مرآة العقول الجزء ١١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 407

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

الصفحات: 407
المشاهدات: 9072
تحميل: 1979


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9072 / تحميل: 1979
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 11

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

لهو ولعب وشغل واستبدال «الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ».

فذلك النفاق ودعائمه وشعبه والله قاهر «فَوْقَ عِبادِهِ » تعالى ذكره وجل وجهه

من نوع الإنسان من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة النافعة في الآخرة « واستبدال الذي هو أدنى » وهو الدنيا وزهراتها الفانية « بالذي هو خير » وهو الآخرة ونعمها الباقية.

« فذلك النفاق ودعائمه وشعبة » أي أصوله وفروعه المنتجة للبعد من الله ومن دينه ، فمن تخلص من الجميع فهو مؤمن كامل ، ومن اتصف بالجميع فهو منافق كامل ومن اتصف ببعض دون بعض فهو مذبذب بينهما شبيه بالمنافق إلى أن يستقر أمره فيما شاء الله تعالى.

قيل : أحاديث هذا الباب تدل على أن المؤمن أقل وجودا من الكبريت الأحمر إذ لا يخلو أحد من العلماء والصالحين عن بعض الخصال المذكورة فضلا عن غيرهم. ويمكن أن يقال : هذه الخصال إن كانت لأجل التهاون بالدين أو عدم اعتقاد حقيته كان صاحبها منافقا خارجا عن الإيمان ، مشاركا لمنافقي عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الاسم والمعنى ، وإن لم يكن لأجل ذلك بل حصلت بمجرد اقتضاء الطبيعة وهوى النفس الأمارة كان مشابها بهم ومشاركا لهم في الاسم دون المعنى ، ولا يكون بذلك خارجا عن الإيمان وإن خرج عن كماله ، قال المازري : من المخالفين من غلب عليه خصال النفاق وأصر فيها وجعلها طبيعة وعادة له لا من وجدت فيه ندرة ، وقال : لا بد من هذا التأويل لأن تلك الخصال قد تجتمع في واحد ولا تخرجه من الإسلام كما اجتمعت في بعض السلف وبعض العلماء ، وفي إخوة يوسف وأنهم حدثوا فكذبوا ووعدوا وأخلفوا وائتمنوا فخانوا ، مع أنهم لم يكونوا منافقين خارجين عن الإسلام لأن ذلك كان ندرة منهم ، ولم يصروا على ما فعلوا ، وقال محيي الدين البغوي : هذه ذنوب لا تكفر بها فتحمل على أن من فعلها عادة وتهاونا بالدين يكون منافقا خارجا عن الإسلام ، أو على أن المراد بالنفاق معناه اللغوي لأنه لغة إظهار خلاف

١٦١

و «أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » وانبسطت يداه ووسعت كل شيء رحمته وظهر أمره وأشرق

ما في الضمير ، ومن فيه هذه الخصال كذلك فإن الكاذب يظهر أنه صادق ومخلف الوعد يظهر أنه يفي بوعده وكذا في بقيتها « والله قاهر فوق عباده » إشارة إلى قوله تعالى : «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ »(١) أي غالب على جميعهم فوقهم بالاستيلاء والقدرة على إيجادهم وإبقائهم وإفنائهم « تعالى ذكره » أي عن النقائص أو عن أن يشبه ذكر المخلوقين أو عين أن يأتي به أحدكما هو حقه.

ويؤيد الثاني ما ورد في الدعاء : تعالى ذكرك عن المذكورين.

« وجل وجهه » أي ذاته أجل من أن يوصل إلى كنهه أو أنبيائه وحججهعليهم‌السلام أو دينه و «أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » قوله : خلقه بدل اشتمال لكل شيء أي أحسن خلق كل شيء أو هو بفتح اللام على صيغة الفعل وعلى التقديرين ناظر إلى قوله سبحانه : «ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » وقد قرئ على الوجهين.

قال البيضاوي «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » موفرا عليه ما يستعده ويليق به على وجه الحكمة والمصلحة ، وخلقه بدل من كل شيء بدل الاشتمال ، وقيل : علم كيف يخلقه عن قوله : قيمة المرء ما يحسنه ، أي يحسن معرفته وخلقه مفعول ثان ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف ، انتهى.

ويرد عليه أن الإحسان بمعنى العلم لا يتعدى إلى مفعولين.

في القاموس : هو يحسن الشيء إحسانا يعلمه ، فالظاهر أن يكون على هذا التقدير أيضا بدل اشتمال « وانبسطت يداه » إشارة إلى قوله تعالى : «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ »(٢) وقيل : ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه وإثباتا لغاية الجود ، فإن غاية ما يبذله السخي

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٨.

(٢) سورة المائدة : ٦٤.

١٦٢

من ماله أن يعطيه بيديه ، وتنبيها على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام.

وقال الطبرسي (ره) : اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه : الجارحة والنعمة ، والقوة والملك ، وتحقيق إضافة الفعل ، ثم قال : ولما كان الجواد ينفق باليد والجواد بمسك اليد عن الإنفاق ، أضافوا الجود والبخل إلى اليد ، فقالوا للجواد : مبسوط اليد ، وللبخيل مقبوض الكف ، وأنكر الزجاج كون اليد هنا بمعنى النعمة لأنه يكون معناه نعمتاه مبسوطتان ، ونعم الله أكثر من أن تحصى ، وأجيب بأن المراد مطلق التكرار نحو لبيك وسعديك ، ثم قال : ولك أن تحمل المثنى على أنه تثنية جنس ، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا ، والآخرة نعمة الآخرة والنعم الظاهرة والباطنة كما قال سبحانه : «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً »(١) وقيل : المراد باليد القوة أي قوتاه بالثواب والعقاب مبسوطتان ، انتهى.

وأقول : يحتمل أن يكون اليدان كناية عن النعمة والبلاء ، فإن منحه تعالى منح لعباده كما قيل في الدعاء : والخير في يديك ، وقيل : كناية عن قبول توبة المذنبين ، وإنما كني بذلك لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لأخذه ، وإذا كرهه قبضها.

« ووسعت كل شيء رحمته » من المؤمن والكافر ، والمكلف وغيره في الدنيا ، وأما في الآخرة فهو للمؤمن خاصة كما قال جل شأنه : «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ »(٢) .

« وظهر أمره » أي وجوده وعلمه وقدرته وحكمته بما أظهر في الآفاق والأنفس ، أو دينه وشرائعه في العباد ليقروا له بالعبودية ، أو أمره التكويني الدال على كمال

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٠.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٦.

١٦٣

نوره وفاضت بركته واستضاءت حكمته وهيمن كتابه وفلجت حجته وخلص دينه

قدرته « وأشرق نوره » أي أفاض نور الوجود والعلم والكمالات على جميع المواد القابلة بحسب قابلياتها ، واستعداداتها ، وقيل : أي علمه في قلوب العارفين أو حجته الدالة على وحدانيته وعلو ذاته وصفاته ، أو نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نور الولاية المشار إليه بقوله تعالى : «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ »(١) والأظهر أنه إشارة إلى قوله سبحانه : «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ »(٢) قيل : لقد ابتغوا الفتنة ، أي تشتت أمرك وتفريق أصحابك «مِنْ قَبْلُ » يعني يوم أحد «وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ » أي دبروا لك المكائد والحيل ودوروا لآراء في إبطال أمرك «حَتَّى جاءَ الْحَقُ » أي النصر والتأييد الإلهي «وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ » أي علانية «وَهُمْ كارِهُونَ » أي على زعم منهم.

« وفاضت بركته » أي كثرت من فاض الماء يفيض فيضا إذا كثر ، ومن أسمائه تعالى : الفياض لسعة عطائه وكثرته ، وتطلق البركة غالبا على النعم الدنيوية كالرحمة على الأخروية ، قال الراغب : أصل البرك صدر البعير ، وإن استعمل في غيره يقال له : بركة ، وبرك البعير ألقى بركة ، واعتبر منه معنى اللزوم وسمي محبس الماء بركة ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء قال تعالى : «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ »(٣) وسمي بذلك لثبوت الخير ثبوت الماء في البركة ، والمبارك ما فيه ذلك الخير.

« واستضاءت حكمته » أي شريعته أو مصلحته أو علمه بالأشياء وإيجادها على غاية الإتقان ، أو ما علمه العباد من الحكم كما قال تعالى : «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ »(٤) .

« وهيمن كتابه » أي صار كتابه حافظا وشاهدا ورقيبا على كل شيء ، لأن

__________________

(١) سورة الصفّ : ٨.

(٢) سورة التوبة : ٤٨.

(٣) سورة الأعراف : ٩٦.

(٤) سورة الجمعة : ٢.

١٦٤

فيه تبيان كل شيء أو هو قائم على سائر الكتب رقيب عليها لأنه يشهد لها بالصحة والأخير أظهر ، لأنه ناظر إلى قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ »(١) .

قال البيضاوي : من الكتاب ، أي من جنس الكتب المنزلة ومهيمنا عليه ورقيبا على سائر الكتب يحفظها عن التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات ، وقرئ على بنية المفعول ، أي هو من عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله تعالى ، والحفاظ في كل عصر ، وفي القاموس : هيمن الطائر على فراخه رفرف ، وعلى كذا صار رقيبا عليه وحافظا ، والمهيمن وتفتح الميم الثانية من أسماء الله تعالى في معنى المؤمن من أمن غيره من الخوف فهو ماء من بهمزتين ، قلبت الثانية ياءا ثم الأولى هاء ، أو بمعنى الأمين أو المؤتمن أو الشاهد.

« وفلجت حجته » أي غلبت حجته الدالة على ربوبيته وتوحيده وقدرته وحكمته وظهرت ظهورا تاما حتى فرقت بين الحق والباطل أو تمت حجته على العباد ، كما قال سبحانه : «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ »(٢) أو المراد بالحجة الرسل والأوصياءعليهم‌السلام « وخلص دينه » أي الدين الذي شرع للعباد خالص عن الكذب والباطل والغش ، وقيل : الدين الطاعة وفيه تنبيه على أن الطاعة المختلطة بغير وجه الله تعالى ليست طاعة.

أقول : هذا إشارة إلى قوله تعالى في الزمر : «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ »(٣) قال البيضاوي : أي محضا له الدين من الشرك والرياء ، ثم قال : ألا لله الدين الخالص ، قال : هو أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة ، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على السرائر والضمائر ثم قال :

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٥.

(٢) سورة الأنعام : ١٤٩.

(٣) سورة الزمر : ٢.

١٦٥

واستظهر سلطانه وحقت كلمته وأقسطت موازينه وبلغت رسله فجعل السيئة ذنبا

تعالى : «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » ثم قال سبحانه : «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ » إلى أن قال : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ».

قال الطبرسي : مخلصا له الدين من شرك الأوثان والأصنام ، والإخلاص له أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه لا جعل ذلك لغرض الدنيا ، والخالص ما لا يشوبه الرياء والسمعة ، ولا وجه من وجوه الدنيا ، والدين الخالص الإسلام ، وقيل : معناه ألا لله الطاعة بالعبادة التي يستحق بها الجزاء فهذا لله وحده لا يجوز أن يكون لغيره ، وقيل : هو الاعتقاد الواجب في التوحيد والعدل والنبوة والإقرار بها والعمل بموجبها ، والبراءة من كل دين سواها ، وقال : العبادة الخالصة هي التي لا يشوبها شيء من المعاصي ، انتهى.

فظهر أن خلوص دينه عبارة عن نفي الشرك الظاهر والباطن والجلي والخفي ، كما هو مفاد الآيات البينات « واستظهر سلطانه » الاستظهار بمعنى الظهور والعلو والغلبة ، يقال : ظهر على الحائط إذا علاه ، وظهر علي العدو إذا غلبه ، والسلطان يطلق على الحجة والبرهان والولاية والسلطنة والزيادات للتأكيد والمبالغة.

« وحقت كلمته » أي مواعيده في الثواب والعقاب للمؤمنين والكفار ، وقيل : أي كلامه مطلقا أو القرآن الكريم ، وفي الأخبار أن كلمات الله هم الحججعليهم‌السلام وكأنه إشارة إلى قوله سبحانه : «وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ »(١) وقوله : «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »(٢) وقوله : «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ »(٣) وقوله : «وَتَمَّتْ

__________________

(١) سورة غافر : ٦.

(٢) سورة يونس : ٣٣.

(٣) سورة الزمر : ٧١.

١٦٦

كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ »(١) .

« وأقسطت موازينه » أي صارت ذا قسط وعدل ، والإسناد مجازي وهو إشارة إلى قوله تعالى : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً »(٢) وقال البيضاوي : القسط العدل يوزن بها صحائف الأعمال ، وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة ، وفي المصباح : قسط قسطا من باب ضرب وقسوطا جار وعدل أيضا فهو من الأضداد ، قال ابن القطاع ، وأقسط بالألف عدل والاسم القسط.

وقال الراغب : القسط هو النصيب بالعدل ، قال تعالى : «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ »(٣) والقسط بالفتح هو أن يأخذ قسط غيره وذلك جور ، والأقساط أن يعطي قسط غيره وذلك إنصاف ، ولذلك قيل : قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل ، قال تعالى : «وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً »(٤) وقال : «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(٥) .

« فجعل السيئة » الفاء لبيان تبليغ الرسل ، والسيئة الفعلة القبيحة ضد الحسنة ، سواء كان من القول أو الفعل أو العقد ، والذنب ما يوجب العقوبة أي جعل الأفعال التي يستقبحها العقول السليمة موجبة للعقوبة حيث نهى عنها وحرمها وأوعد عليها ، « والذنب فتنة » أي ضلالة عن الحق أو افتتانا وامتحانا ، فإن التكاليف كلها ابتلاء أو سبب للافتتان بالدنيا واستيلاء الشيطان عليه ، أو عذابا وعقوبة ، وفي القاموس : الفتنة بالكسر الخبرة وإعجابك بالشيء والضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب ، وإذابة الذهب والفضة والإضلال والجنون والمحنة والمال والأولاد ، واختلاف الناس في الآراء.

وأقول : أكثر المعاني هنا مناسبة.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١١٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٤٧.

(٣) سورة الرحمن : ٩.

(٤) سورة الجنّ : ١٥.

(٥) سورة الحجرات : ٩.

١٦٧

والذنب فتنة والفتنة دنسا وجعل الحسنى عتبى والعتبى توبة والتوبة طهورا فمن

« والفتنة دنسا » أي وسخا تتوسخ به النفس والقلب فتذهب نورهما وصفائهما كما قال تعالى : «كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ »(١) « وجعل الحسنى » أي الفعلة الحسنى وهي الأعمال الحسنة مقابل السيئة أو الكلمة الحسني وهي العقائد الحقة والعتبي الرضا أي سببا لرضا الخالق أو الرجوع من الذنب والإساءة والعصيان إلى الطاعة والتوبة والإحسان ، وقيل : أي جعل الأعمال الحسنة بمنزلة التوبة ما حية للذنوب ، فهو ناظر إلى قوله تعالى : «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ »(٢) ويحتمل أن يكون المعنى أن العاقبة الحسنى إنما تحصل بالعتبى والتوبة كما قال : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ »(٣) وقال تعالى : «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى » ، و «كَذَّبَ بِالْحُسْنى »(٤) » وقال : «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى »(٥) «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى »(٦) «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى »(٧) ومثله كثير.

وقال الراغب : الفرق بين الحسن والحسنة والحسنى أن الحسن يقال في الأعيان والأحداث ، وكذلك إذا كانت وصفا ، وإذا كانت اسما فمتعارف في الأحداث ، والحسنى لا يقال إلا في الأحداث دون الأعيان.

« والعتبي توبة » أي اكتفي بترك الذنب والندامة عليها مع العزم على الترك توبة ماحية للذنب.

« والتوبة طهورا » أي مطهرا من دنس العصيان ولوث الخطايا « فمن تاب اهتدى » إلى الحق وسبيل النجاة « ومن افتتن » بالأدناس أي الذنوب الموجبة للدنس « غوى » عن سبيل الحق والنجاة وضل.

__________________

(١) سورة المطفّفين : ١٤.

(٢) سورة هود : ١١٤.

(٣) سورة يونس : ٢٦.

(٤) سورة الليل : ٦ و٩.

(٥) سورة النجم : ٣١.

(٦) سورة الأنبياء : ١٠١.

(٧) سورة النحل : ٦٢.

١٦٨

تاب اهتدى ومن افتتن غوى ما لم يتب إلى الله ويعترف بذنبه ولا يهلك على الله إلا هالك.

الله الله فما أوسع ما لديه من التوبة والرحمة والبشرى والحلم العظيم وما أنكل ما عنده من الأنكال والجحيم والبطش الشديد فمن ظفر بطاعته اجتلب كرامته

« ولا يهلك على الله » ضمن معنى الاجتراء فعدي بعلى ، ويحتمل أن يكون على بمعنى في كما في قوله تعالى : «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها »(١) أو بمعنى من كما قيل في قوله تعالى : «إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ »(٢) فالهلاك بمعنى الخيبة ، أو بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى : «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ »(٣) أي مع رحمته الكاملة « إلا هالك » بلغ الغاية في استحقاق العقوبة والهلاك.

« الله الله » منصوبان بفعل محذوف أي اتقوا الله واحذروا الله ، والتكرير للمبالغة والتأكيد ، وقد يراد به التعجب « فما أوسع » للتعجب « ما لديه من التوبة » أي قبولها « وما أنكل ما عنده من الأنكال » إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً »(٤) والنكل بالتحريك منع الرجل وتبعيده عما يريد ، والنكال بالفتح العقوبة التي ينكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء ، والنكل بالكسر القيد لأنه ينكل به أي يمنع ، وجمعه أنكال ، و الجحيم من أسماء جهنم وأصله ما اشتد لهبه من النيران ، والبطش الشديد ناظر إلى قوله تعالى : «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ »(٥) والبطش : الأخذ القوي الشديد ، والوصف للتأكيد « اجتلب كرامته » أي تحفه وهداياه الخاصة لأوليائه في الدنيا والآخرة « ذاق وبال نقمته » الوبال في الأصل الثقل والمكروه وقد يراد به العذاب في الآخرة ، والنقمة السخط والغضب والعقوبة ، ومن أسمائه سبحانه المنتقم ، وهو المبالغ في العقوبة ، وكما أن رحمته عظيمة كذلك نقمته شديدة ، فإن

__________________

(١) سورة القصص : ١٥.

(٢) سورة المطفّفين : ٢.

(٣) سورة البقرة : ١٧٧.

(٤) سورة المزّمّل : ١٢.

(٥) سورة البروج : ١٢.

١٦٩

ومن دخل في معصيته ذاق وبال نقمته و «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ».

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن الحسين بن إسحاق ، عن علي بن مهزيار ، عن محمد بن عبد الحميد والحسين بن سعيد جميعا ، عن محمد بن الفضيل قال كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام أسأله عن مسألة فكتب إلي : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً

كل ما اتصف به فهو على حد الكمال « وعما قليل » ما زائدة للمبالغة في القلة أي عن زمان قليل أو نكرة موصوفة «لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ » عما فعلوا من المعاصي ، ولا ينفعهم الندم لفوت زمان التكليف.

الحديث الثاني : مجهول.

«يُخادِعُونَ اللهَ » أي يظهرون الإيمان والصلاح ويخفون الكفر والفساد للنجاة من قتلهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم ودفع ضرر المؤمنين عن أنفسهم «وَهُوَ خادِعُهُمْ » بإدخالهم في المسلمين ظاهرا وإجراء أحكامهم عليهم وتعذيبهم أشد من تعذيب الكفار ، وجعلهم في الدرك الأسفل من النار وخداعهم مع الله ليس على ظاهره ، لأنه لا يخفى عليه شيء بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله ، وإما صورة صنيعهم مع الله وصورة صنيعه معهم صورة المتخادعين «قامُوا كُسالى » أي متثاقلين عنها كالمكره على الفعل «يُراؤُنَ النَّاسَ » إظهارا لإيمانهم.

«وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً » لأن المرائي لا يفعل إلا بحضور من يراه وهو أقل أحواله ، أو لأن المراد بالذكر الذكر القلبي «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ » حال من واو يراؤون مثل ولا يذكرون ، أو من واو يذكرون أو منصوب على الذم والمعنى مرددين بين الإيمان والكفر ، ومتحيرين بينهما من ذبذبه تركه حيران مترددا ، والمذبذب المتردد بين أمرين «لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ » أي لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، لعدم الإقرار بالجنان وعدم الإنكار باللسان ، «وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ » بسلب

١٧٠

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً »(١) ليسوا من الكافرين وليسوا من المؤمنين وليسوا من المسلمين يظهرون الإيمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب لعنهم الله.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم ، عن الهيثم بن واقد ، عن محمد بن سليمان ، عن ابن مسكان ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال قال : إن المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي وإذا قام إلى الصلاة اعترض قلت يا ابن رسول الله وما الاعتراض قال الالتفات وإذا ركع ربض يمسي وهمه العشاء وهو مفطر ويصبح وهمه النوم ولم يسهر إن

اللطف والتوفيق «فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً » إلى الحق والإيمان ، وقيل : لعله لم يذكر المسألة تقية.

وكان السؤال عن حال المأمون لأنه كان من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام ، ويظهر التشيع للمصلحة نفاقا فقوله : ليسوا من الكافرين ، المراد هو وأضرابه كذي الرئاستين ومثله.

الحديث الثالث : ضعيف.

وقيل : لعل المراد بالمنافق هنا ناقص الإيمان ، وهو شبيه بالمنافق الحقيقي لما بينهما من الملائكة في عدم الإتيان بما ينبغي الإتيان به وإن كان هذا معتقدا للحق كما مر عن يزيد الصائغ : هي أدنى منازل الكفر وليس بكافر ، ولا دلالة فيه على أن من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العمل بما يقول ، لأن الواجب في طرف الآمر أمران أحدهما أن يأمر غيره ، والثاني أن يمتثل في نفسه ، وكذا في طرف النهي والنفاق والعقوبة من جهة المخالفة ، وهي أنه لم يمتثل لا للأمر والنهي ، والاعتراض أن يمشي في عرض الطريق يمينا وشمالا أستعير هنا للالتفات يمينا وشمالا.

« وإذا ركع ربض » في المصباح : الربض بفتحتين والمريض مثال مجلس للغنم

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٢.

١٧١

حدثك كذبك وإن ائتمنته خانك وإن غبت اغتابك وإن وعدك أخلفك.

٤ ـ عنه ، عن ابن جمهور ، عن سليمان بن سماعة ، عن عبد الملك بن بحر رفعه مثل ذلك وزاد فيه إذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس شغر.

٥ ـ أبو علي الأشعري ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن عثمان بن عيسى ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل المنافق مثل جذع النخل أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه فلم يستقم له في الموضع الذي أراد فحوله في موضع آخر فلم يستقم له فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار.

مأواها ليلا ، وربضت الدابة ربضا من باب ضرب وربوضا وهو مثل بروك الإبل.

وأقول : هنا إما كناية عن إدلاء رأسه وعدم استواء ظهره ، أو عن أنه يسقط نفسه على الأرض قبل أن يرفع رأسه من الركوع كإسقاط الغنم نفسه عند ربوضه ، و العشاء كسماء طعام العشي ، وظاهره وجوب الوفاء بالوعد وإن أمكن المناقشة فيه.

الحديث الرابع : كالسابق.

« وإذا سجد نقر » أي خفف السجود ، في النهاية : فيه أنه نهى عن نقرة الغراب يريد تخفيف السجود وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله « وإذا جلس شغر » قيل : أي أقعى كإقعاء الكلب ، وقيل : أي رفع ساقيه من الأرض ، وقعد على عقبيه من شغر الكلب كمنع رفع أحد رجليه بال أو لم يبل ، والأظهر عندي أنه إشارة إلى ما يستحبه أكثر المخالفين في التشهد فإنهم يجلسون على الورك الأيسر ، ويجعلون الرجل اليمنى فوق اليسرى ، ويقيمون القدم اليمنى بحيث يكون رؤوس الأصابع إلى القبلة ، وفي بعض النسخ شفر بالفاء ، وقيل : هو من التشفير بمعنى النقص ، في القاموس : شفر كفرح نقص والأول أظهر.

الحديث الخامس : موثق.

وهو تشبيه حسن للمنافق وإنه لعدم استقامته لا يصلح لشيء إلا للإحراق

١٧٢

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.

باب الشرك

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركا قال فقال من قال للنواة إنها حصاة وللحصاة إنها نواة ثم دان به.

الحديث السادس : ضعيف.

وكلمة « ما » شرطية زمانية ، نحو : «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ »(١) ولذا لم يحتج إلى العائد ، ويدل على أن زيادة خشوع البدن علي خشوع القلب من الرياء ، وهو من النفاق ، وفي قوله : عندنا إيماء إلى أنه ليس بنفاق حقيقي بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.

باب الشرك

الحديث الأول : صحيح.

ويظهر من أخبار الباب أن للشرك معاني ومنازل كالتوحيد الذي يقابله « من قال للنواة إنها حصاة » قال الشيخ البهائي : لعل مرادهعليه‌السلام من اعتقد شيئا من الدين ولم يكن كذلك في الواقع فهو أدنى الشرك ، ولو كان مثل اعتقاد أن النواة حصاة وأن الحصاة نواة ، ثم دان به ، انتهى.

والمضاف هنا مقدر أي حال من قال ، والواو في قوله وللحصاة بمعنى أو ، و قوله : ثم دان به ، إشارة إلى أنه إنما يكون شركا إذا دان به أي عبد الله واعتقد أو أظهر أنه من عند الله ، بخلاف ما إذا قال زيد ابن عمرو ولم يكن كذلك ، لكن لم ينسبه إلى

__________________

(١) سورة التوبة : ٧.

١٧٣

٢ ـ عنه ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي العباس قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركا قال فقال من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض عليه.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يحيى بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن سماعة ، عن أبي بصير وإسحاق بن عمار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عز وجل : «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ »(١) قال يطيع الشيطان

الله ، ويمكن أن يقال في التشبيه بالنواة والحصاة إشعار بأنه إنما يكون شركا إذا كان من ضروريات الدين فإن كون الحصاة حصاة والنواة نواة ضروري يعرفه كل أحد ، لكن سائر أخبار الباب يدل على ما هو أعم من ذلك فكل من ابتدع شيئا في الدين فهو مشرك ، لأنه افترى على الله وأشرك به حيث اتبع في ذلك الشيطان أو سائر الطواغيت ، أو النفس والهوى ، وهذا هو الشرك بالمعنى الأعم.

وقيل : دان به يعني اعتقده بقلبه وجعله دينا ، والوجه في كونه شركا أنه يرجع إلى متابعة الهوى أو تقليد من يهوي فصاحبه وإن عبد الله وأطاعه فقد أطاع هواه ، أو من يهواه مع الله وأشركه معه « انتهى » ويرجع إلى ما ذكرنا.

الحديث الثاني : صحيح.

والرأي المبتدع ما ليس له مستند شرعي ، وصاحبه مشرك لأنه اتخذ مع الرب عز وجل ربا آخر ، وهو نفسه وهواه ، أو غيرهما كما مر وإن لم يشعر به ، سواء كان ذلك الرأي متعلقا بالأصول أم بالفروع « فأحب عليه » أي من تابعه فيه « وأبغض عليه » أي من خالفه ، وأما الذي أخطأ في فهم الكتاب والسنة وبذل الجهد في ذلك ولم يقصر فيه وكان أهلا لذلك فالظاهر أنه ليس بداخل فيه.

الحديث الثالث : ضعيف.

«وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ » قال في المجمع : اختلف في معناه على أقوال : أحدها أنهم

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٦.

١٧٤

من حيث لا يعلم فيشرك.

مشركو قريش كانوا يقرون بالله خالقا ومحييا ومميتا ويعبدون الأصنام ويدعونها آلهة مع أنهم كانوا يقولون الله ربنا وإلهنا يرزقنا فكانوا مشركين بذلك عن ابن عباس والجبائي ، وثانيها : أنها نزلت في مشركي العرب إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض وينزل القطر؟ قالوا : الله ، ثم هم يشركون وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، عن الضحاك ، وثالثها : أنهم أهل الكتاب آمنوا بالله واليوم الآخر والتوراة والإنجيل ثم أشركوا بإنكار القرآن وإنكار نبوة نبينا عن الحسن ، وهذا القول مع ما تقدمه رواه دارم بن قبيصة عن الرضا عن جده أبي عبد اللهعليهما‌السلام ورابعها : أنهم المنافقون يظهرون الإيمان ويشركون في السر عن البلخي ، وخامسها : أنهم المشبهة آمنوا في الجملة وأشركوا في التفصيل عن ابن عباس أيضا ، وسادسها : أن المراد بالإشراك شرك الطاعة لا شرك العبادة أطاعوا الشيطان في المعاصي التي يرتكبونها مما أوجب الله عليها النار فأشركوا بالله في طاعته ولم يشركوا بالله في عبادته فيعبدون معه غيره عن أبي جعفرعليه‌السلام .

وروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال : قول الرجل لو لا فلان لضاع عيالي ، جعل لله شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه ، فقيل له : لو قال : لو لا أن من الله علي بفلان لهلك؟ قال : لا بأس بهذا.

وفي رواية زرارة ومحمد بن مسلم وحمران عنهماعليهما‌السلام أنه شرك النعم.

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال : إنه شرك لا يبلغ به الكفر ، انتهى.

وأقول : روى علي بن إبراهيم والعياشي عن الباقرعليه‌السلام : هي المعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعها فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره وليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله ، وروى العياشي عن الباقرعليه‌السلام هو قول الرجل لا وحياتك ، وفي التوحيد عن الصادقعليه‌السلام قال : هم الذين يلحدون في أسمائه بغير

١٧٥

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن بكير ، عن ضريس ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عز وجل : «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ » قال شرك طاعة وليس شرك عبادة وعن قوله عز وجل : «وَمِنَ

علم فيضعونها غير مواضعها ، وأما هذا الخبر فلعل المراد به أنه يطيع الشيطان ويتوهم أنه يطيع الله كاتباع البدع والاستبداد بالآراء في الأمور الشرعية وسوء الفهم لها ونحو ذلك إذا لم يتعمد المعصية فإن ذلك كله إطاعة للشيطان من حيث لا يعلم وهو شرك طاعة ليس بشرك عبادة لأنه تعالى نسبهم إلى الإيمان ، ولذا قيدناه بعدم التعمد فإنه مع التعمد كفر وخروج عن الإيمان وشرك عبادة ، وقد يقال « من حيث لا يعلم » متعلق بقوله فيشرك وهو بعيد لفظا وإن كان قريبا معنى.

الحديث الرابع : مجهول.

« شرك طاعة » أي المراد بالشرك شرك طاعة لغير الله لا شرك عبادة له فمن أطاع غير الله سواء كان شيطانا أو نفسا أمارة بالسوء أو إنسانا ضالا مضلا فقد أشرك بالله غيره وإن لم يسجد له.

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » قال الطبرسي : أي على ضعف من العبادة كضعف القائم على حرف أي على طرف جبل ونحوه عن علي بن عيسى ، قال : وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلها ، وقيل : على حرف : على شك عن مجاهد ، وقيل : معناه أن يعبد الله بلسانه دون قلبه عن الحسن ، قال : الدين حرفان أحدهما اللسان والثاني القلب ، فمن اعترف بلسانه ولم يساعده قلبه فهو على حرف ، وقال البيضاوي : أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا(١) سويا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال :

__________________

(١) المهر : ولد الفرس.

١٧٦

النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ »(١) قال إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون في أتباعه ثم قلت كل من نصب دونكم شيئا فهو ممن «يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » فقال نعم وقد يكون محضا.

٥ ـ يونس ، عن داود بن فرقد ، عن حسان الجمال ، عن عميرة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سمعته يقول أمر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا ثم قال وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك مشركين.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن عبد الله بن

ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرا وانقلب ، انتهى.

« ثم يكون في أتباعه » أي نزلت الآية في قوم شكوا في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به من الولاية وغيرها ثم جرت فيمن تبعهم على ذلك بعدهم كالمستضعفين من المخالفين والجهال الذين يتبعونهم بغير علم ، أو نزلت في الذين شكوا في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم جرت في الذين شكوا في الإمام « و » قد يكون محضا أي مشركا محضا كعلماء المخالفين والمتعصبين منهم حيث تركوا الحق ، مع وضوح البرهان عنادا.

والحاصل أنه سأل السائل عن المخالفين أهم من أهل هذه الآية؟ فقالعليه‌السلام : بعضهم من أهل هذه الآية ، وبعضهم مشرك محض ، ويحتمل أن يكون تتمة كلامه سابقا أي وقد يكون في الرجل محضا ولا يكون في أتباعه ، وفي بعض النسخ وقد يكون مختصا فهو صريح في المعنى الأخير.

الحديث الخامس : مجهول.

ويدل على أن المخالفين مشركون.

الحديث السادس : حسن ، ويدل على أن عدم الرضا بما صنعه الله وترك

__________________

(١) سورة الحجّ : ١١.

١٧٧

يحيى الكاهلي قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ألا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ثم تلا هذه الآية : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(١) ثم قال أبو عبد اللهعليه‌السلام فعليكم بالتسليم.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عز وجل : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ »(٢) فقال أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة

التسليم لما ورد عنهمعليهم‌السلام شرك ، وقد مضى في باب التسليم أن الخطاب في هذه الآية إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام « وألا » بالفتح والتشديد حرف تحضيض ، قال النحاة : دخوله على المستقبل حث على الفعل وطلب له ، وعلى الماضي توبيخ على ترك الفعل نحو : ألا تنزل عندنا ، وألا نزلت.

الحديث السابع : حسن.

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ » في المجمع أي علماءهم «وَرُهْبانَهُمْ » أي عبادهم «أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » روي عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام أنهما قالا : أما والله ما صاموا لهم ولا صلوا ، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون ، وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » حتى فرغ منها ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال : فقلت :

__________________

(١) سورة النساء : ٦٤.

(٢) سورة التوبة : ٣٢.

١٧٨

أنفسهم لما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.

٨ ـ علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن رجل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من أطاع رجلا في معصية فقد عبده.

بلى ، قال : فتلك عبادتهم.

وقال البيضاوي : بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمة ، أو بالسجود لهم «وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ » بأن جعلوه ابنا الله «وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا » أي ليطيعوا «إِلهاً واحِداً » وهو الله تعالى ، وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله.

الحديث الثامن : حسن كالصحيح.

« في معصية » متعلق بأطاع ، وقيل : إما وصف لرجل أو حال عنه ، أو متعلق بأطاع فعلى الأولين يفيد أن العاصي معبود لمن أطاعه مطلقا ، وعلى الأخيران العاصي معبود لمن أطاعه في المعصية ، وسر ذلك أن العبادة ليست إلا الخضوع والتذلل ، والطاعة والانقياد ، ولذلك جعل الله سبحانه اتباع الهوى وطاعة الشيطان عبادة لهما ، فقال : «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ »(١) وقال : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ »(٢) وإذا كان اتباع الغير بغير أمر الله عبادة له فأكثر الخلق مقيمون على عبادة غير الله تعالى. وهو النفس والشيطان ، وأهل المعصية والكفران ، وهذا هو الشرك الخفي نعوذ بالله منه.

__________________

(١) سورة الجاثية : ٢٣.

(٢) سورة يس : ٦٠.

١٧٩

باب الشك

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن الحسين بن الحكم قال كتبت إلى العبد الصالحعليه‌السلام أخبره أني شاك وقد قال إبراهيمعليه‌السلام : «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى »(١) وأني أحب أن تريني شيئا فكتبعليه‌السلام إن إبراهيم كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا وأنت شاك والشاك لا خير فيه وكتب إنما الشك

باب الشك

الحديث الأول : مجهول.

« وقد قال إبراهيم » كان غرض السائل إبداء العذر لشكه بأن إبراهيمعليه‌السلام مع رتبة النبوة كان شاكا في الموتى فسأل ربه ما يزيل شكه وما سأله إما معجزة ليزول شكه ، أو دليل على الإمامة ، وعلى الأول إما أظهر له معجزة ولم يذكره الراوي أو لم يرعليه‌السلام المصلحة في ذلك ، أو علم أنه تمت عليه الحجة وظهر له الحق وإنما يظهر الشك للوسواس أو للعناد ، وعلى الثاني أيضا يحتمل الوجوه الثلاثة والأخير أظهر.

وأما العذر الذي أبداه فقد أبطلهعليه‌السلام بأن إبراهيمعليه‌السلام لم يكن شاكا ولم يسأل ذلك ليزيل الشك عن نفسه ، لأنه كان مؤمنا بالرب تعالى وصفاته الكمالية وقدرته على إحياء الموتى ، وبالبعث والنشور ، ولم يشك قط بل سأله ليزداد يقينا بأن يرى بالعيان ما علمه بالدليل والوحي والبرهان ، والحاصل أنه كان له علم اليقين فطلب عين اليقين « وأنت شاك » كما اعترفت به « والشاك لا خير فيه » لأن الخير كله في الإيمان ، وهو لا يحصل إلا باليقين.

« وكتبعليه‌السلام إنما الشك ما لم يأت اليقين » وهذا يحتمل وجهين : الأول أن يكون تأكيدا لقولهعليه‌السلام : إن إبراهيم كان مؤمنا ، وحاصله أنه كان له يقين بقدرته

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦.

١٨٠