منهاج السالكين

منهاج السالكين14%

منهاج السالكين مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 413

منهاج السالكين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142326 / تحميل: 6750
الحجم الحجم الحجم
منهاج السالكين

منهاج السالكين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

عرض لنفقات الدولة

وفيما يلي نحاول أن نستعرض وجوه النفقات في الفقه الإسلامي، بالشكل الذي يعرضه القرآن الكريم.

وقد نظم الفقه الإسلامي وجوه النفقة التي يجب على السلطة القيام بها بشكل يفي بكل الحاجات الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والعمرانية، وما يتجدد من حاجة في البلاد.

ولكي نستعرض هذه النفقات بشكلها التشريعي نحاول أن ندرس هذا الجانب من البحث في ضوء آيتين من القرآن الكريم، هما آيتا الزكاة والخمس.

آية الزكاة

قال الله - تعالى -:( إنَّماَ الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمسَاكِينَ، وَالْعامِلينَ عَليْها، وَالْمُؤلَّفةِ قُلُوبُهُم، وَفيِ الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ، وَفيِ سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ... ) (١) .

ويلمح الباحث من سياق الآية الكريمة نحوين من المصارف يختص الأول منهما بتملك هذه النفقات. ويختص الثاني بصرفها عليه.

____________________

(١) سورة التوبة: ٦٠.

٦١

ويشعر بذلك موضع «اللام» و«في» في الآية الكريمة.

فقد أضافت الآية الكريمة الصدقات إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ب «اللام» مما يشعر بأنهم أشخاص حقيقيون يملكون هذه الصدقات.

وأضافت «الصدقات» إلى «الرقاب» و«الغارمين» و«سبيل الله» و«ابن السبيل» بكلمة «في» أو بالعطف عليها مما يشعر بأنها مرافق عامة وجهات اجتماعية تختص بهذه المصارف وليست أشخاصاً تملك ذلك.

فالنفقات المالية للدولة الإسلامية على نحوين:

١ - نفقات عامة تبذل على أشخاص حقيقيين يملكونها (التمليك).

٢ - نفقات عامة تصرف على جهات ومرافق اجتماعية تختص بها من دون أن تملكها (الصرف والاختصاص).

وعلى ضوء من هذا النهج نحاول أن نستعرض آية الزكاة بالبحث الفقهي.. ونتناول هذه المصارف واحداً بعد آخر.

(أ) النفقات الشخصية

وهي النفقات التي تبذل لأشخاص من الفئات التالية:

١ - الفقراء،٢ - المساكين،

٣ - العاملون عليها،٤ - المؤلفة قلوبهم.

٦٢

١، ٢ - الفقراء والمساكين:

والظاهر أن المسكين أشد فقراً من الفقير، بحيث يضطر للسؤال.

والفقير هو المحتاج المتعفف، الذي لا يملك قوت سنته، ولم يبلغ به الحال حد الاستجداء(١) .

والفقراء والمساكين - في حدود هذا المعنى - يملكون سهماً من سهام الزكاة، يصرفونه على شؤونهم الخاصة والعامة مما يحتاجون إليه.

أقسام الفقر:

والفقر على ثلاثة أقسام:

فقد ينشأ الفقر عن عجز الشخص عن الاكتساب، لآفة في جسمه أو لعاهة تلازمه.

وقد يكون الشخص قادراً على الاكتساب، ولا يحمل أي مرض يقعده عن العمل. ولكن اشتغاله بالخدمات العامة يمنعه عن الاكتساب، فلا يملك قوت سنته.

وقد يكون الشخص سليماً قوياً فارغاً من أي نشاط عملي أو فكري، مهملاً، عاطلاً.

____________________

(١) راجع تفسير التبيان: ٥ / ٢٨٣. وتفسير الطبري: ١٠ / ١٥٩.

٦٣

ولكن من هذه الأقسام الثلاثة حكم خاص في التشريع الإسلامي:

(أ) المرض والشيخوخة:

فإن كان الفقر ناشئاً عن عجزه عن العمل لعاهة جسمية أو مرض عصبي أو شيخوخة، فلا شك في شمول الآية له.

وقد خصصت الشريعة الإسلامية لهم سهماً من الزكاة، ليحفظ لهذه الطبقة من المسلمين كرامتها، ويكف وجوههم وأيديهم عن ذل الاستعطاء.

كما قررت الشريعة أن تصرف الدولة من بيت المال راتباً على الفقراء العاجزين عن العمل بمرض أو شيخوخة.

فقد ورَد عن محمد بن أبي حمزة عن رجل بلغ به علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام . قال: مرَّ شيخ مكفوف كبير يسأل. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما هذا؟ قالوا يا أمير المؤمنين نصراني. فقال أمير المؤمنين: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه. انفقوا عليه من بيت المال(١) .

وهذا الحق الذي يفرضه الإسلام للفقراء والمعوزين من المرض والشيوخ يشبهه - إلى حد ما - (حق التقاعد) في الأنظمة الحديثة.

____________________

(١) رسائل الشيعة كتاب الجهاد: ١٠ من أبواب جهاد العد وما يناسبه.

(ب) القائمون بالخدمات العامة:

٦٤

وقد يكون الفقر ناشئاً عن الإشتغال بالخدمات الاجتماعية العامة، كالتعليم، والتبشير، والدعوة، والطباعة، وحفظ الأمن الداخلي وحفظ الثغور، والجهاد، والإدارة.. وما شابه ذلك.

وهؤلاء - في الغالب - أُناس يصلحون للإكتساب والعمل، وليس بهم شيء من الكسل أو الإهمال.. ولكن اشتغالهم بالخدمات الاجتماعية لا يفسح لهم مجالاً للعمل والاكتساب؛ فيدخلون في عداد الفقراء الذين لا يملكون قوت سنتهم.

ولابد أن نشير إلى أن الآية الكريمة لا تقصد بالفقراء السائلين باليد أو المقعدين والعاجزين والمرضى فحسب.. وإنما تشمل كل من يقصر ماله على تمويله سنة كاملة (واحدة). سواءاً كان الفقر ناشئاً عن عجز أو عاهة في الجسم أو كان ناتجاً عن اشتغال الإنسان بالخدمات الإجتماعية الواجبة بحيث تستوعب وقته، ولا تسمح له بالوقت الكافي لينصرف إلى بعض أسباب الرزق.

والإنسان في هذه الحالة يحق له أيضاً أن يسترزق من بيت المال بصورة محترمة تليق بمكانته، ويأخذ من بيت المال ما يكفيه ويغنيه، ليس على سبيل الاجرة والجزاء، وإنما على سبيل الحاجة والاستحقاق.

وقد يدل وضعه على بعض اليسر والسعة والرفاهية، كما لو

٦٥

كان يملك مركباً مناسباً له وخادماً وبيتاً للسكنى. ومع ذلك فلا يمنع ذلك من أن يأخذ حاجته وحاجة عياله من بيت المال.

قال السيد الطباطبائي اليزدي:

«ودار السكن والخادم وفرس الركوب المحتاج إليها بحسب حاله، ولو لعزه وشرفه، لا يمنع من إعطاء الزكاة وأخذها»(١) .

ولا يقتصر فيما يدفع لهم على قدر الحاجة والكفاف، وإنما يبذل لهم من مال الزكاة ما يلائم مكانتهم الاجتماعية وما يغنيهم.

فقد سئل أبو جعفر -عليهما‌السلام -: «كم يعطى الرجل من الزكاة؟ فقال: اعطه من الزكاة حتى تغنيه»(٢) .

وقال رجل لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : «اعطي الرجل من الزكاة مائة درهم؟ قال: نعم. قال: مائتين؟ قال: نعم. قال: خمسمائة؟ قال: نعم.. حتى تغنيه»(٣) .

وكذلك يظهر للباحث من خلال الكتاب والسنة أنه ليس في تقبل هذه الطائفة للزكاة ما يشعر بالهوان، وإنما هو حق طبيعي لهم، يتقاضونه من الدولة كما يتقاضون أي حق آخر لهم.

ويدخل رجال الثقافة والفقهاء، والعلماء، والأطباء،

____________________

(١) العروة الوثقى: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة.

(٣) جواهر الكلام: كتاب الزكاة.

٦٦

ورجال الشرطة والإدارة، والجند.. في عداد هؤلاء وتيسر لهم الدولة حياتهم المادية، ليتفرغوا لما يُقدِّمون للمجتمع من خدمات عامة، وإن كانوا يقدرون على الاكتساب.

قال الفقيه اليزدي في «العروة الوثقى»:

«لو اشتغل القادر على الكسب بطلب العلم المانع عنه، يجوز له أخذ الزكاة إذا كان مما يجب تعلمه عيناً أو كفاية، وكذا إذا كان مما يستحب تعلمه»(١) .

وعن مؤلف «جواهر الكلام» عن «نهاية الأحكام» و«السنن» و«التحرير» وغيرها:

«لو كان التكسب يمنع من التفقه في الدين، جاز أخذها؛ لأنه مأمور به إذا كان من أهله.. وجاز الإنشغال بالتعليم والتعلم عن الاكتساب»(٢) .

وكذلك شأن القضاة والحكام، والجند والشرطة، وأطباء المستشفيات العامة، والسعاة - كما تصرح به الآية الكريمة - من الذين يقومون بالخدمات الاجتماعية داخل الإدارة الحكومية وخارجها -.

____________________

(١) العروة الوثقى: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٧٧.

٦٧

أصل التوظيف في الإسلام:

ومن هنا يتبين للباحث، شكل «التوظيف» في الدولة الإسلامية.

فالراتب الذي يأخذه الموظف في مجتمع غير إسلامي..، إنما يأخذه ازاء ما يُقدِّمه من خدمات اجتماعية في حقول الثقافة والطب والمحافظة على الأمن والإدارة.

أما في الدولة الإسلامية، فهذه الخدمات تعتبر واجبات شرعية عينية أو كفائية، يستحقها المجتمع على كل فرد مسلم أو أفراد مخصوصين.

فالمريض يستحق من الطبيب، المعالجة، والجاهل يستحق من العالم، التثقيف، والمجتمع يستحق من رجال الشرطة والجند، الأمن الداخلي والخارجي، والأُمة تستحق على الحكومة، الرعاية. ولا يجوز مطالبة شيء - عادة - إزاء هذه الحقوق، إذا اعتبرناها فرائض شرعية واجبة.

ويُقدِّم لهم بيت المال أرزاقهم بصورة محترمة، ليتفرغوا لمهامهم الاجتماعية.

فلا يجوز للاستاذ أن يتقاضى أجراً من الدولة أزاء تدريسه، كما لا يجوز للجندي أن يتقاضى أجراً أزاء حمايته للوطن، ولا يجوز للطبيب أن يتقاضى شيئاً أزاء معالجة المرضى - إذا توقف العمل عليهم وكان واجباً كفائياً أو عينياً عليهم -.

٦٨

قال الفقيه الشيخ الأنصاري -رحمه‌الله - في «المكاسب»:

«مما يحرم التكسب به، ما يجب على الإنسان فعله عيناً أو كفاية، تعبداً أو توصلاً، على المشهور - كما في «المسالك» -، بل عن «مجمع البرهان» كأن دليله الإجماع»(١) .

تخلص فقهي:

وفي الأوضاع الاجتماعية التي عاصرت التاريخ الإسلامي، لم يتحقق الشكل السليم للمجتمع، ولم يضمن القائمون بالخدمات الاجتماعية من قبل الدولة بالشكل الذي يريده الإسلام.

فكان هؤلاء يضطرون إلى الإحتيال بصورة شرعية لأخذ الأُجرة لإمرار حياتهم الخاصة.

وقد أَربك هذا الواقع اللاإسلامي موقف الفقهاء.

فالضرورة تلجؤهم إلى الاعتراف بذلك من جانب.. والأدلة الشرعية تمنعهم عن ذلك من جانب آخر.

فتجد هذا الموقف المرتبك الحاصل من محاولة الجمع بين ضرورة الأوضاع الاجتماعية غير الإسلامية وبين مقتضى الأدلة الشرعية في كلام الشيخ الأنصاري:

«ثمّ إنه قد يفهم من أدلة وجوب الشيء (أي الخدمات

____________________

(١) المكاسب للشيخ الأنصاري: ١ / ٦١.

٦٩

الاجتماعية) كونه حقاً لمخلوق يستحقه على المكلفين. فكل من أقدم عليه فقد أدى حق ذلك المخلوق. فلا يجوز له أخذ الأُجرة منه ولا من غيره ممن وجب عليه أيضاً كفاية. ولعل من هذا القبيل تجهيز الميت وإنقاذ الغريق، بل ومعالجة الطبيب لدفع الهلاك».

«ثمّ أن هنا إشكالاً مشهوراً، وهو أن الصناعات التي يتوقف النظام عليها، تجب كفاية لوجوب إقامة النظام. بل قد يتعين بعضها على بعض المكلفين عند انحصار المكلف القادر فيه.. مع أن جواز أخذ الأُجرة مما لا كلام فيه. وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأُجرة على الطبابة، لوجوبها عليه كفاية أو عيناً. وقد يتفصّى عنها بوجوه»(١) .

ثمّ يشرح الشيخ الأنصاري -رحمه‌الله - الوجوه التي ذكرها الفقهاء للتخلص من هذا المأزق الفقهي لتبرير أخذ الأُجرة على الواجبات بشكل من الأشكال.

ومما تقدم يبدو واضحاً للباحث شكل التوظيف في المجتمع الإسلامي، فهو حق يقدمه الموظف للمجتمع، من غير أن يحق له أن يطالب بجزاء عنه. والدولة بدورها يجب عليها تقديم المساعدات المادية المحترمة إليه، حتى يتفرغ للعمل.

____________________

(١) المكاسب: ١ / ٦٣.

٧٠

(ح) الفقراء العاطلون:

وهؤلاء هم طائفة من الناس يؤثرون حياة الذل والراحة - إذا كان فيها شيء من الراحة - على أن يخوضوا ميادين الحياة، ويعتمدون على ما يدره عليهم عطف الناس، وإن كان ضئيلاً مقروناً بالذل.

ويقف التشريع الإسلامي موقفاً حاسماً من هؤلاء، ولا يجوز تقديم أي مساعدة مالية من بيت المال لهؤلاء، مهما بلغ الأمر.

قال الفقيه الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر):

«فمن يقدر على اكتساب ما يموّن نفسه وعياله على وجه يليق بحاله، لا تحل الزكاة له؛ لأنه كالغني. وكذا ذو الصنعة اللائقة بحاله التي تقوم بذلك، كالتجارة والحياكة ونحوهما، بلا خلاف معتد به»(١) .

٣ - العاملون عليها:

وهم السعاة الجباة الذين يقومون بجمع الضرائب المالية وجبايتها، والولاية عليها، وتنظيم شؤونها وتسجيل حساباتها.

٤ - المؤلفة قلوبهم:

وهم كفار يستمالون للجهاد مع المسلمين، أو مسلمون ضعفاء

____________________

(١) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٧٧.

٧١

الإيمان يستمالون إلى حفظ الثغور والأمن في الوطن الإسلامي.

وذلك فيما يخص الأشخاص الذين تبذل لهم الدولة النفقات التي تنهض بأمرهم.

(ب) الجهات والمرافق العامة «وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله»

قلنا - فيما تقدم من هذا الحديث - أن موقع «وفي» في الجزء الثاني من الآية الكريمة يشعر بأنه من الإنفاق على جهة عامة أو مصلحة إجتماعية، وليس من الإنفاق على شخص خاص أو تمليك لفرد من الأفراد.

ومن ذلك يستظهر الباحث أمرين:

الأول، أن مصرف الزكاة في الآية الكريمة لا يقتصر على الأشخاص، بل يشمل الجهات العامة والمرافق الاجتماعية التي تخدم المصلحة العامة من الجهات المذكورة في الآية الكريمة، كما تشمل الأشخاص المعوزين والعاملين والمؤلفة قلوبهم.

وقد أساءت المالكية فهم هذه الآية بوجهها وسياقها الخاص، حيث قالت:

«لا يجوز أن يصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو حج أو جهاد أو إصلاح طريق أو سقاية أو قنطرة أو نحوها من

٧٢

تكفين ميت ولكل ما ليس فيه تمليك، لمستحق الزكاة»(١) .

وقد رأينا - فيما تقدم - إن الإنفاق قد يتم عن طريق التمليك لفرد من الأفراد، كما قد يتم عن طريق الانفاق على مشروع خيري أو مصلحة اجتماعية تخدم الأُمة من الجهات المتقدمة في الآية الكريمة.

والآية الكريمة تحوي على كلتا الصورتين من الإنفاق: الإنفاق على الأشخاص والإنفاق على الجهات والخدمات العامة والمرافق الاجتماعية. وهي ظاهرة في هذين القسمين من الأموال.

الثاني: أن الإنتفاع من المرافق والخدمات العامة التي يصرف عليها من بيت المال ومن الزكاة لا يتوقف على فقر المنتفع وحاجته وإنما هي مرافق عامة لكل المنتفعين، لا تخص فئة خاصة منهم، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، فقراء كانوا أم أغنياء، وذلك كالمال الذي يصرف من بيت المال في إقامة الجسور والسدود ومشاريع الريّ والمدارس والمستشفيات العامة وغير ذلك من المرافق والمؤسسات الاجتماعية.

ومن هنا قال الفقيه كاشف الغطاء -رحمه‌الله -:

«لا يعتبر في المدفوع إليه، الإسلام والإيمان، والعدالة، ولا الفقر ولا غير ذلك»(٢) .

____________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة: كتاب الزكاة.

(٢) جواهر الكلام: كتاب الزكاة: ٩١.

٧٣

وقال آية الله الحكيم -رحمه‌الله - في المستمسك:

«ولذا لا يظن الاشكال في جواز انتفاع الغني بالقناطر والخانات»(١) .

فإذن تخصص جملة من هذه السهام لرفع مستوى الحياة عامة وليست لخدمة طبقة خاصة، وجزء منها فقط يخصص لمصلحة الفقراء والمعوزين كأشخاص وجماعات.

وفيما يلي نشرح واحداً من هذه المصارف كشاهد على ما نقول:

في سبيل الله:

«سبيل الله» جهة من مصارف الزكاة، ولا يعنى به شخص خاص. ومعنى «سبيل الله» الطريق الذي يؤدي إلى رضى الله - تعالى - وهو يشمل كافة المرافق الاجتماعية الخيرية. وإضافة «السبيل» إلى «الله» تفيد هذا المعنى.

وليس في هذه الكلمة ما يدل على حصر مدلولها بالجهاد والغزو فقط وما يلزمهما من شؤون وعدة.

ولذلك، فقد توسع الفقهاءرحمهم‌الله في تفسير هذه الكلمة.

قال الفقيه الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر) -رحمه‌الله -:

____________________

(١) مستمسك العروة الوثقى - ط ١ -: ٩ / ٢٣٧.

٧٤

«... فلا ريب في أن الأقوى عموم (سبيل الله لكل قربة فيدخل حينئذ جميع المصارف ويزيد عليها. وإنما يفارقها في النية. ضرورة شموله لجميع القرب، من بناء الخانات وتعمير روضة أو مدرسة أو مسجد، أو دعاء ونحوها، أو تزويج عزَّاب أو غيرها، أو تسبيل نخل أو شجر أو ماء أو مأكول أو شيء من آلات العبادة، أو إحجاج أحد، أو إعانته على زيارة، أو في قراءة أو في تعزية، أو تكرمة علماء أو صلحاء أو نجباء، أو إعطاء أهل الظلم والشر ليخلص الناس من ظلمهم ومن شرهم، أو إعطاء من يدفع الظلم عن الناس ويخلص الناس من شرهم، أو بناء ما يتحصن به المؤمنون عنهموشراء الأسلحة لدفاعهم، أو إعانة المباشرين لمصالح المسلمين، من تجهيز الأموات أو خدمة المساجد والأوقاف العامة.. أو غير ذلك.

ومن هنا قال الأُستاذ في «كشفه»: إنه لا يعتبر في المدفوع إليه الإسلام والإيمان، ولا عدالة، ولا فقر، ولا غير ذلك؛ للصدق»(١) .

وأُحب أن الفت النظر إلى مدلول الفقرة الأخيرة التي نقلها الشيخ مؤلف «جواهر الكلام» عن «كاشف الغطاء» فيما يخص الفئات التي تستفيد من هذا المورد المالي.

____________________

(١) جواهر الكلام - كتاب الزكاة: ٩١.

٧٥

فإن هذا السهم من سهام الزكاة لما كان يخص المرافق الحياتية العامة، فلا يمكن تخصيصه بالمسلمين أو المؤمنين أو العدول منهم خاصة؛ نظراً إلى أن المرافق المدنية موضوعة للخدمات الاجتماعية العامة وليست تخص فئة بذاتها.

٧٦

آية الخمس

ولنعقب مصرف الزكاة في القرآن الكريم بآية من القرآن الكريم في مصرف الخمس:

( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ، وَللِرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَالْيتامى وَالمَساكينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ) (١) .

والظاهر من الآية الكريمة،: أن خُمس الغنائم والمكاسب يقسم على ستة سهام:

(١) سهم منه لله.(٢) وسهم للرسول.(٣) وسهم لولاة الأمر بعد الرسول «ذوي القربى».(٤) وسهم لليتامى من بني هاشم.(٥) وسهم للمساكين منهم.(٦) وسهم لأبناء السبيل منهم.

والثلاثة الأُول من السهام الستة يعود إلى ولي الأمر - وهو سهم الله والرسول وذوي القربى - وليس لعامة المسلمين، وإنما هو من أموال الدولة الخاصة، ينفقها ولي الأمر على المصالح والمرافق الاجتماعية وحاجات الحكومة الخاصة، بالشكل الذي يرتئيه الحاكم الشرعي الأعلى للدولة الإسلامية.

وهذا وارد مالي كبير للدولة الإسلامية، يساوي عشر

____________________

(١) سورة الأنفال: ٤١.

٧٧

الوارد الصافي العام لمجموع الأُمة، تصرفه الدولة على المرافق الاجتماعية في الدولة.

والنصف الآخر منه - وهو سهم «اليتامى والمساكين وابن السبيل» - يعود لأشخاص الفقراء من بني هاشم فإن نقص عن حاجة الفقراء من بني هاشم فيكمله الإمام من سهم ولي الأمر، وإن زاد على حاجتهم شيء أضاف الزائد إلى حصة الدولة(١) .

وخصص فقراء بني هاشم بهذا الجزء من الخمس لعدم استحقاقهم شيئاً من زكاة الآخرين. فجعل الله ذلك لهم عوضاً عن الزكاة.

وإذا أُضيف الزائد من سهام الفقراء من بني هاشم إلى سهم ولي الأمر - وهي تزيد غالباً عن حاجاتهم، إذا تشددت الدولة في جبايتها - بلغ وارد الدولة من صافي الأرباح والمكاسب حدود الخمس.

وهذا وارد مالي ضخم، يضاف إلى وارد الحكومة الإسلامية الآُخرى، ويُمَكِّنها من القيام بكثير من المشاريع والمرافق والحاجات العامة في البلاد.

ومما يدل على أن النصف الأول من السهام الستة ملك لجهة خاصة، وهي الحكومة الإسلامية وليس ملكاً لشخص ولي الأمر هو أن الإمام القائم بالأمر يرث سهم الله وسهم الرسول.

____________________

(١) راجع مصباح الفقيه: الزكاة: ١٤٥.

٧٨

وواضح أن ملكية السهم الأول لله - سبحانه وتعالى - ليس من قبيل الملكية الاعتبارية القائمة بين الناس، فله - سبحانه وتعالى - ملك السماوات والأرض، وليس بحاجة إلى مثل هذه الاعتبارات والإضافات، وإنما المقصود من إضافة السهم إليه تعالى هو ملكية الجهة التي يريد الله - تعالى - تخصيص هذا المال لها، وهي جهة الولاية والحكومة الشرعية.

وكذلك سهم النبي (ص) فلم يعهد من النبي (ص) إنه كان يصرف هذا المال في حاجاته وحاجات أهله، وإنما كان يصرفه في حاجات الجند والقضاء والإدارة وشؤون المجتمع والدولة.

والمعني من إرث الإمام الحاكم لسهم الله ورسوله هو نهوض الإمام بعد النبي بشؤون الولاية والحكومة خلافة عن الله ورسوله وليس الغرض هو الوراثة النسبية والسببية.

فالنصف الأول من السهام الستة يعود إذن إلى الحكومة الإسلامية التي يلي أمرها الحاكم الشرعي، والنصف الثاني منها يعود إلى فقراء بني هاشم بعد إضافة الزائد منه إلى سهم ولي الأمر.

ولأمر ما عطف «الرسول» و«ذوي القربى» على «الله» باللام، ووحَّدها سياق جملي واحد وهو العطف باللام: «فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى» وعطف (اليتامى) و(المساكين) و(ابن السبيل) عليهم بغير اللام: «واليتامى والمساكين وابن السبيل».

٧٩

ولا يخلو وجود هذين السياقين في التعاطف في النصف الأول والنصف الثاني من الآية الكريمة عن دلالة أو تأييد لوجود تفاوت في إضافة السهام إلى هاتين الطائفتين.

ولا يهمنا نحن بهذا الصدد الحديث عن عصر حضور الإمام، وإنما نريد أن نحدد ملامح النظام في عصر الغيبة؛ حيث يتولى الفقيه الجامع للشرائط مهام الحكومة الشرعية والولاية نيابة عن الإمام.

وفي مثل هذه الحالة لا تعود السهام إلى شخص الفقيه، وإنما لجهة الولاية والحكومة التي يتولاها الفقيه ولا يرثها عنه ورثته، وإنما ينتقل أمره إلى الفقيه الذي يليه في الولاية والحكومة على المسلمين.

* * *

وبعد.. فهذا عرض موجز لنظام المال في الإسلام، قدمناه إلى القراء بهذا الشكل من الإيجاز والاختصار، ليكون تمهيداً لدراسة واسعة في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وجعها بعد. ثمّ أعطاه الرّاية فنهض بها وجاء خيبر يهرول، حتّى ركزها في أطم من آطامها، فخرج إليه مرحب، فاختلفا ضربتين فبدره عليّ عليه السلام فقتله «ذكرنا القصّة والمصادر سابقاً». إنّ القوم قد كشفهم اليهود ورجعوا يجبّن بعضهم بعضاً حتّى كان الفتح على يد فتى الإسلام وسيفه المسلول: عليّ عليه السلام.

وفي العام الثامن وقعت أمور من قبيل ما كان يوم أحد «فرارهم عن النّبيّ» وسلوك عمر في حضرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على شاكلة سلوك أبي بكر الّذي ذكرناه، وقول الصّحابة للنّبيّ قولاً شبيهاً بما قالته بنو إسرائيل لموسى عليه السلام! ففي هذا العام كانت غزوة حنين؛ حيث اجتمعت هوازن وثقيف، وانضمّت إليهما قبائل أخرى، وتوجّهوا يريدون حرب رسول الله. فلمّا سمع النّبيّ بذلك، بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ، وأمره أن يدخل في النّاس حتّى يعلم علمهم، ثمّ يأتيه بخبرهم. فانطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام معهم حتّى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله، ثمّ أقبل حتّى أتى رسول الله فأخبره الخبر، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر بن الخطّاب فأخبره الخبر، فقال عمر: كذب ابن أبي حدرد! فقال ابن أبي حدرد: إن كذّبتني فربّما كذّبت الحقّ يا عمر، فقد كذّبت من هو خير منّي. فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد كنت ضالاًّ فهداك الله يا عمر» (١) .

العجب أنّ عمر هنا مثل صاحبه: قدّم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وإذا كان أبوبكر دفع عن نفسه لأنّ عروة قال لرسول الله: لكأنّي بهؤلاء انكشفوا عنك، فإنّ ابن أبي حدرد لم يقل شيئاً قبيحاً في عمر ولا في أصحاب النّبيّ؛ وابن أبي حدرد واحد منهم، وإنما قد امتثل أمر النّبيّ. وليس لعمر دليل على كذب الرّجل وإلاّ لذكره، فهل يجوز له أن يتّهم صحابيّاً وفي حضرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من غير برهان؟! ونفس ما يقال لأبي بكر، يقال لعمر: هل استأذنت النّبيّ في الكلام، أو أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد طلب منك أن تكلّم ابن أبي حدرد؟ كما إنّ النّبيّ لم يؤيّده، بل إنّه - وعلى العكس - أقرّ كلام ابن أبي حدرد إذ لم يكذّبه، ومن خلال توكيد جوابه لعمر حيث قال له: «لقد كنت ضالاًّ فهداك الله يا عمر».

____________________

(١) السّيرة النّبويّة لابن هشام ٤: ٨٢ - ٨٣؛ تاريخ الطبريّ ٢: ٣٤٦.

٣٦١

ومن المفارقات الّتي حصلت في هذه الغزوة، ما قاله الحارث بن مالك، قال: خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهليّة، فسرنا معه. وكانت لكفّار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها «ذات أنواط» يأتونها كلّ سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوماً. قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال رسول الله: «الله أكبر! قلتم، والّذي نفس محمّد بيده، كما قال قوم موسى لموسى: ( اجْعَلْ لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (١) ، إنّها السّنن، فتركبنّ سنن من كان قبلكم» (٢) .

عجباً من قوم يرون وثناً بعد مضيّ سنين على إسلامهم، فتطفو رواسب الماضي ويطالبون نبيّهم أن يعود بهم إلى جاهليّتهم! فكيف والحال هذه يواجهون قومهم الذين ما يزالون يعبدون هذه الأوثان وينتصرون لها؟!

عن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط (٣) ، إنّما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية (٤) الصّبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه (٥) ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأ وأعدّوا، فو الله ما راعنا ونحن منحطّون إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد، وانشمر (٦) النّاس راجعين لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين، ثمّ قال: اين، أيّها النّاس؟! هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمّد بن عبد الله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعضٍ، فانطلق الناس، إلاّ أنذه بقي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفر من المهاجرين

____________________

(١) الأعراف / ١٣٨.

(٢) السّيرة النّبويّة لابن هشام ٤: ٨٥.

(٣) تهامة: ما انخفض من الأرض، وعكسه النّجد أي المرتفع. وهنا أراد به تهامة الحجاز. وأجوف: أي متّسع. وحطوط: منحدر.

(٤) عماية الصّبح: ظلامه قبل أن يتبيّن.

(٥) الشّعاب: الطّرق الخفيّة. وأحناؤه: جوانبه.

(٦) انشمر الناس: انفضّوا وانهزموا.

٣٦٢

والأنصار وأهل بيته (١) .

وعن أبي قتادة قال: وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطّاب في الناس، فقلت له: ما شأن النّاس؟ قال: أمر الله (٢) !

واعجباً! هل أمر الله تعالى بالفرار من الزّحف وخذل نبيّه وإسلامه للعدوّ؟! وإذا كان القول إنّ ما وقع بأمر الله وقضائه فهو تأسيس لمبدأ الجبر في أفعال العباد الّذي يرفضه أهل البيت وشيعتهم. وإنّ عليّاً عليه السلام لم يراجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا في حنين ولا في غيرها، ولم يقدّم بين يديه ولا رفع صوته صوته ولم يفرّ في زحف، فصراطه الصّراط المستقيم.

ومن ذلك: ما كان منه ومن أبي بكر، ونزول سورة الحجرات اعتراضاً وزجراً عن نافع ابن عمر عن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم - في العام التاسع، ويدعى عام الوفود - فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل آخر، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي! قال: ما أردت خلافك! فارتفعت أصواتهما عند النّبيّ صلّى الله عليه «وآله» وسلّم فنزلت: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (٣) .

وأخرج البخاريّ عن عبد الله بن الزّبير قال: قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فقال أبو بكر ك أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة فقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٤) .

____________________

(١) السّيرة النّبويّة لابن هشام ٤: ٨٥؛ تاريخ الطبريّ ٢: ٣٤٧.

(٢) صحيح البخاريّ ٥: ١٠١.

(٣) الحجرات / ٢. صحيح البخاريّ ٦: ٤٦، ٨: ١٤٥؛ سنن الترمذيّ ٥: ٦٣ رقم ٣٣١٩؛ تفسير ابن كثير ٢: ٥٢٧؛ سنن النّسائيّ ٨: ٢٢٦؛ مسند أحمد ٢: ٦؛ تفسير الطبريّ حديث ٣١٦٧٣؛ أحكام القرآن لابن العربيّ ٤: ١٠٨؛ معالم التنزيل للبغويّ ١٩٩٠؛ مسند أبي يعلى ٦٨١٦؛ أسباب النزول للواحديّ ٢٥٨.

(٤) الحجرات / ١. والخبر في صحيح البخاريّ ٨: ١٤٥ كتاب الاعتصام بالكتاب والسّنّة. وأسباب =

٣٦٣

ويمكن القول: إنّ الآيتين نزلتا في الحادثة، وهما يناسب بعضهما الآخر ويعبّران عن حالة سلبيّة، فالمشاجرة في حضرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفع الصّوت ممّا يخالف الخلق الحميد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد وصفه الباري تعالى بأنّه على خلق عظيم؛ فإنّ مثل هذا السّلوك يؤذيه. وإنّهما قدّما بين يدي الله ورسوله من غير إذنٍ من النّبيّ في الكلام ولم يسألهما صلى‌الله‌عليه‌وآله المشورة فيمن يجعل على وفد تميم أميراً!

ومن ذلك: تخلّف أبي بكر وعمر عن جيش أسامة بن زيد، وهو آخر بعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع تسليمهما عليه بالإمرة، ممّا أغضب النّبيّ فخرج عاصباً رأسه لما هو به من الوجع، فخطب النّاس وقال: «ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأمير أبيه من قبل، وإنّه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها» (١) .

ومواقف المخالفة لأوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والاجتهاد قبال قبال النصّ الشرعيّ من الكثرة في حياة الصحابة بحيث لو جمعت لكانت كتاباً مستقلاًّ واسعاً، حيث امتدّت بعد رحلة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فألغيت أحكام فيها نصوص من كتاب الله تعالى ومارسها النّبيّ، سنذكر بعضها بعد حين.

ومن أعظم ما يذكر هنا أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد وهو يودّع أمّته ويودعها تركته: الثّقلين، كتاب الله تعالى وعترته الطّاهرة، وفي سي منه لتوكيد ما عهده إليهم سابقاً... أراد أن يكتب لهم كتاب هداية وعصمة، إلاّ أنّ البعض اعترضه بشدّة حتّى قال فيه كلمةً لا تنبغي في حقّ مسلم محترم، فكيف بالنّبيّ؟! عن عبد الله بن عبّاس، قال: لما احتضر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب - قال: هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده. فقال

____________________

= النزول للواحديّ ٢٥٧.

(١) السّيرة النبويّة لابن هشام ٤: ٢٩١، ٣٠٠؛ الطبقات الكبرى لابن سعد ٢: ٢٤٨؛ مختصر تاريخ ابن عساكر ٤: ٢٤٨ وذكره سليم بن قيس عن أمير المؤمنين في كتاب السقيفة: ١٣٩؛ صحيح مسلم ح ١٦٣٧ من طريق عبد الرزّاق؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٥: ٢٩٨ / ٩٨٢٠؛ تفسير الطبريّ ٣: ١٩٣؛ الكامل في التاريخ ٢: ٣٢٠؛ البداية والنهاية ٥: ٢٠٠.

٣٦٤

عمر: إنّ النّبيّ غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله! واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: قوموا عنّي. فكان ابن عبّاس يقول: إنّ الرّزيّة كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١) .

وليس الخبر بهذا اللفظ الّذي هذّبته بعض الأقلام! ولكنّه يكفي وحده - وبهذا اللّفظ - للتدليل على عمق المأساة! إنّ ميّتاً من عرض المجتمع يتنادى ذووه وأصدقاؤه وتقع جلبة ويحملون نعشه إلى مثواه الأخير ظاهرة عليهم آثار الحزن ومظاهر الأسى لفقده وهذا سيّد الخلق طرّاً وخاتم الأنبياء والرّسل يعيش لحظاته الأخيرة مع أصحابه ويريد أن يتمّ نصيحته وهدايته لئلاّ يضلّوا من بعده ولا يتعرّضوا لغضب الله تعالى كما حدث لليهود والنّصارى، وليثبّتهم على الصّراط المستقيم، بيد أنّ البعض قدّم بين يديه وقطع عليه كلامه، - وهذا أمر منهيّ عنه في القرآن الكريم، كما ذكرناه - وخالف سنّته وهو ما يزال حيّاً معهم يمارس وظيفته في التبليغ، فكيف يكون إذن بعد وفاته؟! وقد ردّ عليه واجتهد قبال قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو نصّ شرعيّ. وكيف كان الرّد؟ كان نابياً بحق النّبيّ، فإنّ تعبيره بـ «غلبه الوجع» يعني أنّ النّبيّ بات لا يملك قواه العقليّة، ويقول ما لا يدري لما به من وجع! ومع تهذيب الخبر والتعديل فيه لا ينجي قائله من طائلة الحساب. وليعلم أنّ «غلبه الوجع» تساوي يهجر الّتي تعني يهذي - والعياذ بالله! كما أن حالة اللّغو والاختلاف واللّغط الناتجة عن هذا التصرّف سوء أدب في حضرة النّبيّ، وقد نهى القرآن عن رفع الأصوات فوق صوت النّبيّ وعن الهجهر له بالسّوء، وإنّ النبيّ يهجر، أو غلبه الوجع ما هو إلاّ جهر بالسّوء!

ثمّ ماذا يعني قول النّبيّ لهم: «قوموا عنّي»؟ إنّه لا يعني إلاّ أنّه ساخط عليهم غير راض عنهم، ورضاه من رضى الله تعالى وسخطه من سخطه!

وثمّه سؤال: لماذا اعترض عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة الكتاب؟ هل كان يدرك

____________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٣٧، ٥: ١٣٨، ٨: ١٦١؛ الطبقات الكبرى لابن سعد ٢: ٢٤٢.

٣٦٥

ما سيكتبه؟ أهو خير أم شرّ؟ وحاشا للنّبيّ إلاّ أن يقول ويكتب عن وحي.

ورواية ابن عبّاس تؤكّد أنّه قال: أهجر. عن سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! قال: اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً. فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبيّ أن يتنازع - فقالوا: ما شأنه أهجر؟ أستفهموه! فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعوني، فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه. وأوصى بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحوٍ ممّا كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: فنسيتها (١) .

نعم، يوم الخميس وما يوم الخميس؟! اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه، واشتدّ بقوم وجدهم إلى أمور، فأساؤوا إلى نبيّهم، فرموه بالمقذع من القول، وذلك قولهم: ما شأنه أهجر؟! ذكر ابن السّكّيت في (باب رفعك الصّوت بالوقيعة في الرّجل والشّتم له، ص ٢٦٤ من: تهذيب الألفاظ) قال: وأهجر يهجر إهجاراً، إذا قال القبيح.

فهل يجوز على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول قبيحاً؟! فعند من تجد الأمّة الحسن - إذن - لتتوجّه صوبه فتأخذه منه ولا تضلّ؟ ومتى كان كتاب الهداية والعصمة من الضّلالة هجراً؟!

والرّاوي لم يعيّن صاحب هذا الكلام المستهجن، فقد استعمل لفظ الجماعة «فقالوا»! فنقول هنا - مثل ما قلناه في قول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للمسلمين في مسيرهم يوم الحديبيّة: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» -: لا يمكن على هذا تعيين الصّراط المستقيم في أشخاص بعينهم من الصّحابة، ولكن القرائن في نصوص القرآن والسّنّة أكّدت تعيّن الصّراط المستقيم في رسول الله وأهل بيته عليهم السلام أجمعين.

وهذا اللّون من السّلوك يتعارض مع الآداب الإسلاميّة الّتي نستجليها في آيات القرآن في توقير النّبيّ وتعظيمه، فلا يمكن أن نصدّق. أن سلمان المحمّديّ وأبا ذرّ وعمّاراً وأمّ سلمة وأمّ أيمن والمقداد... ممّن كان للنّبيّ مثل الظلّ لصاحبه قد صدر منهم مع النبيّ مثل هذا الفعل، فكيف يكون الحال لو ذكرنا عليّاً الّذي هو نفس النّبيّ يوم المباهلة، والمعصوم

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٤٣٦.

٣٦٦

بصريح القرآن - آية التطهير - وغير ذلك من المعايير الّتي تنفي قطعاً أن يكون عليّ داخلاً في جماعة تخاطب النّبيّ بما سلف.

ترى... ماذا تعني كلمة «استفهموه» الواردة في الخبر؟ وماذا يعني أنّ القوم ما زالوا يعيدون سؤالاً ما على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى ردعهم؟ أيّ سؤال هو؟ هل هو الوصيّة الثالثة الّتي سكت عنها ابن عبّاس عمداً؟! فلماذا سكت؟! أمّا هذا الاستدراك: «أو قال: فنسيتها» فهو ممّا لا يليق بمن هو دون ابن عبّاس بكثير، فكيف بحبر الأمّة؟!

على أنّ المرويّ عن ابن عبّاس - كما في البخاريّ وطبقات ابن سعد، ذكرناه - ينصّ على أنّ صاحب القول هو عمر بن الخطّاب، وحسب تلك الرّواية وقول عمر فيها: «وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله» يتّضح أنّ النّبي قد أوصى باثنين متلازمين، هما كتاب الله وأهل بيته، وهو ما كان يعيده على مسامعهم في أكثر من مناسبة. وقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام طائفة من مواقف عمر واجتهاداته مقابل النصّ الشرعيّ، فذكر في جملتها موقفه ذلك، قال: علم الله وعلم النّاس أنّه الذي صدّ رسول الله عن الكتف الّذي دعاه به (١) .

وعن عمر بن الخطّاب قال: لما مرض النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً. فقال: النّسوة من وراء السّتر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟! فقلت: إنّكنّ صواحباتُ يوسف: إذا مرض رسول الله عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صحّ ركبتنّ عنقه! فقال رسول الله: دعوهنّ، فإنهنّ خير منكم (٢) .

حصحص الحقّ وثبت أنّ عمر هو الذي قدّم بين يدي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . ومع أنّه لم يذكر، في هذه الرواية، اعتراضه على رسول الله في كتابة الكتاب، إلاّ أنّ قول النّسوة: «ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟» بيّن الدلالة على هذا المعنى، وذلك بعد أن صكّ أسماعهنّ لغط الرّجال واختلافهم على أثر الكلام الّذي قاله عمر كما في الرّوايات السّابقة، فزجرتهم النّساء على سوء سلوكهم هذا. ويؤيّد أنّ عمر هو صاحب الاعتراض على النّبيّ، رفع

____________________

(١) كتاب السقيفة لسليم بن قيس: ١٤٠.

(٢) كنز العمّال ٥: ٦٤٤.

٣٦٧

صوته من جديد ليسمع النّسوة مقالته فيهنّ، إذ اللّغط الدائر بين الرّجال ووجود السّتر بينهم وبين النّساء يقتضي مناداتهنّ بصوت عال، وإلاّ لم ردّ عليهنّ دون غيره من الحاضرين؟ وقوله: «إنّكنّ صواحبات يوسف...» فيه تنقيص لهنّ، ومن هنّ؟ إنّهنّ أمّهات المؤمنين، وحاضنة الرّسول، والصّحابيّات المبايعات، وفاطمة المعصومة بنت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ! ووصف هؤلاء بالنّسوة اللاّتي شغفن (١) بجمال يوسف النّبيّ عليه السلام، أراد بذلك، إنّكنّ ما كرات وأتباع لذّة!

وكلامه لم يتنقّص من النّساء وحسب، وإنّما تطاول به على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ راح يذكره بصيغة الغائب النّكرة من غير ما ينبغي له من نعت النّبوّة والرّسالة. وعبارته «ركبتنّ عنقه» فيها ما فيها من المعاني السّلبيّة الواضحة، وجواب النّبيّ: «إنّهنّ خير منكم» لهو خير بيان لرزيّة رجال يوم الخميس. ولا يدخل في هذا الباب رجل لم يغيّروا ولم يبدّلوا أوّلهم عليّ عليه السلام، فكان صراطه صراط الله المستقيم.

ولقد جرت أحاديث ومحاورات بين ابن عبّاس وعمر بن الخطّاب - بعد وفاة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - أقرّ فيها عمر أنّه الّذي منع النّبيّ من كتابة الكتاب، من ذلك: قال عمر لابن عبّاس: هل بقي في نفس عليّ شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس: نعم. قال عمر: ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك، إشفاقاً وحيطةً على الإسلام (٢) !

إنّ الله تعالى أعلم بمواطن الحيطة على الإسلام فيوحي بها إلى نبيّه، ومن ذلك التبليغ بإمامة عليّ وخلافته في كلّ موطن، ومنه المهرجان الكبير يوم غديرخمّ، وفي مرضه لما أراد أن يكتب كتاباً فمنعه عمر. ولكن ما الّذي وجده عمر من نقص في عليّ يتخوّف منه على مستقبل الإسلام، وهو الّذي سلّم عليه بالإمارة يوم خمّ؟! فهلاّ عابه يومئذ؟! أم أنّه يعلم أنّ رجالاً يأتمرون في الخفاء على إزواء الخلافة عن عليّ، وكتبوا بذلك عهداً، فتخوّف الفتنة؟! قال أبو حامد الغزاليّ: ولما مات رسول الله قال قبل وفاته بيسير: «ائتوني

____________________

(١) وقصّة ذلك في القرآن الكريم سورة يوسف ٢٣ - ٥٢.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزليّ ١٢: ٢١.

٣٦٨

بدواة وبياض لأكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي». فقال عمر: دعوا الرّجل؛ فإنّه ليهجر! (١)

وفيما ذكرنا ممّا جرى في حياة النّبيّ كفاية لإبطال زعم ابن القيّم بشأن الصّراط المستقيم. أمّا بعد وفاة النّبيّ فأنّ المواقف الاجتهاديّة مقابل النصّ وتعطيل الأحكام الشرعيّة، فحدّث ولا حرج! هذا بعض منها.

عمر يغيّر في الأذان

قال علي عليه السلام: «ثمّ تركه من الأذان «حيّ على خير العمل»، فاتّخذوه سنّة، وتابعوه على ذلك» (٢) .

إبطال حكم التيمّم للمجنب

وقال عليّ عليه السلام: «والعجب لجهله أنّه كتب إلى جميع عمّاله أنّ الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصليّ وليس له أن يتيمّم بالصّعيد - وإن لم يجده - حتّى يلقى الله! وقد علم وعلم النّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر عمّاراً وأمر أبا ذرّ أن يتيمّما من الجنابة ويصلّيا، وشهدا به عنده، وغيرهما، فلم يقبل ذلك ولم يرفع به رأساً» (٣) .

وقد ذكر أصحاب الصّحاح والسّنن والحديث روايات عدّة في الحادثة من ذلك: إنّ رجلاً أتى عمر بن الخطّاب فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً؟ فقال: لا تصلّ! فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريّة فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأمّا أنت فلم تصلّ وأمّا أنا فتمعّكت (٤) في التراب وصلّيت، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثمّ تنفخ ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك»؟! فقال عمر: اتّق الله يا عمّار! قال: إن

____________________

(١) تذكرة الخواصّ: ٦٥.

(٢) كتاب السّقيفة لسليم بن قيس: ١٣٩.

(٣) السقيفة، لسليم بن قيس: ١٣٨.

(٤) تمعّك: أي تمرّغ بالتّراب.

٣٦٩

شئت لم أحدّث به! وله صور أخرى قريبة منه في اللّفظ والمعنى (١) .

ولعلّ الّذي حمل عمر على ذلك هو اجتهاده على عهد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لم يصلّ وهو مجنب، فشقّ عليه أن يرجع عنه بعد وفاة النّبيّ! إلاّ أنّ سنّة النّبيّ فيه واضحة ولم يرد ما يرفع الحكم. وورد التيمّم في موردين من القرآن ولم ينسخه: ( وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (٢) وقوله تعالى: ( وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهّرُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ ) (٣)

النهي عن المتعة

شرّع الله تعالى المتعة وأنزل فيها بياناً: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ ) (٤) .

ذكر جمعٌ أنّها في المتعة، أو ما يمكن تسميته بالزواج الموقّت، تجد ذلك في:

١ - مسند أحمد بن حنبل ٥: ٦٠٣ حديث ١٩٤٠٦ عن عمران بن حصين، وحديثه: «نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى، وعملنا بها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النّبيّ حتّى مات».

وفي مسند أحمد - مسند أبي سعيد الخدريّ، قال: كنّا نتمتّع بالثّوب حتّى منع عمر.

وأيضاً أحمد، عن عبد بن شقيق - عبد الله بن شقيق العقيليّ، وثّقة أحمد، وابن معين، والعجليّ، وابن حبّان، وأبو حاتم: تاريخ الثّقات للعجليّ ٢٦١ / ٨٢٤، التاريخ الكبير ٣: ١ / ١١٦، الثّقات ٥: ١٠، التهذيب ٥: ٢٥٣، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وعليّ

____________________

(١) سنن أبي داود ١: ٥٣؛ صحيح مسلم ١: ١١٠؛ سنن ابن ماجة ١: ٢٠٠؛ صحيح البخاريّ ١: ١٢٩ ح سنن النّسائيّ ١: ٥٩، ٦١؛ سنن البيهقيّ ١: ٢٠٩؛ تيسير الوصول ٣: ٩٨؛ عمدة القاري شرح صحيح البخاري ٢: ١٧٢؛ مسند أحمد ٤: ٢٦٥؛ فتح الباري ٢: ١٧٢.

(٢) النّساء / ٤٣.

(٣) المائدة / ٦.

(٤) النساء / ٢٤.

٣٧٠

يأمر بها، فقال عثمان لعليّ كذا وكذا، ثمّ قال عليّ: لقد علمت أنّا قد تمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: أجل، ولكنّا كنّا خائفين»! مسند أحمد ١ / ١٥٦ / ٧٥٨.

والعجب كلّه! فعثمان يتمتّع ويخاف، فمن أيّ يخاف؟ هل لعلمه أنّ في القوم من يكره حكم الله تعالى، ولا يظهره ما زال النبيّ بينهم؟ وما وجه الكراهة هذا؟

وعن مروان بن الحكم قال: شهدت عليّاً وعثمان بين مكّة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما، لبّيك بعمرةٍ وحجّ معاً، فقال عثمان: تراني أنهى النّاس عنه وأنت تفعله! قال: لم أكن أدع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول أحد من النّاس. - مسند أحمد ١ / ٢١٩ / ١١٤٣.

٢ - تفسير الطّبريّ ٥: ٩ عن ابن عبّاس، وأبيّ بن كعب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وغيرهم.

٣ - سنن البيهقيّ ٧: ٢٠٥، عن ابن عبّاس.

٤ - تفسير البغويّ ١: ٤٢٣ وقال: وعن عامّة أهل العلم أنّها منسوخة.

٥ - تفسير الكشّاف للزمخشريّ ١: ٤٩٨ قال: وعن ابن عبّاس هي محكمة، يعني لم تنسخ. روى شعبة عن الحكم - الحكم بن عتيبة الكنديّ، ثقة، ثبت في الحديث، من فقهاء أصحاب إبراهيم النخعيّ، وكان صاحب سنّة واتّباع، روى عنه؛ الأعمش، وشعبة. تاريخ الثّقات ١٢٦ / ٣١٥، تاريخ ابن معين ٢: ١٢٥، الثّقات لابن حبّان ٤: ١٤٤، التاريخ الكبير ١: ٢ / ٢٣٠ - عن هذه الآية: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ ) أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال عليّ كرّم الله وجهه: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ.

٦ - أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٧٨ عن عدّة.

٧ - تفسير القرطبيّ المالكيّ ٥: ١٣٠ وفيه: وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام.

٨ - تفسير الرازيّ ٣: ١٣٠. قال: قال الجمهور: إنّها في المتعة.

٩ - تفسير ابن كثير ١: ٤٧٤ عن جماعة من الصّحابة والتّابعين.

١٠ - تفسير أبي السّعود ٣: ٢٥١.

٣٧١

١١ - تفسير مقاتل بن سليمان ١: ٢٢٤، قال: ثمّ ذكر المتعة فقال: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ ) إلى أجل مسمّى....

١٢ - تفسير عبد الرزّاق الصنعانيّ «تفسير القرآن العزيز» ١: ١٥٣ / ٥٥٢، قال: أنبأنا معمر، عن الحسن، في قوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ ) ، قال: هو النكاح.

ومضى التشريع فعمل به الصّحابة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وردحاً من عهد عمر، ثمّ حرّمها عمر وهدّد بالعقوبة والرّجم لمن يأتي بها. صحيح مسلم ١: ٣٩٥ - ٣٩٦، ومسند أحمد ٣: ٣٥٦، ٤: ٤٣٦، والموطّأ لمالك ٢: ٥٤٢؛ وسنن البيهقيّ ٧: ٢٠٦ وتفسير الطبريّ ٥: ٩، وتفسير القرطبيّ ٥: ١٣٠ - وفيه: وروى عطاء عن ابن عبّاس قال: ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله تعالى رحم بها عباده، ولو لا نهي عمر عنها ما زنى إلاّ شقيّ - وتفسير الرّازيّ ٣: ٢٠١، والنّهاية لابن الأثير ٢: ٢٤٩، وفتح الباري ٩: ١٤١، وتاريخ الخلفاء للسيوطيّ: ٩٣.

تلك بعض من الاجتهادات قبال النصّ الشّرعيّ، وليس منها شيء في صراط أهل البيت عليهم السلام؛ فهم صراط الله المستقيم الّذي تمسّك به شيعة أهل البيت عليهم السلام.

وحان الآن أن ننظر نظرةً عجلى إلى نشأة الشّيعة، وهل لهذه التسمية أصل في الشّريعة أم هي من ابتداع المبتدعة المتأخّرين؟ أو أنّ الشيعة مثل غيرهم في أحسن الأحوال: أتباع رجال جدّوا في الفقه وعلوم الشريعة فاجتهدوا، فنسب أتباعهم إليهم وتسمّوا بأسمائهم فظهرت بذلك المذاهب والفرق؟

نشأة الشّيعة

ولدت الشّيعة مع ولادة الدّعوة الإسلاميّة المباركة، ولذا جاز لنا القول: إنّ الشّيعة بذرة أنبتها الله تعالى، فهم وأهل البيت توأمان. وأوّل من شايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عليّ عليه السلام، فما زال النّبيّ يتعهّده وينشأه نشأةً إلهيّة خاصّة، ويقرأ على مسامع القوم ما نزل فيه وأهل بيته، ويصرّح بفضائله والدعوة إلى مولاته، فأخبت لذلك الجيل المخلص، وظهرت طلائع الشّيعة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٧٢

إنّ الإجماع منعقد على أنّ عليّاً عليه السلام لم يداخله شرك ولا كفر - ولو لحظةً واحدة - لينتقل منه إلى إيمان كما وقع لغيره وقد تكلّمنا عليه بما فيه كفاية في فصول سبقت، ولذا قالوا عنه: «كرّم الله وجهه» لهذا المعنى، ولم يقولوا مثله لغيره - وهو أوّل من أسلم وأمضى مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سنين عدّة يصلّيان حتّى دخل في الإسلام غيره، وتكلّمنا عليه. وكان يشهد الوحي ويسمع صوته، وتناولته يد العناية الإلهيّة منذ أول الصّيرورة، فكان سبباً لعصمة أمّه وهو في بطنها من أن تسجد لصنم، ومن رحمها إلى رحم الكعبة إذ ولد فيها وما ولد فيها أحد غيره. ثمّ نقلته يد الرّحمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهله من خلقه الحميد. وهذه مفردات نحسب أنّنا وفّينا بعض حقّها سابقاً، وذكرناها هنا مجملاً، للتذكير ولأجل أن نقول: فبات عليّ هو المرشّح لخلافة النّبيّ القياديّة والفكريّة، وهو أمر يعسر على شيوخ قريش إذ يرون فتى الإسلام قد تقدّمهم!

حديث الدّار

«لما نزل قوله تعالى ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطّلب - وهم يومئذٍ أربعون رجلاً - وصنع لهم طعاماً فلمّا أكلوا وشربوا تكلّم فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: يا بني عبد المطّلب، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه... فأيّكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً إلاّ عليّاً قال: أنا يا نبيّ الله. ثمّ أعادها ثانيةً وثالثةً، ولم يجبه أحد منهم إلاّ عليّ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا». فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (٢) !

____________________

(١) الشعراء / ٢١٤.

(٢) تاريخ الطّبريّ ٢: ٦٣؛ مختصر تاريخ ابن عساكر ١٧: ٣١١. ويرد الحديث بعدّة ألفاظ متقاربة من عدّة طرق في المصدرين السّابقين، وتجدها في: مسند أحمد ١: ١١١؛ الفضائل، له: ٩١؛ تفسير الحبريّ: ٣٤٨؛ الخصائص للنّسائيّ: ٨٦؛ تفسير الطبريّ ١٩: ٧٤؛ شواهد التنزيل ١: ٤٢٠ - ٤٢٤؛ شرح نهج البلاغة للمعتزليّ =

٣٧٣

وهكذا كانت نشأة التشيّع سليمة في رحم الإسلام، وولدت الشّيعة ولادة طبيعيّة في حضن الدّعوة الإسلاميّة في أيّامها الأولى وكان «حديث الدّار» بمثابة إعلان تشريعيّ للتشيّع ونواة للشّيعة ثمّ توالت أحاديث: الثّقلين، وحدث المنزلة، وحديث الغدير، تكريساً لذلك. فهي والحال هذه ليست ابتكار مبتدع ولا مذهباً انفجر بعد غياب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الشّيعة في السّنّة الشّريفة

إنّ أوّل من نطق بكلمة «الشّيعة» هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أطلقها على من شايع عليّاً عليه السلام، وقرنهم وإيّاه بالفوز، وأنّهم خير البريّة الّذين ذكرهم القرآن الكريم وبشّرهم بخير الآخرة، وسمّاهم تارة: شيعة عليّ، وأخرى حزبه، وغير ذلك من المفردات المرادفة لمعنى الشّيعة. فإذا كان ثمّة إشكال على التسمية؛ فالأولى أن يوجّه ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ هو الّذي سمّاهم كذلك.

ولم تكن كلمة (شيعة غريبة على أذهان العرب، ولذا فهموا المقصود منها لما أنزل الله تعالى بها قرآناً: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (١) أي أنّ إبراهيم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من شيعة نوح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدليل الآيات التي قبلها، إذ هي في صدد الحديث عن نوح. وقوله تعالى في قصّة موسى عليه السلام: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذَا مِن شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوّهِ ) (٢) .

وهذه قبسات من أحاديث النّور ترد فيها لفظة الشّيعة:

عن ابن عبّاس قال: لما نزلت هذه الآية ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ

____________________

= ٣: ٢٥٤؛ الكامل في التاريخ ٢: ٤١؛ تفسير ابن كثير ٣: ٣٥١؛ كنز العمّال ١٥: ١١٥؛ السّيرة الحلبيّة ١: ٢٨٦؛ ينابيع المودّة: ١٠٥؛ علل الشّرائع للصدوق ١: ١٧٠؛ سعد السعود: ١٠٥ - ١٠٦.

(١) الصافّات / ٨٣.

(٢) القصص / ١٥.

٣٧٤

الْبَرِيّةِ ) (١) ، قال: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ: هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين» (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - وأنا مسنده إلى صدري - فقال: أي عليّ، ألم تسمع قول الله تعالى: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ؟! أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين».

وعن مجاهد في قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، قال: هم عليّ وأهل بيته ومحبّوهم. ومحبّتهم عليهم السلام ليست محض عاطفة لأنّهم أهل بيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما هي أيضاً للخصوصيّات الّتي تعرّفنا على بعضها، وهي غير موجودة في غيرهم ومحبّتهم لا يصدّقها إلاّ العمل بسنّتهم، وهذا هو التشيّع الّذي لا يرضون من أحد أن يتسمّى بأنّه شيعيّ إلاّ به، وسنذكر أحاديث في ذلك.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاريّ: كنا عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبل عليّ بن أبي طالب، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد أتاكم أخي. ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة» (٣) .

وكان سلمان يقول: يا معشر المؤمنين، تعاهدوا ما في قلوبكم لعليّ صلوات الله عليه؛ فإنّي ما كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطّ، فطلع عليّ، إلاّ ضرب النّبيُّ بين كتفيّ ثمّ قال: «يا سلمان، هذا وحزبه هم المفلحون» (٤) .

والحزب، والشّيعة، والأمّة، جند الرجل وأصحابه الّذين هم على رأيه... يرادف بعضها بعضاً.

____________________

(١) البيّنة / ٧.

(٢) ذكرنا مصادر هذا الحديث وما بعده في فصل «ما نزل في أهل البيت من القرآن».

(٣) خرّجناه ومصادره في فصل «ما نزل من القرآن في أهل البيت».

(٤) تفسير الحبريّ: ٢٣٢؛ تفسير الطبريّ ٣٠: ١٤٦؛ حلية الأولياء ١: ٦٦؛ شواهد التنزيل ١: ٧٠؛ بشارة المصطفى ١٨٧؛ أمالي الصدوق: ٢٩٤؛ مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٤؛ الأمالي الخميسيّة ١: ٣؛ خصائص الوحي المبين ٢١٣.

٣٧٥

عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (شجرة أنا أصلها، وعليّ فرعها، والحسن والحسين ثمرها، والشّيعة ورقها. فهل يخرج من الطيّب إلاّ الطيّب؟» (١) .

فمن عاب الورق من الشجرة عاب أصلها! والحديث يؤكّد الّذي قلناه من أنّ الشّيعة بذرة أنبتها الله تعالى، فهم وأهل البيت توأمان من أهل واحد لا يعطي إلاّ طيّباً.

عن عليّ قال: قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أنت وشيعتك في الجنّة» (٢) .

وأخرج ابن عساكر بسنده عن القاسم بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، إذا كان يوم القيامة يخرج قوم من قبورهم، لباسهم النّور، على نجائب من نور، أزمّتها يواقيت حمر، تزفّهم الملائكة إلى المحشر». فقال عليّ: تبارك الله! ما أكرم هؤلاء على الله! قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، هم أهل ولايتك وشيعتك ومحبّوك، ويحبّونك بحبّي، ويحبّونني بحبّ الله، هم الفائزون يوم القيامة» (٣) .

وعن عليّ قال: شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسد النّاس لي، فقال: «يا عليّ، أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة: أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذرارينا خلف أزواجنا، وأشياعنا من ورائنا؟» (٤) .

وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أبشر يا عليّ، أنت وأصحابك في الجنّة. أبشر يا عليّ، أنت وشيعتك في الجنّة» (٥) .

وعن أبي سعيد الخدريّ قال: قال: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ عن يمين العرش كراسي من

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٧.

(٢) نفس المصدر ١٧: ٣٨٤.

(٣) مختصر تاريخ ابن عساكر ١٧: ٣٨٤.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٨١؛ تفسير الزمخشريّ ٤: ١٧٢؛ كفاية الطّالب ٣٢٦؛ الصواعق المحرقة ٩٦؛ نور الأبصار ١٠٠.

(٥) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٨٥.

٣٧٦

نور، عليها أقوام تتلألأ وجوههم نوراً». فقال أبو بكر: أنا منهم يا نبيّ الله؟ قال: «أنت على خير». فقال عمر: يا نبيّ الله أنا منهم؟ فقال مثل ذلك، ولكنّهم قوم تحابّوا من أجلي، وهم هذا وشيعته - وأشار بيده إلى عليّ بن ابي طالب» (١) .

ما أشبه جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للشيخين - إذ سألاه أن يكونا في تلك الطّائفة الّتي نالت أعلى مراتب الرّحمة والكرامة، فأجابهما أنّهما ليسا منها ولكنّهما على خيرٍ - بجوابه لأمّ سلمة أن تكون مع عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، تحت الكساء، فنحّاها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً: «إنّك على خير»!

وبسند عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى: ( وَبَشّـرِ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) (٢) الآية. قال عليه السلام: «عليّ والأوصياء من بعده وشيعتهم» (٣) . عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما أدخلت الجنّة رأيت فيها شجرة تحمل الحليّ والحلل، أسفلها خيل بلق، وأوسطها حور عين، وفي أعلاها الرّضوان قلت: يا جبرئيل، لمن هذه الشّجرة؟ قال: هذه لابن عمّك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ إذا أمر الله الخليقة بالدخول إلى الجنّة يؤتى بشيعة عليّ حتّى ينتهى بهم إلى هذه الشّجرة، فيلبسون الحليّ والحلل ويركبون الخيل البلق وينادي منادٍ: هؤلاء شيعة عليّ بن أبي طالب، صبروا في الدّنيا على الأذى، فحبوا (٤) اليوم» (٥) .

عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا كان يوم القيامة ينادون عليّ بن أبي طالب بسبعة أسماء: يا صدّيق، يا دالّ، يا عابد، يا هادي، يا مهديّ، يا فتى، يا عليّ؛ مرّ أنت وشيعتك إلى الجنّة بغير حساب» (٦) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٨٤.

(٢) البقرة / ٢٥.

(٣) تفسير فرات ٤ - ٥.

(٤) حباه: أعطاه، ومنه الحباء أي العطيّة.

(٥) مائة منقبة لابن شاذان: ١٧١ حديث ٩٦، والمناقب للخوارزميّ: ٧٣.

(٦) المناقب للخوارزميّ: ٣١٩؛ مائة منقبة: ١٥٠ حديث ٨٣.

٣٧٧

وبسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يدخل من أمّتي الجنّة سبعون ألفاً بغير حساب» (١) . فقال عليّ عليه السلام: من هم يا رسول الله؟ قال: «هم شيعتك (٢) يا عليّ، وأنت إمامهم» (٣) .

وروى جعفر بن محمّد عن آبائه عن عليّ عليه السلام: إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: «إنّ في السّماء حرساً وهم الملائكة، وفي الأرض حرساً وهم شيعتك يا عليّ» (٤) .

وعن أبي سعيد الخدريّ قال: نظر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ عليه السلام، فقال: «هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة» (٥) .

وعن أمّ سلمة: «عليّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة» (٦) .

وبسند عالٍ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يا عليّ، إنّ شيعتنا يخرجون من قبورهم يوم القيامة - على ما بهم من العيوب والذّنوب - وجوههم كالقمر في ليلة البدر، وقد فرّجت عنهم الشّدائد، وسهّلت لهم الموارد، وأعطوا الأمن والأمان، وارتفعت عنهم الأحزان، يخاف النّاس ولا يخافون، ويحزن النّاس ولا يحزنون، شرك نعالهم تتلألأ نوراً، على نوقٍ بيض لها أجنحة، قد ذلّلت من غير مهانة ونجّبت من غير رياضة، أعناقها من ذهب أحمر، ألين من الحرير؛ لكرامتهم على الله عزّ وجلّ» (٧)

عن أبان بن تغلب، عن فضيل، عن عبد الملك الهمدانيّ، عن زاذان، عن عليّ عليه السلام: «تفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النّار، وواحدة في الجنّة. وهم الّذين قال الله عزّ وجلّ: ( وَمِمّنْ خَلَقْنَا أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (٨) ، وهم أنا

____________________

(١) في مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: «لاحساب عليهم».

(٢) في مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: «هم من شيعتك».

(٣) المناقب للخوارزميّ: ٣١٩؛ مائة منقبة: ١٥٠ حديث ٨٣؛ مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ٢٩٣.

(٤) المناقب للخوارزميّ: ٣٢٨.

(٥) كفاية الطّالب: ٣١٤؛ فضائل الخمسة ٣: ٩٨.

(٦) الفردوس للديلميّ (حديث ٤١٧٢).

(٧) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٢٩٦.

(٨) الأعراف / ١٨١.

٣٧٨

وشيعتي» (١) .

بسند عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولأهلك ولشيعتك ومحبّي شيعتك ومحبّي محبّي شيعتك، وأبشر؛ فإنّك الأنزع البطين؛ منزوع من الشّرك، بطين من العلم» (٢) .

عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور وهو جالس للمظالم، فلمّا بصر به قال له: يا سليمان تصدّر. فقال: أنا صدر حيث جلست. ثمّ قال: حدّثني الصّادق قال: حدّثني الباقر قال: حدّثني السجّاد قال: حدّثني الشّهيد قال: حدّثني التقيّ - وهو الوصيّ أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام - قال: حدّثني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: تختّموا بالعقيق فإنّه أوّل حجر شهد لله بالوحدانيّة، ولي بالنّبوّة، ولعليّ بالوصيّة، ولولده بالإمامة، ولشيعته بالجنّة» (٣) .

ونظير الحديث السّابق، عن سلمان الفارسيّ أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه السلام: «يا عليّ، تختمّ باليمين تكن من المقرّبين». قال: يا رسول الله، وما المقرّبون؟ قال: جبرئيل وميكائيل». قال: فبم أتختّم يا رسول الله؟ قال: «بالعقيق الأحمر؛ فإنّه جبل (٤) أقرّ لله بالوحدانيّة، ولي بالنّبوّة، ولك بالوصيّة، ولولدك بالإمامة، ولمحبّيك بالجنّة، ولشيعة ولدك بالفردوس (٥) .

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً ابنته فاطمة عليها السلام: «إذا دعاني ربّ العالمين دعا عليّاً معي، وإذا جثوت جثا عليّ معي، وإذا أجبت أجيب عليّ معي، وإنّه في المقام عوني على مفاتيح الجنّة، قومي يا فاطمة إنّ عليّاً وشيعته هم الفائزون غداً» (٦) .

قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قول الله تعالى: ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ

____________________

(١) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ٣٣١.

(٢) نفس المصدر ٢٨١؛ المناقب للخوارزميّ ٢٩٤؛ فرائد السمطين ١: ٣٠٨.

(٣) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ ٢٨١.

(٤) لعلّه تصحيف، والصحيح: حجر.

(٥) المناقب للخوارزميّ: ٣٢٦.

(٦) مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: ١٥٢.

٣٧٩

عَلَيْهِمْ ) [ الفاتحة / ٧ ]، قال: النّبيّ ومن معه وعليّ بن أبي طالب وشيعته (١) .

وفي قوله تعالى: ( ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ ) . (٢)

عن الهذيل بن حبيب بن أبي صالح، عن أبيه، عن جدّه عن الضحّاك، عن عبد الله بن عبّاس، في قول الله عزّ وجلّ: ( ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) يعني: لا شكّ فيه أنّه نزل من عند الله تعالى ( هُدىً ) يعني: بياناً ونوراً ( لِلْمُتّقِينَ ) : عليّ بن أبي طالب الذي لم يشرك بالله طرفة عين، اتّقى الشّرك وعبادة الأوثان وأخلص لله العبادة؛ يبعث إلى الجنّة بغير حساب هو وشيعته (٣) .

في قوله تعالى: ( الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ) . (٤)

من طريق أبي نعيم، عن حفص بن عاص، عن فضيل بن الزّبير، عن أبي داود، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - وذكر الآية - أتدري من هم يا ابن أمّ سليم؟ قلت: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «نحن وشيعتنا» (٥) .

وفي قوله تعالى: ( ثَوَاباً مِنْ عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ ) (٦) ؛ ( وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ) (٧) عن صالح بن عبد الرّحمن، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت عليّاً يقول: أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيدي ثمّ قال: يا أخي، قول الله تعالى ( ثَوَاباً مِنْ عِندِ اللّهِ ) أنت الثّواب، وشيعتك الأبرار (٨) .

من خلال ما ذكرناه من الأحاديث الشّريفة وجدنا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ينسب الشّيعة إلى نفسه الزكيّة لقوله: «نحن وشيعتنا»، وينسبهم تارة أخرى إلى عليّ الّذي هو نفس رسول الله

____________________

(١) شواهد التنزيل ١: ٦٦.

(٢) البقرة / ٢.

(٣) شواهد التنزيل ١: ٦٧.

(٤) الرّعد / ٢٨.

(٥) خصائص الوحي المبين: ١٨٥؛ البرهان ٢: ٢٩١.

(٦) آل عمران / ١٩٥.

(٧) نفس المصدر ١٩٨.

(٨) شواهد التنزيل ١: ١٣٨.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413