أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)15%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53366 / تحميل: 7302
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والياً على الكوفة سبع سنين وهو لا يدع ذم علي والوقوع فيه(1) . وقد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام (عليه السلام) وأن يحول بين الناس وبين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره.

يقول الدكتور محمود صبحي : لقد أصبح علي جثة هامدة لا يزاحمهم في سلطانهم ، ويخيفهم بشخصه ، ولا يعني ذلك ـ أي سبّ الإمام ـ إلا أنّ مبادئه في الحكم وآراءه في السياسة كانت تنغّص عليهم في موتهم كما كانت في حياته(2) .

لقد كان الإمام رائد العدالة الإنسانية والمثل الأعلى لهذا الدين ، يقول الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر النخوة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي تناصر الناس عليها كان مذكوراً في هذه الخلال كلها إلا في علي(3) .

ويقول الحسن البصري : والله ، لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهماً صائباً من مرامي الله عز وجل ، رباني هذه الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وصاحب شرفها وفضلها وذا القرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مسؤم لأمر الله ، ولا سروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه فأورده رياضاً مونقة ، وحدائق مغدقة ذلك علي بن أبي طالب(4) .

لقد عادت اللعنات التي كان يصبها معاوية وولاته على الإمام بإظهار فضائله ؛ فقد برز الإمام للناس أروع صفحة في تأريخ الإنسانية كلها ، وظهر للمجتمع أنّه المنادي الأول بحقوق الإنسان ، والمؤسس الأول للعدالة الاجتماعية

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 141 طبع أوربا.

(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية / 282.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 145.

(4) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 69.

١٦١

في الأرض. لقد انطوت السنون والأحقاب واندكت معالم تلك الدول التي ناوئت الإمام ، سواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس ، ولم يبقَ لها أثر ، وبقي الإمام (عليه السلام) وحده قد احتل قمّة المجد فها هو رائد الإنسانية الأول وقائدها الأعلى وإذا بحكمه القصير الأمد يصبح طغراءً في حكام هذا الشرق ، وإذا الوثائق الرسمية التي أثرت عنه تصبح مناراً لكل حكم صالح يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب ، وإذا بحكم معاوية أصبح رمزاً للخيانة والعمالة ورمزاً لاضطهاد الشعوب واحتقارها.

ستر فضائل أهل البيت :

وحاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وستر مآثرهم عن المسلمين ، وعدم إذاعة ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضلهم.

يقول المؤرخون : إنّه بعد عام الصلح حج بيت الله الحرام فاجتاز على جماعة فقاموا إليه تكريماً ولم يقم إليه ابن عباس ، فبادره معاوية قائلاً : يابن عباس ما منعك من القيام؟ كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين! يابن عباس ، إنّ ابن عمي عثمان قتل مظلوماً!

فردّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً : فعمر بن الخطاب قد قُتل مظلوماً ، فسلم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ.

أجابه معاوية بمنطقه الرخيص :

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً :

فمَنْ قتل عثمان؟

١٦٢

ـ قتله المسلمون.

وأمسك ابن عباس بزمامه فقال له : فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحق.

ولم يجد معاوية مجالاً للردّ عليه ، فسلك حديثاً آخر أهم عنده من دم عثمان فقال له : إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته فكف لسانك يابن عباس.

فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه وبليغ حجته يسدد سهاماً لمعاوية قائلاً : فتنهانا عن قراءة القرآن؟

ـ لا.

ـ فتنهانا عن تأويله؟

ـ نعم.

ـ فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

ـ نعم.

ـ فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

ـ العمل به.

ـ فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

ـ سل عن ذلك ممن يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

ـ إنما نزل القرآن على أهل بيتي ، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟!

ـ فاقرؤوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ، ومما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.

١٦٣

وسخر منه ابن عباس ، وتلا قوله تعالى :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

وصاح به معاوية : اكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ولا تسمعه أحداً علانية(1) .

ودلّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتّخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت وإخفاء مآثرهم.

وبلغ الحق بمعاوية على الإمام أنّه لما ظهر عمرو بن العاص بمصر على محمد بن أبي بكر وقتله ، استولى على كتبه ومذكراته وكان من بينها عهد الإمام له ، وهو من أروع الوثائق السياسية فرفعه ابن العاص إلى معاوية فلما رآه قال لخاصته : إنّا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده(2) .

التحرج من ذكر الإمام :

وأسرف الحكم الأموي إلى حد بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عهد بقتل كل مولود يسمى علياً ، فبلغ ذلك علي بن رباح فخاف ، وقال : لا أجعل في حل من سماني علياً فإن اسمي علي ـ بضم العين ـ(3) .

ويقول المؤرخون : إنّ العلماء والمحدثين تحرجوا من ذكر الإمام علي والرواية عنه خوفاً من بني أمية فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 343.

(2) شرح النهج 2 / 28.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 319.

١٦٤

روى أبو زينب(1) ، وروى معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله عز وجل منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم ، واختلافهم في دينهم ، وإنّه أخذ على هذه الأمّة بالسنين ، ومنعهم قطر السماء ببغضهم علي بن أبي طالب».

قال معمر : حدثني الزهري في مرضة مرضها ، ولم اسمعه يحدث عن عكرمة قبلها ولا بعدها فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي وقال : يا يماني اكتم هذا الحديث ، واطوه دوني فإن هؤلاء ـ يعني بني أميّة ـ لا يعذرون أحداً في تقريض علي وذكره.

قال معمر : فما بالك عبت علياً مع القوم وقد سمعت الذي سمعت؟!

قال الزهري : حسبك يا هذا إنّهم أشركونا مهامهم فاتبعناهم في أهوائهم(2) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً في مودتهم للإمام وتحرجوا أشدّ التحرّج في ذلك ، يقول الشعبي : ماذا لقينا من علي إن أحببناه ذهبت دنيانا وإن بغضناه ذهب ديننا.

ويقول الشاعر :

حبّ علي كله ضرب بر

جفّ من تذكاره القلب

هذه بعض المحن التي عاناها المسلمون في مودتهم لأهل البيت (عليهم السلام) التي هي جزء من دينهم.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 14.

(2) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 149.

١٦٥

مع الشيعة :

واضطهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً في جميع أنحاء البلاد ، وقوبلوا بمزيد من العنف والشدّة ، فقد انتقم منهم معاوية كأشدّ ما يكون الانتقام قسوة وعذاباً ، فقد قاد مركبة حكومته على جثث الضحايا منهم ، وقد حكى الإمام الباقر (عليه السلام) صوراً مريعة من بطش الأمويين بشيعة آل البيت (عليهم السلام) يقول : «وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»(1) .

وتحدّث بعض رجال الشيعة إلى محمد بن الحنفية عمّا عانوه من المحن والخطوب بقوله : فما زال بنا الشين في حبكم حتى ضُربت عليه الأعناق ، وأبطلت الشهادات ، وشردنا في البلاد ، وأوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً ، فأعبد الله حتى ألقاه ، لولا أن يخفى عليّ أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحتى هممت أن أخرج مع أقوام(2) شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون(3) .

لقد كان معاوية لا يتهيب من الإقدام على اقتراف أية جرية من أجل أن يضمن ملكه وسلطانه ، وقد كانت الشيعة تشكّل خطراً على حكومته فاستعمل معهم أعنف الوسائل وأشدها قسوة من أجل القضاء عليهم ، ومن بين الإجراءات القاسية التي استعملها ضدهم ما يلي :

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 15.

(2) الأقوام : هم الخوارج.

(3) طبقات ابن سعد 5 / 95.

١٦٦

القتل الجماعي

وأسرف معاوية إلى حد كبير في سفك دماء الشيعة ، فقد عهد إلى الجلادين من قادة جيشه بتتبع الشيعة وقتلهم حيثما كانوا ، وقد قتل بسر بن أبي أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(1) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(2) ، وأمّا زياد بن أبيه فقد ارتكب أفظع المجازر فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وأنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يوصف لمرارته وقسوته.

إبادة القوى الواعية :

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكرة والواعية من الشيعة ، وقد ساق زمراً منهم إلى ساحات الإعدام ، وأسكن الثكل والحداد في بيوتهم ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ حجر بن عدي :

لقد رفع حجر بن عدي علم النضال ، وكافح عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وسحق إرادة الحاكمين من بني أميّة الذين تلاعبوا في مقدرات الأمّة وحولوها إلى مزرعة جماعية لهم ولعملائهم وأتباعهم.

لقد استهان حجر من الموت وسخر من الحياة ، واستلذّ الشهادة في سبيل عقيدته ، فكان أحد المؤسسين لمذهب أهل البيت (عليه السلام).

__________________

(1) شرح النهج 2 / 6.

(2) الطبري 6 / 32.

١٦٧

وامتحن حجر كأشدّ ما تكون المحنة قسوة حينما رأى السلطة تعلن سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وترغم الناس على البراءة منه فأنكر ذلك ، وجاهر بالردّ على ولاة الكوفة ، واستحلّ زياد بن أبيه دمه فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من إخوانه إلى معاوية ، وأوقفوا في (مرج عذراء) فصدرت الأوامر من دمشق بإعدامهم ، ونفذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرت جثثهم على الأرض وهي ملفعة بدم الشهادة والكرامة وهي تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة أفضل لا ظلم فيها ، ولا طغيان.

مذكرة الإمام الحسين

وفزع الإمام الحسين حينما وافته الأنباء بمقتل حجر فرفع مذكرة شديدة اللهجة إلى معاوية ذكر فيها أحداثه وبدعه ، والتي كان منها قتله لحجر والبررة من أصحابه ، وقد جاء فيها : «ألست القاتل حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كانت أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم؟!»(1)

واحتوت هذه المذكّرة على ما يلي :

1 ـ الإنكار الشديد على معاوية لقتله حجراً وأصحابه من دون أن يقترفوا أو يحدثوا فساداً في الأرض.

2 ـ إنها أشادت بالصفات البطولية في هؤلاء الشهداء من إنكار الظلم ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 365.

١٦٨

ومقاومة الجور ، واستعظام البدع والمنكرات التي أحدثتها حكومة معاوية ، وقد هبّوا إلى ميادين الجهاد ، لإقامة الحقّ ، ومناهضة المنكر.

3 ـ إنّها أثبتت أنّ معاوية قد أعطى حِجْرَاً وأصحابه عهداً خاصاً في وثيقة وقّعها قبل إبرام الصلح أنْ لا يعرض لهم بأي إحنة كانت بينه وبينهم ، ولا يصيبهم بأي مكروه ، ولكنّه قد خاس بذلك فلمْ يفِ به ، كما لمْ يفِ للإمام الحسن بالشروط التي أعطاها له ، وإنّما جعلها تحت قدميه ، كما أعلن ذلك في خطابه الذي ألقاه في النُّخيلة.

لقد كان قتلُ حِجْر مِن الأحداث الجسام في الإسلام ، وقد توالت صيحات الإنكار على معاوية مِن جميع الأقاليم الإسلامية ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

2 ـ رشيد الهجري :

وفي فترات المحنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الشيعة في عهد ابن سُميّة تعرّض رشيد الهجري لأنواع المِحن والبلوى ، فقد بعث زياد شرطته إليه ، فلمّا مَثُلَ عنده صاح به (ما قال لك خليلك ـ يعني علياً ـ أنّا فاعلون بك؟).

فأجابه بصدق وإيمان : (تقطعون يدي ورجلي ، وتصلبوني) ، وقال الخبيث مستهزءاً وساخراً :

(أما والله لأكذبنَّ حديثه ، خلّوا سبييله). وخلّت الجلاوزة سراحه ، وندم الطاغية فأمر بإحضاره فصاح به :

(لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك : إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إنْ بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه).

وبادر الجلادون فقطعوا يديه ورجليه ، وهو غير حافل بما يعانيه مِن الآلام.

ويقول المؤرخون : إنّه أخذ يذكر مثالب بني أُميّة ، ويدعو إلى إيقاظ الوعي والثورة ، ممّا غاظ ذلك زياداً فأمر بقطع

١٦٩

لسانه(1) الذي كان يطالب بالحقّ والعدل ، وينافح عن حقوق الفقراء والمحرومين.

3 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي :

ومِن شهداء العقيدة : الصحابي العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي الذي دعا له النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنْ يمتّعه الله بشبابه ، واستجاب الله دعاء نبيه ، فقد أخذ عمرو بن حمق الثمّانين عاماً ولمْ ترَ في كريمته شعرة بيضاء(2) ، وتأثر عمرو بهدي أهل البيت ، وأخذ مِن علومهم ، فكان مِن أعلام شيعتهم.

وفي أعقاب الفتنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الكوفة في عهد الطاغية زياد بن سُميّة شعر عمرو بتتبع السلطة له ، ففرّ مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أنْ ينتهيا إليه كمنا في جبل ليستجما فيه ، وارتابت الشرطة فبادرت إلى إلقاء القبض على عمرو.

أمّا رفاعة ، ففرّ ولمْ تستطع أنْ تُلقي عليه القبض ، وجيئ بعمرو مخفوراً إلى حاكم الموصل عبد الرحمن الثقفي ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمره بطعنه تسع طعنات بمشاقص(3) ، لأنّه طعن عثمّان بن عفان ، وبادرت الجلاوزة إلى طعنه فمات في الطعنة الأولى ، واحتُزّ رأسه الشريف ، وأُرسل إلى طاغية دمشق ، فأمر أنْ يُطاف به في الشام.

ويقول المؤرخون : إنّه أوّل رأس طيف به في الإسلام ، ثمّ أمر به معاوية أنْ يُحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلمْ تشعر إلاّ ورأس زوجها قد وضع في حجرها ، فذعرت وكادت أنْ تموت ، وحُمِلَتْ مِن السجن إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محادثات دلّت على ضِعة معاوية ، واستهانته بالقيم العربية والإسلامية ، القاضية بمعاملة المرأة معاملةً كريمةً ، ولا تؤخذ بأي ذنب يقترفه زوجها أو غيره.

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522.

(2) الإصابة 2 / 526.

(3) المشاقص : ـ جمع مفردة مشقص ـ النصل العريض أو سهم فيه نصل عريض.

١٧٠

مذكّرة الإمام الحُسين :

والتاع الإمام الحًسين (عليه السّلام) أشدّ ما تكون اللوعة حينما علم بقتل عمرو ، فرفع مذكرةً إلى معاوية عدّد فيها أحداثه ، وما تعانيه الأُمّة في عهده من الاضطهاد والجور ، وجاء فيما يخص عمرو :

«أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق ، صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح ، الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، بعدما أمِنته ، وأعطيته مِن عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك مِن رأس الجبل ، ثمّ قتلته جراءة على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد»(1) .

لقد خاس معاوية بما أعطاه لهذا الصحابي الجليل ـ بعد الصلح ـ مِن العهد والمواثيق بأنْ لا يعرض له بسوء ولا مكروه.

4 ـ أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن مِن خيار الشيعة ـ في الكوفة ـ وأحد أعلامهم النابهين ، وهو مِن أشدّ الناقمين على معاوية ، فكان يذيع مساوءه وأحداثه.

ولمّا علم به ابن سُميّة أوعز إلى الشرطة بإلقاء القبض عليه ، ولمّا علم أوفى بذلك اختفى ، وفي ذات يوم استعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى ، فشك في أمره ، فسأل عنه فأُخبر باسمه ، فأمر بإحضاره ، فلمّا مَثُل عنده سأله عن سياسته فعابها وأنكرها ، فأمر زياد بقتله ، فهوى الجلادون عليه بسيوفهم وتركوه جثة هامدة(2) .

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 180 ، الطبري 6 / 130 ـ 132.

١٧١

5 ـ الحضرمي مع جماعته :

وكان عبد الله الحضرمي مِن أولياء الإمام أمير المؤمنين ، ومِن خلّص شيعته ، كما كان مِن شرطة الخميس ، وقد قال له الإمام يوم الجمل :

«أبشر يا عبد الله ، فإنّك وأباك مِن شرطة الخميس ، لقد أخبرني رسول الله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، ولمّا قُتِلَ الإمام جزع عليه الحضرمي ، وبنى له صومعة يتعبّد فيها ، وانضمّ إليه جماعة مِن خيار الشيعة ، فأمر ابن سُميّة بإحضارهم ، ولمّا مَثُلوا عنده أمر بقتلهم ، فقتلوا صبراً(1) .

لقد كانت فاجعة عبد الله كفاجعة حِجْر بن عدي ، فكلاهما قُتِلَ صبراً ، وكلاهما أُخِذَ بغير ذنب ، سوى الولاء لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنكار الإمام الحُسين :

وفزع الإمام الحُسين كأشدّ ما يكون الفزع ألماً ومحنةً على مقتل الحضرمي وجماعته الأخيار ، فأنكر على معاوية في مذكرته التي بعثها له ، وقد جاء فيها.

«أوَ لستَ قاتل الحضرمي ، الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتلْ كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثّل فيهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف».

ودلّت هذه المذكّرة ـ بوضوح ـ على أنّ معاوية قد عهد إلى زياد بقتل كلّ مَنْ كان على دين علي (عليه السّلام) ، الذي هو دين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، كما دلّت على أنّ زياداً قد مثّل بهؤلاء البررة بعد قتلهم ، تشفياً منهم لولائهم لعترة

__________________

(1) بحار الانوار 10 / 101.

١٧٢

رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

6 ـ جويرية العبدي :

ومِنْ عيون شيعة الإمام جويرية بن مسهر العبدي ، وفي فترات المحنة الكبرى التي امتحنت بها الشيعة أيّام ابن سُميّة ، بعث خلفه فأمر بقطع يده ورجله ، وصلبه على جذع قصير(1) .

7 ـ صيفي بن فسيل :

ومِنْ أبطال العقيدة الإسلامية صيفي بن فسيل ، الذي ضرب أروع الأمثلة للإيمان ، فقد سُعيَ به إلى الطاغية زياد ، فلمّا جيء به إليه صاح به :

ـ يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟

ـ ما أعرف أبا تراب(2)

ـ ما أعرفك به؟

ـ أما تعرف علي بن أبي طالب؟

ـ بلى

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ذاك أبو الحسن والحسين.

وانبرى مدير شرطة زياد منكراً عليه :

ـ يقول لك الأمير : هو أبو تراب ، وتقول : أنت ل :! ، فصاح به البطل العظيم مستهزءاً منه ، ومِن أميره.

ـ وإنْ كذب الأمير أتريد أنْ أكذب؟ وأشهد على باطل ، كما شهد

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) كان الأمويون يرمزون بهذه الكتبية إلى جعل الإمام كقاطع طريق ، جاء ذلك في التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 75 ، وجاء في الأغاني 13 / 168 أنّ زياداً كان يحتقر الشيعة ويسميهم الترابية.

١٧٣

وتحطم كبرياء الطاغية ، فضاقت به الأرض ، وقال له :

ـ وهذا أيضاً مع ذنبك ، وصاح بشرطته عليّ بالعص ، فأتوه به ، فقال له :

ـ ما قولك؟ ، وانبرى البطل بكلّ بسالة وإقدام غير حافل به قائلاً :

ـ أحسن قول أنا قائله في عبد مِنْ عباد الله المؤمنين ...

وأوعز السفّاك إلى جلاديه بضرب عاتقه حتّى يلتصق بالأرض ، فسعوا إليه بهراواتهم فضربوه ضرباً مبرحاً حتّى وصل عاتقه إلى الأرض ، ثمّ أمرهم بالكفّ عنه ، وقال له :

ـ إيه ما قولك في علي؟

وحسب الطاغية أنّ وسائل تعذيبه سوف تقلبه عن عقيدته ، فقال له :

والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ، ما قلت إلاّ ما سمعت منّي

وفقد السفّاك إهابه ، فصاح به ، لتلعنه أو لأضربن عنقك ...

وهتف صيفي يقول :

ـ إذاً تضربها والله قبل ذلك ، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تضربها رضيت بالله وشقيت أنت ...

وأمر به أنْ يوقرَ في الحديد ، ويلقى في ظلمات السجون(1) ، ثمّ بعثه مع حِجْر بن عدي فاستشهد معه(2) .

8 ـ عبد الرحمن :

وكان عبد الرحمن العنزي مِن خيار الشيعة ، وقد وقع في قبضة جلاوزة

__________________

(1) الطبري 4 / 198.

(2) حياة الإمام الحسن 2 / 362.

١٧٤

زياد ، فطلب منهم مواجهة معاوية ، لعلّه أنْ يعفو عنه ، فاستجابوا له وأرسلوه مخفوراً إلى دمشق ، فلمّا مَثُلَ عند الطاغية قال له :

(إيهٍ أخا ربيعة ، ما تقول في علي؟)

(دعني ولا تسألني فهو خير لك).

(والله لا أدعك).

فانبرى البطل الفذ يُدلي بفضائل الإمام ، ويشيد بمقامه قائلاً : (أشهد أنّه كان مِن الذاكرين الله كثيراً ، والآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس).

والتاع معاوية فعرّج نحو عثمّان ، لعلّه أنْ ينال منه فيستحلّ إراقة دمه ، فقال له : (ما قولك في عثمّان؟)

فأجابه عن انطباعاته عن عثمّان ، فغاظ ذلك معاوية وصاح به :

(قتلت نفسك) ، بل إيّاك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي.

وظنّ عبد الرحمن أنّ أُسرته ستقوم بحمايته وإنقاذه ، فلمْ ينبرِ إليه أحدٌ ، ولمّا أمِنَ منهم معاوية بعثه إلى الطاغية زياد ، وأمره بقتله ، فبعثه زياد إلى (قس الناطف)(1) فدفنه وهو حي(2) .

لقد رفع هذا البطل العظيم راية الحقّ ، وحمل معول الهدم على قلاع الظلم والجور ، واستشهد منافحاً عن أقدس قضية في الإسلام.

هؤلاء بعض الشهداء مِن أعلام الشيعة ، الذين حملوا مشعل الحرية ، وأضاءوا الطريق لغيرهم مِن الثوار الذين أسقطوا هيبة الحكم الأموي ، وعملوا على إنقاضه.

__________________

(1) قس الناطف : موضع قريب مِن الكوفة.

(2) الطبري 6 / 155.

١٧٥

المروّعون مِن أعلام الشيعة :

وروّع معاوية طائفة كبيرة مِن الشخصيات البارزة مِن رؤساء الشيعة ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ عبد الله بن هاشم المرقال.

2 ـ عَدِي بن حاتم الطائي.

3 ـ صعصعة بن صوحان.

4 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وقد أرهق معاوية هؤلاء الأعلام إرهاقاً شديداً ، فطاردتهم شرطته ، وأفزعتهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، وقد ذكرنا ماعانوه مِن الخطوب في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

ترويع النّساء :

ولمْ يقتصر معاوية في تنكيله على السّادة مِنْ رجال الشيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى السّيدات مِنْ نسائهم ، فأشاع فيهم الذعر والإرهاب ، فكتب إلى بعض عمّاله بحمل بعضهنّ إليه ، فحُمِلَتْ له هذه السّيدات :

1 ـ الزرقاء بنت عَدِي.

2 ـ أُمّ الخير البارقية.

3 ـ سودة بنت عمارة.

4 ـ أُمّ البرّاء بنت صفوان.

١٧٦

5 ـ بكارة الهلالية.

6 ـ أروى بنت الحارث.

7 ـ عكرش بنت الأطرش.

8 ـ الدارمية الحجونية.

وقد قابلهن معاوية بمزيد مِن التوهين والاستخفاف ، وأظهر لهنّ الجبروت والقدرة على الانتقام ، غير حافلٍ بوهن المرأة وضعفها ، وقد ذكرنا ما جرى عليهن في مجلسه مِن التحقير في كتابنا (حياة الإمام الحسن)

هدم دور الشيعة :

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة ، فقاموا بنقضها(1) .

وتركوا شيعة آل البيت (عليه السّلام) بلا مأوى يأوون إليه ، ولمْ يكن هناك أي مُبرر لهذه الإجراءات القاسية ، سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

حرمان الشيعة مِن العطاء :

ومِن المآسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيّام معاوية أنّه كتب إلى جميع عمّاله نسخةً واحدةً جاء فيها : (انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه مِن الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه)(2) ، وبادر عمّاله في الفحص في سجلاتهم ، فمَنْ وجدوه محبّاً لآل البيت (عليه السّلام) محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 44.

(2) شرح النهج 11 / 44.

١٧٧

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعياً ، فعهد إلى جميع عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره(1) مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إبعاد الشيعة إلى الخراسان :

وأراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة مِن الكوفة ، وكسر شوكتهم فأجلى خمسين ألفاً منهم إلى خراسان ـ المقاطعة الشرقية في فارس(2) ـ ، وقد دقّ زياد بذلك أوّل مسمار في نعش الحكم الأموي ، فقد أخذت تلك الجماهير التي أُبعدت إلى فارس تعمل على نشر التشيع في تلك البلاد ، حتى تحوّلت إلى مركز للمعارضة ضد الحكم الأموي ، وهي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراساني.

هذا بعض ما عانته الشيعة في عهد معاوية مِنْ صنوف التعذيب والإرهاب ، وكان ما جرى عليهم مِن المآسي الأليمة مِن أهم الأسباب في ثورة الإمام الحسين ، فقد رفع علم الثورة لينقذهم مِن المحنة الكبرى التي امتحنوا بها ، ويُعيد لهم الأمن والاستقرار.

البيعة ليزيد :

وختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام ، وأفظع جريمة في التاريخ ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 147.

١٧٨

فقد أقدم غير متحرّج على فرض خليعه يزيد خليفة على المسلمين يعيث في دينهم ودنياهم ، ويخلد لهم الويلات والخطوب ، وقد استخدم معاوية شتى الوسائل المنحطّة في جعل المُلْك وراثة في أبنائه. ويرى الجاحظ أنّه تشبّه بملوك الفرس البزنطيين فحوّل الخلافة إلى مُلْكٍ كسروي وعصبٍ قيصري. وقبل أنْ نعرض إلى تلك البيعة المشومة ، وما رافقها مِن الأحداث ، نذكر عرضاً موجزاً لسيرة يزيد ، وما يتّصف به مِن القابليات الشخصية التي عجّت بذمها كتب التاريخ مِنْ يومه حتّى يوم الناس هذا ، وفيما يلي ذلك :

ولادة يزيد :

ولد يزيد سنة (25) أو (26 هـ)(1) ، وقد دهمت الأرض شعلة مِنْ نار جهنم وزفيرها ، تحوط به دائرةُ السَوءِ وغضبٌ مِن الله ، وهو أخبث إنسان وجِدَ في الأرض ، فقد خُلِقَ للجريمة والإساءة إلى الناس وأصبح علماً للانحطاط الخُلُقي والظلم الاجتماعي ، وعنواناً بغيضاً للاعتداء على الأُمّة وقهرَ إرادتها في جميع العصور.

يقول الشيخ محمّد جواد مغنية : أمّا كلمة يزيد فقد كانت مِنْ قبل اسماً لابن معاوية ، أمّا هي الآن عند الشيعة فإنّها رمز للفساد والاستبداد والتهتّك والخلاعة ، وعنوان للزندقة والإلحاد ، فحيث يكون الشرّ والفساد فثمَّ اسم يزيد ، وحيثما يكون الخير والحقّ والعدل فثمَّ اسم الحُسين(2) .

وقد أثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه نظر إلى معاوية يتبختر في بردة حبرة وينظر إلى عطفَيه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أي يوم لأُمّتي منك ، وأي يوم سُوء

__________________

(1) تاريخ القضاعي من مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم العامّة.

(2) الشيعة في الميزان / 455.

١٧٩

لذريتي منّك ، مِن جرو يخرج مِن صُلبك ، يتّخذ آيات الله هُزُوا ويستحلّ مِن حرمتي ما حرم الله عز وجل»(1) .

نشأته :

نشأ يزيد عند أخواله في البادية مِن بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مُرسَل العِنان مع شبابهم الماجنين فتأثر بسلوكهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

يقول العائلي : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لمْ تكن إسلامية خالصة ، أو بعبارة أخرى : كانت مسيحية خالصة ، فلمْ يبقَ ما يستغرب معه أنْ يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلامية ، لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أي حساب ولا يقيم لها وزناً ، بل الذي نستغرب أنْ يكون على غير ذلك(2) .

والذي نراه أنّ نشأته كانت نشأة جاهلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ولا تحمل أي طابعٍ مِن الدين مهما كان ؛ فإنّ استهتاره في الفحشاء وإمعانه في المنكر والإثم ممّا يوحي إلى الاعتقاد بذلك.

صفاته :

أمّا صفاته الجسمية : فقد كان شديد الأدمة بوجهه آثار الجدري(3)

__________________

(1) المناقب والمثالب ـ للقاضي نعمان المصري / 71.

(2) سمو المعنى في سمو الذات / 59.

(3) تاريخ القضاعي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

(١٧)

واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي

واستكثار الشرّ وإن قلّ من قولي وفعلي

  استقلال الخير: عدّة قليلاً، واعتبار ما صدر من الإنسان من الخيرات شيئاً يسيراً، وإن كان في الواقع كثيراً، سواء الخير من أقواله أم أفعاله.

  واستكثار الشرّ: عدّة كثيراً، وإن كان في الواقع قليلاً نادراً، سواء في قول الشرّ أم عمله.

وهذه من الخصال المحمودة التي هي حيلةٌ وزينة.

ليس فقط لا يحدّث الإنسان الناس بخيراته وأعماله الخيّرة، بل يعدّها عنه نفسه نزراً يسيراً.

وفي مقابله إن صدر منه شيرٌ قليل، ليس فحسب لا يتهاون به، بل يعدّه عند نفسه كثيراً.

وهذا الاستقلال والاستكثار مفيدان غاية الفائدة في تهذيب النفس، وتزكية الروح، وذلك:

  أمّا استقلال الخير من نفسه، ففائدته عدم استيلاء العُجب عليه.

٢٢١

والعجب هو: استعظام العمل الصالح واستكثاره، والإدلال به، وأن يرى الإنسان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير.

وهو يوجب سقوط العمل عن القبول، وهو مذموم، كما تلاحظ ذمّه في الأحاديث الشريفة، ومنها: ـ

١ ـ حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ بينما موسى عليه السلام جالساً، إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمّا دنى من موسى عليه السلام خلع البرنس، وقام إلى موسى فسلّم عليه.

فقال له موسى: مَن أنت؟

فقال: أنا إبليس.

فقال له: أنت، فلا قرّب الله دارك.

قال: إنّي جئت لاُسلّم عليك كلمكانك من الله.

فقال له موسى عليه السلام: فما هذا البُرنس؟

قال: به أختطفُ قلوب بني آدم.

فقال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذتَ عليه؟

قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه (١).

٢ ـ حديث الإمام الصادق عليه السلام قال:

قال داود النبيّ عليه السلام: لأعبدنَّ الله عبادة، ولأقرأنَّ قراءةً لم أفعل مثلها قطّ، فدخل في محرابه، ففعل.

فلمّا فرغ من صلاته، إذا هو بضفدع في المحراب، فقال لداود: ـ أعجبَكَ اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك؟

__________________

(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٣٧ / ح ٨.

٢٢٢

فقال: نعم.

فقال: لا يعجبنّك، فإنّي اُسبّح لله في كلّ ليلةٍ ألف تسبيحة، يتشعّب لي مع كلّ تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة، وأنّي لأكون في قعر الماء فيصوّت الطير في الهواء، فأحسبه جائعاً، فأطفوا له على الماء ليأكلني وما لي من ذنب (١) .

٣ ـ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

تصعد الحفَظَة بعملِ العبد يزهر كالكوكب الدرّيّ في السماء، له دويٌّ بالتسبيح، والصوم، والحجّ، فيمرّ به إلى ملك السماء الرابعة فيقول له: قِف، فاضرب بهذا العمل وجة صاحِبه وبطنَه، أنا مَلَك العُجب، إنّه كان يعجبُ بنفسه، وأنّه عمل وأدخل نفسه العُجب، أمرني ربّي أن لا أدع عملَه يتجاوزني إلى غيري، فاضرب به وجه صاحبه (٢) .

فاستقلال الإنسان الخير من نفسه يفيد الإنسان التحذّر عن هذا العجب المفسد لذلك العمل الخيّر.

  وأمّا استكثار الشرّ من نفسه، ففائدته عدم التهاون بالمعصية.

والتهاون بالمعصية هو جعلها هيّنةً، وعدم الاهتمام بها، وهو يوجب الجرأة على عصيان الله العظيم، عصيان جبّار السماء والأرض، وهو مذموم ممقوت كما تلاحظه في الأحاديث الشريفة منها: ـ

١ ـ حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرضٍ قرعاء ـ أي لا نبات ولا شجر فيها ـ فقال لأصحابه: ائتوا بحطب.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧١ / ص ٢٣٠ / ح ٧.

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١ / ص ١٤١ / ح ١٧، ولاحظ قضيّة ابن الماوردي في كون العجب مقروناً بالجهل، في سفينة البحار / ج ٦ / ص ١٥٦.

٢٢٣

فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرضٍ قرعاء، ما بها من حطب.

قال: فليأت كلّ إنسن بما قدر عليه.

فجاؤوا به، حتّى رَمَوا بين يديه بعضه على بعض.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب... (١).

٢ ـ حديث أمير المؤمنين عليه السلام: ـ

(أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه) (٢) .

٣ ـ حديث وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه: ـ

يا أبا ذرّ.. إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة، يخاف أن يقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذباباٌ مرَّ على أنفه.

يا أبا ذرّ، إنّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثّلة، والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شرّاً أنساه ذنوبه.

يا أبا ذرّ، إنّ نفس المؤمن ارتكاضاً ـ أي اضطراباً ـ من ال خطيئة من العصفور حين يقذف في شَرَكه (٣) .

فإذا استكثر الإنسان الشرّ من نفسه، لم يتهاون به، بل اشتدّ اجتنابه عنه.

فاللّازم علنيا في مكارم أخلاقنا أن نستقلّ الخير من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن كثرت.

وأن نستكثر الشرّ من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن قلّت.

__________________

(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢١٨ / ح ٣.

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم / ج ١ / ص ١٩٢ / ح ٣١٨.

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٧٩.

٢٢٤

وفي حديث الإمام الكاظم عليه السلام: ـ

(لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلّوا قليل الذنوب، فإنّ قليل الذنوب يجتمع حتّى يكون كثيراً) (١) .

فالمفروض علينا أن نهذّب أنفسنا ونروّضها على هاتين الخصلتين، فنفكّر في خيرات وعبادات ومواعظ أولياء الله تعالى، فتصغر في أعيننا خيرنا وعبادتنا وأقوالنا.

ونفكّر في نزاهة أولياء الله من الشرور والذنوب في قولٍ أو فعلٍ منهم، فتكثر في أعيينا شرورنا ومعاصينا.

وأهل البيت عليهم السلام لم يكن لهم شرٌّ في الحياة في آنٍ من الآنات، وكانت حياتهم مليئة بالخيرات والطيّبات من أقوالهم وأفعالهم، وبالرغم من ذلك كانوا يستقلّون خير أنفهسم، كما مرّ عليك في حديث الأعرابي الذي وفدَ على الإمام الحسين عليه السلام حين أغناه بأربعة آلاف دينار، ومع ذلك كان يعتذر إليه بقلّة النفقة منه (٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٣ / ص ٣٤٦.

(٢) بحار الأنوار / ج ٤٤ / ص ١٩٠.

٢٢٥

٢٢٦

(١٨)

وأكمِلْ ذلكَ لي بدوام الطاعة

الطاعة هي: موافقة الأمر، وامتثاله والانقياد له.

كامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه، فإنّه طاعةٌ لله تعالى.

ودوام الطاعة: استمرارها، مضافاً إلى إيجادها وتحقّقها.

والسعادة العظمى في الدُّنيا والآخرة هي إطاعة الله تعالى، وإطاعة من أمرنا الله تعالى بإطاعتهم.

وهم الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام عليهم السلام فو قوله عزّ اسمه: ـ

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

وقد تظافرت الأحاديث من الفريقين في تفسير اُولي الأمر بأهل البيت الطيّبين، الأئمّة المعصومين عليهم السلام (٢) .

وهذه الإطاعة فوز الدُّنيا والآخرة، وسعادة الدارين الاُولى والاُخرى.

__________________

(١) سورة النساء: الآية ٥٩.

(٢) لاحظ تفسير البرهان / ج / ص /. وإحقاق الحقّ / ج ٣ / ص ٤٢٤.

٢٢٧

قال تعالى: ( يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) (١) .

وقال عزّ اسمه: ـ ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا ) (٢) .

وذكرت الأحاديث الشريفة فضلها وفضيلتها في جملة منها مثل: ـ

١ ـ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(... إنّ طاعة الله نجاحُ كلّ خيرٍ يُبتغى، ونجاةٌ من كلّ شرٍّ يُتّقى، وإنّ الله العظيم يعصم من أطاعه، ولا يعتصم منه من عصاه) (٣) .

٢ ـ حديث الإمام الرضا عليه السلام في قوله تعالى: ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (٤) قال عليه السلام: ـ (لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى الله عزّوجلّ نفاه الله عن أبيه.

كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا.

وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت) (٥) .

فإطاعة الله تعالى هو الإكسير الأعظم، والفوز الأتمّ، بخير الدارين، وسعادة النشأتين والاستمرار عليها.

وإطاعة الإنسان لربّه، وللرسول صلى الله عليه وآله، ولأهل البيت عليهم السلام، عجيبة في النتيجة، من حيث إنّها توجب أن يكون الإنسان من أولياء الله المقرّبين، ومن مظاهر قدرة ربّ العالمين، حتّى أنّها توجب نيل الكرامات وإطاعة المخلوقات للإنسان كما تلاحظه في مثل: ـ

١ ـ الصاحبي الجليل سلمان المحمّدي رضوان الله تعالى عليه، وقضاياه التي

__________________

(١) سورة الأحزاب: الآية ٧١.

(٢) سورة النساء: الآية ٦٩.

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٦٩.

(٤) سورة هود: الآية ٤٦.

(٥) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٢٣٠.

٢٢٨

تلاحظها في مثل حديث القدر المغلي (١) ، وحديث طينته (٢) .

٢ ـ جابر الجُعفي رضوان الله تعالى عليه، وقضاياه التي تجدها في مثل طيّ الأرض له، وسفره إلى أرض السواد (٣) .

وهذه الفقرة من الدّعاء الشريف يُطلب فيها من الله تعالى تكميل تلك المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة: بسط العدل، وكظم الغيظ.. إلخ، بدوام طاعة الله تعالى، وعدم عصيانه.

فإنّ ترك الطاعة وارتكاب المعصية، نقضٌ لتلك المكارم الأخلاقيّة، بل موجبٌ لارتكاب الاُمور المذمومة، والأفعال المحرّمة.

فيُطلب دوام الطاعة في الأوامر والنواهي الإلهيّة، وفي الصفات المرغوبة الأخلاقيّة.

وهذا يحتاج إلى الطلب من الله تعالى؛ لأنّ البقاء على العمل أصعب من نفس إتيان العمل، ومستلزمٌ للصبر وتحمّل المشقّة.

  والمثل الأعلى في دوام الطاعة، وعدم الخروج عنها طرفة عين هم أهل البيت عليهم السلام الذين لم يعصوا ولا يعصون الله تعالى فيما أمرهم، ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

لم يخالفوا الله تعالى في صفيرةٍ ولا كبيرة، في شدّةٍ ولا رخاء، حتّى أنّهم لم يفعلوا ما كان الأولى تركه، ولم يتركوا ما كان الأولى فعله.

فاتّصفوا بالعصمة الكبرى والطهارة العظمى، كما تدلّ عليه أدلّة الكتاب والسنّة مثل: آية التطهير، وأحاديث العصمة المرويّة من طرق الفريقين (٤).

__________________

(١) رجال الكشّي / ص ١٩.

(٢) الاختصاص / ص ٢٢١.

(٣) رجال الكشّي / ص ١٧٢.

(٤) لاحظ تحقيقه ومصادره في كتاب العقائد الحقّة / ص ٣٤٩ / مبحث العصمة.

٢٢٩

فيلزم علينا الاقتداء بأهل البيت عليهم السلام، وتكميلاً للصفات الحسنة التي هي حلية الصالحين وزينة المتّقين، وترويض النفس على الصبر عليها، وعدم إبداء السخط منها، لكي يحصل لنا الكمال بتلك الصفات، والأجر بالصبر عليها، وعدم الندامة من تركها.

فإنّ تركها يوجب الندم، وإظهار السخط منها يوجب الخجل، كما في قضيّة ذلك العالم المحقّق الذي أبدى السخط، ولم يصبر عند تأخير حاجته، فحصلت له الندامة.

فقد حكى بعض السادة الأجلّاء الثقات عن أحد العلماء المحقّقين الذي كان يؤلّف كتاباً في الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام الذي هو من أهمّ الوظائف الشرعيّة على علماء الدِّين، وأصحاب القلم من المحقّقين.

فاحتاج هذا العالم في مصادر كتابه إلى كتاب كان نادر الوجود، وكلّما بحث عنه في النجف الأشرف لم يعثر عليه، وكان يعلم أنّه موجود في النجف، لكن لم يعرف أنّه عندَ مَن.

فتوسّل بالإمام أمير الؤمنين عليه السلام أن يهيّئ له ذلك الكتاب، حتّى يستعيره ويستفيد منه وينقل عنه.

ودام التوسّل بالإمام عليه السلام ستّة أشهر متواصلة، لكن لم تحصل له النتيجة.

وبعد هذه المدّة الكثيرة، وبينما هو أمام الضريح المقدّس، وملتصقٌ به، ويتوسّل بالإمام ويطلب منه الكتاب ويقول:

(أنت مولاي، وتعلم بإذن الله تعالى أين يوجد الكتاب، وأنا محتاج إليه، فارشدني إلى موضعه).

بينما هو يقول هذا، إذ سمع من الطرف الآخر من الضريح لمقدّس، شخصاّ

٢٣٠

آخر يطلب من الإمام عليه السلام حاجته، ويبدو من لسانه أنّه شخصٌ قرويّ، ويقول بلهجةٍ حادّة للإمام عليه السلام: ـ

(لو لم تعطني حاجتي لا أزورك بعد هذا أبداً).

ومرّت سبعة أيّام على هذه القضيّة، وبينا أنا أيضاً مقابل للضريح الشريف أطلب حاجتي، إذ سمعت ذلك القروي يقول للأمير عليه السلام بلهجته الخاصّة: ـ

(أروح لك فدوه يا علي، أعطيتني حاجتي، كفو، كفو، كفو).

قال ذلك العالم: لمّا رأيت أنا ذلك هاجت نفسي، وخرجتُ عن الطبيعة، ونفذ صبري، وصرتُ أقول للإمام عليه السلام بخشونة شديدة.

(شنو حاجة هذا المعيدي غير الدُّنيا، تعطيه سريعاً، ولا تعطيني حاجتي وهي للدفاع عنكم وكتابة فضائلكم).

وخرجت من الحرم الشريف شبه الزعلان، وبحالة الغضب ـ وهذا هو محلّ الصبر على الطاعة وعلى تلك المكارم الأخلاقيّة، وامتحان من يدوم له لين العريكة ومن لا يدوم ـ.

ولمّا وصلت إلى داري ندمتُ كثيراً على أنّه لماذا تجاسرت بخدمة الإمام عليه السلام وهو خلاف الأدب.

وخصوصاً وبيما أنا كذلك، إذ طرق باب الدار جارٌ لنا، فذهب ولدي وفتح الباب، ودخل عَليَّ جارنا، فرحّبت به، وجلس عندي، ودار الكلام عندنا فقال الجار: نحن في حالة انتقال إلى دارٍ جديد، وقد نظّفنا دارنا الفعلي لنحوّله إلى المشتري، وفي أثناء تنظيف رفوف الدار عثرتُ في الرفّ الأعلى على كتابٍ أنا لا أستفيد منه لأنّي لا أعرف القراءة والكتابة..

فقلتُ لابني: ـ إذهب بهذا الكتاب، واجعله في المسجد.

فقال ابني: ـ لا يا أبه، لا تجعله في المسجد، بل أعطه لجارنا العالم ـ حتّى

٢٣١

يستفيد منه، وهو هذا الكتاب، جئت به إليك هديّة لك.

قال ذلك العالم: فأخذتُ منه الكتاب، فإذا هو نفس الكتاب الذي طلبته من أمير المؤمنين عليه السلام، طلبتُ منه أن يرشدني إليه لأستعيره، لكن ذلك الكريم صلوات الله عليه أهداه لي، وملّكه بدل الاستعارة.

فذهبت واعتذرت من أمير المؤمنين عليه السلام على سوء أدبي، وعدم صبري، وتشكّرت منه على لطفه وإحسانه.

وعليه فالمطلوب تكميل مكارم الأخلاق بدوام الطاعة واستمرارها، وعدم النقض بالمعاصي والمحرّمات، أما بما يخالف الأخلاقيّات.

فيُستدام على الطاعات بصبر، ويستمرّ على المكارم والأخلاقيّات بتحمّل، فيحصل بذلك الكمال الكامل، والفضل الشامل.

٢٣٢

(١٩)

ولزوم الجماعة

اللّزوم هو: الملازمة، وعدم المفارقة.

والجماعة هي: جماعة الناس..

والمراد بها جماعة المؤمنين المتّفقين على المذهب الحقّ، لا كلّ جماعةٍ وإن كانت باطلة.

و «أل» فيها عهديّة، والمعهود في الدّعاء جماعة أهل الحقّ..

نظير «أل» العهديّة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (١) حيث إنّ المعهود فيها نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله.

وقوله عليه السالم: (ولزوم الجماعة) معطوف على قوله: (بدوام الطاعة) أي واكمل لي ذلك بلزوم الجماعة.

فتكمل المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة بدوام طاعة الله تعالى والاستمرار عليها، وملازمة جماعة أهل الحقّ وعدم مفارقتهم.

بل عدم مفارقتهم ولو لحظةً واحدة حتّى يدصق التلازم وعدم الافتراق، كما

__________________

(١) سورة الأحزاب: الآية ٦.

٢٣٣

تلاحظه في الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار، فإنّهما لا يفترقان أبداً.

حيث إنّ المفارقة عن الحقّ لا يعني إلّا الدخول في الباطل، فإنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال.

ويدلّ على كون المراد بالجماعة جماعة أهل الحقّ، الحديث الصادقي الشريف:

(سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله: ما جماعة اُمّتك؟

فقال: ـ جماعةُ اُمّتي أهل الحقّ، وإن قلّوا).

وفي حديثٍ آخر: (فقال: من كان على الحقّ، وإن كانوا عشرة) (١) .

فمفاد الدعاء الشريف طلب ملازمة جماعة أهل الحقّ التي هي الفضائل المكمّلة لمكارم الأخلاق، ومعالي الصفات.

فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين، وإلّا فملازمة أهل الباطل رذيلة ومعيبة، وليست حلية وزيزنة.

والجدير بالبيان هو معرفة أنّه:

مَن هم جماعة أهل الحقّ الذين يلزم متابعتهم وملازمتهم؟

الجواب: هم الذين بيّنهم الرسول الأعظم، ونصّ عليهم صاحب هذا الدِّين، النبيّ الأمين صلى الله عليه وآله، فقال في الأحاديث المتظافرة المتّفق عليها بين الفريقين: ـ

(عليٌّ مع الحقّ والحقّ معه، يدور حيثما دار) (٢) .

(أهل بيتي مع الحقّ، والحقّ معهم، لا يفارقهم ولا يفارقوه) (٣) .

فمحور الحقّ هم عليٌّ وأهل البيت عليهم السلام، فإذا أردنا أن نعرف أنّه هل هذا الشخص على الحقّ أو على الباطل؟

__________________

(١) رياض السالكين / ص ٢٢٤.

(٢) غاية المرام / ص ٥٣٩.

(٣) إحقاق الحقّ / ج ٩ / ص ٤٧٩.

٢٣٤

يكون المحك هو عليّ عليه السلام.. فإن كان الشخص مع عليّ عليه السلام فهو على حقّ، وإلّا فهو على باطل.

فأمير المؤمنين عليه السلام (هو فارق بين الحقّ والباطل) كما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله (١) .

ولذلك عبّر عنه الرسول في واقعة الخندق بالإيمان كلّه، ومنحه أعظم وسام بقوله صلوات الله عليه وآله: ـ (برز الإيمان كلّه).

فكلّه حقّ لأنّ كلّه إيمان، فمن كان معه كان مع الحقّ ومن أهل الإيمان، ومن لم يكن معه فهو على باطل وعلى غير إيمان.

فيتّضح جيّداً أنّ المراد بالجماعة في الدعاء الشريف هم جماعة عليّ وأهل البيت عليهم السلام فهم جماعة أهل الحقّ الذي تكون ملازمتهم فضيلة وحلية.

وقد عقد العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه باباً في البحار في لزوم الجماعة بأحاديث شريفة منها: ـ

حديث علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟

قال: جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا (٢) .

وفائدة ملازمة أهل البيت عليهم السلام هي سعادة الدُّنيا والآخرة.

ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(إلزموا عليّ بن أبي طالب، فاز من لزمه) (٣) .

__________________

(١) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦.

(٢) بحار الأنوار / ج ٢٩ / ص ٦٨ / ب ٣ / ح ١.

(٣) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦، و ص ١٤٩.

٢٣٥

وفي حديث الإمام الرضا عليه السلام: ـ

(مَن لزمنا لزمناه، ومن فارقَنا فارقناه) (١) .

وفي حديث الزيارة الجامعة المباركة: ـ

(فاز مَن تمسّك بكم، وأمِنَ مَن لجأ إليكم، وسَلِم مَن صدّقكم، وهُدي من اعتصم بكم) (٢) .

فنسأل الله تعالى أن يرزقنا ملازمتهم، ويديم لنا موالاتهم، ويمنّ علينا بالجنّة معهم كما في بشارة رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(من أحبَّ أن يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويدخل الجنّة التي وعدني ربّي، فليتولّ عليّاً بعدي، فإنّه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ردى) (٣) .

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١٨ / ص / ب / ح.

(٢) عيون الأخبار / ج ٢ / ص ٢٧٧.

(٣) أمالي الشيخ الطوسي / ج ٢ / ص ١٠٧.

٢٣٦

(٢٠)

ورفضِ أهلِ البِدَع ومستعملي الرأي المخترَع

الرفض هو الترك، والردّ، وعدم القبول.

والبدَع: جمع بدعة، وهي اسمٌ من الابتداع بمعنى الإحداث والإختراع.

قال في المجمع: ـ (البدعة: بالكسر فالسكون: الحدثُ في الدِّين وما ليس له أصلٌ في كتابٍ ولا سنّة.

وإنّما سمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها من نفسه) (١) .

وقال في المرآة: ـ (البدعة في عرف الشرع ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه وآله، ولم يَرد فيه نصٌّ على الخصوص، ولا كيون داخلاً في بعض المعلومات، أو ورد فيه نهيٌ عنه خصوصاً أو عموماً) (٢) .

ويؤيّده الحديث الشريف: ـ السُنّة ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله، والبدعة ما اُحدث من بعده) (٣) .

__________________

(١) مجمع البحرين / ص ٣٧٠.

(٢) مرآة الأنوار / ص ٧٨.

(٣) بحار الأنوار / ج ٢ / ص ٢٦٦.

٢٣٧

وعُرّفت في الاصطلاح الفقهي بأنّها هي: ـ

(إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين، نظير إدخال التكتّف في الصلاة.

ومثله إخراج ما ثبت في الدٍّين من الدِّين، نظير إسقاط حيَّ على خير العمل من الأذان).

وقد حدثت هذه البِدَع المذمومة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بواسطة الغاصبين والظالمين والمنحرفين.

وقد ذكر السيّد الجليل شرف الدِّين أعلى الله مقامه في كتابه الخاصّ بذلك (النصّ والاجتهاد) ٧١ مورداً من بدع الغاصبين، منها: ـ

١ ـ غصب نحلة الزهراء عليها السلام، وبدعتهم أنّ الرسول لم يورّث، وهذه بدعة الأوّل والثاني.

٢ ـ قتل مانعي الزكاة بما جناه خالد بن الوليد في مالك بن نويرة، وهذه بدعة الأوّل.

٣ ـ تحريم متعة الحجّ، ومتعة النساء، وهذه كانت من قِبَل الثاني.

٤ ـ إسقاط طواف النساء من الحجّ.

٥ ـ إسقاط (حيّ على خير العمل) من الأذان.

٦ ـ إدخال الصلاة خيرٌ من النوم في أذان الصبح.

٧ ـ تشريع الطلاق ثلاثاً مؤبّداً في مجلسٍ واحد.

٨ ـ تشريع صلاة التراويح.

٩ ـ حكم الثاني بسقوط الصلاة عند فقدان الماء.

١٠ ـ تقديم الثالث رأيه على نصوص الكتاب والسنّة، كإتمامه الصلاة في السفر، وإعطاءه الخمس لغير بني هاشم، بل للطريد مروان بن الحكم (١) .

__________________

(١) لاحظ للاستقصاء كتاب الغدير / ج ٦ / فصل نوادر الأثر، خصوصاً الصفحات: ـ ٨٣، ١٠٨، ١٨٧، ٢٨٢، ٢٩٤.

٢٣٨

هذه هي البدع المبتدعة التي يأتي بيان فسادها وذمّها في الأحاديث الشريفة.

وفي هذا الدعاء الشريف يُطلب من الله تعالى التكميل برفض أهل البدع، وتركهم، وعدم القبول منهم.

أي واكمل لي ذلك برفض أهل البدع.

  قوله عليه السلام: ـ (ومستعملي الرأي المخترع) عطفٌ على أهل البدَع، أي واكمل لي ذلك برفض مستعملي الرأي المخترع.

ومستعملي الرأي المخترع هم الذين اخترعوا رأياً من عند أنفسهم، وبناقص عقولهم، ثمّ عملوا به وأفتوا على طبقه، كاختراع القياس في الدِّين.

والرأي المخترع قسمٌ من البدعة، لأنّه إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين، خصّص بالذمّ، وأكّد بالردع.

ومذموميّة البدعة واختراع الرأي ممّا تظافرت به الأدلّة المعتبرة، والأحاديث الشريفة.

فتكون صفةً مذمومة منافية للتقوى والصلاح، فيلزم تركها، والابتعاد عنها في سبيل تحصيل التقوى، وتزيين الصالحين.

وممّا ورد في ذمّ البدعة والرأي المخترّع: ـ

١ / حديث الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام قالا: ـ

(كلّ بدعة ضلال، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار) (١).

٢ / حديث الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ـ

(لا تصحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المرء على دين خليله) (٢) .

__________________

(١) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٤٥.

(٢) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٧٨.

٢٣٩

٣ / حديث أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: ـ

(من مشى إلى صاحب بدعةٍ فوقّره، فقد مشى في هدم الإسلام) (١) .

٤ / حديث رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

(من أحدث في الإسلام، أو آوى مُحدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (٢) .

٥ / حديث الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ـ

(إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس، فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بُعداً، وإنّ دين الله لا يُصاب بالعقول) (٣) .

وعليه فالبدعة وإحداث الرأي المخترَع من الضلال والباطل، وقد ارتكب أشنعه أهل الخلاف كما ذكر شيٌ منها في الفصل الثالث من كتابنا: شيعة أهل البيت عليهم السلام.

فقد حكى الزمخشري عن يوسف بن أسباط أنّه قال: ردّ أبو حنيفة على النبيّ أربعمائة حديث...

قيل: مثل ماذا؟

قال: مثل هذا: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «للفرس سهمان».

وقال أبو حنيفة: لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن (٤) .

وأشعر رسول الله صلى الله عليه وآله البُدن.

__________________

(١) عقاب الأعمال / ص ٣٠٧.

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١٢ / ص ٣٢٢.

(٣) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٥٦ / ح ٧. وفي الحديث ٢٠ (أوّل من قاس إبليس).

(٤) يردّه أنّ سهمي الفرس من غنائم الحرب يكون لنفس الفارس، لعنائه، وتكلّفه مؤونة فرسه، ومأكله واصطبله، لا لنفس الفرس حتّى يكون سهماً للبهيمة كما توهّم.

٢٤٠

241

242

243