شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

مسألة الموت في المسيرة الحسينية:

0 المشاركات 00.0 / 5

مسألة الموت وطريقة التعامل معه من ابرز العناصر التي تدخل في تكوين ملحمة الطف في يوم عاشوراء.

وعاشوراء حدث متميز من بين الأحداث الكبيرة في التاريخ من هذه الزاوية.

فقد أعلن الحسين (عليه السلام) عند مغادرته الحجاز إلى العراق انه سوف يلقى مصرعه في هذه الرحلة: ( وخير لي مصرع أنا لاقيه... كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء)[1]

ونعى نفسه إلى الناس وطلب منهم أن يبذلوا مهجهم في هذا السبيل ويوطنوا معهم أنفسهم للقاء الله: (من كان باذلاً فينا مهجنه موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا)[2].

وبدأ خطابه العجيب هذا بتقديم صورة زاهية جميلة للموت، تمهيداً لدعوتهم إلى أن يسبذلوا له مهجهم، فقال (عليه السلام) في بدء حديثه: (خط الموت على ولد ادم مخط القلادة على جيد الفتاة)[3].

وعلى امتداد الطريق إلى كربلاء كان الحسين (عليه السلام) يصارح الناس ويصارح أصحابه أنهم سائرون إلى الموت الذي لابد منه، ولم يشك في ذلك أصحاب الحسين(عليه السلام) أنهم كانوا على يقين من هذا الأمر ما بعده يقين.

وكان عذر من يتخلف عن نصرة الحسين(عليه السلام) إلى الحسين أن نفسه لا تطيب بالموت، والشواهد على ذلك كثيرة في مسيرة الحسينـ إلى كربلاء، وهذه هي الصفة المميزة لحادث الطف.

فلسنا نمجد أو قلما نجد في قادة الحركات والثورات من يدعوا الناس إلى الموت،أنهم يدعون الناس إلى الحركة والثورة ويطلبون منهم أن يكونوا على استعداد لتقديم دمائهم للثورة كلما تطلب الأمر.

أما الحسين(عليه السلام) فله شأن آخر، انه لا يطلب في رحلته هذه فتحاً عسكرياً بالمعنى الذي يتصوره الناس، وإنما يريد أن يقدم على تضحية مأساوية فريدة في التاريخ يهز بها ضمير الأمة.

لقد وجد الحسين(عليه السلام) أن بني أمية تمكنوا من ترويض إرادة الناس وتطويعهم بعامل الإرهاب والترغيب وسلب إرادتهم، وفي هذا الجو حاول بنو أمية أن يستعيدوا قيم ومواقع الجاهلية في المجتمع الإسلامي الجديد، دون أن يجدوا مقاومة تذكر من ناحية الأمة، فكان لابد من هزة قوية لنفوس الناس تعيد إليهم إرادتهم السلبية، ولا تتم هذه الهزة القوية إلا بتضحية مأساوية فريدة في التاريخ، فاعد الحسين(عليه السلام) أهل بيته وأصحابه لمثل هذا المشهد المأساوي، وانطلاقاً من هذا الفهم قلت: أن هذه الصفة من الصفة المميزة لحادث الطف من الأحداث الأخرى في التاريخ.

ومن أعظم الخيانة للتاريخ أن نجرّد(عاشوراء) من هذه الصفة المميزة لها، فلا يبقى من عاشوراء إذا جردناها عن(الاستماتة)وطلب الشهادة إلا ثورة على النظام الأموي غير متكافئة مع قوة الظلم، فلم تنجح في تحقيق أهدافها كما كان يتوقع ذلك الذين كانوا ينصحون الحسين(عليه السلام) الاّ يخرج إلى العراق، ولم يكن الحسين(عليه السلام) يتهم أولئك في صدقهم في النصح.

لكن الإمام (عليه السلام) كان يرى ما لا يرون، ويريد ما لا يعرفون.

كيف يواجه الناس الموت

للموت شان كبير في حياة الناس، والناس أمام هذه الظاهرة الطبيعية من سنن الله تعالى القهرية في حياة طائفتان، طائفة وهي الأكثرية الساحقة من الناس يجزعون من الموت ويهربون منه، وطائفة وهي الأقلية من الناس يتحدون الموت ويشتاقون إليه ويستقبلون الموت.

ولهاتين الحالتين (الجزع من الموت، وتحدي الموت) شان كبير في تنظيم حياة الناس وتقرير مصيرهم، فالأمة التي تجزع من الموت لا تحوج الطغاة والجبابرة إلى جهد كبير لتطويقها وترويضها وتذليلها وتعبيدها لإرادتهم وسلطانهم، فيتحول حياتها إلى نوع من التبعية والانقياد إلى للطاغية والجبابرة والطغاة وبالتدريج يفقدون الوعي والفطرة ومقومات الحياة الكريمة، وهذه صور من الحياة.

والأداة التي تملك القدرة على تحدي الموت ولا تجزع منه وتملك القدرة على تجاوز الموت لا يمكن ترويضها وتذليلها لإرادة الطغاة والجبابرة، ولا يمكن مصادرة إرادتها ومقومتها.

وهذه صورة ثانية من الحياة، وفيما يلي نحاول أن نتوقف بعض الوقت عند هاتين الحالتين:

الحالة الأولى: الجزع من الموت:

الجزع من الموت ظاهرة واسعة في حياة الناس، ولهذه الظاهرة إثارة واسعة في المجتمع من حيث الحركة والمقاومة، وهذه الظاهرة تستحق أن نتوقف عندها وننظر، فيما يلي نستعرض إن شاء الله تعالى:

أسباب هذه الظاهرة أولاً.

وأثارها وأعراضها السلبية في المجتمع ثانياً.

والوسائل التربوية المفيدة لعلاج هذه الحالة في نفوس الناس ثالثاً.

أسباب الجزع من الموت:

(التعلق بالدنيا)من أهم أسباب الجزع من الموت، ولو أن إنساناً يعيش في الدنيا كما يعيش الناس ويتمتع بطبيعتها كما يتمتع الناس، ولكن قلبه لا يتعلق بالدنيا لا يخيفه الموت ولا يخرج منه إذا حلّ به، وسوف نتحدث عن هذه النقطة فيما يأتي إن شاء الله.

ومن أسباب الجزع من الموت أيضاً سوء الإعداد للآخرة، فيجزع الإنسان من أن يقدم على مرحلة جديدة من حياة خالدة لا تفنى، وهو لم يعدّ لها في حياته الدنيا إعداداً كافياً، والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة مخاطبة اليهود الذين كانوا يعتقدون أن الله يؤثرهم على غيرهم من الأمم وإنهم أولياء الله دون سائر الناس: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.

وقد روي في هذا المعنى عن الإمام الصادق(عليه السلام) : ((من أحب الحياة ذل))[4].

وتحليل هذه الرواية وتفسيرها أن حب الدنيا والتعلق بها من أسباب الجزع من الموت وهما وجهان لقضية واحدة واحدة، فمن أحب الدنيا جزع من الموت، وبينهما نسبة طردية دائماً، وهذه هي المعادلة الأولى.

والمعادلة الثانية أن من يجزع من الموت يذل، لأنه لا يملك القدرة على اتخاذ الموقف والقرار الصعب، وإذا عجز الإنسان عن اتخاذ الموقف والقرار الصعب كان آلة طيعة للمستكبرين وتبعاً لهم في الموقف والقرار، وهذا هو الذل الذي يحدثنا عنه الإمام الصادق(عليه السلام) في هذه الرواية.

وهو اختيار دقيق لدرجة إعداد الإنسان للآخرة في الدنيا، فكلما كان هذا الإعداد أكثر وأفضل كان جزع الإنسان من الموت أقل.

قال رجل لأبي ذرS : ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب.

قيل له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ قال: أما الحسين فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.

قيل: فكيف ترى حالنا عند الله؟

قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾[5].

قال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: أن رحمة الله قريب من المحسنين[6].

وروي في هذا المعنى أن احدهم سال الإمام الحسن(عليه السلام): ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟ فقال(عليه السلام): ((أنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فانتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب))[7]

الموقف

ومن المؤكد أن القوة والشجاعة والإقدام احد العنصرين اللذين يتكون منها الموقف، فان مقومات الموقف أمران: الوعي السياسي، والقوة والشجاعة، فإذا كان الجزع من الموت يضعف الإنسان فهو لا محالة يفقده القدرة على اتخاذ الموقف العملي في القضايا الصعبة، وقيمة الإنسان في ساحة المواجهة والصراع وليس في النية وعقد القلب وإنما في الموقف، وقد كان كثير من المسلمين في عصر الحسين(عليه السلام) لا يرتضون يزيد وأعماله ويكرهونه اشد الكره، ولكن الحسين(عليه السلام) حول هذه الكراهية وهذا الرفض إلى موقف عملي، وهذه هي قيمة عمل الإمام الحسين(عليه السلام).

الموقف هو تجسيد الرأي في فعل يبرز انتماء صاحبه إلى هذا الرأي، ويحقق دفاع صاحبه عن رأيه.

إن الناس جميعاً لا يرضون بالظلم، ولكن هناك من يبرز هذا الرفض في فعل ويعبر به عن رفضه، وهذا الفعل قد يكون الخروج عن الطاعة، وقد يكون الثورة وقد يكون التظاهر والاعتصام.

ومن الطبيعي ان الرفض وحده لا يكلف الإنسان شيئاً وإنما الموقف هو الذي يكلف الإنسان ويثقل كاهله، فالموقف هو الذي يتطلب الضريبة، وصاحب الموقف هو الذي يدفع الضريبة، ولكن لا بد أن نقول أن صاحب الرأي السلبي والرفض لا يغير مجرى التاريخ وإنما يغير مجرى التاريخ صاحب الموقف، والرفض والكراهية النفسية لا يحرك الناس وإنما الموقف هو الذي يحرك الناس.

وأخيراً فان المواجهة والصراع يعني الموقف.

انقلاب اللاموقف إلى الموقف المضاد.

إن مسألة الصراع لا تحتمل(اللاموقف) فإذا لم يتحمل الإنسان الموقف الصعب وضعف عن اتخاذ موقف محق، فلا يمكن ان يبقى من دون موقف إلى الأخير وإنما ينقلب اللاموقف في حياته إلى موقف مضاد.

والسبب في انقلاب اللاموقف إلى الموقف المضاد هو السبب في انقلاب الموقف إلى اللاموقف وهو الجزع من الموت.

فان الجزع من الموت إذا كان يدعو الإنسان إلى التخاذل من الحق إيثاراً للعافية فان الطاغية لا يتركه إلى الأخير عنصراً غير ذي لون ، وإنما يصبغه بصبغته ويسوقه إلى جانبه، ونفس السبب الذي أعجزه من اتخاذ الموقف الحق يعجزه عن الامتناع من الانحدار إلى الباطل، وبذلك يتم تصنيفه من جبهة الباطل، فان ساحة الصراع كما ذكرنا لا تترك الإنسان من دون تصنيف، فان لم يبادر الإنسان ليصنف نفسه ضمن جبهة الحق الذي يؤمن به فان الساحة تصنفه ضمن الخط الحاكم، فيكون عندئذ من جند الطاغية وإن كان قلبه ورأيه في اتجاه معاكس.

وهنا ينشطر الإنسان شطرين متعاكسين: رأيه (عقله) وعاطفته (قلبه) في اتجاه الحق، وموقفه موضعه الرسمي (إرادته) المعلن في اتجاه الباطل.

وهذه هي ظاهرة انفلاق الشخصية حيث تنشطر شخصية الإنسان إلى شطرين مختلفين، فيفقد الإنسان الانسجام في شخصيته ويتضارب ظاهره وباطنه.

سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم:

وهذا المفهوم يطرحه الأمام الحسين(عليه السلام)على جند ابن زياد في كربلاء يوم عاشوراء: ((سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم))[8] وهذا السيف الذي يذكره الإمام هو القوة والقدرة والسلطان. والإسلام هو الذي أعطاهم هذا السلطان، لقد كانوا امة ضعيفة معزولة في الصحراء فأعطاهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه القوة وهذا السلطان بإيمانهم، فهذا السلطان لرسول الله ولمن آمن برسول الله واخلص وسار على خط رسول الله ومن مع رسول الله وأهل بيته، كما صرح به(صلى الله عليه وآله) في أكثر من موقف، وهذا هو المعنى الأول لكلمة(سيفاً لنا في أيمانكم)، والمعنى الذي يستتبع المعنى الأول ان هذا السيف الذي جعلناه في أيمانكم لا بد أن تقاتلوا به أعدائنا وأعدائكم ولكنكم وضعتم هذا السيف فينا نحن أبناء رسول الله وخلفاؤه هذا السيف في خدمة أعدائنا.

وهذا هو التشخيص الدقيق الذي قدمه الفرزدق عن أهل الكوفة عندما سألة الإمام الحسين(عليه السلام) عما وراءه فقال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك[9]، فان أهل الكوفة كانوا في الأغلب علويين وقلوب العلويين كانت مع الحسين، ولكن سيوفهم انقلبت عليه(عليه السلام) ، وكثير من الذي خرجوا في جيش بن زياد لقتال الإمام الحسين(عليه السلام) كانوا يحبون الحسين وكانوا من الذين كتبوا اليه يطلبون منه أن يأتيهم.

والإنسان رأي (عقل) وعاطفة(قلب) حب وبغض وموقف(إرادة) وهذه الثلاثة عندما تكون منسجمة ومتكاملة يكون الإنسان قوياً، فإذا تخالفت وتضاربت ضعف الإنسان وأصبح بذلك أداة طيعة بيد الطغاة.

آخر مراحل التردد:

لقد فات الفرزدق أن يقول- وكان حرياً به أن لا يفوته ذلك- إن انسحاب الإنسان يبتدئ أولاً وثانياً من الموقف إلى اللاموقف ومن اللاموقف إلى الموقف المضاد المعاكس، هذه هي المرحلة الأولى والثانية من الردة، والمرحلة الثالثة أن الموقف المضاد يصادر الرأي والفكر ويوجه الإنسان ى الرأي الآخر وينمقه له، ويوجهه حتى يصادر الرأي إلى رأي معاكس، وينقلب(الحب) إلى (بغض) وينقلب البغض إلى الحب، وهذه هي المرحلة الأخيرة من الردة التي نسيها الفرزدق، وإذا غابت عن الفرزدق هذه المرحلة الأخيرة من الردة فان القرآن يسجلها بوضوح: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾[10].

ومن إساءة السوأى أن يحمل الإنسان المؤمن السيف على الله ورسوله وأولياء الله ويقاتلهم في الدفاع عن الطاغوت، فإذا فعل ذلك فان الله تعالى يسلب عنه التصديق والإيمان والوعي والرأي، فيكذب بآيات الله، وإذا كذب بآيات الله ورسوله وأوليائه عاداهم وابغضهم وهذه الردة الكاملة.

عودة الانسجام في الطرف المعاكس والانقلاب على الأعقاب:

وهكذا يعود الانسجام بين البؤر الثلاثة لشخصية الإنسان(العقل-القلب-الإرادة) أو(الرأي-العاطفة-الموقف)بعد أن انفلقت الشخصية واختلت وظهر عليها الارتباك والقلق، يعود الانسجام مرة أخرى إلى شخصية الإنسان ولكن هذه المرة في خط معاكس تماماً وفي اتجاه سلبي باتجاه عداء الله ورسوله وأوليائه.

الأطوار الثلاثة في حياة الإنسان:

ومن صور ذلك نجد أن هناك ثلاثة أطوار للإنسان:

الطور الأول: الانسجام بين القلوب والسيوف في اتجاه الحق.

الطور الثاني: التخالف بين القلوب والسيوف بين الحق والباطل.

الطور الثالث: الانسجام بين القلوب والسيوف في اتجاه الباطل.

الحالة الأولى:

حالة الانسجام بين القلوب بين القلوب والسيوف وهي حالة فطرية وسليمة وصحيحة، وفيها تجتمع البؤر الثلاثة(العقل- القلب- الإرادة) فيترجم العمل بالإرادة.

هذه الحالة بين الانسجام والاستقامة والقوة؛ لان اجتماع هذه البؤر الثلاثة يمنح الإنسان القوة، وهي حالة طبيعية وفطرية، وهذه البؤر الثلاثة تتبادل التأثير فيما بينها، وبعضها يؤثر في البعض الأخر.

ومن أثار هذه الحالة أن الإنسان يعيش مطمئناً لا يعاني من القلق؛ لان الراحة النفسية ليست في الأمن والرفاه وإنما في الانسجام بين البؤر الداخلية لشخصية الإنسان باتجاه الفطرة، ويتكامل الإنسان في هذه الحالة وينمو بصورة سوية.

الحالة الثانية:

هي حالة تخالف القلوب والسيوف عندما تخضع إرادة الإنسان لعامل ترغيب والترهيب من ناحية الطاغوت، والطاغوت يعمل لاحتلال البؤر الثلاثة جميعاً، وأول قلعة تسقط هي قلعة الإرادة تحت ضغط الإرهاب، وهذه هي بداية السقوط والمرحلة الأولى من الردة، ويبقى العقل والقلب مستقراً، إن أول انهيار يصيب الإنسان في مواقفه العملية والرسمية البارزة هو استسلامه لضغط الطاغوت.

والحالات التي ذكرناها سابقاً تنعكس، فيفقد الإنسان الراحة وحالة الاطمئنان والانسجام النفسي ويعاني من القلق وعدم الانسجام، ويضعف ويفقد صبغة الله في شخصيته ويفقد النمو، وهذه المرحلة هي مرحلة (الضعف) في شخصية الإنسان، ويعمل الضمير في استعادة التوازن والتعادل والانسجام فازا نجح فلا بد أن تعود الشخصية إلى توازنها وانسجامها، وإلاّ فإن الإنسان يسقط إلى المرحلة الثالثة ويدخل الضمير في صراع عنيف في المرحلة الثانية وينقسم الناس فيها إلى شطرين: شطر من نموذج شخصية (الحر) يملك ضميراً سليماً قوياً يعيده إلى الله مرة أخرى، وشطر من نموذج (عمر بن سعد) لا يملك الضمير القوي فيسقط إلى المرحلة الثالثة( المرحلة الثانية من السقوط).

الحالة الثالثة:

في هذه الحالة يعود الانسجام مرة أخرى بين البؤر الثلاثة ، ولكن في اتجاه السقوط والباطل، وكان الإنسان في داخله يطلب الانسجام فإذا لم يتمكن في اتجاه الحق وضعف الضمير من استعادة الانسجام في طرف الحق فان الانسجام يعود في طرف الباطل، فيكون قلب الإنسان وعقله باتجاه إرادته وعمله، وهذه هي مرحلة الصفر من سقوط الإنسان يستفرغ فيها(الطاغوت)و(الهوى) الضمير ويحتلان(العقل)و(القلب)، وعندئذ يحتل الطاغوت المعاقل الثلاثة جميعاً لشخصية الإنسان إضافة إلى استفراغ الضمير من كل ما أودع الله تعالى فيه من المقاومة، وهي حالة الصفر في شخصية الإنسان، وعندئذ تنقطع الرحمة الإلهية عن الإنسان؛ لان الرحمة تنزل على الضمير والقلب والعقل والإرادة، فإذا نفذت واستهلكت جميعاً وصودرت فلا يبقى موقع لنزول رحمة الله، وهذه حالة (الكفر)، وهناك حالة أخرى تحت الكفر(تحت الصفر)، وهي حالة (النفاق)، وفي هذه الحالة تعود السيوف إلى جانب الحق، ولكن للمكر بالحق وليست استجابة له، تبقى القلوب متعلقة بالباطل، وهذه الحالة تحت الكفر؛ لان القلوب لا تزال فاقدة في هذه المرحلة للإيمان والوعي والنور، يقول الله تعالى((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا))[11]

اثار ونتائج الجزع من الموت في المجتمع:

لظاهرة الجزع من الموت أثار سلبية واسعة على حياة الإنسان، فهي تسلب الناس القدرة على المقاومة وتمكن منهم الطاغية، وتستنفذ ما أودع الله تعالى في ضمائرهم من مقاومة وفي إرادتهم من قوة وفي نفوسهم من وعي، ومن ثم تستفرغ كل ما أودع الله تعالى في نفوس الناس من قيم وأخلاق وإرادة ومقاومة.

وهذه الحالة من الاستفراخ والاستنقاذ هي حالة الاستخفاف التي يذكرها الله تعالى في منهج تعامل الطغاة مع الناس((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ...))[12]، أن فرعون لم يكن يقدر على تطويع الناس لأرادته وسلطانه، لو لا انه استنفذ ما أودع الله تعالى في نفوسهم من قيم وأخلاق ومقاومة وإرادة وضمير، وعندئذ يكون وزن الإنسان خفيفاً، وينقلب إلى حالة عائمة من التبعية الكاملة للطاغية، وأساس هذه الحالة الإرهاب وهي الأداة المفضلة لدى المستكبرين،و(الجزع من الموت)و(الخوف) هو التربة الصالحة لزرع الإرهاب في المجتمع.

المناهج التربوية لمكافحة هذه الحالة:

واهم هذه المناهج منهجان:

تقصير الأمل غفي الحياة الدنيا.

تركيز الشؤون إلى لقاء الله تعالى.

وهما من أفضل المناهج التربوية لمكافحة حالة الجزع والرهبة من الموت، وهناك منهاج حركية لا يسعنا المجال لاستعراضها والحديث عنها.

والمنهج الأول هو تقصير الأمل في الدنيا، وترقيق العلاقة بالدنيا، فان شدة التعلق بالدنيا وطول الأمل فيها من اكبر الإصر والأغلال التي تعيق حركة الإنسان إلى الله، فإذا تحرر الإنسان منهم خف للقاء الله تعالى، ولم يرهبه الموت ولم يعبأ به وقع الموت عليه أو وقع هو على الموت كما قال علي الأكبر(عليه السلام) عندما قارب كربلاء: ((روى أبو مخنف عن عقبة بن سمعان قال: لما كان السحر من الليلة التي بات الحسين(عليه السلام) عند قصر بني مقاتل امرنا الحسين بالاستسقاء من الماء ثم امرنا بالرحيل، ففعلنا فلما ارتحلنا عن قصر بني مقاتل خفق برأسه ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ثم كررها مرتين أو ثلاثة، فاقبل إليه ابنه علي بن الحسين(عليه السلام) وكان على فرس له فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين يا أبت جعلت فداك مم استرجعت وحمدت الله؟ فقال الحسين(عليه السلام): يا بني إني خفقت براسي خفقة فعن لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم فعلمت إنها أنفسنا نعيت إلينا. فقال له: يا أبت لا أراك الله سوءاً السنا على الحق؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذن لا نبالي نموت محقين. فقال له: جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده))[13].

والمنهج الآخر تركيز الشوق إلى الله من خلال الموت، فان الموت للمؤمن نافذة إلى لقاء الله، ولقاء الله للمؤمنين لذة لا تفوقها لذة، والحياة الدنيا تحجبه عن لقاء الله، فإذا حل به الموت زال من بصره هذا الحجاب: ((... فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ....))[14]، وعندئذ ينظر المؤمن إلى أسماء الله وصفاته الحسنى وجلاله وجماله وجبروته وكبريائه تعالى من غير حجاب، وهو تعظم اللذات عند المؤمنين أين منها الجنة ونعيمها وحورها وما خلق الله فيها من نعيم.

وفي مكارم الأخلاق عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ((يا ابن مسعود قصر املك فإذا أصبحت فقل أني لا أمسي وإذا أمسيت فقل أني لا أصبح، واعزم عن مفارقة الدنيا، وأحب لقاء الله ولا تكره لقاءه فان الله يحب لقاء من يحب لقاءه ويكره لقاء من يكره لقاءه))[15].

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (( إن النور إذا دخل الصدر أنفسح، قيل: هل لذلك من علم يعرف به؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله))[16].

وعن علي(عليه السلام): ((شوقوا أنفسكم إلى نعيم الجنة تحبوا الموت وتمقتوا الحياة))[17]

الثانية- تحدي الموت:

ونذكر مشهداً واحداً من مشاهد تحدي الموت والاستماتة في الطف:

استعرض مشهداً واحداً من مشاهد الاستماتة والاستهانة بالموت والشوق إلى لقاء الله في الطف، وهو من أروع ما يعرفه التاريخ برواية السيد المقرم في (المقتل).جمع الإمام أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرم وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده، وقد أراد أن يكونوا على هدى وبينة من أمرهم، فقال لهم:

((اثني على الله أحسن الثناء، واحمده على السراء والضراء، اللهم أني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وجعلت لنا أسماعاً وأبصراً وأفئدة وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد فاني لا اعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت ابر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، إلا واني لأضن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فان القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني لهو عن طلب غيري))[18].

جواب أهل بيته:

لم يكاد يفرغ الإمام من كلماته حتى هيأت الصفوة الطيبة من أهل بيته، وهم يعلنون اختيار الطريق الذي يسلكه، ويتبعونه في مسيرته ولا يختارون غير منهجه، فانبروا جميعاً وعيونهم تفيض دموعاً قائلين:

((لم نفعل هذا؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً)).

بدأهم بهذا القول أخوه أبو الفضل العباس وتابعته الفتية الطيبة من أبناء الأسرة المحمدية، والتفت الإمام إلى أبناء عمه من بني عقيل فقال لهم:

((حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم)).

وهبت فتية آل عقيل تتعالى أصواتهم قائلين بصوت واحد:

((وما نقول للناس؟ تركن شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا،ونقاتل معك حتى نورد موردك فقبح الله العيش بعدك))[19].

جواب أصحابه:

انبرى مسلم بن عوسجة ودموعه تنحدر على وجهه وخاطب الإمام قائلاً:

((انحن نخلي عنك، وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى اطعن في صدورهم برمحي، واضرب بسيفي ما ثبت قائمه في بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك)).

وتكلم سعد بن عبد الله الحنفي قائلاً: ((والله لا نخليك حتى يعلم الله انا قد حفظنا غيبة رسوله فيك... أما والله لو علمت أني اقتل ثم أحيا ثم احرق ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا افعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً)).

وقال زهير(ره): ((والله وددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت حتى اقتل كذا ألف مرة، وان الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك....)).

وانبرى بقية أصحاب الإمام فأعلنوا الترحيب بالموت في سبيله والتفاني في الفداء من اجله فجزاهم الإمام خيراً[20]، وأكد لهم جميعاً أنهم سيلاقون حتفهم فهتفوا جميعاً:

((الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟)).

لقد اختبرهم الإمام فوجدهم من خيرة الرجال صدقاً ووفاءً، قد أشرقت نفوسهم بنور الإيمان، وتحرروا من جميع شواغل الحياة، وكانوا- فيما يقول المؤرخون- في ظمأ إلى الشهادة ليفوزوا بنعيم الآخرة.

وقال محمد بن بشير الحضرمي وكان قد بلغه أن ابنه قد اسر بثغر الري، فقال: ما أحب أن يؤسر ابني وأنا أبقى بعده حيا، فاستشعر الإمام من هذه الكلمات رغبته في إنقاذ ابنه من الأسر فأذن له التخلي عنه قائلاً: أنت في حل فاعمل في فكاك ولدك، فقال:

((أكلتني السباع حياً أن فارقتك....))[21].

فلما استوثق الحسين من إقبالهم على الموت وعزمهم على الشهادة في سبيل الله قال لهم: (( ياقوم أني غداً اقتل، وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد، فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، او لا نرضى ان نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟ فقال: جزاكم الله خيراً، ودعا لهم بالخير.

فقال له القاسم بن الحسن(عليه السلام) : وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه ، فقال: يا بني كيف الموت عندك؟ فقال: يا عم أحلى من العسل.

فقال: أي والله فداك عمك، انك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو بلاء عظيم، وابني عبد الله(الرضيع) ))[22].

 

ــــــــــــــــــ

 

[1] مقتل الحسين (عليه السلام) (للمقرم): 193.

[2] المصدر السابق: 194.

[3] مقتل الحسين(عليه السلام): (للمقرم): 193.

[4] بحار الأنوار 6: 128، الحديث14.

[5] سورة الانفطار: 13-14.

[6] بحار الأنوار 6: 137، الحديث42.

[7] بحار الانوار6: 129، الحديث18.

[8] مقتل الحسين(عليه السلام)(المقرم):286.

[9] انظر المصدر السابق: 203.

[10] الروم: 10.

[11] سورة النساء: 145.

[12] سروة الزخرف: 54.

[13] إبصار العين في أنصار الحسين (للشيخ السماوي):21-22.

[14] سورة ق: 22.

[15] مكارم الاخلاق: 452، الباب :12،الفصل:4.

[16] كنز العمال:1:76، الحديث302.

[17] غرر الحكم:413، الفصل:42، الرقم:25.

[18] ابن الاثير4: 57، طبعة بيروت 1965م، المنتظم لابن الجوزي، وروي كلامة بصورة اخرى، فقد جاء في مقتل الحسين لعبد الله انه (عليه السلام)قال: انتم في حل من بيعتي فالحقوا في عشائركم ومواليكم، وقال لاهل بيته: قد جعلتم في حل من مفارقتي فانكم لا تطيقونهم لتضاعف اعدادهم وقواهم، وما المقصود عيري فدعوني والقوم فان الله عز وجل يعينني ولا يخليني من حسن نظره كعادته مع اسلافنا الطيبين، ففارقه جماعة من معسكره فقال له اهله: لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وانا اقرب ما نكون الى الله اذا كنا معك، فقال لهم: ان كنتم وطنتم انفسكم على ما وطنت نفسي عليه، فاعلموا ان الله انما يهب المنازل الشريفة لعباده لاحتمال المكاره، وان الله كان خصني مع من مضى من اهلي الذين انا اخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل علي معها احتمال المكروهات، فان لكم شطراً من كرامات الله، واعلموا ان الدنيا حلوها ومرها حلم والانتباه في الاخرة والفائز من فاز فيها والشقي من شقي فيها.

[19] تاريخ ابن الاثير 4:58.

[20] المنتظم 5: 179، تاريخ الطبري6: 239.

[21] تاريخ ابن عساكر 13: 54، وتهذيب التهذيب 1: 150، ومقتل الحسين(عليه السلام) (للمقرم) 165-170.

[22] نفس المفهوم (للمحدث القمي): 230.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية