أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)23%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53337 / تحميل: 7293
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قميصك أكفنّه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له.

فأعطاه النبيّ قميصه، فقال: آذنّي اُصلّي عليه.

فآذنه، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين؟

فقال: أنا بين خيرتين، قال: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) فصلّى عليه (١) .

٢ / في صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير:

أنّ عائشة زوج النبيّ قالت:

إعتمّ ـ أي أبطأ ـ رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تُدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله حتّى قال عمر بن الخطّاب نام النساء والصبيان.

فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ـ... وما كان لكم أن تتزروا ـ أي تستعجلوا ـ رسول الله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطّاب (٢) .

٣ / في حلية الأولياء بسنده عن ابن عسيب:

قال: خرج رسول الله ليلاً فدعاني، فخرجت إليه، ثمّ مرّ بأبي بكر، فدعاه فخرج، ثمّ مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتّى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: أطعمنا بُسراً. فجاء بعذقٍ، فوضعه، فأكلوا، ثمّ دعا بماءٍ فشرب فقال: ـ لتُسئلُنَّ عن هذا يوم القيامة.

قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض، حتّى تناثر البُسر نحو وجه

__________________

(١) صحيح البخاري / أحكام الجنائز / باب الكفن من القميص، ورواه الترمذي أيضاً في سننه / ج ٢ / ص ١٨٥، والنسائي في سننه / ج ١ / ص ٢٦٩، وابن ماجه في سننه / باب الصلاة على أهل النفاق، وابن عبد البرّ في الاستيعاب / ج ١ / ص ٣٦٦.

(٢) صحيح مسلم / كتاب المساجد / باب وقت العشائين وتأخيرها.

٢١

رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟

قال: نعم (١) .

هذه نماذج ثلاثة تلاحظ فيها بوضوح سوء الأخلاق وإساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان قمّة في الأخلاق، وصاحب الخلق العظيم، بشهادة ربّ العالمين.

لذلك أورد عليه السيّد الفيروزآبادي بقوله: ـ

(أقول) أمّا جذب عمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الرواية الاُولى لمّا أراد أن يصلّي على عبد الله بن اُبيّ وقوله له أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين، فهو ما فيه دلالة واضحة على تجسّر عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسوء أدبه معه، بل يظهر منه أنّ عمر كان يرى الصلاة على عبد الله أمراً حراماً شرعاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد ارتكب الحرام الشرعي فأراد أن ينهاه عن المنكر.

ولم يكتف بالنهي عنه بالكلام فقط بل نهاه عنه قولاً وعملاً فجذبه وقال له: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين. ومن المعلوم أنّ من ينهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن المنكر فهو يرى نفسه أتقى لله وأورع، وهذا لعمري إن لم يكن كفراً محضاً كما لا يبعد فهو ضلال بيِّن لا محالة لا يرتاب فيه إلّا أهل الضلال.

ولو كان مقصود عمر مجرّد الاستفهام والاطّلاع على السبب الباعث لصلاة النبيّ صلى الله عليه وآله على ابن أُبيّ لتقدّم إليه واستفهمه بالكلام الطيّب، ولم يتجسّر عليه بجذبه عن الصلاة وبالقول الخشن المذكور، وهذا واضح ظاهر.

(وأمّا صياح عمر بن الخطّاب) على النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية الثانية حين تأخّر في الخروج إلى صلاة العشاء كما يظهر من آخر الرواية حيث قال وذلك حين صاح

__________________

(١) حلية الأولياء / ج ٢ / ص ٢٧، وذكره العسقلاني في الإصابة / ج ٧ / القسم الأوّل / ص ١٣١، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده / ج ٥ / ص ٨١، والطبري في تفسيره / ج ٣٠ / ص ١٨٥، وابن سلطان في المرقاة / ج ٤ / ص ٣٩٧ وقال: إنّه رواه البيهقي أيضاً.

٢٢

عمر بن الخطّاب، فهو تجسّر أوضح من الأوّل، غير أنّ الأوّل كان نهياً عن المنكر بزعمه وهذا أمرٌ بالمعروف حيث حرّض النبيّ صلى الله عليه وآله على الخروج إلى صلاة العشاء، وهذا لعمري عجيب من عمر.

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ) (١) .

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في أوّل السورة: ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (٢) .

وقد تقدّم في مطاعن أبي بكر في باب رفع أبي بكر وعمر أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى نزل النهي أنّهما قد رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أن يستعمله على قومه، وأشار الآخر برجلٍ آخر فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ونزل النهي.

(وأمّا أخذ عمر العذق) في الرواية الثالثة وضرب به الأرض حتّى تناثر البُسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله له إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة، فهو تجسّر على الله ورسوله جميعاً لا على الرسول فقط، وتحقير لنعمة الله جلّ وعلا، فكأنّ البسر كان في نظره شيئاً حقيراً هيّناً لا يعتدّ به فقالَ في حقّه ما قال.

وهو ممّا يدلّ على جهله وقلّة علمه مضافاً إلى تجسّره وعدم كونه شاكراً خاضعاً لأنعم الله تعالى (ولكن الذي) يهوّن الخطب في هذا كلّه أنّ الذي يتجسّر على رسول الله ويقول للنبيّ صلى الله عليه وآله عند مماته حين قال: «ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» إنّه يهجر، أو غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا أو حسبنا

__________________

(١) سورة الحجرات: الآيتان ٤ و ٥.

(٢) سورة الحجرات: الآية ٢.

٢٣

كتاب الله، وقد تقدّم التفصيل مشروحاً في باب مستقلّ، فأمثال هذه الاُمور المذكورة هاهنا في هذا الباب هي هيّنة يسيرة جدّاً لا ينبغي التعجّب منها أبداً. انتهى.

وهذه المقارنة البسيطة تكشف لك الفرق الأقصى بين المذهبين؛ مذهب أهل البيت عليهم السلام ومذهب غيرهم.

وتكشف الطريق الحقّ في السلوك الأخلاقي، والمسلك الصحيح في الأدب الإلهي.

وهذا الكتاب محاولة موجزة لبيان جانب قليل، ونزر يسير من عظمة أخلاق أهل البيت عليهم السلام، الذي يتجلّى فيهم، وسيرة الخلق الطيّب الذي مَنَّ الله تعالى به عليهم.

فجعلهم اُسوة الخُلق الطيّب، وقدوة الأدب الرفيع، ونموذج السجايا الكريمة.

رجاء أن يتفضّل الله تعالى علينا بأشعّةٍ من نورهم، ولمحةٍ من أخلاقهم.

إنّه خير هادٍ ودليل، إلى سواء السبيل.

٢٤

٢ / أخلاق أهل البيت عليهم السلام

من المباحث الاعتقاديّة والعلميّة معاً مبحث أخلاق أهل البيت عليهم السلام.. فإنّه يلزم علينا أن نعتقد أنّ النبيّ والعترة صلوات الله عليهم أفضل الناس في مكارم الأخلاق، كما أنّهم الأفضل في محاسن الصفات، وفضائل الأعمال، ومراتب الكمال.. هذا عقيدةً.

وأمّا عملاً؛ فينبغي لنا أن نسعى في الاقتداء بهم والتأسّي بجميعهم في الأخلاق الكريمة، والمكارم الفاضلة.

لأنّ أهل البيت سلام الله عليهم ـ هم ليس سواهم ـ القدوة الصالحة، والاُسوة الحقّ من الله للخلق، والطاهرون المطهّرون من كلّ رجسٍ ورذيلة.

قال تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) .

وقال عزّ اسمه: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٢) .

ولا يحقّ لنا أن نتأسى أو نتمسّك في الأخلاق وفي سواها بغيرهم عليهم السلام،

__________________

(١) سورة الأحزاب: الآية ٢١.

(٢) سورة الأحزاب: الآية ٣٣.

٢٥

أو نقتدي بسواهم.

لأنّ أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة، والمستمسك المنجي الذين اُمرنا بمتابعتهم، وعدل القرآن الذين اُمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين، المتّفق عليه بين الفريقين.

لذلك يكون مرجعنا في علوم الأخلاق هو القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم الشريفة.

فلنتعرّف في البداية على أمرين:

الأوّل: ما هي الأخلاق؟

الثاني: ما هي أخلاق أهل البيت عليهم السلام في كتاب الله تعالى وسيرتهم؟

فنقول بعونه وتوفيقه: ـ

الخُلُق: هي السجيّة، والملكات والصفات الراسخة في النفس؛ كالسخاء، والشجاعة، والعفو، والكرم، التي هي من السجايا الطيّبة، والخلق الطيّب.

وحسن الخُلق: يُطلق غالباً على معاشرة الناس بالمعروف، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.

وأحسن تعريف لحُسن الخلق هو ما عرّفه به الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ـ

(تُلين جناحَك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن) (١) .

ومكارم الأخلاق: هي الأعمال الشريفة التي توجب كرامة الإنسان، وشرافته، وسموّه، وعزّته، مثل كظم الغيظ، وإصلاح ذات البين، والسبق إلى الفضائل ونحوها ممّا يأتي ذكرها.

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام في مكارم الأخلاق، ذكر منها: ـ

(العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك) (٢) .

__________________

(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١٠٣.

(٢) بحار الأنوار / ج ٦٩ / ص ٣٦٨.

٢٦

ومن أبرز مصاديق مكارم الأخلاق هذه التي ذكرها الإمام عليه السلام، وأحسن آثارها هي مقابلة الإساءة بالإحسان التي ذكرها وأمر بها الله تعالى في قوله عزّ اسمه: ـ ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) .

هذا هو: الخُلق الطيّب، وحُسن الخُلق، ومكارم الأخلاق.

وأهل البيت عليهم السلام هم المثلُ الأعلى في جميعها، والبالغون إلى ذروتها.

وهم لا غيرهم كانوا سماء طيب الأخلاق، فاستحقّوا أن يكونوا قدوة الخلق.

وسيّدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أثنى عليه ربّه بقوله عزّ اسمه: ـ ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

وكانت مكارم الأخلاق من غايات البعثة النبويّة المباركة، وخصوصيّات الرسالة المحمّديّة الشريفة، والمزايا العالية التي نالها رسول الله صلى الله عليه وآله.

ففي الحديث: ـ (إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسول الله صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق.

فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله جلّ وعزّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها) (٣) .

بل فاز صلوات الله عليه وآله بقمّة السجايا الطيّبة والأخلاق الفاضلة، فوصفه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله بأجمل بيان: ـ

(كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينَهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً، مَن رآه بديهةً هابَه، ومَن خالطه أحبّه، لم أرَ مثلَه قَبله ولا بَعده) (٤) .

__________________

(١) سورة فصّلت: الآية ٣٤.

(٢) سورة القلم: الآية ٤.

(٣) بحار الأنوار / ج ٦٩ / ص ٣٦٨.

(٤) سفينة البحار / ج ٢ / ص ٦٨٨.

٢٧

وقال عليه السلام في خطبته القاصعة: ـ

(وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ» (١) .

وحقّاً كان صلى الله عليه وآله أعظم الناس في عظيم الأخلاق وكريم الشيَم.

وحسبُك من ذلك ما أصابه من قريش..

فقد تألّبت عليه، وجرّعته أنواع الغصص، حتّى ألقَتْ عليه مشيمة الرحم القذرة، وأدمت ساقه الشريف، وكسرت رباعيّته المباركة، وضيّقت عليه الحياة في شِعب أبي طالب، وآذته أشدّ إيذاء، وهجمت على داره لقتله في حرم الله تعالى مكّة المكرّمة، حتّى ألجأته إلى مغادرة بلده وأهله، وهجرته إلى المدينة.

ولم تتركه يرتاح حتّى في المدينة، بل أجّجت عليه كلّ برهة حرباً شعواء، وأرصدت لإيذائه أهل الظلم والجفاء..

لكن بالرغم من جميع ذلك لمّا نصره الله تعالى عليهم، وأظفره بهم في فتح مكّة قابلهم بأعظم إحسان وأكبر أمان.

حيث قال لهم: ـ ما تقولون إنّي فاعلٌ بكم؟

قالوا: ـ خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم.

فقال صلى الله عليه وآله: أقول لكم ما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم ـ أي لا توبيخ ـ إذهبوا فأنتم الطلقاء.

حتّى أنّ صفوان بن اُميّة الذي كان من المشركين الذين آذوا النبيّ صلى الله عليه وآله هرب إلى

__________________

(١) نهج البلاغة / الطبعة المصريّة / الخطبة ١٨٧.

٢٨

جدّه ليقذف نفسه في البحر، فراراً من الرسول الأعظم.

فقال عمير بن وهب: يا رسول الله إنّ صفوان بن اُميّة سيّد قومه قد خرج هارباً منك فآمنه.

قال صلى الله عليه وآله: هو آمن.

قال عمير بن وهب: ـ أعطني شيئاً يعرف به أمانك.

فأعطاه صلى الله عليه وآله عمامته.

وهذا يكشف عن أعظم سموٍّ أخلاقي وكرَمٍ روحيّ، في عظيم عفوه حين عظيم قدرته.

ومثله كان خلفاؤه الأئمّة المعصومين من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانوا نموذجاً في سموّ الآداب ومكارم الأخلاق، ومثالاً له في الدعوة إلى حُسن الخليقة، وإنماء الفضيلة، دعوة صادقة، وتربيةً رائقة بأعمالهم وأقوالهم.

نذكر نُبذة منها في هذا الكتاب لتكون دروساً خالدة في الأخلاق الفاضلة والمحاسن الكاملة.

فنستمدّ منها حياةً زكيّة، وروحاً معنويّة، لتهذيب ضمائرنا وصلاحها، وتزكية أنفسنا وفلاحها، فنكون من مصاديق قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) (١) .

وعلى هذا الصعيد السامي نتشرّف بذكر الفصول التالية فيما يلي: ـ

أوّلاً: سيرة أهل البيت عليهم السلام الأخلاقيّة في أعمالهم.

ثانياً: دروسهم الأخلاقيّة في أقوالهم.

ثالثاً: مدرستهم الأخلاقيّة في الصحيفة المباركة السجّاديّة.

وكفى بأهل البيت عليهم السلام أولياء إلهيّين، ومربّين صالحين، وقدوة العالمين للأخلاق

__________________

(١) سورة الشمس: الآية ٩.

٢٩

الطيّبة، والآداب الحسنة، والدروس التربويّة في الأدب الإلهي، والخلق الزكيّ.

ففي وصيّة أمير المؤمينن عليه السلام: ـ

(يا كميل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أدّبه الله عزّوجلّ، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورّث الأدب المكرّمين) (١) .

وفي حديثه عليه السلام: ـ

(إنّ الله كريمٌ حليمٌ عظيمٌ رحيم، دلّنا على أخلاقه، وأمرَنا بالأخذ بها وحَمْل الناس عليها.

فقد أدّيناها غير متخلّفين، وأرسلناها غير منافقين، وصدّقناها غير مكذّبين، وقبلناها غير مرتابين) (٢) .

وبحقٍّ قد أدّبوا شيعتهم الأبرار، وأصحابهم الكُبّار على الآداب الإلهيّة، والمكارم الأخلاقيّة.

أدّبوهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وعلّموهم مقابلة الإساءة بالإحسان والفضائل المزكية للإنسان، كما تلاحظها في وصاياهم الواقية ومواعظهم الشافية، التي ربَّت جيلاً طيّبين، وعلماء ربّانيّين، ورجالاً صالحين.

وهي ذا شذرات من تلك الأخلاقيّات التي علّمت وهذّبت وربّت اُولئك الشيعة الطيّبين: ـ

١ ـ ما في تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، جاء فيه: ـ

(... يا أبا ذرّ احفظ ما أوصيك به تكُن سعيداً في الدُّنيا والآخرة...

يا أبا ذرّ إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحّتك قبل سُقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٢٦٩.

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٤١٨.

٣٠

لا تدري ما اسمك غداً...

يا أبا ذرّ إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة عالمٌ لا يَنتَفِع بعلمه، ومن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة...

يا أبا ذرّ... إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرةٍ يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرّ على أنفه...

يا أبا ذرّ دَع ما لستَ منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك...

يا أبا ذرّ إخفض صوتك عند الجنائز، وعند القتال، وعند القرآن...

يا أبا ذرّ حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبلَ أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تُعرض لا تخفى على الله خافية...

يا أبا ذرّ مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل كمثَل الذي يرمي بلا وَتر..

يا أبا ذرّ ما من شابٍّ يدع لله الدُّنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله إلّا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدَّيقاً...

يا أبا ذرّ كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع...

يا أبا ذرّ لا يزال العبد يزداد من الله بُعداً ما ساء خُلقه...

يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يُبال الله عزّوجلّ من أين أدخله النار...

يا أبا ذرّ من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر.

قلت: وما الثلاث فداك أبي واُمّي؟

قال: ورعٌ يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه، وحلمٌ يردّ به جهل السفيه، وخُلق يداري به الناس.

٣١

يا أبا ذرّ إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتّق الله، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكُن بما في يد الله عزّوجلّ أوثق منك بما في يديك...

يا أبا ذرّ من صمت نجا، فعليك بالصدق، ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً...

يا أبا ذرّ سباب المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كرحمة دمه...

يا أبا ذرّ إيّاك وهجران أخيك، فإنّ العمل لا يتقبّل من الهجران...

يا أبا ذرّ من مات وفي قلبه مثقال ذرّةٍ من كبر لم يجد رائحة الجنّة...

يا أبا ذرّ طوبى لمن تواضع لله تعالى من غير منقصة، وأذلّ نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعَهُ من غير معصية، ورحِمَ أهل الذلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.

طوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيّته، وعزل عن الناس شرّه.

طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله...) (١) .

٢ ـ ما في وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضوان الله عليه: ـ (يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا...

يا كميل أحسِن خُلقك، وابسط جليسك ـ أي سُرّه ـ، ولا تنهرَنَّ خادمك.

يا كميل البركة في المال من إيتاء الزكاة، ومواساة المؤمنين، وصلة الأقربين وهم الأقربون لنا...

يا كميل لا تردّ سائلاً، ولو بشقِّ تمرة، أو من شطر عنب...

يا كميل حُسن خلق المؤمن من التواضع، وجماله التعفّف، وشرفه الشفقة،

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٧٤.

٣٢

وعزّه ترك القيل والقال.

يا كميل إيّاك والمراء، فإنّك تغري بنفسك السفهاء إذا فعلت، وتُفسد الإخاء...

يا كميل جانب المنافقين، ولا تصاحب الخائنين...

يا كميل لا تُريَنَّ الناس افتقارك واضطرارك، واصطبر عليه احتساباً بعزٍّ وتستّر...

يا كميل ومن أخوك؟

أخوك الذي لا يخذلك عند الشدّة، ولا يغفل عنك عند الجريرة، ولا يخدعك حين تسأله، ولا يتركك وأمرك حتّى تُعلمه فإن كان مميلاً ـ أي صاحب مال ـ أصلحه...

يا كميل إنّما المؤمن من قال بقولنا، فمن تخلّف عنّا قصّر عنّا، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا، ومن لم يكن معنا ففي الدرك الأسفل من النار...

يا كميل قُل عند كلّ شدّةٍ: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) تكفها.

وقُل عند كلّ نفحةٍ الحمدُ لله تُزد منها، وإذا أبطأت عليك الأرزاق فاستغفر الله يُوسّع عليك فيها.

يا كميل إذا وسوس الشيطان في صدرك فقُل: ـ

(أعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ، وأعوذ بمحمّد الرضيّ من شرّ ما قُدّر وقُضي، وأعوذ بإله الناس من شرّ الجِنّة والناس أجمعين)، وسلّم، تُكفى مؤونة إبليس والشياطين معه، ولو أنّهم كلّهم أبالسة مثله...

يا كميل إنّ الأرض مملوّةٌ من فخاخهم، فلن ينجو منها إلّا مِن تشبّث بنا..

يا كميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فُعلَت بقلبٍ نقيّ، وعملٍ عند الله مرضيّ، وخشوعٍ سويّ، وإبقاءٍ للجدّ فيها...

يا كميل اُنظر فيمَ تصلّي، وعلى ما تصلّي، إن لم تكن من وجهه فلا حِلَّ ولا قبول...

يا كميل إنّما يتقبّل الله من المتّقين...

يا كميل قال رسول الله صلى الله عليه وآله لي قولاً، والمهاجرون والأنصار متوافرون يوماً بعد

٣٣

العصر، يوم النصف من شهر رمضان، قائماً على قدميه، فوق منبره: ـ

عليٌّ منّي، وإبناي منه، والطيّبون منّي وأنا منهم، وهم الطيّبون بعد اُمّهم، وهم سفينةٌ من ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى، الناجي في الجنّة، والهاوي في لظى...) (١) .

٣ ـ ما في تعليم فاطمة الزهراء عليها السلام لبعض النساء: ـ

(أرضِ أبوَي دينِك محمّداً صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام، بسخطِ أبوي نسبكِ.

ولا تُرضِ أبوي نسبكِ بسخط أبوَي دينك.

فإنَ أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمّد صلى الله عليه وآله وعليّ عليه السلام بثواب جزءٍ من ألف ألف جزءٍ من ساعةٍ من طاعاتهما.

وإنَ أبوَي دينك إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأنّ ثواب طاعات أهل الدُّنيا كلّهم لا تفي بسخطهما...) (٢) .

٤ ـ ما في كلام لمولانا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: ـ

(يا ابن آدم عُفّ عن محارم الله تكُن عابداً، وارضِ بما قسم الله سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحِب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً.

إنّهم كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً.

أصبح جمعهم بواراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

يا ابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن اُمّك، فخُذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٢٧٠.

(٢) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام / ج ٢١ / ١٦٤.

٣٤

وكان عليه السلام يتلو بعد هذه الموعظة: ـ

( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) (١) .

٥ ـ ما في توصية مولانا الإمام الحسين عليه السلام لابن عبّاس: ـ

(لا تتكلّمنَّ فيما لا يعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر.

ولا تتكلّمنّ فيما يعنيك حتّى ترى للكلام موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بالحقّ فعيب.

ولا تمارينَّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.

ولا تقولنّ في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلّا ما تحبّ أن يقول فيك إذا تواريت عنه.

واعمل عمل رجلٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام، مجزى بالإحسان، والسلام) (٢) .

٦ ـ ما في وصيّة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لبعض بنيه: ـ

(يا بُني اُنظر خمسةٌ فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق.

فقال: يا أبه مَن هم؟

قال عليه السلام: ـ إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرِّب لك البعيد، ويبعّد لك القريب.

وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.

وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.

وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله) (٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ١١٢.

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ١٢٧.

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ١٣٧.

٣٥

٧ ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي وجماعة الشيعة: ـ

(قال جابر: دخلنا على أبي جعفر عليه السلام، ونحن جماعة، بعدما قضينا نسكنا، فودّعناه وقلنا له أوصنا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

ليُعن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتًى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا.

فإن كنتم كما أوصيناكم، لم تعدْوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، وإن أدرك قائمنا فقُتل معه كان له أجر شهيدين، ومَن قَتَلَ بين يديه عدوّاً لنا كان له أجر عشرين شهيداً) (١) .

٨ ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جُندَب: ـ

(... يا ابن جُندب إنّما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربّهم يتوكّلون...

يا ابن جندب لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلّا خيراً، واستكينوا إلى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم.

فكلّ من قصدنا، وتولّانا، ولم يوال عدوّنا، وقال ما يعلم، وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنّة...

يا ابن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدرٍ واُحد، وما عذّب الله اُمّةً إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم...

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ١٨٢.

٣٦

يا ابن جندب إنّما شيعتنا يُعرفون بخصالٍ شتّى:

بالسخاء، والبذل للإخوان، وبأن يصلّوا الخمسين ليلاً نهاراً.

شيعتنا لا يهرّون هرير الكلب، ولا يطعمون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوّاً، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً.

شيعتنا لا يأكلون الجرَي، ولا يمسحون على الخفّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً...

يا ابن جندب صِل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلِّم على من سبّك، وأنصف مَن خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك.

فاعتبر بعفو الله عن، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين...

يا ابن جندب... الواجب على من وهب الله له الهدى، وأكرمه بالإيمان، وألهمه رُشده، وركّب فيه عقلاً يتعرّف به نعمه، وآتاه علماً وحكماً يدبّر به أمر دينه ودُنياه أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه، وأن يطيع الله ولا يعصيه...

أما إنّه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامّة، ونصب الجبّار الموازين لفصل القضاء، وبرز الخلائق ليوم الحساب، أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحلّ الحسرة والندامة.

فاعمل اليوم بما ترجو به الفوز في الآخرة) (١) .

٩ ـ ما أوصى به الإمام الكاظم عليه السلام هشام بن الحكم، جاء فيه: ـ

(يا هشام إنّ العاقل رضى بالدون من الدُّنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ٢٧٩.

٣٧

من الحكمة مع الدُّنيا، فلذلك ربحت تجارتهم...

يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

ما من شيء عُبدَ الله به أفضل من العقل، وما تمَّ عقل امرءٍ حتّى يكون فيه خصالٌ شتّى:

الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدُّنيا القوت، لايشبع من العلم دهره، الذلّ أحبُّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه وأنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام من صدق ليانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيدَ في رزقه، ومن حسُن برّه بإخوانه وأهله مُدَّ في عمره...

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعَلِممَ أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة...

يا هشام أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أيّ يومٍ هو، وأعدّ له الجواب، فإنّك موقوفٌ ومسؤول...

يا هشام قال الله جلّ وعزّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني، لا يُؤثِر عبدٌ هواي على هواه إلّا جعلت الغِنى في نفسه، وهمّه في

٣٨

آخرته، وكففتُ عليه ضيعته، وضمّنتُ السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.

يا هشام الغضب مفتاح الشرّ، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً...

يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار..

يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قُل لعبادي: ـ

لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، اُولئك قطّاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ أن أنزع حلاوى محبّتي ومناجاتي من قلوبهم...

يا هشام إيّاك والكِبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك، فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكُن في الدُّنيا كساكن دارٍ ليست له، إنّما ينتظر الرحيل...

يا هشام لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل.

يا هشام إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين.

فإنّ الطمع مفتاح للذلّ، واختلاس العقل، واختلاف المروّات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم.

وعليك بالاعتصام بربّك، والتوكّل عليه.

وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوّك...) (١) .

١٠ ـ ما أوصى به مولانا الإمام الرضا عليه السلام شيعته في حديث عبد العظيم الحسني: ـ

(يا عبد العظيم... أبلغ عنّي أوليائي السلام وقُل لهم: ـ

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ٢٩٦.

٣٩

أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة.

ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربةً إليّ.

ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإنّي آليتُ على نفسي أنّه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي دعوت الله ليعذّبه في الدُّنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين.

وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلّا من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتّى يرجع عنه، فإن رجع وإلّا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا. وأعوذ بالله من ذلك) (١) .

١١ ـ ما في كتاب مولانا الإمام الجواد عليه السلام لسعد الخير: ـ

(... اعلم رحمك الله أنّه لا تنال محبّة الله إلّا ببغض كثير من الناس، ولا ولايته إلّا بمعاداتهم، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون.

يا أخي إنّ الله عزّوجلّ جعل في كلّ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون معهم على الأذى، ويجيبون داعي الله، ويدعون إلى الله.

فابصرهم رحمك الله فإنّهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم في الدُّنيا وضيعة.

إنّهم يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصرون بنور الله من العمى.

كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه.

__________________

(١) الاختصاص / ص ٢٤٧.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243