منهاج السالكين

منهاج السالكين14%

منهاج السالكين مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 413

منهاج السالكين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142380 / تحميل: 6754
الحجم الحجم الحجم
منهاج السالكين

منهاج السالكين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فصل آخر في السؤال والبيان

إن سألك سائل فقال : ما أول نعمة الله تعالى عليك؟

فقل : خلقه إياي حيا لينفعني.

فإن قال : ولم زعمت أن خلقه إياكُ حياً أول النعم؟

فقل : لأنه خلقني لينفعني ، ولا طريق إلى نيل النفع إلا بالحياة التي يصح معها الإدراك.

فإن قال : ما النعمة؟

فقل : هي المنفعة إذا كان فاعلها قاصداً لها.

فإن قال : فما المنفعة؟

قل : هي اللذة الحسنة ، أو ما يؤدي إليها.

فإن قال : لم اشترطت أن تكون اللذة حسنة به(1) ؟

فقل : لأن من اللذات ما يكون قاتلاً ، فلا يكون حسنا.

فإن قال : لم قلت : أو ما يؤدي إليها؟

فقل : لأن كثيراً من المنافع لا يتوصل إليها إلاّ بالمشاق ، كشرب الدواء الكريه ، والفصد ، ونحو ذلك من الاُمور المؤدية إلى السلامة واللذات ، فتكون. هذه المشاق منافع لما تؤدي إليه في عاقبة الحال.

ولذلك قلنا : إن التكليف نعمة حسنة ، لأن به ينال مستحق النعيم الدائم واللذات.

فإن قال : فما كمال نعم اللّه تعالى؟

فقل : إن نعمه تتجدد علينا في كل حال ، ولايستطاع لها الإحصاء.

فإن قال : فما تقولون في شكر المنعم؟

فقل : هو واجب.

فإن قال : فمن أين عرفت وجوبه؟

__________________

1 ـ ليست في المصدر ، والظاهر أنها زائدة.

٤١

فقل : من العقل وشهادته ، وأوضخ(1) حجته ودلالته ، ووجوب شكر المنعم على نعمته ، مما تتفق العقول عليه ولا تختلف فيه.

فإن قال : فما الشكر اللازم على النعمة؟

فقل : هو الاعتراف بها ، مع تعظيم منعمها.

فإن قال : فهل أحد من الخلق يكافىء نعم اللّه تعالى بشكر ، أو يوفي حقها بعمل؟

فقل : لايستطيع ذلك أحد من العباد ، من قبل أن الشيء إنما يكون كفواً لغيره ، إذا سد مسده ، وناب منابه ، وقابله في قدره ، وماثله في وزنه.

وقد علمنا أنه ليس من أفعال الخلق ما يسد مسد نعم اللّه عليهم ، لاستحالة الوصف للّه تعالى بالإنتفاع ، أو تعلق الحوائج به إلى المجازاة.

وفساد مقال من زعم أن الخلق يحيطون علماً بغاية الانعام من اللّه تعالى عليهم والافضال ، فيتمكنون من مقابلتها بالشكر على الاستيفاء للواجب والاتمام.

فنعلم بهذا تقصير العباد عن مكافاة نعم اللّه تعالى عليهم ، ولو بذلوا في الشكر والطاعات غاية المستطاع ، وحصل ثوابهم في الاخرة تفضلاً من اللّه تعالى عليهم وإحساناً إليهم ، وإنما سميناه استحقاقاً في بعض الكلام ، لأنه وعد به على الطاعات ، وهو الموجب له على نفسه بصادق وعده ، وإن لم يتنأول شرط الاستحقاق على الأعمال ، وهذا خلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، إلاّ أبوالقاسم البلخي فإنه يوافق في هذا المقال ، وقد تناصرت به مع قيام الأدلة العقلية عليه الأخبار.

روى أبوعبيدة الحذاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال الله تعالى : لايتكل العاملون على أعمالهم التي يعطونها لثوابي ، فإنهم لواجتهدوا واتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين غير بالغين [ في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون ](2) من كرامتي ، والنعيم في جناتي ، و(3) رفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا فإن

__________________

1 ـ في الكنز : وواضح.

2 ـ ما بين المعقوفبن أثتناه من الكنز.

3 ـ في الأصل : من ، وما أثبتناه من الكنز.

٤٢

رحمتي عند ذلك تدركهم ، وبمنّي ابلغهم رضوان [ ومغفرتي وألبسهم عفوي ](1) » وبعفوي اُدخلهم جنتي ، فإني أنا اللّه الرحمن الرحيم ، بذلك تسميت ».

وعن عطا بن يسار ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : « يوقف العبد ، بين يدي اللّه ، فيقول لملائكته : قيسوا بين نعمي عليه وبين عمله. فتستغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشر منه ، فإن استوى العملان أذهب اللّه الشر بالخير وأدخله الجنة ، وإن كان له فضل أعطاه اللّه بفضله ، وإن كان عليه فضل ـ وهو من أهل التقوى ، ولم يشرك باللّه تعالى ـ فهو من أهل المغفرة ، يغفر اللّه له برحمته إن(2) شاء ويتفضل عليه بعفوه ».

وعن سعد(3) بن خلف ، عن أبي الحسنعليه‌السلام أنه قال له : « عليك بالجد والاجتهاد في طاعة اللّه ، ولا تخرج نفسك من حد التقصيرفي عبادة اللّه وطاعته ، فإن الله تعالى لايعبد حق عبادته ».

* * *

__________________

1 ـ أثبثناه من الكنز.

2 ـ في الاصل : لمن وما اثبتناه من الكنز.

3 ـ في الاصل : سعيد ، وما أثبتناه من الكنز ومعاجم الرجال هو الصواب ، فقد عده الشيخ فيرجاله من أصحاب الكاظمعليه‌السلام ، وقال : واقفي ، أُنظر « رجال الشيخ : 350 رقم 2 ، تنقيح المقال 2 : 12 ، معجم رجال الحديث 8 : 5025 / 58 ».

٤٣

كتاب

( البرهان على ثبوت الايمان )

لأبي الصلاح التقي بن نجم بن عبيدالله الحلبي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين ، وصلواته على خيرة النبيين محمد وآله الطاهرين وسلم وكرم.

أول فعل مقصود يجب على العاقل ، مما لايخلو منه عنك(1) كمال عقله ، من وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة ، لأن الحي عند كمال عقله يجد عليه آثارَ نفع ، من كونه حياً سميعاً بصيراً عاقلا مميزاً قادراً متمكناً ، مدركاً للمدركات منتفعاً بها ، ويجوز أن يكون ذلك نعمة لمنعم.

ويعلم أنها إن كانت كذلك ، فهي أعظم نعمة لانغمار كل نعمة في جنبها ، ويجد في عقله وجوب شكر المنعم ، واستحقاق المدح على فعل الواجب والذم على الإخلال به ، ويجوز أن يستحق من موجده والمنعم عليه مع المدح ثواباَ ومع الذم عقاباً ، ويجد في عقله وجوب التحرز من الضرر اليسير وتحصيل النفع العظيم.

فتجب عليه معرفة من خلقه والنفع له ، ليعلم قصده فيشكره ان كان منعماً ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظر في آثارصنعته لوقوعها بحسبها ، ولوكانت لها سبب غيره ، لجاز حصول جميعها لمن لم ينظر وانتفاؤها عن الناظر ، فوجب فعله لوجوب ما لايتم الواجب إلا به.

والواجب من المعرفة شيئان : توحيد وعدل ، وللتوحيد إثبات ونفي.

فالاثبات : اثبات صانع للعالم ـ سبحانه ـ قادر ، عالم ، حي ، قديم ، مدرك ، مريد.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : عند.

٤٤

والنفي : نفي صفة زائدة على هذه الصفات ، ونفي التشبيه ، ونفي ألادراك عنه ـ تعالى ـ بشيء من الحواس ، ونفي الحاجة ، ونفي قديم ثان شارك في استحقاق هذهالصفات.

والعدل : تنزيه أفعاله عن القبيح ، والحكم لها بالحسن.

* * *

٤٥

فصل

« في الكلام في التوحيد »

طريق العلم باثبات الصانع ـ سبحانه ـ أن يعلم الناظر : أن هاهنا حوادث يستحيل حدوثها عن غير محدث.

وجهة ذلك : أن يعلم نفسه وغيره من الأجسام ، متحركاً ساكناً ، ثم مجتمعاً مفترقآَ ، أوضحه ذلك.

فيعلم بتغاير هذه الصفات على الأجسام ، أنها أعيان لها ، لأنها لو كانت صفات لذواتها ، لم يجز تغيرها.

ويعلم بتجددها عن عدم ، وبطلانها عن وجود ، أنها محدثة ، لاستحالة الإنتقال عليها ، من حيث لم تقم بأنفسها ، والكمون المعقول راجع به إلى الانتقال.

فإذا علم استحالة ذلك على هذه الصفات ، علم أن المتجدد منها إنما يجدد عن عدم ، وهذه حقيقة المحدث والمنتفي ، وأن ما انتفى عن الوجود والعدم يستحيل على القديم لوجوب وجوده ، وما ليس بقديم محدث.

فإذا علم حدوث هذه المعاني المغايرة للجسم ، وعلم أنه لابد في الوجود من مكان يختصه مجأوراً لغيره أو مبايناً ، وقتا واحداً أو وقتين ، لابثا فيه أو منتقلاً عنه ـ وقدتقدم له العلم : انه إنما كان كذلك لمعان غيره محدثة علم أنه محدث ، لأنه لو كان قديماً لوجب أن يكون سابقا للحوادث بما لانهاية له.

فإذا علم أنه لاينفك من الحوادث ، علم كونه محدثا ، لعلمه ضرورة بحدوث مالم يسبق المحدث ، ولأنه إذا فكرفي نفسه ـ وغيرها ـ فوجدها كانت نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم جنيناً ، ثم حيا ، ثم طفلاً ، ثم يافعا ، ثم صبيا ، ثم غلاما ، ثم بالغاً ، ثمشاباً قوياً ، ثم شيخاً ضعيفاً ، ثم ميتاَ.

وأنه لم يكن كذلك إلا بتجدد معان فيه : حرارات ، وبرودات ، ورطوبات ، ويبوسات ، وطعوم ، وألوان ، وأراييح مخصوصة ، وقدر ، وعلوم ، وحياة.

وعلم بطلان كل صفة من هذه الاغيار بعد وجود ، وتجددها عن عدم ، والجواهر التي تركب منها الجسم باقية ، علم أنها صفات مغايرة لها وأنها محدثه ، لاستحالة الكون

٤٦

والانتقال عليها بما قدمناه.

وإذا علم حدوث جواهره ـ وغيره من الجواهر ـ بالاعتبار الأول ، وصفاته بهذه وصفات غيره بالاعتبار الثاني ، ولأنها لا تنفك من المحل المحدث.

وعلم أن في الشاهد حوادث ـ كالبناء والكتابة ـ وأن لها كاتباً وبانياً ، هو من وقعت منه بحسب غيرها ، وانما ذلك مختص بما يجوز حصوله وانتفاؤه ، فلا يحصل إلا بمقتض.

فأما ما وجب فمستغن بوجوبه عن مؤثر منفصل عن الذات ، كتحيز الجوهر ، وحكم السواد.

ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات ، لوجوب الوجود له تعالى في حق كونه قديماً لنفسه ، يجب له وجوده تعالى في كل حال ، وكونها صفات نفسه يجب ثبوتها للموصوف ويستحيل خروجه عنها كل ما وجد ، لكون المقتضي ثانيا(1) وهو النفس ، واستحالة حصول المقتضي وانتفاء مقتضاه.

وبعلمه سبحانه مدركاً إذا وجدت المدركات ، لكونه تعالى يستحيل فيه الآفات والموانع ، بدليل حصول هذا الحكم لكل حي لا آفة به متى وجد المدرك ، وارتفعت الموانع.

وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه وفي حال دون اخرى ، وذلك مفتقر إلى أمر زائد على كون الحي قادراً عالما ، لكونه صفة للفعل زائدة على مجرد الحدوث والاحكام ، وارادته فعله إذ كونه مريداً لنفسه ، أو معنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما ، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه.

والمحدَث لا يقدرعلى فعل الإرادة في غيره ، وقديم ثان نرد(2) برهان نفيه ، فثبت سبحانه مريداً بإرادة يفعلها إلا(3) في محل لاستحالة حلولها فيه أو في غيره ، ولا صفة له سبحانه زائدة على ما علمناه ، لأنه لاحكم لهما ولا برهان بثبوتهما ، واثبات مالا حكم له ولا برهان عليه مفض إلى الجهالات.

وبعلمه سبحانه لايشبه شيئاَ من الأجسام والاعراض ، لقدمه تعالى وحدوث

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ثابتاً.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : مرّ.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : لا.

٤٧

هذه الأجناس ، لتعذر هذه الأجناس على غيره.

وإذا علمه تعالى فكذلك علم استحالة ادراكه بشيء من الحواس ، لأن الادراك المعقول مختص بالمحدثات.

وعلم كذلك استحالة الاختصاص بالجهات والنقل فيها والمجاوزة والحلول وايجاب الاحكام والاحوال عليه سبحانه ، لكون ذلك من صفات الأجسام والأعراض المباينة له تعالى.

وبعلمه(1) عنها يستحيل عليه الحاجة لاختصاصها باجتلاب النفع ودفع الضرر واختصاص النفع والضر بمن يصح أن يألم ويكد(2) ، واختصاص اللذة والألم بذي شهوة ونفار ، وكونهما معنيين يفتقران إلى فعل ، وذلك لايجوز عليه لحدوث المحل وقدومه(3) سبحانه ، ولخلو الفعل من دليل على اثباته مسهيا(4) أو نافراً.

وإذا علم تخصصه تعالى بهذه الصفات من سائر الموجودات ، علمه(5) تعالى واحدا ، لانهما لوكانا اثنين لوجب اشتراكهما في جميع الصفات الواجبة والجائزة ، وذلك يوجب كون مقدورهما ومرادهما واحداً ، مع حصول العلم الضروري بصحة إرادة أحد المتحيزين ما يكره الاخر أو لا يريده ولا يكرهه ، وقيام البرهان على استحالة تعلق مقدور واحد بقادرين ، وتقديرقديم ثان يقتضي نقض هذا المعلوم.

فثبت أنه تعالى واحدا لا ثاني له ، ولانه لا دليل من جهة العقل على إثبات ثان ، وقد ورد السمع المقطوع بإضافته إليه سبحانه بنفي قديم ثان ، فوجب له القطع على كونه واحد.

* * *

__________________

1 ـ كذا ، ولعل الصواب : وبغناه.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ويلذ.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وقدمه.

4 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : مشتهياً.

5 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : علم.

٤٨

 « فصل في مسائل العدل »

ثبوت ما بيناه من كونه تعالى عالماً لايصح أن يجهل شيئاً ، غنياً لا يصح أن يحتاج إلى شيء ، يقتضي كونه سبحانه عادلاً لايخل بواجب في حكمته سبحانه ولا يفعل قبيحاً ، لقبح ذلك وتعذر وقوع القبيح من العالم به وبالغني(1) عنه ، وذلك فرع لكونه قادراً على القبيح.

وكونه تعالى قادرا لنفسه ، يقتضي كونه قادرا على الحسن ، يقتضي كونه قادرا على القييح ، اذ كان الحسن من جنس القبيح ، وذلك مانع من كونه مريدا للقبيح ، لأناقد بينا أنه لا يكون مريداً إلا بإرادة يفعلها ، وإرادة القبيح قبيحة ، لأن كل من علم مريداً للقبيح علم قبح إرادته واستحقاقه الذم ، ومقتض لكونه مريدا لما فعله ـ تعالى ـ وكلَّفه ، لاستحالة فعله مالا غرض فيه ، وتكليفه مالا يريده ، وكارهاَ للقبيح لكونه غيرمريد له (وفساد حلوما كلفه)(2) ، واحسانه من الارادة والكرامة ، لأن ذلك يلحقه بالمباح ، وموجب لكون المكلف قادراً على ما كلفه ـ فعلاً وتركاً ـ من متماثل الأجناس ومختلفها ومضادها قبل وقوع ذلك ، ومزيح لعلته بالتمكين من ذلك والعلم به واللطف فيه ، ومقتض لحسن أفعاله وتكاليفه ، لأن خلاف ذلك ينقض كونه عادلاً وقد أثبتناه.

ولا يعلم كون كل مكلم(3) قادراً لصحة الفعل منه ، ومتعلقا بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، لصحة وقوع ذلك من كل قادر.

وفاعلاً لوجوب وقوع التأثيرات المتعلقة به من الكتابة والبناء وغيرهما بحسب أحواله ، ولتوجيه المدح إليه على حسنها والذم على قبحها ، وثبوت القادر على الفعل قبل وقوعه ، لثبوت حاجة المقدور في حال عدمه إلى حال القادر ، واستغنائه في حال وجوده عنها كحال بقائه ، ومتمكناً بالايات(4) من جميع ما يفتقر إليها ، وبكمال العقل من العلم بذوات الأشياء واحكامها ، وبالنظر من العلوم المكتسبة ، بدليل حصول الأول

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : والغني.

2 ـ كذا في الأصل.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : مكلف.

4 ـ كذا ، ولعل الصواب : بالآلات.

٤٩

لكل عاقل ، والثاني لكل ناظر ، ووجوب اصطلاح المريد من غيره ما يعلم أو يظن كونه مؤثراً في اختياره ، ولوجوب تمكينه.

وعلمنا بأنّه تعالى لايخل بواجب في حكمته ، وظهور الغرض الحكمي في أكثرها أوجده سبحانه على جهة التفضل ، وثبوت ذلك على الجملة فيما لايظهر لنا تفصيل المراد به كأفعال سائر الحكماء.

وحسن التكليف لكونه تعريضا لما لايوصل إليه إلا به من الثواب.

وكون التعريض للشيء في حكم ايصاله من حسن وقبح ، لأنه لا حسبة له بحسن التكليف غيره ، وعلمه سبحانه بكفر المكلف أو فسقه لا يقتضي قبح تكليفه ، لكونه تعالى مزيحاً لعلته ومحسنا إليه كإحسانه إلى من علم من حاله انه يؤمن ، اُتي من قبل نفسه فالتبعة عليه دون مكلفه سبحانه.

وحسن جميع ما فعله تعالى من الالام أو فعل بأمره أو إباحته ، لما فيه من الاعتبار المخرج له من العيب ، والعوض الزائد المخرج له عن قبيل الظلم والاساءة ، إلى حيز العدل والاحسان.

ووجوب الانتصاف للمظلوم من الظالم ، لوقوع الظلم عن تمكينه تعالى ، وانكان كارها له تعالى.

ووجوب الرئاسة ، لكون المكلف عندها أقرب من الصلاح ، وأبعد من الفساد.

ووجوب ماله هذه الصفة لكونه لطفاً ، ووقوف هذا اللطف على رئيس لا رئيس له ، لفساد القول بوجود ما لا نهاية له من الرؤساء ، ومنع الواجب في حكمته تعالى.

ولا يكون كذلك إلاّ بكونه معصوما ، كون الرئيس أفضل الرعية وأعلمها لكونه إماما لها في ذلك ، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه.

ووجوب نصبه بالمعجزات والنص المشير.(1) إليه ، لوجوب كونه على صفات لا سبيل إليها إلاّ ببيان علام الغيوب سبحانه.

وهذه الرئاسة قد تكون نبوة ، وقد تكون إمامة ليست بنبوة.

فالنبي هو المؤدي عن اللّه سبحانه بغير واسطة من البشر ، والغرض في تعينه بيان

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المشير.

٥٠

المصالح من المفاسد.

والدلالة على حسن البعثة لذلك قيام البرهان على وجوب بيان المصالح والمفاسد للمكلّف في حق المكلّف ، فلا بد متى علم سبحانه ماله هذه الصفة من بعثه مبيناً له ، ولابد من الموت(1) المبعوث معصوماً فيما يرد به من حيث كان الغرض في تعينه ليعلم المكلف المصالح والمفاسد من جهته ، فلو جاز عليه الخطأ فيما يؤديه لارتفعت الثقة بادائه ، وقبح العمل بأوامره واجتناب نواهيه.

ولابد من كونه معصوماً من القبائح ، لوجوب تعظيمه على الإطلاق وقبح ذمه ، والحكم بكفر المستخف خيط به مع وجوب ذم فاعل القبيح.

ولا يعلم صدقه إلا بالعجز ، ويفتقر إلى شروط ثلا ثة :

أولها : أن يكون خارقاً للعادة ، لأنه إن كان معتاداً ـ وإن تعذر جنسه ـ كخلق الولد عند الوطء ، وطلوع الشمس من المشرق ، والمطر في زمان مخصوص ، لم يقف على مدع من مدع.

وطريق العلم بكونه خارقاً للعادة ، اعتبار حكمها وما يقع فيها ويميزه من ذلك على وجه لا لبس فيه ، أو بحصول تحد وتوفر دواعي المتحدي وخلوصا(2) وتعذر معارضته.

وثانيها : أن يكون من فعله تعالى ، لأن من عداه سبحانه يصح منه ايثار القبيح فلا يؤمن منه تصديق الكذاب ، وطريق العلم بكونه من فعله تعالى ، أن يكون متعدد الجنس كالجواهر والحياة وغيرهما من الأجناس الخارجة من مقدور المحدثين ، أو يقع بعض الاجناس المختصة بالعباد على وجه لايمكن إضافته إلا إليه سبحانه.

ثالثها : أن يكون مطابقاً للدعوى ، لأنه إن كان منفصلاً عنها لم يكن مدع أولى به من مدع ، وطريق ذلك المشاهدة أو خبرالصادق.

فتمى تكاملت هذه الشروط ثبت كونه معجزا ، إذ (لاصدق من)(3) اقترن ظهوره بدعواه لأنه جار مجرى قوله تعالى : صدق هذا عليَّ فيما يؤديه عني ، وهو تعالى لايصدق الكذابين.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كون.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : وخلوصه.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : لا أصدَقَ ممّن.

٥١

فإذا علم صدقه بالمعجز ، وجب اتباعه فيما يدعو إليه ، والقطع على كونه مصلحة ، وينهى(1) عنه والقطع بكونه مفسدة.

ولا طريق إلى نبوة أحد من الانبياءعليهم‌السلام الان ، إلا من جهة نبينا صلوات اللّه عليه وآله ، لانسداد طريق التواتر بشيء من معجزاتهم بنقل من عدا المسلمين لفقد العلم باتصال الأزمنة مشتملة على متواترين فيها بشيءٍ من المعجزات ، وتعذر تعين الناقلين لها.

وطريق العلم بنبوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القران وما عداه من الايات ، ووجه الاستدلال به ، أنه تحداهم به على وجه لم يبق لهم صارف عن معارضته ، فتعذرت على وجه لايمكن اسناده إلى غير عجزهم ، اما لأنه في نفسه معجز ، أو لأن اللّه سبحانه صرفهم عن معارضته ، اذ كل واحد من الأمرين دال على صدقه.

وقد تضمن القران ذكر أنبياء على جهة التفصيل والجملة ، فيجب لذلك ألتدين بنبوتهم ، وكونهم على الصفات التي يجب كون النبي عليها.

وان رسول اللّه صلوات اللّه عليه أفضلهم وخاتمهم والناسخ لشرائعهم ، بشريعة يجب العلم والعمل بها إلى يوم القيامة.

والامام هو الرئيس المتقدم المقتدى بقوله وفعله والغرض في نصبه فيه من اللطف للرعية في تكاليفهم العقلية ، ويجوز أن يكون نائبا عن نبي أو إمام في تبليغ شريعة.

ومتى كان كذلك فلابد من كونه عالما بجميعها ، لقبح تكليفه الاداء وتكليف الرجوع إليه ، مع فقد العلم بما يؤديه ويرجع إليه فيه.

ويجب أن يكون معصوما في ادائه ، لكونه قدوة ، ولتسكن النفوس إليه ، لتسلم بعظمة الواجب خلوصه من الإستخفاف.

ويجب أن يكون عابدا زاهداً لكونه قدوة فيهما ، وإن كان مكلفاً [ ب ](2) جهاد أوجب كونه أشجع الرعية لكونه فئة لهم.

ويجوز من طريق العقل أن يبعث اللّه سبحانه إلى كل واحد من المكلفين نبياً وينصب له رئيساً ويكون ذلك في الأزمنة ، وإنما ارتفع هذا ألجائز في شريعتنا ، بحصول

__________________

1 ـ لعل الصواب : وفيما ينهى.

2 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٢

العلم من دين نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن لا نيي بعده ، ولا إمام في الزمان الا واحد.

ووضح البرهان على تخصيص الإمامة بعده بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن صلوات اللّه عليهم.

لا إمامة لسواهم ، بدليل وجوب العصمة للأمام فيما يؤديه ومن(1) سائر الصالح(2) ، وكونه أعلم الخلق وأعظمهم وأعدلهم وأزهدهم وأشجعهم ، وتعدى(3) من عاداهم من منتحلي الإمامة من تكامل هذه الصفات دعوى ، وتخصصهمعليهم‌السلام وشيعتهم بدعواها لهم ، في ثبوت النص من الكتاب والسنة المعلومة على إمامتهم ، وتعريهما [ عن ](4) ذلك فيمن عداهم حسب ما ذكرناه في غير موضع ، وذلك مقتض لضلال المتقدم عليهم ، وكفر الشاك في إمامة واحد منهم.

وغيبة الحجةعليه‌السلام ليست بقادحة في إمامته ، لثبوتها بالبراهين التيلا شبهة فيها على متأمل ، وامان المكلف من خطأ به في ظهور فاستتار وغيرهما لعصمته.

ويلزم العلم بجملة الشريعة فعلاً وتركاً لكون ذلك جملة الايمان ، والعلم بتفصيل ما تعين فرضه منها وايقاعه للوجه الذي شرع على جهة القربة ، لكون ذلك شرطاً في صحته ، وبراءة الذمة منه ، واستحقاق الثواب عليه.

وهي على ضروب أربعة : فرائض ، ونوافل ، ومحرمات ، وأحكام.

فجهة وجوب الفرائض كون فعلها لطفاً في فعل الواجب العقلي. وترك القبيح ، وقبح تركها لأنه ترك الواجب.

وجهة الترغيب في السنن ، كونها لطفا في المندوب العقلي ولم يقبح تركها ، وكما لا يقبح ترك ماهي لطف فيه.

وجهه قبح المحرمات ، كونها مفسدة في ترك الواجب وفعل القبيح ، ووجب تركها لأنه ترك القبيح.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : من.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المصالح.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وتعرّي.

4 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٣

وجهة الأحكام ، ليعلم مكلفها الوجه الذي عليه يصح التصرف مما لايصبح.

فوضح ذلك علمنا ضرورة من حال فاعل العبادات الشرعية ومجتنب المحرمات كونه أقرب لنا ، للأنصاف والصدق وشكر النعمة وردّ الوديعة وسائر الواجبات ، والبعد من الظلم والكذب وسائر القبائح.

ومن حال فاعل المحرمات الشرعيات والمخل بالعبادات ، كونه أقرب [ من ](1) القبيح العقلي وابعد من الواجب.

ولا شبهة أن من بلي بالتجارة فلم يعلم أحكام البيوع ، لم يكن على يقين منصحة التملك.

وكذلك من بلي بالإرث مع جهله بأحكام المواريث ، لايكون على ثقة مما يأخذ ويترك.

وكذلك يجري الحال في سائر الأحكام ، وقد استوفينا الكلام في هذا القدح في مقدمة كتاب(2) « العمدة » و « التلخيص » في الفروع ، وفي كتابي « الكافي في التكليف » وفيما ذكرناه هاهنا بلغة ..

ولا طريق إلى اثبات الأحكام الشرعية والعمل بها إلا العلم دون الظن ، لكون التعبد بالشرائع مبنياً على المصالح التي لايوصل إليها بالظن ، ولا سبيل إلى العمل بجملتها إلا من جهة الأئمة المنصوبين لحفظها ، المعصومين في القيام بها ، المأمونين في ادائها ، لحصول العلم بذلك من دينهم لكل مخالط ، وارتفاع الخوف من كذبهم لثبوت عصمتهمعليهم‌السلام .

ولابد في هذه التكليف من داع وصارف ، وذلك مختص بالمستحق عليه من المدح والثواب والذم والعقاب والشكر.

فالمدح : هو القول المنبىء عن عظم حال الممدوح ، وهو مستحق بفعل الواجب والمندوب واجتناب القبيح.

والثواب : هوالنفع المستحق الواقع على جهة التعظيم والتبجيل ، وهو مستحق من الوجوه الثلاثة بشرط المشقة.

__________________

1 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كتابي.

٥٤

والذم : هوالقول المنبئ عن إيضاح حال المذموم ، وهو مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب.

والعقاب : هوالضرب المستحق من الوجهين بشرط زائد.

والشكر : هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ، وهومستحق بالإحسان خاصة.

والوجه في حسن التكليف ، كونه تعريضاً للثواب الذي من حقه ألا يحسن الابتداء به من دون العلم باستحقاق العقاب ودوامه.

وانما يعلم ان الثواب دائم والعقاب مستحق ودائم بالكفر ، ومنقطع بما دونه ، من جهة السمع.

والمستحق من الثواب ثابت لا يزيله شيء ، لأنه حق واجب في حكمته سبحانه ، لايجوز فيها منعه ، (والا سقوط بندم او زائد)(1) عقائد ، لاستحالة ذلك ، لعدم التنافي بين الثواب وبينهما لعدم الجميع ، وإحالة التنافي بين المعدومات.

وعقاب الفسق يجوز اسقاطه تفضلاً بعفو مبتدأ وعند الشفاعة لجوازه ، وعند التوبة لأنه حق له تعالى إليه قبضه واستيفاؤه ، واسقاطه إحسان إلى المعفو عنه.

وقد ورد الشرع مؤكداً لاحكام العقول ، فمن ذلك تمدحه سبحانه في غير موضع من كتابه بالعفو والغفران ، المختصين باسقاط المستحق في اللغة والشرع.

ولا وجه لهذا التمدح إلا بوجهه(2) إلى فساق أهل الصلاة ، بخروج(3) المؤمنين الذين لا ذنب لهم والكفار عنه باتفاق ، اذ لا ذنب لأولئك يغفر ، والعفو عن هؤلاء غير جائز.

ولأن ثواب المطيع دائم ، فمنع من دوام عقاب ما ليس بكفر ، لإجماع الاُمة على أنه لا يجتمع ثواب دائم وعقاب دائم لمكلف ، وفساد التخالط بين المستحقين مما(4) بيناه.

ولا أحد قال بذلك ، إلا جوز سقوط عقاب العاصي بالعفو ، أو الشفاعة المجمع

__________________

1 ـ كذا في الأصل.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : توجهه.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : لخروج.

4 ـ كذا ، والظا هر أن الصواب : بما.

٥٥

عليها ، ويخصصها بإسقاط العقاب ، ولا يقدح في ذلك خلاف المعتزلة ، لحدوثه بعد انعقاد الاجماع بخلافه.

وآيات الوعيد كلها وآيات الوعيد(1) مشترطة بالعفو ومخصصة بآيات العفو وعموم آيات الوعد ، ولثبوت ثواب المطيع وفساد التخالط ، وكون ذلك موجب التخصيصها بالكفار ان كان وعيدها دواماً أو كون عقابها منقطعا إن كان عاماً ، من حيث كان القول بعمومها للعصاة ودوام عقابها ينافي ماسلف من الأدلة.

والمؤمن : هو المصدق بجملة المعارف عن برهانها ، حسب ما خاطب به من لسان العرب ، المعلوم كون الايمان ـ فيه ـ تصديقا ، والكفر اسم لمن جحد المعارف أو شكفيها أو اعتقدها عن تقليد أو نظر لغير وجهه.

والفسق إسم لمن فعل قبيحا ، أو أخل بواجب من جهة العقل أو السمع ، لكونه خارجاً بذلك عن طاعة مكلفه سبحانه.

والفاسق في اللغة : هوالخارج ، [ و ](2) في عرف الشريعة هوالخارج عن طاعته سبحانه.

ومن جمع بين إيمان وفسق ، مؤمن على الاطلاق فاسق بما اتاه من القبيح ، لثبوت كل واحد منهما ، ومن ثبت إيمانه لا يجوزأن يكفر « لدوام ثواب الإيمان وعقاب الكفر وفساد اجتماعهما لمكلف واحد ، وثبوت المستحق منهما وعدم سقوطه بندم أوتحابط.

وقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (3) مختص بمن أظهر الايمان أو اعتقده لغيروجهه ، دون من ثبت إيمانه ، كقوله تعالى :( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (4) يعني مظاهرة(5) للإيمان باتفاق ، ومدح المقطوع على إيمانه مطلق مقطوع بالثواب ، والمظهر مشترط بكون الباطن مطابقاً للظاهر واقعا موقعه.

وذم الكافر ولعنه مطلق ، مقطوع له بالعقاب الدائم.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : الوعد.

2 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

3 ـ النساء 4 : 137.

4 ـ النساء 4 : 92.

5 ـ كذا ، والظاهر انّ الصواب : مظهرة.

٥٦

وذم الفاسق مشترط الا بعفا(1) عن مستحقه ابتداءاً أو عند شفاعة ، وإذا ظهر كفر ممن كان على الإيمان ، وجب الحكم على ما مضى منه على المظاهرة (به النفاق)(2) ، أو كونه حاصلاً عن تقليد ، أو عن نظر لغير وجهه ، لما بيناه من الأدلة الموجبة لذلك.

ولابد من انقطاع التكليف ، والا انتقض الغرض المجرى به إليه من التعريض للثواب ، ولا يعلم بالعقل كيفية انقطاعه وحال(3) أيضاً أو جنسه وكيفية فعله ، وإنمايعلم ذلك بالسمع.

وقد حصل العلم من دينه صلى اللّه عليه ضرورةً ، ونطق القران بأن اللّه تعالى آخر بعد فناء كل شيء ، كما كان أولاً قبل وجود شيء ، حسب ما أخبرسبحانه من قوله :( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (4) ينشؤهم بعد ذلكُ ويحشرهم ليوم لا ريب فيه ، مستحق الثواب خالصاً والعقاب الدائم ، ليوصل كلاً منهما إلى مستحقه على الوجه الذي نص عليه تعالى ، ومن اجتمع له الاستحقاقان فإن(5) يستوفي منه سبحانه ما يستحقه من العقاب ، أو يعفو عنه ابتداءاً ، أو عند شفاعة ، ثم يوصله إلى ثواب إيمانه وطاعاته الدائم والمولم(6) به تعالى أو بغيره ، ليوصله إلى ما يستحقه من العوض عليه تعالى أوعلى غيره ، ثم يدخله الجنة إنكان من أهلها أو النار ، أو يبقيه ، أو يحرمه إن كان ممن لا يستحقها من البهائم والأطفال والمجانين ومن لا يستحق العوض ، ليتفضل عليه.

وهذا ـ اجمع ـ جائز من طريق العقل لتعلقه بمبتدئهم تعالى ، والنشأة الثانية أهون من الأولى ، وهي واجبة لما بيناه من وجوب ايصال كل مستحق إلى مستحقه من ثواب أو عقاب أو عوض.

ولا تكليف على أهل الآخرة باجماع ، ولأن العلم بحضور المستحق من الثواب والعقاب وفعله عقيب الطاعة والمعصية ملج ، والالجاء ينافي التكليف ، وأهل الآخرة

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : باعفاء.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : بالنفاق.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وحاله.

4 ـ الحد يد 57 : 3.

5 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : فإنه.

6 ـ كذا.

٥٧

عالمون باللّه تعالى ضرورةً ، ليعلم المثاب والمعاقب والمعوض وصوله إلى ما يستحقه على وجهه ، ويعلم المتفضل عليه كون ذلك النفع نعمة له تعالى.

وقلنا أن هذه المعرفة ضرورية ، لأنا قد بينا سقوط تكليف أهل الآخرة ، فلم يبق مع وجوب كونهم عارفين إلا كون المعرفة ضرورية.

هذه جمل يقتضي كون العارف بها موقناً مستحقا للثواب الدائم وايصاله ، إليه ، ومرجوله العفو عما عداهما من الجوائر(1) . ويوجب كفر من جهلها ، أوشيئاً منها ، أوشك فيها ، أو اعتقدها عن غير علم ، أو شيئاً منها ، أو لغير وجهها ، قد قربناها بغاية وسعنا ، من غير اخلال بشيء يؤثر جهله في ثبوت الايمان لمحصلها ، وإلى اللّه سبحانه الرغبة في توفير حظنا ـ ومن تأملها أو عمل بها ـ من ثوابه وجزيل عفوه ، بجوده وكرمه انه قريب مجيب. تم الكتاب.

* * *

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : الجرائر.

٥٨

ومن خطبة له في التوحيد(1)

ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقتَهُ أصاب من مثّله ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولاصمده من أشارإليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلةٍ ، مقدر لابجول فكرة ، غنيْ لا باستفادة ، لم لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء ازله ، بتشعيره المشاعر عرف ألاّ مشعرله ، وبمضادته بين الاُمور عرف ألا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف الاّقرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهيمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلفبين متعادياتها ، مقارن(2) بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لا يُشمل(3) بحد ، ولايحسب بعد ، وأنما تحد الادوات أنفسها ، وتشير الآلات(4) إلى نظائرها ، منعتها (منذ) القدمية ، وحمتها (قد) الأزلية ، وجنبتها (لولا) التكملة ، [ بها ](5) تجلى صانعها للعقول ، و(6) بها امتنع عن نظر العيون ، لايجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو ابداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من إلأزل معناه ، لو كان له وراء لوجد له امام ، ولا لتمس التمام اذ لزمه النقصان ، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً [ عليه ](7) ، وخرج بسلطان إلامتناع من أن يؤثر [ فيه ما يؤثر ](8) في غيره ، الذي لايحول(9) ولا يزول ، ولا يجوزعليه الافوال ، لم يلدفيكون مولوداً ، ولم يولد فيكون(10) محدوداً ، جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهرعن ملامسة النساء.

__________________

1 ـ رواها الشريف الرضي في نهح البلاغة 2 : 142 / 181 ، وقال : وتجمع هذه الخطبة من أصولالعلم مالا تجمعه خطبة غيرها.

2 ـ في الأصل : مقارب ، وما أثبتناه من النهج.

3 ـ في الأصل : لايشتمل ، وما أثبتناه من النهج.

4 ـ في النهج : الالة.

5 ـ أثبتناه من النهج.

6 ـ في الأصل : في ، وما أثبتناه من النهج.

7 ـ 8 ـ أثبتناه من النهج.

9 ـ في الأصل : لايحرك ، وما أثبتناه من النهج.

10 ـ في النهج : فيصير.

٥٩

لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسه ، لايتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال(1) ، لاتبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الاجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والابعاض.

ولا يقال له حد(2) ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا ان الأشياء تحويه فتقله أوتهويه ، أو ان شيئاً يحمله فيميله أو يعدله ، ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ، يخبر بلا لسان ولهوات ، ويسمع بلا خروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة.

يقول لما(3) أراد كونه كن فيكون ، لابصوت يقرع ، ولانداء(4) يسمع ، وإنما كلامه(5) فعل منه أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولوكان قديما لكان إلهاً ثانيأ لايقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل [ ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدىء والبديع ](6) .

خلق الخلائق على غير(7) مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه.

وأنشأ الارض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غيرقرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والإعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلميهن ما بناه ، ولا ضعف ماقواه ، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي [ على ](8) كل شيء منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شيء منها يطلبه(9) ،

__________________

1 ـ في الأصل ، : من الأحوال ، وما أثبتناه من النهج.

2 ـ في الأصل : عد ، وما أثبتناه من النهج.

3 ـ في النهج : لمن.

4 ـ في النهج : ولا بنداء.

5 ـ في النهج زيادة : سبحانه.

6 ـ أثبتناه من النهج.

7 ـ في الأصل : خير ، وما أثبتناه من النهج.

8 ـ أثبتناه من النهج.

9 ـ في النهج : طلبه.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

____________________

=

* عائشة بنت أبي بكر. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٨.

* أبو ذرّ الغفاريّ. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٦؛ الإرشاد ٢٢؛ أمالي الشيخ الطّوسي ١: ١٤٧؛ غاية المرام ٥٠٢.

عمر بن الخطّاب. المناقب للخوارزميّ ٥٥؛ كنز العمّال ١١: ٣٩٣؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١٥؛ اللآلي المصنوعة ١: ١٦٧؛ غاية المرام ٥٠١.

* معاذ بن جبل. حلية الأولياء ١: ٦٥؛ كفاية الطّالب ٢٧٠.

* أبو سعيد الخدريّ. حلية الأولياء ١: ٦٦؛ الاستيعاب ٣: ٣٣؛ شرح المواهب اللّدنيّة للزّرقانيّ ١: ٢٤٢.

* وللحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله طرق أخرى عن أهل بيت العصمة وعن غيرهم، لم نذكرها؛ تجنّباً للإطالة، ونكتفي بذكر مصادرها بعد للباحث.

* عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام . وللحديث طرق تنتهي به عليه‌السلام ، تنصّ أنّه أوّل من آمن بالإسلام، وصدّق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقه النّصرة، وأقام معه الصلاة. رواه عنه.

* حبّة بن جوين العرنيّ. الأوائل للعسكريّ ١٠٧؛ تاريخ بغداد ٤: ٣٣٣؛ غاية المرام ٥٠٦؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٤؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١٥؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٢؛ ينابيع المودّة ٦٠؛ المناقب للخوارزميّ ٥٧؛ خصائص النسائيّ ٣١؛ أنساب الأشراف للبلاذريّ ٢: ٩٢؛ مسند أحمد ١: ٩٩؛ مجمع الزّوائد ٩: ١٠٢؛ أسد الغابة ٤: ٩٣.

* عبد الله بن عبّاس، في حديث المناشدة. مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١١١.

* عبّاد بن عبد الله الأسديّ، عنه عليه‌السلام . ومصادره نفس مصادر حديثه عن سابقة عليّ عليه‌السلام في الصّلاة.

* معاذة العدويّة، عنه عليه‌السلام . الرّياض النضرة ٢: ٢٠٨؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٤؛ الإرشاد ٢١.

وأسماء من جزم بأولويّة إسلام عليّ عليه‌السلام ، موقوفاً عليهم من أعيان الصّحابة والتابعين وأصحاب التراجم والسّير، تبدا ولا تكاد تنتهي، وهذا بعض يسير، وإلاّ فهي في غاية الكثرة:

* أبو بكر بن أبي قحافة. الأوائل للعسكريّ ١٠٧؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١١.

* أنس بن مالك. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٣ ح الاستيعاب ٣: ٣٢؛ أسد الغابة ٤: ٩٣؛ شرح نهج البلاغة للمعتزليّ ٤: ١١٩؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٣؛ سنن الترمذيّ ٥: ٦٤٠؛ تاريخ بغداد ١: ١٣٤؛ المستدرك على الصحيحين ٣: ١١٢.

* الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ينابيع المودّة ٤٨٠؛ جمهرة خطب العرب ٦٧؛ شرح نهج البلاغة ٢: ١٠١. =

٢٨١

____________________

=

* زيد بن أرقم. تاريخ الطبريّ ٢: ٥٥ - ٥٦؛ مجمع الزّوائد ٩: ١٠٣؛ الكامل في التاريخ ٢: ٢٢؛ الاستيعاب ٢: ٢٧، ٣٢؛ أنساب الأشراف ٢: ٩٣؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٩؛ تاريخ بغداد ١: ١٣٤؛ أسد الغابة ٤: ٩٣؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٢؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٥.

* عبد الله بن عبّاس. أسد الغابة ٤: ٩٢؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٧؛ الاستيعاب ٣: ٢٨؛ ينابيع المودّة ٦٠؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٠ - ٤٨١؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٣؛ المناقب للخوارزميّ ٥٨؛ المعجم الكبير للطبرانيّ ٣: ١٠٥؛ المحاسن والمساوئ للبيهقيّ ٤٣.

* سعد بن أبي وقاص. المستدرك على الصحيحين ٣: ٤٩٩.

* بريدة بن الحصيب - وقيل: الخضيب، بحاء منقوطة مفتوحة - عداده في الصّحابة. أسد الغابة ٤: ٩٤؛ مجمع الزوائد ٩: ٢٠٩؛ المستدرك على الصحيحين ٣: ١١٢؛ التلخيص للذهبيّ بهامش مستدرك الصحيحين.

* أبو رافع، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١١ - ٣١٢؛ مجمع الزوائد ١: ٢٢٠؛ المناقب للخوارزميّ ٥٧؛ سنن الترمذي ٥: ٦٤٠؛ شواهد التنزيل ٢: ١٢٦.

* سلمان الفارسيّ. مجمع الزوائد ٩: ١٠٢؛ المواهب اللّدنيّة ١: ٤٥؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٠ - ٤٨١؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٦ - ١١٧؛ الأوائل ٧٨؛ أسد الغابة ٤: ٩٤؛ الاستيعاب ٣: ٢٧ - ٢٨؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١٦؛ أمالي الطّوسيّ ١: ٣١٩.

* جابر بن عبد الله الأنصاريّ. أسد الغابة ٤: ٩٤؛ الكامل في التاريخ ٢: ٢٢؛ الاستيعاب ٣: ٢٧؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٠؛ تاريخ الطّبريّ ٢: ٥٥، ولفظه فيه «صلّى» ومضى أن لا صلاة من غير إسلام.

* المقداد بن عمرو الكنديّ. الاستيعاب ٣: ٢٧؛ أسد الغابة ٤: ٩٤؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٦؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٢٨٠.

* عبد الرّحمن بن عوف. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٧؛ ميزان الاعتدال ١: ٥٠٥.

* مالك بن الحويرث. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٥؛ مجمع الزوائد ٩: ٢٢٠.

* خبّاب بن الأرتّ. الاستيعاب ٣: ٢٧؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٠؛ أسد الغابة ٤: ٩٤.

* محمّد بن كعب القرظيّ. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٨؛ الاستيعاب ٣: ٢٩؛ تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨١؛ اسد الغابة ٤: ٩٤؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٨.

* أبو موسى الأشعريّ. المستدرك على الصحيحين ٣: ٤٦٥؛ أمالي الطّوسي ١: ٢٨٠.

* ليلى الغفاريّة عن عائشة بنت أبي بكر. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٨.

* عفيف الكنديّ. المصادر جميعاً. =

٢٨٢

قوله تعالى: ( إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١)

خطاب من الله تعالى إلى نبيّه إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، نصبه إماماً يقتدي به النّاس ويتّبعون أمره ويقتفون سيرته.

ولما دعا إبراهيم ربّه أن يشرّف ذرّيّته بالإمامة أعطاه سبحانه سؤله، مسثنياً الظّالمين من ذرّيّته، وهو دليل على عدم صلاح الظالم لإمامة النّاس لا في صلاة ولا في سياسة. في تفسير نهج البيان للشيبانيّ ١: ٢٠٦: قال بعض أصحابنا: في الآية دلالة على أنّ الله لا يصطفي لنبوّته وإمامته إلاّ من كان معصوماً في الظّاهر والباطن.

وذكر الطّبرسيّ في تفسيره «مجمع البيان» ١: ٣٢٥، معنىً مشابهاً، قال: واستدلّ

____________________

=

* أبو سعيد الخدريّ. الاستيعاب ٣: ٢٧؛ أسد الغابة ٤: ٩٤؛ المواهب اللّدنيّة ١: ٤٥.

* عبد الله بن الحنفيّة. الاستيعاب ٣: ٣٢؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١١٩.

* عديّ بن حاتم الطّائيّ. الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١: ١٠٣؛ وقعة صفّين لنصر ١٩٧؛ تاريخ الطّبريّ ٤: ٢؛ شرح نهج البلاغة ١: ٣٤٤؛ الكامل في التاريخ ٣: ١٢٤.

* هاشم بن عتبة، المرقال. الكامل في التاريخ ٣: ١٣٥؛ وقعة صفّين ٣٥٥ و ١١٢ و ٣٧ ومواطن أخرى؛ جمهرة خطب العرب ١: ١٥١.

* محمّد بن أبي بكر. وقعة صفّين ١٣٧.

* خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ذو الشّهادتين، وله فيه أشعار. شرح نهج البلاغة ٣: ٢٥٩؛ المستدرك على الصحيحين ٣: ١١٤.

* محمّد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرّحمن، وأبو حازم المدنيّ، والكلبيّ. تاريخ الطبريّ ٢: ٥٧.

* وقال مجاهد، وابن إسحاق، وابن شهاب، وقتادة، والحسن البصريّ، وغيرهم: أوّل من أسلم من الرّجال عليّ. تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨١؛ الاستيعاب ٣: ٣٠ - ٣١؛ أسد الغابة ٤: ٩٤؛ شرح نهج البلاغة ٤: ١٢١؛ مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٠٣، عن مجاهد، والسيرة النبويّة لابن هشام ١: ٢٦٢، ٢٦٤.

إنّ هذا الغيض من أخبار أولويّة إسلام عليّ عليه‌السلام - وهي تكاد تنعقد إجماعاً، مع تأكيد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها، وافتخار امير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الوثيقة على المنابر متّخذاً منها دليلاً من جملة أدلّة أخرى في أفضليّته على غيره - لهو دليل ساطع على أفضليّة نهجه واستقامة صراطه ووجوب مشايعته بحكم الشّرع والعقل.

(١) البقرة / ١٢٤.

٢٨٣

الإماميّة بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلاّ معصوماً عن القبائح. ومن ليس بمعصوم قد يكون ظالماً لنفسه أو ظالماً لغيره. والآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت، فلا يكون الظالم إماماً وإن تاب فيما بعد.

وقد ثبت بالبرهان الجليّ عصمة عليّ عليه‌السلام ، فثبتت بذلك إمامته ولزم الإقتداء به، فهو دليل قرآنيّ على استقامة صراط عليّ.

وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم»، وهو قوله: ( رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

ولما سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قوله: «أنا دعوة أبي إبراهيم» قال: «انتهت الدّعوة إليّ وإلى عليّ، لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ، فاتّخذني الله نبيّاً واتّخذ عليّاً وصيّاً». وقد خرّجنا الحديث في غير هذا الموضع وتكلّمنا عليه. وفائدته أنّ غير النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغير عليّ عليه‌السلام ظالم غير معصوم، منعه الله تعالى من ولاية الأمر. وأكّده النّبيّ حيث حصر دائرة الدّعوة الإبراهيميّة به وبعليّ، أمّا غيرهما فأقلّ شأنه أنّه ظلم نفسه بعبادة الأصنام.

ونستفيد من آية الدّعوة أنّ خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - مضافاً إلى عصمته - لابدّ أن يكون على قدر عظيم من المعرفة بالدّين وأحكامه ليرجع إليه المسلمون في كلّ ما يهمّهم، ولم يكن فيهم من هو أقرأ لكتاب الله تعالى ولا أعلم بدين الله ولا أقضى من عليّ.

قوله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) (٢)

الإجماع منعقد على أنّ الآية المباركة نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك أنّ قريشاً تحالفوا على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأجمعوا أمرهم: أن ينتدب لذلك من كلّ قبيلة شابّ، فيكبسوا عليه ليلاً وهو نائم، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه ولا يأخذ بثأره أحد. فنزل جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك مكّة ويهاجر، وأن يبيت ابن عمّه عليّ عليه‌السلام على فراشه، ففعل وبات الفدائيّ وقد وطّن نفسه للشهادة في سبيل

____________________

(١) البقرة / ١٢٩.

(٢) نفس المصدر ٢٠٧.

٢٨٤

الله وفي سبيل سلامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد عزّ النّاصر الّذي يؤدّي وظيفة خطيرة مثل هذه، وما كان لجسد غير عليّ أن يتكرّم بمماسّة موضع جسد النّبيّ في فراشه. ثمّ ما كان لغير عليّ أن يقوم مقام النّبيّ، سواء في الدّعوة والتبليغ حيث اختصّه بتبليغ «براءة»، أو تأدية أمانته وما كان يوصي إليه. عن معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي رافع في هجرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: وخلفه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - يعني خلف عليّاً عليه‌السلام - يخرج إليه بأهله، وأمره أن يؤدّي عنه أمانته ووصايات من كان يوصي إليه، وما كان يؤتمن عليه من مال، فأدّى عليّ أمانته كلّها. وأمره أن يضطجع على فراشه ليلة خرج، وقال: إنّ قريشاً لم يفقدوني ما رأوك، فاضطجع على فراشه (١) .

إنّ التأدية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس أمراً يذكر من غير وقفة وتأمّل! وأحاديث النّبيّ في هذا الباب وفيرة وفي أكثر من مشهد وموقف يعزّزها ائتمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله أهله، ولا يجوز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يأتمن على أهله إلاّ رجلاً مثله في العصمة.

وقد خلفه صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهله غير مرّة، من ذلك: غزاة تبوك، فأظهر عليه‌السلام حزنه لذلك فقال له النبيّ: «يا عليّ، إنّما خلفتك على أهلي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبيّ بعدي؟» (٢)

وللحديث طرق لو جمعت لجاءت مؤلّفاً مستقلاًّ وفي بعضها: إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ هذه المقالة حين استخلفه. (٣) وفي آخر، قال له: أقم بالمدينة، فقال له عليّ: «يا رسول الله، إنّك ما خرجت في غزاة قطّ فخلفتني! فقال النّبيّ لعليّ: إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» (٤) .

وأنت ترى أنّ دائرة الاستخلاف هنا بين عامّ وأعمّ، وفي كلّ حال فهو عليه‌السلام ما زال

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ٩٦.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٤٤؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٢٩.

(٣) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ص ٣٠.

(٤) ميزان الاعتدال ١: ٢٦٣؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٣٣؛ ولسان الميزان ٢: ٣٢٤.

٢٨٥

خليفته صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك» صريح في أنّ القائد وخليفته يلزم أن يكونا معصومين، وإلاّ ركبا بالأمّة شططا. ولم يكن غير عليٍّ ليملأ دائرة الفراغ الّتي يتركها غياب النّبيّ، فعليّ معصوم، ونهجه حقّ، وصراطه مستقيم.

وحديث «المنزلة» الّذي جاء في خطاب النّبيّ لعليّ من غير فصل عن أوّله، توكيد لمعنى العصمة والخلافة ووجوب الطّاعة لسواء سبيله، كما هو حال هارون في قوم موسى عليه‌السلام .

ولم تكن هذه هي المرّة الأولى الّتي يبيت فيها عليّ عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يفديه بمهجته ويدرأ عن نفسه بنفسه، يشدّ أزره في ذلك أبوطالب، أبوه مؤمن قريش وناصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . جاء في «شعر أبي طالب وأخباره - المستدرك ص ٧٣»: ممّا أنشده أبوطالب، وكان كثيراً ما يخاف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيات - أي الغدر ليلاً حيث يبيت - إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع ابنه عليّاً مكانه، فقال له عليّ ليلة: إنّي مقتول. فقال له أبوطالب، شعراً:

إصبرن يا بنيّ فالصّبر أحجى

كلّ حيّ مصيره لشعوب (١)

قدّر الله - والبلاء شديد -

لفداء الحبيب وابن الحبيب

لفداء الأغرّ ذي الحسب الثا

قب والباع والكريم النّجيب

إن تصبك المنون فالنّبل تبرى

فمصيب منها وغير مصيب

كلّ حيّ - وإن تملّى بعمر -

آخذ من مذاقها بنصيب

فأجاب عليّ، فقال:

أتأمرني بالصّبر في نصر أحمد

ووالله ما قلت الّذي قلت جازعا

ولكنّني أحببت أن ترى نصرتي

وتعلم أنّي لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجه الله في نصر أحمدٍ

نبيّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا (٢)

____________________

(١) شعوب: المنيّة، يقال أشعب الرّجل إذا مات أو فارق فراقاً لا يرجع، تهذيب الألفاظ لابن السكّيت ٤٥٣.

(٢) المستدرك على شعر أبي طالب عليه‌السلام لأبي هفّان المهزميّ (ت ٢٥٧ هـ) ص ٧٤.

٢٨٦

ولم يكن أبوطالب ينافح عن ابن أخيه ويكافح بنفس ولده عليّ ودماء بني هاشم وحسب بل كان يجالد عتاة قريشٍ بنفسه، ويخاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤمن به، تبع لقيادته ونبوّته، وأنّ كفّه كفّه الضّارب.

بعض الآثار الواردة في نزول الآية في عليّ عليه‌السلام :

* عن امير المؤمنين عليه‌السلام فيما خاطب به أهل الشّورى، محتجّاً عليهم بفضائله وما اختصّه الله تعالى به، ومنه الآية المذكورة، برواية الصّحابيّ أبي الطفيل عامر بن واثلة. المناقب للخوارزميّ ٣١٥، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١٥٥، وكنز العمّال ٣: ١٥٦، وغاية المرام ٥٦٤.

ورواه الصّحابيّ أبوذر الغفاريّ. أمالي الشّيخ الطّوسيّ ٢: ١٦٢.

وأيضاً رواه عنه عبيد الله بن أبي رافع. طبقات ابن سعد ١: ٢٢٧.

ورواه ابن الكوّا، عنه عليه‌السلام . خصائص أمير المؤمنين للشّريف الرضيّ ٢٦.

وأبو مريم الأسديّ، عنه عليه‌السلام . المستدرك على الصحيحين ٣: ٥.

* الحسن بن عليّ بن أبي طالب. تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ ١٨٢، في جواب قامع مسكت لمعاوية وحزبه: عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، لما نالوا من عليّ عليه‌السلام ، وممّا قال: «وبات أمير المؤمنين يحرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المشركين، وفداه بنفسه ليلة الهجرة، حتّى أنزل الله ( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) .

* عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم‌السلام بسند عن قيس بن ربيع، عن حكيم بن جبير، عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، قال: إنّ من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام . وقال عليّ عليه‌السلام عند مبيته على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار آمناً

موقّىً وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتّ أراعيهم وما يثبتونني

وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر

ورد في المناقب للخوارزميّ ١٢٧، وينابيع المودّة ٩٢، مع اختلاف يسير في بعض

٢٨٧

الألفاظ، والمستدرك على الصحيحين ٤: ٤.

وورد بغير الشّعر المذكور، في أمالي الشّيخ الطّوسيّ ٢: ٦١، والبرهان ١: ٢٠٦، والمناقب لابن شهر آشوب ٢: ٦٤.

* ابن عبّاس. مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١٨، والمناقب للخوارزميّ ١٢٦، وينابيع المودّة ٩٢. وبرواية عمرو بن ميمون عنه، في مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٢٩. ورواية أبي صالح عنه في تفسير الطبريّ ٩: ١٤٩، وتفسير فرات ٥ ودلائل النّبوّة لأبي نعيم ٦٣ - ٦٥. والسّدّيّ عن ابن عبّاس أيضاً، في العمدة لابن البطريق ١٢٤ وينابيع المودّة: ٩٢.

ورواه أبوغطفان عن ابن عبّاس، في الطبقات الكبرى لابن سعد ١: ٢٢٧، وأمالي الطّوسيّ ٢: ٦٠. وشعبة عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، في البداية والنهاية ٧: ٣٣٨. ولحديث ابن عبّاس طرق كثيرة في شواهد التنزيل رقم ١٣٤، ١٣٥، ١٣٦، ١٣٨.

ومن مصادر الحديث عن ابن عبّاس: أنساب الأشراف للبلاذريّ ٢: ١٠٦، وخصائص النّسائيّ ٦١ - ٦٢، ومسند أحمد بن حنبل ١: ٣٣٠ - ٣٣١، ومجمع الزّوائد ٩: ١٩ - ٢٠، وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ٨٩، والمعجم الكبير للطّبرانيّ ٣: ١٥١. وتاريخ بغداد ١٣، ١٩١ - ١٩٢، والرياض النّضرة ٢: ٢٦٩ - ٢٧٠، وذخائر العقبى ٨٤ - ٨٨، وكفاية الطّالب ٢٤٠ - ٢٤١، وإحياء العلوم للغزاليّ ٣: ٢٥٢. والتلخيص للذهبيّ ٣: ٥ / ٤٢٦٣ من المستدرك على الصحيحين، وتفسير الثعلبيّ «الكشف والبيان ٢: ١٢٦»، وتفسير النيشابوريّ بهامش تفسير الطبريّ ٢: ٢٩١، وتفسير القرطبيّ ٣: ٢١.

* ورواه الصّحابيّ أبو سعيد الخدريّ. شواهد التنزيل حديث رقم ١٣٣.

* وورد عن عائشة بنت قدامة. الطبقات الكبرى لابن سعد ١: ٢٢٧.

ومن أجل أن تكتمل الصورة الجميلة للإثارة الّتي ولّدتها الآية المباركة فمن الأنسب ذكر الآيات الّتي سبقتها، إذ التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم يعطي معنىً أجمل وأمثل ممّا يعطيه التجزيئيّ؛ لاتكاء مفرداته وآياته بعضها على الآخر بناءً ومعنى. قال تعالى:

( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّى‏ سَعَى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ *

٢٨٨

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (١) .

بيّن سبحانه حال المنافقين يظهر أحدهم حلاوة الكلام وأحسنه ويقرنه باليمين والقسم بالله تعالى حتّى يكاد يصدّق بأنّه من المؤمنين؛ ولكنّ الله مطّلع على دخيلة نفسه فهو أشدّ المخاصمين للإسلام وللمؤمنين، فإذا ما انطلت خدعته على الآخرين من خلال تزويقه للألفاظ والدّعاية لنفسه فصار والياً حاكماً، جار واستبدّ وأفسد وسفك الدّماء، وهذا ما عرفه تاريخنا الماضي والحاضر.

ثمّ انتقل القرآن من ذلك ليرسم صورة أخرى لإنسان آخر، صادق في علاقته مع الله تعالى ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رهن نفسه وباع حياته مقابل رضى الله تعالى. ومعنى ذلك أنّ حسن الظاهر وصلاحه ليس دليلاً على حسن الباطن، بل ربّما يكون صاحبه في غاية سوء السريرة وفساد الباطن. فإذا تقرّر ذلك بطلت ولايته ولم تجز حاكميّته. ولما كان هذا التمييز ممّا يعسر على المجتمع اقتضى لطف الله تعالى نصب الوالي الصالح ظاهراً وباطناً، فتقرّر فيمن شرى نفسه وعصمها وصار صراط الله المستقيم.

قوله تعالى ( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ) (٢) .

حبّان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: نزلت في عليّ خاصّةً، في أربعة دنانير كانت له، تصدّق منها نهاراً وبعضها ليلاً، وبعضها سرّاً، وبعضها علانية. (٣)

____________________

(١) البقرة / ٢٠٤ - ٢٠٦.

(٢) نفس المصدر ٢٧٤.

(٣) تفسير الحبريّ: ٢٤٣؛ شواهد التنزيل للحسكانيّ ١: ١١٤ رقم ١٥٥، بزيادة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ: ما حملك على هذا؟ قال: حملني عليها رجاء أن أستوجب على الله ما وعدني. فقال: ألا ذاك لك؛ فأنزل الله الآية في ذلك وأورده على ما في المتن من تفسير الحبريّ رقم ١٦٣، و ١٦١ برواية الأعمش، عن ابن عبّاس.

وعن الضحّاك، عن ابن عبّاس (شواهد التنزيل ١: ١١٤ رقم ١٦٢) ورواه فرات من هذا الطريق في تفسيره: ٨ - ٩. كما ذكر فرات (ص ٢ - ٣) رواية الحبريّ عن أبي صالح، عن ابن عبّاس.

وروي من طرق كثيرة، أنّه عليه‌السلام كان معه أربعة دراهم وهو جميع ما يملك من مال فأنفقه في سبيل الله تعالى، على الصورة الّتي ذكرها القرآن الكريم. =

٢٨٩

ووجه الاستدلال بالآية الشّريفة مثل الاستدلال بالآية السابقة - في شراء النفس ابتغاء مرضاة الله - تعبير عن غاية صلاح الباطن المنعكس على صفحة الظاهر في البذل والعطاء الخالص لوجه الله تعالى وليس لشيء سوى ذلك؛ فهو يبدأ من عند الله وينتهي إلى عند الله تعالى، فهي العصمة بعينها، الكفيلة بصحّة ورشاد صاحبها واستقامة صراطه. وحكم الآية سائر في كلّ من فعل مثل فعل عليٍّ عليه‌السلام ، مع فضل سبقه عليه‌السلام إلى ذلك.

وكم أنفق بعض الناس وأعطو عظيماً من المال، فما أقام الله تعالى لذلك وزنا ولم ينزل فيه وحياً؛ إذ لم يكن إلاّ ظاهراً حسناً مع باطن فاسد! حاله حال ( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ

____________________

= رواه عكرمة عن ابن عبّاس. تذكرة الخواصّ: ٢٣.

مجاهد عن ابن عبّاس. أسباب النّزول للواحديّ: ٥٨؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٢٨٠؛ أسد الغابة ٤: ١٠٤؛ كفاية الطّالب ٢٣٢؛ مجمع الزوائد ٦: ٣٢٤؛ تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦؛ الدّرّ المنثور ١: ٣٦٣؛ الرّياض النّضرة ٢: ٢٠٦. وعن الكلبيّ مرسلاً، في أسباب النزول للواحديّ: ٥٨، ونفس المصدر عن عبد الوهّاب بن مجاهد، عن أبيه. وعن أبي إسحاق السّبيعيّ، قال: كان لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً. فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا عليّ ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنجاز موعود الله. فأنزل الله ( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ وَالنّهَارِ ) الآية. تفسير العيّاشي. ١: ١٥١.

ومن المصادر التي أكّدت على اختصاص الخطاب القرآنيّ بعليٍّ عليه‌السلام :

نهج البيان، للشّيبانيّ ١: ٣٥٢؛ الكشّاف للزمخشريّ ١: ٣٠١؛ التبيان ٢: ٣٥٧؛ البرهان ١: ٢٥٧؛ ٢: ٤ - ٨؛ غاية المرام ٣٤٧؛ مختصر تاريخ دمشق ١٨: ٩؛ ينابيع المودّة ٩٢؛ العمدة لابن البطريق ٣٤٩؛ نور الأبصار ١٥٨؛ الاختصاص ١٥٠؛ مجمع البيان للطبرسيّ ١: ٣٨٨، مرويّاً عن الصّادقين عليهما‌السلام ؛ ذخائر العقبى ٨٨؛ المعجم الكبير للطّبرانيّ ٣: ١١٤؛ المناقب لابن شهر آشوب ٢: ٧١؛ المناقب للخوارزميّ ٢٨١؛ تفسير القرآن العزيز: عبد الرزّاق الصنعانيّ ١: ١١٨ / ٣٤٤؛ تفسير مقاتل بن سليمان ١: ١٤٧ - ١٤٨ وفيه: ( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ ) الآية، قال مقاتل: ( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم ) في الصدقة ( بِاللّيلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ) نزلت في عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، لم يملك غير أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما حملك على ذلك؟» قال: حملني أن أستوجب من الله الذي وعدني، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الآن لك ذلك» قال: فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ( الّذِينَ يُنْفِقُونَ. .. وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) عند الموت. و معاني القرآن للنّحاس ١: ٣٠٥؛ تفسير الثعلبيّ ٢: ٢٧٩؛ كنز العمّال ٦: ٣٦٠ / ١٦٠٥٩؛ مناقب عليّ لابن مردويه: ٢٢٤ ح ٣١٦؛ تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦؛ كشف الغمة ١: ٣١٥؛ كشف اليقين ٣٦٤؛ فتح القدير ١: ٢٩٤؛ مفتاح النجا: ٣٩.

٢٩٠

قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ ) (١)

إلاّ أنّ الوحي سجّل لعليّ عليه‌السلام إنفاقه لهذه الدّراهم القليلة لسببين.

الأوّل: صدقه في الإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ، في حال السرّ والعلن.

الثاني: إنّ هذا القليل الّذي أنفقه عليّ كثير عند الله سبحانه؛ لأنّه متفرّع عن الأوّل الّذي هو الأصل في قبول العمل والأجر عليه. ولأنّه كل ما كان يملك عليه‌السلام فجاد به وكأنه جاد بنفسه في سبيل الله، إذ ما نكاد نجد آية في الجهاد تقرن المال بالنّفس إلاّ وقدّمت الأوّل على الثاني لشدّة ولع النفس بالمال وحرص الإنسان عليه، والمال وسيلة الإنسان لنيل ما يحبّ في دنياه ويرغب. وعليّ عليه‌السلام له السّبق في كل فضل، لا يجد في المال والنّفس إلاّ انّهما أمانة يجب أن تردّ إلى مالكها الحقّ سبحانه.

قوله تعالى: ( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٢) .

مضى الحديث عن الآية بما فيه الكفاية، وأنّها نزلت في الوجوه المقدّسة عند الله تعالى، وهم محمّد حبيب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنوه وأخوه وعيبة علمه ونفسه الزاكية الزكيّة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وابنته البتول الزّاهرة فاطمة الزّهراء عليها‌السلام ، وسبطاه الشّهيدان الحسن والحسين عليهما‌السلام .

وكان وجه الاستدلال أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خرج في هذا الامتحان العسر يتحدّى وفد نصارى نجران وأحبارهم في إثبات نبوّته. فلمّا أنكروها دعاهم إلى المباهلة، أي الملاعنة وإلى دعاء الله تعالى أن ينزل عقابه على الكاذبين، وهي سنّة أمضاها الأنبياء من قبله، فطال المكذّبين من أقوامهم عذاب الله العاجل. ورجال الدّين وأحبار النّصارى يعلمون ذلك، فلمّا حان الموعد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يباهلهم بنفسه متمثّلة بأخيه عليّ، وبنسائه متمثّلاً ذلك ببضعته الطّاهرة فاطمة، وبولديه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فلمّا رأى وفد

____________________

(١) البقرة / ٢٠٤.

(٢) آل عمران / ٦١.

٢٩١

النّصارى تلك المصابيح الزّهر شعروا بالهزيمة، فرضوا بإعطاء الجزية على أن لا يباهلوا.

ومن هنا كان عليّ وفاطمة والحسنان عليهم‌السلام معجزة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ، ولو قامت الحجّة على النّبيّ وحلّ العقاب بساحته، لبطلت معجزته وانتهت رسالته. فدلّ ذلك على عصمتهم واستقامة صراطهم ولزوم منهجهم.

عن أبي رياح، مولى أمّ سلمة، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: «لو علم الله أنّ في الأرض عباداً أكرم من عليّ وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء - وهم أفضل الخلق - فغلبت بهم النّصارى» ينابيع المودّة: ٢٤٤.

قوله تعالى: ( ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى‏ طَائِفَةً مِنكُمْ ) (١) .

حبّان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: نزلت في عليّ عليه‌السلام ؛ غشيه النّعاس يوم أحد (٢) .

____________________

(١) آل عمران / ١٥٤.

(٢) تفسير الحبريّ: ٢٤٩؛ تفسير فرات ١٩ عن الحبريّ - رواية ابن عبّاس -، وكذلك شواهد التنزيل ١: ١٣٥. وروى ابن شهر آشوب رواية ابن عبّاس، وأضاف: والخوف مسهر، والأمن منيم. المناقب٣: ١٢٢. وفي تفسير العيّاشيّ ١: ٢٠١، وعنه في البرهان ١: ٣٢١: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ أين كنت؟ فقال: يا رسول الله لزقت بالأرض. فقال: ذاك الظنّ بك». وفي أسد الغابة ٤: ٩٧، عن سعيد بن المسيّب، قال: لقد أصابت عليّاً يوم أحد ستّ عشرة ضربة، كلّ ضربة تلزمه الأرض، فما كان يرفعه إلاّ جبريل عليه‌السلام وأسد الغابة أيضاً ٩٨: عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، قال: قال عليّ: لما تخلّى النّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله، فقلت: والله ما كان ليفرّ، وما أراه في القتلى، ولكن الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيّه، فما فيّ خير من أن أقاتل حتّى أقتل. فكسرت جفن سيفي، ثمّ حملت على القوم فأفرجوا لي، فإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم.

ونفس المصدر: ٩٧ - ٩٨، قال الزّبير بن بكّار: وله - أي لعليّ بن أبي طالب - يقول أسيد بن أبي أناس بن زنيم، وهو يحرّض مشركي قريش على قتله ويعيّرهم:

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جذع أبرّ على المذاكى القرّح

لله درّكم! ألما تنكروا

قد ينكر الحيّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الّذي أفناكم

ذبحاً، وقتلة قعصة لم تذبح

أعطوه خرجاً واتّقوا بضريبة

فعل الذّليل وبيعة لم تربح

=

٢٩٢

____________________

=

أين الكهول؟ وأين كلّ دعامة

في المعضلات؟ وأين زين الأبطح؟

أفناهم قعصا وضرباً يفري

بالسّيف يعمل حدّه لم يصفح

معاني بعض المفردات: الجذع - بفتحتين -: الشّاب الحدث، والمذاكي: الخيل، وقعصه: أجهز عليه وقتله قتلاً سريعاً. انظر لسان العرب، وتهذيب الألفاظ لابن السكّيت.

ونفس المصدر ٩٧، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: كان سعد بن عبادة صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المواطن كلّها، فإذا كان وقت القتال أخذها عليّ بن أبي طالب.

ومن أمر أحد أنّ قريشاً لما خذلتها آلهتها وولّت مذعورة تجرّ ذيل الخزي؛ إذ هزم الله تعالى جمعها على يد النّبيّ والمؤمنين يوم بدر، فإنّها عاودت فجمعت فلولها لتغسل عار الهزيمة النّكراء، ونذرت كلّ ما عندها من عدّة ورجال، يقودهم أبو سفيان صخر بن حرب الأمويّ، وتستنهض هممهم النّساء يضر بن الدفوف، وتصهل هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وأمّ معاوية بن أبي سفيان، ومن نعيقها:

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النّمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

والنمارق: واحدتها نمرقة وهي الوسادة، والوامق: المحبّ.

ولقد حصل يومئذ أمور، من ذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استشار من معه في البقاء في المدينة فإذا دخلت قريش قاتلهم فيها، أوالخروج وملاقاة العدوّ خارجها. فاختلفت كلمتهم، وتكلّم المنافقون ونشطوا، فلبس النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته، فعندئذ قال بعضهم: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل، فخرج.

ومنه: لما كان المسلمون بالشّوط - بين أحد والمدينة - انخزل عنه عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، قال: علام نقتل أنفسنا؟! فعاد بمن تبعه م المنافقين والمتخاذلين، فكانوا ثلث النّاس.

وتزاحمت الحوادث، فقد همّت بنو سلمة وبنو حارثة بالرّجوع حين رجع عبد الله بن أبيّ، ثمّ ثابوا إلى رشدهم وتابوا من ذلك فذلك قوله تعالى: ( إِذْ هَمّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ) آل عمران / ١٢٢.

ومنه - وهو الأعظم خطراً وكاد أن يلحق هزيمةً ماحقة في صفوف المسلمين - مخالفتهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخروجهم عن طاعته! ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل بجيشه الشّعب من أحد في عدوته الدّنيا - والعدوة هي شفير الوادي وجانبه - فجعل ظهره وعسكره إلى أحد؛ من أجل أن لا يبغته العدوّ من وراء عسكره، وجعل عليه خمسين من الرّماة وأمرهم أن ينضحوا خيل المشركين بالنّبل ولا يغادروا مكانهم على أيّ حال، وأمر عسكره ان لا يبدأوا القتال حتّى يأمرهم بذلك. وهنا حدثت المخالفة التالية: فقد سرّحت قريش الظّهر والكراع =

٢٩٣

____________________

= «الظّهر: الإبل، والكراع: الخيل» في زروع كانت بالصّمغة من قناة للمسلمين، «والصّمغة أرض قرب أحد» وهنا قال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القتال: أترعى زروع بني قيلة - الأوس والخزرج - ولما نضارب؟!

ولما اشتبك الجمعان هزم الله تعالى المشركين وولّوا الدّبر، وذهبت نساؤهم في كلّ صوب مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون ينتهبون عسكر المشركين. وهنا حدثت المخالفة الآتية الّتي قلبت المعادلة وكادت تذهب برسول الله شهيداً، وتئد الإسلام وهو ما يزال طريّاً؛ فقد اختلف الرّماة إذ رأوا رسول الله وأصحابه في جوف عسكر المشركين، فقالت طائفة: أدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها! وقالت طائفة: نثبت مكاننا لا نترك أمر رسول الله. وانطلق عامّتهم، فلحقوا بالعسكر. فلمّا رأى خالد بن الوليد قلّة الرّماة، صاح في خيله من أهل الكفر والشّرك ثمّ حمل، فقتل الرّماة، وحمل على أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . فلمّا رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل تنادوا، فشدّوا على المسلمين فهزموهم. وضاع شخص رسول الله وسط المشركين الّذين أذاعوا أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتل! وهنا أيضاً حصل أمر: فلقد كان لهذا الإعلان وقع خطير وأثر جسيم على حاضر الإسلام ومستقبله؛ إذ زاد في الهزيمة هزيمةً وأفصحت النّفوس عن دخائلها، ولاذ بعض إلى مفازة ظلّوا فيها يأكلون ويشربون. عن القاسم بن عبد الرّحمن بن رافع من بني عديّ، قال: «انتهى أنس بن النّضر - عمّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطّاب، وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟! قالوا: قتل رسول الله! قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتّى قتل، وبه سمّي أنس بن مالك». انظر في هذا السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣: ٨٨؛ تاريخ الطبريّ ٢: ١١٩.

«وفرّ عثمان بن عفّان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان - رجلان من الأنصار - حتّى بلغوا الجلعب - جبلاً بناحية المدينة - فأقاموا به ثلاثاً، ثمّ رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فزعموا أنّ رسول الله قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة!» تاريخ الطّبريّ ٢: ٢٠٣.

قال الزّبير: صرخ صارخ: ألا إنّ محمّداً قد قتل! فانكفأنا وانكفأ علينا القوم. تاريخ الطّبريّ ٢: ١٩٧.

وإزاء هذه المواقف مواقف أخرى: ذكرنا موقف أنس بن النّضر، وهذا موقف آخر ليهوديّ قتل شهيداً! إنّه: مخيريق. ومن خبره أنّه كان حبراً عالماً، غنيّاً كثير الأموال من النّخل، وكان يعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصفته، وما يجد من علمه، حتّى إذا كان يوم أحد حثّ قومه على نصرة النّبيّ، وأخذ سيفه وعدّته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمّد يصنع فيه ما شاء. ثمّ غدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقاتل معه حتّى قتل، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مخيريق خير يهود». انظر السّيرة لابن هشام ٣: ٩٤؛ المغازي للواقديّ ٣: ٣٧٨؛ الطّبريّ ٢: ٢٠٩. =

٢٩٤

____________________

= وهناك مواقف أخرى لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من استشهد بعد أن هدّ كتائب المشركين وفلّ جموعهم وفرى رجالهم، مثل حمزة عليه‌السلام عمّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وأبي دجانة سماك بن خرشة، وخمسة نفر من الأنصار فيهم زياد بن السّكن؛ قاتلوا دون رسول الله، رجلاً ثمّ رجلاً يقتلون دونه.

وكان للمرأة يومئذ دور يذكر فيشكر، فهذه نسيبة بنت كعب المازنيّة، لما انهزم المسلمون، باشرت القتال تذبّ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسّيف وترمي بالقوس، حتّى أصيبت إصابات شديدة بقي أثرها فيما بعد.

والواقع أنّنا لم نجد فيما رجعنا إليه من المصادر المعتمدة لدى المحقّقين المسلمين، مواقف تمّ عن أدنى صور الرّجولة والاستبسال لدى من ذكرهم ابن القيّم، ومضى إلى القول إنّ صراطهم صراط الله المستقيم، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضّالين! فخيرهم في هذا الميدان لا نجد له الاّ جملاً عائمة، مفادها أنّه ممّن قاتل بين يدي رسول الله، أمّا أيّ كتيبة هدّ، وأيّ صعلوك - فضلاً عن أحد فرسان قريش - بارزه فقتله؟ فهذا ما سكت عنه التاريخ.

أمّا الآخر: فهو مع أحد «العشرة المبشّرة» بالجنّة في جمع من عسكر المسلمين في مفازة يطعمون لأنّهم سمعوا الهاتف: قتل محمّد! وكأنّ العقيدة مرهوة بوجود شخص النبيّ، فإذا مضى انتهى أمر هذا الدّين! وقد سجّل القرآن الكريم هذا اللّون من السّلوك منكراً على أصحابه أشدّ النكير: ( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) «آل عمران / ١٤٤».

وأين هذا الموقف والقول من موقفه يوم السّقيفة؟! فبعد أن قطع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلبه قلماً ودواةً ليكتب لهم عهداً لن يضلّوا بعده أبداً أوجد هذا حالةً من اللّغط من خلال قوله: إنّ النّبيّ يهجر! ثمّ أسرع إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع فيها عدد من المهاجرين والأنصار قد تخلّوا عن نبيّهم، واجتمعوا يختصمون: كلّ يطلب ذاك ويدوس في بطنه وسيفه على عاتقه، ثمّ قال: «إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي. وإنّ رسول الله والله ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. ووالله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله مات». فهلاّ كان مثل هذا القول يوم أحد، يوم التمحيص والبلاء العظيم، ليشدّ أزر الرّجال ويجمعهم لردّ كرّة المشركين؟! وكيف يصدّق إذاعتهم أنّ «محمّداً قد مات». فهلاّ كان مثل هذا القول يوم أحد، يوم التمحيص والبلاء العظيم، ليشدّ أزر الرّجال ويجمعهم لردّ كرّة المشركين؟! وكيف يصدّق إذاعتهم أنّ «محمّداً قد مات» فيكفّ عن القتال ولا يصدّق موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يراه عياناً؟!

ولا كلام لنا مع الثالث من العشرة المبشّرة بالجنّة حيث ذهب مع رهطٍ الى حوالي المدينة وبعد ثلاثة أيّام =

٢٩٥

____________________

= عادوا، ولكن لم عادوا؟ فليس هذا ذا بالٍ؛ فقد ذهبوا فيها عريضة! كما أنّ ابن القيّم لم يجعل صراطه مستقيماً!

وفي الطرف الآخر يقف عليّ عليه‌السلام خارجاً عمّن انكفأ حين انكفأ المشركون على عسكر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن لإذاعة الشّيطان أنّ «محمّداً قد قتل» أدنى أثر في نفسه إلاّ زيادة اليقين في وجوب مجاهدة العدوّ والغوص في لهوات الحرب وقد كسر جفن سيفه. إنّها بيعة لله ولرسوله، فأمعن في جموعهم تقتيلاً وتشريداً، ولم تقرّ نفسه حتّى وجد النّبيّ يجاهد الكفّار ويغلظ عليهم. فعليّ أنأى ما يكون عن حالة الارتداد الّتي أصابت القوم يومئذ وبعدئذ، وترجمتها الوقائع المتلاحقة.

ولهذا وغيره: فعليّ عليه‌السلام أمير كلّ آية فيها خطاب ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وقد عاتب الله سبحانه عامّة الصّحابة، وما عاتب عليّاً بشيء من ذلك. وممّا كان من أمر عليٍّ يومئذ ما رواه حبان عن محمّد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدّه، قال: لما قتل عليّ بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعةً من مشركي قريش، فقال لعليّ احمل عليهم، فحمل عليهم، ففرّق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحيّ. قال: ثمّ أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعةً من مشركي قريش، فقال لعليّ: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرّق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ابن المضرّب، أحد بني عامر بن لؤي، فقال جبريل عليه‌السلام : يا رسول الله، إنّ هذه للمواساة! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبريل عليه‌السلام : وأنا منكما. قال: فسمعوا صوتاً:

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ عليّ

تاريخ الطّبري ٢٠: ١٩٧؛ الأغاني لأبي الفرج الأصبهانيّ ١٥: ١٩٢؛ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ ٥٦؛ السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣: ١٠٦؛ مختصر تاريخ ابن عساكر ١٧: ٣١ إلاّ أنّه اقتصر على ذكر حديث أبي رافع، ولم يذكر النّداء، وذكر في ص ٣١٩ حديث أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ، قال: نادى منادٍ في السماء يوم بدر يقال له رضوان: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ» ومثله في مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ١٩٩ ح ٢٣٥؛ كفاية الطّالب ٢٧٧؛ سنن البيهقيّ ٣: ٢٧٦؛ المستدرك على الصحيحين ٢: ٢٨٥؛ ذخائر العقبى ٧٤؛ الرّياض النّضرة ٢: ١٩٠؛ المناقب للخوارزميّ ١٦٧؛ المستدرك على الصحيحين ٢: ٢٨٥؛ ذخائر العقبى ٧٤؛ الرّياض النّضرة ٢: ١٩٠؛ المناقب للخوارزميّ ١٦٧: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر: «هذا رضوان ملك من ملائكة الله ينادي: لا سيف إلاّ ذوالفقار ولا فتى إلاّ عليّ»، وميزان الاعتدال ٢: ٣١٧؛ لسان الميزان ٤: ٤٠٦؛ مجمع الزّوائد ٦: ١١٤، وفي كفاية الطّالب ٢٧٤ ذكر حديث أبي رافع من غير ذكر النداء ومصادر الحديث أكثر من هذا بكثير، من ذلك: خصائص النّسائيّ ٧٧؛ كنز العمّال ١١: ٣٥٠؛ كنوز الحقائق للمناويّ ٣٧.

ونجد في بعض هذه المصادر ما ينصّ على أنّ النّداء كان يوم بدر، ويوم أحد، ممّا يؤكّد خطر منزلة عليّ عليه‌السلام =

٢٩٦

قوله تعالى: ( الّذِينَ اسْتَجَابُوا للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ) (١) .

( الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (٢) .

بعد انتهاء وقعة أحد ظلّت الحالة العامّة على ما هي عليه قبل المعركة؛ فالمشركون بزعامة أبي سفيان عادوا منها ولما يحقّقوا ما كانوا يصبون إليه من استئصال المسلمين،

____________________

= وخصوصيّته من بين أتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الاستدلال: يستدلّ بالواقعة على انقطاع النّظير، في الشّجاعة، لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ في عليّ عليه‌السلام ، من غير بخس لأسد الله وأسد رسوله: حمزة بن عبد المطّلب، وأبي دجانة. إلاّ أنّ لعليّ من بينهما خصوصيّة في كلّ ميدان وعلى أيّ صعيد؛ ولذا خصّ بالهتاف وقول جبريل عليه‌السلام : «إنّ هذه للمواساة» أي أنّ المواساة كلّ المواساة تتجلّى في سلوك عليّ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه منّي وأنا منه»، وإدخال جبريل نفسه معهما: «وأنا منكم يا رسول الله». كلّ ذلك يدلّل على عصمة عليّ عليه‌السلام لأنّه بعض من كلٍّ لا يجوز على أحدهم ما ينافي العصمة، فهو بين نبيٍّ وملك جليل.

والشّجاعة والفداء على هذا الحال ممّا يكشف عن نفس صاحبها وطهارة معدنه، وهو من دعائم شخصيّة المتصدّي للحكم؛ لأن الشّجاع من قهر ذاته ولم يغلبه هواه. ومن انتصر على نفسه كان على غيرها أقدر، من إقامة الحدود بعدالة، والتصدّي لأعداء الإسلام.

والأمر الآخر أنّ الآية قبلها ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ ) آل عمران / ١٥٣. شرح لحال المنهزمين من المسلمين وهم يمعنون بالفرار مخالفين لله تعالى في وجوب الثّبات في الحرب، ومخالفين النّبيّ في أمرين: الثّبات في مواضعهم، والآخر عدم التفاتهم للنّبيّ وهو يناديهم «ارجعوا إليّ عباد الله! أنا رسول الله». ولم يقع من امير المؤمنين عليّ عليه‌السلام شيء من هذا، فما زال من موضعه قدما وإنّما أمعن في المضيّ قدماً يجندل أبطال العدوّ ويفدي الرّسول بمهجته ويأتمر بأمره: «احمل عليهم»، فيحمل...

وطاعة رسول الله طاعة الله، ومن هذا شأنه فصراطه بالاتّباع أولى ومشايعته أوجب؛ لقوله تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) النّساء / ٥٩. ولا يعقل أن يكون وليّ الأمر من يخالف الله والرّسول، فوجب طاعة عليّ دون غيره، ولأنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعته. وسيأتي الكلام على الآية إن شاء الله.

(١) آل عمران / ١٧٢.

(٢) نفس المصدر ١٧٣.

٢٩٧

فندموا وقررّوا الودة لذلك، فبعث أبو سفيان رسالة إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوعّد ويهدّد. والمنافقون عاودوا نشاطهم في تثبيط المسلمين وتهويل الأمر عليهم... فما كان جواب النّبيّ والمؤمنين معه إلاّ أن قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثمّ إنذه انتدب عصابة مع ما بهم من القروح والجراح الّتي أصابتهم يوم أحد، ونادى منادي رسول الله: ألا لا يخرجنّ أحد إلاّ من حضر يومنا بالأمس. وكان هدف النّبيّ أن يرهب العدو، ويريهم أنّ المسلمين قوّة لا تقهر.

وهل لمثل الجسام إلاّ عليّ؟ فنفر في تسعة من المؤمنين استجابوا لله ورسوله، ممّا أوقع الرّعب في قلوب المشركين، فولّوا إلى مكّة، وعاد المسلمون رافعي الرأس. وقد سجّل لهم الوحيّ ذلك، وعليّ أمير الجماعة الّتي استجابت لله ورسوله، ولم يكن عليه أمير فيها ولا في غيرها، ولم يكن معه في هذا النّفير الصّعب واحد ممّن ذكر ابن القيّم، فبات صراط عليّ هو الصّراط المستقيم لطاعته لله ورسوله على كلّ حال وفي كلّ آن، ولأنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعته ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

في قوله تعالى: ( الّذِينَ اسْتَجَابُوا للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ) الآية، قالوا: نزلت في عليّ عليه‌السلام وتسعة نفر معه، بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أثر أبي سفيان حين ارتحل، فاستجابوا لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

____________________

(١) تفسير الحبريّ: ٢٥١؛ تفسير فرات ١٩ عن الحبريّ؛ شواهد التنزيل ١: ١٣٥، كلّ عن محمّد بن السائب الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس وشواهد التنزيل حديث ١٨٣ عن موسى بن عمير، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس.

وعن أبي رافع. شواهد التنزيل ح ١٨٢؛ مناقب ابن شهر آشوب ٣: ١٢٥، وقال: روي عن أبي رافع بطرق كثيرة أنّه لما انصرف المشركون يوم أحد قالوا: لا الكواعب أردفتم، ولا محمّداً قتلتم، ارجعوا. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبعث عليّاً عليه‌السلام في نفر من الخزرج». البرهان ١: ٣٢٦؛ غاية المرام ٤٠٧.

وعن سالم بن أبي مريم، عن أبي عبد الله الصّادق عليه‌السلام . شواهد التنزيل ح ١٨٥؛ تفسير العيّاشيّ ١: ٢٠٦، وفيه: قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عليّاً عليه‌السلام في عشرة «استجابوا لله وللرّسول من بعد ما أصابهم القرح» إلى «أجر عظيم»: إنّما نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وعن جابر، عن محمّد الباقر عليه‌السلام ، قال: لما وجّه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله امير المؤمنين وعمّار بن ياسر إلى أهل مكّة، =

٢٩٨

قوله تعالى ( أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) (١) .

أبو عبيد الله المرزبانيّ، بسنده عن الكلبيّ، عن أبي صالح، قال: نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عليّ (٢) .

____________________

= قالوا: بعث هذا الصبيّ، ولو بعث غيره إلى أهل مكّة وفي مكّة صناديد قريش ورجالها؟! والله الكفر أولى بنا ممّا نحن فيه! فساروا وقالوا لهما وخوّفوهما بأهل مكّة وغلظوا عليهما الأمر، فقال عليّ عليه‌السلام : حسبنا الله ونعم الوكيل، ومضيا. وأخبر الله نبيّه بقولهم لعليّ وبقول عليّ لهم، فأنزل الله بأسمائهم في كتابه وذلك قوله تعالى: ألم تر إلى ( الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ، وإنّما نزلت «ألم تر» إلى فلان وفلان لقوا عليّاً، وعمّاراً، فقالا: إنّ أبا سفيان، وعبد الله بن عامر وأهل مكّة قد جمعوا لكم فاحشوهم؛ فزادهم إيماناً وقالوا:

«حسبنا الله ونعم الوكيل». تفسير العيّاشيّ ١: ٢٠٦.

والآية فيصل بين حقّ محض وباطل. وهذا الباطل تمثّل في الّذين يصعدون في الجبل فراراً ولا يستجيبون لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعودة إليه، كما لم يستجيبوا أمره أوّلاً بالثّبات في مواضعهم، فمنهم من تعلّل بأنّه سمع بموت رسول الله، فلم ينتصر لنبيّه وإنّما جلس في رفقة له يأكلون. وآخرون مضوا على وجوههم إلى المدينة. وطائفة يعلمها الله تعالى بدخائل نفوسها ( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ) . وهذا يقتضي عدم جواز اتّباع هذه الفئات؛ لفقدها العصمة المانعة من معصية الله تعالى ومخالفة أحكامه.

إنّ الحقّ - والحالة هذه - مع المعنيّين بالخطاب بأن لا يحزنوا لما فاتهم من النّصر، ولما أصابهم من الشدائد يوم أحد. وخير مصداق له: المعنيّ بنزول الأمنة عليه في ذلك الموقف الصّعب، وهو عليّ عليه‌السلام . يقوّيه في المعنى ويعضده توالي الزّمن م ثبوت الحال؛ فالكفّار يتوعّدون، والمنافقون يرجفون، وغيرهم مخذول مخذّل! وعليّ - على ما به من قروح - أوّل من استجاب لأمر رسول الله، فخرج في أثر المشركين، ولم يلتف إلى المثّاقلين إلى الأرض، وما زاد على قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل» والله تعالى يقول: ( إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ ) آل عمران / ١٥٩.

(١) النّساء / ٥٤.

(٢) البرهان ١: ٣٧٨؛ غاية المرام: ٢٦٨؛ اللّوامع النورانيّة: ٨١؛ وينابيع المودّة: ١٢١ عن ابن المغازليّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس. وابن حجر الهيتميّ في الصّواعق المحرقة: ١٥٠، من نفس الطريق.

وفي تفسير الحبريّ: ٢٥٥ ونقله عنه الحسكانيّ في شواهد التنزيل ح ١٨٦ من طريق المرزبانيّ، وفيه: «نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بما أعطاه الله من الفضل». والرواية متّحدة الطريق - من المرزبانيّ - وإنّ الأصل في عنوان تفسير الحبريّ هو: «ما نزل من القرآن في عليّ» وأحياناً «ما نزل في أهل البيت» وعليّ من أهل البيت =

٢٩٩

قوله تعالى: ( يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .

____________________

= ونفس رسول الله وأخوه، والآية بلفظ الجماعة، مضافاً إلى أنّ المصادر والرّوايات من غير هذا الطّريق متّفقة على أن المعنيّ: رسول الله وعليّ، وفي بعضها: رسول الله وأهل بيته، فربّما حذف اسم عليّ لسبب أو آخر، على أنّه يبقى من المحسودين.

* ومن الآثار الدّالّة على ذلك ما جاء عن امير المؤمنين عليه‌السلام ، في جواب له لمعاوية بن أبي سفيان، وذكره سليم بن قيس الهلاليّ العامريّ «المتوفّى سنة ٩٠ هـ) في كتابه السّقيفة: ١٩٤، جاء فيه: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ) فنحن النّاس ونحن المحسودون، قال الله عزّ وجلّ: ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) [ تكملة الآية السّابقة ]. إنّ الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله، وآتاهم الكتاب والحكمة والنّبوّة؛ فلم يقروّن بذلك في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمّد؟!

* محمّد الباقر عليه‌السلام

رواه جابر عنه قال: نحن النّاس. مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ٢٦٧ وعنه في العمدة: ١٨٥؛ ينابيع المودّة: ١٢١؛ غاية المرام: ٢٦٨؛ أمالي الطّوسيّ ١: ١٧٨ وعنه البرهان ١: ٣٧٦.

ورواه بريد العجليّ، عنه عليه‌السلام . البرهان ١: ٣٧٥؛ غاية المرام: ٢٦٨ ولفظه: «نحن النّاس المحسودن على ما أتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين». وله طرق أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام غير هذه.

* جعفر الصادق عليه‌السلام

رواه أبو حمزة الثماليّ عنه عليه‌السلام ، قال: «نحن والله المحسودون». البرهان ١: ٣٧٧؛ غاية المرام ٢٦٩.

وأبو سعيد المؤدّب، عنه عليه‌السلام ، قال: «نحن النّاس، وفضله: النبوّة». شواهد التنزيل ح ١٩٦؛ البرهان ١: ٣٧٨.

ورواه أبان بن تغلب، عنه عليه‌السلام . شواهد التنزيل ح ١٩٥. ومحمّد بن فضيل عنه عليه‌السلام . شواهد التنزيل: ١٩٧ ولفظه: «نحن والله هم، نحن والله المحسودون».

في مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٨١ عن أبي رافع: إنّ عليّاً دخل على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مغضب، فشكا إليه بغض قريش له، وحسد النّاس إيّاه، فقال رسول الله: «يا عليّ، أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين؟».

ونفس المصدر: وعن عليّ قال: شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسد النّاس لي، فقال: «يا علي، أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرارينا خلف أزواجنا وأشياعنا من ورائنا؟».

بعد كلّ ذلك فلم لا يحسد عليّ؛ وغنيّ عن الزيادة في البيان في ظهور الآية في استقامة صراط عليّ.

(١) النساء / ٥٩.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413