منهاج السالكين

منهاج السالكين0%

منهاج السالكين مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 413

منهاج السالكين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف: الصفحات: 413
المشاهدات: 131146
تحميل: 5716

توضيحات:

منهاج السالكين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131146 / تحميل: 5716
الحجم الحجم الحجم
منهاج السالكين

منهاج السالكين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قلت: أخبرنا من فيكم الظالم لنفسه؟

قال: الّذي استوت حسناته وسيّئاته، وهو في الجنّة.

فقلت: والمقتصد؟

قال: العابد لله في بيته حتّى يأتيه اليقين.

فقلت: السّابق بالخيرات؟

قال: من شهر سيفه، ودعا إلى سبيل ربّه (1) .

وبالسند المتقدّم، إلاّ أنّ فيه. الحسين بن الحكم عن حسن بن حسين، عن يحيى بن مساور، عن أبي خالد، عن زيد بن عليّ، في قوله: ( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) قال: الظالم لنفسه: المختلط منّا بالنّاس. والمقتصد: العابد. والسّابق: الشّاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربّه (2) .

وذكر ابن طاووس نقلاً عن تفسير ابن الجحّام محمّد ب العبّاس بن مروان، قال: حدّثنا عليّ بن عبد الله بن أسد بن إبراهيم بن محمّد، عن عثمان بن سعيد، عن إسحاق بن يزيد الفرّاء، عن غالب الهمدانيّ عن أبي إسحاق السّبيعيّ، قال: خرجت حاجّاً فلقيت محمّد ب عليّ، فسألت عن هذه الآية - وذكرها - فقال: ما يقول فيها قومك يا أبا إسحاق - يعني أهل الكوفة؟ قال قلت: يقولون إنّها لهم.قال: فما يخوّفهم إذا كانوا من أهل الجنّة؟ قلت: فما تقول أنت جعلت فداك؟ فقال: هي لنا خاصّة يا أبا إسحاق. أمّا السابق بالخيرات فعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين والشّهيد منّا أهل البيت. وأمّا المقتصد، فصائم بالنّهار وقائم باللّيل. وأمّا الظّالم لنفسه، ففيه ما جاء في التّائبين، وهو مغفور له. يا أبا إسحاق بنا يفكّ الله عيوبكم وبنا يحمل - يحلّ - الله رباق الذّلّ من أعناقكم، وبنا يغفر الله ذنوبكم ن وبا يفتح الله، وبنا يختم لا بكم، ونحن كهفكم كأصحاب الكهف، ونحن سفينتكم كسفينة نوح، ونحن باب حطّتكم كباب حطّة بني إسرائيل (3) .

____________________

(1) شواهد التنزيل 2: 104.

(2) نفس المصدر 2: 105 وذكر بمعناه رواية عن عبد خير عن أمير المؤمنين عليه السلام. وعن ابن عبّاس في معناه، في المعجم الكبير للطبرانيّ 3: 124.

(3) سعد السّعود: 107 - 108؛ كنز الفوائد لمحمّد بن عليّ الكراجكيّ (المتوفّى 449) وعنه في بحار الأنوار 23: 218 - 219. وذكره فرات في تفسيره: 128 مع تباين.

٣٤١

وقال ابن طاووس: وروى تأويل هذه الآية من عشرين طريقاً، وفي الرّوايات زيادات أو نقصان. وأحقّ الخلائق بالاستظهار في صلاح السرّ والإعلان ذرّيّة النّبيّ وعليّ وفاطمة. سعد السّعود: 108.

إن وراثة أهل البيت عليهم‌السلام أظهر من أن - يحقّق فيها، والله تعالى قد صرّح بطهارتهم وعصمتهم. وليس لغير المعصوم أن يتقدّم عليه في فهم كتاب الله واستنباط أحكامه. وواقع الحال أنّ المسلمين من يومهم الأوّل كانوا يعظّمون منزلة أهل البيت، فغذا اختلفوا في شيء هرعوا صوب عليّ عليه‌السلام ، حتّى كثرت قالة أحدهم: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبوالحسن!

وأهل البيت معجزة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم المباهلة، إذ قاموا مقام القرآن في الإعجاز، وهم تركة النّبيّ في أمّته وعدل القرآن، وباب حطّة ورحمة، وبمثابة سفينة نوح... فلم لا يرثون الكتاب العزيز؟! وإذا كانوا كذلك - وهم كذلك - فإنّ صراطهم هو صراط الله المستقيم.

قوله تعالى: ( فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً ) (1) .

عن ابن عبّاس، في قوله: ( فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ ) ، قال: نزلت في عليّ خاصّة. ( وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً ) : نزلت في بني أميّة وبني المغيرة (2) .

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عبد الله: ( فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ) الآية. قال: إنّما يسّره على لسانه حتّى أقام أمير المؤمنين عليه‌السلام علماً، فبشّر به المؤمنين وأنذر به الكافرين، وهم القوم الذين ذكرهم الله في كتابه. ( لُدّاً ) أي كفّارً (3) .

فالقرآن بشارة السّماء لمن آمن وأصلح، وعليّ بشارة لمن آمن وأصلح وعذاب على من حارب الدعوة الإسلاميّة به يفرح المؤمنون المخلصون، ويسأل عن ولايته المسلمون؛ فهو والقرآن عدلان لا ينفكان، فهما صراط الله المستقيم.

____________________

(1) مريم / 97.

(2) تفسير الحبريّ: 290.

(3) البرهان 3: 28.

٣٤٢

قوله تعالى: ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) (1) .

الآية المباركة خاصّة بأهل البيت عليهم السلام، وظهورها في صحّة مذهبهم وأنّ صراطهم هو الصّراط المستقيم، أبين من أن يحتاج إلى بيان أو يقام عليه برهان؛ لما علمنا ممّا جاء فيهم من عند الله تعالى من صريح البرهان، واحتفاء السّنّة بهم حتّى كان الّذي فيهم من أحاديث مثل الذي في الفرقان: ثلث فيهم، وثلث في عدوّهم، وثلث فرائض وأحكام فبقدر مودّة أهل البيت عليهم‌السلام ومشايعتهم تكون المنزلة ويكون الأجر والثواب. والنظر في تمام الآية يزيد صاحبه انفتاحاً على أفق أهل البيت الرّحب، فصدرها بشرى لعباد الله المؤمنين الصّالحين، وأردفه بأنّ البشرى هذه مرتبطة بمودّة أهل البيت، وهي فرض وطاعة، من جاء بها استحقّ البشرى وزاد له تعالى في الثواب، إذ هي الأجر الّذي جعله الله تعالى لنبيّه على جهاده وتبليغ الرّسالة. وختم سبحانه الآية بالمغفرة وشكر من أدّى هذه الفريضة: ( ذلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) الشورى / 23.

أخرج الحبريّ بنسد عن إسماعيل بن أبان، عن فضيل بن الزّبير، عن أبي داود السّبيعيّ، عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: دخلت على عليّ عليه السلام، فقال: يا أبا عبدالله ألا أنبّؤك بالحسنة الّتي من جاء بها أدخله الله الجنّة وفعل به، والسّيّئة الّتي من جاء بها أكبّه الله في النّار، ولم يقبل له معها عمل؟ قال: قلت: بلى، يا أمير المؤمنين. فقال: الحسنة حبّنا، والسّيّئة بغضنا (2) .

____________________

(1) الشورى / 23.

(2) تفسير الحبريّ: 294، في كلامه على سورة النّمل، وهو قوله تعالى: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ ) النمل 89 و 90.

وذكره فرات في تفسيره 115 بسند عن جعفر بن محمد الفزاريّ، معنعنا عن أبي عبد الله الجدليّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، واستدلّ عليه بقوله تعالى: () الآية. الأنعام / 160.

وفي تفسير الثعلبيّ 7 / 230، بطريق الجصّاص...، وذكره الزمخشري في تفسيره «الكشاف» 3 / 468، =

٣٤٣

____________________

= عن الحبريّ. العمدة: 128؛ خصائص الوحي المبين: 218. والحموينيّ في فرائد السمطين 2: 297 بطريق الجصّاص أيضاً. وأورده البحرانيّ عن تفسيرالحبريّ في غاية المرام: 329؛ البرهان 3: 214. وفي ينابيع المودّة: 98 عن أبي نعيم، والثعلبيّ، والحموينيّ، في قوله عزّ وجلّ: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ ) ، قال: أخرجوا بأسانيدهم عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: قال لي عليّ كرّم الله وجهه: يا أبا عبد الله ألا أنبئك بالحسنة الّتي من جاء بها أدخله الله الجنّة، والسيّئة الّتي من جاء بها أكبّه الله في النّار ولم يقبل معها عملاً؟ قلت: بلى قال: الحسنة حبّنا والسّيئة بغضنا.

وهذا الحديث أكثر مناسبة لمعنى الآيتين 89 و 90 من سورة النّمل، ولكنّه لا يتعارض مع الكلام عن بقيّة الآيات الّتي في معنى الحسنة والثواب المعدّ لمن قارفها، أو الآيات التي في مقام الكلام عن الحسنات والسيّئات وما يترتّب عليها؛ إذ خير مصاديق الحسنات هو موالاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعته المقترنة بطاعة الله تعالى، وطاعة عليّ عليه السلام وموالاته المفروضة بصريح القرآن والسّنّة الشّريفة، وكذلك أهل بيت العصمة عليهم السلام.

ولحديث أبي عبد الله الجدليّ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، طرق، منها عن الإمام الهمام الباقر عليه السلام، كما في ينابيع المودّة: 98؛ البرهان 3: 213. وأورد في الينابيع: 98 بسند عن جابر الجعفيّ عن الباقر عليه السلام، في قوله عزّ وجل: ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) ، قال: «من تولّى الأوصياء من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّبع آثارهم فذاك يزيده ولاية من مضى من النّبيّين والمؤمنين الأوّلين حتّى تصل ولايتهم إلى آدم عليه السلام، وهو قول الله عزّ وجلّ: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) وهو دخول الجنّة، وهو قول الله عزّوجلّ: ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) [سبأ/47]، يقول: «أجر المودّة الّتي لم أسألكم غيرها فهو لكم تهتدون بها وتسعدون بها وتنجون من عذاب يوم القيامة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه عليّ أمير المؤمنين عليه السلام. البرهان 3: 213.

وعن ابن عبّاس، أخرجه الثعلبيّ في تفسيره بالإسناد إلى الحكم بن ظهير، عن السّدّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) ، قال: اقتراف الحسنة المودّة لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وذكره في العمدة: 27؛ القرطبيّ في تفسيره 16: 24، والسيوطيّ في الدرّ المنثور 6: 7.

وفي مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ 316 أخرجه بنفس السند، ولفظه فيه: المودّة في آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي قوله تعالى: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى ) [الضّحى/5] قال: رضى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخلوا أهل بيته الجنّة.

وفي ينابيع المودّة: 98 عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قوله تعالى: ( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) ، قال: هي للمسلمين عامّة، وأمّا الحسنة الّتي من جاء بها فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون فهي ولايتنا =

٣٤٤

____________________

= وحبّنا».

وأفاض القرطبيّ في تفسيره في الحديث عن الآية المباركة، من ذلك: في رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: لما أنزل الله عزّ وجلّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الّذين نودّهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وأبناؤهما».

ويدلّ عليه أيضاً ما روي عن عليّ رضى الله عنه قال: شكوت إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حسد النّاس لي، فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرّيّتنا خلف أزواجنا». وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي...».

وقال قوم: الآية منسوخة وإنّما نزلت بمكّة، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله بمودّة نبيّه وصلة رحمه، فلمّا هاجر آوته الأنصار ونصروه. قال: الثّعلبيّ: وليس بالقويّ، وكفى قبحاً بقول من يقول: إنّ التقرّب غلىالله بطاعته ومودّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته منسوخ! وقد قال النّبيّ: «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً. ومن مات على حبّ آل محمّدجعل الله زوّار قبره الملائكة والرّحمة. ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آي من رحمة الله. ومن مات على بغض آل محمّد لم يرح - أي يشمّ ريحها - رائحة الجنّة. ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي».

قلت [ أي القرطبيّ ] وذكر هذا الخبر الزّمخشريّ بأطول من هذا، فقال: وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة. ثمّ منكر ونكير. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرّحمة. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السّنّة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً. ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة».

قال النحّاس: ومذهب عكرمة: ليست بمنسوخة، قال: كانوا يصلون أرحامهم، فلمّا بعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعوه فقال: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودّوني وتحفظوني لقرابتي ولا تكذّبوني».

قلت [ أي القرطبيّ ]: «وهذا هو معنى قول ابن عبّاس في البخاريّ والشعبيّ عنه، وعليه لا نسخ» تفسير القرطبيّ 16: 21 - 23.

قال: قوله تعالى: ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) أي يكتسب. وقال ابن عبّاس: المودّة لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . ( نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) .

٣٤٥

قوله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنّهُم مّسْؤُولُونَ ) (1) .

الآية من خصوصيّات أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وكرامة له، من خلال الحثّ الشديد على ولائه وطاعته.

عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَقِفُوهُمْ إِنّهُم مّسْؤُولُونَ ) قال: يعني عن ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2) .

فالآية ظاهرة في أنّ صراط عليّ عليه السلام هو صراط الله المستقيم الّذي يوقف الإنسان

____________________

= أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعداً. نفس المصدر 24.

ولنا وقفة نسائل عندها ابن القيّم وقومه: إنّ أجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على تبليغه الرّسالة وهداية الأمّة، هو إعظام أهل البيت عليهم السلام وهذا الإعظام ليس من قبيل الودّ العاطفيّ الّذي يتحقّق للبشر بحكم أواصر القربى وغيرها ممّا يراعى فيه جانب البعض إكراماً للبعض الآخر، وإنّما هو أمر تعبّديّ، إذ قرن الله تعالى مودّتهم بمودّة النّبيّ؛ فلهم ما للنّبيّ من مقام الاحترام والطّاعة ومن ثمّ المشايعة والمتابعة، فكان لذلك صراطهم صراط الله المستقيم. وحدّد الّذين يجب مودّتهم باهل البيت، وهم عليّ وفاطمة وأبناؤهما، فليس غيرهم من أهل البيت وليس غيرهم له صفة الطّاعة. ونقلوا عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لشيعة ىل محمّد من الكرامات؛ فمن مات منهم فهو شهيد تزوره ملائكةالرّحمة في قبره، وذلك لأنّ من أحبّ قوماً حشر معهم، والشيعيّ أحبّ عليّاً قسيم الجنّة وآله الأطهار، فلا عجب أن يحشر معهم، فأيّ صراط مستقيم بعد ذلك غيره؟!

وعلى الطّرف المقابل يقف ابن تيميّة الذي ناصب عليّاً وأهل بيته العداء حيث أنكر المسلّمات من فضائلهم، وشايعه ابن القيّم على باطله، وفي الحديث من مات مبغضاً لهم مات كافراً ولم يشمّ ريح الجنّة، فهو والحال هذه على طريق جهنّم وبئس المصير.

(1) الصّافّات / 24.

(2) تفسير الحبريّ: 313؛ شواهد التنزيل 2: 106؛ الأمالي الخميسيّة 1: 144؛ تفسير فرات: 131، المناقب للخوارزميّ: 275؛ كفاية الطّالب: 247؛ خصائص الوحي المبين: 121؛ بشارة المصطفى: 243؛ غاية المرام: 259. وعن مجاهد، في تذكرة الخواصّ: 26؛ ينابيع المودّة: 112؛ مفتاح النجا للبدخشيّ: 41. وابن حجر في الصواعق 149 عن الديلميّ عن أبي سعيد الخدريّ، والآلوسيّ في روح المعاني 23 / 74 عن ابن جبير عن ابن عبّاس، وأيضاً عن أبي سعيد. وابن مردويه عن مجاهد، في «ما نزل من القرآن في عليّ 312 ح 513».

وعن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الصّواعق المحرقة: 89؛ ينابيع المودّة: 112؛ اليقين لابن طاووس: 57.

٣٤٦

ليحاسب ويسأل عن سلوكه إيّاه، ويثاب ويعاقب على قدر ذلك. ولو كان غير ذلك لما اختصّه تعالى بهذا الذّكر والخطاب، ولكان الحساب والمسؤوليّة على أساس من اقتفاء أثر الصّحابة، وعليّ عليه‌السلام أحدهم.

قوله تعالى: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (1) .

ردّ مفحم يأخذ بأعناق ابن تيميّة وابن القيّم وغيرهما من أبناء الباطل فيدحض حججهم ويبطل تلبيسهم.

بسند عن حبّان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، قال: في عليّ عليه‌السلام وشيعته (2) .

____________________

(1) البيّنة / 7.

(2) تفسير الحبريّ: 328؛ الفصول المهمّة: 123 ولفظه: عن ابن عبّاس قال: «لما نزلت هذه الآية: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال لعليّ: هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيّين ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين». وهذه بعض شواهده. وروح المعاني للآندلوسي 30: 207؛ مفتاح النجا 42؛ كشف اليقين 366؛ الصوعق المحرقة 161؛ مناقب عليّ بن أبي طالب لابن مردويه 347 ح 581؛ المعجم الكبير للطبرانيّ 1 / 319 / 948؛ مناقب سيّدنا عليّ للعينيّ: 32؛ تفسير الطبريّ 30 / 171 بسنده عن محمّد بن عليّ؛ أنساب الأشراف 2: 353؛ المصنّف لابن أبي شيبة 7: 504 ح 57 من فضائل عليّ.

* أمير المؤمنين عليه السلام، بسند عن يزيد بن شراحيل الأنصاريّ - كاتب عليّ عليه السلام - قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول: «حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا مسنده إلى صدري فقال: اي عليّ، ألم تسمع قول الله تعالى: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) : أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض غذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين». شواهد التنزيل 2: 356؛ المناقب للخوارزميّ: 266؛ كفاية الطالب: 246؛ الدرّ المنثور 6: 379؛ فضائل الخمسة 1: 278؛ فتح القدير 5: 464.

* مجاهد. في قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال: هم عليّ وأهل بيته ومحبّوهم، تذكرة الخواصّ: 27.

* جابر بن عبد الله الأنصاريّ. رواه عنه جمع نذكر بعض طرقه: أخرجه ابن عساكر وذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق 18: 14 عن جابر بن عبد الله مرسلاً، قال: «كنّا عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل عليّ بن أبي طالب فقال النّبيّ: قد أتاكم أخي. ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ثمّ قال: إنّه اوّلكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعيّة، =

٣٤٧

فخير البريّة مطلقاً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وشيعته، فهو وهم على صراط مستقيم، ولو لم يكونوا كذلك لما كانوا خير البشر. والقرائن تمنع من التفكيك بين عليّ وشيعته في هذه الكرامة.

____________________

= وأقسمكم بالسّويّة، وأعظمكم عند الله مزيّة». قال: ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) . قال: فكان أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أقبل عليّ قالوا: قد جاء خير البريّة.

وهذا الحديث بهذا اللفظ ذكروه بسنده عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، وفيه «هم الفائزون - من غير لام في هم» وزيادة «ثمّ» قبل «إنّه أوّلكم...». الصواعق الطّبريّ 30: 146؛ حلية الأولياء 1: 66 مع بعض الاختلاف والمناقب للخوارزميّ: 111 - 112؛ الصواعق المحرقة 96؛ الدرّ المنثور 6: 379؛ كفاية الطالب 244 - 245 وقال: قلت: هكذا رواه محدّث الشّام في كتابه بطرق شتّى، وذكرها محدّث العراق ومؤرّخها عن زرّ، عن عبد الله عن عليّ قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لم يقل: عليّ خير النّاس، فقد كفر».

ذكره الخطيب البغداديّ في تاريخه 3: 192.

وعن عطيّة العوفيّ قال: قلت لجابر: كيف كان منزلة عليّ فيكم؟ قال: كان خير البشر. مختصر تاريخ دمشق 18: 14.

وعن جابر قال: عليّ خير البشر، لا يشكّ فيه إلاّ منافق. «نفس المصدر 15»

وعن جابر وقد سئل عن عليّ فقال: ذاك خير البريّة، لا يبغضه إلاّ كافر «نفس المصدر»، وكفاية الطالب 246، وتفسير الطبريّ 30: 171.

وعن عطيّة العوفّي قال: دخلنا على جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقلنا له: أخبرنا عن عليّ. قال: فرف حاجبيه بيديه ثمّ قال: ذاك من خير البشر. وزاد في رواية: ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم عليّاً. مختصر تاريخ دمشق 18: 15.

* أبو سعيد الخدريّ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «عليّ خير البريّة» تاريخ بغداد 3: 192؛ مختصر تاريخ دمشق 18: 14؛ المناقب للخوارزميّ 111؛ لسان الميزان 1: 175؛ ذخائر العقبى: 96؛ فرائد السمطين 2: 155؛ الدرّ المنثور 6: 379.

* والأحاديث كثيرة في هذا الباب منها عن حذيفة بن اليمان، وعن عائشة بنت أبي بكر، ومنها من طريق أهل البيت عليهم السلام. وقد ذكرنا بعض هذه الرّوايات في أبواب سابقة؛ وإنّما ذكرنا بعضها هنا للوشيجة الصميمة بينها وبين الآية المباركة مورد البحث، ولأنّها ناهضة بالمعنى المستفاد من الآية ومؤكّدة له.

٣٤٨

قوله تعالى: ( لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (1) .

والآية في امير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فهو الأذن الأولى الّتي سمعت الوحي الكريم وهو يشافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوعاه وآمن بما جاء به، مع طهارة نفسه وما آتاه الله تعالى من مواهب الحفظ والفهم.

أخرج البلاذري بسنده عن هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن عليّ بن حوشب قال: سمعت مكحولاً يقول: قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) ، فقال: «يا عليّ سألت الله أن يجعلها أذنك». قال عليّ فما نسيت حديثاً أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أنساب الأشراف للبلاذريّ المتوفّى 279 هـ، 2: 362.

وفي شواهد التنزيل للحسكانيّ الحنفيّ 2: 272 / 1008، قال: وهذا الحديث رواه جماعة عن امير المؤمنين منهم زرّ بن حبيش الأسديّ: عن الأعمش، عن عديّ بن ثابت عن زرّ - من أصحاب عبد الله بن مسعود، وعليّ، ثقة: تاريخ الثّقات للعجلي ت 261: 165 / 458، وتقريب التهذيب 1: 414 / 2008 وقال: ثقةٌ جليل، مخضرم، مات سنة إحدى وثمانين، قال - أي أمير المؤمنين -: «ضمّني رسول الله إليه وقال: أمرني ربّي أن أدنيك ولا أقصيك، وأن تسم وتعي وحقّ على الله أن تعي» فنزلت «وتعيها أذن واعية».

قال: ورواه أيضاً عنه ابنه عمر عن أبيه عليّ بن أبي طالب قال: قال: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأعلّمك لتعي وأنزلت عليّ هذه الآية: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) ، فأنت الأذن الواعية لعلمي يا عليّ وأنا المدينة وأنت الباب ولا يؤتى المدينة إلاّ من بابها».

- شواهد التنزيل 2: 274 / 1009.

ثمّ ذكر رواة الأذن الواعية: بريدة الأسلميّ، مكحول - خمس روايات -، جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ابن عبّاس، سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، أنس بن مالك. قال: وورد أيضاً عن الحسين بن عليّ وعبدالله بن الحسن، وأبي جعفر وغيرهم.

ومن المصادر الّتي ذكرت نزول الآية في امير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : أسباب النزول

____________________

(1) الحاقّة / 12.

٣٤٩

للواحديّ 294، حلية الأولياء 1: 67، وغيره، المستدرك على الصحيحين 3: 110، تفسير الطبريّ 29 / 56، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ الشافعيّ 318 / 363 و 364، كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم 22، تفسير ابن كثير 4: 413، كفاية الطالب للگنجيّ الشافعيّ 108 «الباب السادس عشر»، فرائد السمطين «الباب 40» حديث 166، مجمع الزوائد 1: 131، كنز العمّال 6: 408، غاية المرام 366، تذكرة الحفاظ 4: 1405، المناقب للخوارزميّ الحنفيّ: 282 - 283 ح 276 - 278، الدرّ المنثور 6: 260، لباب النقول 225، شرح نهج البلاغة للمعتزليّ 4: 319، التفسير الكبير للرازيّ 30: 107، الفصول المهمّة 123، مطالب السؤول 20، المناقب لابن شهر آشوب 3: 95، الطرائف لابن طاووس 93.

٣٥٠

الفصل السادس

الشّيعة صراط الله المستقيم

لسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ الشّيعة بذرة أنبتها الله تعالى، وما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحوطها بعنايته ويرعى غرسها الطيّب ويسقي عودها المونق فالشّيعة هم الّذين استجابوا لله تعالى في طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة أولي الأمر، وهم عليّ الّذي تصدّق حال الرّكوع، فنصب سبحانه ذلك علامة عليهم وسمّاه وأهل بيته عليهم السلام «أهل الذّكر» وحثّ على الرّجوع إليهم لفهم كتابه العزيز واستقاء معالم الدين؛ فكان له بذلك ما للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المنزلة الفكريّة والقياديّة. وسمّاهم الصّادقين وندب إلى الكينونة معهم، ولا يعقل متابعة غير الصّادق. ولم يعلن الوحي طهارة بيت إلاّ بيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام، فباتوا من معاجزه صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهم صراط الله المستقيم الّذي من حاد عنه هوى في جهنّم. ومن أجل ذلك وغيره ممّا بسطنا الكلام فيه تمسّك المسلمون بعليّ عليه السلام وكانوا له شيعة منذ عهد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث اشتهر جمع من الصّحابة بذلك منهم: سلمان الفارسيّ - أو المحمّديّ لشهادة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له بقوله: «سلمان منّا أهل البيت» - وأبو ذرّ الغفاريّ، وعمّار بن ياسر، والمقداد، وخزيمة ذو الشّهادتين، وأبو الهيثم بن التّيّهان، وحذيفة بن اليمان، والفضل بن العبّاس بن عبد المطّلب، وأخوه عبد الله بن العبّاس، وهاشم بن عتبة المرقال، وأبو أيّوب الأنصاريّ، وأبيّ بن كعب، وأبان بن سعيد بن العاص، وأخوه خالد بن سعيد الأمويّان، وأبو سعيد الخدريّ، وعثمان بن حنيف وسهل بن حنيف، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، والبراء بن مالك، وبريدة بن الحصيب، وخبّاب بن الأرتّ، ورفاعة بن مالك

٣٥١

الأنصاريّ، وأبو الطّفيل عامر بن واثلة، وهند بن أبي هالة، وجعدة بن هبيرة المخزوميّ، وبلال مؤذّن النّبيّ. ومن النّساء: أمّ أيمن حاضنة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّ المؤمنين أمّ سلمة، كانتا معارضتين لبيعة أبي بكر يوم السّقيفة وأسمعتاه كلاماً موجعاً حتّى أمر عمر بن الخطّاب فأخرجتا من المسجد. وما زالت أمّ سلمة تصدح بحقّ عليّ وأهل البيت فيما نزل فيهم من القرآن وما قاله فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ونصرت عليّاً عليه السلام يوم الجمل إذ وقفت بوجه عائشة، فذكّرتها بتحذير النّبيّ لها من خروجها هذا، ثم نادت بحقّ عليّ، وجاءته بابنها معتذرة إليه أن ليس على النّساء قتال وأنّها لو كان لها بنون غير ابنها الّذي جاءت به عليّاً عليه السلام لفدته بهم، فشهد ابنها الجمل مع أمير المؤمنين عليه السلام.

فهل كان من ذكرنا من أمّهات المؤمنين والصّحابة من شيعة عليّ هم أهل الغضب والضّلال؟! علماً أنّا لم نذكر كثيراً من الصّحابة بما في ذلك بنو هاشم؛ اكتفاءً بمن ذكرنا دليلاً علىالمراد. وقبل هؤلاء جميعاً ن فإنّ صراط الشيعة هو صراط النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وأهل البيت عليهم السلام، فهل يجوز نبزهم بصفات اليهود والنّصارى؟!

منهج الشّيعة

لقد تمسّك المسلمون الشّيعة من عهد سلفهم الصّالح - وما زالوا - بتحكيم الإسلام في كلّ جوانب الحياة والتسليم المطلق للنصّ الدينيّ، فليس في النّهج الشّيعيّ اجتهاد مقابل النصّ؛ لأنّ ذلك ردّ على الله تعالى وعلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله، وبهذا الاعتبار تمسّكوا بنصوص القرآن الكريم وأحاديث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن وجوب مشايعة أهل البيت عليهم السلام. ولما كان الصّراط المستقيم هو صراط أهل البيت، فبحكم هذه التبعة جعلنا لهذا الفصل عنوان «الشّيعة صراط الله المستقيم»، وللرّحمة الّتي اقترنت بولاء أهل البيت وأنّ في بيت كلّ محبّ لعليّ غصن من شجرة طوبى... كان الشيعة بذرة أنبتها الله تعالى، من تسمية الشيء باسم سببه.

وليس في تاريخ الشّيعة من راجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قضى الله تعالى وقضى الرّسول في حين وقف، في الطرف المقابل، جماعة من الصّحابة مواقف اعتراضيّة من سلوك النّبيّ

٣٥٢

آذته وأغضبته. عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد الله، قال: ناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً - عليه السلام - يوم الطّائف فطال نجواه، فقال أحد الرّجلين: لقد أطال نجواه لابن عمّه! فلمّا بلغ ذلك النّبيّ قال: «ما أنا انتجيته، ولكنّ الله انتجاه» (1) .

ومنه اعتراض عمر بن الخطّاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قبوله الصلح مع قريش المعروف: صلح الحديبيّة، وذلك بعد أن تهيّأ الطرفان لكتابة كتاب الهدنة، فوثب عمر وأتى أبابكر فكلّمه، ثمّ ذهب إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعاد عليه ما قاله لأبي بكر. وكلامه طويل، ذيله: علام نعطي الدّنيّة في ديننا؟! فقال له: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيّعني» (2) . فكأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكّره بأنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بوحي، وأنّ هذا الصّلح كذلك بوحي. وليس وجه الغرابة في سلوك عمر من اعتراضه على تشريع النّبيّ للصلح مع المشركين في حالات خاصّة وظروف معيّنة وأنّ عليه الامتثال لذلك وحسب، وإنّما الغرابة في هذه العبارة القاسية «علام نعطي الدّنيّة في ديننا؟!» وكأنّه أحرص على أمر الدّين من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وهلاّ أبدى عمر مشورةً قبل وقوع الصّلح، إن لم نقل اعتراضاً؟!

وقد يعتذر له أنّه لم يكن يعلم بالنتيجة الّتي سيفضي إليه أمر التفاوض بين قريش وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! والحال أنّه لم يعترض إلاّ وقد علم كلّ من في عسكر النّبيّ بتفاصيل لقاءات مفاوض قريش مع النّبيّ، فإذا حان الشروع بكتابة الكتاب أظهر معارضته على نحو ما علمنا من أسلوبه في مخاطبة النّبيّ.

وقبل هذا كان لعمر موقف آخر قد يلقي ضوءاً يفسّر موقفه المعارض لصلح الحديبيّة، وتتجلّى فيه عدم طاعته لأوامر رسول الله: «دعا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر بن الخطّاب ليبعثه إلى مكّة

____________________

(1) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 125 وأنت تلمس الغلظة وسوء الأدب في السلوك والعبارة من خلال الاعتراض على نجوى النّبيّ لعليّ، وتسميته من غير ما يليق به من قبيل النّبيّ، والرّسول. ويرد الحديث في مصادر كثيرة مع اختلاف يسير في اللّفظ، في: صحيح الترمذيّ 5: 639؛ تاريخ بغداد 7: 402؛ المناقب للخوارزميّ: 138؛ شرح نهج البلاغة للمعتزليّ 2: 431؛ كفاية الطّالب: 328؛ أسد الغابة 4: 107؛ جامع الأصول 9: 474؛ العمدة لابن البطريق: 190؛ البداية والنهاية 7: 356؛ غاية المرام: 526؛ كنز العمّال 11: 599.

(2) السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 331؛ تاريخ الطّبريّ 3: 280؛ صحيح البخاريّ 3: 182.

٣٥٣

فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكّة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظتي عليها! ولكنّي أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي: عثمان بن عفّان. فدعا رسول الله عثمان فبعثه إلى أبي سفيان...» (1) الخبر.

وما كان ينبغي له أن يرفض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أدّب الله تعالى المسلمين بالطّاعة المطلقة لرسول الله وأن لا خيرة لهم فيما قضى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (2) .

وليست نفس عمر أعزّ من نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يضنّ بها على خدمة الإسلام وطاعة الله والرّسول؟!

وممّا يصلح إيراده هاهنا أنّ هناك حالة من الازدواجيّة في نفوس القوم، وهم بعد حديث و عهد بالإسلام، وأنّ لوثات الجاهليّة ما زالت عالقة فيها، تجسّدها حالات التمرّد على أوامر النّبيّ أو التشكيك فيما يقول مع حرص ظاهر على المصالح الخاصّة والآنيّة عن عبد الله بن أبي بكر أنّ النّبيّ قال: من رجل يخرج بنا على طريقٍ غير طريقهم - أي قريش - الّتي هم عليها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله؛ فسلك بهم طريقاً وعراً بين شعاب، وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للنّاس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه»، فقالوا ذلك، فقال: «والله إنّها للحطّة (3) الّتي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» (4) .

والسؤال: من هم المسلمون الّذين شقّ عليهم ذلك السّير مع النّبيّ القائد هل هم كلّ الصّحابة من غير استثناء؟! فإذا كان الأمر كذلك بطلت مقولة تعيين الصّراط المستقيم الّذي يبتهل المسلم - من وقت البعثة النّبويّة الشريفة وإلى يومنا - إلى الله تعالى في

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 2: 278؛ السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 329.

(2) الأحزاب / 36.

(3) الحطّة: أي اللّهمّ حطّ عنّا ذنوبنا، أراد بذلك قول الله تعالى لبني إسرائيل: ( ... وَقُولُوا حِطّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) الآية، البقرة / 58.

(4) السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 323؛ تاريخ الطبريّ 2: 273.

٣٥٤

صلواته الخمس أن يهديه إليه، في أشخاص بعينهم؛ إلاّ أنّ القرائن قرآناً وسنّة دلّلت على أنّ الصّراط المستقيم متعيّن في النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عليّ وأهل البيت عليهم السلام.

ثمّ ما الذي بدر ممّن شملهم الخبر حتّى قال لهم النّبيّ: قولوا نستغفر الله ونتوب إليه؟! أليس هو ذنب ومعصية تخوّف صلى‌الله‌عليه‌وآله العذاب عليهم لأجلها حتّى قرنهم ببني إسرائيل لما عصوا نبيّهم عليه السلام؟

وعليّ خارج من هذه الدائرة، ألم يعاتب الله تعالى الصّحابة وما عاتب عليّاً، على ما مرّ بنا؟!

تتمّة الخبر: قال ابن شهاب الزّهريّ: فأمر رسول الله النّاس فقال: اسلكوا ذات اليمين «والخبر طويل نختصره»: حتّى إذا لك في ثنيّة المرار بركت ناقته، فقالت النّاس: خلات! فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألوني صلة الرّحم إلاّ أعطيتهم إيّاها. ثمّ قال للنّاس: انزلوا، فقيل له: يا رسول الله، ما بالوداي ماء ننزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجش بالرّواء (1) .

في هذا النصّ معان تستحقّ التأمّل: فقولهم خلأت، إنّ الخلاء في الإبل بمنزلة الحران في الدوابّ، أي الوقوف عن الحركة وهي صفة تنقيص، وقد سمعوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله سابقاً قوله فيها: دعوها فإنّها مأمورة. ولم يضيع النّبيّ الفرصة في تهيئة نفوسهم لما هو قادم عليه، فإنّ الّذي منع الفيل وأصحابه من الحركة نحو مكّة هو الّذي منع النّاقة؛ إشعاراً بحرمة البيت وأنّه مصالح قريش إن أرادت، ولكن حصل الخلاف كما سلف.

وهنا قد وقع عصيان لما أمرهم بالنّزول بدوى عدم وجود ماء، وكان لهم أولى أن ينزلوا، وجد الماء أم لم يوجد حتّى يتحقّقوا من مقصده.

ومن ذلك - وهو يؤيّد الّذي قلناه في التصوّر العامّ للجماعة الإسلاميّة بشأن الدّعوة الإسلاميّة - قول الزهريّ: وقد كان أصحاب رسول الله لا يشكّون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله، فلمّا رأوا ما رأوا من الصّلح والرّجوع، وما تحمّل عليه رسول الله في نفسه،

____________________

(1) السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 324 والقليب: البئر، وجاش: ارتفع. والرّواء: الكثير.

٣٥٥

دخل على النّاس من ذلك أمر عظيم حتّى كادوا يهلكون (1) !

ومن ذلك: ما كان من أبي بكر في حضرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد قال عروة بن مسعود الثّقفيّ، مفاوض قريش: لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً. فقال أبو بكر: امصص بظر اللاّت! أنحن ننكشف عنه (2) ؟!

إنّ أبا بكر قدّم بين يدي النّبيّ فلم ينتظر ليسمع جوابه لعروة، ولم يستأذن النّبيّ في الكلام. وأمرّ من ذلك كلّه أنّه استعمل كلاماً فاحشاً يعدّ من الشتائم الغليظه عند العرب، وقد نهى القرآن الكريم من ذلك ( وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) الحجرات / 2.

وهلاّ ردّ عليه من جنس كلامه مثلاً: إذا كان الغد ستعلم من يثبت ومن يولّي الدّبر! وإنّ عروة لم يكن يتكلّم من غير أصل، فغزوة أحد شرخ عميق في تاريخ المسلمين فيه تجلّت أهمّيّة الطّاعة والتسليم لله ولرسوله، وبعكسه ليس إلاّ الخسار المبين، فما أن نادى منادي المشركين: قتل محمّد! حتّى انكفأ المسلمون منهزمين وانكفأ عليهم المشركون، وذهب بعض الصّحابة - فيهم عمر بن الخطّاب وطلحة بن عبيد الله - بعيداً عن ساحة المعركة، وألقوا بأيديهم، فمرّ بهم أنس بن النّضر - عمّ أنس بن مالك - فقال: ما يجلسكم؟! قالوا: قتل رسول الله! قال: فماذا تصنعون بالحياة بعد؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل (3) .

ذكرنا هذه الواقعة في فصل سابق، وللضّرورة أعدناها هنا. إنّ المصادر الخبريّة تنبئ أنّ الصّارخ بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد هو الشّيطان! فهل من الإيمان الاستجابة له ومعصية الله تعالى ورسوله بالفرار من الزّحف؟! ولو قتل رسول الله حقّاً... فهل تطيب الحياة بعده؟ فأيّ صراط مستقيم هؤلاء؟!

أمّا ذو النّورين: عثمان بن عفّان، فقد فرّ في صحبة له من الأنصار حتّى بلغوا جبلاً

____________________

(1) السيرة النّبويّة لابن هشام 3: 332؛ تاريخ الطبريّ 2: 281.

(2) السّيرة النّبويّة 3: 327؛ تاريخ الطبريّ 2: 275؛ صحيح البخاريّ 3: 179.

(3) السّيرة النّبويّة 3: 88؛ تاريخ الطبريّ 2: 199.

٣٥٦

بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً، ثمّ رجعوا فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لقد ذهبتم فيها عريضة» (1) !

هذا في وقت يتقدّم فيه رجل يهوديّ اسمه مخيريق فقال لقومه: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أنّ نصر محمّد عليكم لحقّ. قالوا: إنّ اليوم يوم السّبت! قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وقال: إن أصبت فمالي لمحمّد يصنع فيه ما شاء. ثمّ غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتّى قتل، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مخيريق خير يهود» (2) . لقد علم من حال اليهود طيلة تاريخهم حبّهم للمال وتعلّقهم بالدّنيا ومخالفتهم لأنبيائهم، إلاّ أنّ مخيريق قد استجاب لما ورد في كتبهم من نصوص بشأن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوب اتّباعه ونصرته؛ فحثّ قومه على ذلك وأوصى بماله إلى رسول الله ومضى شهيداً بين يديه، فما أبعد الموقفين!

وفي أحد وغير أحد كانت مواقف شكّلت خطراً على الإسلام، ذلك أنّه فيما عدا المنافقين فإنّ من يحسب في الصّحابة الّذين قرنهم خير القرون كما يروون! كان في الهزيمة كالغزال، ولم يسجّل له التاريخ أنّه قتل رجلاً في ساح الحرب، وقد سجّل الوحي تلك المواقف. وفي أحد أنزل سبحانه آيات كلّها توبيخ وتقريع للمنهزمين المتخاذلين، من ذلك: ( حَتّى‏ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ ) (3) . أي تخاذلتم وتنازعتم في أمري فتركتم أمر نبيّكم بأن لا يترك الرّماة سفح الجبل على أيّ حال، فعصيتم أمري وأمر نبيّكم لما أريتكم بشائر الفتح وهزيمة القوم عن أموالهم ونسائهم، فالّذين يريدون الدّنيا وتركوا الطّاعة التي عليها ثواب الآخرة ليس مثل من يريد الآخرة فأطاع ولم يبّدل، فصرف الله نصره اختباراً لكم بما أذنبتم، فانقلب الموقف وتغيّرت المعادلة. عن الزّبير بن العوّام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّراتٍ هوارب ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير، إذ مالت الرّماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلّوا ظهورنا

____________________

(1) تاريخ الطبريّ 2: 203.

(2) السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 94.

(3) آل عمران / 152.

٣٥٧

للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إنّ محمّداً قد قتل! فانكفأنا وانكفأ علينا القوم (1) .

وفي حديث البراء: لما لقي القوم هزم المشركون حتّى رأيت النّساء قد رفعن عن سوقهنّ وبدت خلاخيلهنّ فجعلوا - أي الرّماة - يقولون: الغنيمة الغنيمة! فقال عبد الله بن جبير: مهلاً، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله، فأبوا إلاّ الغنيمة، فانطلقوا فلمّا أتوهم صرف الله وجوههم فأصيب من المسلمين سبعون (2) .

وكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أنّ أحداً من أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد الدّنيا وعرضها حتّى كان يومئذ (3) .

لقد غلبت غنيمة المال على غنيمة الآخرة والجنّة في نفوس هؤلاء، فلا المال غنموا ولا أنفسهم حفظوا، بل كانت خسارة كبيرة هي قتل سبعين وما لحق بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كسرت رباعيّته وشجّ رأسه.

وإذا كان حواريّ رسول الله: الزّبير بن العوّام قد أبلى يومئذ بلاء حسناً، فما له غدا مثل غيره إذ صرخ صارخ: ألا إنّ محمّداً قد قتل فانكفأ أمام العدوّ من غير أن يتبيّن الحقيقة؟ أو غاب عن باله أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بشر يجري عليه ما يجري عليهم من موت أو قتل: ( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) (4) ، ولكن شريعته باقية وعليه الدفاع عنها على أيّ حال. فليس للزّبير عذر ولا لعمر ولا لغيرهما. والآية في مقام الحديث عن حالة الرّدّة الّتي ترافق غياب القائد، وقد عبّر عنها القرآن الكريم بالانقلاب على الأعقاب، أي الرّجوع إلى الحالة الجاهليّة! وإن كان عمر قد تمسّك بهذا العذر - وهو الصّراخ - ليكون بعيداً عن المعركة، فإنّه صرخ في القوم المؤتمرين في سقيفة بني ساعدة قائلاً: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي؛ وإنّ رسول الله

____________________

(1) السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 82.

(2) تاريخ الطبريّ 2: 193.

(3) نفس المصدر 2: 194.

(4) آل عمران / 144.

٣٥٨

ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، ووالله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله مات (1) !

عود على أحد

ويبقى عليّ هو عليّ! المؤمن الّذي لم يعاتبه الله تعالى بشيء، هو السّابق إلى الإسلام والفدائيّ الّذي يقي النّبيّ بنفسه العليّة فينام على فراشه ليلة هجرته من غير مراجعة، كما صنع غيره في مواطن دون ذلك، فلم يسأل: أن لو هجمت عليّ قريش ماذا أفعل؟ وإنّما نام متحمّلاً رشقهم إيّاه بالحجارة، وهو يتضوّر حتّى الفجر، وواصل مسيرته الجهاديّة الفذّة. وإذا كان غيره يوم أحد بين فارٍّ أهمّته نفسه وبين: إنّ فلاناً قاتل يوم كذا، ولم يقل قتل فلاناً أو بارز فلاناً... فإنّ أسماء من عجّل بهم إلى جهنّم سيف الحقّ الّذي مع عليّ المسدّد من الباري العليّ، محفوظة في ذمّة التاريخ ونطق بها الوحي، في أحد وغير أحد. وللموقف الفريد الّذي وقفه علي عليه السلام يوم أحد هتف جبريل عليه السلام: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ... فيما قال في المنهزمين: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ ) (2) . تعبير ووصف لحالهم هاربين مذعورين، وفي الآية تفنيد لمن تعلّل بصراخ الشّيطان! فإنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما به من الجراح يهتف بهم ليشعرهم أنّه حيّ ليعودوا، فما أجدى!

وقوله تعالى: ( إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) (3) .

____________________

(1) السيرة النبويّة لابن هشام 4: 305؛ تاريخ الطبريّ 2: 442.

(2) آل عمران / 153.

(3) نفس المصدر 155.

٣٥٩

تبيان لسبب الهزيمة

وهي المعاصي السالفة أو تعلّق نفوسهم بالغنائم وحبّ الدّنيا، ولذلك تمكّن الشّيطان منهم فاستزلّهم، فكان حالهم يومئذ أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ كَفَرُوا ) [ آل عمران / 156 ] فهل يعقل أنّ المتمرّد على الله تعالى ورسوله، المحبّ للدّنيا المستجيب للشّيطان والمعرض عن نداء النّبيّ... هو صراط الله المستقيم من دون المؤمن الثّابت الّذي يقي النّبيّ بمهجته؟!

إذن لماذا أنكر أبو بكر على عروة كلامه وأسمعه كلاماً ما ينبغي أن يقال في حضرة النّبيّ؟ وإذا كانت أحداث أحد قد باتت قديمة لا يذكر أبوبكر شيئاً منها، فإنّ غزوة الخندق ما تزال واقعتها ماثلةً في أذهان الجميع؛ فقد وقعت في شوّال سنة خمس، والآن نحن في سنة ستّ حيث جلسات صلح الحديبيّة... فما الّذي وقع في تلك الغزوة؟ مختصراً: اقتحم عمرو بن عبدودّ العامريّ الخندق الّذي أقامه المسلمون حولهم بمشورة سلمان الفارسيّ، ومعه مجموعة من الفرسان، فخرج إليه عليّ عليه السلام فقتله، وهل غير عليّ لمثل عمرو؟! ثمّ عطف على نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ فقتله، وفرّ أصحاب عمرو منهزمين حتّى اقتحموا الوادي (1) راجعين.

ولم تمض إلاّ أشهر عدّة حتّى وقع أمر يؤيّد قول عروة بن مسعود؛ فقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في محرّم سنة سبع غلى خيبر، وفيها بعث رسول الله أبا بكر برايته إلى بعض حصون خيبر، فعاد ولم يك فتح، ثمّ بعث الغد عمر بن الخطّاب فرجع ولم يك فتح (2) . وفي رواية بريدة الأسلميّ: أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اللواء عمر بن الخطّاب ونهض من نهض معه من النّاس فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبّنه أصحابه ويجبّن أصحابه، فقال رسول الله: «لأعطينّ اللّواء - وأكثر المصادر: الرّاية - غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرّار 9. فتطاولت لها أعناق قريش، فلمّا كان الغد جاء عليّ عليه السلام وهو أرمد، فجعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ريقه فيهما، فما

____________________

(1) السّيرة النّبويّة 3: 236؛ الطبريّ 2: 240.

(2) السّيرة النّبويّة النّبويّة 3: 349.

٣٦٠