أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)23%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53416 / تحميل: 7321
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٥ / مدرسة أهل البيت عليهم السلام الأخلاقيّة

هي المدرسة التربويّة الكبرى، والجامعة الأخلاقيّة العظمى للخلق الكريم، وكريم الأخلاق، لكلّ من أراد الاتّصاف بالصفات الحسنة، والسجايا الطيّبة التي يحبّها الله تعالى، ويندب إليها الإسلام، ويحكم بحسنها العقل. ممّا تؤدي إلى طيب الحياة، والفوز بالنجاة، وتثمر شرف النفس، والضمير النفيس، وتوفّر خير الدُّنيا وسعادة الآخرة.

ونحن نتشرّف في هذه المدرسة الربّانيّة، بدراسات نموذجيّة، من أخلاق أهل البيت عليهم السلام، التي بيّنها لسان العصمة بصيغة الدّعاء، من خلال حديث واحد من أحاديثهم الشريفة.

وهو حديث دعاء مكارم الأخلاق، الذي هو الدعاء العشرون من أدعية الصحيفة الكاملة المباركة السجّاديّة، الملقّبة بإنجيل أهل البيت، وزبور آل محمّد صلى الله عليه وآله.

لسيّد الساجدين، وزين العابدين، وفخر المتهجّدين، الإمام علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

ولولاها ولولا أدعية أهل البيت عليهم السلام لم نعرف كيف نخاطب ربّنا، وكيف نناجي خالقنا، وكيف نطلب منه حوائجنا، وهو ملك الملوك، وربّ السلاطين.

١٠١

نعم، إنّها كتابٌ رائع ومنشورٌ بارع، لمعرفة التوحيد والنبوّة والإمامة وسائر المعارف العامّة.

والصحيفة المباركة السجّاديّة من الكتب الشريفة المعتبرة المشتملة على ٥٤ دعاءً من أدعية الإمام السجّاد عليه السلام، بسندٍ شريف ينتهي إلى الإمام الباقر عليه السلام، وزيد الشهيد رضوان الله عليه.

وشهد بصحّتها الإمام الصادق عليه السلام كما تلاحظه في مقدّمتها.

وهي من المتواترات عند الأصحاب كما أفاده المحقّق الطهراني قدس سره (١) .

وأضاف الدكتور محفوظ أنّه قد حظى ـ السند ـ بالتواتر حتّى زاد على ستّة وخمسين ألفاً، وما زال العلماء يتلقّونها موصولة الأسناد بالاسناد (٢) .

وأفاد السيّد الأمين أنّه قد تعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة إلى الإمام زين العابدين عليه السلام (٣) .

فالسند قطعي علمي لا يقبل الشكّ والترديد.

هذا، مضافاً إلى أنّ علوّ متنها، وفصاحة ألفاظها، وسموّ مضامينها دالّة على صدورها من بحر العصمة ومعدن الإمامة وأهل بيت النبوّة سلام الله عليهم أجمعين.

لذلك علّق الدكتور محفوظ عليها بقوله: ـ

(نثرٌ رائع، واُسلوبٌ ناصع من أجناس المنثور، ونمطٌ بديع من أفانين التعبير، وطرف بارعة من أنواع البيان، ومسلك مُعجب من بلاغات النبيّ صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام التي لم يَرْقَ إليها غير طيرهم، ولم تَسْمُ إليها سوى أقلامهم.

__________________

(١) الذريعة / ج ١٥ / ص ١٨.

(٢) مجلّة البلاغ / العدد ٧ من السنة الاُولى / ص ٥٤.

(٣) حياة الإمام زين العابدين عليه السلام / ج ٢ / ص ١١٧.

١٠٢

فالدّعاء أدبٌ جميل، وحديثٌ مبارك، ولغةٌ غنيّة، ودينٌ قيّم، وبلاغةٌ عبقريّة، إلهيّة المسحة، نبويّة العبقة) (١) .

وأضاف العلّامة القرشي أنّ الصحيفة المباركة احتوت على حقائق علميّة لم تكن معروفة في عصر الإمام عليه السلام، ممّا تشهد بصدورها من أهل بيت وحي السماء عليهم السلام.

نظير قوله عليه السلام في الدّعاء على أعداء المسلمين بقوله:

«اللَّهُمَّ وامزج مياههم وأطعمتهم بالوباء» (٢) .

فهي تشير إلى الحقيقة العلميّة التي اكتشفت في العصور الأخيرة بأنّ جراثيم الوباء المعروفة بالكوليرا تأتي عن طريق الماء، وتنتقل عن طريق الغذاء (٣) .

فالصحيفة المباركة من حيث التقييم السندي في أعلى مراتب الصحّة والاعتبار.

وأمّا من حيث المتن فهو نورٌ إلهي، وعلمٌ نبويّ، وكلامٌ معسوميّ، ككلام جدّه أمير المؤمنين عليه السلام.. دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق.. والوجدان شاهدٌ بالعيان.

والدّعاء العشرون من هذه الصحيفة الشريفة هو دعاء مكارم الأخلاق، الذي هو قمّة في الأخلاق الكريمة التي تربّي الجيل الصالح، وتصنع الإنسان المتّقي المخلوق، وتسمو بالإنسان إلى الفضائل النفسيّة، والمكارم الروحيّة، والمعالي الأخلاقيّة.

وترى هذا الدّعاء الشريف قد جمع بين الركيزتين الأساسيّتين في حُسن الأخلاق..

جمع بين صفات تهذيب النفس، إلهاماً من قوله تعالى: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (٤) ، وبين

__________________

(١) مجلّة البلاغ / العدد ٦ من السنة الاُولى / ص ٥٦.

(٢) الصحيفة المباركة السجّاديّة / الدعاء الأوّل.

(٣) حياة الإمام زين العابدين عليه السلام / ج ٢ / ص ١٢٥.

(٤) سورة الشمس / الآيات ٧ ـ ١٠.

١٠٣

صفات حُسن المعاشرة مع الغير، إقتباساً من قوله عزّ اسمه: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) .

فتلاحظ على صعيد تهذيب النفس بدأ بقوله عليه السلام: ـ

(اللَّهُمَّ صّلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ،

وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الْإِيمَانِ،

وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ،

وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ...

وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ،

وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبادَتِي بِالْعُجْبِ،

وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرِ وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ،

وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ...).

وتلاحظ على صعيد حُسن المعاشرة يستمرّ الدّعاء إلى قوله عليه السلام: ـ

(اللَّهُمَّ صّلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ،وَ

سَدِّدْنِي لِأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ،

وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ،

وَأُثِيبَ مِنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ،

وّ أُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ،

وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ،

وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ...).

فأدّبوا عليهم السلام أصحابهم وشيعتهم، وأرشدوا جميع الناس إلى كلا الأدبين: أدب

__________________

(١) سورة فصّلت: الآية ٣٤.

١٠٤

التزكية، وأدب المعاشرة.

وهذا الدّعاء المبارك يشتمل على عشرين فقرة.

وفقراتها تبتدأ بالصلوات على محمّد وآله الطاهرين التي هي وسيلة لاستجابة الدّعاء، وبركة العطاء، والفوز بأكمل الفضل والفضيلة، ممّا توجب اقتران هذا الدّعاء للداعي بالاستجابة، وحصول الآثار الطيّبة (١) .

ونحن نقتطف أزاهير عَطِرة من هذه الروضة الزاهرة، ونستلهم منها دروساً أخلاقيّة، ومعالم روحيّة.

فنستعرض كلّ جملةِ كريمة، من الفقرة الثامنة التي جمعت بين الركيزتين تهذيب النفس، وحُسن المعاشرة، واشتملت على عشرين جملة كَمَلا.

سائلين المولى العليّ القدير توفيق الاهتداء بهُداهم، والاستنارة بسيرتهم، والاتّصاف بأخلاقهم، والله تعالى وليّ التوفيق.

__________________

(١) لاحظ فضل الصلوات في كتاب وصايا الرسول لزوج البتول عليهم السلام / ص ١٢٤.

١٠٥

١٠٦

اللَهُمَّ صّلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلَّنِي بِحِلْيَةِ

الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ

هذه إحدى الدروس الأخلاقيّة الرفيعة، في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، التي هي مدرسة السماء في الأرض، وكتابها زبور آل محمّد: الصحيفة السجّاديّة، ومعلّمها حجّة الله وزين العباد الإمام السجّاد عليه السلام الذي هو مثال الأخلاق الطيّبة، والصِّفات الكريمة، ومكارم الأخلاق، يعلّمنا عليه السلام بالدّعاء والعمل أن نتحلّى بحلية الصالحين، ونتزيّن بزينة المتّقين.

والحلية هي: ما يتزيّن به الإنسان كالخاتم، والسيف، والمجوهرات، والذهب والفضّة.

والصالحون هم: القائمون بما يلزمهم من الحقوق الإلهيّة، وحقوق الناس، ويتركون المعاصي والمحرّمات.

إذ العمل الصالح هو أداء الفرائض وحقوق الناس، ترك المناهي والمحرّمات.

فالصالح هو من يعمل هذه الأعمال الصالحة.

وقد بشّرهم الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: ـ

( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ

١٠٧

أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) .

والصلاح هذا من أجلّ الصفات الحميدة التي وُصف بها أولياء الله المقرّبون، كما تلاحظه في زيارة سيّدنا أبي الفضل العبّاس عليه السلام المرويّ عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام جاء فيها: ـ

(السلامُ عليك أيّها العبد الصالح...).

وفُسّر الذين يعملون الصالحات في تعبير القرآن الكريم بأمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وخواصّ شيعتهم كحمزة، وجعفر، وعبيدة، وسلمان رضوان الله عليهم.

وقد بشَّر الله تعالى المؤمنين العاملين عمل الصالحات بأزهى البشائر، وأعظم الفضائل في الدُّنيا والآخرة، كما تلاحظها في آيات القرآن الباهرة (٢) حتّى عرّفهم بأنّهم هم الذين يرثون الأرض، ونسبهم إلى نفسه، وشرّفهم بأنّهم عباده في قوله تعالى: ـ

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٣) .

فيُسأل في هذا الدّعاء الشريف أن يحلينا الله تعالى بحلية الصالحين وزينتهم، ويلبسنا ملبسهم الجميل الذي يسترهم عن العيوب، حتّى تحصل لنا الأهليّة الكاملة، ويتولّانا الله بولايته العظمى التي وعدها بقوله عزّ اسمه: ـ

( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّـهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (٤) .

والزينة: أعمّ من الحلية، فهي تعمّ الحلية وتشمل حتّى اللّباس.

__________________

(١) سورة النحل: الآية ٩٧.

(٢) راجع هذه الآيات المباركة وبشائرها الزاهرة في كتاب شيعة أهل البيت عليهم السلام / الفصل الخامس.

(٣) سورة الأنبياء: الآية ١٠٥.

(٤) سورة الأعراف: الآية ١٩٦.

١٠٨

فتُطلق الزينة على ما يُتزيّن به من حُليّ ولباس غيرهما.

والمتّقون: هم المتّصفون بالتقوى،

وهي في اللّغة بمعنى: الصيانة، وفي العرف بمعنى فعل الواجبات، وترك المحرّمات.

وأحسن تعريف له هو ما في الحديث الصادقي الشريف: ـ

(أن لا يفقدك حيث أمَرَك، ولا يجدك حيث نهاك) (١) .

ولباس المتّقين هو الذي يزيّنهم، وهو أحسن لباس ساتر للإنسان، يستر العيوب والعورات، ويصون عن القبائح والمحرّمات.

قال تعالى:

( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ) (٢) .

والتقوى هي تلك الصفة الفُضلى، والمزيّة الكبرى التي بها النجاة، في هذه الحياة وبعد الممات.

وقد أكّدت وحثّت عليها آيات الكتاب، وبيّنت فضلها وأهميّتها أحاديث أهل البيت عليهم السلام (٣) .

فيُسأل في هذا الدّعاء الشريف أيضاً أن يزيّننا الله تعالى ويُلبسنا زينة المتّقين، بعد سؤال حلية الصالحين.

وركيزة البحث في هذا الفصل هو أنّه: ـ

ما هي حليةُ الصالحين وزينةُ المتّقين؟

الجواب: هي هذه الصفات العشرون التي ذكرها الإمام عليه السلام تلواً يعني: ـ بسط

__________________

(١) سفينة البجار / ج ٨ / ص ٥٥٨.

(٢) سورة الأعراف: الآية ٢٦.

(٣) راجع لمعرفتها كتاب ينابيع الحكمة / ج ٥ / ص ٢٧٣.

١٠٩

العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة.. إلخ ممّا يأتي ذكرها آتياً.

فهي الصفات الحسنة، والقيم المتقنة التي هي ملاكات حلية أهل الصلاح، وزينة أهل التقوى.

بل هي مقوّمات الصلاح والتقوى.

فإذا أردنا أن نكون من الصالحين والمتّقين..

وأردنا أن نتّصف بحليتهم وزينتهم..

يلزم علينا أن نتّصف بهذه الصفات، ونلتزم بهذه المكرمات.

فهذه الصفات تجعل الإنسان تقيّاً صالحاً، ومتحليّاً بزينة المتّقين والصالحين، وأخلاقهم الطيّبة، ومكارم صفاتهم الحسنة.

فلنعدّدها ونبيّنها، آملين توفيق امتثالها بعون الله تعالى.

وهي في الدعاء الشريف كما يلي: ـ

١١٠

(١)

هي بَسطِ العَدل

البسط هو: النشر، واستُعير للشمول المطلق، وبَثّ العدل في الخلق.

والعدل هو: الاعتدال، والتوسّط بين الإفراط والتفريط، ووضع الشيء في موضعه.

قال في مجمع البحرين (١) : ـ العدل خلاف الجور، ولغةً هو: التسوية بين الشيئين، والعدل: القصد في الاُمور.

وهو صفة جليلة، توجب مناعة النفس، والردع عن الظلم، والتحفيز على أداء الحقوق والواجبات.

والعدل مدار كلّ خير، وبه قامت السماوات والأرض، وهو الموجود في كلّ شيءٍ من المخلوقات من العالَم العُلوي إلى العالَم السُفلي.

فمن مجرّات السماء إلى طبقات الأرض كلّها وُضعت على العدل..

تلاحظ أنّ عين الشمس التي هي في حجمها ملايين الكيلومترات المكعّبة من السماء خُلقت على العدل.

__________________

(١) مجمع البحرين / ص ٤٨٣.

١١١

والسائل النفطي التي هي في مقدارها ملايين الكيلوغرامات تحت الأرض خُلقت على العدل.

وحتّى المكروبات إنّما تضرّ بميزان، وعلى حساب عدم الإفراط والتفريط، وبمقدار الاحتماء عنها وعدم الاحتماء.

وبسط العدل هو نشره وإعماله في جميع المجالات، وفي جميع الأقوال والأفعال في الحياة.

ومن حلية الصالحين وزينة المتّقين عدلهم المبسوط المنتشر، الموجود في جميع اُمورهم وفي كلّ حياتهم.

وبحقّ هو زينة وجمال، ورداء محبوبٌ وجميل، وقد فُطرت النفوس على حبّ العدل والإنصاف، وبغض الظلم والجور، في جميع الشرائع والاُمم، وفي مختلف الفئات والطبقات.

وقد نُدب إليه ورغّب فيه بل اُمر به في دين الإسلام، في كتابه وسنّته.

ففي القرآن الكريم: ـ

قال تعالى: ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

وفي الأحاديث المباركة:

عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (إنّ العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحقّ، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه) (٢) .

وفي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله: ـ

يا عليّ، ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسِكَ فاحببه لأحيك

__________________

(١) سورة النحل: الآية ٩٠.

(٢) غرر الحكم / ص ٢٢٢ / ح ٨٨.

١١٢

تكُن عادلاً في حكمك، مقسِطاً في عدلك، محبوباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض) (١) .

عن الإمام الصادق عليه السلام: ـ

أنَه سُئِلَ عن صفة العدل في الرجل؟

فقال: إذا غضَّ طرفَه عن المحارم، ولسانه عن المآثم، وكفّه عن المظالم (٢) .

عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال:

عدلُ ساعة خيرٌ من عبادة ستّين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها،

وجور ساعة في حكم أشدّ وأعظم عند الله من معاصي ستّين سنة (٣) .

وجاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وهو يريد بعض غزواته، فأخذ بغَرزِ راحلته ـ أي ركابها ـ فقال: يا رسول الله علّمني عملاً أدخل به الجنّة؟

فقال: ـ ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأتهِ إليهم، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم، خلّ سبيل الراحلة (٤) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ـ

العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، وما أوسع العدل إذا عُدل فيه ـ أي في الأمر ـ وإن قلّ (٥) .

وعن الصادق عليه السلام أنّه قال: ـ

العدل أحلى من الشهد، وألين من الزَبَد، وأطيب ريحاً من المسك (٦) .

__________________

(١) تحف العقول / ص ١٩.

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١١ / ص ٣١٧ / ح ٣.

(٣) جامع الأخبار / ص ١٥٤ / ح ١١٦.

(٤) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١٤٦ / ح ١٠.

(٥) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١٤٦ / ح ١١.

(٦) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١٤٧ / ح ١٥.

١١٣

هذا ما يستفاد منه منتهى فضيلة العدل، ومفخرة الاعتدال، وسموّ هذه الصفة الشريفة.

واعلم أنّ للعدل هذا صدورٌ عديدة أفادها العلماء تتلخّص فيما يلي: ـ

١) عدل الإنسان مع الله تعالى..

وذلك بالإيمان به، وتوحيده وعدم الشرك به، والإخلاص له، وتصديقه، وأطاعته، وتصديق أنبيائه، وأوصياء أنبيائه الحجج على خلقه (١) .

٢) عدل الإنسان مع والديه..

بأن يطيعهم ويحسن إليهم، ولا يقول لهم أفٍّ ولا ينهرهما، ولا يكلّفهما أن يسألاه شيئاً ممّا يحتاجان إليه، ولا يسمّيهما باسمهما، ولا يمشي أمامهما، ولا يجلس قبلهما، ولا يستسبّ لهما، ويصوم ويصلّي ويحجّ عنهما، ويقضي دينهما، ويستغفر لهما، ويبرّهما حيّين وميّتين (٢) .

٣) عدل الإنسان مع ولده..

وذلك بأن يُحسن اسمه وتربيته، ويرى نفسه مسؤولاً عن حُسن أدبه، والدلالة على ربّه، والمعونة له على الطاعة، ويعمل معه عمل من يعلم أنّه مُثاب على الإحسان إليه، ومعاقب على الإساءة إليه (٣) .

٤) عدل الإنسان مع زوجته..

بأن يعلم أنّ الله عزّوجلّ جعلها له سَكَناً واُنساً ونعمةُ، فيكرمها، ويُرفق بها، ويُنفق عليها، ويطعمها، ويكسوها، ويعاشرها بالمعروف (٤) .

__________________

(١) لاحظ حديث الحقوق من البحار / ج ٧٤ / ص ٣.

(٢) لاحظ سفينة البحار / ج ٨ / ص ٥٨٥.

(٣) لاحظ حديث الحقوق من البحار / ج ٧٤ / ص ١٥.

(٤) لاحظ أمالي الشيخ الصدوق / المجلس ٩٥ / ص ٣٧٠.

١١٤

٥) عدل الإنسان مع نفسه..

ويكون ذلك بتهيئة الفوز والنجاة لنفسه، وسوقها إلى الكمالات، وهدايتها إلى الطاعات، وصونها عن الذنوب والمعاصي، وتزكيتها بالعمل الإلهي.

وطريق ذلك الفوز والنجاة الالتزام بالاُمور التالية: ـ

الأوّل: معرفة اُصول الدِّين وفروعه، والعلم بالتكاليف: الحلال والحرام (١) .

الثاني: العمل بالواجبات وترك المحرّمات ليحصل على التقوى (٣) .

الثالث: الاتّصاف بصفات المؤمنين المبشّرين في كتاب الله تعالى في سورة المؤمنين بالفلاح (٣) .

فإذا عمل الإنسان مع نفسه بهذه المفاصل كان عادلاً مع نفسه، هادياً لها إلى سعادته، متحليّاً بحلية الصالحين وزينة المتّقين، وممّن بشّره الله تعالى بالفوز والفلاح بقوله عزّ اسمه في القرآن الكريم (٤) : ـ

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

٦) عدل الإنسان مع المجتمع والآخرين..

ويكون ذلك برعاية حقوقهم، وكفّ الأذى عنهم، وحسن الأخلاق معهم،

__________________

(١) ينابيع الحكمة / ج ٤ / ص ١٩١.

(٢) بحار الأنوار / ج ٦٩ / ص ٢٧٧ / ح ١٢.

(٣) كنز الدقائق / ج ٩ / ص ١٥٧.

(٤) سورة المؤمنون / الآيات ١ ـ ١١.

١١٥

ومداراتهم، والعطف عليهم، وسائر الحقوق الاُخرى التي تلاحظها في رسالة الحقوق الجامعة لسيّد الساجدين الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام (١) .

٧) عدل الحكّام في أحكامهم..

وذلك برعاية الحدود التي عيّنها الله تعالى، ورسوله، وخلفاؤه.. ممّا قرّره الشارع المقدّس في الحكومة والقضاء.

والنموذج المثالي منه هو ما عيّنه وطبّقه أقضى الاُمّة وأعدلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأمر به في عهده الشريف الجامع إلى الأشتر النخعي رضوان الله تعالى عليه حين ولّاه مصر (٢) الذي هو أرقى دستور سامي، وأوفى منشورٍ عالمي في الحكومة والقضاء، والضامن للحياة العادلة والمدنيّة الفاضلة، لجميع الشعوب وكلّ الطبقات.

هذه أنواع العدل التي برعاياتها تسعد الحياة، ويحصل الفوز بعد الممات، ويسود السلام، ويشيع الرخاء في الأنام.

هذا.. والمثل الأعلى الأوفى لبسط العدل هم أهل البيت عليهم السلام، حيث كان ملأ حياتهم، وفي جميع اُمورهم على أقصى العدل، وأوفى القسط.

ومن ذلك ما في حديث المناقب عن عدل أمير المؤمنين عليه السلام أنّه: ـ

قَدِمَ عليه عقيل فقال للحسن: ـ اكسُ عمّك، فكساه قميصاً من قميصه ورداءً من أرديته.

فلمّا حضر العشاء فإذا هو خبزٌ وملح، فقال عقيل: ليس إلّا ما أرى؟

فقال: أوليسَ هذا من نعمة الله، وله الحمد كثيراً.

فقال: أعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي، حتّى أرحل عنك.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٤ / ٢ ـ ٢١.

(٢) نهج البلاغة / الكتاب رقم ٥٣ / الطبعة المصريّة.

١١٦

قال: فكم دَينُك يا أبا يزيد؟

قال: مائة ألف درهم.

فقال: لا والله ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا أنّه لابدّ للعيال من شيء لأعطيتُك كلّه.

فقال عقيل: بيت المال في يدك، وأنت تسوّفني إلى عطاءك؟

فقال: وما أنا وأنت فيه إلّا بمنزلة رجلٍ من المسلمين، وكانا يتكلّمان فوق قصر الإمارة، مشرفين على صناديق أهل السوق، فقال له عليّ عليه السلام: إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخُذ ما فيه.

فقال: وما في هذه الصناديق؟

قال: فيما أموال التجّار.

قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين، وأعطيك أموالهم...؟

وزاد في حديث الصواعق المحرقة أنّه ثمّ قال عقيل: آتينّ معاوية.

فقال عليّ عليه السلام: أنت وذاك.

فأتى عقيل معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف، ثمّ قال له: إصعد المنبر فاذكر ما أولاك به ع ليّ وما أوليتك.

فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ـ

أيّها الناس إنّي اُخبركم عليّاً عليه على دينه فاختار دينه، وإنّي أردتُ معاوية على دينه فاختارني على دينه (١) .

وعدل أمير المؤمنين عليه السلام في جميع حياته ومجالاته ممّا لا يختلف فيه إثنان.

وهو القائل: (وَاللَهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ

__________________

(١) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة / ج ٣ / ص ٢٢.

١١٧

مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ...) (١) .

وهو القائل أيضاً: (وَاللَهَ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَهَ فِي نَمْلَةٍ جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ).

هذه هي الصفة الإلهيّة، والخُلق الربّاني العدل الذي هو من أشرف الفضائل.

وهؤلاء أهل البيت عليهم السلام الذي هم المَثَل الأعلى لهذه المزيّة، والصفة السنيّة.

وعلينا أن نسير في هداههم في جميع أفعالنا وأقوالنا، وفي جميع اُمور حياتنا.

أقول: وما أبعد ما بين عدل عليّ عليه السلام هذا وبين جشع عثمان واستئثاره بأموال المسلمين لنفسه ولقومه يخضم مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، ويتصرّف فيه كيف شاء ولمَن شاء بلا رادعٍ ولا مانع حتّى اعترض عليه الناس.

فقال في جوابهم بلا حياء ولا إباء: ـ (هذا مال الله أعطيته من شئت وأمنعه من شئت) (٢) .

وتلاحظ صورة وافية من قطايعه وما أعطاه من بيت مال المسلمين لمن يهواهم من قومه وأتباعه مجموعةً وأتباعه مجموعةً في كتاب الغدير الشريف (٣) ، ممّا أثبته نفس العامّة في كتبهم.

وهذه جملةً منها نذكر نصّاً في الجدول التالي، ليُعرف ماذا حدث في ميزان العدل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ويُعرف شيءٌ من عدل عليّ عليه السلام وظلم غيره: ـ

العطايا والمبالغ بدينار ذهب

الشخص

٠٠٠ / ٥٠٠

مروان بن الحكم (صهره)

٠٠٠ / ١٠٠

عبد الله بن أبي سرح (أخوه الرضاعي)

__________________

(١) نهج البلاغة / الخطبة ٢٢٤.

(٢) أنساب الأشراف / ج ٥ / ص ٨٨.

(٣) الغدير / ج ٨ / ص ٢٨٦.

١١٨

٠٠٠ / ٢٠٠

طلحة

٠٠٠ / ٥٦٠ / ٢

عبد الرحمن بن عوف

٠٠٠ / ٥٠٠

يعلى بن اُميّة

٠٠٠ / ١٠٠

زيد بن ثابت (مدافعه)

٠٠٠ / ١٥٠

عطيّة لنفسه

٠٠٠ / ٢٠٠

عطيّة اُخرى لنفسه

٠٠٠ / ٣١٠ / ٤ دينار

المجموع

العطايا والمبلغ بدرهم فضّة

الشخص

٠٠٠ / ٣٠٠

الحكم بن أبي العاص (عمّه)

٠٠٠ / ٠٢٠ / ٢

آل الحكم

٠٠٠ / ٣٠٠

الحارث بن الحكم (ابن عمّه وصهره)

٠٠٠ / ١٠٠

سعيد بن العاص

٠٠٠ / ١٠٠

الوليد بن عُقبة (أخوه لاُمّه)

٠٠٠ / ٣٠٠

عبد الله بن خالد (صهره)

٠٠٠ / ٦٠٠

عبد الله بن خالد (صهره)

٠٠٠ / ٢٠٠

أبو سفيان

٠٠٠ / ١٠٠

مروان بن الحكم (صهره)

٠٠٠ / ٢٠٠ / ٢

طلحة

٠٠٠ / ٠٠٠ / ٣٠

طلحة أيضاً

٠٠٠ / ٨٠٠ / ٥٩

الزبير

١١٩

٠٠٠ / ٢٥٠

سعد بن أبي وقّاص

٠٠٠ / ٥٠٠ / ٣٠

عطيّة لنفسه

٠٠٠ / ٧٧٠ / ١٢٦ درهم

المجموع

أموال عثمان حين موته

عين المال

٠٠٠ / ١٥٠

دينار ذهب

٠٠٠ / ٥٠٠ / ٣٠

درهم فضّة

٠٠٠ / ١

بعير في الربذة

٠٠٠ / ٢٠٠

دينار صدقات ببراويس وخيبر ووادي القرى

٠٠٠ / ١

عبيد

عدداً كثيراً من الحدائق، والعيون، والخيل في المدينة، وداراً فخمة، وضياعاً في حُنين تقدّر بمائة ألف دينار كما ذكره المؤرّخ المسعودي في مروج الذهب / ج ١ / ص ٤٣٣.

٠٠٠ / ٣٥٠

المجموع من الدنانير

٠٠٠ / ٥٠٠ / ٣٠ درهم

المجموع من الدراهم

وعلى طبق هذه الجداول يكون ما فرّط فيه عثمان من بيت مال المسلمين يساوي: (٠٠٠ / ٦٦٠ / ٤) دينار ذهب، و (٠٠٠ / ٢٧٠ / ١٥٧) درهم فضّة.

فَمَن المسؤول؟ وأين العدل؟

١٢٠

وعن الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ( تُكلِّم النارُ يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروةٍ من المال، فتقول للأمير: يا مَن وهَبَ اللّه له سلطاناً فلَم يعدل، فتزدَرِدَه كما يَزدَرِدَ الطير حبّ السمسم.

وتقول للقارئ: يا مَن تزَيّن للناس وبارَز اللّه بالمعاصي فتزدرده.

وتقول للغني: يا من وهب اللّه له دنيا كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى إلاّ بُخلاً فتزدرده )(١).

وليس هذا الوعيد الرهيب مقصوراً على الجائرين فحسب، وإنّما يشمل من ضلع في ركابهم، وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنّه وإيّاهم سواسية في الإثم والعقاب، كما صرحت بذلك الآثار:

قال الصادقعليه‌السلام : ( العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم )(٢) .

لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات إلى اللّه عزّ وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيّبة في حياة الإنسان المادّيّة والروحيّة.

قال الإمام الكاظمعليه‌السلام لابن يقطين: ( اضمَن لي واحدةً أضمنُ لك ثلاثاً، اضمن لي أنْ لا تلقى أحداً مِن موالينا في دار الخلافة إلاّ بقضاء حاجته، أضمن لك أنْ لا يصيبك حدّ السيف أبداً، ولا يظلّك

_____________________

(١) البحار م ١٦ ص ٢٠٩ عن الخصال للصدوق ( ره ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٣ عن الكافي.

١٢١

سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً )(١) .

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( إن لله جل وعزّ مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن أوليائه ).

وفي خبر آخر: ( أولئك عتقاء اللّه من النار )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان )(٣).

وعن محمّد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجلٌ من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : إنّ في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو ممّن يَدين بطاعتك، فإنّ رأيت أنْ تكتب لي إليه كتاباً. قال: فكتب إليه أبو عبد اللّه: ( بسم اللّه الرحمن الرحيم سُرَّ أخاك يَسُرّك اللّه ).

فلمّا ورَد عليه الكتاب وهو في مجلِسه، فلمّا خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقبّله ووضعه على عينيه ثُمّ قال: ما حاجتك ؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.

قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثُمّ أخرَج مثله فأمره أنْ يثبتها له لقابل، ثُمّ قال له: هل سررتك ؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أُخرى فقال له: هل سررتك ؟ قال: نعم جعلت فداك.

_____________________

(١) كشكول البهائي طبع إيران ص ١٢٤.

(٢)، (٣) الوافي ج ١٠ ص ٢٨ عن الفقيه.

١٢٢

فأمر له بمركب، ثُمّ أمر به بجاريةٍ وغلام، وتخت ثياب، في كلّ ذلك يقول: هل سررتك ؟ فكلّما قال: نعم، زاده حتّى فرغ، فقال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ إليَّ كتاب مولاي فيه، وارفع إليّ جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل فصار الى أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما فعله.

قال له الرجل: يابن رسول اللّه، قد سرّك ما فعل بي ؟ قال: ( إي واللّه، لقد سرّ اللّه ورسوله )(١).

وخامة الظلم:

بديهي أنّ استبشاع الظلم واستنكاره، فطريٌّ في البشَر، تأباه النفوس الحرّة، وتستميت في كفاحه وقمعه، وليس شيء أضرّ بالمجتمع، وأدعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه.

فالإغضاء عن الظلم يشجّع الطغاة على التمادي في الغيّ والإجرام، ويحفّز الموتورين على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الأُمم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها وسلطانها.

_____________________

(١) الوافي ج ١٠ ص ٢٨ عن الكافي.

١٢٣

علاج الظلم:

من العسير جدّاً علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أنّ من الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:

١ - التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من إشاعة السلام، ونشر الوئام والرخاء.

٢ - الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادّيّة والمعنويّة.

٣ - تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقِيَم الإيمان ومفاهيمه الهادفة الموجّهة.

٤ - استقراء سيَر الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.

جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحِجْلان: أنّ بعض مقدّميُّ الأكراد حضَر على سِماط بعضِ الأمراء، وكان على السماط حِجْلتان مشويتان، فنظر الكرديُّ إليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلمّا أردت قتله، تضرّع فما أفاد تضرّعه، فلمّا رآني أقتله لا محالة، التفت إلى حِجْلتين كانتا في الجبل، فقال: اشهدا عليه إنّه قاتلي، فلمّا رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه ) فقال الأمير: قد شهدتا، ثُمّ أمر بضرب عنقه(١) .

_____________________

(١) كشكول البهائي طبع إيران ص ٢١.

١٢٤

وفي سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي: أنّ عبد الملك بن مروان أرِق ليلةً، فاستدعى سميراً له يحدّثه، فكان فيما حدّثه أنْ قال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة، وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلاّ أنْ تجعلي صداقها مِئة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إنْ دام والينا علينا، سلّمه اللّه تعالى سنةً واحدة فعلت ذلك، فاستيقظ عبد الملك، وجلَس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقّد أمر الولاة(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ١١٠.

١٢٥

الإخلاص

الإخلاص: ضدّ الرياء، وهو صفاء الأعمال مِن شوائب الرياء، وجعلها خالصةً للّه تعالى.

وهو قوام الفضائل، وملاك الطاعة، وجوهر العبادة، ومناط صحّة الأعمال، وقبولها لدى المولى عزّ وجل.

وقد مجّدته الشريعة الإسلاميّة، ونوّهت عن فضله، وشوّقت إليه، وباركَت جهود المتحلّين به في طائفة مِن الآيات والأخبار:

قال تعالى:( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (١) .

وقال سُبحانه:( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (٢).

وقال عزَّ وجل:( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أخلص للّه أربعين يوماً،

_____________________

(١) الكهف: ١١٠.

(٢) الزمر ( ٢ - ٣ ).

(٣) البيّنة: ٥.

١٢٦

فجّر اللّه ينابيع الحكمة مِن قلبه على لِسانه )(١) .

وقال الإمام الجوادعليه‌السلام : ( أفضل العبادة الإخلاص )(٢).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العِلم، والعِلم كلّه حجّة إلاّ ما عُمِل به، والعمَل كلّه رياءٌ إلاّ ما كان مخلِصاً، والإخلاص على خطر، حتّى ينظُر العبد بما يُختَم له )(٣).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، لا يفقه الرجل كلّ الفقه، حتّى يرى الناس في جنب اللّه أمثال الأباعر، ثُمّ يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقرٍ له )(٤).

فضيلة الإخلاص:

تتفاوت قِيَم الأعمال، بتفاوت غاياتها والبواعث المحفّزة عليها، وكلّما سمَت الغاية، وطهُرَت البواعث مِن شوائب الغشّ والتدليس والنفاق، كان ذلك أزكى لها، وأدعى إلى قبولِها لدى المولى عزّ وجل.

وليس الباعث في عرف الشريعة الإسلامية إلاّ ( النيّة ) المحفّزة على الأعمال، فمتى استهدفت الإخلاص للّه تعالى، وصَفَت مِن كدر

_____________________

(١)، (٢) البحار م ١٥ ص ٨٧ عن عدّة الداعي لابن فهد.

(٣) البحار م ١٥ ص ٨٥ عن الأمالي والتوحيد للصدوق.

(٤) الوافي ج ١٤ ص ٥٤ في وصيّة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

١٢٧

الرياء نبلت وسعدت بشرف رضوان اللّه وقبوله، ومتى شابها الخِداع والرياء، باءت بسخَطِه ورفْضِه.

لذلك كان الإخلاص حجَراً أساسيّاً في كيان العقائد والشرائع، وشرطاً واقعيّاً لصحّة الأعمال، إذ هو نظام عقدها، ورائدها نحو طاعة اللّه تعالى ورضاه.

وناهيك في فضل الإخلاص أنّه يُحرّر المرء من إغواء الشيطان وأضاليله:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

عوائق الإخلاص:

وحيث كان الإخلاص هو المنار الساطع، الذي ينير للناس مناهج الطاعة الحقّة، والعبوديّة الصادقة، كان الشيطان ولوعاً دؤوباً على إغوائهم وتضليلهم بصنوف الأماني والآمال الخادعة: كحب السمعة والجاه، وكسب المحامد والأمجاد، وتحرّي الأطماع المادّيّة التي تمسخ الضمائر وتمحق الأعمال، وتذرها قفراً يباباً من مفاهيم الجمال والكمال وحلاوة العطاء.

وقد يكون إيحاء الشيطان بالرياء هامساً خفيفاً ماكراً، فيمارس الانسان الطاعة والعبادة بدافع الإخلاص، ولو محصها وأمعن فيها وجدها مشوبةً بالرياء. وهذا مِن أخطر المزالق، وأشدّها خفاءً وخداعاً. ولا يتجنّبها إلاّ الأولياء الأفذاذ.

كما حُكي عن بعضهم أنّه قال: ( قضَيت صلاةَ ثلاثين سنة كنت

١٢٨

صلّيتها في المسجد جماعة في الصفّ الأوّل، لأنّي تأخّرت يوماً لعُذرٍ، وصلّيت في الصفّ الثاني، فاعترتني خَجْلةٌ مِن الناس، حيث رأوني في الصفّ الثاني، فعرفت أنّ نظر الناس إليّ في الصفّ الأوّل كان يسرّني، وكان سبب استراحة قلبي.

نعوذ باللّه مِن سُبات الغفلة، وُخِدَع الرياء والغرور. من أجل ذلك يحرص العارفون على كتمان طاعاتهم وعباداتهم، خَشية من تلك الشوائب الخفيّة.

فقد نُقل: أنّ بعض العبّاد صام أربعين سنة لم يعلَم به أحد مِن الأباعد والأقارب، كان يأخذ غذاءه فيتصدّق به في الطريق، فيظنّ أهله أنّه أكل في السوق، ويظنّ أهل السوق، أنّه أكل في البيت.

كيف نكسب الإخلاص:

بواعث الإخلاص ومحفّزاته عديدة تلخصّها النقاط التالية:

١ - استجلاء فضائل الإخلاص السالفة، وعظيم آثاره في دنيا العقيدة والإيمان.

٢ - إنّ أهمّ بواعث الرياء وأهدافه استثارة إعجاب الناس، وكسب رضاهم، وبديهي أنّ رضا الناس غايةٌ لا تُدرك، وأنّهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، وأنّ المُسعِد الحقّ هو اللّه تعالى الذي بيده أزِمّة الأُمور، وهو على كلّ شيء قدير، فحريٌّ بالعاقل أنْ يتّجه

١٢٩

إليه ويخلص الطاعة والعبادة له.

٣ - إنّ الرياء والخِداع سرعان ما ينكشفان للناس، ويسفران عن واقع الإنسان، ممّا يفضح المرائي ويعرضه للمقت والازدراء.

ثوب الرياء يشفّ عمّا تحته

فإذا التحفتَ به فإنّك عاري

فعلى المرء أنْ يتّسم بصدق الإخلاص، وجمال الطوية، ليكون مثلاً رفيعاً للاستقامة والصلاح.

فقد جاء في الآثار السالفة: ( إنْ رجلاً مِن بني إسرائيل قال: لأعبدنّ اللّه عبارة أُذكَر بها، فمكث مدّةً مبالِغاً في الطاعات، وجعَل لا يمرّ بملأٍ من الناس إلاّ قالوا: متصنّعٍ مراءٍ، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك، وضيّعت عُمرك في لا شيء، فينبغي أنْ تعمل للّه سُبحانه، وأخلص عمله للّه، فجعل لا يمرّ بملأٍ من الناس إلاّ قالوا ورعٍ تقيّ ).

١٣٠

الرياء

وهو: طلب الجاه والرِّفعة في نفوس الناس، بمراءاة أعمال الخير.

وهو مِن أسوأ الخصال، وأفظع الجرائم، الموجبة لعناء المرائي وخسرانه ومقته، وقد تعاضدت الآيات والأخبار على ذمّه والتحذير منه.

قال تعالى في وصف المنافقين:( يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (١).

وقال تعالى:( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٢).

وقال سبحانه:( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ) (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ رياء شِرك، أنّه مَن عمِل للناس كان ثوابه على الناس، ومَن عمِل للّه كان ثوابه على اللّه )(٤).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن عبدٍ يُسِرُّ خيراً، إلاّ لم تذهب الأيّام

_____________________

(١) النساء: ١٤٢.

(٢) الكهف: ١١٠.

(٣) البقرة: ٢٦٤.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٣٧ عن الكافي.

١٣١

حتّى يُظهِر اللّه له خيراً، وما مِن عبدٍ يُسِرُّ شرَّاً إلاّ لم تذهب الأيّام حتّى يُظهِر له شرَّاً )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( سيأتي على الناس زمانٌ تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمَعاً في الدنيا، لا يُريدون به ما عند ربِّهم، يكون دينهم رياءاً، لا يُخالطهم خوف، يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاءَ الغريق فلا يستجيب لهم )(٢).

وعن موسى بن جعفر عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يؤمَر برجال إلى النار، فيقول اللّه جلّ جلاله لمالك: قل للنار لا تحرق لهم أقداماً، فقد كانوا يمشون إلى المساجد، ولا تحرق لهم وجهاً، فقد كانوا يسبغون الوضوء، ولا تحرق لهم أيدِيَاً، فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسُناً، فقد كانوا يُكثرون تلاوة القرآن. قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان حالكم ؟ قالوا: كنّا نعمل لغير اللّه عزّ وجل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممّن عملتم له )(٣).

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ١٤٧ عن الكافي.

(٢) الوافي الجزء الثالث ص ١٤٧ عن الكافي، ودعاء الغريق: أي كدعاء المشرف على الغرق، فإنّ الاخلاص والانقطاع فيه إلى اللّه عزّ وجل أكثر من سائر الأدعية.

(٣) البحار م ١٥ بحث الرياء ص ٥٣ عن عِلل الشرائع وثواب الاعمال.

١٣٢

أقسام الرياء

ينقسم الرياء أقساماً تُلخّصها النقاط التالية:

١ - الرياء بالعقيدة: بإظهار الايمان وإسرار الكُفر، وهذا هو النفاق وهو أشدّها نُكراً وخطَراً على المسلمين ؛ لخفاء كيده، وتستّره بظلام النفاق.

٢ - الرياء بالعبادة مع صحّة العقيدة:
وذلك بممارسة العبادات أمام ملأ الناس، مراءاةً لهم، ونبذها في الخَلوة والسرّ، كالتظاهر بالصلاة، والصيام، وإطالة الركوع والسجود والتأنّي بالقراءة والأذكار وارتياد المساجد، وشهود الجماعة، ونحوه من صور الرياء، في صميم العبادة أو مكمّلاتها، وهنا يغدو المُرائي أشدُّ إثماً مِن تارك العبادة، لاستخفافه باللّه عزّ وجل، وتلبيسه على الناس.

٣ - الرياء بالأفعال: كالتظاهر بالخشوع، وتطويل اللحية، ووسم الجبهة بأثر السجود، وارتداء الملابس الخشنة ونحوه من مظاهر الزهد والتقشّف الزائفة.

٤ - الرياء بالأقوال: كالتشدّق بالحكمة، والمراءاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالثواب والعقاب مداجاةً وخداعاً.

دواعي الرياء:

للرياء أسباب ودواع نُجملها فيما يلي:

١ - حُب الجاه: وهو مِن أهمّ أسباب المراءاة ودواعيه.

١٣٣

٢ - خوف النقد: وهو دافع على المراءاة بالعبادة، وأعمال الخير، خشية من قوارص الذم والنقد.

٣ - الطمع: وهو من محفّزات الرياء وأهدافه التي يستهدفها الطامعون، إشباعاً لأطماعهم.

٤ - التستّر: وهو باعث على تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة، إخفاءاً لجرائمهم، وتستّراً عن الأعيُن.

ولا ريب أنّ تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان، وأشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس، أعاذنا اللّه منها جميعاً.

حقائق:

ولا بدّ من استعراض بعض الحقائق والكشف عنها إتماماً للبحث:

١ - إختلفت أقوال المحقّقين، في أفضليّة اخفاء الطاعة أو اعلانها.

ومجمل القول في ذلك، إنّ الأعمال بالنيات، وأنّ لكلّ امرئ ما نوى، فما صفا مِن الرياء فسَواء إعلانه أو إخفاؤه، وما شابه الرياء فسيّان إظهاره أو إسراره.

وقد يُرجّح الإسرار أحياناً للذين لا يُطيقون مدافعة الرياء لشدّة بواعثه في الإعلان. كما يُرجّح إعلان الطاعة، إنْ خلُصت من شوائب الرياء، وقُصِد به غرضٌ صحيح، كالترغيب في الخير والحثّ على الاقتداء.

٢ - ومَن استهدف الإخلاص في طاعته وعبادته، ثُمّ اطلع الناس

١٣٤

عليها، وُسرّ باطلاعهم واغتبط، فلا يقدح ذلك في إخلاصه، إنْ كان سروره نابعاً عن استشعاره بلطف اللّه تعالى، وإظهار محاسنه والستر على مساوئه تكرماً منه عزّ وجل.

وقد سئل الامام الباقرعليه‌السلام عن الرجل يعمل الشيء مِن الخير فيراه إنسانٌ فيسرّه ذلك، فقال: ( لا بأس، ما مِن أحدٍ إلاّ وهو يحبُّ أنْ يظهر اللّه له في الناس الخير، اذا لم يكن صنع ذلك لذلك )(١).

٣ - وحيث كان الشيطان مجدّاً في إغواء الناس، وصدّهم عن مشاريع الخير والطاعة، بصنوف الكيد والإغواء، لزِم الحذر والتوقّي منه، فهو يُسوّل للناس ترك الطاعة ونبذ العبادة، فإنْ عجَز عن ذلك أغراهم بالرياء، وحبّبه إليهم، فإنْ أخفَق في هذا وذاك، ألقى في خُلدِهم أنّهم مراؤون وأعمالهم مشوبةٌ بالرياء، ليسوّل لهم نبذها وإهمالها.

فيجب والحالة هذه طرده، وعدم الاكتراث بخِدَعه ووَساوِسه، إذ المخلص لا تضرّه هذه الخواطر والأوهام.

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام : إنّ النبيّ قال: ( اذا أتى الشيطان أحدكم وهو في صلاته فقال: إنّك مرائي، فليُطل صلاته ما بدا له، ما لم يفته وقت فريضة، واذا كان على شيء من أمر الآخرة فليتمكث ما بدا له، واذا كان علي شيء من أمر الدنيا فليسترح...)(٢) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٨ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ٥٣ عن قرب الإسناد.

١٣٥

مساوئ الرياء:

الرياء من السجايا الذميمة، والخِلال المقيتة، الدالّة على ضِعة النفس، وسُقم الضمير، وغباء الوعي، إذ هو الوسيلة الخادعة المُدجَلة التي يتّخذها المتلوّنون والمنحرفون ذريعةً لأهدافهم ومآربهم، دونَما خجَلٍ واستحياءٍ مِن هوانِها ومناقضتها لصميم الدين والكرامة والإباء.

وحسبُ المرائي ذمّاً أنّه اقترف جُرمين عظيمين:

تحدّى اللّه عزّ وجل، واستخفّ بجلاله، بإيثار عباده عليه في الزلفى والتقرّب، ومخادعة الناس والتلبّس عليهم بالنفاق والرياء.

ومثَل المرائي في صفاقته وغبائه، كمَن وقَف إزاء ملِكٍ عظيم مظهِراً له الولاء والإخلاص، وهو رغم موقفه ذلك يخاتل الملِك بمغازلة جواريه أو استهواء غِلمانه.

أليس هذا حريّاً بعقاب الملك ونكاله الفادحين على تلصصه واستهتاره.

ولا ريب أنّ المرائي أشدّ جرماً وجنايةً من ذلك، لاستخفافه باللّه عزّ وجل، ومخادعة عبيده. والمرائي بعد هذا حليف الهم والعناء، يستهوي قلوب الناس، ويتملق رضاهم، ورضاهم غاية لا تنال، فيعود بعد طول المعاناة خائباً، شقيّاً، سليب الكرامة والدين.

ومن الثابت أنّ سوء السريرة سرعان ما ينعكس على المرء، ويكشف واقعه، ويبوء بالفضيحة والخُسران.

١٣٦

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

وقد أعرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك قائلاً: ( مَن أسرّ سريرةً ردّأه اللّه رِداءها، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرَّاً فشر )(١).

علاج الرياء:

وبعد أنْ عرفنا طرَفاً مِن مساوئ الرياء، يجدر بنا أنْ نعرض أهمّ النصائح الأخلاقيّة في علاجه وملافاته، وقد شرحت في بحث الإخلاص طرفاً من مساوئ الرياء ومحاسن الإخلاص فراجعه هناك.

علاج الرياء العمَلي:

وذلك برعاية النصائح المجملة التالية:

١ - محاكمة الشيطان، وإحباط مكائده ونزعاته المرائيّة، بأُسلوب منطقي يقنع النفس، ويرضي الوجدان.

٢ - زجر الشيطان وطرد هواجسه في المراءاة، طرداً حاسماً، والاعتماد على ما انطوى عليه المؤمن من حبّ الاخلاص، ومقت الرياء.

٣ - تجنب مجالات الرياء ومظاهره، وذلك باخفاء الطاعات والعبادات وسترها عن ملأ الناس، ريثما يثق الإنسان بنفسه، ويحرز فيها الاخلاص.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٧ من خبر عن الكافي.

١٣٧

ومِن طرائف الرياء والمرائين ماقيل:

إنّ أعرابيّاً دخل المسجد، فرأى رجلاً يُصلّي بخشوعٍ وخضوع، فأعجبه ذلك، فقال له: نعم ما تُصلّي.

قال: وأنا صائم، فإنّ صلاة الصائم، تَضعُف صلاةَ المفطر.

فقال له الأعرابي: تفضّل واحفظ ناقتي هذه، فإنّ لي حاجةً حتّى أقضيها. فخرج لحاجته، فركب المصلّي ناقته وخرَج، فلمّا قضى الأعرابي حاجته، رجع ولم يجد الرجل ولا الناقة، وطلبه فلم يقدر عليه، فخرج وهو يقول:

صلّى فأعجبني وصام فرامني

منح القَلُوص عن المصلّي الصائم

وصلّى أعرابيّ فخفّف صلاته، فقام إليه عليّعليه‌السلام بالدرّة وقال: ( أعِدْها )، فلمّا فرغ، قال: ( أهذه خير أم الأولى ؟) قال: بل الأُولى، قال: ( ولِمَ )، قال: لأنّ الأُولى للّه وهذه للّدرة.

١٣٨

العُجُب

وهو استعظام الإسنان نفسه، لاتّصافه بخِلّةٍ كريمة، ومزيّةٍ مشرّفة، كالعِلم والمال والجاه والعمَل الصالح.

ويتميّز العجُب عن التكبّر، بأنّه استعظام النفس مجرّداً عن التعالي على الغير، والتكبّر هما معاً.

والعُجُب من الصفات المَقيتة، والخلال المنفّرة، الدّالة على ضعة النفس، وضيق الأفق، وصفاقة الأخلاق، وقد نهت الشريعة عنه، وحذّرت منه.

قال تعالى:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( من دخله العُجب هلك )(٢)

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال إبليس ( لعنَه اللّه ) لجنوده: اذا استمكنت مِن ابن آدَم في ثلاث لم أُبال ما عمَل، فإنّه غير مقبولٍ منه، إذا استكثر عمَله، ونسيَ ذنبه، ودخلَه العُجُب )(٣).

_____________________

(١) النجم: ٣٢.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٣ موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

١٣٩

وقال الباقرعليه‌السلام : ( ثلاثٌ هن قاصمات الظهر: رجلٌ استكثر عمله، ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( أتى عالمٌ عابداً فقال له: كيف صلاتك ؟ فقال: مثلي يُسأل عن صلاته ؟ وأنا أعبُد اللّه تعالى مُنذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك ؟ قال: أبكي حتّى تجري دموعي. فقال له العالِم: فإنّ ضحكك وأنت خائف خير ( أفضل خ ل ) مِن بكائك وأنت مُدِل، إنّ المدل لا يصعّد مِن عمله شيء )(٢) .

وعن أحدهماعليهما‌السلام ، قال: ( دخل رجُلان المسجد أحدهما عابدٌ والآخر فاسق، فخرجا من المسجد، والفاسق صدّيق، والعابد فاسق، وذلك: أنّه يدخل العابد المسجد مدلاًّ بعبادته، يُدِلّ بها، فيكون فكرته في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه، ويستغفر اللّه تعالى لما ذَكَرَ من الذنوب )(٣).

وعن أبي عبد اللّه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا أنّ الذنب خيرٌ للمؤمن من العجُب، ما خلّى اللّه بين عبده المؤمن وبين ذنبٍ أبداً )(٤).

والجدير بالذكر: أنّ العُجُب الذميم هو استكثار العمَل الصالح،

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ موضوع العجُب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٣ بحث العجُب عن أمالي أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243