الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 77776
تحميل: 4794

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77776 / تحميل: 4794
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعن يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنّه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطّاب على المنبر قال (سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(1) .

وعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنّ عمر بن الخطّاب خطب بالجابية فقال قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيامي فيكم فقال استوصوا بأصحابي خيرا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليسبق بالشهادة قبل أن يسألها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ومن سرته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن(2) .

يقوم رسول الله في أصحابه ويقول لأصحابه (استوصوا بأصحابي خيرا).

هكذا يقول الحديث، وهذا يورد إشكالا كبيرا على علماء الرجال في تعريفهم للصحابي!

عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة قال جاء أعرابي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله كيف صيامك فأعرض عنه وكان إذا سئل عن شيء يكرهه عرف ذلك في وجهه فسكت حتى ذهب غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال له عمر كيف تقول يا رسول الله في صيام الدهر قال لا صام ولا أفطر أو قال ما صام وما أفطر قال فما تقول في صيام يومين وفطر يوم قال ومن يطيق ذلك قال فصيام يوم وفطر يومين قال وددت أن أطيق ذلك قال فصيام يوم وفطر يوم قال ذلك صيام داود. قال: فما تقول في صيام ثلاثة أيام من كل شهر؟ قال: ذلك صيام الدّهر قال: فصيام يوم الاثنين؟ قال: ذلك يوم ولدت فيه ويوم أنزل عليّ فيه قال فصيام عاشوراء؟ قال: كفّارة سنة. قال فصيام يوم عرفة؟ قال: كفّارة سنة وما قبلها(3) .

____________________

(1) صحيح البخاريّ، ج 1 ص 3.

(2) مسند ابن المبارك، ص 148.

(3) مصنف عبد الرزاق، ج 4 ص 295، تحت رقم 7865.

٣٠١

وفي كتاب الجهاد عن معمر عن الزهري أنّ عمر بن الخطّاب خرج على مجلس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يتذاكرون سريّة هلكت في سبيل الله فيقول بعضهم هم عمّال الله هلكوا في سبيله فقد وجب أو وقع أجرهم على الله، ويقول قائل الله أعلم بهم لهم ما احتسبوا؛ فلمّا رآهم عمر قال لهم ما كنتم تتحدّثون قالوا كنّا نتحدث في هذه السريّة فيقول قائل كذا ويقول قائل كذا فقال عمر: والله إن من النّاس ناسا يقاتلون ابتغاء الدنيا وإن من الناس ناسا يقاتلون رياء وسمعة وإن من النّاس ناسا يقاتلون إن دهمهم القتال ولا يستطيعون إلاّ إياه وإن من النّاس ناسا يقاتلون ابتغاء وجه الله أولئك الشّهداء وكلّ امرئ منهم يبعث على الذي يموت عليه، وإنّها والله ما تدري نفس ما هو مفعول بها ليس هذا الرّجل الذي قد تبيّن لنا أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر(1) .

أقول: أخطأ عمر ههنا، لأنّه غفل أو تغافل عن أمر لم يكن ينبغي له أن يغفل عنه، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهد بمحضره لعليّ وفاطمة والحسن والحسين بالجنّة، وشهد لجعفر بن أبي طالب أنه يطير مع الملائكة في الجنّة. هؤلاء قطعا في الجنّة لا يشكّ في ذلك إلا مكذّب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومع ذلك لا يستثنيهم عمر بن الخطّاب ويقول بكل بساطة (ليس هذا الرّجل الذي قد تبيّن لنا أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر)(2) . فإن كان لا يعتقد بنجاتهم فقد كذّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وإن كان تجاهلهم فقد أساء الأدب مع الله تعالى في حقّ من يصلّي عليهم يوميا في كل صلواته فرضا ونفلا!

قال الرّازيّ: عن عمر بن الخطّاب (إن الرّجل ليخرج من منزله وعليه من الذّنوب مثل جبل تهامة، فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء(3) .

____________________

(1) الجهاد، عبد الله بن المبارك، ص 65.

(2) ليس هنا للاستثناء بمعن سوى، فكأنه قال سوى هذا الرجل أو غير هذا الرجل، وللنحاة في الاستثناء بليس ولا يكون كلام يطلب في كتب النحو.

(3) التفسير الكبير، الرازي ن ج 2 ص 177.

٣٠٢

أقول: لكن عمر شهد على نفسه أنه ألهاه الصفق في الأسواق عن العلم.

قال الرازي: وقال ابن عبّاس إني لأرجو كما لا ينفع مع الشّرك عمل كذلك لا يضرّ مع التوحيد ذنب. ذكر ذلك عند عمر بن الخطّاب فسكت عمر(1) .

وعن محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطّاب يقول على المنبر سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فهذا أيضا عموم لكل عمل ولا يجوز أن يخص به بعض الأعمال دون بعض بالدعوى(2) .

وعن عمر بن الخطّاب قال: (كنت جالسا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا قالوا: يا رسول الله الملائكة. قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها. قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالاته والنبوّة. قال: هم كذلك ويحقّ لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها. قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء. قال: هم كذلك ويحقّ لهم وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشّهادة مع الأنبياء بل غيرهم؛ قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرّجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدّقونني ولم يروني يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا(3) .

أقول: إن صحّ الحديث فإنّه ينسف حديث القرن الأوّل ودعوى أنّ إيمان الصّحابة ليس فوقه ولا مثله إيمان، لأنّ الحديث المذكور أعلاه يقول: فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا، وبالإيمان يتفاضل النّاس عند الله تعالى.

قال ابن الجوزيّ: قوله تعالى (إذ تستغيثون ربكم) سبب نزولها ما روى عمر بن الخطّاب: لمّا كان يوم بدر نظر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ونظر إلى المشركين وهم ألف وزيادة فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره ثم قال:

____________________

(1) التفسير الكبير، الرازي، ج 10 ص 101.

(2) المحلى، ابن حزم، ج 1 ص 73.

(3) الدر المنثور ج 1 ص 65، أخرجه البزار وأبو يعلى والمرهبي في فضل العلم والحاكم وصححه.

٣٠٣

اللهمّ أنجز ما وعدتني، اللهمّ أنجز ما وعدتني، اللهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا، فما زال يستغيث ربّه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبوبكر الصديق فأخذ رداءه فرداه به ثمّ التزمه من ورائه وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك فإنّه سينجز لك ما وعدك! وأنزل الله تعالى هذه الآية.

أقول: إذا كان أبوبكر بهذه الدّرجة من الثّقة بالله والطمأنينة بحيث يطمئن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما باله لم يطمئن نفسه في الغار على فرض كونه صاحبه في الغار؟.

وفي الصّحيح أنّ عمر بن الخطّاب قال له يهودي آية في كتابكم تقرءونها لو علينا نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا اليوم عيدا فقال له عمر أي آية هي فقال اليوم أكملت لكم دينكم فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة(1) .

أقول: هذه الرواية معارضة بروايات نزول الآية يوم الغدير.

وعن عمر بن الخطّاب أيضا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال من دخل السّوق فقال لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف الف سيئة ورفع له ألف ألف درجة(2) .

أقول: إذا علم أن عمر كان يلهيه الصفق بالأسواق على حضور مجالس رسول الله تبيّن سبب اهتمامه بهذه الرواية وما تعد به من الأجر الكبير. فهنيئا للتّجار والمتسوّقين.

قال ابن كثير: وعن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إني ممسك بحجزكم هلمّ عن النّار هلمّ عن النار وتغلبونني، تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون علي معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله

____________________

(1) صحيح البخاري ج 6 ص 2653، وصحيح مسلم ج 4 ص 2313.

(2) تفسير الثعالبي، ج 3 ص 132. قال الثعالبي رواه الترمذي وابن ماجة وهذا لفظ الترمذي وزاد في رواية أخرى وبنى له بيتا في الجنة ورواه الحاكم في المستدرك من عدة طرق.

٣٠٤

فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم رب العالمين أي ربّ قومي أي رب أمتي، فيقال: يا محمد إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا بعدك يمشون القهقرى على أعقابهم(1) .

وعن عمر بن الخطّاب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عز وجل(2) .

أقول: تكلّموا في هذا الحديث من جهة الإسناد، ويكفي لردّه أنّه تعارضه أحاديث أن الله تعالى آمن هذه الأمة من الخسف والغرق و...، فإذا كان الله تعالى قد آمن الأمّة من الغرق فما معنى أن يستأذن البحر كلّ ليلة؟!

وأخرج الطبراني وغيره بسنده جيد عن عمر بن الخطّاب أن رسول الله قال لعائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء(3) .

أقول: إن تكن البدع المستحسنة أيضا منها يضق الخناق على الخليفة، فإنّ بدعه المستحسنة عديدة، وقد شهد على نفسه بذلك حين قال: (نعمت البدعة)(4) .

قال الجصّاص: وروى يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عبّاس سمعت عمر بن الخطّاب يقول سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وهو بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربّي فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك وقل حجّة وعمرة. وروي عمرة في حجة(5) .

وفيه رد على منكري التبرّك.

وأخرج الحاكم وصحّحه عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتّى تقوم السّاعة)(6) .

____________________

(1) مختصر ابن كثير، ج 2 ص 780. قال ابن كثير: أخرجه الحافظ الموصلي وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد.

(2) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 43 وتفسير ابن كثير ج 4 ص 241 ومختصر ابن كثير، ج 3 ص 425 وكنز العمال ج 16 ص 4 والعلل المتناهية ج 1 ص 52.

(3) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 2 ص 509.

(4) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج 1 ص 201 وتفسير ابن كثير ج 1 ص 162، وتفسير القرطبي ج 2 ص 87 وروح المعاني ج 27 ص 193 وتفسير البحر المحيط ج 1 ص 534 والجمع بين الصحيحين، ج 1 ص 131

(5) أحكام القرآن، الجصاص، ج 1 ص 357.

(6) الدر المنثور، ج 1 ص 767.

٣٠٥

الحديث يقول (طائفة من أمتي) ولا يقول كلّ أمّتي، وعلامة كون الأمّة على الحقّ كونها تحت راية علي بن أبي طالب عليه السلام، لأنّه مع الحق والحقّ معه يدور معه حيث دار، ويوم السّقيفة لم يكن عليّ عليه السلام مع جماعة السّقيفة، ولم تكن جماعة السقيفة تحت راية عليّ، بل كانت في مواجهته، وبما أنّ القرآن الكريم يقول بصراحة (فماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال)، فقد كانت جماعة السّقيفة تحت راية الضّلال، وقد أجرى الله تعالى على لسان عمر اعترافا بذلك حين قال (إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة)، فشهد عليها أنّها فلتة ن وأنّ صاحب مثلها يستحقّ القتل فمن عاد لمثلها فاقتلوه، وإذا كان صاحب مثلها يستحقّ القتل فإنّ صاحبها أيضا يستحقّ القتل، لأنّ حكم الأمثال واحد، ولا تبديل لكلمات الله.

قال السيوطي: وأخرج الحاكم وصحّحه عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتّى تقوم السّاعة(1) .

الحديث يقول طائفة من أمّتي ولا يقول كل أمّتي، وعلامة كون الأمّة على الحقّ كونها تحت راية عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور معه حيث دار، ويوم السّقيفة لم يكن عليّ عليه السلام مع جماعة السقيفة، ولم تكن جماعة السقيفة تحت راية عليّ، بل كانت في مواجهته، وبما أنّ القرآن الكريم يقول بصراحة (فماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال)، فقد كانت جماعة السّقيفة تحت راية الضّلال، وقد أجرى الله تعالى على لسان عمر اعترافا بذلك حين قال (إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة)، فشهد عليها أنّها فلتة، وأنّ صاحب مثلها يستحقّ القتل (فمن عاد لمثلها فاقتلوه)، وإذا كان صاحب مثلها يستحقّ القتل فإنّ صاحبها أيضا يستحقّ القتل، لأنّ حكم الأمثال واحد، ولا تبديل لكلمات الله.

وعن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطّاب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال (إنّ الميت ليعذّب في قبره بالنياحة) رواه البخاريّ في الصحيح عن عبدان عن أبيه عن

____________________

(1) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 767.

٣٠٦

شعبة(1) . (روايات عمر).

وعن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال توفيت ابنة لعثمانرضي‌الله‌عنه بمكة وجئنا لنشهدها وحضرها بن عمر وبن عباس رضي الله عنهم وإني لجالس بينهما أو قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر (لعمر بن عثمان ألا تنهى عن البكاء فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عبّاس (قد كان عمر (يقول بعض ذلك ثم حدث قال صدرت مع عمر (من مكّة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظلّ سمرة فقال اذهب فانظر من هؤلاء الرّكب قال فنظرت فإذا صهيب فأخبرته فقال: ادعه لي فرجعت إلى صهيب فقلت ارتحل فالحق أميرالمؤمنين فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول وا أخاه، وا صاحباه! فقال عمر: (يا صهيب أتبكي عليّ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الميت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: (فلما مات عمر (ذكرت ذلك لعائشة) فقالت: رحم الله عمر والله ما حدّث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه) ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه وقالت حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة أخرى). قال ابن عباس (عند ذلك والله هو أضحك وأبكى قال بن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر شيئا)(2) .

أقول: ما قال ابن عمر شيئا معناه أنّه يسلّم بما ذكره ابن عباس، وما ذكره ابن عباس يبطل ما قاله ابن عمر؛ وحسبك قول عائشة (والله ما حدّث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه) فإنّها تقسم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل ما نقله ابن عمر وأبوه. وقد ثبت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى لوفاة ولده إبراهيم وعمّه أبي طالب وزوجته خديجة وشهادة عمه حمزة وشهادة جعفر بن أبي طالب.

قال الرازي: روى ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله

____________________

(1) إثبات عذاب القبر، ج 1 ص 91.

(2) صحيح البخاري ج 1 ص 432.

٣٠٧

فعائشة طعنت في صحّة هذا الخبر واحتجّت على صحة ذلك الطّعن بقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فإنّ تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره وذلك خلاف هذه الآية(1) .

وعن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضّأ وضوءه للصّلاة(2) .

وفي فتح القدير ايضا: أخرج البخاريّ في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب في قوله (ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا) قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أميّة، فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأمّا بنو أميّة فمتّعوا إلى حين(3) .

أقول: فلماذا كان يولّيهم على الأمصار على رؤوس المهاجرين والأنصار ما دام يعلم أنهم كذلك؟

وعن نافع عن عبد الله بن عمر قال رأى عمر بن الخطّاب حلة سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد؟ قال: إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة. ثمّ جاءت حلل فأعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر منها حلّة وقال: أكسوتنيها وقلت في حلة عطارد ما قلت؟ فقال: إني لم أكسكها لتلبسها، فكسا عمر أخا له بمكّة مشركا(4) .

عن علقمة بن وقّاص عن عمر بن الخطّاب وفي حديث الحرث أنه سمع عمر يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه(5) .

____________________

(1) التفسير الكبير، الرازي، ج 20 ص 137.

(2) المعجم الكبير ج 1 ص 71 تحت رقم 80.

(3) فتح القدير، الشوكانيّ، ج 3 ص 110 - 111.

(4) صحيح البخاريّ، ج 3 ص 140.

(5) سنن النسائي، ج 6 ص 158 و 159.

٣٠٨

أقول: فما هو الظّنّ إذا بمن ناوروا وتمرّدوا على أوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخلّفوا عن جيش أسامة واحتلّوا المدينة احتلالا، ثمّ هجموا على أشرف بيت وهدّدوا بتحريقه إذا هو لم يدخل فيما دخل فيه الناس؟! صار آل رسول الله من الناس، وصارت قريش ملوك الناس! وتلك الأمثال نضربها للناس.

وعن يحيى بن هانئ عن نعيم بن دجاجة قال سمعت عمر بن الخطّاب يقول لا هجرة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وعن قيس ابن مسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطّاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي آية قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فقال عمر إني لأعلم المكان الذي نزلت فيه واليوم الذي نزلت فيه نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرفات في يوم جمعة(2) .

وعن شعبة قال حدثنا خليفة قال سمعت عبد الله بن الزبير قال لا تلبسوا نساءكم الحرير فاني سمعت عمر بن الخطّاب يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة(3) .

وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم خيبر لأدفعنّ اليوم اللواء إلى رجل يحب الله ورسوله يفتح الله عليه قال عمر فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتطاولت لها فقال لعلي قم فدفع اللواء إليه ثم قال له اذهب ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى هنيهة ثم قام ولم يلتفت للعزمة فقال على ما أقاتل الناس...(4) .

فيها اعتراف عمر بحب الإمارة، واعترافه بأن علياعليه‌السلام دقيق في تطبيق طاعة

____________________

(1) سنن النسائي، ج 7 ص 146.

(2) سنن النسائي، ج 8 ص 114.

(3) سنن النسائي، ج 8 ص 200.

(4) صحيح ابن حبان، ج 15 ص 379 تحت رقم 6934.

٣٠٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أنه لم يلتفت بعد أن قال له اذهب ولا تلتفت.

وعن عمر بن الخطّاب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة خرجه الترمذي(1) .

مخالفات عمر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

بدأ عمر بن الخطّاب إسلامه بمخالفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر: (قال كان أول إسلام عمر أن عمر قال ضرب أختي المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل الحجر وعليه تبان، وصلى لله ما شاء الله ثمّ انصرف، فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال: من هذا؟ فقلت: عمر! فقال: يا عمر ما تدعني لا ليلا ولا نهارا؟ فخشيت أن يدعو علي فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! فقال: يا عمر أسرّه. قلت: لا والذي بعثك بالحقّ لأعلننه كما أعلنت الشّرك(2) .

ولم يترك عمر مخالفته للنّبيّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا القوشجيّ الحنفيّ يذكر في شرح التّجريد في مبحث الإمامة ما نصّه أنّ عمر قال وهو على المنبر أيها النّاس ثلاث كنّ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهن وأعاقب عليهنّ: متعة النّساء. ومتعة الحجّ. وحيّ على خير العمل. ثمّ راح القوشجيّ يبرّر فعل عمر ويلتمس له العذر إذ يعتبره مجتهدا فقال: إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحا فيه فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع.

يقول القوشجي مخالفة المجتهد لمثله! وإذاً، فرسول الله وعمر مثلان!!

____________________

(1) الكلم الطيب، ج 1 ص 99.

(2) تاريخ مدينة دمشق ج 44 ص 29 وتاريخ الإسلام ج 1 ص 173 تاريخ الخلفاء ج 1 ص 110..

٣١٠

ويقول القوشجيّ في المسائل الاجتهادية، فهل يكون الأذان ومتعة الحجّ ومتعة النّساء الواردتان في القرآن الكريم من المسائل الاجتهاديّة؟!

وروى البخاريّ في صحيحه عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال: لما اشتدّ بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه قال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده قال عمر إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال قوموا عنى ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عبّاس يقول إنّ الرّزيئة كلّ الرّزيئة(1) ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه الكتاب(2) .

وفي رواية بكى ابن عبّاس حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال: أتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ التّنازع فقالوا: هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !(3) .

قال الآلوسيّ: روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر فكتب بذلك خطا فمزقه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه وقال: هذا شيء يعطيكموه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأليفا لكم فأمّا اليوم فقد أعزّ الله تعالى الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتّم على الإسلام وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخطّ ومزّقه عمر! فقال: (هو إن شاء! ووافقه ولم ينكر عليه أحد من الصّحابةرضي‌الله‌عنه مع احتمال أنّ فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة(4) .

أقول: في هذه القصّة لم يخالف عمر أبابكر فقط بل خالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالف الله تعالى، وسهم المؤلّفة قلوبهم ثابت في القرآن الكريم ولم ينزل قرآن ينسخه. وأما قوله (ولم ينكر عليه أحد من الصّحابة) فإنّه لا معنى لا لأن الأمور الشرعية لم تبن يوما من الأيام على إنكار الصحابة وعدم إنكارهم، والمتأمّل في قول الله تعالى

____________________

(1) الرزية: المصيبة الكبيرة.

(2) صحيح البخاريّ ج 1 ص 36، 37: كتاب العلم - باب كتابة العلم.

(3) صحيح البخاريّ ج 5 ص 137. ورواه مسلم أيضا في كتاب الوصية، باب ترك الوصية.

(4) روح المعاني، ج 10 ص 122.

٣١١

(لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم) يستشفّ أمورا كثيرة، ويكفي أنّ الصحابة لم يستنكروا الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام والتهديد بتحريقه، وهذا مما يصدق عليه قول الله تعالى (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).

روى عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني بن أبي الحسين أن ابن شهاب أخبره أنّ عثمان كان يصدق الخيل وأنّ السّائب بن يزيد أخبره أنّه كان يأتي عمر بن الخطّاب بصدقة الخيل قال أبن أبي حسين: وقال ابن شهاب (لم أعلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سن صدقة الخيل)(1) .

ورووا أنّ عمر بن الخطاب خرج ليلة ومعه عبد الرحمن بن عوف وذلك في رمضان والنّاس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته النّفر، فقال عمر بن الخطّاب: إنّي لأظنّ أن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد كان أفضل؛ فعزم أن يجمعهم على قارئ واحد فأمر أبيّ بن كعب فأمّهم، فخرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال نعم البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل وكانوا يقومون في أول الليل(2) .

وعن محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن نوفل قال: سمعت الضحاك بن قيس عام حجّ معاوية يسأل سعدا عن متعة الحجّ فقال كان عمر ينهى عنها؛ فقال سعد: بل من هو خير من عمر قد فعلها، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (3) .

أقول: وهذا يعني أن موقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموقف عمر بن الخطاب من متعة الحج متباينان تماما، ولا يمكن أن يكون عمر والحال هذه مقتديا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستنّا بهديه.

وعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: كان عمر يقول: لا يصلّى الجنب

____________________

(1) مصنف عبد الرزاق، ج 4 ص 35 تحت رقم 6888.

(2) صحيح ابن خزيمة ج 2 ص 155 ومصنف ابن أبي شيبة ج 2 ص 165 ومصنف عبد الرزاق ج 4 ص 259 وأخبار المدينة ج 1 ص 379 والصيام للفريابي) ج 1 ص 125 وص 128.

(3) مسند البزار ج 4 ص 65 تحت رقم 1232.

٣١٢

حتّى يجد الماء، فقال له عمار: ألم تعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت بالصّعيد فأتينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرناه فقال: (إنما كان يكفيك وضرب بيديه الأرض ضربة فمسح وجهه وكفيه) فقال عمر لعمّار: اتّق الله! فقال: أما والله لئن شئت لا أذكره ما عشت(1) .

قال الطيبي (بخصوص قصة عمر وأبي هريرة): ليس فعل عمر ومراجعته النّبيّ اعتراضا عليه وردّا لأمره، إذ ليس ما بعث به أبا هريرة إلاّ لتطييب قلوب الأمّة وبشراهم فرأى عمر إن كتمه هذا أصلح لئلا يتكلوا(2) ! والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام لكونه رحمة للعالمين ورحيما بالمؤمنين ومظهرا للجمال على وجه الكمال وطبيبا لأمّته على كل حال لما بلغه خوفهم وفزعهم واضطرابهم أراد معالجتهم بإشارة البشارة لإزالة الخوف والنذارة فإن المعالجة بالأضداد ولما كان عمر مظهرا للجلال وعلم أنّ الغالب على الخلق التّكاسل والاتّكال فرأى أنّ الأصلح لأكثر الخلق المعجون المركّب بل غلبة الخوف بالنسبة إليهم أنسب فوافقه وهذه مرتبة علية ومزية جلية لعمر. وأمّا قول ابن حجر وكان وجه استباحة عمر لذلك أنّه لأبي هريرة بمنزلة الشيخ والمعلم وللشّيخ والمعلّم أن يؤدب المتعلم بمثل ذلك إذا رأى منه خلاف الأدب وهو هنا المبادرة إلى إشاعة هذا الخبر قبل تفهّم المراد من النّبي مع إشكاله وما يترتّب عليه من اتّكال النّاس وإعراضهم عن الأعمال وكان حقّه إذا أمر بتبليغه أن يتفهّم المراد به ليورده في موارده دون غيرها، فاقتضى اجتهاد عمر أنّ إخلاله بذلك مقتض لتأديبه فأدّبه بذلك(3) .

أقول: ليس لعمر بن الخطاب ولاية على أبي هريرة في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا في هذه القضية ولا في غيرها، ويبدو أنّ الآلوسي وابن حجر يريان عمر بن الخطاب شريكا

____________________

(1) مسند الشاشي، ج 2 ص 429 تحت رقم 1035.

(2) انظر إلى هذا المفسّر الفقيه يزعم أن عمر أعلم بالأصلح! وأشدّ حرصا على الدين وعلى مصلحة المسلمين كيلا يتّكلوا، والقرآن الكريم يقول (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) ولم يقل إنّ عمر حريص عليكم.

(3) مرقاة المفاتيح، ج 1 ص 193.

٣١٣

لرسول الله، بل أكثر من شريك، لأن الشريك يستشير شريكه قبل الحسم في قضية ما، وعمر ههنا لم يستشر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يتصرف مع أبي هريرة بتلك الطريقة المشينة؛ والذين يدافعون عادة عن أبي هريرة يتخلّون عن الدفاع عنه ههنا، كي لا يلزم من ذلك الطعن في سلوك عمر!

قال التوربشتي (في مسألة بيع أمّهات الأولاد): يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة، ويحتمل أن بيعهم في زمان النبي كان قبل النسخ، وهذا أولى التّأويلين؛ وأما بيعهم في خلافة أبي بكر فلعلّ ذلك كان في فرد قضيّة فلم يعلم به أبوبكررضي‌الله‌عنه ولا من كان عنده علم بذلك، فحسب جابر أنّ النّاس كانوا على تجويزه فحدث ما تقرر عنده في أوّل الأمر، فلمّا اشتهر نسخه في زمان عمر عاد إلى قول الجماعة يدل عليه قوله فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا. وقوله هذا من أقوى الدّلائل على بطلان بيع أمّهات الأولاد، وذلك أنّ الصّحابة لو لم يعلموا أنّ الحقّ مع عمر لم يتابعوه عليه، ولم يسكتوا عنه أيضا! ولو علموا أنّه يقول ذلك عن رأي واجتهاد لجوّزوا خلافه لا سيما الفقهاء منهم وإن وافقه بعضهم خالفه آخرون(1) .

أقول: انظر إلى هذه الفقيه العمري الذي ثبتت عنده مخالفة عمر بن الخطّاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فراح يتمحل في التّأويل وكأنّ عمر أولى بالطّاعة من صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله. ثم أعجب ولا ينقضي العجب من قوله (وذلك أن الصحابة لو لم يعلموا أنّ الحقّ مع عمر لم يتابعوه عليه ولم يسكتوا عنه أيضا)، وهو يعلم أنّ الصّحابة خالفوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية(2) وكان زعيم المعارضة يومها عمر بن الخطاب نفسه، وقد اعترف أنّه شكّ يومها حين قال: (ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتّى

____________________

(1) مرقاة المفاتيح، ج 6 ص 516.

(2) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا فو الله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد. صحيح البخاري ج 2 ص 978 وصحيح ابن حبان ج 11 ص 225 وسنن البيهقي الكبرى ج 9 ص 220 ومصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 389 ومصنف عبد الرزاق ج 5 ص 340 والمعجم الكبير ج 20 ص 14 ومسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 330 و).

٣١٤

رجوت أن يكون خيرا)(1) .

قال الألباني: حديث جابر بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد أبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا رواه أبو داود(2) .

وقال: حديث جابر: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد أبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا رواه أبو داود) 1312 صحيح. أخرجه أبو داود (3954) وكذا ابن حبان (1216) والحاكم (128 - 19) والبيهقي (34710) من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عنه. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذّهبيّ، وهو كما قالا(3) .

أخطاء في سجل عمر

هل يجوز ذكر أخطاء عمر؟

هذا موقف الذهبيّ من أبي بكر بن أبي دارم الكوفي محدّث توفي في القرن الرابع يقول فيه: مات أبوبكر (بن أبي دارم) في المحرّم سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة وقيل سنة إحدى وخمسين. قال الحاكم: (هو رافضيّ غير ثقة). وقال محمّد بن حمّاد الحافظ: (كان مستقيم الأمر عامّة دهره، ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب؛ حضرته ورجل يقرأ عليه أنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت محسنا، وفي خبر آخر قوله تعالى (وجاء فرعون) عمر (ومن قبله) أبو بكر (والمؤتفكات) عائشة وحفصة فوافقته وتركت حديثه. قلت(4) شيخ ضالّ معثر(5) .

إذا، لم يعد للرجل حرمة لأنه سمح لنفسه أن ينظر إلى عمر بن الخطاب بغير العين التي ينظر بها غيره، وإن كانت قصّة الهجوم على بيت فاطمةعليه‌السلام من طرف عمر بن

____________________

(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 197.

(2) مختصر إرواء الغليل، ج 1 ص 351.

(3) إرواء الغليل، الألباني: ج 6 ص 189 تحت رقم 1777.

(4) القائل هو الذّهبي. والمعثر كثير العثرات.

(5) سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 15 ص 578.

٣١٥

الخطاب وجماعته وتهديد من في البيت بالتّحريق ثابتة منذ القرون الأولى، لكنّ ثقافة الكرسي تقول: (إنّ الحاكم المتربّع على كرسي الحكم دائما على صواب حتّى حين يخالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وهذه الثقافة لا تزال سائدة في عالمنا العربيّ، وهي التي تمجّد الحاكم حين يقصف شعبه جوّا وبرّا، أو يقتل الحجّاج في الشّهر الحرام في البلد الحرام.

قال ابن تيمية: وكان عمر بن الخطّاب يشاور الصّحابة فتارة يرجع إليهم، وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول فتردّ عليه امرأة من المسلمين قوله وتبيّن له الحقّ فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصّداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النّبيّ فيعمل به ويدع رأيه! وكان يأخذ بعض السّنّة عمّن هو دونه في قضايا متعدّدة، وكان يقول القول فيقال له أصبت فيقول والله ما يدري عمر أصاب الحقّ أم أخطأه(1) .

أقول: ولا يصحّ أن يكون العمريّون أشدّ عمريّة من عمر نفسه.

قال الرّازيّ: ولو كذّبنا معاوية لكذّبنا أصحاب صفّين كالمغيرة وغيره على أنّ معاوية لو كان كذّابا لما ولاّه عمر وعثمان على النّاس(2) !.

هذا قول الرازي، وهو نفسه يذكر أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط ولاّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصّدقات ونزل فيه قرآن يصفه بـ الفاسق. وقبلها اختار موسى قومه سبعين رجلا وكان منهم ما كان! أوليس معاوية الطّليق الذي ولاه عمر على المسلمين هو من أحدث في جسم الأمة شرخا لا يزال إلى اليوم يفعل من داخل الأمة ما لا يقوى على فعله الأعداء من الخارج؟ ألم يولّ عمر نسيبة قدامة بن مظعون فشرب الخمر؟

بلى! ولكنّ تقديس الحاكم قضية لا تقبل الجدل، ولهذا فإنه لا مجال لاحتمال الخطإ في سلوك لخليفة عمر.

قال السيوطي: وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي الأسود الدؤلي أن عمر بن

____________________

(1) مجموع الفتاوى، ج 2 ص 226.

(2) المحصول، الرازيّ، ج 4 ص 320.

٣١٦

الخطّاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلك عليّا فقال: ليس عليها رجم، قال الله تعالى( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) وستة أشهر فذلك ثلاثون شهرا(1) .

وعدّ الشّنقيطيّ بعض أخطاء عمر فقال: ولم يعلم عمر بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى في دية الجنين بغرّة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل، ولم يعلم عمر بأنّ المرأة ترث من دية زوجها حتّى أخبره الضّحّاك بن سفيان أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها، ولم يعلم أيضا بأخذ الجزية من المجوسيّ حتّى أخبره عبد الرّحمن بن عوف بأنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعريّ وأبو سعيد الخدريّ، ولم يعلم عثمان بوجوب السكنى للمتوفّى عنها حتّى أخبرته قريعة بنت مالك أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألزمها بالسّكنى في المحلّ الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدّتها، وأمثال هذا أكثر من أن تحصر(2) .

هذه مسائل غابت عن عمر، وفي قول الشنقيطيّ (وأمثال هذا أكثر من أن تحصر) اعتراف بكثرة أخطاء عمر.

قال الشنقيطي: روى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة قال شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنّه زان، فبلغ ذلك عمر فكبّر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة؛ وجاء زياد فقال: ما عندك؟ فلم يثبت، فأمر بجلدهم فجلدوا وقال شهود زور! فقال ابو بكرة: أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده؛ فقال أبو بكرة: وأنا أشهد أنّه زان! فاراد أن يعيد عليه الحدّ فقال عليّ: يا أمير المؤمنين إنّك إن أعدت عليه الحدّ اوجبت عليه الرّجم. وفي حديث آخر فلا يعاد فيه فرية جلد مرّتين قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: قول عليّ إن جلدته فارجم صاحبك؟

____________________

(1) الدر المنثور ج 1 ص 688.

(2) أضواء البيان، الشنقيطي، ج 7 ص 343.

٣١٧

قال: كأنه جعل شهادته شهادة رجلين. قال أبو عبد الله: وكنت أنا أفسّره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني ثم قال: يقول إذا جلدته ثانية فكأنّك جعلته شاهدا آخر.(1)

وعن أبي العباس ثعلب قال لما أن قال أبو بكرة أشهد أنه لزان قال عمر اجلده! قال له عليّ: إذا فارجم صاحبك، لانك قد اعتددت بشهادته فصارت شهادتين وإنما هي شهادة واحد أعادها(2) .

قال ابن طيفور: وذكر ابن الأعرابي أنّ عمر بن الخطّاب قال أيها الناس ما هذه الصّدقات (جمع صداق وهو مهر الزّوجة) التي قد مددتم إليها أيديكم لا يبلغني أن أحدا جاوز بصداقه صداق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ قال فقامت امرأة برزة فقالت: ما جعل الله لك ذلك يابن الخطّاب، وقد قال الله عز وجل( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) (3) فقال عمر: ألا تعجبون أمير أخطأ وامرأة أصابت ناضل أميركم فنضل.

أقول: لم يسمّ الراوي المرأة التي اعترضت على عمر مع أنه ليس في وسع كلّ امرأة فعل ذلك، وانظر إليها تخاطبه فتقول: (يا ابن الخطاب) ولا تقول: (يا أمير المؤمنين)!

مسائل انفرد بها عمر

قال السّيوطيّ: أخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن عمر بن الخطّاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحجّ فيضربوا عليهم الجزية. ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين(4) .

وقال اليعقوبيّ: وتوفّي عمرو ليلة الفطر سنة 43 فأقرّ معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثمّ استصفى مال عمرو، فكان أوّل من استصفى مال عاملٍ. ولم يكن يموت لمعاوية عامل

____________________

(1) أضواء البيان، ج 5 ص 444 وفي سنن البيهقي الكبرى، ج 8 ص 234 مثله.

(2) بلاغات النساء، ابن طيفور، ص 132.

(3) تمام الآية: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [النساء: 20]

(4) الدر المنثور ج 2 ص 275.

٣١٨

إلاّ شاطر ورثته ماله، فكان يكلّم في ذلك فيقول: هذه سنّها عمر بن الخطّاب(1) .

ولما توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام عمر بن الخطّاب فقال إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفي! وإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والله - ما مات، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات فخرج أبوبكر فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها النّاس، إنّه من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ثمّ تلا هذه الآية( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ .. ) الآية فو الله لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت حتى تلاها أبوبكر يومئذ وأخذ النّاس عن أبي بكر، فإنّما هي في أفواههم؛ قال عمر: فو الله ما هو إلاّ أن سمعت أبابكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات(2) .

أقول:

لم يمت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نظر عمر، مع أن القرآن الكريم يصرّح بذلك أكثر من مرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُم مَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) ،( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) ،( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ.. ) ، هذا مع أنّ الاعتقاد بحتميّة الموت لا يحتاج إلى الالتزام بدين، فإنّ الدّهري والمادّي الشيوعي والملحد والزّنديق، كلّ هؤلاء يعتقدون بحتمية الموت مع أنهم ليسوا على دين!

وأخرج البيهقيّ عن ابن عائذ قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جنازة رجل فلما وضع

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 221 دار صادر بيروت.

(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 233 وتفسير أبي السعود ج 2 ص 93 وروح المعاني ج 4 ص 74 وتفسير الثعلبي ج 3 ص 178 ومناهل العرفان في علوم القرآن ج 1 ص 194 ومختصر السيرة ج 1 ص 250 والكامل في التاريخ ج 2 ص 187 والسيرة الحلبية ج 3 ص 475 والدر المنثور ج 2 ص 337.

٣١٩

قال عمر بن الخطّاب لا تصلّ عليه يا رسول الله فإنّه رجل فاجر (!) فالتفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس قال هل رآه أحد منكم على الإسلام فقال رجل نعم يا رسول الله حرس ليلة في سبيل الله فصلى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحثا عليه التراب وقال: (أصحابك يظنون أنك من أهل النار وأنا أشهد أنك من أهل الجنة وقال يا عمر إنك لا تسأل عن أعمال الناس ولكن تسأل عن الفطرة(1) .

وهذا صحابي آخر يتعرض لسلوك مماثل من طرف عمر بن الخطاب في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ابن الجوزي في ترجمة الحكم بن كيسان مولى لبني مخزوم: (وكان في عير قريش التي أصابها عبد الله بن جحش بنخلة فاسره المقداد وأراد عبد الله بن جحش ضرب عنقه فقال له المقداد دعه حتى نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدموا به جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام وأطال دعاءه فقال عمر علام تكلم هذا يا رسول الله والله لا يسلم هذا آخر الأبد دعني أضرب عنقه ويقدم إلى أمه الهاوية فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى عمر وأسلم الحكم وجاهد وقتل ببئر معونة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنقه(2) .

أقول: لا يزال أناس من المدافعين عن الصّحابة - كلّ الصحابة - يتنازلون عن متبنّياتهم ويتراجعون عمّا ألزموا به أنفسهم كلّما تعلّق الأمر بعمر بن الخطاب؛ فهذان صحابيان يقضى نحبه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة، لكنّ عمر بن الخطّاب يأبى إلاّ أن يشهد عليه بالفجور، ومصير من يموت على الفجور معلوم( إِنّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) ، والثاني قتل ببئر معونة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه راض، والمقتولون ببئر معونة شهداء كما هو مقرّر في محلّه، ومع ذلك حرص عمر على ضرب عنقه وزعم أنّه.

____________________

(1) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 7 ص 277 وحلية الأولياء، أبو نعيم، ج 1 ص 55 وشعب الإيمان، البيهقي، ج 4 ص 43 والدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 421 ومرقاة المفاتيح، ج 7 ص 388 ومشكاة المصابيح، الخطيب التبريزي، ج 2 ص 1134.

(2) المنتظم، ابن الجوزي، ج 3 ص 209.

٣٢٠