أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)23%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53381 / تحميل: 7304
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يبذلون دمائهم دون هلكة العباد، وما أحسن أثرهم على العباد، وأقبح آثار العباد عليهم) (١) .

١٢ ـ ما في توصية مولانا الإمام الهادي عليه السلام لشخص: ـ

(إقبل على ما شأنك... وإذا حللت من أخيك محلّ الثقة فاعدل عن الملق إلى حُسن النيّة.

المصيبة للصابر واحدة وللجازع إثنان، العقوق تكل من لم يتّكل، الحسد ماحي الحسنات، والدهر جالب المقت، والعُجب صارفٌ عن طلب العلم، داع إلى الغمط ـ أي احتقار الناس ـ والجهل، والبُخل أذمّ الأخلاق، والطمع سجيّة سيّئة، والهُزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال، والعقوق تعقّب القلّة وتؤدّي إلى الذلّة) (٢) .

١٣ ـ ما في وصيّة مولانا الإمام العسكري عليه السلام لشيعته: ـ

(أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّدٌ صلى الله عليه وآله.

صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدَق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خُلقه مع الناس، قبل هذا شيعيّ، فيسرّني ذلك.

اتّقوا الله وكونوا زيناً لنا، ولا تكونوا شيناً.

جرّوا إلينا كلّ مودّةٍ، وارفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حُسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك.

__________________

(١) روضة الكافي / ج ٨ / ص ٥٦.

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ٣٦٩.

٤١

لنا حقٌّ في كتاب الله، وقرابةٌ من رسول الله، وتطهيرٌ من الله، لا يدّعيه أحدٌ غيرنا إلّا كذّاب.

أكثروا ذكرَ الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فإنّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات.

احفظوا ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام، والسلام) (١) .

١٤ ـ ما في توقيع مولانا الإمام المهدي عليه السلام للشيخ المفيد جاء فيه: ـ

(إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء ـ أي الشدّة وضيق المعيشة ـ، واصطلمكم ـ أي استأصلكم ـ الأعداء...

فليعمل كلٌّ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا.

فإنّ أمرنا بغتةً فجاءة، حين لا تنفعه توبة، ولا تُنجيه من عقابنا ندمٌ على حوبة.

والله يلهمكم الرُّشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته) (٢) .

هذه شذرات غُرر، من تعاليمهم الدرر، التي ربّت وهذّبت كبار شيعتهم، وجهابذة أصحابهم على معالي الصفات وعوالي السجيّات..

فقدّمت مثل سلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار، ومثل كميل وميثم وصعصعة ورُشيد، وسائر كبار أصحابهم سلام الله عليهم.

__________________

(١) تحف العقول / ص ٤٨٧.

(٢) الاحتجاج / ج ٢ / ص ٣٢٣.

٤٢

٣ / السيرة الأخلاقيّة العلميّة لأهل البيت عليهم السلام

هناك دروسٌ بليغة من النبيّ الأعظم وعترته الطاهرة عليهم السلام في سيرتهم المثاليّة، وأخلاقهم الفذّة، التي فيها كلّ العظة النافعة، وبها الاُسوة الحسنة، نذكر نبذة منها فيما يلي: ـ

الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

من أخلاقه الشريفة، وآدابه الرفيعة ما جمع من الأحاديث الواصفة له، والمذكورة في مناقبه، جاء فيها: ـ

كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله أحكم الناس، وأحلمهم، وأشجعهم، وأعدلهم، وأعطفهم حتّى وصفه الله تعالى بقوله: ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١) .

وكان أسخى الناس، حتّى وصف بأنّه: (لا يثبت عنده دينارٌ ولا درهم).

وكان يجلس على الأرض، وينام عليها، ويأكل عليها.

وكان بنفسه يخصف النعل، ويُرقّع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة،

__________________

(١) التوبة: ١٢٨.

٤٣

ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا تعب، ويضع طهوره بالليل بيده، ويخدم في أهله، ويقطع اللّحم لهم.

وكان لا يجلس متّكئاً، وإذا جلس على الطعام جلس بتواضع، ويلطع أصابعه، ولم يتجشّأ قطّ.

وكان يُجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على كراع، ويقبل الهديّة ولو جُرعةٌ من اللّبن، ولا يأكل الصدقة.

وكان في معاشراته لا يُثبت بصره في وجه أحد، ويغضب لربّه ولا يغضب لنفسه، ويوصي بالوالدين إحساناً.

وكان يلبس الغليظ من القطن والكتّان، وأكثر ثيابه البيض، ويلبس القميص من قبل ميامنه.

وكان له عباءٌ يُفرش له حيث ما ينتقل، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرسٍ أو بغلة أو حمار بلا تكبّر.

وكان يشيّع الجنازة، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده.

وكان يُكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم، ويصِل رحمه، ولا يجفو على أحد، ويقبل معذرة المُعتذر.

كان أكثر الناس تبسّماً، وما شتم أحداً بشتمة، ولا لعن خادماً بلعنة، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا يجزي السيّئة بالسيّئة، بل يغفر ويصفح، حتّى وصفه ربّه بالخُلق العظيم.

يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا لقي مسلماً يبدأ بالمصافحة، وما أخذ أحدٌ يده فيرسل يده حتّى يرسلها ذاك، ولا يقوم ولا يجلس إلّا على ذكر الله تعالى.

وكان خير الناس لأهله ويقول: خيركم خيركم لأهله وأنا خيرٌ لأهلي، ويعال الرجل أسراؤه، وأحبّ العباد إلى الله عزّوجلّ أحسنهم صُنعاً إلى أُسراءه.

٤٤

وكان لا يجلس عند أحدٌ وهو يصلّي إلّا خفّف صلاته وأقبل عليه وقال: ألكَ حاجة؟

وكان يجلس حيث ما ينتهي به المجلس، وأكثر ما يجلس مستقبل القبلة، ويكرم من دخل عليه حتّى ربما بسط له ثوبه، ويُؤثِر الداخل بالوسادة.

قال خادمه: خدمتُ النبيّ تسع سنين، ما عاب عليَّ شيئاً قطّ.

أدركه أعرابيّ فأخذ برداءه، فجذبه جذبةً شديدة، حتّى نظرت إلى صفحة عنقه قد أثّرت به حاشية الرداء من شدّة جذبته..

ثمّ قال الأعرابي: مُر لي يا محمّد من الماس الذي عندك.

فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، فضحك، وأمر له بعطاء (١) .

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ١٦ / ص ٢٣٦ عن المناقب لابن شهر آشوب.

٤٥

٤٦

أمير المؤمنين عليه السلام

كان قمّة وقدوةً في حُسن الأخلاق مع الصديق والعدوّ، وعلى ذلك أدّب شيعته، ودعى إلى الحقّ أعداءه، حتّى هداهم بهداية الله تعالى بعمله قبل قوله.

وكان من أخلاقه عليه السلام أنّه يرافق في السفر، ويشايع صاحبه إذا فارقه.

وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: ـ

صاحَبَ عليٌّ رجلاً ذمّيّاً فقال له الذمّي: أين تريد يا عبد الله؟

قال عليه السلام: اُريد الكوفة.

فلمّا عَدَلَ الطريق بالذمّي عَدَل معه علي عليه السالم.

فقال له الذمّي: أليس زعمتَ تريد الكوفة؟

قال: بلى.

فقال له الذمّي: فقد تركت الطريق؟

فقال: قد علمتُ.

فقال له: فلِمَ عدلتَ معي وقد علمتَ ذلك؟

فقال له عليّ عليه السلام: هذا من تمام حُسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئةً إذا فارقَه، وكذلك أمرَنا نبيّنا.

٤٧

فقال له: هكذا؟

قال: نعم.

فقال له الذمّي: لا جَرم إنّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.

وأنا اُشهدك أنّي على دينك، فرجع الذمّي مع عليّ عليه السلام، فلمّا عرفه أسلم (١) .

ومن مكارم أخلاقه عليه السلام وحُسن سيرته ما جمع من أحاديث أحواله جاء فيها: ـ

كان عليٌّ عليه السلام يجلس جلسة العبد، ويأكل أكل العبد، ويشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما، ثمّ يلبس الآخر في أشدّ التواضع.

وُلّي خمس سنين ما وضع آجرةً على آجرة، ولا أورثَ بيضاء ولا حمراء.

وكان يُطعم الناس خُبزَ البُرّ واللّحم، وينصرف إلى منزله يأكل خبر الشعير والملح أو الزيت أو الخلّ.

وما ورد أمران كلاهما لله تعالى رضاً إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه.

ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يده وعَرَق وجهه، وتترّب يده من عمله.

وما كان لباسه إلّا الكرابيس التي هي أوضع الملابس.

دخل عليه عمرو بن العاص ليلةً وهو في بيت المال، فأطفأ السراج، ولم يستحلّ أن يجلس في ضوء بيت مال المسلمين بغير استحقاق.

واُتي بأحمال فاكهةٍ فأمر ببيعها، وطرح ثمنها في بيت المال.

وبعث إليه دهقان (٢) بثوبٍ منسوج بالذهب، فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم إلى العطاء.

وجاء إليه من همدان وحلوان عسل، وتين، فأمر أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم

__________________

(١) البحار / ج ٤١ / ص ٥٣.

(٢) الدهقان: يطلق على رئيس القرية ـ معرّب دهقان ـ، ويطلق على التاجر ومن له مال وعقار كما في مجمع البحرين / ص ٤٣٠.

٤٨

من رؤوس الأزقاق يلعقونها، وهو يقسّمها للناس قدحاً قدحاً، ثمّ ألعقهم هو عليه السلام بيده المباركة.

فقيل له: يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟

فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى، وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.

وكان عليه السلام بنفسه يستقي، ويحتطب، وينقّي العدس في البيت، وفاطمة الزهراء عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز.

وما اُصيب بمصيبة إلّا صلّى في ذلك اليوم ألف ركعة، وتصدّق على ستّين مسكيناّ، وصام ثلاثة أيّام.

وكان إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس اجتمع إليه الناس فعلّمهم الفقه والقرآن.

قال عنه صعصعة بن صوحان العبدي وغيره من شيعته وأصحابه: ـ

(كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدّة تواضع، وسهولة قياد. وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه) (١) .

وقال عنه ابن أبي الحديد:

(وأمّا سماحة الأخلاق، وطلاقة المحيّا والتبسّم فهو المضروب به المثل).

وقد شهد عدوّه اللدود معاوية بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته التي بيّنها ضرار ابن ضمرة الليثي:

حيث دخل على معاوية فقال له: صِف لي عليّاً.

فقال ضرار: أوَ تعفيني عن ذلك.

__________________

(١) هذه هي الهيبة الإلهيّة التي كان يعظم بها عند أولياءه ويخاف منه خصومه، حتّى ذكروا عنه أنّه كنّا نخوّف الأعداء بمجيء عليّ عليه السلام.

٤٩

فقال معاوية: لا أُعفيك.

فقال ضرار: ـ

كان والله بعيد المدى ـ أي عالي الهمّة ـ، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً.

يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه.

يستوحش من الدُّنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.

كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه، ويناجي ربّه.

يُعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشُب.

كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، وكنّا مع دنوّه منّا، وقُربنا منه لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع عيننا إليه لعظمته.

فإن تبسّم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم.

يعظّم أهل الدَّين، ويحبّ المساكين.

لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الفقير من عدله.

وأشهدُ بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قائمٌ في محرابه، قابضٌ على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي أسمعه وهو يقول:

يا دُنيا دنيّة أبيَ تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ؟ هيهات هيهات غُرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيها، فعُمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير.

آهٍ آهٍ من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق، وعِظَم المورد.

فوكَفَت ـ أي سالت ـ دموع معاوية على لحيته، فنشّفها بكمّه، واختنق القوم بالبكاء.

ثمّ قال معاوية: كان والله أبو الحسن كذلك، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟

٥٠

قال: صبرُ مَن ذُبح واحدُها على صدرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها.

ثمّ قام ـ ضرار ـ وخرج وهو باكٍ.

فقال معاوية: أما إنّكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يُثني عليَّ هذا الثناء.

فقال بعض من حضر: الصاحب على قدر صاحبه (١) .

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ٤١ / ص ١٢٠ / ب ١٠٧ / ح ٢٨.

٥١

٥٢

الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام

كانت نموذجاً للأخلاق المرضيّ، واُسوة للإنسان الزكيّ، بل هي اُسوة للإمام المهدي عليه السلام الذي هو اُسوتنا وحجّة الله علينا.

يقتدي بها الإمام فكيف بسائر الأنام، كما ورد في التوقيع الشريف: ـ

«وفي ابنة رسول الله لي اُسوةٌ حسنة» (١) .

فيلزم أن نتأسّى بها، ونقتدي بمحاسن صفاتها.

وهي فخر النساء، والاُسوة العلياء للمرأة المؤمنة الصالحة.

ومن خُلقها الطيّب: كرمها وإيثارها المذكور في حديث الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: ـ

صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة العصر فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله، فبينا هم كذلك إذ أقبل إليه شيخٌ من مهاجرة العرب عليه سَمِلٌ قد تهلّل وأخلق وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله يستحثّه الخبر فقال الشيخ: (يا نبيّ الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فأكسني، وفقيرٌ فأرشِني).

__________________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي / ص ١٧٢، والاحتجاج للطبرسي / ج ٢ / ص ٢٧٧، وذكرنا هذا التوقيع بشرحه في الإمام المنتظر / ص ٢٢١.

٥٣

فقال صلى الله عليه وآله: ما أجد لك شيئاً ولكنّ الدالّ على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل من يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يؤثِر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة، وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الذي ينفرد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قُم فقف به على منزل فاطمة، فانطلق الأعرابيّ مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة! ومختَلَف الملائكة، ومهبط جبرئيل الرّوح الأمين بالتنزيل، من عند ربّ العالمين، فقالت فاطمة: وعليكَ السلام، فمَن أنت يا هذا؟ قال: شيخٌ من العرب أقبلتُ على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شُقّة وأنا يا بنت محمّد عاري الجسد، جائع الكبد فواسيني يرحمك الله، وكان لفاطمة وعليّ في تلك الحال ورسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثاً ما طَعِموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك من شأنها...

فعَمَدَت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين فقالت: خُذ هذا أيّها الطارق! فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خيرٌ منه، قال الأعرابيّ: يا بنت محمّد شكوت إليك الجوع فناوليني جلد كبش ما أنا صانع به مع ما أجد من السّغب.

قال: فعَمَدَت لمّا سَمِعَت هذا من قوله إلى عِقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطّلب، فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خُذه وبعه فعسى أن يعوّضك به ما هو خيرٌ منه، فأخذ الأعرابي العِقد وانطلق إلى مسجد رسول الله والنبيّ صلى الله عليه وآله جالس في أصحابه، فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة [بنت محمّد] هذا العقد فقالت: بعه فعسى الله أن يصنع لك.

قال: فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وقال: وكيف لا يصنع الله لك وقد أعطتكه فاطمة بنت محمّد سيّدة بنات آدم.

فقام عمّار بن ياسر رحمة الله عليه فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا

٥٤

العِقد؟ قال: (اشترهِ يا عمّار فلو اشترك فيه الثَقَلان ما عذّبهم الله بالنار)، فقال عمّار: بِكَمْ العِقد يا أعرابيّ؟ قال: بشَبعةٍ من الخبز واللّحم، وبردة يمانيّة أستر بها عورتي واُصلّي فيها لربيّ، ودينر يبلّغني إلى أهلي، وكان عمّار قد باع سهمه ـ من الغنيمة ـ الذي نفله رسول الله صلى الله عليه وآله من خبير ولم يُبقِ منه شيئاً، فقال: لك عشرون ديناراً ومأتا درهم هجريّة، وبُردة يمانيّة، وراحلتي تبلّغك أهلك، وشَبَعُك من خبز البُرّ واللّحم.

فقال الأعرابيّ: ما أسخاك بالمال أيّها الرجل، وانطلق به عمّار فوفّاه ما ضمن له.

وعاد الأعرابيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أَشَبِعتَ واكتَسَيت؟ قال الأعرابيّ: نعم واستغنيت بأبي أنت واُمّي، قالْ: فأجْزِ فاطمة بصنيعها، فقال الأعرابيّ: اللَّهُمَّ إنّك إله ما استحدثناك، ولا إلهٌ لنا نعبده سواك وأنت رازقنا على كلّ الجهات، اللَّهُمَّ أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت.

فأمّن النبيّ صلى الله عليه وآله على دعائه وأقبل على أصحابه، فقال: إنّ الله قد أعطى فاطمة في الدُّنيا ذلك: أنا أبوها وما أحدٌ من العالمين مثلي، وعليٌّ بعلها ولولا عليّ ما كان لفاطمة كفو أبداً، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيّدا شباب أسباط الأنبياء وسيّدا أهل الجنّة... ـ وكان بإزائه مقداد وعمّار وسلمان ـ فقال: وأزيدكم؟

قال: نعم يا رسول الله.

قال: أتاني الرّوح يعني جبرئيل عليه السلام أنّها إذا هي قبضضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها: من ربّك؟ فيتقول: الله ربّي، فيقولان: فمَن نبيّك؟ فتقول: أبي، فيقولان: فمن وليّك؟ فتقول: هذا القائم على شفير قبري عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ألا وأُزيدكم من فضلها: إنّ الله قد وكّل بها رعيلاً من الملائكة يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها وهم معها في حياتها وعند قبرها

٥٥

وعند موتها يكثرون الصلاة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

فمن زارني بعد وفاتي في حياتي، ومن زار فاطمة فكأنّما زارني، ومن زار عليّ بن أبي طالب فكأنّما زار فاطمة، ومن زار الحسن والحسين فكأنّما زار عليّاً، ومن زار ذرَيتهما فكأنّما زارهما.

فعمد عمّار إلى العقد، فطيّبة بالمسك، ولفّه في بردة يمانيّة، وكان له عبدٌ اسمه سَهم ابتاعه من ذلك السّهم ابتاعه من ذلك السّهم الذي أصابه بخبير، فدفع العقد إلى المملوك وقال له: خُذ هذا العقد فادفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت له، فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره بقول عمّار، فقال النبيّ: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها، فجاءالمملوك، فضحك الغلام، فقالت: ما يضحك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَمِ بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسى عرياناً، وأغنى فقيراً، ورجع إلى ربّه (١) .

ومن مكارم أخلاقها ـ سلام الله عليهادعاؤها في عبادتها للمؤمنين دون نفسها ففي حديث دلائل الإماميّة: ـ

عن الإمام الحسن عليه السلام قال: رأيت اُمّي فاطمة قائمةً في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعةً ساجدة حتّى انفلق عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتُكثر الدّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء.

فقلت: يا اُمّاه لم لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيركِ؟

قالت: يا بُنيّ الجار ثمّ الدار (٢) .

ومن طيب أخلاقها حسن سيرتها مع أمير المؤمنين عليه السلام زوجها وابن عمّها،

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٥٦.

(٢) دلائل الإمامة للطبري / ص ٥٢.

٥٦

ففي حديث البحار: ـ

قال عليّ عليه السلام: ـ (فوالله ما أغضبها ولا أكرهتُها على أمرٍ حتّى قبضها الله عزّوجلّ ولا أغضبني، ولا عَصَت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان) (١) .

ومن لطف أخلاقها مشاكرتها خدمة البيت مع خادمتها فضّة، وخدمتها بنفسها الطاهرة، ففي حديث من لا يحضره الفقيه: ـ

أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجلٍ من بني سعد: ـ

ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء سلام الله عليها؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتّى مجلت يداها، وكَسَحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتّى دكَنَت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرٌّ شديد... (٢) .

ومن كريم عشرتها عدم تكليفها أمير المؤمنين عليه السلام بما يصعب عليه، ففي حديث البحار: ـ

عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبح عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً، فقال: يا فاطمة هل عندكِ شيءٌ تعذّينه؟

قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوّة، وأكرمك بالوصيّة، ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء، أطعمناه مُذ يومين إلّا شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين.

فقال عليّ: يا فاطمة ألا كنتِ أعلمتني فألفيكم شيئاً؟

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ١٣٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه / ج ١ / ص ٣٢.

٥٧

فقالت: يا أبا الحسن إنّي لأستحي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه (١) .

ومن وجودها وكرمها إنفاقها واردات فدك للفقراء والمساكين في سبيل الله تعالى.

علماً بأنّ واردات فدك نحلتها من أبيها صلى الله عليه وآله تبلغ في كلّ سنة سبعين ألف دينار، يعني ما يعادل (٠٠٠/٧٠) مثقال من الذهب (٢) .

ثمّ وصيّتها ببساتينها السبعة: (العَواف، والدلال، والبرقة، والمثيَب، والحسنى، والصافية، وأمّ إبراهيم).

وهي المسمّاة بالحوائط السبعة والعوالي، وكانت على نصف فرسخ من المدينة المنوّرة كما في البهجة (٣) .

ومن طيب سجيّتها حنانها ومحبّتها لأبيها وبعلها وبنيها وذرّيتها وشيعتها حتّى لُقّبت بالحانية.

فتلاحظ في سيرتها المباركة شدّة محبّتها برسول الله صلى الله عليه وآله حتّى أنّه غُشي إليها حينما رأت قميصه بععد شهادته (٤) .

وتلاحظ محبّتها لزوجها وتعبيرها عنه في وصيّتها بقولها:

(ثمّ إنّي أوصيك في نفسي وهي أحبّ الأنفس إليَّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله...) (٥) .

ولم تتركه في شديد مصابها في يوم الدار، بل أسرعت إليه لخلاصه من أيدي أعدائه كما اتّفقت عليه السِّير.

وتلاحظ محبّتها لأولادها حتّى في حال آلامها وقرب شهادتها في خدمتها

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٥٩.

(٢) كشف المحجّة للسيّد ابن طاووس / ص ١٨٢.

(٣) بهجة قلب المصطفى / ص ٥١١.

(٤) أهل البيت، لتوفيق أبو علم / ص ١٦٦.

(٥) بحار الأنوار / ج ١٠٣ / ص ١٨٥.

٥٨

لهم حتّى في غسل رؤوسهم.

وتلاحظ محبّتها لذرّيتها حتّى سلّمت عليهم وعلى من جاء منهم إلى يوم القيامة كما في وصيّتها.

وتلاحظ محبّتها لشيعتها حتّى أنّها تلتقطهم للشفاعة يوم القيامة كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء.

فهي القدوة والاُسوة التي ينبغي أن نتأسّى بها في حياتنا الدينيّة والأخلاقيّة حتّى نحصل على السعادة الأبديّة.

٥٩

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لقد مُلئ قلبي منه رُعباً

عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إنَّ مسلم بن عقبة بايع الناس على أنَّهم عبيد ليزيد، ومَن أبى ذلك أمَرَّهُ مُسرف على السيف).

ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجَّاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأُتي به إلى مُسرف وهو مُغتاظ عليه، فتبرَّأ منه ومِن آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له وأقعده إلى جانبه، وقال له: سَلني حوائجك، فلم يسأله في أحد مِمَّن قُدِّم إلى السيف إلاّ شفَّعه فيه، ثمَّ انصرف عنه.

وقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغُلام وسلفه، فلما أُتي به إليك رفعت منزلته؟!

فقال: ما كان ذلك لرأيٍ مِنِّي لقد مُلئ قلبي منه رُعباً (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج1.

١٤١

إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين

سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوماً مِن أصحابه يسبُّون أهل الشام أيَّام حربهم بصِفِّين، فقال لهم: (إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العُذر، وقلتم مكان سَبِّكم إيَّاهم:

اللَّهمَّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهْدِهم مِن ضلالتهم، حتَّى يعرف الحَقَّ مِن جَهله) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج1.

١٤٢

سُبْحان الله! تقذف أُمَّه؟!

قال عمرو بن نعمان الجُعفيِّ: كان لأبي عبد الله (عليه السلام) صَديق لا يكاد يُفارقه أين يذهب، فبينا هو يمشي معه في الحذائين، ومعه غُلام له سِنديٌّ يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يُريد غُلامه ثلاث مَرَّات فلم يره، فلمَّا نظر في الرابعة، قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟

قال فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) يده فصكَّ بها جَبهة نفسه، ثمَّ قال: (سبحان الله! تقذف أُمَّه؟! قد كنتُ أرى أنَّ لك ورعاً، فإذاً ليس لك ورعٌ!).

فقال: جُعِلت فِداك! إنَّ أُمَّه سِنديَّة مُشركة.

فقال: (أما علمت أنَّ لكلِّ أُمَّة نكاحاً؟! تنحَّ عنِّي).

فما رأيته يمشي معه حتَّى فرَّق الموت بينهما (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج1.

١٤٣

الله يُحبُّ المُحسنين

كانت جارية لعليِّ بن الحسين (عليهما السلام) تسكب له الماء، فسقط الإبريق مِن يدها، فشجَّه، فرفع رأسه إليها، فقالت:

إنَّ الله تعالى يقول: ( ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ... ) (آل عمران: 134).

فقال: (كظمت غيظي).

قالت: ( ... وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ... ) .

قال: (عفوتُ عنك).

قالت: ( ... وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ... ) .

قال: (اذهبي، فأنت حُرَّة لوجه الله) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٤

إصلاح ذات بَيْنِ المُوالين لأبي عبد الله

عن أبي حنيفة سائق الحاج قال:

مَرَّ بنا المُفضَّل وأنا وخَتني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثمَّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعمئة درهم، فدفعها إلينا مِن عنده، حتَّى إذا استوثق كلُّ واحدٍ مِنَّا مِن صاحبه.

قال: أما إنَّها ليست مِن مالي، ولكنَّ أبا عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان مِن أصحابنا في شيءٍ أنْ أصلِح بينهما، وأفتديهما مِن ماله، فهذا مِن مال أبي عبد الله (عليه السلام) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٥

اتَّبع النبي لأفعاله الكريمة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنَّ عليَّاً صاحب رجلاً ذِميَّاً في طريق، فقال له: (الذِّمِّي أين تُريد يا عبد الله؟).

قال: أُريد الكوفة.

فلمَّا عدل الطريق بالذِّمِّي عدل معه عليٌّ، فقال الذِّمِّي له: أليس زعمت تُريد الكوفة؟!

قال: (بلى).

قال الذِّمِّي: فقد تركت الطريق.

قال عليٌّ (عليه السلام): (قد علمت).

فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟!

فقال له علي: (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيُّنا).

فقال له: هكذا أمركم؟!

قال: (نعم).

فقال الذِّمِّي: لا جَرَم، أنَّما اتَّبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أُشهدك أنِّي على دينك، فرجع الذِّمِّي مع عليٍّ، فلمَّا عرفه أسلم (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٦

صَدَّقَتني إذ كذَّبتم وآمنت بي إذ كفرتم

عن علي (عليه السلام) قال: ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) خديجة يوماً وهو عند نسائه وبكى، فقالت عائشة: ما يُبكيك على عجوز حمراء من عجائر بني أسد؟!

فقال: (صَدَّقتي إذ كذَّبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عَقمتم).

قالت عائشة: فما زلت أتقرَّب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذكرها (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٧

.. والله هذا يفي بدماء أهل الأرض!

قال أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام): (إنَّ رجلاً جاء إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) برجل يزعم أنَّه قاتل أبيه، فاعترف، فأوجب عليه القِصاص، وسأله أنْ يعفو عنه ليُعظِّم الله ثوابه، فكأنَّ نفسه لم تَطِبْ بذلك.

فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) للمُدَّعي للدَّم - الولي المُستحقُّ للقِصاص ـ: إنْ كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلاً فَهب له هذه الجناية واغفر له هذا الذنب.

قال: يا بن رسول الله، له عليَّ حَقٌ، ولكنْ لم يبلغ أنْ أعفو عن قتل والدي.

قال: فتُريد ماذا؟

قال: أُريد القَود، فإنْ أراد لحَقِّه عليَّ أنْ أُصالحه على الدِّيَّة صالحته وعفوت عنه.

فقال علي بن الحسين: فماذا حَقُّه عليك؟

قال يا بن رسول الله: لقَّنني توحيد الله ونبوَّة محمد رسول الله وإمامة عليٍّ والأئمَّة.

فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): فهذا لا يفي بدم أبيك؟! بلى - والله - هذا يفي بدماء أهل الأرض.

قال عليِّ بن الحسين للقاتل: أفتجعل لي ثواب تلقينك له حتَّى أبذل لك الدِّيَّة فتنجو بها مِن القتل؟

قال: يا بن رسول الله، أنا مُحتاج إليها وأنت مُستغنٍ عنها؛ فإنَّ ذنوبي عظيمة وذنبي إلى هذا المقتول أيضاً بيني وبينه لا بيني وبين وليِّه هذا.

قال علي بن الحسين (عليهما السلام): فتستسلم للقتل أحبُّ إليك مِن نزولك عن هذا التلقين قال: بلى - يا بن رسول الله ـ) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٨

حاجة المؤمن رحمة مِن الله لمَن طُلِبت منه

عن إسماعيل بن عمار الصيرفي قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعِلت فِداك! المؤمن رحمة على المؤمن؟

قال: (نعم).

قلت: وكيف ذاك؟

قال: (أيُّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنَّما ذلك رحمة مِن الله ساقها إليه وسبَّبها له، فإنْ قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإنْ ردَّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنَّما ردَّ عن نفسه رحمة مِن الله جَلَّ وعَزَّ ساقها إليه، وسبَّبها له وذخر الله عَزَّ وجَلَّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتَّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إنْ شاء صرفها إلى نفسه، وإنْ شاء صرفها إلى غيره.

يا إسماعيل، فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة مِن الله قد شُرعت له فإلى مَن ترى يَصرفها؟).

قلت: أظنَّ أنَّه لا يَصرفها عن نفسه.

قال: (لا تظنَّ، ولكنْ استيقن؛ فإنَّه لن يردَّها عن نفسه) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٤٩

خُذْها فإنِّي إليك مُعتذِر

قال الحسين (عليه السلام): (يا قَنبر، هل بقي مِن مال الحِجاز شيءٌ؟).

قال: نعم، أربعة آلاف دينار.

فقال: (هاتِها؛ جاءها مَن هو أحَقُّ بها منَّا).

ثمَّ نزع بُرْدَته ولفَّ الدنانير فيها، وأخرج يده مِن شَقِّ الباب؛ حياءً مِن الأعرابي وأنشأ:

خُذْها فإنِّي إليك مُعتذِر

واعلم بأنِّي عليك ذو شَفقة (1)

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٠

إيَّاكم والمُحقَّرات مِن الذنوب

قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرض قَرعاء ما بها مِن حَطب.

قال: فليأت كلُّ إنسان بما قَدِر عليه.

فجاءوا به حتَّى رموا بين يديه بعضه على بعضٍ.

فقال رسول الله: هكذا تجتمع الذنوب.

ثمَّ قال: إيَّاكم والمُحقَّرات مِن الذنوب؛ فإنَّ لكلِّ شيءٍ طالباً ألاَ وإنَّ طالبها يكتب) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥١

أنفقوا عليه مِن بيت المال

مَرَّ شيخ كبير مكفوف البصر يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما هذا؟).

قالوا: نصرانيٌّ.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (استعملتموه حتَّى إذا كَبر وعَجز منعتموه! أنفقوا عليه مِن بيت المال) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٢

مَن زار أخاً في الله مُحبَّاً له فقد زار الله ووجبت له الجَنَّة

قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إنَّ مَلَكاً لقيَ رجلاً قائماً على باب دار، فقال له: يا عبد الله، ما حاجتُك في هذه الدار؟

فقال: أخٌ لي فيها أردت أنْ أُسلِّم عليه.

فقال: بينك وبينه رَحمٌ ماسَّة أو نزعتك إليه حاجة.

فقال: ما لي إليه حاجة، غير أنِّي أتعهَّده في الله رَبِّ العالمين، ولا بيني وبينه رَحم ماسَّة أقرب مِن الإسلام.

فقال له المَلَك: إنِّي رسول الله إليك، وهو يُقرؤك السلام، ويقول لك:

إيَّاي زُرت، فقد أوجبتُ لك الجَنَّة.

وقد عافيتك مِن غَضبي ومِن النار، لحُبِّك إيَّاه فيَّ) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٣

اتَّبع عليَّاً وحزبه فإنَّه مع الحَقِّ والحَقُّ معه

لمَّا كان يوم صِفِّين، خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال؟

قال: (مَهْلاً رحمك الله).

فلمَّا كان بعد ساعة أعاد (عليه السلام) فأجابه بمِثله.

فأعاد ثالثاً، فبكى أمير المؤمنين، فنظر إليه عمار.

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّه اليوم الذي وصفني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنزل أمير المؤمنين عن بَغلته، وعانق عمار، وودَّعه.

ثمَّ قال: (يا أبا اليقظان، جَزاك الله عن الله وعن نبيِّك خيراً، فنِعْمَ الأخُ كنت ونِعْمَ الصاحب كنت).

ثمَّ بكى (عليه السلام) وبكى عمار ثمَّ قال: والله - يا أمير المؤمنين - ما تبعتك إلاَّ ببصيرة، فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم حُنين:

(يا عمار، ستكون بعدي فِتنة وإذا كان ذلك فاتَّبع عليَّاً وحزبه؛ فإنَّه مع الحَقِّ والحَقُّ معه) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٤

لاستجابة الدعاء لا بُدَّ مِن الطريق الذي أمر الله به

عن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) قال:

(مَرَّ موسى بن عمران برجل، وهو رافع يده إلى السماء يدعو الله، فانطلق موسى في حاجته، فغاب سبعة أيَّام، ثمَّ رجع إليه وهو رافع يده إلى السماء، فقال:

يا رب، هذا عبدك رافع يديه إليك يسألك حاجة مُنذ سبعة أيَّام لا تستجيب له.

[ قال: ] فأوحى الله إليه:

يا موسى، لو دعاني حتَّى تسقط يداه أو ينقطع لسانه ما استجبت له حتَّى يأتيني مِن الباب الذي أمرته) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٥

لا ترفع حاجتك إلاَّ إلى أحد ثلاثة..

جاء رجل مِن الأنصار يسأل أبا عبد الله حاجة، فقال (عليه السلام):

(يا أخا الأنصار، صِنْ وجهك عن بِذْلَة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإنِّي آتٍ فيها ما هو سارُّك إنْ شاء الله).

فكتب: يا أبا عبد الله، إنَّ لفلان عليَّ خمسمئة دينار وقد ألحَّ عليَّ، فكلِّمه يُنظرني إلى مَيسرة، فلمَّا قرأ الحسين (عليه السلام) الرُّقعة، دخل إلى منزله، فأخرج صُرَّة فيها ألف دينار، وقال (عليه السلام) له:

(أمَّا خمسمئة فاقض بها ذِمَّتك، وأمَّا خمسمئة فاستعن بها على دهرك؛ لا ترفع حاجتك إلاَّ إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دَيْن أو مُروءة أو حسب) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٦

إذا وجَدْنا بذلنا وإذا فقدنا شكرنا

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه مَرَّ يوماً على قوم، فرآهم أصحَّاء جالسين في زاوية المسجد، فقال (عليه السلام): (مَن أنتم؟).

قالوا: نحن المُتوكِّلون.

قال (عليه السلام): (لا، بلْ أنتم المُتأكِّلة، فإنْ كُنتم مُتوكِّلين، فما بلغ توكُّلكم؟).

قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا.

قال (عليه السلام): (هكذا تفعل الكلاب عندنا).

قالوا: فما نفعل؟

قال: (كما نفعل).

قالوا: كيف تفعل؟

قال (عليه السلام): (إذا وجَدْنا بذلنا، وإذا فقدْنَا شكرنا) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٧

لا تدعُ سِوى الله

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لمَّا أمر المَلِك بحبس يوسف في السِّجن، ألهمه الله تبارك وتعالى تأويل الرُّؤيا، فكان يُعبِّر لأهل السِّجن رؤياهم.

فقال صاحباه له: إنَّا رأينا رؤيا فعبِّرها لنا.

فقال: وما رأيتُما؟

قال أحدهما: إنِّي أراني أحمل فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه.

وقال الآخر: إنِّي رأيت أنَّي أسقي المَلِك خمر.

ففسَّر لهما رؤياهما بما في الكتاب، ثمَّ قال - للذي ظنَّ أنَّه ناجٍ منهما ـ: اذكُرني عند رَبِّك.

قال: ولم يفزع يوسف في حاله إلى الله فيدعوه، فلذلك قال الله تعالى: ( ... فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ... ) .

قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال الله ليوسف:

ألستُ الذي حبَّبتك إلى أبيك، وفضَّلتك على الناس بالحُسن؟! أوَ لستُ الذي سُقْت إليك السيَّارة وأنقذتك، وأخرجتك مِن الجُبِّ؟! أوَ لستُ الذي صرفت عنك كيد النِّسوة؟! فما حَمَلك على أنْ تدعو مَخلوقاً هو دوني؟! فالبث بما قلت بضع سنين ) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٨

.. وعِزَّتي وجَلالي لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤمَّلٍ غيري

عن محمد بن عجلان قال: أصابتني فاقة شديدة وضائقة، ولا صديق لمَضيق، ولزمني دَيْنٌ ثقيل وغَريم يُلحُّ بقضائه، فتوجَّهت نحو دار الحسن بن زيد - وهو يومئذٍ أمير المدينة - لمعرفة كانت بيني وبينه، وشَعر بذلك مِن حالي محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين، وكانت بيني وبينه قديمُ معرفة، فلَقيني في الطريق، فأخذ بيدي، وقال لي: قد بلغني ما أنت بسبيله ولا تسعف بطلبتك، فعليك بمَن يقدر على ذلك وهو أجود الأجودين، فالتمسْ ما تؤمله مِن قِبَله، فإنِّي سمعت ابن عمِّي جعفر بن محمد (عليهما السلام) يُحدِّث عن أبيه عن جَدِّه، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه: وعِزَّتي وجلالي، لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤمَّل غيري بالإياس، ولأكسونَّه ثوب المَذلَّة ولأُبعدنَّه مِن فَرَجي وفَضلي، أيؤمِّل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي؟! أو يرجو سواي وأنا الغنيُّ الجَواد؟!).

فقلت له: يا ابن رسول الله، أعِدْ عليَّ هذا الحديث، فأعاده ثلاثاً، فقلت: لا والله، لا سألت بعد هذا حاجة، فما لبثت أنْ جاءني الله برزق وفضل مِن عنده (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٥٩

.. اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين أبد..

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أُمِّ سَلمة في ليلتها، ففقدته مِن الفراش، فدخلها مِن ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت، حتَّى انتهت إليه، وهو في جانبٍ مِن البيت قائم رافع يديه يبكي، وهو يقول:

اللَّهمَّ، لا تنزع مِنَّي صالح ما أعطيتني أبداً.

اللَّهمَّ، ولا تكلني إلى نفسي طَرْفة عين أبداً.

اللَّهمَّ، لا تُشمِت بي عدوَّاً ولا حاسداً أبداً.

اللَّهمَّ، لا تُرِدْني في سوءٍ استنقذتني منه أبداً) (1) .

____________________

(1) شرح مكارم الأخلاق، ج2.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243