَة عثمان!

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٥٣، تاريخ الطبريّ ٣: ٥١٩ - ٥٢٠.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣: ٤١٣ / ٥٥٧٥، والتلخيص للذهبيّ.

(٣) النور: ٢٥.

٤٧٨

يا زبير، أتذكر يومَ مررتُ مع رسول الله في بني غنم فضحك وضحكت إليه فقلتَ: لا يدَعُ ابن أبي طالب زَهوَه! فقال لك رسول الله: «صَهْ! إنّه ليس به زهو، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم»؟!

فقال: اللّهمّ نعم: ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً. فانصرف عليّ إلى أصحابه ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري، غيرَ موطني هذا. قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب، فقال له ابنه عبد الله: جمعتَ بين هذين الغارّين حتّى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! أحسستَ رايات ابن أبي طالب وعلمتَ أنّها تحملها فتية أنجاد! قال: إنّي قد حلفت ألاّ أقاتله وأحفَظه ما قال له، فقال: كفِّرْ عن يمينك وقاتِلْه. فدعا بغلام له يقال له مكحول، فأعتقه، فقال عبد الرحمان بن سليمان التميميّ:

لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ

أعجب من مُكَفِّرِ الأيمانِ

بالعِتق في معصية الرحمانِ!

وقال رجل من شعرائهم:

يُعتقُ مكحولاً لصونِ دينه

كفّارةً لله عن يمينه

والنّكث قد لاح على جبينه!(١)

فلكنث والخروج على إمامه وإراقة الدماء، مع ما قاله له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٣: ٥١٤.

٤٧٩

يقاتل عليّاً ظالماً له، والأحاديث في ذلك أوفر ممّا ذكرنا... كلّ ذلك والزبير وطلحة وصاحبة الجمل طالبو إصلاح؟!

دَورُ ابن عوف في قتل عثمان:

لم يكن عبد الرحمان بن عوف بمنأى عن الأحداث، وإنّما له دور واضح في قتل عثمان! هذا على الرغم من أنّه هو الذي اختار عثمان بن عفّان من بين الستّة نفر الذين عيّنهم عمر بن الخطّاب لاختيار الخليفة بعده، على أن ينظُر في حال الاختلاف إلى الصفّ الذي فيه ابن عوف فيؤخذ كلامه. وقد أثرى عبد الرحمان إثراءً لا مثيل له في حاكميّة عثمان، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعه من الإنكار على عثمان والتأليب عليه، وكان قد حلف أن لا يكلّم عثمان أبداً. وذُكِر عثمان عند عبد الرحمان بن عوف في مرضه الذي مات فيه فقال عبد الرحمان: عاجلوه قبل أن يتمادى في مُلكه! فبلغ ذلك عثمان، فبعث إلى بئر كان يُسقى منها نَعَمُ «*» عبد الرحمان بن عوف فمنعه إيّاها. وأوصى عبد الرحمان بن عوف أن لا يُصلّيَ عليه عثمان، فصلّى عليه الزبير، أو سعد بن أبي وقّاص.(١)

هذا هو حال عبد الرحمان بن عوف الزهريّ أحد أصحاب الشورى وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة! لم يختلف عن رفاقه: سعد بن أبي وقّاص، وطلحة والزبير ؛ في مقاطعة عثمان والتأليب عليه والسعي في قتله، تُعينهم وتقودهم أمّ

____________________

(*) أي إبله.

(١) أنساب الأشراف ٦: ١٧٠ - ١٧١.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492