الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 77770
تحميل: 4794

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77770 / تحميل: 4794
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول: إذا فقوله إنّ النّبيّ غلب عليه الوجع حقّ لا شكّ فيه، وساعتها يغدو قوله تعالى( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحَى ) عرضة لطعن أعداء الإسلام في القرآن الكريم، لأنّ الذي يهجر ينطق عن الهوى، وأيّ هوى!

وأمّا زعمهم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعمر: ما لقيك الشّيطان سالكا فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك فيردّه ما وقع يوم خيبر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب.

( وَإِذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِي‏ءٌ مِنكُمْ إِنّي أَرَى‏ مَالاَتَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(1) . وكذلك فعل عمر بن الخطاب كما شهد به على نفسه، ونكص على عقبيه، ولابد والحال هذه أن يكونا في فجّ واحد.

قالوا: ومناقبه كثيرة، وأوصى إليه أبوبكر بالخلافة فأقام فيها عشر سنين ونصفا واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وهو ابن ثلاث وستّين سنة على الصحيح الذي جزم ابن إسحاق والجمهور، وصحّ ذلك عن معاوية وأنس. وقيل خمس وستّون، وقيل ستّ وستّون، وقيل واحد وستّون، وقيل ستّون وقيل تسع وخمسون، وقيل سبع وخمسون، وقيل ستّ وخمسون، وقيل خمس وخمسون. والذي طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة فاستجاب الله دعاءه لأنّه كان يدعو (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتا في بلد نبيّك) كما رواه البخاريّ في صحيحه.

أقول:

بغضّ النظر عن اختلافهم في سنّه يوم وفاته، فقد عرض الله عليه الشّهادة في مواطنها في بدر وأحد وحنين وخيبر ففضّل الفرار بجلده! ولو كان صادقا في طلبها لفعل فعل حمزة وجعفر! وقد كان بينه وبين أبي بكر كلام فقال له أبوبكر بالحرف الواحد:

____________________

(1) الأنفال: 48.

١٢١

أجبّار في الجاهليّة خوّار في الإسلام).

وعن أبي إسحاق قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول كان ابن عمر في زمانه أفضل من عمر في زمانه(1) .

وعن هشام عن محمّد قال: كان الرّجل يقول للرّجل غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة عزله عن البصرة واستعمله على الكوفة(2) !

أقول:

هكذا كان يتفكّه النّاس بسيرة عمر مع المغيرة بن شعبة.

عمر في عالم الرؤيا

أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنّ العبّاس قال: سألت الله حولا بعد ما مات عمر أن يرينيه في المنام، فرأيته بعد حول وهو يسلت العرق عن جبينه، فقلت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ما شأنك؟ فقال: هذا أوان فرغت وإن كاد عرش عمر ليهدّ لو لا أنّي لقيت رؤوفا رحيما(3) .

أقول:

من يعرف طبيعة العلاقة بين العباس بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب لا تخفى عليه معالم الوضع في هذا الخبر.

وقال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في منامي أبابكر حزينا فسألته عن شأنه فقال: وكلّ بي هذان لمحاسبتي، وإذا صحف يسيرة. ورأيت عمر كذلك وإذا صحف مثل الحزورة(4) . ورأيت عثمان كذلك وإذا صحف مثل الخندمة، ورأيتك يا معاوية وصحفك مثل أحد وثبير. فقال له معاوية: أرأيت ثمّ دنانير مصر؟(5) .

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين، ج 3 ص 644.

(2) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج 60 ص 41.

(3) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج 1 ص 146.

(4) الحزورة والخندمة وثبير مواضع بمكة المكرمة، كما في تاج العروس.

(5) معجم ما استعجم، ج 1 ص 445.

١٢٢

قال السّيوطي: وأخرج (ابن عساكر) أيضا عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى عمر في المنام فقال كيف صنعت؟ قال: متى فارقتكم؟ قال: منذ اثنتي عشرة سنة. قال: إنّما أنفلت الآن من الحساب(1) .

وعن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر أنّه قال: (ما كان شيء أحبّ إليّ أن أعلمه من أمر عمر، فرأيت في المنام قصرا فقلت لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطّاب، فخرج من القصر عليه ملحفة كأنّه قد اغتسل فقلت كيف صنعت؟ قال: خيرا؛ كاد عرشي يهوي بي لو لا أنّي لقيت ربّا غفورا! فقال: منذ كم فارقتكم؟ فقلت: منذ اثنتي عشرة سنة، فقال: إنّما انفلت الآن من الحساب.

أقول:

مرّ بك هذا الكلام رواية عن العباس، وهو ههنا عن ابن عمر، بلا زيادة ولا نقص، والمقصود به الشّهادة لعمر بن الخطّاب بالنّجاة؛ وقد كان عمر بن الخطّاب نفسه يقول أنّه لا يشهد لأحد بالنّجاة باستثناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر! ثمّ ما هو هذا الحساب الذي يتحدّث عنه؟ هل هو حساب يعفيه من خصومة فاطمة وعليّ عليه السلام؟ وهل يعفيه من خصومة صبيغ بن عسل ونصر بن حجاج وغيرهما؟ ولا أدري ما الذي أقوله بخصوص بارة (فخرج من القصر عليه ملحفة كأنّه قد اغتسل..)!

إنّه لمن السّهل توزيع القصور والجنان في عالم المنامات، لكنّ الواقع لا يخضع لذلك، ولا يقبل به، وإنما يخضع لقوانين وسنن حدّدها القرآن الكريم لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (2) ، والذي يغفل عنه كثير من المدافعين عن جيل الصّحابة هو أنّ الصّحابة لن يكونوا يوم القيامة صحابة ولا خلفاء، وإنّما يكونون ناسا كبقية النّاس تجري عليهم أحكام الإسلام

____________________

(1) تاريخ الخلفاء ج 1 ص 146.

(2) إبراهيم: 51.

١٢٣

بتفاصيلها؛ وقد مرّ بك الحديث الذي يقول: (لا أراه ينجو منهم إلا مثل همل النّعم)، فما هو هذا العمل الذي يقلّل نسبة النّاجين منهم إلى ذاك المستوى؟

١٢٤

الفصل الثالث

إسلام عمر بن الخطّاب

١٢٥

١٢٦

إسلام عمر

هذه قصّة جديرة بالتأمّل تتعلّق بعمر بن الخطاب قبل الإسلام. قال الماوردي الشافعي: ومن بشائر هتوفهم: ما رواه إبراهيم [..] عن ابن عبّاس أنّ عمر بن الخطّاب حدّث يوما في مجلس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: خرجنا قبل مظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه ونحن نفر، فلمّا ذبحناه وتصابّ دمه ومات، إذ صاح من جوفه صائح يا زريح، صائح يصيح، بصوت فصيح، نبيّ يظهر الحقّ يفيح، يقول لا إله إلا الله؛ فصاح كذلك ثلاث مرّات ثمّ هدأ صوته وتفرّقنا ورعبنا منه فلم يلبث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ظهر(1) .

أقول:

هذه القصّة تفيد أنّ عمر بن الخطّاب كان يعلم ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبعث، فكان المفروض أن يكون من المنتظرين لبعثته والمسارعين إليها حين تحقّقها. لكن التّاريخ يحدّثنا بعكس ذلك، فقد تأخّر إسلام عمر وأسلم قبله ابنه(2) وأخته وختنه وناس كثير، فما الذي أبطأ به؟!

وقال ابن عاشور في تفسيره: كان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطّاب كافرين، وكان كلاهما يدفع النّاس من اتّباع الإسلام، ولكنّ الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن، وذلك من الكيد؛ وعمر كان يصرف النّاس بالغلظة علنا دون اختلاق(3) .

أقول: وهذا صريح في أنّه كان يصرف النّاس عن الإسلام بالغلظة وهو يعلم ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سبق بيانه. وفرق كبير بين من يعلم ومن لا يعلم. فكيف يصبح أفضل من الذين لم يصدوا عن سبيل الله لحظة واحدة لمجرّد أنه أسلم. فإنّ الإسلام الذي

____________________

(1) أعلام النبوة، الماوردي الشافعي، ج 1 ص 186.

(2) مستدرك، الحاكم، ج 3 ص 647 رقم 6377: وعند عبد الجبّار بن عمر عن ابن شهاب قال: أسلم عبد الله بن عمر قبل أبيه.

(3) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 1 ص 2400.

١٢٧

يجبّ ما قبله لا يبخس الناس أشياءهم. فيكون عمر ساوى من عذّبهم في الإسلام لكنهم فضلوه بأنهم لم يتلبسوا بفعل المضلين عن سبيل الله الذين يفتنون الناس في دينهم.

وقال أيضا: كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة، كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لقي من عمر بن الخطّاب(1) .

قال محمد بن سعد في خبر إسلام عمر:... قال [عمر] فلعلّكما قد صبوتما؟ قال: فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحقّ في غير دينك؟ قال: فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمي وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر! إن كان الحقّ في غير دينك؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله! فلمّا يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. قال: وكان عمر يقرأ الكتب! فقالت أخته إنّك رجس ولا يمسّه إلا المطهّرون فقم فاغتسل(2) .

أقول:

إن صحّ قولهم كان عمر يقرأ الكتب فهذه حجّة أخرى في ذمّته، لأنّه ليس من علم كمن لم يعلم، فإن يكن قد قرأ بعض الكتب فقد قرأ في ما قرأ أخبارا وإخبارا بخصوص بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهو يختلف عن غيره من المشركين الذين لم يكن لديهم خبر عن ذلك.

قال البغوي: قوله تعالى( يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال سعيد بن جبير: أسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وستّ نسوة، ثمّ أسلم عمر بن الخطّاب فتمّ به الأربعون فنزلت هذه الآية(3) .

قال ابن عاشور: وهذه الجملة تفيد بيان مزيّة المؤمنين الذين تحمّلوا الأذى من

____________________

(1) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 1 ص 1327.

(2) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 3 ص 268.

(3) تفسير البغوي، ج 1، ص 374.

١٢٨

المشركين وصبروا عليه ولم يؤاخذوا به من آمن ممّن آذوهم مثل أخت عمر بن الخطّاب قبل إسلامه، ومثل صهره سعيد بن زيد، فقد قال (لقد رايتني وإنّ عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر) فكان في صبر سعيد خير دخل به عمر في الإسلام(1) .

أقول:

فأين الأذى الذي تحمّله عمر في سبيل الإسلام؟ وهل كان من الممتحنين في شعب أبي طالب؟!

قال [ابن عاشور]: والمؤمنات المفتونات منهنّ: حمامة أمّ بلال أمة أميّة بن خلف، وزنيرة، وأمّ عنيس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث، والنّهديّة وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفة , ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطّاب قبل أن يسلم، كان عمر يضربها، وسميّة أمّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل(2) .

أقول:

ومع ذلك تقضي ثقافة الكرسيّ أن يكون من عذّب المسلمين لأجل الإسلام أفضل عند الله من المسلمين الذين تعذبوا على يديه! بأيّ دليل؟ وبأيّ معيار؟ بدليل واحد هو أنّه تربّع على كرسي الحكم ولم يتربّعوا!

قال ابن الأثير: ومنهم: لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطّاب، وكان عمر يعذّبها حتى تفتن ثمّ يدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة! فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم؛ فاشتراها أبوبكر فأعتقها. ومنهم: زنيرة وكانت لبني عديّ، وكان عمر يعذّبها؛ وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبو جهل يعذّبها حتى عميت فقال لها: إنّ اللات والعزّى فعلا بك، فقالت: وما يدري اللاّت والعزّى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السّماء وربّي قادر على ردّ بصري، فأصبحت من الغد وقد ردّ الله بصرها فقالت قريش: هذا من سحر محمّد! فاشتراها أبو

____________________

(1) التحرير والتنوير، ج 1 ص 3883.

(2) التحرير والتنوير، ج 1 ص 4784.

١٢٩

بكر فأعتقها(1) .

وفي لباب النّقول عن الضّحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية( أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) حيث قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ أعزّ دينك بعمر بن الخطّاب أو بأبي جهل بن هشام، فهدى الله عمر وأضلّ أبا جهل ففيهما أنزلت(2) .

أقول:

أما أبو جهل فقد كانوا يقولون عنه: (مصفّر استه)(3) ، ولا يمكن أن يكون مثل هذا مصدرا للعزّ، وعلى وجه الخصوص عزّ الإسلام! وأما عمر بن الخطّاب فيبقى الحكم للقارئ بعد إنهاء قراءة هذا الكتاب.

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمّه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنّا لنرحل إلى أرض الحبشة فقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه حتّى وقف عليّ وهو على شركه، وكنّا نلقى منه البلاء والشّدّة علينا (!) فقال: إنّه الانطلاق يا أمّ عبد الله؟ فقلت: نعم والله، لخرجنّ في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتّى يجعل الله لنا مخرجا. فقال: صحبكم الله؛ ورأيت له رقّة لم أكن أراها، ثمّ انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة من حاجته تلك فقلت: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقّته وحزنه علينا! قال: فتطمعين في إسلامه؟ قلت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيت حتّى يسلم جمل الخطّاب! قال يائسا منه، ممّا كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام(4) .

وعن حصين عن هلال بن يساف قال: أسلم عمر بن الخطّاب بعد أربعين رجلا

____________________

(1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 2 ص 69.

(2) لباب النقول، السيوطي، ج 1 ص 181.

(3) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 8 ص 44، ومجمع الزوائد، ج 6 ص 71 ومجمع الزوائد، ج 6 ص 7، وتفسير الصنعاني، ج 2 ص 253، ومصنف عبد الرزاق، ج 5 ص 351 ومسند البزار ج 2 ص 279 وتاريخ مدينة دمشق ج 38 ص 241 ج 38 ص 249 وج 38 ص 254.

(4) المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 4 ص 58 و 59.

١٣٠

وإحدى عشرة امرأة(1) .

وقالوا في ترجمة زيد بن الخطّاب: أخو عمر، كان قديم الإسلام، وشهد بدرا، واستشهد باليمامة سنة اثنتي عشرة(2) .

أقول:

وهذا يعني أنّ زيدا أسلم قبل أخيه عمر. وبناء على ما سبق من كون أخته وابنه أسلما قبله يكون عمر بن الخطّاب هو آخر آل الخطّاب إسلاما! وشهد زيد بن الخطّاب بدرا في قلب الهجوم وشهدها عمر على كرسيّ الاحتياط.

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمّه ليلى قالت: كان عمر بن الخطّاب من أشدّ النّاس علينا في إسلامنا(3) .

وعن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول قد أسكنهم الغرف قبل أن يطيعوه وأدخلهم النّار قبل أن يعصوه، وقد كان عمر بن الخطّاب يحمل الطّعام إلى الأصنام والله تعالى يحبّه [!] ما ضرّه ذلك عند الله طرفة عين(4) .

أقول:

( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ ) ، انظر إلى أي مستوى بلغ بهم سوء الأدب مع الله تعالى، وإلاّ فكيف يقبل عاقل موحّد أن يكون الله تعالى محبّا للمشرك حال شركه؟! أوليس هو الذي قال في الكتاب الكريم( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ؟! فكيف يصف الله تعالى المشرك أنّه (نجس) ويحبّه حال شركه؟ وهل هناك عاقل يحبّ النّجس؟ وعلى كل حال لم يدّع عمر بن الخطّاب يوما أنّ الل تعالى يحبّه. وقد رووا عن علي عليه السلام أنّ رسول الله قال: (يا فاطمة، إنّ الله عز وجلّ يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) أخرجه أبو سعد في (شرف النّبوة) والإمام عليّ بن موسى الرضا في مسنده وابن المثنّى

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة، ج 7 ص 12 تحت رقم 33866 وتهذيب التهذيب، ج 7 ص 386.

(2) تقريب التهذيب ج 1: ص 223 تحت رقم 2134.

(3) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج 6 ص 23 والمعجم الكبير، الطبراني، ج 25 ص 29.

(4) حلية الأولياء، ج 9 ص 257.

١٣١

في معجمه(1) . وعليه تغدو محبّة الله تعالى لعمر حال شركه أو إسلامه صعبة الإثبات، لأنّ فاطمة عليها السلام خرجت من الدّنيا غاضبة عليه. وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا: (من أغضبها فقد أغضبني)(2) . وقد أغضبها عمر بن الخطاب فتحقّق منه الأذى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالوا: استدلّ به السّهيلى على أنّ من سبّها(3) كفر وأنّها أفضل من الشّيخين. قال ابن حجر فيه نظر(4) .

أقول:

كلّ ما من شأنه أن يشكّك في منزلة الشّيخين ففيه نظر عند ابن حجر وأتباع مدرسته، حتّى لو كان قرآنا فإنّه يجب تأويله بما ينسجم مع نظريّة أفضليّة الأربعة على التّرتيب والعشرة المبشّرين بالجنّة. وإلاّ فلماذا لم يخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشّيخين إلى المباهلة يوم وفد نجران؟!

سوء الأدب بمحضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لعلّ بعض القرّاء يصدمون إذا اكتشفوا أنّ بعض الصّحابة كانوا يقولون الكلام الفاحش البذيء أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعتذرون من ذلك إلاّ إذا رأوا منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعراضا يخشون أن يسقطهم نهائيّا من أعين النّاس.

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان [رسول الله] بعرق الظبية - قال ابن هشام الظبية عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له النّاس سلّم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. فسلّم عليه ثم قال:

____________________

(1) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ج 1 ص 39.

(2) صحيح البخاري ج 3 ص 1361 وصحيح البخاري ج 3 ص 1374 والجمع بين الصحيحين ج 3 ص 372 وسنن النسائي الكبرى ج 5 ص 97 وسنن النسائي الكبرى ج 5 ص 148 ومصنف ابن أبي شيبة ج 6 ص 388 والآحاد والمثاني ج 5 ص 361 والمعجم الكبير ج 22 ص 404 وخصائص علي ج 1 ص 147 وفضائل الصحابة للنسائي ج 1 ص 78 وفيض القدير ج 4 ص 421.

(3) أي فاطمة عليها السلام.

(4) فيض القدير ج 4 ص 421.

١٣٢

إن كنت رسول الله فأخبرني عمّا في بطن ناقتي هذه، فقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبل عليّ فأنا أجيبك عن ذلك، نزوت عيها ففي بطنها منك سخلة! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه، أفحشت على الرّجل، ثمّ أعرض عن سلمة(1) ..

أقول: وقد تصرّفوا في نقل القصّة وفق ما تقتضيه عدالة جميع الصّحابة، فحذف كلّ ناقل ما استبشعه، لكن لم يمكنهم حذف الكلام البذيء الذي تفوّه به سلامة بن وقش، لاستلزامه حذف كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعلّ ذلك مما دعاهم إلى عدّ سلمة بن سلامة بن وقش ضمن المنافقين في ما بعد(2) .

وروى البخاري وغيره (بخصوص صلح الحديبية) قال: قال عروة عند ذلك: (أي محمّد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنّي والله لا أرى وجوها، وإنّي لأرى أشوابا من النّاس خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكررضي‌الله‌عنه : امصص ببظر اللاّت أنحن نفرّ عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك)(3) .

أقول:

وإن تعجب فعجب قول الشّوكاني (وفيه جواز النّطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحقّ به ذلك)! لكنّ ابن الجوزي استبشع العبارة فأبهم ولم يصرّح بأبي بكر بل قال: قال رجل من الصّحابة لبعض الكفّار (امصص ببظر اللاّت)، والبظر ما

____________________

(1) السيرة النبوية، ابن هشام، ج 3 ص 160.

(2) وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 531 - 532: (وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا وقف على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر على ناقة له عشراء فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له رجل من الأنصار: دع عنك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهلم إليّ حتى أخبرك وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال إن الله يحب كل حي كريم متكرم ويبغض كل لئيم متفحّش). والقصة أيضا في المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 472 ودلائل النبوة ج 3 ص 106 والسيرة الحلبية ج 2 ص 385 وسمط النجوم العوالي ج 2 ص 47 و تاريخ الإسلام ج 2 ص 106.

(3) صحيح البخاري، ج 3 ص 975، وصحيح ابن حبان، ج 11 ص 220 والنهاية في غريب الأثر ج 1 ص 138، ونيل الأوطار، ج 8 ص 197.

١٣٣

عند القطع(1) . وفي النّهاية في حديث الحديبية (امصص ببظر اللاّت البظر بفتح الباء الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان)(2) .

فهل يستطيع عاقل تفسير هذه العبارة لأحد أولاده أو أقاربه؟ وهل يستطيع شرح ذلك للتّلاميذ إن كان مدرّسا؟!

لا شكّ بعد هذا أنّ المعاصرين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكونوا يعرفون له حرمته؛ والكلام السّابق ومحلّ التّلفّظ به - بحضرة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خير دليل على ذلك.فمن زعم أنّ الأمر كان على خلاف ذلك فليبيّن!

في تفسير البغوي: عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عبّاس عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه فلما قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلّي على ابن أبيّ بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا وكذا؟ أعدّد عليه قوله فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: أخّر عنّي يا عمر؛ فلمّا أكثرت عليه قال: إنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إن زدت على السّبعين يغفر له لزددت عليها. قال: فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انصرف فلم يمكث إلاّ يسيرا حتّى نزلت الآيتان من براءة:( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى‏ قَبْرِهِ ) إلى قوله:( وَهُمْ فَاسِقُونَ ) قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم(3) .

أقول:

الحديث وارد في صحيح البخاريّ(4) ومضمونه أنّه لما أراد النّبيّ الصّلاة على جنازة عبد الله بن أبيّ قال له عمر: أتصلّي عليه وقد قال كذا وكذا؟ أليس قد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟ ويدلّ مضمون الحديث على أنّ النّهي عن الصّلاة على

____________________

(1) غريب الحديث لابن الجوزي ج 1 ص 77. وصحيح ابن حبان ج 11 ص 220.

(2) النهاية في غريب الأثر ج 1 ص 138.

(3) تفسير البغوي، ج 1 ص 81.

(4) صحيح البخاريّ، ج 7 ص 36، دار الفكر بيروت 1401 هـ.

١٣٤

المنافقين الذي ورد في( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ ) نزل بعد هذه القصّة التي دارت بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين عمر. وقد أثبتوا - من باب الموافقات - في الحديث أنّ الآية( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً ) نزلت بعد هذه الواقعة... فإذا كان ذلك كذلك، فمن أين اطّلع عمر على النهي قبل أن يطّلع عليه من يتنزّل عليه الوحي؟ كيف علم عمر أنّ الله تعالى نهى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية المشتملة على النّهي لم تكن قد نزلت بعد؟! ومن أين أتى عمر بهذا النّهي؟ ومثل هذا النّهي حكم شرعيّ وإنّما تتنزّل الأحكام على صاحب الشّريعة؛ والذين ذهبوا إلى الاستدلال بقوله تعالى( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ... ) (1) يعلمون أنّه لا يليق بمن هو رحمة للعالمين إلاّ أن يكون بالمستوى اللاّئق لذلك، وهو إنّما يتألّف الآخرين بسلوكه تلك الطّريقة مع عبد الله بن أبيّ بن السّلول، عسى أن تلين قلوبهم لما يرون من رحمة من خلال تلك الصّلاة.

وعن أبي عطيّة أنّ رجلا توفّي على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال بعضهم يا رسول الله لا تصلّ عليه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل منكم من أحد رآه على شيء من أعمال الخير؟ فقال رجل: حرس معنا يا رسول الله ليلة كذا وكذا. فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشى إلى قبره فجعل يحثو عليه التّراب ويقول: إنّ أصحابك يظنّون أنّك من أهل النّار، وأنا أشهد أنّك من أهل الجنّة ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعمررضي‌الله‌عنه : إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس، وإنما تسأل عن الغيبة(2) .

أقول:

هذه واقعة ينبغي التوقف عندها والتّأمل بعين البصيرة واستحضار عظمة الله تعالى حين الحكم، فإنّ من أبغض الأمور إلى الله تعالى الحكم بالهوى، وهو الأمر الذي جلب لبني إسرائيل اللعن على لسان داوود وعيسى بن مريم. لدينا في هذه القصة شهادة

____________________

(1) التوبة: 80.

(2) الاستيعاب، ابن عبد البر، ج 4 ص 1716.

١٣٥

من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصّحابي المتوفّى يشهد له فيها بالجنة والنّجاة، ولدينا في نفس الواقعة شهادة عمر عليه بخلاف ذلك؛ وشهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستندة إلى ما يريه الله تعالى وإلى ارتباطه الدائم بعالم الغيب. فإلام تستند شهادة عمر؟ وقد أمر النّاس في الإسلام بحسن الظّن، كما أمروا أن يذكروا موتاهم بخير. والاختلاف بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين عمر بن الخطاب في هذه القضية واضح لا يحتاج إلى بيان، ولا يمكن بحال من الأحوال الجمع بين السلوكين، فمن شاء فليقتد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن شاء فليقتد بعمر؛ وأقول مرة أخرى: الجمع بينهما لا يستقيم في العقول. ثمّ ما أعظمها وأنفعها كلمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لعمر: (إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس). وانظر إلى ابن عبد البرّ يقول: (فقال بعضهم يا رسول الله لا تصلّ عليه) ثمّ يقولفي ذيل الحديث: (ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمررضي‌الله‌عنه : إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس)، ومن حقّ العاقل أن يتساءل لماذا يوجّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه إلى عمر ويترك (بعضهم) القائل؟! اللّهمّ إلاّ أن يكون (بعضهم) القائل هو عمر نفسه وذلك به أشبه، لأنّ له مثل هذا السّلوك يوم وفاة عبد الله بن أبيّ بن السّلول؛ لكنّه يعزّ على ابن عبد البرّ أن يقرّ بذلك ويعترف بالحقيقة خشية أن يتزعزع في الرّاشدين والعشرة المبشرين، وتتسرب تلك الزعزعة إلى تلامذته وأتباعه.

قال الزّهري في حديثه عن عروة عن (مروان) والمسور، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: ألست نبيّ الله حقّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النّار؟ قال: بلى؛ قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال: إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر ن أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال: بلى؛ قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى؛ قلت: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النّار؟ قال: بلى. قلت:

١٣٦

فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟ قال: أيّها الرّجل! إنّه رسول الله ليس يعصي ربّه ن وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فو الله إنّه على الحقّ. قلت: أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال الزّهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا(1) .

يخيّل للسّامع أنّ الكلام في محلّه، والحال أنه خلاف الواقع. وفي المغرب العربي مثل يقول: يمدد المرء رجليه على قدر فراشه. نعم، إنّما يدّعي الإباء الأبيّ فعلا، أمّا من لا يتحلّى بذلك ثمّ يدّعيه فإنّه كلابس ثوبي زور. كيف سمح عمر بن الخطّاب لنفسه بترديد تلك العبارة أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكأنّه لم يعط الدّنيّة في دينه؟! أوليس هو الذي فرّ مرّة بعد مرّة تاركا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يدي الأعداء عرضة للقتل؟ أليس هذا من الدّنيّة؟ وهل هناك دنيّة على المسلم أعظم من فراره من المشرك؟ ألم يشهد على نفسه بالفرار يوم أحد؟ ألم يشبه نفسه بالأروى في قوله: (أنزو كأنني أروى)؟ فكيف صار لا يعطي الدنية في دينه؟ إنّ الذي لا يعطي الدّنيّة في دينه لا يسلم نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتل، ولا يفكّر في نجاة نفسه قبل نجاة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أولى به من نفسه! وما أقبح بالمسلم أن يفرّ من المشرك بعد أن وعده الله تعالى إحدى الحسنين. وما أقبح به ذلك بعد أن عاهد الله تعالى ألا يفرّ من الزّحف( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً ) (2) .

ورووا أنّ رسول الله (لما كان دوين بدر(3) أتاه الخبر بمسير قريش فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمسيرهم واستشار الناس، فقام أبوبكر فقال فأحسن! ثمّ قام عمر فقال فاحسن ثمّ قال: يا رسول الله، إنّها قريش وعزّها! والله ما ذلّت منذ عزّت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبدا، ولتقاتلنّك، فاتّهب لذلك أهبته وأعد عدته)(4) ..

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 313.

(2) الأحزاب: 15.

(3) أي دون بدر بقليل.

(4) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 14 ص 112.

١٣٧

أقول:

ما هو القول الحسن الذي قاله أبوبكر ولم يحفظه الرّواة؟ وما هو القول الحسن الذي قاله عمر قبل أن يبدأ بتخويف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتثبيط العزائم وتعظيم شأن قريش؟! حقيقة ذلك نجدها في صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل: عن ثابت عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث بلغه إقبال أبي سفيان قال فتكلّم أبوبكر فأعرض عنه! ثم تكلّم عمر فأعرض عنه! فقام سعد بن عبادة فقال: إيّانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها)(1) . وليس في الرواية (فقام أبوبكر فقال فأحسن! ثمّ قام عمر فقال فأحسن)، وإنّما فيها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض عنهما جميعا، عن أبي بكر أوّلا ثم عن عمر بعد ذلك. وانطلاقا من هذه الرواية أقول:

إذا كان كلام أبي بكر حسنا فلماذا أعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! ومتى أعرض بسطاء المتخلّقين عن الحديث الحسن فضلا عن صاحب الخلق العظيم؟! وقد نقلوا كلام عمر لكون الكلمات النّابية كثيرة في حديثه، لكنهم حذفوا كلام أبي بكر خشية أن يختلّ الترتيب المعلوم فتسقط ورقة التّوت!

ويوم بدر كان لعمر موقف مشابه، وكان يريد قتل العبّاس بن عبد المطلب، والعباس لم يحارب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة لا بيد ولا بلسان. فقد استشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النّاس في الأسرى يوم بدر فقال: إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس. فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال للنّاس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديقرضي‌الله‌عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال:

____________________

(1) صحيح مسلم، ج 5 ص 170، ومسند أحمد، ج 3 ص 219 و 220 وص 243 و 257 ومستدرك الحاكم، ج 3 ص 253 والبداية والنهاية ج 3 ص 263 والدر المنثور ج 4 ص 20 ودلائل النبوة ج 3 ص 107 وتاريخ الإسلام ج 2 ص 106.

١٣٨

فذهب عن وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان فيه من الغم..(1) .

فالحديث يصرّح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض عنه مرّتين ويصرّح أيضا أنّ فعل عمر بن الخطاب تسبّب في ظهور الغمّ على وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يعني أنه آذاه!

قال ابن تيمية: وكلّ من كان عالما بالصّحابة يعلم أنّ عمررضي‌الله‌عنه كان متأدّبا معظّما بقلبه لأبي بكررضي‌الله‌عنه شاهدا أنّه أعلى منه إيمانا ويقينا، فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبيّرضي‌الله‌عنه ، وإذا كان هذا حال أفضل المحدّثين المخاطبين فكيف حال سائرهم(2) .

أقول:

لابن تيمية الحقّ في أن يقول ما شاء، لكن ليس ل الحقّ أن يفرض على النّاس ما لا دليل على صحّته، ويكفي لبيان سوء أدب من ذكرهم بحضرة الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما جرى يوم الحديبية بين أبي بكر وعروة بن مسعود الثّقفي، وتلك الكلمة القبيحة المستهجنة التي قالها أبوبكر بمحضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرع له حرمته، إضافة إلى كلمة سلمة بن وقش قبله يوم بدر.

قال ابن القيّم: وذكر ابن الهادي عن محمّد بن إبراهيم التّيمي قال: قال عمر بن الخطّاب: (إياكم والرّأي فإنّ أصحاب الرّأي أعداء السّنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلّتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدّين برأيهم). وقال الشّعبي عن عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : (إيّاكم وأصحاب الرّأي فإنّهم أعداء السّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرّأي، فضلّوا وأضلّوا)(3) . وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصّحّة. وروى محمّد بن عبد السّلام الخشني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: (أيّها النّاس اتّهموا الرّأي في الدّين فلقد

____________________

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 243 ومجمع الزوائد الهيثمي ج 6 ص 87 والسيرة الحلبية ج 2 ص 448 والبداية والنهاية ج 3 ص 296 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 326. وتفسير ابن كثير ج 2 ص 326 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 326.

(2) العقيدة الاصفهانية، ابن تيمية، ج 1 ص 157.

(3) سنن الدارقطني ج 4 ص 146، وفتح الباري ج 13 ص 289، وجامع بيان العلم وفضله ج 2 ص 135 والاحكام لابن حزم ج 6 ص 213 والمدخل إلى السنن الكبرى ج 1 ص 190.

١٣٩

رأيتني وإنّي لأردّ أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب وقال: أكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا: يكتب باسمك اللهمّ فرضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيت فقال: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى(1) ..؟!

يقول عمر بن الخطّاب رضي رسول اللهرضي‌الله‌عنه وأبيت، وكأنّه شريك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته! ويقول القرآن الكريم.( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) . فكأنّ عمر بن الخطاب لا يعلم أنّ من يخالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ضلال مبين. وانظر إلى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تراني رضيت وتأبى وتدبّر!! فإن يكن هذا وقع بعد نزول سورة الحجرات فهو تمرّد من جهة عمر، لقوله تعالى( لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ ) (3) وإلاّ فهو سوء أدب.. ولا يفوت المتتبع أنّ عمر أوّل من فتح باب الرّأي بشهادة الصحابة. روى البخاري في صحيحه.

عن عمران رضي الله عنه قال تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء(4) . والحديث موجود أيضا في صحيح مسلم وسنن النسائي وغيرهما.

وعن عبد الله بن سلام قال: لما أراد الله تعالى هدي زيد بن سعنة قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلاّ وقد عرفتها في وجه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدّة الجهل عليه إلاّ حلما؛ فكنت ألطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه من جهله. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الحجرات ومعه علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه عنه فأتاه رجل على راحلته

____________________

(1) إعلام الموقعين، ابن القيم، ج 1 ص 55.

(2) الأحزاب: 36.

(3) الحجرات: 1.

(4) صحيح البخاري، ج 2 ص 569 رقم 1496. وصحيح البخاري ج 4 ص 1642 وصحيح مسلم ج 2 ص 900 وسنن النسائي الكبرى ج 6 ص 300 وسنن الدارمي ج 2 ص 55 ومسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 429 والمعجم الكبير ج 18 ص 123 وتهذيب الكمال ج 26 ص 581.

١٤٠