الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب0%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبدالباقي قرنة الجزائري
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: الصفحات: 564
المشاهدات: 77762
تحميل: 4793

توضيحات:

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77762 / تحميل: 4793
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذه القصّة تكشف عن العنف عند العرب في تعاملهم مع النّساء حتى بعد الإسلام، والمؤسف بالغ الأسف أنّ هذه الظاهرة لا تزال سارية المفعول في أيّامنا(1) ، تنشر الرّعب في البيوت وتفرّق بين المرء وزوجه، وتشوّه صورة الأب لدى ولده، وتسمّم الأجواء بين العوائل المتصاهرة، حتى في بيوت تتمتّع فيها الزوجة بمستوى ثقافي رفيع , وتشغل منصبا لا يقلّ رتبة عن مناصب الشخصيّات المرموقة من الرجال. ذكرت جريدة الأطلسي النّاطقة بالفرنسيّة في عدد السّبت 11/11/2006 قصّة الوزيرة الموريتانيّة أميانة صو محمد دينا التي أشبعها زوجها ضربا إثر خلاف عائلي. وقالت المصادر التي سربّت الخبر للصّحيفة: (إن السيّدة تعرّضت لضرب شديد، وإنّ جيرانها أنقذوها من هلاك محقق)، بينما أوضحت وكالة أنباء الأخبار الموريتانيّة المستقلّة أنّ مصدرا مقرّبا من مدير تحرير الصحيفة أكّد لها (أنّ المدير تعرّض لضغوط كبيرة لتقديم اعتذار عن نشر القصّة التي تمثّل حرجا للحكومة الانتقالية)(2) .

ولعلّ كثيرا من الذين يضربون نساءهم إنّما ينفّسون على أنفسهم من شدّة ما يلقون في حياتهم المهنيّة أو علاقاتهم الاجتماعيّة خارج البيت؛ وإلاّ فإنّ أولى النّاس باستدرار رحمة الرّجل وشفقته وحنانه زوجته وأولاده، فإنّهم لا يتوقّعون منه مجرّد الإعالة

____________________

(1) الترخيص بالضرب الخفيف أساء فهمه أقوام فانتقلوا من الترخيص إلى التحريض، ومارسوا ذلك في دول الغرب باسم الإسلام فقدموا دليلا ملموسا لمن يتهم المسلمين بالعنف. جاء في جريدة الشرق الأوسط ليوم الثلاثاء 24 ذو الحجة 1426 هـ 24 يناير 2006 العدد 9919 ما يلي: طالب أحد القياديين الحزبيين في هولندا بضرورة الملاحقة القضائية لكل شخص يحرض الرجال على ضرب النساء، وطالب بتعديل القوانين حتى تسمح بتحقيق ذلك. جاء ذلك على لسان ما كسيم فيرهاخن، رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الديمقطراطي المسيحي، اكبر الأحزاب الهولندية والذي يقود الائتلاف الحكومي الحالي برئاسة بيتر بالكينيند. وأضاف المسئول الحزبي في تصريحات لصحيفة (تراو) الهولندية على موقعها بالإنترنت، أنه يرد بذلك على الدعوات، التي تضمنتها تصريحات وخطب عدد من الأئمة المسلمين في المساجد والتي تضمنت إعطاء الحق للرجل بضرب زوجته إذا أخطأت. وقال (إن القوانين الحالية تقف عائقا إمام النيابة العامة لملاحقة هؤلاء الأشخاص، ومن أجل إزالة تلك العوائق لابد من إجراء تعديل في القانون الحالي، الذي ينصّ على حرية العقيدة وحرية التعبير، وهي أمور يستغلها البعض في التحريض على أشياء ويقف القانون عاجزا على محاكمة هؤلاء الأشخاص.

(2) باعتبار أن المجتمع الموريتاني أيضا مجتمع قبليّ، فإنّه لا يبعد أن تكون قبيلة الزّوج الضّارب أكثر ما لا وأعزّ نفرا من قبيلة الزوجة المضروبة، ولهذا تمّ دفن القضيّة بهدوء. والعرف يقضي أنّ الوزراء يتمتّعون بحصانة دبلوماسية، وأنّ التعدّي على أحدهم بالضّرب مما يعاقب عليه القانون.

٣٨١

الماديّة من تغذية وكسوة وعلاج،وإنّما يهفون إلى مزيد من العناية العاطفيّة والرّعاية المعنويّة، وذلك هو ما يقوّي العلاقات بين أفراد الأسرة، ويعطي الطّفولة الطّعم الذي ينشده كلّ طفل.

والذي لا يقبل كثرة الجدال، باعتباره أمرا وجدانيا، هو أنّ صورة الأمّ في نفوس وقلوب أطفالها تتكسّر إذا ضربها شخص ما أمامهم، فكيف إذا كان الضّارب هو الأب نفسه، الذي يفترض فيه حمايتها ورعاية حرمتها وطلب راحتها. هذه النّقطة التي لا يلتفت إليها كثير من الآباء هي وراء عنف الشّوارع والملاعب، كما أنّ أثرها واضح في تقهقر وانحطاط مستويات التّلاميذ في المدراس!

قصّة ضرب النساء بطلها عمر بن الخطاب، فهو الذي ذهب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بالسّلوك الجديد للنّساء، وحصل بذلك على رخصة لضرب النّساء بما يضمن عودة حقوق الرّجال، وهو إنجاز حضاري كبير يسجّل لعمر، لأنّه استطاع أن يعيد النّساء إلى وضعهنّ الذي كنّ عليه في الجاهليّة، ولهذا نراه فيما بعد حين أصبح على سدة الحكم يقول: (لا يسأل الرجل فيم يضرب زوجته) أو بعبارة قرآنية (لا يسأل عما يفعل)؛ وقد جاء ردّ فعل الرجال سريعا وبشكل جماعيّ، وهو ما يطرح علامة استفهام بخصوص العلاقات في بيوت الصّحابة، والموقف من الضرب، لأنّ سلوكا جماعيا بهذا الانسجام لا يحدث غالبا بهذه السّرعة، إذ بمجرّد أن صدر التّرخيص بالضرب كثرت ضحايا العنف من النّساء، ولا يعقل كون النّساء قد أسأن المعاملة مباشرة بعد التّرخيص، لأنّ ذلك ليس في مصلحتهنّ، لكن يبدو أنّ هناك من كان ينتظر هذا التّرخيص لإعادة الجاهلية في معاملة النساء.

تصرّح بعض الرّوايات أنّ النساء اللاتي طفن بآل محمد يومها كنّ سبعين امرأة، وهذا عدد كاف للفت انتباه كل من يراهنّ مجتمعات أمام بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بيت فاطمة وعلي عليهما السلام، لأنّ الرواية تقول: (لقد طاف بآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن)، وهو مشهد محزن تنفلق له الأكباد، ولا شكّ أنّ الضّرب كان قد

٣٨٢

بلغ الحدّ الذي يدفع إلى التّشكّي، وإلاّ فإنّ المرأة تحرص عادة على إخفاء الضّرب الخفيف، ولا تعتبره شيئا يستحقّ أن يطلّع عليه الأجانب عن العائلة، لأنّ في إظهار ذلك حطّا من شأنها قبل كل شيء، وإظهارا لسوء العلاقة بينها وبين زوجها، فإنّ الرّجل الذي يحبّ امرأته لا يضربها؛ فالمرأة تحرص على أن تبدو الأمور طبيعية لا عنف فيها، لكن إذا بلغت الأمور الحدّ الذي لا يطاق، فإنّها تشكو ما تلقى ولو بحثا عن المواساة لتخفيف الألم، وقد يكون ذلك نقطة التّحول للتفكير الجدّي في طلب الطلاق.

نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها، وهي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بخصوص الذين ضربوا النساء (ليس أولئك بخياركم)، فنفى عنهم أن يكونوا خيار الأمّة؛ ولأنّ عمر بن الخطاب منهم فإنّه بمقتضى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون من خيار الصّحابة فضلا عن أن يكون خيرهم بعد أبي بكر كما يروّج له منذ قرون طويلة. قال الطيبي في شرح العبارة: (ليس أولئك أي الرجال الذي يضربون نساءهم ضربا مبرحا أي مطلقا بخياركم، بل خياركم من لا يضربهنّ ويتحمّل عنهنّ أو يؤدّبهن ولا يضربهن ضربا شديدا يؤدي إلى شكايتهن)(1) . ومع ذلك، ومع نفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون من يضرب النساء من خيار المؤمنين إلاّ أنّ ثقافة الكرسي تأبى أن تدخل عمر بن الخطاب في إطار من يشملهم خطاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بقي عمر بعد هذه الواقعة يضرب النساء وكأنّ الكلام لا يعنيه. ووجد أقوام في فعله ما ينهض لفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستدلّوا بعنفه على جواز الضرب!

ولأن الضرب يشوّه قطعا العلاقة بين الزوجين على كل مستوياتها فقد أشار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك بتعبير دقيق لا يرتاب فيه أهل المروءة أيّا كان الدين الذي ينتمون إليه؛ قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثمّ يجامعها في آخر اليوم؟ وأخرج عبد الرزاق عن عائشة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أما

____________________

(1) عون المعبود، ج 6 ص 130.

٣٨٣

يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد، يضربها أول النهار ثم يضاجعها آخره(1) ؟!

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما يستحيي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أوّل النّهار ثمّ يضاجعها آخره، أما يستحيي(2) ؟!

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن الزّبير قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا عسى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب الأمة، ألا خيركم خيركم لأهله(3) .

أقول:

وليس خير النّاس لأهله من يضربهم. والضّرب يورث التّباغض والكراهية بين الضارب والمضروب، ويكفي أنّ عمر بن الخطّاب نفسه يتألّم في شيخوخته لمجرّد تذكّر الضّرب الذي كان يتلقّاه من أبيه في الصغر، ويقول عنه (كان فظا غليظا)!

وعن الأشعث بن قيس قال: تضيّفت عمر، فلمّا كان في بعض الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما فلمّا رجع إلى فراشه وأخذ مضجعه قال: يا أشعث احفظ عنّي شيئا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول (لا يسأل الرّجل فيما يضرب امرأته).

وفي الطبقات الكبرى عن أبي سفيان عن أيوب قال جاءت امرأة إلى رسول الله قد ضربها زوجها ضربا شديدا فقام رسول الله فأنكر ذلك وقال: (يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحيي)(4) .

أقول:

قد أنكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب المرأة في هذه القصة، ولو كان الحديث المنسوب إليه من طريق عمر صحيحا لقال لها (هذا شأن بينك وبين زوجك، ولا يسأل الرّجل فيما يضرب امرأته) لكنه لم يفعل، بل أنكرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعال النبي وتقريراته ونواهيه

____________________

(1) الدر المنثور، ج 2 ص 523.

(2) مصنف عبد الرزاق، ج 9 ص 442 تحت رقم 17943.

(3) مسند البزار ج 3 ص 197.

(4) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد ج 8 ص 205.

٣٨٤

واستنكاراته تكشف عن الموقف الشرعي، وعليه ينبغي على المسلم أن يستنكر ضرب النساء. وكيف ينهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ضرب النّساء ويقول (استوصوا بالنساء خيرا) ثمّ يعطي الرّجال رخصة موسّعة لضربهنّ ويمنع من مجرّد محاولة معرفة السبب الذي أدّى إلى الضرب؟

قال ابن تيمية: (.. فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحقّ الواجب عليها حتى تؤدّيه(1) .

وعن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال خيركم خيركم لنسائهم. رواه البزار وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وقد وثق وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات(2) .

عن عبدالرحمن بن عبد الله المكي عن الأشعث بن قيس قال: تضيّفت عمر بن الخطّاب فقام في بعض الليل فتناول امرأته فضربها ثم ناداني يا أشعث قلت لبيك قال أحفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تسأله عمن يعتمد من إخوانه ولا يعتمدهم ولا تنم إلا على وتر هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(3) .

أقول:

وأنت ترى أنه هتك سترها أمام أجنبي..

والقصة في سنن ابن ماجه كما يلي: عن عبد الرحمن المسلمي عن الأشعث بن قيس قال ضفت عمر ليلة فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما فلما أوى إلى فراشه قال لي يا أشعث احفظ عني شيئا سمعته عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ونسيت الثالثة(4) .

____________________

(1) دقائق التفسير، ج 2 ص 40.

(2) مجمع الزوائد ج 4 ص 303.

(3) المستدرك على الصحيحين، ج 4 ص 194.

(4) سنن ابن ماجه ج 1 ص 639 تحت رقم 1986. ومسند عبد بن حميد ج 1 ص 43 تحت رقم 37.

٣٨٥

أقول:

قام إلى امرأته يضربها في جوف الليل مع حضور شخص أجنبي في البيت. وقد اضطرّ الضيف إلى التّدخّل ليحجز بينهما. ولعلّ السّبب الذي ضربها لأجله لم يكن وجيها، لهذا فقد حسم المسألة بقوله ما قال.

وعن الأوزاعي عن الزهري قال مضت السّنة في الرّجل يضرب امرأته فيجرحها أن لا تقصّ منه ويعقل لها(1) .

أقول:

أية سنة هذه التي يتّحدثون عنها؟!

قال أحمد في الرجل يضرب امرأته لا ينبغي لأحد أن يسأله ولا أبوها لم ضربتها والأصل في هذا ما روى الأشعث عن عمر أنه قال يا أشعث احفظ عني شيئا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسألن رجلا فيما ضرب امرأته رواه أبو داود ولأنه قد يضربها لأجل الفراش فإن أخبر بذلك استحيي وإن أخبر بغيره كذب(2) .

قال الشافعي: وفي قوله لن يضرب خياركم دلالة على أن ضربهنّ مباح لا فرض أن يضربن ونختار له من ذلك ما اختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنحب للرّجل أن لا يضرب امرأته في انبساط لسانها عليه وما أشبه ذلك(3) .

قال ابن كثير: واشترى (أبوبكر) جارية بني مؤمل حي من بني عدي كان عمر يضربها على الإسلام(4) .

قال (عمر): بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجّها! فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك فلما

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة، ج 5 ص 411 رقم 27489.

(2) المغني، ج 7 ص 243.

(3) كتاب الأمّ، الشّافعي، ج 5 ص 194.

(4) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 3 ص 58.

٣٨٦

رأى عمر ما بأخته من الدّم ندم على ما صنع(1) .

أقول:

وأنت ترى أنه يضرب أخته أمام زوجها، ويضرب الرّجل أمام زوجته، وفي هذا من انتهاك حرمتهما ما فيه.

وعن ابن شهاب قال: حدّثني سعيد بن المسيّب قال: لمّا توفّي أبوبكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النّوح فأقبل عمر بن الخطّاب حتى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر فأبين أن ينتهين؛ فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلى ابنة أبى قحافة أخت أبي بكر! فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرّج عليك بيتي! فقام عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك! فدخل هشام فأخرج أمّ فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها بالدّرّة فضربها ضربات فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك(2) .

أقول:

يبدو أنّ الخليفة مولع بالهجوم على أهل الحداد وعلى النّساء منهم خصوصا هذا مع أنّهم فقدوا أعزّاءهم وتيقّنوا أنّهم لن يروهم قبل يوم القيامة إلاّ في عالم الرّؤيا؛ فكما هجم على بيت فاطمة عليها السلام هجم على بيت عائشة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي في نفس الوقت بمنزلة أمّه باعتبارها أمّ المؤمنين وزوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنة صديقه وحليفه الأوّل فلم يرع لا هذه ولا تلك ولا الأخرى وهجم على بيت عائشة الذي هو أحد بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إشكال. وقد قالت لهشام بن الوليد بعبارة صريحة إني أحرّج عليك بيتي. فإذا كان القرءان الكريم قد نهى عن دخول بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون إذن منه فكيف بالهجوم عليه؟ ثمّ هو يقول للرّجل: ادخل فقد أذنت لك! فمتى أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالة كي يأذن بذلك. وهل ينسخ كلام عمر كلام الله تعالى الذي لا معقب لحكمه؟ وتبقى المسألة محلّ تأمّل.

____________________

(1) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 3 ص 80.

(2) تاريخ الطبري، ج 2 ص 614. والقصّة أيضا في شرح نهج البلاغة، ج 1 ص 181.

٣٨٧

قال [ابن الجوزي]: أحدها أنّ عمر بن الخطّاب رأى جارية متبرّجة فضربها وكفّ ما رأى من زينتها فذهبت إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عبّاس(1) .

قصّة أم كلثوم

في البداية لابدّ من التّذكير بالأساليب التي اتّبعها أعداء أهل البيت عليهم السلام للحطّ من شأنهم، وتقديمهم بصورة من لا تهمّهم المعالي ولا تحرّكهم الهمم، وهذا واضح في تكفير أبي طالب ونسبة والدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشّرك بالله تعالى، وقصة الغرانيق، وأمور كثيرة لا تخفى على الباحث النّزيه. والإسلام يدعونا إلى التّدبّر والتّأمّل والتّفكّر كي نكون على بصيرة من أمرنا ونتجنّب التقليد الأعمى الذي كان يتمسّك به المشركون(2) . فهل يقرّ لنا التّدبّر قبول كلّ ما وجدناه في كتب تمجّد الحاكم وإن كان فاسقا وتستهجن المعارض وإن كان ابن نبيّ؟!

من القصص التي روتها الصّحاح دون حياء من الله تعالى ولا رعاية لحرمة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّة خطبة علي بن أبي طالب عليه السلام ابنة أبي جهل! ولم يأتوا باسمها ولا بصفاتها لأنّ الذين اختلقوا القصّة كان يهمّهم الطّعن في علي بن أبي طالب عليه السلام فكان كل اهتمامهم منصبّا على الخطبة وصاحب الخطبة، وأمّا التّفاصيل الخاصّة بالمخطوبة فلم يكن لها محلّ من الإعراب.

لماذ يخطب علي بن أبي طالب عليه السلام ابنة أبي جهل المزعومة بالذات؟ ومع ذلك رواها البخاري وغيره من طريق أعداء علي عليه السلام الذين حاربوه وسبّوه وشتموه ولعنوه! هذا مبلغ الإنصاف عند المحدّثين الذين يتلون قوله تعالى( وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى ) . ولقد أشار القرآن الكريم إلى علي عليه السلام

____________________

(1) زاد المسير، ابن الجوزي ج 6 ص 421.

(2) إشارة إلى قول المشركين ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) المائدة 104، وقولهم ( بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) لقمان 21، وقولهم ( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُهْتَدُونَ) الزخرف 23.

٣٨٨

بـ نفس رسول الله في آية المباهلة من سورة المائدة، فهو إذاً نفس رسول الله، فيه كل ما في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستثناء النبوة لكونها مختومة لا أنّ عليا عليه السلام لا يكون أهلا لها، كما أنّه يأتي بعده مباشرة في الترتيب باعتباره لم يشرك بالله طرفة عين، وقد سمّى القرآن الكريم المشركين نجسا في قوله تعالى( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ، فمن أشرك ساعة فقد كان نجسا ساعة، ومن أشرك أربعين سنة فقد كان نجسا أربعين سنة، والله تعالى أجلّ شأنا من أن يساوي بين من طهّرهم بنفسه ومن تنجس بأنجاس الجاهلية، فكيف بالتفضيل؟!

نعم، يروون أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام المطهّر بنص الكتاب العزيز، والذي هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة هارون من موسى، والذي يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لم يكتف بسيدة نساء العالمين جمالا وشرفا وعلما وفهما وعبادة... وذهب يخطب بنت أبي جهل! من هو الرجل الذي تكون في بيته امرأة مثل فاطمة عليها السلام ثمّ يذهب يخطب مثل بنت أبي جهل عدوّ الله؟! ولأيّ شيء يخطبها؟ ولماذا هي دون غيرها؟ ولماذا لم تذكر بنت أبي جهل في شريفات نساء قريش؟

هؤلاء الذين رووا هذا الإفك همالذين يروون أيضا أنّ أم كلثوم بنت علي عليه السلام تزوجت عمر بن الخطاب! وهي تعلم أنّ أمهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماتت ساخط عليه غاضبة عليه، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا فاطمة إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك)(1) . أضف إلى

____________________

(1) كنز العمال، ج 12 ص 51 رقم 34237. الديلمي عن علي بلفظ (إن الله عزوجل ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها) وباللفظ المذكور أعلاه رقم 34238 ع طب ك وتعقب. أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 3 ص 154، وقال الذهبي: فيه حسين بن زيد منكر الحديث لا يحلّ أن يحتجّ به، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر عن علي. اهـ. وأقول: مذهب الذهبي في الجرح معلوم، وكل ما فيه فضيلة لأهل البيت عليهم السلام لا ينالها غيرهم فهو باطل. وكيف لا يكون الذّهبيّ كذلك وهو القائل في حديث (أتاني جبريل بسفرجلة من الجنّة فأكلتها ليلة أسريبي فعلقت خديجة بفاطمة فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة): هو كذب جليّ من وضع مسلم بن عيسى الصّفّار لأنّ فاطمة ولدت قبل النبوة فضلا عن الإسراء. وهو [الذهبي] بهذا الكلام يرمي غلى غاية خبيثة لا يمكن أن ينطوي عليها قلب يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يريد أن يقول: إنّ فاطمة وإن كان أبوها سيّد الأنبياء فإنّ أمّها لم تكن مسلمة حيث لم يكن في مكة من قريش مسلم قبل البعثة كما هو مذهب الذهبي وأشباهه، فتكون فاطمة حال انعقاد نطفتها من رسول الله وامرأة غير مسلمة!! بينما يصرّ الذهبي على أنّ عائشة بنت أبي بكر ولدت بعد البعثة أي من أبوين مسلمين! هذا مبلغ حبّ

٣٨٩

ذلك أنّ عمر بن الخطّاب خطب أمّها فاطمة وردّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي قال للمسلمين (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)! وفي تقاليد العرب يستهجنون أن يخطب الرجل المرأة ثم يخطب ابنتها بعد ذلك، ويعتبرونه ساقط الهمة ح بل في تقاليدهم أن الرجل إذا خطب إلى أهل بيت وردّوه لم يعد إلى ذلك البيت أبداً. كلّ ما في المسألة أنّ الحاقدين على علي عليه السلام قرّروا أن يستبيحوا منه كلّ شيء، دماء أولاده وأعراض بناته، وكرامته الشخصية! وإلى يومنا هذا لا يزال بغض علي ساري المفعول تحت إشراف حاخامات وأموال نفطية، وإلاّ فإن أم كلثوم بنت علي عليه السلام أجلّ في نفسها من أن تعقّ أمّها فتتزوّج أبغض الناس إليها.

ولأنّ هذا الكتاب لم يوضع لمناقشة هذه القضية، ولأن الفضلاء قد كتبوا في الموضوع وأشبعوه بحثا دفاعا منهم عن كرائم بيت النبوة، فإنني لا أملك إلا أن أتوقف عند هذا الحدّ.

الهجوم على بيت فاطمة

كثر الحديث في أيّامنا حول التّشكيك في الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام، مع أنّ أبابكر بن أبي قحافة اعترف شخصيّا أنّه كشف بيت فاطمة، وقال ذلك في آخر حياته كالنّادم على فعلته، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز. قال أبوبكر بن أبي قحافة: (فأما الثلاث اللاتي وددت أنّي لم أفعلهنّ فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وأن أغلق علي الحرب ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر.. الخ الحديث)(1) . لكن المشكّكين أشدّ بكريّة من أبي

____________________

الذهبي لرسول الله وآله. وكأنّ في ولادة فاطمة عليها السلام بعد البعثة خطرا على الإسلام! كنزل العمال، ج 12 ص 51.

(1) مجمع الزوائد، ج 5 ص 203 والمعجم الكبير، الطبراني، ج 1 ص 62 وكنز العمال، ج 5 ص 252 ولسان الميزان، ج 4 ص 189، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، ج 5 ص 135، وتاريخ مدينة دمشق، ج 30 ص 418 وج 30 ص 418، وج 30 ص 420، وج 30 ص 421، وج 30 ص 422 ومنهاج السنة النبوية، ج 8 ص 290 وتاريخ الطبري، ج 2 ص 353، وتاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 137، وسمط النجوم العوالي، ج 2 ص 465 وتاريخ الإسلام، ج 3 ص 118.

٣٩٠

بكر نفسه، لذلك تراهم يوردون الإشكال بعد الإشكال، ويزعمون أنّ في ذلك قدحا في علي بن أبي طالب عليه السلام وحطّا من شأنه! لأنّه شجاع، ولا ينبغي أن يحدث مثل ذلك أمامه ولا يستعمل شجاعته! يفسّرون الشّجاعة بالتّهوّر، بعيدا عن الحكمة، وهم يعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشجع وأشرف من علي عليه السلام كان يمرّ على المؤمنين يعذّبون في مكّة فلا يملك إلا أن يقول (صبرا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة).

قال المفكر الإسلامي حسن بن فرحان المالكي في كتابه قراءة في كتب العقائد: (.. ولكن حزب عليّ كان أقل عند بيعة عمر منه عند بيعة أبي بكر الصديق نظرا لتفرقهم الأوّل عن عليّ بسبب مداهمة بيت فاطمة في أوّل عهد أبي بكر وإكراه بعض الصّحابة الذين كانوا مع عليّ على بيعة أبي بكر، فكانت لهذه الخصومة والمداهمة (وهي ثابتة بأسانيد صحيحة) ذكرى مؤلمة لا يحبون تكرارها)(1) . وقال بهامش الصفحة نفسها: (كنت أظن المداهمة مكذوبة لا تصح حتى وجدتلها أسانيد قوية منها ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، لكن ليس كما يبالغ غلاة الشيعة وليس كما ينفي غلاة الحنابلة). وقال ابن تيمية: ونحن نعلم يقينا أن أبابكر لم يقدم على عليّ والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أوّلا وآخرا. وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء. وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون إنّ الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى أسقطت(2) . أقول: وهذا يعني أنّ المداهمة وقعت فعلا، ولا مجال إلى إنكارها، لكن ابن تيمية تعلّل بمسألة المال! وكأنّ فاطمة عليها السلام تخفي في بيتها مال المسلمين! فابن تيمية وإن كان لا يصرّح بما يعتلج في صدره إلاّ أنه يتّهم فاطمة عليها

____________________

(1) قراءة في كتب العقائد، حسن بن فرحان المالكي، ص 52.

(2) منهاج السنة النبوية، ج 8 ص 291.

٣٩١

السلام بالسّرقة أو الغلول أو شيئا من ذاك القبيل. ومتى دخل بيت فاطمة شيء من مال المسلمين. وعلى فرض أن يكون فيه شيء من مال المسلمين فإنّه لا يكون بدون إذن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهنا ينبغي على ابن تيمية أن يوجّه الإشكال إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتّهمه بما اتّهم به فاطمة عليها السلام، لأنّ فاطمة لم تخرج من بيتها ولم تجلب شيئا. وقد كان في وسع أبي بكر وحزبه أن ينظروا - إن كان هناك مال أو لم يكن - بالطّرق المعهودة عرفا وعقلا بأن يرسلوا امرأة أو شيخا من شيوخ قريش، لا أن يداهموا. بل المداهمة كانت بقصد الإرهاب. وكاتب هذه السطور يعتقد فيما بينه وبين الله تعالى أنّ الإرهاب في حياة المسلمين سنّ في ذلك اليوم، وأنّه لا يزال يمارس إلى هذا اليوم.

المهم هو أنّ الذي تزعّم المداهمة - أو الهجوم أو الكبس أو سمّه ما شئت - هو عمر بن الخطاب، الذي كان هائجا يومها وزعم أنه أولى برسول الله من فاطمةوعلي عليهما السلام.

٣٩٢

الفصل السادس

عمر الحاكم

٣٩٣

٣٩٤

كيف استخلف عمر؟

قبل الدخول في بيان كيفية استخلاف عمر، يجدر التذكير بكيفية وصول أبي بكر إلى الخلافة، لأنّ خلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، مع سابقة ليس عليها دليل، لا من القرآن ولا من السنة الشريفة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع؛ وقد كفانا عمر بن الخطاب نفسه مؤونة البحث في صحّة خلافة أبي بكر حين حكم عليها هو نفسه أنّها كانت (فلتة وقى الله المؤمنين شرّها)، والمقطع الأوّل من عبارته صحيح، أمّا المقطع الثّاني فغير مسلّم، لأن شرّ بيعة السقيفة لا يزال إلى اليوم يفعل فعله.

قالوا:... فلما سمع القوم صوتها(1) وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقى عمر ومعه قوم(2) ، فأخرجوا عليّا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك [!]، فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت)(3) . وهنا ينبغي للمتأمّل أن يتوقّف. هذان صحابيّان من أصحاب رسول الله يكذب أحدهما الآخر، وهما من الخلفاء الرّاشدين، ومن المبشرين بالحنة؛ وقد لقّنونا منذ الصغر أنّ الراشدين فوق كلّ اعتبار، فلماذا يكذّب الراشدون بعضهم بعضا، ولماذا يهدّد بعضهم بعضا بالقتل؟!

هكذا مهّد عمر بن الخطاب لدولته. تماما كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام: (احلب يا عمر حلبا لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا). يقول حزب السّقيفة لعلي بن أبي طالب عليه السلام إمّا أن تبايع وإمّا (والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك)! أليس هذا إرهابا؟ وإذا لم يكن هذا إرهابا فما هو الإرهاب؟ أين هم من قول الله تعالى( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ ) ؟ وهل هناك إكراه اكبر من أن يخيّر

____________________

(1) أي صوت فاطمة عليها السلام.

(2) عمر والقوم الذين معه ليس لهم قلوب تنصدع أو أكباد تنفطر. وهذا التصرف يكشف أنهم كانوا مستعدين لذلك اليوم.

(3) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، ج 1 ص 20.

٣٩٥

بيعة لا يؤمن بها وبين القتل؟ هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب يمتنع من مبايعة علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بايعه المسلمون في بيته المهاجرون منهم والأنصار، ولا يرى في ذلك أدنى حرج! بل يزعم أنّه أحسن التعامل مع الفتنة!! لكن بمقتضى سيرة عمر بن الخطّاب، فإنّ عبد الله بن عمر يستحقّ القتل، لأنّه رفض أن يدخل في ما دخلت فيه الأمّة! وأيّة أمّة؟! أمّة عبدت الصّنم أكثر من أربعين سنة وهي مع ذلك تدّعي أنها أعلم بدين الله تعالى من نبيّه وأهل بيت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وخرج أبو بكر بن أبي قحافة من الدنيا، وبتعه عمر، وبقيت بيعة السّقيفة مختلفا فيها، يؤمن بها أصحاب ثقافة الكرسيّ ويرفضها أهل الضمائر الحيّة. أي أنّها بقيت غير شرعيّة،ولو كانت شرعيّة لما جاز لفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تتبرّأ منها ومن أهلها، حتى أنّها لم ترهم أهلا ليحضروا الصّلاة عليها! ومن خطّأ فاطمة عليها السلام فقد خطّأ الله تعالى ورسوله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين.

إذاً فالقضية قضية (اشدد لي اليوم اردد إليك غدا)، ولا أثر فيها لما يذكره المؤرّخون من أمثال ابن خلدون والمتكلّمون من أمثال الإيجي والتفتازاني الماوردي وغيرهم من المنظّرين المصوّبين. ولا يستطيع أحد من هؤلاء أن يوجد انسجاما بين سيرة رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين سيرة قريش يوم السّقيفة.

عن عائشة قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبوبكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب. إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن يعدل فذاك ظنّي به ورجائي فيه، وإن يجر ويبدّل فلا أعلم الغيب( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (1) .

وعنها أيضا قالت: كان عثمان يكتب وصية أبي بكر قالت فأغمي عليه، فعجل وكتب عمر بن الخطّاب، فلمّا أفاق قال له أبوبكر: من كتبت؟ قال: عمر بن الخطّاب.

____________________

(1) مختصر ابن كثير، ج 2 ص 879.

٣٩٦

قال كتبت الذي أردت أن آمرك به، ولو كتبت نفسك كنت لها أهلا(1) .

أقول: الرّوايتان عن عائشة، والموضوع واحد، لكنّ طريقة كتابة الوصيّة تختلف، فمرّة كتب أبوبكر، ومرّة كتب عثمان.

ولا يبعد أن يكون قلب عثمان قد التهب حسرة عند قول أبي بكر: (ولو كتبت نفسك كنت لها أهلا)، لكن هل يوافق على ذلك عمر؟!

عمال عمر

كان لعمر بن الخطاب طريقته في تعيين الولاة، وهي طريقة لم تكن تختلف كثيرا عن طريقة أبي بكر بن أبي قحافة التي ترى أولويّة تثبيت سلطان قريش. ولا يحمي سلطان قريش إلاّ أبناء قريش نفسها، لكن أيّ قريش؟ لأنّ هناك تكتّلا يحمل هذا الاسم ومن أولوياته تهميش بني هاشم والتّضييق عليهم، ومنع تدوين الحديث النّبوي وتفسير القرآن الكريم. أما بنو هاشم فهم على عكس ذلك تماما، همّهم إحياء سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعدل في توزيع المال والحقوق، وإنزال الناس منازلهم. وإذا كان لأبي بكر حاشيته التي يأتي في مقدمتها خالد بن الوليد ومن معه، فإنّ لعمر أيضا حاشيته، وله أيضا جهاز أمن سرّي لا يكاد يفوته شيء، ينقل إليه أخبار الليل وأخبار النّهار من المشرق والمغرب حتى ليكاد يقع في خلد المتتبع أنّ عمر بن الخطاب لم يكن يثق في أحد، لا من البدريّين ولا من غيرهم! وقد كانت له في ذلك أيضا تناقضات صارخة بعضها يدعو إلى التعجّب. من ذلك أنهم رووا أنّ عمر بن الخطاب قال من استعمل فاجرا وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله)(2) . وقال أيضا: (لا يستعمل الفاجر إلا الفاجر)(3) . وعن ابن عمر: 0 لا يولّي الخائن إلا الخائن)(4) . وفي نفس الوقت شهد

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة، ج 6 ص 361.

(2) كنز العمال ج 5 ص 303 وأخبار القضاة ج 3 ص 209.

(3) أخبار القضاة، ج 1 ص 69.

(4) أخبار القضاة، ج 1 ص 69.

٣٩٧

على المغيرة بن شعبة أنّه فاسق ثمّ ولاّه في نفس المجلس! قال اليعقوبي: ثمّ إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا لا يحسن يصلي، فعزله عمر عنهم، فدعا عليهم سعد ألا يرضيهم الله عزوجل عن أمير ولا يرضي أميرا منهم. وولّى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر ثمّ قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله ووجّه جبير بن مطعم فمكر به المغيرة وحمل عنه خبرا إلى عمر وقال له: ولّني يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل فاسق! قال: وما عليك مني، كفايتي ورجولتي لك، وفسقي على نفسي! فولاّه الكوفة. فسألهم عن المغيرة فقالوا: (أنت أعلم به وبفسقه). فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة، إن وليتكم مسلما تقيّا قلتم هو ضعيف، وإن ولّيتكم مجرما قلتم هو فاسق. فيقال: إنّه ردّ سعد بن أبي وقّاص(1) .

وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص، وفلانا، وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة؟!! فقال: (أما عليّ فأنبه من ذلك، وأمّا هؤلاء النّفر من قريش، فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد). وعلّق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله: فمن يخاف من تأميرهم لئلاّ يطمعوا في الملك، ويدّعيه كل واحد منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستّة متساويين في الشّورى، مرشّحين للخلافة! وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا..؟ وفي هذا المعنى ما نقله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد قال: قال معاوية لابن أبي الحصين: ما الذي شتت أمر المسلمين وجماعتهم وفرق ملأهم وخالف بينهم؟ فقال: قتل عثمان. قال: ما صنعت شيئا. قال: فسير عليّ إليك. قال: ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. فقال: فانا أخبرك أنّه لم يشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشّورى التي جعلها عمر في ستة، فلم يكن من الستّة رجل إلاّ رجاها لنفسه ورجاها لقومه، وتطلّعت إلى ذلك أنفسهم. ولو أنّ عمر

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 155.

٣٩٨

استخلف كما استخلف أبوبكر ما كان في ذلك الاختلاف(1) .

ورووا عن عمر أنه قال: من استعمل فاجرا وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله(2) .

كان عامل عمر بن الخطّاب في السّنة التي قتل فيها وهي سنة ثلاث وعشرين على مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعيّ، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثّقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية حليف بني نوفل بن عبد مناف وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعريّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان، وعلى البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثّقفي، وفي هذه السّنة أعني سة ثلاث وعشرين توفّي فيما زعم الواقديّ قتادة بن النّعمان الظّفري وصلّى عليه عمر بن الخطّاب، وفيها غزا معاوية الصّائفة حتى بلغ عمورية ومعه من أصحاب رسول الله عبادة عسقلان على صلح. وقيل كان على قضاء الكوفة في السّنة التي توفّي فيها عمر بن الخطّاب شريح وعلى البصرة كعب بن سور، وأما مصعب بن عبد الله فإنّه ذكر أن مالك بن أنس روى عن ابن شهاب أنّ أبابكر وعمر ما لم يكن لهما قاض.

أقول:

وأنت ترى أنّه ليس فيهم هاشميّ واحد مع أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم، كما أنّه ليس فيهم بدري واحد! لكن فيهم ابن آكلة الأكباد، وابن رأس الأحزاب، وفيه ابن من نزل في حقّه قوله تعالى( إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) ، ومن هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتا من الشّعر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم إني لا أقول الشعر فالعنه بكل بيت لعنة(3) ! وفيهم من كان عليّ عليه السلام يقنت بلعنه في الصّلوات. وبالجملة، فيهم أعداء علي بن أبي طالب عليه السلام

____________________

(1) العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج 3 ص 75.

(2) كنز العمال، ج 5 ص 303 رقم 14306.

(3) وهو عمرو بن العاص.

٣٩٩

الذين حاربوه فيما بعد، وسبّوه وشتموه ولعنوه، ولا زالوا إلى هذه اللحظة يتمتّعون بحصانة لا تقبل النقاش.

عن مجالد عن الشعبي قال: بعث عمر بن الخطّاب أول ما بعث إلى الكوفة أبا عبيد الثقفي أبا المختار فقتل فبعث سعد بن أبي وقاص فمكث خمس سنين ثم نزعه ثم بعث عمار بن ياسر فمكث سنة ثم نزعه وبعث المغيرة بن شعبة فمكث سنة ثم قتل عمر فلما ولي عثمان بعث سعدا إلى الكوفة فمكث سنة(1) .

قال ابن قتيبة: وقال ابن الكلبي كان أميّة بن عبد شمس خرج إلى الشّام فأقام بها عشر سنين فوقع على أمة للخم يهوديّة من أهل صفوريّة يقال لها ترنا وكان لها زوج من أهل صفورية يهوديّ فولدت له ذكوان فادعاه أميّة واستلحقه وكناه أبا عمرو، ثمّ قدم به مكة، فلذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعقبة يوم أمر بقتله: إنّما أنت يهوديّ من أهل صفورية. و (الوليد بن عقبة) ولاّه عمر على صدقات بني تغلب وولاّه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص فصلّى بأهلها وهو سكران وقال أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان فعزله وحدّه(2) .

أقول: ولاّه عمر بن الخطّاب بعد أن شهد عليه القرآن الكريم أنه فاسق(3) ، فانظر مدى احترام عمر بن الخطاب للقرآن الكريم.

قال السيوطي: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والنحاس في ناسخه وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطّاب قال إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت(4) .

____________________

(1) المعجم الكبير، الطبراني، ج 20 ص 367: رقم 857.

(2) المعارف، ابن قتيبة، ج 1 ص 319.

(3) أجمع المفسرون على أن قول الله تعالى( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

(4) الدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 436.

٤٠٠