منهاج السالكين

منهاج السالكين14%

منهاج السالكين مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 413

منهاج السالكين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142345 / تحميل: 6753
الحجم الحجم الحجم
منهاج السالكين

منهاج السالكين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وحثّ الإسلام على الابتداء بالدعاء؛ ليكون أَوّل اتصال بين الزوج والزوجة اتصالاً معنوياً روحياً، وليس مجرد اتصال بهيمي جسدي، فيستحب الدعاء بإدامة الحب والود: (اللهمّ ارزقني إلفَها وودّها ورضاها بي، وأرضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع، وأيسر ائتلاف، فإنّك تحبُّ الحلال وتكره الحرام) (1) .

ويستحب الأخذ بناصيتها، ويستقبل بها القبلة، ويخلع خفّها، ويغسل رجلها إذا جلست، ويصب الماء في جوانب الدار (2) .

والالتزام بذلك يخلق جواً من الاطمئنان، والاستقرار، والهدوء، في أَوّل خُطوات اللقاء، ويدفع ما في نفس الزوجة من دواعي القلق والاضطراب، خصوصاً وإنّ الزوجة تعيش في أَوّل يوم من حياتها الزوجية، حالةً من الخوف والاضطراب النفسي، فإذا شاهدت مثل هذه الأعمال من صلاة ودعاء، فإنّها ستعيش في جوّ روحي يبدّد مخاوفها ويزيل اضطرابها، ويستحب للرجل حين الجماع أن يدعو: (اللهمّ ارزقني وَلداً، واجعله تقياً زكياً، ليس في خَلقه زيادة ولا نقصان، واجعل عاقبته إلى خير) (3) .

وهذا إيحاء للمرأة وللرجل بأنّ العلاقة الجنسية ليست مجرد إشباع للغريزة، وإنّما هي مقدمة للإنجاب والتوالد، حيث يبتدئ الجماع (ببسم الله الرحمن الرحيم) (4) ، فتكون ليلة الزفاف ليلةً مباركة بذكر الله تعالى.

____________________

(1) تهذيب الأحكام 7: 410، ومكارم الأخلاق: 208. وجواهر الكلام 29: 43.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجواهر الكلام 29: 46.

(3) تهذيب الأحكام 7: 411، ومكارم الأخلاق: 209.

(4) مكارم الأخلاق: 209.

٤١

كراهية المباشرة في أوقات معيّنة:

يكره للزوج أن يباشر ويجامع زوجته في الأوقات التالية (1) .

1 - ليلة الهلال باستثناء هلال شهر رمضان.

2 - ليلة النصف من الشهر، وليالي المُحاق.

3 - يوم الكسوف وليلة الخسوف.

4 - وقت الزلازل والرياح السود والصفر.

5 - ما بين طلوع الفجر والشمس.

6 - ما بين غروب الشمس ومغيب الشفق، وما بعد الظهر.

7 - ليلة الأضحى، وليلة النصف من شعبان.

8 - بين الأذان والإقامة.

كراهية المباشرة في أحوال معيّنة:

يكره للزوج مجامعة زوجته عرياناً، وقائماً، ومستقبل القبلة ومستدبرها، وفي وجه الشمس إلاّ أن يرخي ستراً.

ويكره له أن يجامع زوجته قبل الاغتسال من احتلام له.

ويكره له أن يتكلم أثناء الجماع باستثناء الكلام بذكر الله تعالى (2) .

ويكره للرجل أن يجامع زوجته متخيّلاً امرأةً أخرى، قال رسول

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجامع المقاصد 12: 22. وجواهر الكلام 29: 61.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 314. وجواهر الكلام 29: 60.

٤٢

الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك، فإنّي أخشى إن قضي بينكما وَلد أن يكون مخنّثاً، مؤنثاً، مخبلاً) (1) .

مستحبات المباشرة:

يستحبّ للرجل غضّ البصر (ولا ينظرنَّ أحد في فرج امرأته، وليغضّ بصره عند الجماع، فإنّ النظر إلى الفرج يورث العمى في الولد) (2) ، ويستحب له أن يذكر الله تعالى، وأن يسأله أن يرزقه ذَكراً سوياً، كما يستحب الغسل أو الوضوء بعد الجماع قبل أن يجامع مرةً أُخرى (3) .

وتستحب المداعبة والملاعبة (4) ؛ لأنّ ذلك يعمّق الود والحب، وينقل الجماع من صورته البهيمية إلى صورة إنسانية، تتناسب مع طبائع الإنسان وعواطفه وإحساساته.

المحرّم في المباشرة:

يحرم على الرجل الدخول بزوجته الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين، قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين) (5) .

فإن دخل بها وأفضاها حرم عليه جماعها أبداً، ووجب عليه دفع

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 209. وجواهر الكلام 29: 61.

(2) مكارم الأخلاق: 209.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 314.

(4) مكارم الأخلاق: 212.

(5) تهذيب الأحكام 7: 391.

٤٣

الأرش، والإنفاق عليها مدة حياتها (1) .

ويحرم جماعها وهي حائض (2) .

أحكام الجنابة:

يحرم على المجنب قراءة سور العزائم، وهي السور التي فيها آيات السجدة الواجبة.

ويحرم دخول المساجد، ووضع شيء فيها.

ويحرم مس كتابة المصحف، ومس كل كتابة من أسماء الله تعالى. ويكره قراءة ما زاد على السبع آيات من القرآن، ويكره للمجنب الأكل والشرب إلاّ بعد الوضوء، أو بعد غسل اليدين والتمضمض وغسل الوجه (3) .

وتتحقّق الجنابة بالجماع بقذف أو دون قذف، وبالقذف بغير جماع.

أحكام الحيض:

يحرم على الحائض قراءة سور العزائم، ومس كتابة القرآن وأسماء الله تعالى، ودخول المساجد ووضع شيء فيها.

ويبطل صوم الحائض، ويجب عليها قضاء الصوم الذي فاتها في زمن حيضها، ولا يجب عليها قضاء الصلاة، إلاّ إذا حاضت بعد دخول الوقت،

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجامع المقاصد 12: 330 - 332.

(2) جامع المقاصد 1: 319.

(3) جامع المقاصد 1: 265 - 269. والوسيلة إلى نيل الفضيلة: 55.

٤٤

فيجب عليها قضاء تلك الصلاة فقط، إن لم تكن قد أدّتها في وقتها، ولا يصح للزوج طلاق الحائض (1) .

الحمل:

أقل الحمل ستة أشهر، وأكثره تسعة أشهر، والريب ثلاثة أشهر، فتصير الغاية في أكثر الحمل سَنة كاملة (2) ، والسَنة الكاملة انفردت بها الإمامية (3) .

والفائدة في تحديد أكثر الحمل، أنّ الرجل إذا طلق زوجته فأتت بولد بعد الطلاق لأكثر من ذلك الحدّ لم يُلحق به، وتحديد الحمل يعتمد على النصوص، والتوقيف، والإجماع، وطرق علمية، ولا يثبت عن طريق الظن (4) .

ويحرم على الزوج نفي الحمل منه، وإن كان يعزل عن زوجته؛ لاحتمال سبق المني من غير انتباه، أو احتمال بقاء شيء من المني في المجرى وحصول اللقاح به عند العود إلى الإيلاج (5) .

ولا يجوز للمرأة إسقاط الجنين وإن كان من حرام، إلاّ إذا خافت الضرر على نفسها مع استمرار وجوده، فإنّه يجوز لها إسقاطه، في وقت لم تلجه

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 58 - 59. وجامع المقاصد 1: 317 - 319.

(2) الكافي في الفقه: 314.

(3) الانتصار: 345.

(4) الانتصار: 346.

(5) منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني: 112 - 113.

٤٥

الروح، أمّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز لها إسقاطه مهما كان السبب (1) .

ويستحب إطعام المرأة الحامل بعض المواد الغذائية؛ لتأثيرها على صحتها وصحة جنينها؛ لأنّ الأمراض الجسدية والتشوهات في الخِلقة ناجمة في أكثر الأحيان عن سوء التغذية، وهنالك أغذية مخصوصة لها تأثير على الصفات النفسية والروحية للجنين، ومن الأغذية التي يستحبّ إطعامها للحامل.

1 - السفرجل: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلوا السفرجل، فإنّه يجلو البصر، وينبت المودة في القلب، وأطعموه حبالاكم، فإنّه يحسّن أولادكم) (2) .

2 - اللبان: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أَطعموا نساءكم الحوامل اللبان، فإنّه يزيد في عقل الصبي) (3) .

3 - التمر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنّ ولدها يكون حليماً تقياً) (4) .

ووضع أهل البيت (عليهم السلام) جدولاً متكاملاً، في أنواع الأغذية المفيدة، في صحة جسم الحامل وصحّة حملها، فيستحبُّ توفيرها للحامل، كما ورد في كتاب الأطعمة والأشربة من الكافي ومكارم الأخلاق، كالرّمان، والتين، والعنب، والزبيب، والبقول، والسلق، واللحم، والهريسة،

____________________

(1) منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني: 115 - 116.

(2) مكارم الأخلاق: 172.

(3) مكارم الأخلاق: 194.

(4) مكارم الأخلاق: 169.

٤٦

والخضروات.

ويحرم على الحامل تناول الأطعمة والأشربة المضرّة بصحتها وصحة الحمل.

ويجب على الزوج النفقة ابتداءً، ويكون الوجوب أشدّ وآكد في فترة الحمل، ولا يسقط وجوب النفقة وإن كانت الحامل مطلّقةً، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا طلّق الرجل المرأة وهي حبلى، أنفق عليها حتى تضع حملها، فإذا وضعته أعطاها أجرها...) (1) .

وينبغي حسن المعاملة مع المرأة في جميع الأحوال، وهو أَولى في فترة الحمل، فهي بحاجة إلى مراعاة حالتها النفسية؛ لانعكاسها على الجنين، كما يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): (... فإنّ لها حق الرحمة، والمؤانسة، وموضع السكون إليها قضاء اللذة) (2) .

فالأفضل من قِبل الزوج تجسيداً لحق الرحمة والمؤانسة الرفق بها، وإسماعها الكلمات الجميلة، وتكريمها، والتعامل معها كإنسانة أكرمها الإسلام، وإشاعة جو السرور والبشاشة، والمودّة واللطف في المنزل، وإدخال الفرحة على قلبها، والصبر على أخطائها ومساوئها، التي لا تؤثر على نهجها الإسلامي، وتجنّب كلّ ما يؤدي إلى الإضرار بصحتها النفسية، كالتعبيس في وجهها، أو ضربها، أو هجرها، أو التقصير في حقوقها (3) .

____________________

(1) الكافي 6: 103.

(2) تحف العقول / الحراني: 188، المطبعة الحيدرية، النجف، 1380 هـ، ط5.

(3) راجع إرشاد القلوب: 175، ومكارم الأخلاق: 245، والكافي 5: 511، والمحجّة البيضاء 3: 19.

٤٧

الولادة:

هي المرحلة التالية لمرحلة الحمل مباشرة، ويجب على المرأة في أَوّل المخاض أن تخلو مع النساء، ولا يجوز لأحدٍ من الرجال الدخول عليها أثناء المخاض مع الاختيار (1) .

ويجوز عند الضرورة أن يقوم الرجل بإجراء عملية الولادة لها إن عجزت النساء عن ذلك (2) .

ويستحب على القابلة أن تأخذ الوليد وتمسح عنه الدم، وتحنّكه بماء الفرات، أو بماء عَذِب إن لم تجد ماء الفرات، ويستحبّ لها أن تحنّكه بالعسل المخلوط مع الماء، أو التحنيك بتربة الإمام الحسين (عليه السلام) (3) .

ويستحب على الوالدين أن يسمعا الوليد اسم الله تعالى بالأذان في أُذنه اليمنى، والإقامة في أُذنه اليسرى (4) .

عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَن وُلِدَ له مولود فليؤذّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليُقم في اليسرى؛ فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم) (5) .

ويستحب تسمية الوليد بأحسن الأسماء، وليس ثَمّة اسم أحسن من

____________________

(1) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 250.

(2) المبسوط 4: 160 - 161. وجواهر الكلام 31: 250.

(3) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 252.

(4) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 251.

(5) الكافي 6: 24.

٤٨

اسم محمد، فهو اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، يحثّون المسلمين على تسمية أبنائهم وبناتهم بالأسماء التالية: (عبد الرحمن - وباقي أسماء العبودية لله ولصفاته - محمد، أحمد، علي، حسن، حسين، جعفر، طالب، فاطمة) (1) .

ويكره التسمية ببعض الأسماء، كالحَكَم، وحكيم، وخالد، ومالك، وحارث (2) .

واستحباب الاسم الحَسَن مقدمة؛ لتحصين الوليد من السخرية والاستهزاء في كبره؛ لأنّ الأسماء غير الحسنة تُستهجن من قِبل المجتمع، إضافةً إلى ذلك فإنّ الأسماء الحسنة كأسماء الأنبياء، والأئمة، والأولياء، تجعل الطفل مرتبطاً بهم في سلوكه ومواقفه، وهو في نفس الوقت نوع من التبرّك بأفضل أسماء الشخصيات، التي لها دور كبير في إرشاد الإنسانية وتقويمها.

ويستحب في اليوم السابع من الولادة أن تُثقب أُذن الوليد، ويُحلق شعر رأسه، ثمّ يجفّف ويتصدق بزنته ذهباً أو فضةً، ويختن في هذا اليوم، ويُعقّ عنه بشاة سمينة، يُعطى للقابلة منها الرجل بالورك، ويفرّق باقي اللحم على الفقراء والمساكين، ويُعقّ عن الذَكر بذَكر من الغنم، وعن الأُنثى بأُنثى منها (3) .

____________________

(1) راجع الكافي 6: 19.

(2) راجع الكافي 6: 21.

(3) المقنعة: 521 - 522. وجواهر الكلام 31: 253 وما بعدها.

٤٩

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يُسمّى في اليوم السابع، ويُعقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويتصدّق بوزن شعره فضةً، ويُبعث إلى القابلة بالرجل مع الورك، ويطعم منه ويتصدّق) (1) .

وفي رواية عنه (عليه السلام): (... واحلق رأسه يوم السابع، وتصدّق بوزن شعره ذهباً أو فضةً) (2) .

ولهذه المستحبات دور كبير في تعميق الأواصر الاجتماعية، بالتصدّق على الفقراء، وإطعام المحتاجين والمساكين، ولها آثار نفسية حسنة للطفل حينما يترعرع، ويفهم اعتناء الوالدين به في ولادته، إضافةً إلى الذكرى الحسنة عند مَن وصلته تلك الصدقة وتلك العقيقة، حيث يكون عندهم محل احترام وتقدير.

ومن الأذكار المأثورة عند ذبح العقيقة ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، اللهمّ منك ولك، اللهمّ هذا عن فلان بن فلان) (3) .

وفي السيرة عقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحسن (عليه السلام) بيده وقال: (بسم الله عقيقة عن الحسن، اللهمّ عَظمها بعَظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللهمّ اجعلها وقاءً لمحمّد وآله) (4) .

____________________

(1) الكافي 6: 29.

(2) الكافي 6: 28.

(3) الكافي 6: 31.

(4) الكافي 6: 32 - 33.

٥٠

وفي استحباب ثقب الأُذن والختان قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إنّ ثقب أُذن الغلام من السُنّة، وختانه لسبعة أيام من السُنّة) (1) .

وللختان في اليوم السابع آثار صحيّة على الوليد، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (اختنوا أولادكم لسبعة أيام، فإنّه أطهر وأسرع لنبات اللّحم، وإنّ الأرض لتكره بول الأغلف) (2) .

والختان في هذا اليوم يؤدي إلى سرعة الشفاء مع قلة الألم.

أحكام النفاس:

أقل مدّة للطهر من دم النفاس عشرة أيام (3) .

وحكم النُفَساء حكم الحائض في جميع المحرّمات والمكروهات (4) .

فيحرم عليها: قراءة سور العزائم، ومسّ كتابة القرآن وأسماء الله تعالى، ودخول المساجد، ووضع شيء فيها.

ويجب عليها منع زوجها من وطئها في الفرج.

ويبطل صومها، ويجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة، ولا يصحّ للزوج طلاقها.

____________________

(1) الكافي 6: 35.

(2) الكافي 6: 34.

(3) الكافي في الفقه: 315. والمسائل الاتفاقية: 115 - 116.

(4) جامع المقاصد 1: 349. والمسائل الاتفاقية: 118. والوسيلة إلى نيل الفضيلة: 61.

٥١

حكم تبنّي الوليد:

إذا ولدت امرأة على فراش الرجل لأكثر من ستة أشهر فصاعداً لزمه قبوله، ويحرم عليه نفيه منه، وإن ولدت لأقلّ من ذلك وليداً حيّاً سوياً ينبغي نفيه منه، فإن أقرّ به قُبل منه، ولم يسعه بعد ذلك الانتفاء منه (1) .

الرضاع:

حليب الأُمّ هو الغذاء الأمثل للطفل، فهو (أوفق بمزاجه وأنسب بطبعه) (2) ، وأفضل مَن يمنحه الحنان، فيكون الطفل أقل توتراً، وأهنأ بالاً، وأسعد حالاً، فيستحب إرضاع الطفل من حليب أُمّه، قال الإمام علي (عليه السلام): (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه) (3) .

وهذا ما يؤكّده العلم الحديث، وهو يكشف مناسبة حليب الأُمّ لحاجة الرضيع من حيث مكوّناته، ومن حيث درجة حرارته أيضاً، فإنّ مكوّناته وحرارته تتغيّر مع نمو الطفل، وبحسب ما يتطلبه النمو السليم.

وعلى الرغم من استحباب إرضاع الطفل من حليب أُمّه، إلاّ أنّه لا يتوجب عليها إرضاعه (4) ، سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الرضاع فقال: (لا تُجبر الحرّة على رضاع الولد، وتجبر أُمّ الولد) (5) .

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 317. وجواهر الكلام 31: 224. ومنهاج الصالحين - المعاملات: 112 - 113.

(2) الحدائق الناضرة 25: 71.

(3) الكافي 6: 40.

(4) الحدائق الناضرة 25: 71. وجواهر الكلام 31: 272. والصراط القويم: 214.

(5) الكافي 6: 41.

٥٢

وعدم الوجوب مشروط بوجود الأب وقدرته على دفع الأُجرة، أو عدم تبرّع الأُمّ، أو وجود مال للولد، ووجود مرضعة أُخرى، وفي حالة عدم توفر هذه الشروط، يجب على الأُمّ إرضاعه، كما يجب عليها الإنفاق عليه إذا كان الأب معسراً أو مفقوداً (1) .

وفي الظروف الاستثنائية التي تقف حائلاً دون إرضاع الأُمّ لطفلها بسبب قلّة الحليب، أو مرض الأُمّ، أو موتها، أو رفضها للرضاعة مجاناً، يستحبّ اختيار المرضِعة المناسبة والملائمة ضمن مواصفات معيّنة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (انظروا مَن ترضع أولادكم، فإنّ الولد يشبُّ عليه) (2) .

ويستحب اختيار المرأة المرضعة التي تتوفر فيها أربع خصال: العاقلة، المسلمة، العفيفة، الوضيئة (3) .

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (استرضع لولدك بلبن الحِسان، وإيّاك والقِباح فإنّ اللبن قد يعدي) (4) .

وقال (عليه السلام): (عليكم بالوضاء من الظؤرة، فإنّ اللبن يعدي) (5) .

ويكره استرضاع الحمقاء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تسترضعوا الحمقاء، فإن الولد يشبُّ عليه) (6) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 72. وجواهر الكلام 31: 272.

(2) الكافي 6: 44. وجواهر الكلام 29: 307.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 316. وجامع المقاصد 12: 208. وجواهر الكلام 29: 306.

(4) الكافي 6: 44. وجواهر الكلام 29: 306.

(5) الكافي 6: 44.

(6) مكارم الأخلاق: 237. وجواهر الكلام 29: 306.

٥٣

وكذا البغيّة والمجنونة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (توقّوا على أولادكم من لبن البغيّة والمجنونة، فإنّ اللبن يعدي) (1) .

ويجوز استرضاع الكتابيات على كراهية، وفي حال عدم وجود مرضِعة مسلمة، وترتفع الكراهة في حال منعهنَّ من شرب الخمر، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إذا أرضعنَ لكم، فامنعوهنَّ من شرب الخمر) (2) .

وكراهية استرضاع تلك الأصناف ناجمة من تأثير اللبن على الطفل، ففي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (... فإنّ اللبن يعدي، وإنّ الغلام ينزع إلى اللبن) (3) .

ومن أجل تحسين حليب الطفل، يستحبُّ إطعام النساء في نفاسهنَّ التمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليكن أَوّل ما تأكل النُفَساء الرطب) (4) .

ويفضّل إطعام نوع خاص من التمر وهو البَرني، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أطعموا البَرني نساءكم في نفاسهنَّ، تحلم أولادكم) (5) .

وللأُمّ حق الإرضاع لطفلها إن رضي الأب بغير أُجرة، ولها حق الامتناع من الرضاعة، إمّا إذا كانت مطلّقةً، فهي أَولى برضاعه سواء رضي الأب أم لم يرضَ، ولها أُجرة المِثل، فإن طلبت أُجرةً زائدة على ما يرضى به

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 223. وجواهر الكلام 29: 306، 308.

(2) الكافي 6: 42. وجواهر الكلام 29: 307.

(3) الكافي 6: 43.

(4) الكافي 6: 22.

(5) الكافي 6: 22.

٥٤

غيرها، كان للأب حقّ انتزاعه من يدها (1) .

ولا يجوز للأب أن يسلّم الطفل إلى مرضعة تذهب به إلى منزلها إلاّ برضا الأُمّ (2) .

ومدّة الرضاع هي سنتان، وأقلّه واحد وعشرون شهراً، ويجوز الزيادة على السنتين مقدار شهرين، والزيادة لا أُجرة فيها (3) .

ويستحسن في مرحلة الرضاع مناغاة الطفل؛ لأنّها تؤثر على سرعة النطق، ونموّه اللغوي والعاطفي في المستقبل، حيث يشعر من خلال المناغاة بوجود الأمن والطمأنينة والهدوء، ولنا في سُنّة أهل البيت (عليهم السلام) خير منار واقتداء، فكانت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، تناغي الحسن (عليه السلام) في هذه المرحلة وتقول:

أشبه أباك يا حسن

واخلع عن الحق الرّسنْ

واعبد إلهاً ذا مِننْ

ولا توالِ ذا الإحَنْ

وكانت تناغي الحسين (عليه السلام):

أنت شبيه بأبي

لست شبيهاً بعليّ (4)

الفِطام:

حدّدت الشريعة الإسلامية مدة الإرضاع التامة بأربع وعشرين شهراً

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316. ومنهاج الصالحين، المعاملات: 120.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316. والصراط القويم: 214.

(4) بحار الأنوار 43: 286.

٥٥

كما جاء في قوله تعالى: ( والوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلينَ لِمن أرادَ أن يُتمَّ الرَّضَاعةَ... ) (1) .

وأقلّ الرضاع - كما تقدّم - واحد وعشرون شهراً، وينبغي على الوالدين إن أرادا فِطام الصبي في هذه المدة، أن يتشاورا فيما بينهما، قال تعالى: ( ... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.. ) (2) .

ويجوز تأخير الرضاع إلى شهر أو شهرين بعد مدة التمام، وهي أربع وعشرون شهراً، ويحرم الرضاع بعد ذلك؛ لأنّ لبن المرأة يصير من الخبائث، ومن فضلات مالا يُؤكل لحمه، فيحرم على المكلّف شربه، وكل ما حرم على المكلّف شربه يحرم إعطاؤه لغير المكلّف (3) .

فيجب على الأُمّ أو الأب المستأجر لمرضعة، مراعاة وقت الرضاع، ووقت الفِطام، بلا إفراط ولا تفريط، فيحسن إرضاع الولد واحداً وعشرين شهراً، ولا ينبغي إرضاعه أقل من ذلك (4) ، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الرضاع واحد وعشرون شهراً، فما نقص فهو جور على الصبي) (5) ؛ ذلك لأنّ الطفل بحاجة إلى اللبن في هذه المدّة، وبحاجة إلى الدفء العاطفي والحنان على حدٍّ سواء.

____________________

(1) سورة البقرة: 2 / 233.

2) سورة البقرة: 2 / 233.

(3) مهذّب الأحكام 25: 275.

(4) منهاج الصالحين، المعاملات: 120.

(5) الكافي 6: 40.

٥٦

الحضانة:

الحضانة هي الولاية على الطفل لفائدة تربيته، وما يتعلّق بها من مصلحته (1) ، ومرحلة الحضانة هي أهمّ المراحل في نموّ الطفل البدني، واللغوي، والعقلي، والأخلاقي، وهي مرحلة تشكيل البناء النفسي الذي تقوم عليه أعمدة الصحة النفسية والخُلقية، وتتطلب هذه المرحلة من الوالدين إبداء عنايةٍ خاصةٍ في رعاية الطفل وحمايته، وتوفير ما يحتاجه من مقوّمات النموّ البدنية والروحية؛ ليكون عنصراً فعّالاً في المجتمع.

والأُمّ أحقُّ بحضانة الولد مدّة الرضاع، فلا يجوز للأب أن يأخذه في هذه المدّة منها، فإذا انقضت مدة الرضاع، فالأب أحق بالذكر، والأُمّ أحق بالأنثى حتى تبلغ سبع سنين من عمرها، ثمّ يكون الأب أحقّ بها، وإن فارق الأُمّ بفسخ أو طلاق قبل أن تبلغ سبع سنين، لم يسقط حقّ حضانتها ما لم تتزوج بالغير، فلو تزوجت سقط حقّها، وكانت الحضانة للأب (2) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج) (3) .

وعنه (عليه السلام) قال: (ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية، فإذا فُطم فالأب أحقُّ به من الأُمّ، فإذا مات الأب فالأُمّ أحقُّ به من العُصبة...) (4) .

وفي حال فقدان الأبوين تكون الحضانة لأب الأب مقدّماً على غيره

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 83.

(2) مهذّب الأحكام 25: 278.

(3) وسائل الشيعة 21: 471.

(4) الكافي 6: 45.

٥٧

من الإخوة والأجداد (1) .

وإن فقد أب الأب تكون الحضانة لأقارب الطفل، على ترتيب مراتب الإرث الأقرب منهم يمنع الأبعد (2) .

ومن شروط حق الحضانة للأُمّ (3) :

1 - أن تكون مسلمةً.

2 - أن تكون عاقلةً.

3 - أن تكون سالمةً من الأمراض المعدية.

4 - أن تكون فارغةً من حقوق الزوج، فلو تزوّجت سقط حقها من الحضانة.

5 - أن تكون أمينةً.

6 - وأضاف بعض الفقهاء شرط عدم فسق الأُمّ (4) .

ولا يجوز للأمّ الحاضنة أن تسافر بالولد إلى بلد بغير رضا أبيه، ولا يجوز للأب أن يسافر به ما دام في حضانة أُمّه (5) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 96.

(2) مهذّب الأحكام 25: 281.

(3) الحدائق الناضرة 25: 90 - 91، 93. والصراط القويم: 214.

(4) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 288.

(5) مهذب الأحكام 25: 283.

٥٨

الفصل الثالث

الحقوق الأُسريّة

وضع المنهج الإسلامي حقوقاً وواجبات على جميع أفراد الأُسرة، وأمر بمراعاتها من أجل إشاعة الاستقرار والطمأنينة في أجواء الأُسرة، والتقيّد بها يسهم في تعميق الأواصر وتمتين العلاقات، وينفي كل أنواع المشاحنات والخلافات المحتملة، والتي تؤثّر سلباً على جوّ الاستقرار الذي يحيط بالأُسرة، وبالتالي تؤثّر على استقرار المجتمع المتكوّن من مجموعة من الأُسر.

أَوّلاً: حقوق الزوج:

من أهمّ حقوق الزوج حقّ القيمومة، قال الله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (1) .

فالأُسرة باعتبارها أصغر وحدة في البناء الاجتماعي بحاجة إلى قيّم ومسؤول عن أفرادها، له حقّ الإشراف، والتوجيه، ومتابعة الأعمال،

____________________

(1) النساء 4: 34.

٥٩

والممارسات، وقد أوكل الله تعالى هذا الحق إلى الزوج، فالواجب على الزوجة مراعاة هذا الحق المنسجم، مع طبيعة الفوارق البدنية والعاطفية لكلٍّ من الزوجين، وأن تراعي هذه القيمومة في تعاملها مع الأطفال وتشعرهم بمقام والدهم.

ومن الحقوق المترتبة على حق القيمومة حق الطاعة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيتها شيئاً إلاّ بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها، وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه...) (1) .

حتى إنّه ورد كراهة إطالة الصلاة من قِبل المرأة؛ لكي تتهرّب من زوجها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تُطوِّلنّ صلاتكنّ لتمنعنَّ أزواجكنّ) (2) .

ويجب عليها إحراز رضاه في أدائها للأعمال المستحبة، فلا يجوز لها الاعتكاف المستحب إلاّ بإذنه (3) ، ولا يجوز لها أن تحجّ استحباباً إلاّ بإذنه، وإذا نذرت الحج بغير إذنه لم ينعقد نذرها (4) .

ومن أجل تعميق العلاقات العاطفية، وإدامة الروابط الروحية، وإدخال السرور والمتعة في نفس الزوج، يستحب للمرأة الاهتمام بمقدمات ذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله، ما حقّ الزوج على المرأة؟ قال: أكثر من ذلك،

____________________

(1) مَن لا يحضره الفقيه 3: 277.

(2) الكافي 5: 508.

(3) الكافي في الفقه: 187.

(4) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 191.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الفصل الثالث

ابن القيِّم وعالم الأرواح

إذا كبر على ابن القيّم ردّ الشّمس لعليّ عليه‌السلام ، فافترى على الشّيعة إذ جعل الحديث خاصّاً بهم ورماهم بالكذب لذلك، فإنّه ولج عالم الأرواح.. ذلك العالم المجهول، فألّف فيه كتاباً سمّاه «الرّوح»، حشاه من الخرافات الّتي اعتبرها كرامات مسلّمات! فهذا له نصف الجنّة ثمناً لزهده وعبادته، والأنبياء والنّاس جميعاً لهم النّصف الآخر منها! وآخر يجالس الله تعالى، يأكل ويشرب بين يديه! وثالث أشغل الملائكة سنيناً في نسج حلّته، وإنّ الله تعالى قد انتقم لأحد عباده لأنّ فلاناً شتمه، فسخّر روح فلان وهو نائم لتحمل سكّيناً فتذبح الشّاتم من الأذن إلى الأذن.

ويمضي مكبّاً على وجهه يسرد القصص ويؤسّس عليها ما يراه علماً؛ ففلان ينتقل من بغداد إلى بيت الله الحرام، ويشرب من ماء زمزم، ثمّ يعود بنفس اللّيلة إلى بغداد، وكأنّه عفريت الجنّ الّذي جاء بعرش بلقيس فوضعه بين يدي سليمان نبيّ الله. وفلان العابد يمشي على الماء ويطير في الهواء من غير جناحين. وفلان العابد استجابة دعائه أسرع من البرق الخاطف، يغيّر الأنواء وأحوال الطّبيعة ويحيي الموتى!

وهو إذ يرفض حديث ردّ الشّمس، لم ينكر هذا الحشد الهائل من الخرافات ممّا لم يجر به قلم رافضيّ! وإنّما هي من هملجات مشيخة ابن القيّم وأبناء جلدته، وكلّ واحد منها يضاهي ردّ الشّمس أو حبسها. وهذه نظرة في كتابات هؤلاء وأخبارهم:

١٢١

كرامات أحمد بن حنبل (١) : لقد حاول هؤلاء أو يستروا أنفسهم بدعوى التّسنّن، وكأنّ

____________________

(١) أحمد بن محمّد بن حنبل، مروزيّ الأصل، قدمت أمّه بغداد وهي حامل فولدته ونشأ بها. تاريخ بغداد ٤: ٤١٢.

قال صالح بن أحمد بن حنبل: ولد - يعني أباه - في سنة أربع وستّين ومائة، وجيء به من ومرو حملاً. مناقب أحمد بن حنبل لابن الجوزيّ ص ١٣.

وقد ولي جدّه حنبل بن هلال سرخس، وكان من أبناء الدعوة، أي العبّاسيّة.

سمع من إسماعيل بن عليّة، ويحيى بن سعيد القطّان، وأبي داود الطيالسيّ، ووكيع بن الجرّاح، وسفيان بن عيينة، ومحمّد بن إدريس الشّافعيّ، وابراهيم بن سعد الزّهريّ، وعبد الرزّاق بن همام، وأبي مسهر الدمشقيّ، وعليّ بن عيّاش، وبشر بن شعيب الحمصيّين... وآخرين.

وروى عنه ابناه: صالح، وعبد الله، وابن عمّه حنبل بن إسحاق، والبخاريّ، ومسلم، وإبراهيم الحربيّ، وموسى بن هارون، وأبو بكر المروزيّ، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود السجستانيّ؛ وأبو حاتم الرازيان. تاريخ بغداد ٤: ٤١٢ - ٤١٣؛ مناقب أحمد ٣٣ - ١٠٦.

توفّي أحمد بن حنبل سنة إحد وأربعين ومائتين. قال عبد الوهّاب الورّاق: ما بلغنا أنّه كان للمسلمين جمع أكثر منهم على جنازة أحمد بن حنبل إلاّ جنازة في بني إسرائيل. تاريخ بغداد ٤: ٤٢٢؛ مناقب أحمد: ٤١٦.

وفي عدد من صلّى على أحمد يقول أبو زرعة: إنّ المتوكّل أمر أن يمسح الموضع الّذي وقف عليه النّاس حيث صلّى على أحمد بن حنبل، فبلغ مصلّى ألف ألف وخمس مائة ألف. وعن الحسن المقانعيّ، قال: كنت ببغداد فإذا بشيخ وشاب وعليهما طمران من شعر، فسلّمت عليهما، وقلت لهما: أراكما من غير هذا البلد! قالا: نعم، نحن من جبل اللكام، حضرنا جنازة أحمد بن حنبل، وما بقي أحد من الأولياء إلاّ شاهد هذا المكان، مناقب أحمد: ٤١٧.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده، فجعل يغرق ثمّ يفيق ثمّ يفتح عينيه ويقول بيده هكذا: لا بعد، لا بعد، ثلاث مرّات. فلمّا كان في الثالثة قلت: يا أبه أيّ شيء هذا؟ فقال: غبليس لعنه الله قائم حذائي عاضّ - في مختصر تاريخ دمشق ٣: ٢٥٣: قائماً بحذائي عاضّاً - على أنامله يقول لي: يا أحمد فتّني، وأنا أقول له: لا بعد، حتّى أموت. مناقب أحمد: ٤٠٨.

ولعلّه يعني أنّ إبليس كان يلتمس من أحمد أن يطلق أساره فيأبى أحمد! قال الوركانيّ جار أحمد بن حنبل: يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنّوح في أربعة أصناف من النّاس: المسلمين، واليهود، والنّصارى، والمجوس. وأسلم يوم مات عشرون ألفاً من اليهود والنّصارى والمجوس. تاريخ بغداد ٤: ٤٢٣؛ مناقب أحمد: ٤٢٠؛ مختصر تاريخ دمشق ٣: ٢٥٥. =

١٢٢

____________________

= وقال أبو بكر المروزيّ: قال رجل بطرسوس: أنا من اليمن، وكانت لي بنت مصابة، فجئت بالعزّامين فعزموا عليها، ففارقها الجنّيّ على أن لا يعاود. فعاود بعد سنة فقلت: أليس قد فارقت على أن لا تعاود؟ قال: بلى، ولكن مات اليوم رجل بالعراق يقال له أحمد بن حنبل، فذهبت الجنّ كلّها تصلّي عليه إلاّ المردة وأنا منهم، ولست أعود بعد يومي هذا، فما عاد مناقب أحمد ٤٢٠.

جملة من اعتقاداته : كان أحمد بن حنبل يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر.

أمّا مذهبه في الصّفات قال عبد الله بن أحمد: قال أبي هذه الأحاديث - أي أحاديث الصّفات - نرويها كما جاءت. وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: إنّ أهل الجنّة يرون ربّهم. مناقب أحمد: ١٥٦؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٨: ٨٧؛ وقال: إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد رأى ربّه. مناقب أحمد: ١٧٢.

قال أحمد: أصول السّنّة عندنا التمسّك بما كان عليه الصّحابة، وترك البدع، وليس في السّنّة قياس، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والإيمان بالرؤية - أي رؤية الله سبحانه - يوم القيامة، والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكلام فيه بدعة - أي الكلام في تأويل الأحاديث بما يناسب ذات الله المقدّسة من غير تمسّك بالظّاهر الّذي يفضي إلى التجسيم والتبعيض والتحديد - ولكن نؤمن به على ظاهرة ولا نناظر فيه أحداً، وإنّ الله يكلّم العباد يوم القيامة، ليس بينهم وبينه ترجمان. مناقب أحمد ١٧٣؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٨: ٨٧.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلّم الله موسى لم يتكلّم بصوت. فقال أبي: بلى تكلّم بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت، أي من غير تأويل.

قال: غذا تكلّم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرّون سجّداً (تاريخ الإسلام ١٨: ٨٨). وقال: حديث ابن مسعود «إذا تكلّم الله سمع له صوت كمرّ السّلسلة على الصّفوان» قال: وهذا الجهميّة تنكره، وهؤلاء كفّار يريدون أن يموّهوا على النّاس (تاريخ الإسلام ١٨: ٨٨).

لقد حكم أحمد على من ينزّه الله تعالى عن صفات البشر بالكفر! وكان أحمد شديداً على الجهميّة على ما رأينا من نعتهم بالكفر. ومن أقواله فيهم: إذا صلّيت وبجنبك جهميّ فأعد! مناقب أحمد ١٥٧. وهو إذ يدعو إلى الإرجاء فيما غاب من الأمور، فإنّه يحكم بالكفر على الواقفة - أي الّذين يقولون: القرآن كتاب الله، ويتوقّفون عن القول إنذه غير مخلوق - ففي الإرجاء قال: من صفة المؤمن من أهل السّنّة والجماعة إرجاء ما غاب عنه من الأمور إلى الله (مناقب أحمد ١٥٦). وفي الواقفة قال سلمة بن شبيب: دخلت على أحمد بن حنبل فقلت: ما تقول فيمن يقول القرآن كلام الله؟ فقال أحمد: من لم يقل كلام الله غير مخلوق فهو كافر. وقال سلمة: قلت لأحمد: الواقفة كفّار؟ فقال: كفّار «نفس المصدر». وقال أحمد: افترقت الجهميّة على ثلاث فرق، فرقة قالوا: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: كلام الله، وسكتوا، وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق. ثمّ قال: لا يصلّى خلف مَن =

١٢٣

____________________

= قال القرآن مخلوق، ولا خلف واقفيّ ولا خلف لفظيّ.

(نفس المصدر ١٥٩).

مهاجمة أحمد للفرق الإسلاميّة: ولم يقف أحمد في حملته الشديدة على من ذكرنا. فلقد أشعل فتيل المعركة الكلاميّة مع المعتزلة والشّيعة، إلاّ أنّ حملته كانت أشد على الشّيعة الّذين نعتهم بالرّوافض. وهو ما يفسّر حماسة ابن تيميّة في حربه الكلاميّة مع هؤلاء. في المعتزلة قال أحمد: علماء المعتزلة زنادقة. (مناقب أحمد ١٥٨). وفي الشّيعة قال: إنّهم قالوا: إنّ عليّاً أفضل من أبي بكر، وإنّ إسلام عليّ أقدم من إسلام أبي بكر. فمن زعم أنّ عليّا أفضل من أبي بكر فقد ردّ الكتاب والسّنّة. ومن زعم أنّ إسلام عليّ كان أقدم من إسلام أبي بكر فقد أخطأ؛ لأنّ أبا بكر أسلم وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وعليّ يومئذ ابن سبع سنين لم تجر عليه الأحكام والحدود والفرائص! (مناقب أحمد ١٦٩).

إنّ الّذي أجرى الأحكام والحدود والفرائض على عليّ عليه‌السلام هو الله ورسوله، لا أحمد وغيره. فمن ردّ ذلك فقد ردّ الكتاب والسّنّة! ولقد نطق عيسى عليه‌السلام بالنبوّة وهو في المهد صبيّ! والكلام مبسوط في كتب أئمّة المذاهب، ولم يختلفوا في أنّ عليّاً ليس أوّل من أسلم فحسب، وإنّما لم يكفر يوما لكي يسلم، ولم يسجد قطّ لصنم من أصنام قريش ولا غيرها، ولذا قالوا فيه: كرّم الله وجهه. أمّا مسألة التفضيل فليس هذا محلّ الكلام فيها، إلاّ أنّه لابدّ من القول وجازة: إنّ عليّاً نفس رسول الله قرآنا وسنّة - وقد عرضنا لهذه القضيّة في كتابنا هذا - ولا يعدل رسول الله أحد، فكيف يفضله؟!

وقال صالح بن أحمد بن حنبل: كان أبي يقول: لا تصلّي خلف رافضيّ (مناقب أحمد ١٥٩). وأحمد إذ ينعت الشيعيّ بالرّفض، فإنّه ينفي عنه صفة الإسلام! مناقب أحمد ١٦٥.

أحمد وأئمّة المذاهب: تنقّص أحمد من أئمّة المذاهب، إلاّ أستاذه الشّافعيّ. قال إبراهيم الحربيّ: سمعت أحمد بن حنبل - وسئل عن مالك - فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف. وسئل عن الأوزاعيّ، فقال: حديث ضعيف ورأي ضعيف. وسئل عن أبي حنيفة، فقال: لا رأي ولا حديث. وسئل عن الشّافعيّ، فقال: حديث صحيح ورأي صحيح (تاريخ بغداد ١٣: ٤١٦).

وكان أحمد يقول: كان أبو حنيفة يكذب (نفس المصدر). وقال يوسف بن الحسين: سألت أحمد بن حنبل عن شيوخ الرّيّ، فقال: خمسة أدعو لهم في دبر كلّ صلاة: أبواي، والشّافعيّ، وأبو زرعة، وآخر ذهب عنّي اسمه. (مناقب أحمد ٢٨٦). وقال القاضي محمّد بن محمّد بن إدريس الشّافعيّ: قال لي أحمد بن حنبل: أبوك أحد الستّة الّذين أدعو لهم سحراً (مناقب أحمد ٢٨٦).

وكان الشّافعيّ يطري أحمد بن حنبل. من ذلك: إنّ الشّافعيّ قال عند قدومه إلى مصر من العراق: ما خلّفت =

١٢٤

____________________

= أحداً بالعراق يشبه أحمد بن حنبل. المصدر السابق ١٠٧. وله فيه أقوال كثيرة، انظر المصدر.

قوله بالعرش: ومن معتقداته أنّ الله تعالى كائن على عرشه، وهذا ما خالفته فيه المعتزلة والشّيعة؛ لأنّه عندهم يعني تحديد ذات الله تعالى في حيّز يشار إليه.

قال حنبل بن إسحاق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ربّنا تبارك وتعالى على العرش بلا حدّ ولا صفة (تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٨: ٨٨).

قال الذهبيّ: معنى قوله بلا صفة أي بلا كيفيّة ولا وصف (نفس المصدر).

وقال محمّد بن إبراهيم القيسيّ: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك أنّه قيل له: كيف نعرف ربّنا؟ قال: في السّماء السّابعة على عرشه. قال أحمد: هكذا هو عندنا. (نفس المصدر).

عقيدته في أفعال العباد: ويبدو أنّ أحمد بن حنبل يذهب مذهب الجبريّة في تفسير أفعال العباد. قال في صفة المؤمن: يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشرّه، وحلوه ومرّه من الله، وأنّ الله خلق الجنّة قبل خلق الخلق؛ وخلق للجنّة أهلاً، وخلق للنّار أهلاً (مناقب أحمد ١٦٩).

قال إسحاق بن إبراهيم: حضرت رجلا سأل أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - فقال: يا أبا عبد الله، إجماع المسلمين على الإيمان خيره وشرّه؟ قال أبو عبد الله: نعم. قال: ولا نكفّر أحداً بذنب؟ فقال أبو عبد الله: اسكت، من ترك الصّلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر (تاريخ الإسلام ١٨: ٨٨).

من خلال المحاورة الأخيرة تتجلّى عقيدة أحمد بن حنبل في أفعال العباد، وأنّه يأخذ بمبدأ مدرسة أهل الجبر. فإنّ الرجل قد رتّب أثراً على جواب أحمد لسؤاله أنّ الخير والشرّ مقدّران من الله تعالى على عباده! فأشكل عليه أن لا يمكن والحال هذه تكفير أحد بذنب، وهو النتيجة المنطقيّة، ممّا أثار حفيظة أحمد الّذي يعتقد أنّ القول بخلق القرآن ذنب ما بعده ذنب، ومن قال به فقد كفر! ولتسويغ القول مازج بينه وبين ترك الصّلاة.

وقد أرتج باب لم، وكيف؟ وعطّل العقل عن الجواب عن ذلك وعن غيره. قال: «ومن السّنّة اللاّزمة الّتي من ترك منها خصلة ولم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يقال لم ولا كيف؟ إنّما هو التصديق والإيمان بها، ومن لم يعرف تفسير الحديث وبلغه عقله فقد كفى ذلك، فعليه الإيمان والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، ومثل ما كان مثله في القدر، ومثل أحاديث الرؤية كلّها. وإن نبت - أي نفرت - عن الأسماع، واستوحش منها المستمع، فإنّما عليه الإيمان بها وأن لا يردّ منها حرفا واحداً؛ فإنّ الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السّنن مكروه منهيّ عنه لا يكون صاحبه - وإن أصاب بكلامه السّنّة - من أهل السّنّة (مناقب أحمد ١٧١ - ١٧٢).

وكان من معتقد أحمد بن حنبل: وجوب لزوم جانب السلطان ومؤازرته، برّاً كان أم فاجراً «والسّنّة الّتي =

١٢٥

السّنّة تكون في اختلاق الكرامات لرفع شأن أشخاص! ولما كانت الأرض الّتي نبت فيها هؤلاء حنبليّة، فقد ذكروا لأحمد بن حنبل شمائل هي أشرف من الشّمس وأسنى من كرامة ردّها. وكذلك لما كان عصرهم يمور بالفتن والصراعات المذهبيّة، يغذّي ذلك

____________________

= توفّي عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلها: الرّضى بقضاء الله والتسليم لأمره، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، والجهاد مع كلّ خليفة برّ وفاجر، والصّبر تحت لواء السّلطان على ما كان منه من عدل أو جور، ولا يخرج على الأمراء بالسّيف وإن جاروا. ومن خرج على إمام من أئمّة المسلمين وقد كان النّاس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجه كان، بالرّضى أو بالغلبة، فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهليّة» (مناقب أحمد ١٧٥ - ١٧٦).

مذهبه في الصّحابة: بالغ أحمد بن حنبل في تعريف الصّحابيّ وتبجيله، فخلط حقّاً بباطل! وظهر أثر ذلك جليّاً في أتباعه: أبو الفرج بن الجوزيّ، وابن تيميّة، وابن القيّم... حتّى جعلوا عليّاً عليه‌السلام ، ومعاوية، ويزيد، وابن النّابغة عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة في كفّتي ميزان متعادل! فالصّحابي عنده هو من صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سنّة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعةً، أو رآه، فهو من أصحابه (مناقب أحمد ١٦١).

ورتّب على ذلك أثراً عظيماً، ذلك أنّ الصّحابيّ أفضل من التّابعيّ ولو كان الأخير أعظم في عمل الخير من الأوّل، وأن الصّحابيّ مصون غير مسؤول! ولا يرتضى عمل حتّى يقترن بالرضى عن كلّ الصّحابة! قال: «له - أي الصّحابيّ - من الصّحبة على قدر ما صحبه، فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الّذين لم يروه. ولو لقوا الله بجميع الأعمال كان هؤلاء الّذين صحبوا النبيّ ورأوه وسمعوا منه أفضل؛ لصحبتهم، من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير. ومن انتقص أحدا من أصحاب رسول الله، أو أبغضه لحدث كان منه، أو ذكر مساويه، كان مبتدعاً حتّى يترحم عليهم جميعاً، ويكون قلبه لهم سليماً (مناقب أحمد: ١٦١).

وحين سئل عن عليّ عليه‌السلام ، ومعاوية، قال: ما أقول فيهم إلاّ الحسنى، وقال: رحمهم الله أجمعين - أي الصحابة. ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعريّ، والمغيرة كلّهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) نفس المصدر ١٦٤.

مذهبه في تفضيل الصّحابة : قال يعقوب بن إسحاق: سمعت أحمد بن حنبل - وسئل عن التفضيل - فقال على حديث ابن عمر: أبو بكر وعمر وعثمان. والخلافة، على حديث سفينة: أبو بكر وعمر و عثمان وعليّ نفس المصدر ١٥٩.

وقال محمّد بن عوف: سألت أحمد بن حنبل: ما تقول في التفضيل؟ فقال: من فضّل عليّاً على أبي بكر فقد طعن على رسول الله! ومن قدّم عليّاً على عمر فقد طعن على رسول الله وعلى أبي بكر! ومن قدّم عليّاً على عثمان فقد طعن على رسول الله وأبي بكر وعمر و على المهاجرين! ولا أحسب يصلح له عمل! نفس المصدر ١٦٢.

١٢٦

السّلطان الحاكم - وقد برزت وقتئذ ظاهرة التصوّف وأدعياء الزّهد - راح كلّ فريق يتغنّى بليلاه!

أحمد في ضيافة الله

قال ابن القيّم: قال عاصم الجزريّ: «رأيت في المنام كأنّي لقي بشر بن الحارث - الصوفيّ المعروف ببشر الحافي - فقلت: من أين يا أبا نصر؟ قال: من علّيّين. قلت: فما فعل أحمد بن حنبل؟ قال: تركته السّاعة مع عبد الوهّاب الورّاق بين يدي الله عزّ وجلّ، يأكلان ويشربان. فقلت له: فأنت؟ قال: علم قلّة رغبتي في الطّعام، فأباحني النّظر إليه» (١) .

إنّ نسك بشر الحافي وزهده بلذائذ الدّنيا قد صحباه إلى الجنّة ونعيمها، فزهد بها فعوّضه الله تعالى النظر إليه جلّ وعلا، فيما كانت كرامة أحمد، وعبد الوهّاب أن يكونا في أعلى المراتب: يأكلان ويشربان بين يدي الله تعالى. وكلّ ذلك من التحيّز والتجسيم الّذي حوقق عليه ابن تيميّة، وابن القيّم.

حلية أحمد

ليست الشّمس بأشرف قدراً عند الله تعالى من الملائكة المقرّبين، إلاّ أنّ ابن القيّم قد أعظم ردّ الشّمس لعليّ عليه‌السلام فأنكره، فيما صدّق الطّرسوسيّ في رؤياه أنّ الملائكة منشغلة بتحلية أحمد!

قال: قال أبو بكر أحمد بن محمّد بن الحجّاج: حدّثني رجل من أهل طرسوس، قال: دعوت الله عزّ وجلّ أن يريني أهل القبور حتّى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل الله به؟ فرأيت بعد عشر سنين في المنام كأنّ أهل القبور قد قاموا على قبورهم، فبادروني بالكلام فقالوا: يا هذا! كم تدعو الله عزّ وجلّ أن يريك إيّانا، تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحلّيه الملائكة تحت شجرة طوبى؟! (٢)

____________________

(١) الرّوح: ٤١.

(٢) نفس المصدر ٤٠.

١٢٧

والسؤال: ألم يكن من الأولى لهذا الطّرسوسيّ أن يسأل الله تعالى ليريه منزلة أحمد، من غير أن يجعل بينه وبين الله سبحانه واسطة، فيستغني بذلك عن أهل القبور الّذين أبطأوا عنه في الجواب كلّ تلكم السنين؟! وما هذه القيامة من أهل القبور، أهي القيامة الصّغرى أم نفخ الصّور ففزعوا من دون الأحياء؟! علماً أنّ ابن القيّم يؤكّد في كتابه «الرّوح» أنّ الأجساد تبلى، وتبقى الأرواح! وأيّ حلية هذه الّتي أضنى بها الملائكة أنفسهم على مدار عشر سنين ولم يفرغوا من تجهيز أحمد بها؟!

ثمن الولاء

ما أرخص التضحية إذا كان الثمن هو الكيل بالميزان الأوفى! وما أحلى لسع السّياط إن كان في كلّ سوط ما يقرّب إلى الله تعالى درجة، حتّى إذا مات رأى الله تعالى جهرة، وذلك قبل يوم الحساب، ولا ندري ماذا أعدّ له الله سبحانه يومئذ من النّعيم! قال ابن القيّم قال أحمد بن محمّد اللبدي: رأيت أحمد بن حنبل في النّوم، فقلت: يا أبا عبد الله! ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، ثمّ قال لي: يا أحمد! ضربت فيّ ستّين (١) سوطاً؟ قلت: نعم يا رب، قال: هذا وجهي قد أبحتك فانظر إليه. (٢)

ولم يكن ابن القيّم بدعاً فيما ذكره في روحه «كتاب الرّوح» من الغلوّ في إمامه؛ فقد سبقه إلى ذلك شيوخه: ابن تيميّة وابن الجوزيّ، ونعق بها بعدهم أعراب جفاة. وهذه أمثلة وشواهد.

الله سبحانه وتعالى يزور أحمد بن حنبل

إذا كان ابن القيّم قد رضي لنفسه تصديق ما قد سلف من منامات تعرب عن علوّ شأن أحمد - ومنها الجلوس إلى مآدب الله تعالى، وتنعّمه بالنّظر إليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - فإنّ مدرسة التجسيم ذهبت إلى أنّ الله تعالى يبادل أحمد الزيارة. رو ابن الجوزيّ في

____________________

(١) إشارة إلى إمتناع أحمد بن حنبل من القول بخلق القرآن، فجلده المعتصم لذلك.

(٢) الرّوح: ٤٠.

١٢٨

مناقب أحمد، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربيّ وكان شيخاً صالحاً ن قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّا قبل دخول رمضان بأيّام، فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار ساف أو سافين، فقلت: إنّما تمم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقال عزّ وجلّ: يا أحمد، لأنّك نصرت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب. (١)

فما أحرى العلماء أن ينهجوا مذهب أحمد بن حنبل، فلعلّ الباري سبحانه ينعم عليهم بمثل ذلك!

وابن تيميّة، وابن الجوزيّ، وابن القيّم، وأصحاب الفتنة الإرهابيّة: أشياع ابن عبد الوهّاب الّذين انطلقوا من نجد، وحذّر منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما زالوا يمارسون جرائمهم على خطى الخوارج، حذو النّعل بالنّعل، يرتضون الكافر ويحاربون المسلم، وذريعتهم أنّه - أي المسلم - قبوريّ وثنيّ يشدّ الرّحال لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزيارة مراقد أهل بيته عليهم‌السلام ، والأولياء والصالحين، ويحكمون بالشّرك على من يقبّل مرقد أشرف بني آدم مطلقاً: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّهم قد خصّوا قبر أحمد بفضيلة التقبيل!

وإذا كانت قدرة الله تعالى قد تجلّت للجبل فاندكّ الجبل وخرّ موسى صعقاً، فإنّ الله تعالى بذاته يزور قبر أحمد فلا يتحفض إلاّ هذا المقدار اليسير «ساف أو سافين»، وذلك لأنّه يضمّ أحمد الّذي لا ندري أهو في علّيّين كما زعموا، أم في قبره كما ذكروا؟!

لقد جعل الأبناء: ابن حنبل، وابن الجوزيّ، وابن عبد الوهّاب النّجديّ الله تعالى محلاًّ للحوادث، فأحمد يرفع إلى حضرة الربّ يزور الله سبحانه، يحاوره ويتنعّم بالنّظر إليه، ويأكل ويشرب بين يديه. وهذا يعني أنّه جلّ وعلا في جهة يشار إليها، وينطق بحرف وصوت، وله وجه يرى. وهذه كما ترى أبعاض. وهو تعالى ينزل من عند جهته العلويّة إلى حيث أحمد، تكريماً له ومبادلة لزيارته. إنّ النزول والارتفاع وما إليهما... كلّ ذلك

____________________

(١) مناقب أحمد بن حنبل، ابن الجوزيّ: ٤٥٤.

١٢٩

حوادث، وجميعها جائز في حقّ إمام هذا المذهب لتكريمه؛ أمّا أن تقع كرامة إلهيّة في شأن مخلوق من مخلوقات الله تعالى، بدعاء من نبيّه فهو منكر لا يجوز!

أحمد أعلى من النبيّ منزلة

رفع هؤلاء مقام أحمد على مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ جوّزوا تقبيل قبره وشدّ الرّحال لزيارته، ومن تخلّف عن ذلك فقد جفاه، ومن زاره وتشفّع به عند قبره غفر الله ذنبه. وقد عمّت بركته أهل القبور، فأضاء الله تعالى لهم وغفر لهم، وذلك لمجاورتهم أحمد! ففي الخبر الّذي ذكره ابن الجوزيّ عن الحربيّ، قال: «فأقبلت على لحده - أي أحمد اُقبّله، ثمّ قلت: يا سيّدي! ما السّرّ في أنّه لا يقبّل قبر إلاّ قبرك؟ فقال لي: يا بنيّ ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة لرسول الله؛ لأنّ معي شعرات من شعره. ألا ومن يحبّني يزورني في شهر رمضان، قال ذلك مرّتين (١) .

صحيح أنّه استدرك فجعل ذلك كرامة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأثر الشّعرات الّتي عنده، إلاّ أنّه قد خصّ بالتقبيل قبر أحمد من دون قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يذكر لنا كيف انتقلت الشعرات إليه؟!

وذكروا عن أبي الفرج الهندبائي أنّه قال: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل، فتركته مدّة، فرأيت في المنام قائلاً يقول لي: تركت زيارة قبر إمام السنّة؟!. (٢)

رسول الخضر إلى أحمد

قال سلمة بن شبيب: كنّا مع أحمد بن حنبل جلوساً إذ جاءه رجل، فقال: من منكم أحمد بن حنبل؟ فسكتنا فلم نقل شيئاً، فقال: أنا أحمد بن حنبل، ما حاجتك؟! قال: ضربت إليك من أربعمائة فرسخ برّها وبحرها، جاءني الخضر ليلة الجمعة وقال لي: لم لا تخرج إلى أحمد بن حنبل؟! فقلت: لا أعرفه، فقال تأتي بغداد وتسأل عنه، وقل له: إنّ

____________________

(١) مناقب أحمد بن حنبل لأبي الفرج بن الجوزيّ: ٤٥٤.

(٢) نفس المصدر: ٤٨١؛ تاريخ بغداد للخطيب ٤: ٤٢٣.

١٣٠

ساكن السّماء الّذي على عرشه راض عنك، وسائر الملائكة راضون عنك بما صبّرت نفسك لله عزّ وجلّ. (١)

أترى إذن كيف جعلوا لله تعالى سكناً يأوي إليه هو السّماء، وهو على عرش له هناك! ولأجله كفّروا من تأوّل العرش فقال بأنّه قدرة الله المطلقة العلويّة المسيطرة!

زيارة أحمد حطّة الذنوب

قال ابن الجوزيّ: في صفر سنة ٥٤٢ رأى رجل في المنام قائلاً يقول له: من زار أحمد ابن حنبل غفر له! قال: فلم يبق خاصّ ولا عامّ إلاّ زاره. وعقدت يومئذ ثمّ مجلساً، فاجتمع فيه ألوف من النّاس. (٢)

عوائد زوّار أحمد

وعن جوائز زائري أحمد السّنيّة، ذكر ابن الجوزيّ عن أحمد بن الحسين عن أبيه، قال: قال الشيخ أبو طاهر ميمون: يا بنيّ، رأيت رجلاً بجامع الرّصافة في شهر ربيع الأوّل من سنة ستّين وأربعمائة، فسألته فقال: قد جئت من ستّمائة فرسخ. فقلت: في أيّ حاجة؟ قال: رأيت وأنا ببلدي في ليلة جمعة كأنّي في صحراء أو في فضاء عظيم، والخلق قيام وأبواب السّماء قد فتحت، وملائكة تنزل من السّماء تلبس أقواماً ثياباً خضراً ويطير بهم في الهواء، فقلت: من هؤلاء الذين اختصّوا بهذا؟! فقالوا لي: هؤلاء الّذين يزورون أحمد ابن حنبل. فانتبهت، ولم ألبث أن أصلحت أمري، وجئت إلى هذا البلد وزرته دفعات، وأنا عائد إلى بلدي إن شاء الله. (٣)

إنّ الشّيخ ميمون هذا لم يذكر لنا ما الّذي حلّ بهؤلاء الّذين طير بهم في الهواء: أعادوا إلى الأرض أم دخلوا الفردوس قبل الموت، ومن ثمّ قيام السّاعة؟!

____________________

(١) مناقب أحمد ٤٥٩؛ مختصر تاريخ دمشق ٣: ٢٥١.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ١٢: ٣٢٣.

(٣) مناقب أحمد لابن الجوزيّ: ٤٨١.

١٣١

ولم لم تشمل الشّيخ تلك المكرمة الحلميّة العجيبة؟!

بركة أحمد تعمّ أهل القبور

أحمد بن حنبل محض بركة وخير، في حياته ومماته، لزائريه وجيرانه من الموتى! ذكر ابن الجوزيّ في مناقب أحمد، قال: لما مات أحمد بن حنبل راى رجل في منامه كأنّ على كلّ قبر قنديلاً. فقال: ما هذا؟ فقيل له: أما علمت أنّه نور لأهل القبور ينوّرهم بنزول هذا الرّجل بين أظهرهم، وقد كان فيهم من يعذّب فرحم. (١)

قال: «مات رجل مخنّث فرئي في النّوم، فقال: قد غفر لي! دفن عندنا أحمد بن حنبل فغفر لأهل القبور» (٢) !

إنّهم بهذا قد أقرّوا لأحمد بن حنبل من الشرف والمكانة الرفيعة ما لم يقرّوا بأقلّ القليل منها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وأحمد إنّما يستمدّ الشّرف بقدر اتّباعه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . فهم ينكرون الاستشفاع بالميّت نبيّاً كان أم غيره، ويحملون على الّذين ينقلون جنائز موتاهم ليجعلوها بجوار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأولياء. إلاّ أنّهم قد منحوا أحمد الشفاعة جميعها! فسعيد حظّ من دفن بجواره، لتشمله بركته وشفاعته، وتغفر له ذنوبه فيصبح من أهل الجنّة بعد أن كان من أهل النّار!

قال: وحكى أبوظاهر الجمّال، قال: قرأت ليلة وأنا في مقبرة أحمد بن حنبل قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ) . ثمّ حملتني عيني فسمعت قائلاً يقول: ما فينا شقيّ والحمد لله - ببركة أحمد! (٣)

وما حكاه الجمّال ليس من شأن أهل القبور وعالم البرزخ، إنّما هو عن حال الإنسان يوم القيامة! والآية بتمامها: ( يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلّمُ نَفْسٌ إِلّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ) (٤) . وممّا

____________________

(١) مناقب أحمد: ٤٨٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) سورة هود / ١٠٥.

١٣٢

يؤكّد ذلك أنّ الآية الشريفة مسبوقة بقوله تعالى: ( إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (١) ، ثمّ قوله تعالى: ( وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلّا لاَِجَلٍ مَعْدُودٍ ) (٢) . إلى قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ) (٣) . وعقّب بعد ذلك بشرح حال أصحاب النّار، وأصحاب الجنّة، فظهر من ذلك باطل ما يفترون وزيف ما يبالغون!

حداد الملائكة على موت أحمد

أنكروا أشدّ الإنكار منقبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي هتاف جبرئيل يوم أحد، وذلك لما قتل عليّ عليه‌السلام أصحاب الألوية وصناديد المشركين، فسمعوا هاتفاً يقول:

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ عليّ (٤)

إلاّ أنّ ابن تيميّة الذي وظّف قلمه وجعله وقفاً على إنكار الحقّ وقلب الحقائق، وناضل مستميتاً لإنكار وتكذيب ما لأمير المؤمنين عليه‌السلام من الفضائل، قد عمد إلى هذه الفضيلة فقال فيها: «كذب مفترى» (٥) ! وهم مثلما كذبوا حينما كذّبوا حديث ردّ الشّمس أو حبسها، وجعلوا ذلك من مفتريات الرّوافض ولم يقولوا: إنّه من مفتريات المسلمين حنبليّهم ومالكيّهم وحنفيّهم وشافعيّهم، وصحابيّهم وتابعيّهم، وأمّهات المؤمنين؛ قد ذكروا لرجال فضائل تضاهي الشّمس في علاها، وردّها وتكوير سناها! معيارهم في ذلك أحلام ومنامات يروونها على لسان رجل مجهول أو امرأة نكرة؛ بيد أنّهم رفضوا حديث الهتاف

____________________

(١) هود: ١٠٣.

(٢) نفس المصدر ١٠٤.

(٣) نفس المصدر ١٠٥.

(٤) السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣: ١٠٦؛ تاريخ الطبريّ ٢: ١٩٧؛ الروض الأنف ٢: ١٤٣؛ شرح نهج البلاغة للمعتزليّ ١: ٩، ونفس المصدر عن أحمد بن حنبل عن ابن عباس ٢: ٢٣٦؛ المناقب للخوارزميّ: ١٠٤؛ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ: ٥٥ - ٥٦؛ التذكرة لسبط بن الجوزيّ: ١٦؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ١٩٧؛ كفاية الطّالب للگنجيّ الشافعيّ: ٢٧٧؛ ذخائر العقبى: ٧٤؛ الرياض النضرة ٢: ١٩٠؛ المستدرك على الصحيحين ٢: ٣٨٥؛ سنن البيهقيّ ٣: ٢٧٦؛ لسان الميزان ٤: ٤٠٦؛ ميزان الاعتدال ٣: ٣٢٤....

(٥) علم الحديث لابن تيميّة ٥٠٣.

١٣٣

يوم أحد - على اشتهاره في كتب التاريخ والحديث عند المذاهب جميعاً، إلاّ مذهب ابن تيميّة ومن نعق معه - وارتضوا أنّ الملائكة قد أقامت مجلس عزاء في السماوات العلى يوم مات أحمد بن حنبل! قال ابن الجوزيّ: «بلغني عن بعض السّلف القدماء، قال: كانت عندنا عجوز من المتعبّدات قد خلت بالعبادة خمسين سنة، فأصبحت ذات يوم مذعورة، فقالت: جاءني بعض الجنّ في منامي فقال: إنّي قرينك من الجنّ، وإنّ الجنّ استرقت السّمع بتعزية الملائكة بعضها بعضا بموت رجل صالح يقال له أحمد بن حنبل، وتربته في موضع كذا، وإنّ الله يغفر لمن جاوره، فغن استطعت أن تجاوريه في وقت وفاتك فافعلي، فإنّي لك ناصح، وإنّك ميّتة بعده بليلة. فماتت كذلك، فعلمنا أنّه منام حقّ» (١) .

والسؤال: من أين علمت الجنّ بيوم وفاة هذه العجوز الصّالحة؟! وكان من بركة هذا الجوار: غرق قبرها بفيض المطر، إذ ذكروا في حوادث سنة ٧٢٥: ومن الآيات أنّ مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الذي فيه ضريحه؛ فإنّ الماء دخل في الدّهليز علوّ ذراع ووقف بإذن الله، وبقيت البواري عليها غبار حول القبر. صحّ هذا عندنا. (٢)

الشّهداء يشيّعون أحمد

وكما أقامت الملائكة مجالس العزاء على موت أحمد، فإن الشّهداء أيضا قد تشرّفوا بتشييع أحمد! قال ابن مجمّع بن مسلم: كان لناجار قتل بقزوين، فلمّا كان اللّيلة الّتي مات فيها أحمد بن حنبل خرج إلينا أخوه [أي أخو الجار المقتول] في صبيحتها، فقال: إنّي رأيت رؤيا عجيبة: رأيت أخي اللّيلة في أحسن صورة راكباً على فرس، فقلت له: يا أخي أليس قد قتلت؟ فما جاء بك؟! قال: إنّ الله أمر الشّهداء وأهل السماوات أن يحضروا جنازة أحمد بن حنبل، وكنت فيمن أمر بالحضور. فأرّخنا تلك الليلة، فإذا أحمد بن حنبل مات فيها. (٣)

____________________

(١) مناقب أحمد: ٤٨٣.

(٢) شذرات الذهب ٦: ٦٦؛ مرآة الجنان ٤: ٢٧٣.

(٣) تهذيب الكمال: المزيّ ١: ٤٦٨.

١٣٤

زلزلة عبّادان بموت أحمد

قال أبوبكر النّجاحيّ: لما كان في تلك الغداة الّتي ضرب فيها أحمد بن حنبل - من قبل المعتصم - زلزلنا ونحن بعبّادان» (١) !

وقد ذكروا في كتب السّيرة أنّه لما مات إبراهيم ابن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كسفت الشّمس، فقال النّاس في ذلك شيئاً، فأوضح النبيّ لهم أنّ الشّمس والقمر من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، والأرض من آيات الله، فلم الزلزلة لما ضرب أحمد؟!

الجنّ تقيم مآتم الحزن على أحمد

شارك صالحو الجنّ الطبيعة اضطرابها، والملائكة حزنها على أحمد! قال صالح بن أحمد بن حنبل: كان أهلنا يذكرون أنّهم يسمعون رنّة لا تشبه رنّة الإنس من دار أبي عبد الله - أحمد - إذا هدأت العيون، بعد وفاته بأربعين صباحاً. (٢)

وقال أحمد بن محمّد الخلاّل: حدّثني أحمد بن محمّد بن محمود، قال: كنت في البحر مقبلاً من ناحية السّند، فقمت في اللّيل فإذا هاتف من ناحية البحر يقول: مات العبد الصالح أحمد بن حنبل! فقلت لبعض من كان معنا: من هذا؟ فقال: هذا من صالحي الجنّ. ومات أحمد تلك الليلة وقال أبو زرعة: كان يقال عندنا بخراسان إنّ الجنّ نعت أحمد بن حنبل قبل موته بأربعين صباحاً! (٣)

أحمد ملك أهل الجنّة

بلغ من علوّ شأن أحمد وخطر منزلته أنّ الله تعالى يقرّبه إلى نفسه ويضع بيده تاج الوفاء على رأسه! والخبر في ذلك يرد من طرق كثيرة من الحنابلة الأوفياء ممّن رأى أحمد في النّوم على تلك الحال! من ذلك: قال زكريّا بن يحيى السّمسار: رأيت أحمد بن حنبل

____________________

(١) تهذيب الكمال: المزيّ ١: ٤٦١.

(٢) مناقب أحمد بن حنبل ٤٢٢.

(٣) نفس المصدر ٤٢١. ولكن كيف علمت الجنّ علم ما هو آتٍ؟!

١٣٥

في المنام على رأسه تاج مرصّع بالجوهر، في رجليه نعلان وهو يخطر بهما. فقلت: أبا عبد الله ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وأدناني من نفسه، وتوّجني بيدهبهذا التّاج. وقال لي: هذا بقولك: القرآن كلام الله غير مخلوق، قلت: فما هذه الخطرة الّتي لم أعرفها لك في دار الدّنيا؟ قال: هذه مشية الخدّام في دار السّلام (١) !

أحمد قسيم الجنّة

قال عليّ بن الموفّق: «رأيت كأنّي أدخلت الجنّة، فإذا أنا بثلاثة نفر: رجل قاعد على مائدة قد وكّل الله به ملكين، فملك يطعمه وملك يسقيه. وآخر واقف على باب الجنّة ينظر إلى وجوه قوم فيدخلهم الجنّة. وآخر واقف في وسط الجنّة، شاخص ببصره إلى العرش ينظر إلى الرّب. فجئت إلى رضوان، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أما الأوّل فبشر الحافي وأمّا الواقف في وسط الجنّة فمعروف الكرخيّ وأمّا الواقف على باب الجنّة فأحمد بن حنبل قد أمره الجبّار أن ينظر إلى وجوه أهل السّنّة، فيأخذ بأيديهم فيدخلهم الجنّة» (٢) !

وفي رؤيا عبد الرحمن بن يونس: إنّ الله تعالى أعطاه - أحمد - جنّة عدن لا يدخلها إلاّ من أحبّه. (٣)

غضب جهنّم لمعاقبة أحمد

وكما مادت الأرض فزلزلت بأهل عبّادان يوم ضرب أحمد. كذلك غضبت جهنّم.

قال عثمان بن أحمد: حدّثني من أثق به أنّ امرأة رأوها في النّوم وقد شاب صدغها، فقيل لها ما هذا الشّيب؟ قالت: لما ضرب أحمد بن حنبل زفرت جهنّم زفرة لم يبق منّا أحد إلاّ شاب! (٤)

____________________

(١) مناقب أحمد: ٤٣٦.

(٢) نفس المصدر ٤٤٣.

(٣) نفس المصدر ٤٤٧.

(٤) نفس المصدر ٤٧١.

١٣٦

الملائكة تعتذر من أحمد

وأحمد مستثنى من سنّة الله تعالى في سؤال الملكين الكريمين للميّت في القبر. ذكر ابن الجوزيّ في ذلك: عن عبد الله بن أحمد، يقول: رأيت أبي في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: جاءك منكر ونكير؟ قال: نعم، قالا لي: من ربّك؟ قلت سبحان الله! أما تستحيان منّي؟! فقالا لي: يا أبا عبد الله أعذرنا! بهذا أمرنا (١) .

ألا يعلم أحمد أنّهما مأموران من الله جلّ شأنه؟! وأنّ سؤال القبر حقّ لا يستثنى منه أحد؟! ولم يعتذر الملكلان من وظيفتهما الّتي أمرهما الله تعالى بها؟! وهل في غير الدنيا ألقاب وكنى، وإنّما بعدها الاسم والعمل وحسب؟!

بركة قلم أحمد

كنّا نقرأ في الأحاديث الشريفة أنّ «مداد العلماء أفضل من دماء الشّهداء». ونفيد من ذلك أنّ نفحات العلماء العاملين الصّادقين، منار هداية للأمّة.. أمّا أن يتحوّل قلم العالم ذاته إلى وسيلة تلقيح فهو بعيد يصعب تصديقه. ولو فرض علينا ذلك فبشرط تصديق حديث ردّ الشّمس! قال أبو طالب عليّ بن أحمد: دخلت يوماً على أبي عبد الله - أي أحمد بن حنبل - وهويملي وأنا أكتب، فاندقّ قلمي، فأخذ قلماً فأعطانيه، فجئت بالقلم إلى أبي عليّ الجعفريّ، فقلت: هذا قلم أبي عبد الله أعطانيه. فقال لغلامه: خذ القلم فضعه في النّخلة عسى تحمل. فوضعه فيها فحملت! (٢)

ملك البحر يبعث سلامه إلى أحمد

وجد ملك البحر في مصيبة هنديّ فرصة له ليبلّغ سلامه إلى أحمد بن حنبل. عن أبي حفص القاضي، قال: قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من بحر الهند، فقال: إنّي

____________________

(١) مناقب أحمد ٤٥٤.

(٢) نفس المصدر ٢٩٦.

١٣٧

رجل من بحر الهند خرجت أريد الصّين فأصيب مركب، فأتاني راكبان على موجة من أمواج البحر، فقال لي أحدهما: أتحبّ أن يخلّصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل منّا السّلام؟ قلت: ومن أحمد؟ ومن أنتما؟ قال: أنا إلياس وهذا الملك الموكّل بجزائر البحر، وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم. فنفضني البحر نفضةً، فإذا أنا بساحل الأبلّة، فقد جئتك أبلّغك منهما السّلام (١) !

رسالة الله تعالى إلى أحمد

وليس بدعاً أن يبعث ملك البحر سلامه إلى أحمد، والله تعالى يكاتبه برقّ مسطور! قالوا: مرض بشر بن الحارث - الحافي - وعادته آمنة الرّمليّة، فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل يعوده كذلك، فنظر إلى آمنة وقال لبشر: اسألها تدعو لنا. فقال لها بشر: ادعي الله لنا. فقالت: اللّهمّ إنّ بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النّار فأجرهما يا أرحم الرّاحمين. قال الإمام أحمد رضى الله عنه: فلمّا كان من اللّيل طرحت إليّ رقعة من الهواء مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرّحيم، قد فعلنا ذلك، ولدينا مزيد! (٢)

لسنا ننكر لأحمد علمه وفضله، وإنّما ننكر على هؤلاء حشدهم الأفائك الّتي يرفضها أحمد ولا تسيء إلاّ إلى قائلها. ولقد ذكروا من عظيم المفاخر ومن جنس ما سلف، لمن هو دون أحمد منزلة وأقلّ خطراً؛ فعن أحمد بن الحكم الصاغانيّ، قال: جاء رجل إلى ابن حميد. قال: إنّي اغتبت أسود بن سالم، فأتيت في منامي فقيل لي: تغتاب وليّاً من أولياء الله لو ركب حائطاً ثمّ قال له: سر، لسار؟! (٣)

ولم يكن أسود هذا إلاّ من طبقة معروف الكرخيّ، وكلاهما لاحظّ لهما إلاّ ما ذكره الخطيب البغداديّ في نعتهما بالعبادة وحبّ الخير، وإطراء أحمد بن حنبل على معروف.

____________________

(١) مناقب أحمد: ١٤٣.

(٢) صفة الصفوة لابن الجوزيّ ٤: ٢٧٨.

(٣) تاريخ بغداد ٧: ٣٧. وأسود بن سالم، أبو محمّد، مات سنة ٢١٣. قال الخطيب البغداديّ: يذكر مع معروف الكرخيّ، لأنّه كان بينهما مؤاخاة ومودّة (نفس المصدر).

١٣٨

كرامات معروف الكرخيّ (١)

انّ لمعروف الكرخيّ من الكرامات ما لو ثبت صحّة بعضها كان حقيقاً أن يتبرّك به، وحقّ لابن القيّم أن يطريه!

كرامة ما أعظمها!

قال محمّد بن منصور (٢) : مضيت يوما إلى معروف الكرخيّ، ثمّ عدت إليه من غد، فرأيت في وجهه أثر شجّة، فهبت أن أسأله عنها، وكان عنده رجل أجرأ عليه منّي، فقال له: يا أبا محمّد كنّا عندك البارحة ومعنا محمّد بن منصور فلم نر في وجهك هذا الأثر! فقال: مضيت البارحة إلى بيت الله الحرام، ثمّ صرت إلى زمزم فشربت منها، فزلّت رجلي فبطح

____________________

(١) في تاريخ بغداد ١٣: ١٩٩: معروف بن الفيرزان، ابو محفوظ العابد المعروف بالكرخيّ. منسوب إلى كرخ بغداد. كان أحد المشتهرين بالزّهد والعزوف عن الدنيا، يغشاه الصّالحون ويتبرّك بلقائه العارفون. وكان يوصف بأنّه مجاب الدّعوة، ويحكى عنه كرامات. وفي ص ٢٠٠: قال إدريس بن عبد الكريم: هو معروف بن الفيرزان وبيني وبينه قرابة، وكان أبوه صابئاً من أهل نهربان من قرى واسط. جاء يحيى بن  معين وأحمد بن حنبل يكتبان عنه. وقال عبد العزيز بن منصور: سمعت جدّي يقول: كنت عند أحمد بن حنبل فذكر في مجلسه أمر معروف الكرخيّ، فقال بعض: هو قصير العلم. فقال أحمد: أمسك عافاك الله! وهل يراد من العلم إلاّ ما وصل إليه معروف؟! مات معروف سنة ٢٠٤.

(٢) في تاريخ بغداد ٣: ٢٤٧: محمّد بن منصور بن داود بن إبراهيم، أبو جعفر العابد المعروف بالطّوسيّ سمع إسماعيل بن عليّة، وسفيان بن عيينة، وعفّان بن مسلم، ومات ببغداد سنة أربع وخمسين ومائتين. قال أبو بكر المروزيّ: سألت أحمد بن حنبل عن محمّد بن منصور الطّوسيّ، قال: لا أعلم إلاّ خيراً، صاحب صلاة. قلت له: كان يختلف معك إلى عفّان؟ قال: وقبل ذلك.

وقد عدّوا له كرامت منها: إنّ قوماً قالوا له: أيش اليوم عندك؟ قد شكّ النّاس فيه! فقال: اصبروا فدخل البيت ثمّ خرج، فقال: هو عندي يوم عرفة. فعدّوا الأيّام والليالي فكان كما قال. فسئل: من أينعلمت أنّهيوم عرفة؟ قال: دخلت البيت فسالت ربّي، فأراني النّاس في الموقف! (تاريخ بغداد ٣: ٢٤٩).

ومنها: إنّ الطّوسيّ قال: نازلت قوماً من أصحاب الفضيل بن عياض فيما يذكرونه من كرامة المؤمن على الله. فقلت عند ذكر الصالحين تنزل الرّحمة، فمطرنا في تلك السّاعة (نفس المصدر).

ومنها: إنّه قال: رأيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في النّوم، فقلت: مرني بشيء حتّى ألزمه. فقال: عليك باليقين (نفس المصدر ٣: ٢٥٠).

١٣٩

وجهي للباب، فهذا الذي ترى من ذلك. (١)

سفرجلة معروف الكرخيّ

في المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه إذا وضع أصابعه في طعام قوم وقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم، ودعا بالبركة، أكل القوم وشبعوا وفضل من الطّعام؛ وذلك ببركته وتوكيداً لنبوّته. إلاّ أنّ آثار أسنان معروف تصيّر اللّون الواحد من الطعام مائدة فيها كلّ ما لذّ وطاب! قال سعيد بن عثمان: كنّا عند محمّد بن منصور الطّوسيّ يوماً - وعنده جماعة من أصحاب الحديث، وجماعة من الزهّاد - فسمعته يقول: صمت يوماً وقلت: لا آكل إلاّ حلالاً. فمضى يومي ولم أجد شيئاً فواصلت اليوم الثاني، والثالث، والرابع، حتّى إذا كان عند الفطر قلت: لأجعلنّ فطري اللّيلة عند من يزكّي الله طعامه. فصرت إلى معروف الكرخيّ، فسلّمت عليه وقعدت، حتّى صلّى المغرب وخرج من كان معه في المسجد، فما بقي إلاّ أنا وهو ورجل آخر، فالتفت إليّ، فقال: يا طوسيّ! قلت: لبّيك، فقال لي: تحوّل إلى أخيك فتعشّ معه. فقلت في نفسي: صمت أربعة وأفطر على ما لا أعلم! فقلت: ما بي من عشاء. فسكت عنّي ساعة، ثمّ قال لي: تقدّم إليّ. فتحاملت، وما بي - من شدّة الضّعف - من تحامل، فقعدت عن يساره. فأخذ كفّي اليمنى، فأدخلها إلى كمّه الأيسر، فأخذتُ من كمّه سفرجلةً معضوضة، فأكلتها فوجدت فيها طعم كلّ طعام طيّب، واستغنيت بها عن الماء.

قال: فسأله رجل معنا: حاضراً أنت يا أبا جعفر؟ قال: نعم، وأزيدك أنّي ما أكلت منذ ذلك حلواً ولا غيره إلاّ أصبت فيه طعم تلك السفرجلة. (٢)

____________________

(١) تاريخ بغداد ١٣: ٢٠٢.

(٢) نفس المصدر ١٣: ٢٠١ - ٢٠٢ و ٣: ٢٤٨ - ٢٤٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413