الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19603
تحميل: 5541

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19603 / تحميل: 5541
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولك أن تسألني: لِمَ لا يقف الإمام (عليه السلام) من الخلفاء والظّلَمة مثل هذا الموقف..؟ فأُجيبك فوراً: إنّ مثل هذا الموقف ليس من وظيفة الإمام، ولا هو يرضاه من أحد مقرّبيه؛ لأنّ واجبه يتلخّص بحفظ الدّين وبالمحافظة على المتديّنين، وينحصر بدفع أذى الظّلَمة من السلاطين عنهم ليبقى مَن يعبد الله في الأرض حقّ عبادته، ويعتنق شريعته السماويّة المقدّسة التي أنزلها دون زيادةٍ ولا نقصان.

ومثل هذا الموقف يضرّ بالإمام وبأتباعه وأشياعه، فيستأصل الظالم شأفتهم ويقطع دابرهم؛ ولذا كان مأموراً بالصّبر على أذاهم، ليبقى حرّاً في إعلان كلمة الله تعالى في عهدٍ قاسٍ ضالٍّ لا يتورّع السلطان فيه عن قتل النبيّ والوصي في سبيل مُلكه، فصبرهُ على تجرّع الغصص التي كان يعانيها في زمانه مفروض عليه، وملازِم لوظيفته السماويّة..

***

هذا، وإنّ المتوكل كان يرى من دلائل إمامة هذا الشابّ السّريّ صلوات الله عليه ما يُحار به لبّه، ولكن إذا أطاعَ الإنسان شيطانه مرّةً، فانتظِر له أن يجري الشيطان منه مجرى الدّم والنفس في كلّ مرة.. وحينئذٍ ترى لحيته مع لحى (التّيوس).. في قبضة إبليس،.. وتراه يتولّى كِبره ويغلق قلبه دون الكلمة المنصفة، ولا يتحكّم بأذنيه إلاّ الصارفون له عن الحق!

فالآيات كانت تُصابح المتوكل وتماسيه، ومعاجز الإمام (عليه السلام) كانت تسدّ منافذ بصره،.. ولكنّه كان على ضلاله؛ لأنّ الإيمان بالإمام يقضي بزوال مُلكه.. وبزواله!

قال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله:

(كان للمتوكل مجلس بشبابيك كي ما تدور الشمس في حيطانه، وقد جعلَ فيه طيوراً مصوّتةً، فإذا كان يوم السلام جلسَ في ذلك المجلس، فإذا دخلَ إليه أحد لم يُسمع ولم يَسمع ما يقول لاختلاف أصوات تلك الطيور! فإذا وافاه عليّ بن محمدٍ الرّضا (عليه السلام) سَكنت الطّيور جميعاً،.. فإذا خرجَ من باب المجلس عادت في أصواتها!

١٠١

قال: وكان عنده عدّة من القَوابج - الحجل والكروان - في الحيطان - أي في الحدائق - فكان يجلس في مجلس له عال، ويرسل تلك القَوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها،.. فإذا وافى عليّ بن محمدٍ (عليه السلام) ذلك المجلس، لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف، فإذا انصرفَ عادت في القتال) (1) .

فما أحرى الإنسان بأن يتعلّم الأدب من مثل هذا الحيوان.. يا خليفة الزمان!

أمَا كان الألْيَق بالعاقل أن يتفكّر، ويتدبّر،.. بدل أن يحقد، ويتكبّر؟!

وحقيقٌ بمَن كان يملك رشداً أن يختار لنفسه الأَولى والأحجى،.. ومَن يدّعِ بأنّك لم تدرك هذه الظواهر الغريبة من الطّيور أثناء وجود الإمام (عليه السلام)، نقول له: أخطأتَ في ادّعائك وغَمستَ لقمتك خارج الصّحن؛ لأنّ الطيور المتقاتلة الصاخبة لم يكن ليهدأ صخبها إلاّ بحضرة الإمام، الذي هو حجّة الله على مخلوقاته من الإنس والجنّ وجميع ذوات الأرواح،.. وبمرأى من خليفة المسلمين الذي لم يكن عديم الفهم ولا قليل الإدراك،.. والذي هو من أسرةٍ استعدّت لبني عليّ (عليه السلام)،.. والعدوّ لا يكون صديقاً بوجهٍ من الوجوه! ولكن لِمَ لا يكون مسلماً مُسلِّماً بمشيئة الله وتقديره في خلقه؟! وإذا استعدى لعليّ وبنيه فلِم استعدى لله ولتقديره في مخلوقاته؟!

إنّه خليفة خائب يريد أن ينزع عن الإمام (عليه السلام) ما ألبسهُ الله تعالى من سربال عَظمته وهيبته ووقاره، ويحاول كإنسان أن يقف بوجه إرادة ربّه،.. فانقلبَ حسيراً، بَقيت غصّته في صدره كما بقيت أحقاد آبائه مدفونةً معهم في صدورهم.. وقبورهم!

***

وإليك مكيدةً دبّرها الخليفة وأعوانه في ليلٍ؛ ليمكروا بالإمام (عليه السلام) فتجلّى فيها سرّه الإلهيّ، وقلبَ مَكرهم على رؤوسهم صاعقةً ماحقةً بمعنى المحق الواقعيّ، فإنّ زرافة - حاجب المتوكل - قال:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 148 - 149، وكشف الغمّة: ج 3 ص 184 وباختصار، وهو في مدينة المعاجز: ص 549.

١٠٢

(وقعَ عندي رجل مشعوذ يلعب بالحقّة لم يُرَ مثله - والحقة: عُلبة من خشبٍ يضعون فيها شيئاً يراه الناس ويُغلقونها، ثمّ يفتحونها فلا يجدون شيئاً -.

وكان المتوكل لعّاباً - كثير اللعب -، فأراد أن يُخجل عليّ بن محمدٍ بن الرّضا (عليهم السلام)، فقال لذلك الرجل: إنْ أنتَ أخجَلته فلكَ ألف دينارٍ زكيّة.

قال المشعوذ: فتقدّم - أي أعطِ أوامرك - بأن يُخبز رقاق خفاف تُجعل على المائدة، وأقعِدني إلى جنبه،.. ففعلَ.

وأُحضرَ عليّ بن محمد ٍ(عليهما السلام) للطعام، وجُعل له مسورة - متّكأ من جِلد - عن يساره كان عليها صورة أسد، وجلسَ اللاعب إلى جنب المسورة.

فمدّ عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) يده إلى رقاقةٍ - من الخبز - فطيّرها اللاعب في الهواء،.. ومدّ يده إلى أخرى، فطيّرها،.. فتضاحكَ الناس.

فضربَ عليّ بن محمد (عليهما السلام) يده على تلك الصورة - صورة الأسد التي على المسورة - وقال: (خُذ عدوّ الله!

فوثَبت تلك الصورة من المسورة فابتلَعت الرجل اللاعب، وعادت إلى المسورة كما كانت!

فتحيّر الجميع،.. ونهضَ عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) ليمضي، فقال المتوكل: سألتك بالله إلاّ جلستَ ورَدَدته.

فقال: والله، لا يُرى بعدها! أتُسلّط أعداء الله على أوليائه؟)

وخرجَ من عنده، ولم يُرَ الرجل بعد ذلك (1) .

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 253، وكشف الغمّة: ج 3 ص 183 - 184، وبحار الأنوار: ج 50 ص 146 - 147 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 210، وهو في مدينة المعاجز: ص 549 و ص 560، وحلية الأبرار: ج2 من ص 473 إلى ص 475 بتفصيل.

  وقد حدَثت قصّة مثلها مع جدّه الإمام الرّضا (عليه السلام)، حين سلّط صورة أسَدين كانت على مسند المأمون، فنزلتا وصارتا أسدين حقيقيّين، مَزّقا جسد حميد بن مهران (لعنه الله) حين هَزئ بالإمام، وتحدّى قدرة الله تعالى فيه بين يدي المأمون ووزرائه وقضاته ومجلسه العام. انظر بحار الأنوار: ج 49 ص 183 - 184.

١٠٣

وقد رويَت هذه الحادثة في مشارق الأنوار عن البرسي، عن محمد بن الحسن الجهني الذي قال:

(حضرَ مجلس المتوكل مشعبذ هنديّ، فلعبَ عنده بالحُقّ فأعجبهُ، فقال: يا هندي، الساعة يحضر مجلسنا شريف، فإذا حضرَ فالعب عنده ما يُخجله.

قال: فلمّا حضرَ أبو الحسن (عليه السلام) المجلس، لعبَ الهنديّ، فلم يلتفت إليه، فقال له: يا شريف ما يعجبك لعبي؟ كأنّك جائع؟ ثمّ أشار إلى صورةٍ مدوّرةٍ في البساط على شكل الرغيف، وقال: يا رغيف، مُرّ على هذا الشريف،.. فارتفعت الصورة.

فوضعَ أبو الحسن (عليه السلام) يده على صورة سبع في البساط، وقال: (قُم فخذ هذا) فصارت الصورة سَبُعاً وابتلع الهنديّ وعادَ إلى مكانه في البساط!

فسقطَ المتوكل لوجهه، وهربَ مَن كان قائماً) (1).

فسبحان مَن تجلّت عنايته بعبده الصالح الذي اختاره لأمره وقضيّته، وجعله حجةً على بريّته، ونَصرهُ على مَن أرادَ أن ينال من قدسيّته الربّانيّة وينتقص من قدْره في مجالس لهوه وطيشه.

وقد قال جُحا لزوجته: تقولين إنّ القطّ أكلَ اللحم الذي اشتريته، وقد وزنتُ القطّ فكان وزنه بوزن اللحم! فإذا كان هذا القط، فأين اللحم؟ وإذا كان هذا اللّحم، فأين القط؟!

ونحن نقول للمتوكل: وضعَ الإمام (عليه السلام) يده المباركة على صورة الأسد وقال له: (قم فخذ هذا!) فانبعثت الصورة أسداً هائجاً ابتلعَ صاحبك الهنديّ وعادَ إلى مكانه في الصورة،.. فإذا كانت هذه الصورة، فأين هنديّك بجسده ولحمه وعَظمه وهامته؟! وكيف ابتلعته صورة مرسومة على مسندك وغَيّبته بما فيه وبما معه، وجَعلته طيّ العدم، ثمّ عادت صورةً كما كانت؟! وإذا كان الهندي قد تحوّل إلى صورةٍ على بساطك فأين الأسد الزائر الذي أسقطكَ على وجهك هلعاً؟!

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 211، ومدينة المعاجز: ص 547، وانظر حلية الأبرار: ج 2 من ص 473 إلى ص 475.

١٠٤

أفلم يظهر لهذا العابث اللاهي - الذي تَسمّى (خليفة المسلمين) - أنّ عمل الإمام (عليه السلام) لم يكن سحراً ولا شعوذة، بل هو آية صَدرت عنه بإذن ربّه لمّا تحدّى الخليفة إرادة ربّه؟! وأنّ مَن نصّب نفسه لإمارة المؤمنين، وقعدَ مقعد سيّد المرسلين، لا ينبغي له أن يتنقّص من آل الله وصفوته وخلصائه؛ فإنّ قدرة الله عزّ اسمه لا يقوم لها شيء،.. ولن تلهينا فاجعتك بالهنديّ يا أمير المسلمين، عن أن نسألك - عمّا هو أهمّ من فاجعتك به - ذلك أنّه كيف تدفع للمشعوذ ألف دينارٍ زكيةً من بيت مال المسلمين، وحولكَ الألوف والألوف من الجوعى والمحرومين من المسلمين؟!

ثمّ تنتقل بنا آلة التصوير إلى فعل الله عزّ وجلّ مع المتوكل نفسه، حين أراد أن يفتري على الإمام وينسب إليه السوء، فقد قال فارس بن حاتم بن ماهويه:

(بَعث يوماً المتوكل إلى أبي الحسن (عليه السلام): أنا راكب فاخرج معنا إلى الصّيد لنتبرّك بك.

فقال - أي الإمام (عليه السلام) - للرسول: (قل له: إنّي راكب.

فلمّا خرجَ الرسول قال - الإمام - لنا: كذب، ما يريد إلاّ غير ما قال.

قلت: يا مولانا، فما الذي يريد؟

قال: يظهر هذا القول - أي التبرّك به - فإن أصابه خير نَسَبه إلى ما يريد بنا ممّا يبعده من الله، وإنْ أصابه شرّ نَسبه إلينا، وهو يركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصّيد، فيرد هو وجيشه عَليّ فتزلّ رجله وتتوهّن يداه ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيّدنا وسِرنا في المركب معه، والمتوكل يقول: أين ابن عمّي المَدني؟ أي الإمام (عليه السلام) الذي لم يدر اسمه على لسان الخليفة فقال: المدنيّ.

فيقال له: سائر يا أمير المؤمنين في الجيش.

فيقول: ألحقوهُ بنا.

١٠٥

وورَدْنا النهَر والقنطرة، فعبرَ سائر الجيش وتشعّثت القنطرة وتهدّمت ونحن نسير في أواخر الناس مع سيّدنا، ورسل المتوكل تحثّه.. فلمّا ورَدْنا النّهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبرَ سائر دوابّنا، فأجهدت رسل المتوكل عبور دابّته فلم تعبر، وعبرهُ المتوكل فلحقوا به، ورجعَ سيدنا.

فلم يمضِ إلاّ ساعات حتى جاءنا الخبر أنّ المتوكل سقطَ عن دابّته، وزلّت رجْله وتوهّنت يداه، وبقيَ عليلاً شهراً،.. وعتبَ على أبي الحسن (عليه السلام)، وقال: إنّما رجعَ عنّا لئلاّ يصيبنا هذه السقطة فنشأم به.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدقَ الملعون، وأبدى ما في نفسه) (1) .

فيا أيّها الملعون على لسان إمامنا الهاشميّ القرشيّ المدنيّ (عليه السلام)، والملعون معك راوي هذه الحادثة الذي أمرَ الإمام بقتله لكفره فيما بعد، إنّنا نقول لك: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (2) .

فقد انقلبتَ على وجهك عن ظَهر فرَسك، وبؤتَ بعار هذه الآية الكريمة وشنارها، بعد أن توهّنَت يداك ومرضتَ شهراً كاملاً، كما قال أبو الحسن (عليه السلام) حين عَلم ما في نفسك،.. وإنّه لقَذى في عينك وشَجاً في حلقك! وقد رجعَ من رحلتك المشؤومة بسلامٍ بعد أن صدقَ قوله فيك.

وأنت هو ذاك الذي يعبد الله على حرف؛ إذ أضمرتَ إن أصبتَ خيراً أن تتزلّف وترائي وتقول للإمام: هذا ببركتك، وإن أصابكَ شر أن تتشأم به..

ولأنتَ كالمعاندين لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذين وصفهم سبحانه بقوله الكريم: ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ) (3) .

***

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 559 - 560.

(2) الحج: 11.

(3) النساء: 78.

١٠٦

قال محمد بن مسعود :

(قال يوسف بن السخت: كان عليّ بن جعفر - عمّ جدّ الإمام - وكيلاً لأبي الحسن صلوات الله عليه، وكان رجل من أهل همينيا - قرية من سواد بغداد - قد سعى به إلى المتوكل فحبسهُ فطالَ حَبسه، واحتال - أي قُبلت حوالته كإخلاء سبيله - من قِبل عبد الرحمان بن خاقان بمالٍ ضمنهُ عنه ثلاثة آلاف دينار.

وكلّم - الضامن - عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وزير المتوكل - فعرضَ حاله على المتوكل فقال: يا عبيد الله، لو شككتُ فيك لقلتُ إنّك رافضي، هذا وكيل فلانٍ - أي الإمام (عليه السلام) - وأنا على قتله - أي مصمّم على قتله -.

قال: فتأدّى الخبر إلى عليّ بن جعفر - المحبوس - فكتبَ إلى أبي الحسن (عليه السلام): يا سيّدي، الله الله فيّ، فقد والله خفتُ أن أرتاب.

فوقّعَ رقعته: (أمّا إذا بلغَ بك الأمر ما أرى، فسأقصد الله فيك).

وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبحَ المتوكل محموماً،.. فازدادت عليه حتى صرخَ عليه يوم الاثنين - أي أعلنَ قرب احتضاره - فأمرَ بتخلية كلّ محبوس عُرضَ عليه اسمه، حتى ذكرَ هو عليّ بن جعفر وقال لعبيد الله - وزيره -: لِمَ لَم تعرض عليّ أمرهُ؟!

فقال: لا أعود لذكره أبداً - خوف اتّهامه بكونه رافضيّاً -.

قال: خلِّ سبيله الساعة، وسَله أن يجعلني في حِلّ.

فخلّى سبيله، وصار إلى مكّة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) مجاوراً بها،.. وبَرئ المتوكل من علّته) (1) .

وقال عليّ بن جعفر بهذه المناسبة:

(عرضتُ أمري على المتوكل فأقبلَ على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: لا تتعبنّ نفسك بعرض قصّة هذا وأشباهه؛ فإنّ عمّك أخبرني أنّه رافضيّ وأنّه وكيل عليّ بن محمد،.. وحلفَ أن لا يخرج من السجن إلاّ بعد موته، فكتبتُ إلى مولانا: إنّ نفسي قد ضاقت، وإنّي أخاف الزّيغ.

فكتب إليّ: (أمّا إذا بلغَ الأمر منك ما أرى، فسأقصد الله فيك).

فما عادت الجمعة حتى أُخرجتُ من السّجن) (2) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 183 - 184، ورجال الكافي: ص 505.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 184، ورجال الكشّي: ص 506.

١٠٧

فهلاًّ اتّعظَ بها الخليفة الغاضب الذي باتَ ليلته مصمّماً على قتله، وأفاقَ على معاناة الحمّى التي كادت تودي بحياته؟! قطعاً، لا.. ومَن لم يكن له من نفسه واعظ، لا تنفعهُ المواعظ،.. وما أبعدَ أرباب الممالك عن ترك جَبروتهم الذي يوردهم المهالك!

***

وحدّث أبو الحسين، سعيد بن سهل البصريّ الذي كان حاجباً للمتوكل، وكان يلقّب بالملاّح، فقال:

(دلّني أبو الحسن، وكنتُ واقفيّاً - وغير قائل بإمامته - فقال: (إلى كم هذه النَومة؟ أمَا آنَ لك أن تنتبه منها؟!) فقدحَ في قلبي شيئاً، وغُشي عليّ، واتّبعتُ الحق) (1) .

ورويَ مثل هذا الخبر عنه نفسه، فقال:

(كان جعفر بن القاسم الهاشميّ البصريّ يقول بالوقف - أي لا يعترف بإمام زمانه - وكنتُ معه بسرّ مَن رأى إذ رآه أبو الحسن (عليه السلام) في الطريق، فقال: (إلى كم هذه النَومة؟ أمَا آنَ تنتبه منها؟!).

فقال لي جعفر: أمَا سمعتَ ما قال لي عليّ بن محمد؟! قد والله وقعَ في قلبي شيء، أي قد تأثّر بقول الإمام له؛ لأنّه عَلم ما في نفسه من الوقْف، رغم أنّه لم يُصرّح بذلك.

فلمّا كان بعد أيام، حدثَ لبعض أولاد الخليفة وليمة، فدعانا إليها، ودعا أبا الحسن معنا، فدخلنا، فلمّا رأوه أنصَتوا إجلالاً له.

وجعلَ شابّ في المجلس لا يوقّره، وأخذَ يتحدّث، ويلغط، ويضحك.

فأقبلَ - الإمام - عليه فقال له: (يا هذا، أتضحك بملء فيك، وتَذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور؟!).

قال جعفر بن القاسم الهاشمي: فأمسكَ الفتى، وكفّ عمّا هو عليه، وطُعمنا وخرجنا،.. فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى؛ وماتَ في اليوم الثالث من أول النهار، ودُفن فيه!) (2) .

____________________

(1) إعلام الورى: ص 346 - 347، وكشف الغمّة: ج 3 ص 188، وبحار الأنوار: ج 50 ص 172 و ص 182 - 183، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407 وص 414 - 415 وص 416 - 417، ومدينة المعاجز: ص 546.

(2) انظر مصادر الرقم السابق.

١٠٨

وقبل أيّ تعليقٍ على هذه الآية الكريمة الصادرة عن إمامنا العظيم صلوات الله عليه، نورد للقارئ آيةً مشابهةً لها، رواها سعيد بن سهل البصريّ - أيضاً - فقال:

(اجتمعنا في وليمةٍ لبعض أهل سرّ مَن رأى، وأبو الحسن (عليه السلام) معنا، فجعلَ رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة - أي لا يوقِّر الإمام -.

فأقبلَ الإمام على جعفر - بن القاسم الهاشمي - فقال: (أمَا إنّه لا يأكل من هذا الطعام، وسيرِد عليه من خبر أهله ما يُنغّص عليه عيشه).

قال: فقُدِّمت المائدة، وقال جعفر - الواقفيّ -: ليس بعد هذا خبر، قد بطلَ قوله، أي لم يتحقّق ما قاله الإمام، وقد رأى جعفر ذلك بنفسه.. والرجل لا يزال يعبث - فو الله قد غَسل الرجل يديه وأهوى إلى الطعام، فإذا غلامهُ قد دخلَ من باب البيت يبكي وقال له: اِلحَقْ أمّك، فقد وقَعَت من فوق سطح البيت، وهي الموت!

قال جعفر: والله، لا وقفتُ بعد هذا! وقطعتُ عليه) (1) ، اعترَفَ بإمامته (عليه السلام).

فتباركَ ربّك الذي اجتباكَ لعزائم أمره يا أبا الحسن، واصطفاكَ لحَمل الكلمة العظمى والدّعوة الكبرى.

وكم هي ساهرة عينه سبحانه على كرامتك يا وليّه في أرضه!

فكثيراً ما حاولوا النّيل من جاهكَ عند الله، فتلقّاهم ربّك بقاصمةٍ قطعت منهم حبل الوريد، ولَوت عُنق كلّ جبّارٍ عنيد!

وخسئَ شاب غرّ، أو رجل عابث، أن يتطاولا إلى سامي المرتبة التي رتّبكَ الله تعالى فيها، وخسرَ مَن ناواكَ خسراناً عظيماً، وضلّ مَن ضَلّ عن عيبة علمك وجزيل فضلك ضلالاً مبيناً..

وبقيتَ أنت أنت في سموّ معناك وفي سموّ ذاتك،.. سفيراً لله، مُحصَّناً من لدُنه،... يسند ظهره إلى ركنٍ ركين..

***

وروى الفحّام، عن أبي الحسن محمد بن أحمد، عن عمّ أبيه، قائلاً:

____________________

(1) المصدر السابق.

١٠٩

(قصدتُ الإمام (عليه السلام) يوماً فقلت: يا سيّدي، إنّ هذا الرجل - أي المتوكل؛ لأنّ العمّ المذكور من حجّابه - قد أطرَحني وقطعَ رزقي، ومَلّني، وما أُتّهم في ذلك إلاّ عِلمه بملازَمتي لك، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته.

فقال: (تُكفى إن شاء الله.

فلمّا كان في اللّيل طرَقني رُسل المتوكل رسول يتلو رسولاً، فجئتُ والفتح بن خاقان على الباب قائم، فقال: يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل؟! كدَّني هذا الرجل - أي المتوكّل - ممّا يطلبك.

فدخلتُ وإذا المتوكّل جالس على فراشه، فقال: يا أبا موسى، نشغل عنك وتُنسينا نفسك؟ أيّ شيءٍ لك عندي؟

فقلت: الصّلة الفلانيّة والرّزق الفلانيّ، وذكرتُ أشياء فأمرَ لي بها وبضعفها!

قلت للفتح: وافى علي بن محمد إلى ههنا؟

فقال: لا.

فقلت: كتبَ رقعة؟!

فقال: لا.

فولّيتُ منصرفاً، فَتبعني فقال لي: لستُ أشكّ أنّك سألتهُ دعاء لك، فالتمِس لي منه دعاءً.

فلمّا دخلتُ إليه (عليه السلام)، قال لي: يا أبا موسى، هذا وجه الرّضا.

فقلت: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيتَ إليه، ولا سألته!

فقال: إنّ الله تعالى عَلم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدَنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.

قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت - أي طلبَ اِلتِماس دعاء -.

قال: إنّه يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدّعاء لِمن يدعو به - أي تابع لحال الداعي - إذا أخلصتَ في طاعة الله، واعترفتَ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبحقّنا أهل البيت، وسألتَ الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك.

قلت: يا سيّدي، فتُعلّمني دعاءً أختصّ به من الأدعية؟

قال: هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به، وقد سألتُ الله أن لا يُخيّب مَن دعا به في مشهدي بعدي، وهو هذا:

١١٠

يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسّند، ويا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك اللّهمّ بحقّ مَن خلقتهم من خلقك ولم تجعل في خلقكَ مثلهم أحداً، أن تصلّي عليهم وتفعل بي كيت وكيت) (1) .

فمذ أراد أبو الحسن (عليه السلام) الفرج لصاحبه المظلوم الذي يتولاّه، قضى الله تعالى له المراد، فقد عوّده سبحانه الجميل؛ لأنّه لا يصانع غير وجهه الكريم - أكرم الوجوه - ولا يطرق إلاّ بابه، ولا يلجأ في مهمّاته وملمّاته إلاّ إلى حضرة قدسه التي لا ينطق إلاّ بأمرها، ولا يعمل إلاّ بوحيها وإلهامها.

أفرأيتَ أيّها المتوكل.. كيف يُديل الله تعالى أولياءه من أعدائه؟! وشعرتَ كيف بَدّل سبحانه غَضبك وسخطك على الرّجل باعتذارٍ منك له عن تقصيرك بحقّه، فاندفعتَ تُضاعف له عطاياه وصِلاته؟! غَيرك يحسّ، ويتدبّر،.. وأنت سادر في نشوة الحُكم والمكث في قصر (إمارة المؤمنين)، الذي انقلبَ بوجودك إلى ماخورٍ تنبعث منه روائح الخمر، والفسق، والدّعارة، والفجور..

***

وفي المعتمد في الأصول، قال عليّ بن مهزيار:

(وردتُ العسكر وأنا شاكّ في الإمامة، فرأيتُ السلطان قد خرجَ إلى الصّيد في يوم من الربيع إلاّ أنّه صائف، والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لُبادة وعلى فرَسه تجفاف لبود، وقد عقدَ ذنَب الفرس والناس يتعجّبون ويقولون: ألا ترون إلى هذا المَدنيّ وما قد فعلَ بنفسه؟!

فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً ما فعلَ هذا.

فلمّا خرجَ الناس إلى الصحراء، لم يلبثوا إلاّ أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت، فلم يبقَ أحد حتى غرقَ بالمطر، وعادَ (عليه السلام) وهو سالم من جميعه! فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام،.. ثمّ قلتُ: أريد أن أسأله عن الجُنُب إذا عرقَ في الثوب، فقلتُ في نفسي: إنْ كشفَ وجهه فهو الإمام.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 127 - 128، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410 - 411، باختصار آخره، وهو في مدينة المعاجز: ص 542.

١١١

فلمّا قرُب منّي كشفَ وجهه ثمّ قال: (إن كان عَرقَ الجنُب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، وإن كان جنابته من حلال فلا بأس).

فلم يبقَ في نفسي بعد ذلك شبهة) (1) .

ولن نتجاوز هذه الحادثة قبل أن نشير إلى أنّ هذا (المَدني) سلام الله عليه وتحيّاته، كان وحده - من بين الخارجين في موكب السلطان - إماماً عالِماً بما يكون، عارفاً بكلّ خطوةٍ يخطوها، وبكلّ ما يدور حوله من أحداثٍ طبيعيّة ومصطنعةٍ، معرفةً أُوتيها من ربّه سبحانه الذي أكرمهُ ونعّمه، وأطلعهُ على تقديره وتدبيره، وعرّفه ما تكِنّ نفس كلّ إنسان وما يجيش بضميره؛ ليكون حجّة له تعالى على خلقه، وشاهداً على عباده، ولولا ذلك لمَا لبسَ اللّباد ولا وضعَ على فرسه التّجفاف، ولا كشفَ عن وجهه لعلي بن مهزيار، ولمَا أفتاه بحُكم عَرق الجنُب من غير أن يسأله.

هكذا يكون الإمام المنتجَب من ربّه،.. ومَن لم يكن كذلك فليس بإمام!

***

وشبيه بذلك ما حدّث به عليّ بن يقطين بن موسى الأهوازي، إذ قال: (كنتُ رجلاً أذهب مذاهب المعتزلة، وكان يبلغني من أمر أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ، ما أستهزئ به ولا أقبله، فدَعَتني الحال إلى دخولي بسرّ مَن رأى للقاء السلطان، فدخَلتُها، فلمّا كان يوم، وعدَ السلطان الناس أن يركبوا إلى الميدان.

فلمّا كان من الغد ركبَ الناس في غلائل القصب - أي الملابس الناعمة من الكتان، وتُلبس تحت الثياب - بأيديهم المراوح - لشدّة الحرّ - وركبَ أبو الحسن (عليه السلام) في زيّ الشتاء وعليه لُباد وبُرنُس، وعلى سرجه تجفاف طويل، وقد عقدَ ذَنبَ دابّته والناس يهزءون به وهو يقول: ( إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ؟ ! (2) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 173 - 174، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 413 - 414، ومدينة المعاجز: ص 553.

(2) هود: 81.

١١٢

فلمّا توسّطوا الصحراء، وجاوزوا الحائطين، ارتفعت سحابة وأرخت السّماء عزالَيها، وغاصت الدّوابّ إلى رُكَبها في الطّين ولوّثتهم أذنابها، فرجعوا في أقبح زيّ ورجعَ أبو الحسن (عليه السلام) في أحسن زيّ، ولم يُصبه شيءٍّ ممّا أصابهم، فقلتُ: إن كان الله عزّ وجلّ أطلعهُ على هذا السّرّ فهو حجّة.

ثمّ إنّه لجأ إلى بعض السقائف، فلمّا قرب نحّى البُرنس وجَعلهُ على قربوس سرْجه ثلاث مرّات - وكنتُ قد نويتُ أن أسأله عن عَرق الجنُب أيُصلّى فيه أم لا؟ - ثمّ التفتَ إليّ وقال: (إن كان من حلالٍ فالصّلاة في الثوب حلال، وإن كان من حرامٍ فالصلاة في الثوب حرام..).

فصدّقته وقلت بفضله ولزمته) (1) .

فلِمَ لبسَ الإمام اللّباد والبُرنس في يوم شامسٍ حارٍّ، ظهرَ فيه الناس بغلائل الحرير والقصب وحَملوا المراوح؟ ولِمَ لفتَ نظر الجميع بوضع التّجفاف على سَرج دابّته وعقدَ ذَنبها، مع علمه بأنّ ذلك يجلب النّقد والتعجّب؟

إنّه فعلَ ذلك على رؤوس الأشهاد، وفي ذلك الموكب العظيم؛ ليُظهر علمه ويفضح جهلهم به وبحقّه،.. وليُقبّح ما هم عليه من عنادٍ ومكابرةٍ ومكايدةٍ لاختيار الله تعالى واصطفائه،.. وليُنادى في ذلك الحشد الكثير: حيّ على خير العمل،.. الذي يتجسّد بالإمام قولاً وعملاً بلا مشاحّةٍ وبلا نزاع!

وإنّ الإمام الذي يعلم ما يعتمل في نفس ابن مهزيار - الشاكّ بإمامته - وما في نفس ابن يقطين - المعتزليّ - ويجيبهما على سؤاليهما، اللّذين لم يبوحا بهما لأحد - أقول: إنّ هذا الإمام (عليه السلام) ليقدّم الدليل القاطع على إمامته لِمن كان يُلقي السمع وهو شهيد.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 187 - 188، ومدينة المعاجز: ص 553.

١١٣

معَ زور القصر وإفك قُضاة العصر

نذكر فيما يلي طائفةً من افتراءات أهل قصر الإمارة وقضاته على الإمام (عليه السلام)، وردوده الحكيمة البليغة، وفتاواه التي مَسحت زورهم وإفكهم، ومسخت قضاتهم حين تسوّروا محراب قدس الله تعالى بالنّيل من كرامة عبده المجتبى لحفظ شريعته وحَمل أمره.

ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إنّ العباسيّين قد لبسوا ثوب الدّين لبس الفرو مقلوباً، وساروا من حيث انتهى الأمويّون في ارتكاب المنكرات والبعد عن الدّين والديّان!

فالأمويّون - بالحقيقة - متزعّمون جاهليون، وخصماء تقليديون للهاشميين ولعترة النبيّ صلوات الله عليه وعليهم بالخصوص، تحكّموا برقاب العباد - لمّا نزلت الكُرة في مضربهم - على أساس أنّه:

لَعبتْ هاشم بالمُلك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزَل

وكانوا مع الهاشميين على خطّين متوازيين لا يلتقيان، أو بالأحرى على خطّين متعاكسين لا يزالان يتباعدان،.. وما على الجاهليّ إن عيّرتهُ بعدم الالتزام بالدّين؟!

أمّا العباسيّون، فقد جاءوا إلى الحُكم تحت ظلّ دعوة رفْع الحيف عن الدّين وعن الهاشميين، وليعيدوا الحقّ إلى العلويّين، ولكنّهم حين وصلوا إلى عرش المُلك فاقوا أسلافهم ظلماً وجوراً وبُعداً عن الدّين، وتنكيلاً بذريّة سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله)، حتى لتحسب أنّهم على غير ملّته وعلى غير شريعته، وأنّهم لم يؤمنوا بما جاء به عن ربّه، ولم يُصدّقوا شيئاً ممّا قاله!

فقد كان هَمّ كلّ عباسيّ واهتمامه ينحصران في إذلال أولياء الله، والحطّ من كرامة عباده الصالحين، لا بباعث شهوة التشفيّ، كما فعلَ الأمويّون ثأراً لرؤوس الضلال من عتاتهم الّذين قَتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بل بشهوة إقامة مُلكٍ ظالم ذاقوا حلاوة التسلطّ فيه، فأقاموه على أشلاء كلّ ذي كرامةٍ، وكلّ ذي حقّ من أهل الحقّ، ليتمرّغوا في نعيمه ليس إلاّ!

فهل هذا هو عدل الإسلام يا خلفاء المسلمين؟

١١٤

لا، طبعاً.. ولكن لِمَ خَرست الألسن عن نزع هالة تقديسكم المزوّرة حتى أيامنا هذه، مع أنّ الحقّ لا يَحجِبهُ الرّكام مهما تطاولت الأيام؟!

عِلمُ ذلك عند شهداء الزّور من الذين مَجّدوكم ولبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً إرضاءً لكم: كقضاة الزّور، وكوزراء وولاة الجَور، وكالمؤرّخين المأجورين الذين رضوا بشهوتَي البطن والفرْج، وكالخطباء والشعراء والكتّاب الذين ألهاهم عن الحقّ ذَهَبكم الوهّاج أو السّوط و(الكرباج)! يليهم المستشرقون الدسّاسون الّذين أطنبوا في مدح كلّ سلطان جبّارٍ ابتدع طريقةً يخالف فيها طرائق الإسلام،.. ويمدّهم أعداء الدّين من الشرق ومن الغرب الذين خلّدوا ذكر كلّ حائدٍ عن الإسلام، واعتبروه مجدّداً لشكل الدولة والحُكم، ومنشئاً لسلطانٍ حديثٍ يماشي روح العصر!

***

وفي هذا الفصل نعرض للقارئ شيئاً من تعدّيات الحكّام، وبعض أذنابهم، على كرامة الإمام (عليه السلام)، ونعطي صورةً عن مضايقاتهم التي كانت تهدف إلى إحراجه، والتغلّب على واضح برهانه وجليّ بيانه، وحقّه الصّراح الذي يعرفونه وينفسون به عليه.

قال أبو يعقوب البغداديّ:

(قال المتوكل لابن السكّيت (1) : سَل ابن الرّضا مسألةً عوصاء بحضرَتي؟

____________________

(1) ابن السكّيت: هو يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف المتوفّى سنة 245 هـ، وكان سبب موته: أنّه دعاه المتوكل فقال له: أيّهما أحبّ إليك: المعتزّ والمؤيّد، أو الحسن والحسين؟ فتنقّص ابن السّكّيت ابنَي المتوكل، وذكرَ الحسن والحسين (عليهما السلام) بما هما أهل له، فأمرَ الأتراك فداسوا بطنه فحُمل إلى داره فماتَ رحمه الله.. انظر التاريخ الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 300، وتجد حديثه مع الإمام (عليه السلام) في الكافي: م 1 ص 124 أيضاً.

١١٥

فسألهُ؟ فقال: لِمَ بعثَ الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء وآلة السّحر، وبعثَ عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بآلة الطّب، وبعثَ محمداً (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف؟!

فقال أبو الحسن (عليه السلام): (بعثَ الله موسى (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر، فأتاهم من عند الله بما قهرَ سحرهم وأثبتَ الحجّة عليهم.

وبعثَ عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، في زمان الغالب على أهله الطبّ - في وقتٍ ظهرت فيه الزّمانات والآفات التي يصعب برؤها - فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، فقهرَهم وبهرهم.

وبعثَ محمداً (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف في زمانٍ الغالب على أهله السيف والشِّعر، فأتاهم من القرآن الزاهر، والسيف القاهر، ما بهرَ به شِعرهم، وبهرَ به سيفهم، وأثبتَ الحجّة عليهم.

فقال ابن السّكّيت: تالله، ما رأيتُ مثلك قط! فما الحجّة على الخَلق الآن؟

قال (عليه السلام): العقل يُعرف به الصادق فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه).

فقال ابن السّكّيت: هذا هو والله الجواب) (1) .

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٦

فبُهت الخليفة ومَن حوله من الذين يعيشون على معتلفه؛ لأنّهم كانوا يريدون من السائل أصعب من هذه المسألة، ويبتغون أن يُعيوا الإمام ويقطعوه عن الجواب ويناقشوه ويفحموه؛ ولذا فإنّه لمّا خرجَ الإمام (عليه السلام) من المجلس، رفعَ الجرذ الأكبر رأسه وتنحنح وترنّح، وتشجّع وتبرّع بنصيحة سيّده الذي في نعمته يتمرّغ،.. أعني به يحيى بن أكثم (1) الذي كان يقضم مال الله، ويحكم بغير ما أنزل، والذي قال للمتوكل: ما لابن السّكيت ومناظرته؟! وإنّما هو صاحب نحوٍ وشِعرٍ ولغة..

ثمّ انتفجَ ونفجَ حضنه وأخذَ قرطاساً وأثبتَ فيه مسائل.

ثمّ حاصَ وباص وحارَ ودار،.. ولم يتجرّأ أن يُبادِ بها الإمام سلام الله عليه، فأعطاها لموسى المبرقع (2) - وهو أخو الإمام - وسألهُ الفتوى بها، قاصداً بذلك إحراج الإمام دون غيره قطعاً..

فقد قال موسى بن محمد بن الرّضا (عليه السلام) - وهو المبرقع -: (لقيتُ يحيى بن أكثم في دار العامّة فسألني عن مسائل، فجئتُ إلى أخي عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) فدارَ بيني وبينه من المواعظ ما حَملني وبصّرني طاعته، فقلت له: جُعلت فداك، إنّ ابن أكثم كتبَ يسألني عن مسائل لأفتيه فيها.

فضحكَ (عليه السلام) ثمّ قال: (فهل أفتَيتَه؟

قلت: لا، لم أعرفها.

قال (عليه السلام): وما هي؟

قلت: كتبَ يسألني عن قول الله: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ) (3) نبيّ الله كان محتاجاً إلى علم آصف؟

وعن قوله: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً... ) (4) سجدَ يعقوب ووِلده ليوسف وهم أنبياء؟

____________________

(1) في سنة 240 هـ، عُزِل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقُبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وأربعة آلاف جريب في البصرة، كما في الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 294، وهذه هي نوعيّة قضاة الشرع الذين كانوا يأكلون مال الله ومال عباده.

(2) وقيل أعطاها لابن السّكّيت، فأملَى الإمام (عليه السلام) أجوبتها عليه، وما ذكرناه هو الأصح.

(3) النمل: 40.

(4) يوسف: 100.

١١٧

وعن قوله: ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ.. ) (1) مَن المخاطَب بالآية؟ فإن كان المخاطَب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقد شكّ! وإن كان المخاطَب غيره فعلى مَن إذاً أنزلَ الكتاب؟

وعن قوله: ( لَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) (2) ما هذه الأبحر، وأين هي؟

وعن قوله: ( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ.. ) (3) فاشتهت نفس آدم (عليه السلام) أكل البُرّ، فأكلَ وأُطعم (وفيها ما تشتهي الأنفس) فكيف عُوقِب؟

وعن قوله: ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (4) يزوّج الله عباده الذّكران، وقد عاقبَ قوماً فعلوا ذلك؟ أي قوم لوط.

وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) (5) .

وعن الخنثى وقول عليّ (عليه السلام): (يورّث من المَبال)، فمَن ينظر إذا بالَ إليه، مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظرَ إليها الرجال، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء، وهذا ما لا يحلّ، وشهادة الجارّ إلى نفسه لا تُقبل..

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاةٍ منها، فلمّا بصرَ بصاحبها خلّى سبيلها، فدخَلَت بين الغنم، كيف تُذبح، وهل يجوز أكلها أم لا؟

وعن صلاة الفجر لِمَ يُجهر فيها وهي من صلاة النهار، وإنّما يُجهر في صلاة الليل؟

وعن قول عليّ (عليه السلام) لابن جرموز: (بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنار)، فلِمَ لم يقتله وهو إمام؟

وأخبِرني عن عليّ لِمَ قَتلَ أهل صِفّين وأمرَ بذلك مقبلين ومدبرين وأجهزَ على الجرحى، وكان حكمه يوم الجَمل أنّه لم يَقتِل مولّياً ولم يَجهز على جريحٍ ولم يأمر بذلك وقال: (مَن دخلَ داره فهو آمِن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن!) لِمَ فعلَ ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً، فالثاني خطأ!

وأخبِرني عن رجلٍ أقرّ باللّواط على نفسه، أيُحدّ أم يُدرأ عنه الحدّ؟

____________________

(1) يونس: 94.

(2) لقمان: 27.

(3) الزخرف: 71.

(4) الشورى: 50.

(5) الطلاق: 2.

١١٨

قال (عليه السلام) لأخيه موسى: اُكتب.

قلت: وما أكتُب؟

قال (عليه السلام): اُكتب:

بسم الله الرّحمن الرّحيم: وأنتَ فألهمكَ الله الرّشد،.. أتاني كتابك فامتحَنتَنا به من تَعنّتك لتجد إلى الطّعن سبيلاً إن قصّرنا فيها، والله يكافيك على نيّتك! وقد شَرَحنا مسائلك، فأصغِ إليها سَمعك، وذلِّل لها فهمك، وأشغِل بها قلبك، فقد لزَمتك الحجّة، والسلام.

سألتَ عن قول الله جلّ وعزّ: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) (1) فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان (عليه السلام) عن معرفة ما عرفَ آصف، ولكنّه أحبّ أن يُعرّف أمّته من الجنّ والإنس أنّه الحجّة من بعده، وذلك من علم سليمان (عليه السلام) أودعهُ آصف بأمر الله، ففهّمه ذلك؛ لئلاّ يختلف عليه في إمامته وولايته من بعده، ولتأكيد الحجّة على الخلق.

وأمّا سجود يعقوب (عليه السلام) لولده، فإنّ السجود لم يكن ليوسف، وإنّما كان ذلك من يعقوب ووِلده طاعة لله تعالى، وتحيّة - ومحبّة - ليوسف (عليه السلام)، كما أنّ السجود من الملائكة لم يكن لآدم (عليه السلام)، وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّةً منهم لآدم، فسجود يعقوب ووِلده ويوسف معهم كان شكراً لله باجتماع الشّمل، ألم تر أنّه يقول في شكره في ذلك الوقت: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) ؟ (2) .

____________________

(1) النمل: 40.

(2) يوسف: 101.

١١٩

وأمّا قوله: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) (1) ، فإنّ المخاطَب بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن في شكّ ممّا أنزلَ الله إليه، ولكن قالت الجهَلة: كيف لم يبعث نبيّاً من الملائكة؟ ولِمَ لَم يُفرّق بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟ فأوحى الله إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله): ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) بمحضرٍ من الجهَلة: هل بعثَ الله نبيّاً قبلك إلاّ وهو يأكل الطعام ويشرب الشراب؟ ولكَ بهم أسوة يا محمّد،.. وإنّما قال: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) ولم يكن - أي والحال أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن في شكّ - ولكن للنّصفة، كما قال: ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (2) ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله (عليكم) لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة، وقد عَلمَ الله أنّ نبيّه مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين، وكذلك عَرّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بأنّه صادق فيما يقول، ولكن أحبَّ أن ينصف من نفسه.

وأمّا قوله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... ) (3) فهو كذلك، لو أنّ شجر الدّنيا أقلام، والبحر مِداد يمدّه سبعة أبحُر حتى انفجرت الأرض عيوناً كما انفجَرت في الطوفان، ما نَفدت كلمات الله!! وهي عين الكبريت، وعين اليمن، وعين برهوت، وعين طبريّة، وحَمّة ما سيدان، وحَمّة أفريقيا (تُدعى بسيلان) وعين باحوران.

ونحن الكلمات التي لا تُدرك فضائلنا، ولا تُستقصى.

____________________

(1) يونس: 94.

(2) آل عمران: 61.

(3) لقمان: 27، وفي مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 404: أنّ يحيى بن أكثم سألَ أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله: ( سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) قال: (وهو كذلك..) إلخ، وكذلك في الاحتجاج: ج 2 ص 454.

١٢٠