الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19607
تحميل: 5544

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19607 / تحميل: 5544
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رَفعَ زيد بن موسى بن جعفر الصادق (عليه السلام)، عمّ أب الإمام الهادي (عليه السلام) إلى عمر بن الفرج - الوالي على مكّة والمدينة المنوّرة الذي مرّ ذكره - مراراً يسأله أن يقدّمه على ابن أخيه الهادي (عليه السلام) ويقول: إنّه حَدَث وأنا عمّ أبيه؟

فقال عمر: ذلك لأبي الحسن (عليه السلام).

فقال: افعل واحدةً، أقعِدني غداً قبله ثمّ انظر.

فلمّا كان في الغد أحضرَ عمر أبا الحسن (عليه السلام)، فجلسَ في صدر المجلس، ثمّ أذِن لزيد بن موسى فدخلَ فجلسَ بين يدي أبي الحسن (عليه السلام).

فلمّا كان يوم الخميس أذِن لزيد بن موسى قبله، فجلس في صدر المجلس، ثمّ أذِن لأبي الحسن (عليه السلام)، فدخلَ.. فلمّا رآه زيد قامَ من مجلسه وأقعدهُ وجلس بين يديه) (1) .

فلماذا تصاغرَ أمام الإمام عمّ أبيه؟! وما الذي أزاحهُ عن صدر المجلس، وأزاله عن مقام كبريائه، وأقعده مؤدّباً بين يدي ابن ابن أخيه؟! وما الّذي جعلهُ ينهزم أمام الغلام الحَدَث يا ترى؟!

الجواب غير خافٍ على أحد وإن كان الناس قد ( جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ) (2) كقوم نوح الذي دعاهم نبيّهم جهاراً، وأسرّ لهم إسراراً، فلم يزدهم دعاؤه إلاّ فراراً! فالقوم أبناء القوم، ولا فرق بين الأمس واليوم،.. وقد جرفَ الناس طوفان الكِبْر على أوامر الله تبارك وتعالى،.. وأخنى على عنادهم الدهر! وما أبعدَ أهل العناد عن اتّباع سبيل الرشاد!

***

____________________

(1) إعلام الورى: ص 347، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410، وفي بحار الأنوار: ج 50 ص 190 روي هذا الخبر عن سعيد بن سهل، وهو بلفظه في حلية الأبرار: ج 2 ص 463.

(2) نوح: 7.

٦١

ولن ننتقل إلى موضوعٍ آخر قبل أن نعرض للقارئ شيئاً من شريط نهاية أمر عمر بن الفرج الرُخّجي، الذي كان والياً في أطراف البلاد حتى اشتهر ظلمه لآل أبي طالب، فنقلَ إلى القصر كاتباً فموظّفاً كبيراً، وكوفئ فصار مستشاراً جبّاراً في قصر سامرّاء أيام المتوكل، وكان من أكثر موظّفي القصر إيذاءً للإمام الهادي بعد إيذاء أبيه (عليهما السلام)، ومن أشدّ الناس حرباً عليهما وكيداً لهما ولآلهما.. فمن نتائج إفكه وافترائه على الإمام الجواد (عليه السلام)، وما رواه محمد بن سنان الذي قال:

دخلتُ على أبي الحسن - الهادي (عليه السلام) - فقال: (يا محمد، هل حَدثَ بآل فرج حَدَث؟

فقلت: مات عمر.

فقال (عليه السلام): الحمد لله! حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرّة!

فقلت: يا سيّدي لو علمتُ أنّ هذا يسرّك، لجئتُ حافياً أعدو إليك.

فقال: يا محمد، أو لا تدري ما قال لعنهُ الله لمحمد بن عليّ أبي؟!

قلت: لا.

قال: خاطبهُ في شيءٍ، فقال: أظنّك سكران! فقال أبي: اللّهمّ إن كنتَ تعلم أنّي أمسيتُ لك صائماً، فأذقهُ طعم الحَرَب وذُلّ الأسْر! فو الله ما ذهبت الأيام حتى حَرَب ما له وما كان له - أي حُرِم وسُلِب منه - ثمّ أُخذَ أسيراً! وهو ذا قد مات - لا رحمه الله - وقد أدالَ الله عزّ وجلّ منه، وما زال يديل أولياءه من أعدائه) (1) .

أمّا تفصيل الحال السيّئة التي وصلَ إليها عمر بن الفرج بفعل دعاء الإمام (عليه السلام)، فقد ذكرهُ ثلاثة مؤرّخين أجلاّء وهم: المسعودي، وابن الأثير، والطبريّ .. فقد قال المسعودي - وقريب منه ما قاله ابن الأثير -:

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 496، وبحار الأنوار: ج 50 في هامش الصفحة 221.

٦٢

(في سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، سخطَ المتوكل على عمر بن الفرج الرُخَّجيّ، وكان من عليّة الكُتّاب، وأخذَ منه مالاً وجواهر نحو مئة ألفٍ وعشرين ألف دينار، وأخذَ من أخيه نحو مئة ألف دينار وخمسين ألف دينار! ثمّ صولِحَ عمر على أحد وعشرين ألف ألف درهم - 21 مليوناً - على أن يردّ عليه ضِياعه،.. ثمّ غَضب عليه غضبةً ثانيةً وأمرَ أن يُصفع في كلّ يوم، فأُحصي ما صُفع فكان ستّة آلاف صفعة! وألبسَهُ جبّة صوف.. ثمّ رضي عنه، وسخطَ عليه ثالثةً وأُحدِر إلى بغداد وأقامَ بها حتى مات) (1) .

وهذا من نهاية الذّل والهوان حيث سُلب ماله وضِياعه، وأُسِر وضُرب حتى شَبع ومات بحسرته سكراناً، من صفع غطرسته المتطاولة على أولياء الله وأهل الكرامة من عباده.

____________________

(1) مروج الذهب: ج4 ص 19 - 20، وبحار الأنوار: ج 50 في هامش الصفحة 221، والكامل لابن الأثير: ج 5 ص 269 باختصار، وص 280.

٦٣

وقال أبو جعفر الطبريّ: (وفيها - في سنة 233 هـ - غضبَ المتوكّل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان، فدُفعَ إلى إبراهيم بن إسحاق بن مصعب، فحُبسَ عنده , وكُتب في قبض ضِياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله فلم يجد فيه إلاّ خمسة عشر ألف درهم.

وحضرَ مسرور سمانة فقبضَ جواريه، وقُيّد عمر ثلاثين رطلاً! - أي كان ثقل قيد الحديد في يديه ورجليه بهذا الوزن -. وأُحضرَ مولاه نصر من بغداد فحملَ ثلاثين ألف دينار، وحملَ نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار، وأُصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مئة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحُمل من داره من المتاع ستّة عشر بعيراً فرشاً، ومن الجواهر قيمة أربعين ألف دينار، وحُمل من متاعه وفرشه على خمسين جَملاً كرّت مراراً! وأُلبِس فرجيّة صوفٍ وقُيّد فمكثَ بذلك سبعاً، ثمّ أُطلِق عنه وقُبض قصره، وأُخِذ عياله ففُتّشوا، وكنّ مئة جارية! ثمّ صولِح على عشرة آلاف ألف درهم - أي عشرة ملايين - على أن يردّ عليه ما حيز عنه من ضِياع الأهواز فقط، ونُزعت عنه الجبّة الصوف والقيد، وذلك في شوّال،.. وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يُحرّضه على عمر بن الفرج:

أبلِغ نجاحاً فتى الكُتّاب مَأْلُكةً

يمضي بها الرّيح إصداراً وإيراداً

لا يخرج المال عفواً من يدي (عمر)

أو يُغمد السيف في فوديه إغماداً

الرُخّجيّون لا يوفون ما وعدوا

والرُخّجيّات لا يخلفن ميعاداً! (1)

وويلٌ لِمن كفّره النمرود! فقد ذمّ هذا الشاعر البذيء السّكّير الخمّير عمر بن الفرج وعشيرته وهجاهم بأقبح الهجاء؛ إذ رماهم بعدم الوفاء بالعهود، ثمّ ذمّ نساءهم بأخسّ من ذلك وجعلهنّ - جميعهنّ - وفيّاتٍ مع مَن يطلب وصالهنّ، وفاجراتٍ لا يخلفن موعداً مع عشيقٍ أو طالب هوى وفسق!!

____________________

(1) تاريخ الأمم والملوك: ج 7 ص 347.

٦٤

وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ: (قال لي محمد بن فرج الرُخّجيّ - وهو أخو عمر المذكور، ولكنّه كان على عكس أخيه مَذهباً ومسلكاً؛ إذ كان من المتشيّعين للإمام (عليه السلام)، وإن كان قد أخذَ بجريرة أخيه حين غَضب المتوكل -:

إنّ أبا الحسن (عليه السلام) كتبَ إليه: (يا محمد، اجمَع أمرك، وخُذ حذرك!

قال: فأنا في جمع أمري لستُ أدري ما الذي أرادَ بما كتبَ به إليّ، حتى وردَ عليّ رسول فَحَملني من مصر مصفّداً - مقيّداً - بالحديد، وضَربَ عليّ كلّ ما أملك - أي صادَرَه -، فمكثتُ في السجن ثماني سنين.

ثمّ وردَ عليّ منه كتاب وأنا في السّجن: يا محمد بن الفرج، لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ).

فقرأتُ الكتاب وقلت في نفسي: يكتب أبو الحسن (عليه السلام) إليّ بهذا وأنا في السّجن؟! إنّ هذا لعجيب!

فما مكثتُ إلاّ أياماً يسيرةً حتى أُفرِج عنّي، وحُلّت قيودي، وخُلّي سبيلي.

قال علي بن محمد النوفلي: فلمّا شُخص محمد بن الفرج الرُخّجي إلى العسكر - سامراء - كُتِب له بردّ ضِياعه، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات) (1) .

وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ نفسه: (وكتبَ أحمد بن الخصيب - وهو الوزير - إلى محمد بن الفرج الخروج إلى العسكر، فكتبَ إلى أبي الحسن (عليه السلام) يشاوره، فكتبَ إليه أبو الحسن (عليه السلام): (اُخرج؛ فإنّ فيه فَرجُك إن شاء الله..) فخرجَ، فلم يمكث إلاّ يسيراً حتى مات).

وقال أحمد بن (محمد): (أخبَرني أبو يعقوب، قال: رأيتُ محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشيّةٍ من العشايا وقد استقبلَ أبا الحسن (عليه السلام)، فنظرَ إليه نظراً شافياً، فاعتلّ محمد بن الفرج من الغد، فدخلتُ عليه عائداً بعد أيام من علّته وقد ثَقُل، فحدّثني أنّ أبا الحسن (عليه السلام) قد أنفذَ إليه بثوبٍ وأرانيه مدرجاً - مطويّاً - تحت رأسه،

____________________

(1) الإرشاد: ص 311، وكشف الغمّة: ج 3 ص 170، وإعلام الورى: ص 342، وبحار الأنوار: ج 50 ص 140 - 141، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 وص 414، ومدينة المعاجز: ص 540 - 541.

٦٥

قال: فكُفّن والله فيه) (1) .

فانظر إلى الفرق بين الأخوين - عمر، ومحمد - وإلى موقفَي الإمامين (عليهما السلام) من كلّ منهما، وكيف استُجيب دعاء الإمام الجواد (عليه السلام) بشأن عمر الأفّاك منهما، وكيف كانت عناية الإمام الهادي (عليه السلام) بمحمدٍ المؤمن المهتدي.. ثمّ لا تنسَ ما في الأحداث من أعلام الغيب ومن الكرامات التي انفردَ بها أهل هذا البيت النّبويّ صلوات الله وسلامه عليهم.. واعلَم بأنّ القوم كانوا قُساةً جُفاةً لا يتأثّرون بمثل تلك الآيات، بعد أن أعمَت أبصارهم وبصائرهم لذائذ الحياة ومُغريات الدّنيا.

***

وفي عهد الواثق (2) كان الإمام (عليه السلام) لا يزال يُلملم شتات أشياعه فيسدّدهم، ويقوّي قلوبهم، ويجمعهم على الإيمان والعمل بما يرضي الله عزّ وجلّ، ولا يغادر بيته إلاّ إلى بيت ربّه عزّ وعلا في موسم الحج، أو إلى مسجد جدّه (صلّى الله عليه وآله) في باقي أيام السنة.. وممّا سُمع عنه في ذلك الوقت قول خيران الأسباطيّ الذي قال:

(قدِمتُ على أبي الحسن، عليّ بن محمد (عليهما السلام)، المدينة فقال لي: (ما خبر الواثق عندك؟

قلت: جُعلت فداك، خلّفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام.

قال لي: إنّ أهل المدينة يقولون: إنّه قد مات. فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً. فقال لي: إنّ الناس يقولون: إنّه مات. فلمّا قال لي: إنّ الناس يقولون، عَلمتُ أنّه يعني نفسه. ثم ّقال لي: ما فعلَ جعفر؟ أي المتوكل. قلت: تركتهُ أسوأ الناس حالاً في السّجن. فقال لي: أمَا إنّه صاحب الأمر. ثمّ قال: ما فعل ابن الزيّات؟ قلت: الناس معه، والأمر أمره.

____________________

(1) انظر مصادر الرقم السابق جميعها.

(2) توفي الواثق سنة 232 هـ، وقال ابن الأثير: إنّه قد أحسنَ إلى الناس، واشتملَ العلويّين وبالغَ في إكرامهم والإحسان إليهم والتعهّد لهم بالأموال.. انظر الكامل: ج 5 ص 276 - 277، ومع ذلك كان يُناصب الإمام العداوة؛ لأنّه يقول الحقّ ولا يرضى بالباطل الذي هُم عليه.

٦٦

فقال: أمَا إنّه شؤم عليه،.. ثمّ إنّه سكت.. وقال لي: لابدّ أن تجري مقادير الله وأحكامه،.. يا خيران، ماتَ الواثق، وقد قعدَ جعفر المتوكل، وقد قُتل ابن الزيّات.

قلت: متى، جُعلت فداك؟!

قال: بعد خروجك بستّة أيام)، وكان كذلك) (1) .

فقد فجأ الإمام (عليه السلام) خيران هذا بسؤاله له: (ما خبر الواثق؟)؛ ليُلفت نظره - كواحدٍ من الأصحاب الأخيار - إلى أنّ الإمام يعلم ما لا يعلمه الناس، ويعرف الحوادث وقت وقوعها بالذات، ولا تخفى عليه خافية؛ لدقّة وسائل إعلامه الربّانيّة التي تفنى أمامها المسافات، وتضمحلّ المشقّات، وتنكشف الأسرار والمخبّئات؛ ولذلك فإنّه في آخر الحديث أخبرَ صاحبه بالانقلاب السلطانيّ، الذي تمّ بعد مغادرته لبغداد بستة أيام على التحقيق..

أمّا حين قال له: (إنّ الناس يقولون..) فإنّه عَنى نفسه دون غيره إذ لم يعرف الخبر سواه؛ ولذلك أدركَ صاحبه خيران قَصده بوضوح.. ثمّ أخذهُ الفكر بعدها بأنّ الذي عَلم بموت الواثق، وخروج المتوكل من الحبس إلى العرش، وقتل ابن الزيّات - الوزير المتكبّر - هو الجدير بأن يُلفت النظر إلى علمه اللّدنيّ الذي يأتيه من ظهر الغيب،.. وهو الحريّ بإمامة الناس الذي سخّر الله تعالى له ما لم يسخّره لغيره من سائر الخلق..

____________________

(1) الإرشاد: ص 309، وكشف الغمّة: ج 3 ص 168، وإعلام الورى: ص 341، وبحار الأنوار: ج 50 ص 151 - 152، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410، والكافي م 1 ص 498، ومدينة المعاجز: ص 539 - 540.

٦٧

والإمام (عليه السلام) عندما فاتحَ صاحبه بهذا الحديث لم يشأ أن يزفّ إليه ببشارةٍ ولا أن ينبئه بخبرٍ، ولا كانت غايته تقطيع الوقت بأحداث جرت أو تجري،.. بل رمى إلى ما هو أبعد من ذلك، وأرادَ - أقلاًّ - أن ينشر هذا الجليس ذلك الخبر عن لسان سيّده؛ ليثبّت أصحابه على (ولاية) إمام يعرف الكثير من الغيب المحجوب عن الآخرين، إلى جانب علمه وفضله وعالي قدره، وليشاع هذا السرّ عن مصدرٍ مرتبطٍ بالسماء يتلقّى الأمور عن عليم خبير يُقدّر الأمور ويقضي بما يشاء،.. فيسمع مَن يسمع،.. ويتفكّر ويتدبّر مَن يريد أن ينظر إلى نفسه، فيفتح الله تعالى عليه باباً للهدى إلى الحقّ والتمسّك بأهل الحق.

وإنّ من شأن الإمام أن لا يقعد ساكتاً إذا تشرّف بحضرته جليس؛ فهو إمّا أن يُسأل فيجيب ليوضّح ما استُبهم على الناس، وإمّا أن يبتدئ بالكلام الذي يفيد جليسه وغير جليسه، فيبيّن الأحكام ويطلق كلمة الحقّ في تفسير القرآن وبيان السنّة النبويّة، اللّذين هما دستور الدّين الإسلاميّ الكريم،.. أي أنّه لابدّ أن يقوم بوظيفته الربّانية من: إذاعة الحقّ، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والوقوف بوجه الباطل، وإفتاء الناس بما لا يعلمون.. وهكذا يؤدّي رسالته التي انتدَبته من أجلها العزّة الإلهية.

قال أبو هاشم الجعفري: (كنتُ بالمدينة حين مرّ بها بغا - قائد جيش الخليفة - أيام الواثق - في طلب الأعراب (1) - فقال أبو الحسن (عليه السلام): (اُخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التّركيّ).

فخرجنا فوقفنا، فمرّت بنا تعبئته.

فمرّ بنا تركيّ، فكلّمه أبو الحسن (عليه السلام) بالتّركيّة، فنزلَ عن فَرسه وقبّل حافر دابّته - أي دابّة الإمام -.

قال: فحلّفت التّركيّ: ما قال لك الرّجل؟! أي الإمام (عليه السلام).

قال: أنبيّ هو؟! هذا نبيّ؟!

قلت: لا، ليس هذا بنبيّ.

____________________

(1) كان ذلك سنة 232 هـ، كما في الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 270.

٦٨

قال: هذا دَعاني - تكنّاني - باسمٍ سُمّيت به في صغري في بلاد التّرك، ما عَلِمهُ أحد إلى الساعة) (1) .

فإذا خطرَ ببالنا أنّ الإمام (عليه السلام) قد خرجَ (ليتفرّج) على تعبئة الجيش، ويتنزّه ويسرّي عن نفسه، نكون من البسطاء الذين يجهلون مرتبة الإمامة، بالرغم من أنّه كان يومئذٍ في العشرين من عمره الشريف وفي مطلع شبابه؛ فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) ما خلقهم الله تعالى للّهو، ولا للتفرّج، والتنزّة

٦٩

ولن نقف طويلاً بين رواية محمد بن يحيى ورواية يحيى بن هرثمة؛ فإنّ الحادثة وقعت في عهد المتوكّل بحسب الظاهر لا في عهد الواثق؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) كان - في عهد الواثق - لا يزال مقيماً في مدينة جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والذي استقدَمهُ إلى دار الخلافة هو المتوكل،.. وفي أيّ العهدين كان ذلك الإشكال، فإنّهم لن يجدوا حلّه إلاّ عند الإمام (عليه السلام)، الذي لا يعيى بجواب ولا يكلّ عند خطاب بقدرة الله تعالى وتسديده،.. ومن أجل ذلك ناصبوه العداء، وقَتَلهم الحقد!

***

٧٠

اعتقالٌ.. وبراهين بين يثرب ودار السلاطين

وجاء المتوكل (1) - عدوّ العلويّين الّلدود - إلى الحُكم، فأخذَ يجتهد في إيجاد حيلةٍ للإيقاع بالإمام (عليه السلام) والبطش به، فيدفع الله تعالى عنه شرّه،.. ويحاول الحطّ من قدره في أعين الناس، فيرفعه سبحانه ويُلقي كيد الخليفة في نَحره فلا يصل إلى بُغيته، ويبقى غِلّه في صدره ويعجز عن النّيل من كرامة وليّ الله في أرضه،.. فيضطرّ إلى إكرامه وإجلاله وتفدّيه والإحسان إليه صاغراً، كلّما حاول أن ينتقص منه أو يهينه؛ إذ كان الإمام (عليه السلام) يريه من علمه وفضله وآياته ما يُبطل مَكرَه، ويهلع منه فؤاده ويختبط عقله كما سترى..

وكذلك كان عملاء العرش وأعوان الحاكم الظالم يدّعون على الإمام (عليه السلام) بما ليس فيه، وينمّون ويفترون، ويتّهمونه بأمورٍ لم يفعلها، تزلّفاً لأميرهم، وطمعاً في لذائذ دنياه، وملء كروشهم التي لا تشبع من ازدراد الحرام، فيبير الله سبحانه مكائدهم ويردّ حقدهم في قلوبهم، ويُبقي ذلك شجاً تغصّ به لهواتهم فيعانون مرارتها ويقاسون حرقتها..

____________________

(1) تأمّر المتوكل سنة 232هـ بعد وفاة الواثق الذي كان ابنه صغيراً وقصيراً، ولم يتلاءم قوامه مع ثوب الخلافة، فقام أحمد بن أبي دؤاد وألبسَ الثوب والعمامة للمتوكل وقبّل بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فصار بذلك أميراً للمؤمنين!!!

انظر الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 278، ومن جميل المفارقات - وصُنع الله تعالى -: أنّ المتوكل غضبَ على قاضيه المتزلّف أحمد بن أبي دؤاد وقبضَ ضِياعه وأملاكه، وحَبسَ ابنه أبا الوليد وسائر أولاده، فحملَ أبو الوليد مئةً وعشرين ألف دينارٍ وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار، ثمّ صولِح بعد ذلك على ستة عشر ألف درهم. انظر الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 389 وتَصوّر هذه النوعيّة من قضاة المسلمين الشرفاء! ومن هذه البيعة بإمارة المؤمنين وأمثالها.

٧١

فمن ذلك: أنّ بُريحة العباسيّ كتبَ إلى المتوكّل: (إنْ كان لك في الحَرَمين حاجة فأخرِج عليّ بن محمدٍ منهما؛ فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتّبعه خَلق كثير،.. ثمّ بعثَ بالكتاب إلى المتوكّل، فأنفذَ يحيى بن هرثمة وكتبَ معه إلى أبي الحسن - أي الإمام (عليه السلام) - كتاباً جيّداً يُعرّفه أنّه قد اشتاق إليه، وسألهُ القدوم عليه، وأمرَ يحيى بالمسير إليه، وكتبَ - كذلك - إلى بريحة يُعرّفه الأمر، وكان ذلك سنة ثلاثٍ وأربعين ومئتين للهجرة النبويّة الشريفة (1) .

فقدِم يحيى المدينة، وبدأ ببريحة وأوصلَ الكتاب إليه، ثمّ ركبا جميعاً إلى أبي الحسن (عليه السلام) وأوصلا إليه كتاب المتوكّل، فاستأجلهما ثلاثة أيام..

فلمّا كان بعد ثلاثةٍ عادا إلى داره، فوجدا الدوابّ مسرَجة، والأثقال مشدودةً قد فرغَ منها، فخرجَ صلوات الله عليه متوجهاً إلى العراق ومعه يحيى بن هرثمة) (2) .

ولو سألنا بريحة النمّام الزّنيم - فيما بينه وبين الله - هل كانت كتابته إلى المتوكل غِيرةً على الدّين، وحفظاً لبيضة الإسلام وبدافع حقّ وعن صدقٍ، وهل سمعَ الإمام يدعو إلى نفسه في سرّ أو عَلن، أو في تصريح أو تلميح، أو وقفَ له على نشاطٍ استعملَ فيه رُسلاً وبثّ أرصاداً، أو اتّخذ لنفسه أُمناء وسعاةً ودعاة؟!

أقول: لو سألنا هذا العُتلّ عن ذلك وأقسمنا عليه بما يُدين به من صَنميّة (الوظيفة)؛ لوقفَ واجماً لا يحير جواباً ولا يردّ على سؤال، ولبرزَ على حقيقته عارياً لم يفعل ذلك إلاّ خدمةً أمينةً لبطنه وفَرْجه لا أمانةً لصاحبه،.. إذ ياليته كان يحمل أمانة الكلب لصاحبه الذي يملأ بطنه.

وفي رواية ثانيةٍ نقع على واشٍ ثانٍ كان نصيبه العزل من مركز ولاية أمور أهل المدينة المنوّرة، لمجرّد إشارة من الإمام (عليه السلام).

____________________

(1) الصواعق المحرقة: ص 207.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 209، وانظر حلية الأبرار: ج 2 ص 463.

٧٢

فقد قال في الإرشاد: (وكان سبب شخوص أبي الحسن (عليه السلام) من المدينة إلى سرّ مَن رأى (1) : أنّ عبد الله بن محمد كان يتولّى الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فسعى بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكّل، وكان يقصدهُ بالأذى.

وبلغَ أبا الحسن سعايته به، فكتبَ إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه، وكذبهُ فيما سعى به، فتقدّم المتوكل - أي أمرَ - بإجابته عن كتابه، ودعائه فيه إلى حضور (العسكر) - سرّ مَن رأى - على جميلٍ من الفعل والقول، فخرجَت نسخة الكتاب التي بَعثها مع يحيى بن هرثمة مع ثلاثمئة رجل (وأُخذت من يحيى بن هرثمة سنة ثلاث وأربعين ومئتين) وهي:

بسم الله الرّحمن الرّحيم: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك، وراعٍ لقرابتك موجب لحقّك، مُقرّ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يُصلح الله به حالك وحالهم، ويثبّت عزّك وعزّهم، ويُدخل اليُمن - الأمن - عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما افترضَ عليه فيك وفيهم.

وقد رأى أمير المؤمنين صَرْف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصّلاة بمدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ كان على ما ذكرتَ من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قَرفك به - أي اتّهمك - ونَسبك إليه من الأمر الذي قد عَلِم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في بِرّك وقولك، وأنّك لم تؤهِّل نفسك لِما قُرفتَ - اتّهمت - بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمَرَهُ بإكرامك و تبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك.

وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك! فإن نشطتَ لزيارته والمقام قِبله ما أحببتَ، شخصتَ ومَن اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحَشمك على مهلةٍ وطمأنينة، ترحل إذا شئتَ، وتنزل إذا شئتَ، وتسير كيف شئت.

____________________

(1) الإرشاد: ص 313 - 314، والكافي: م 1 ص 501، والأنوار البهيّة: ص 259، وحلية الأبرار: ج 2 ص 463.

٧٣

وإن أحببتَ أن يكون يحيى بن هرثمة، مولى أمير المؤمنين، ومَن معه من الجند مُشيّعين لك، يرحلون برحيلك، ويسيرون بمسيرك، فالأمر بذلك إليك - وقد تقدّمنا إليه بطاعتك، فاستخِر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما من أحدٍ من إخوانه ووِلده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة، ولا أحمد منه أثرةً، ولا هو لهم أنظر، ولا عليهم أشفق وبهم أبَرّ وإليهم أسكنَ منه إليك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتبَ إبراهيم بن العباس: وصلّى الله على محمد وآله وسلّم، في شهر جمادى الآخرة من سنة ثلاثٍ وأربعين ومئتين.

فلمّا وصلَ الكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام)، تجهّز للرحيل، وخرجَ معه يحيى بن هرثمة حتى وصلَ إلى سرّ مَن رأى.

فلمّا وصلَ إليها تَقدّم المتوكّل بأن يُحجَب عنه في يومه، فنزلَ في خانٍ يُعرف بـ (خان الصعاليك) ، وأقامَ فيه يومه، ثمّ تقدّم المتوكل بإفراد دارٍ له فانتقلَ إليها) (1) .

وسنتكلّم حول نزوله في خان الصعاليك قريباً إن شاء الله تعالى.

***

____________________

(1) الإرشاد: ص 313 - 314، وكشف الغمّة: ج 3 ص 172 - 173، وهو في إعلام الورى: ص 347 - 348 باختصار، وانظره بتمامه في بحار الأنوار: ج 50 ص 200 - 202، والكافي: م 1 ص 501 - 502، وتذكرة الخواص: ص 373، وحلية الأبرار: ج 2 ص 463.

٧٤

وهذا الكتاب المُنمّق - المليء بالمَلق والتودّد باللّسان بما ليس في القلب - يشبه زخرف قول (المبصّرين والمشعوذين): اقرأ تفرح، جرّب تحزن! فإذا أردتَ أن تفهم فحواه وحقيقة مغزاه، فاقرأه مستعملاً أضداد كلماته لتقف على صريح هدفه ومعناه، فالمتوكل لا يرعى قرابة الإمام ولا يحفظ حقّه، ولا يُقدّر له ولا لآله ما يصلح حاله وحالهم، ولا يمنحهم أمناً ولا يبتغي بهم رضا ربّه! وإذا عزلَ واليه وأقامَ غيره وأمَرَه بإكرام الإمام والائتمار بأمره، فلِمَ استقدَمهُ من المدينة و(اشتاقَ) إليه وإلى النظر إلى وجهه قبل أن يستلم الوالي الجديد منصبه؟ ولماذا بعثَ بثلاثمئة جنديّ لمرافقته؟ سترى آيات بِرّه والإشفاق عليه؛ فإنّه يُجسّد غِلّ العباسيّين على العلويّين أعظم تجسيد، ويَحمل من الحقد عليهم ما لم يحمله المأمون ولا أبوه من قبل.. وهو:

يُعطيك من طرف اللّسان حلاوةً

ويروغ منك كما يروغ الثّعلب

قد فرشَ الطريق للإمام بالورود، وجعَل تحت الزّهور شوك القتاد! ومدّ في الشارع العامّ بساطاً أحمر؛ ليدوس الإمام (عليه السلام) في كلّ خطوةٍ على خنجر! وأحضرَ الإمام - كذلك - محاطاً بجندٍ وسلاح! واقتيد بقوّةٍ إلى ذلك (المشتاق) إليه، الحريص على راحته الذي تعمّد أن يكون دخوله إلى سرّ مَن رأى بحيث لا يعلم بوصوله أحد! وأمرَ جواسيسه أن لا يُعلَن خبرَ قدومه،.. ثمّ تقدّم بأن يحجب عنه في يوم وصوله فألجأه إلى النزول في خان الصعاليك!

فما أكذبَ شوق هذا (المشتاق)، الواضح النّفاق! وما أعظمَ خان الفقراء والصعاليك حين وطَأته قَدما الإمام، وما أحكمَ خطّته بنزوله فيه ليرى القاصي والداني أنّ هذا (المستقدَم) قسراً أُريدت إهانته،.. وأنّه لا يطمع في دنيا القوم ولا في الباطل الذي هم فيه، وأنّ (الخان الحقير) - الذي نزلَ فيه - صار للفور قُطب رحى العلم والفضل والحكمة بعد أن كان خاناً للصعاليك!

إنّ حقيقة إشخاصه (عليه السلام) إلى سامرّاء هي ما ذكره سبط بن الجوزي الذي قال:

٧٥

( قال علماء السيَر: وإنّما أشخصهُ المتوكّل من مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى بغداد؛ لأنّ المتوكّل كان يبغض علياً وذريّته، فبَلغه مقام عليّ بالمدينة ومَيل النّاس إليه، فخافَ منه، فدعا يحيى بن هرثمة وقال: اذهب وانظر في حاله، وأشخصهُ إلينا.

قال يحيى: فذهبتُ إلى المدينة، فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمعَ الناس بمثله خوفاً على عليّ (عليه السلام)، وقامت الدّنيا على ساق؛ لأنّه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده مَيل إلى الدّنيا،.. فجعلتُ أُسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم أؤمَر فيه بمكروهٍ، وأنّه لا بأسَ عليه،.. ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعيةً وكُتب العلم، فعظُم في عيني وتولّيت خدمتهُ بنفسي، وأحسنتُ عِشرته.

فبينا أنا نائم في يوم من الأيام - أثناء المسير إلى العراق - والسماء صاحية والشمس طالعة، إذ ركبَ، وعليه ممطر، وقد عَقد ذنب دابّته! فتعجّبتُ من فعله، فلم يكن من ذلك إلاّ هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها ونالنا من المطر أمر عظيم جداً! فالتفتَ إليّ فقال: (أنا أعلم أنّك أنكرتَ ما رأيت وتوهّمت أنّي أعلم ما لم تعلمه، وليس ذلك كما ظننتَ، ولكنّي نشأتُ بالبادية، فأنا أعرف الرّياح التي تكون في عَقبها المطر)، فلمّا أصبحتُ هبّت ريح لا تخلف، وشممتُ منها رائحة المطر فتأهّبتُ لذلك.

فلمّا قدِمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ - وكان والياً على بغداد - فقال لي: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولَدَه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والمتوكل مَن تَعلم! فإنْ حرّضته عليه قَتَله، وكان رسول الله خَصمك يوم القيامة! فقلتُ له: والله، ما وقفتُ منه إلاّ على كلّ أمرٍ جميل.

ثمّ سرتُ به إلى سرّ مَن رأى، فبدأت (بوصيف التّركي) فأخبرته بوصوله، فقال: والله، لئن سقطَ منه شعرة لا يُطالب بها سواك، ولا يكون المطالِب بها غيري! فتعجّبتُ كيف وافقَ قوله قول إسحاق.

٧٦

فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه، وورعه وزهادته، وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكُتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرَمهُ المتوكل وأحسنَ جائزته وأجزلَ عطاءه، وأنزله معه سرّ مَن رأى) (1) .

فلو كان هذا (المعتقَل) قد سيق إلى (مشتاقٍ) إليه من سلاطين بني عمومته - غير محاط بالجند والرّقباء - لمَا خاف عليه إسحاق بن إبراهيم، ولا خشيَ قَتله (وصيف) التّركيّ، ولا احتملَ ضرره بَرّ ولا فاجر،.. ولكنّه جيء به (محمولاً) بتجِلّة السيوف.. وعرفَ الكلّ أنّ أُسرة السفّاحين السّمّامين غير مأمونةٍ على سلامته، فعبّر عن ذلك إسحاق الطاهريّ،.. وأنذرَ (وصيف) التّركيّ من مغبّة الفتك به؛.. لأنّهما يستطيعان الكلام،.. وغيرهما في فمه (طعام) القصر،.. أو (لجام) القسر!

***

أمّا ما بين يثرب ودار الخلافة، فقد ظهرَ من آيات إمامنا (عليه السلام) ومعجزاته ما بهرَ حَرسته من جند الظّلمة، وأثارَ إعجابهم ودهشتهم،.. وتبيّن لهم من سِرّ أهل هذا البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ما يدع العاقل يتفكّر ويتدبّر،.. فيا ليتهم كانوا يعقلون!

أُولاها: ما قاله يحيى بن هرثمة في رواية تتناول وصف ذهابه بطلب الإمام (عليه السلام)، وإيابه بإحضاره محاطاً بثلاثمئة رجلٍ،.. (مسلّحين) إذ قال:

(دعاني المتوكل وقال: اختر ثلاثمئة رجلٍ ممّن تريد، واخرُجوا إلى الكوفة فخلّفوا أثقالكم فيها، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة، فأحضِروا عليّ بن محمد (عليه السلام) إلى عندي مكرّماً، معظّماً، مبجّلاً،.. ففعلتُ، وخرَجنا.

وكان في أصحابي قائد من الشّراة - الخوارج - وكان لي كاتب متشيّع، وأنا على مذهب الحشويّة، فكان (الشاري) يناظر الكاتب، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق.

____________________

(1) تذكرة الخواص: ص 373 - 374، وبحار الأنوار: ج 5 - ص 201 في الهامش، وص 207 وص 208، ومروج الذهب: ج 4 ص 84 - 85، والأنوار البهيّة: ص 259 - 260، ومدينة المعاجز: ص 553.

٧٧

فلمّا صرنا وسط الطريق قال (الشاري) للكاتب: أليس من قول صاحبكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (ليس من الأرض بقعة إلاّ وهي قبر، أو ستكون قبراً؟) فانظر إلى هذه البرّية العظيمة أين مَن يموت فيها، حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون؟!

فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟

قال: نعم.

فقلت: صدقَ، أين مَن يموت في هذه البريّة العظيمة حتى تمتلئ قبوراً؟!

وتضاحكنا ساعةً إذ انخذل الكاتب في أيدينا، وسرنا حتى دخلنا المدينة، فقصدتُ باب أبي الحسن، فدخلتُ إليه، وقرأ كتاب المتوكل وقال: انزلوا، فليس من جهتي خلاف..

فلمّا صرتُ إليه من الغد - وكنّا في تمّوز، أشدّ ما يكون من الحرّ - فإذا بين يديه خيّاط وهو يقطع من ثيابٍ غلاظٍ خفّاتين له ولغمانه - والخفتان ثوب شتويّ - وقال للخياط: اجمع عليها جماعةً من الخيّاطين، واعمل على الفراغ منها يومك هذا، وبكّر بها إليّ في هذا الوقت، ثمّ نظر إليّ وقال: (يا يحيى، اقضوا وَطركم من المدينة في هذا اليوم، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت.

فخرجتُ من عنده وأنا أتعجّب منه ومن الخفّاتين وأقول في نفسي: نحن في تمّوز وحرّ الحجاز، وبيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب؟! وقلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر، ويُقدّر أنّ كلّ سفرٍ يحتاج إلى هذه الثياب، والعجب من الرّوافض حيث يقولون بإمامة هذا، مع فهمه هذا!

فعدتُ إليه في الغد في ذلك الوقت، فإذا الثياب قد أُحضرت، وقال لغلمانه: ادخُلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس - ما يُلبس على الرأس والبدن من الثياب الغليظة - ثمّ قال: ارحل يا يحيى.

فقلت في نفسي: وهذا أعجب من الأول! يخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذَ معه اللّبابيد والبرانس! فخرجتُ وأنا أستصغرُ فهمه..

٧٨

فسِرنا حتى إذا وصلنا إلى الموضع الذي وقَعت فيه المناظرة في القبور، ارتفعت سحابة واسودّت، وأرعَدت وأبرَقت، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسَلت علينا برداً مثل الصّخور، وقد شدّ على نفسه (عليه السلام) وعلى غلمانه الخفّاتين، ولبسوا اللّبابيد والبرانس، وقال لغلمانه: ادفعوا إلى يحيى لبّادةً، وإلى الكاتب بُرنساً،.. وتجمّعنا والبرد يأخذنا حتى قُتل من أصحابي ثمانين رجلاً!

وزالت وعاد الحَرّ كما كان،.. فقال لي: يا يحيى، أنزِل مَن بقي من أصحابك فادفن مَن ماتَ منهم، فكهذا يملأ الله هذه البرّية قبوراً).

قال: فرميتُ نفسي عن دابّتي، وعدوتُ إليه فقبّلت رجْله وركابه وقلت: أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، وأنّكم خلفاء الله في أرضه، فقد كنت كافراً، وقد أسلمتُ الآن على يديك يا مولاي.. وتشيّعت، ولزمتُ خدمتهُ إلى أن مضى) (1) .

فعن هذه الآية الإلهية استنطِقْ أولئك الأموات - الّذين مَلأ الله تعالى البرّية بقبورهم - يجيبوك بالحقّ وهم رفات؛ لأنّ موتهم كان آية بيّنةً من آيات الله تعالى أمدّ بها الإمام (عليه السلام) في ساعة الهزء من مولاه (الكاتب) الشيعيّ! وإنّ تلك الرّفات التي صَرع أصحابها البرد لَتَنطق بما عانتهُ من عاقبة العناد، وبما ذاقته من الموت زؤاماً حين سَخَرت بقول أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين سلام الله عليه!

***

والثانية: أنّه قيل: (وجّه المتوكل عتاب بن أبي عتاب إلى المدينة يحمل عليّ بن محمد (عليهما السلام) إلى سرّ مَن رأى، وكان الشيعة يتحدّثون أنّه يعلم الغيب، وكان في نفس عتاب من هذا شيء - أي كان يستهزئ بهذا القول.

ومن المؤكّد أنّ هذا الرجل كان مع زمرة القصر التي كانت برئاسة يحيى بن هرثمة.

____________________

(1) كشفة الغمّة: ج 3 ص 181 - 182، وبحار الأنوار: ج 50 ص 143 - 144 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 209، وهو في مدينة المعاجز: ص 547 - 548.

٧٩

فلمّا فصلَ من المدينة رآه وقد لبس لبّادةً والسماء صاحية! فما كان بأسرع من أن تغيّمت وأمطرت! فقال عتاب: هذا واحد.

ثمّ لمّا وافى شطّ القاطول على دجلة رآه مقلق القلب فقال - أي الإمام (عليه السلام) - له: (ما لكَ يا أبا أحمد؟

فقال: قلبي مقلق بحوائج التمستها من أمير المؤمنين.

فقال: إنّ حوائجك قد قُضيت).

فما أسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه، فقال: إنّ الناس يقولون إنّك تعلم الغيب، وقد تبيّنتُ ذلك من خلّتَين (1) .

فسلام الله وتحياته وبركاته على أعلام التّقى الّذين جعلهم الله سبحانه وتعالى جلاء العمى في الناس، ونبراس الهدى، والحجّة العظمى على أهل الدّنيا لِمن كان له أُذن واعية وعقل رشيد؛ فإنّهم جديرون بالمراتب التي رتّبهم الله عزّ اسمه فيها، ونحن من أبخل البخلاء حين ننكر عليهم ما أنعمَ به عليهم غيرنا، مع أنّ الاعتراف بنعمة الله عليهم لا يكلّفنا عبوديةً لهم، ولا يُحمّلنا صرفاً ولا غَرماً.. بل يكسبنا فضلاً عظيماً وغُنماً جزيلاً..

***

ومثل قضيّة عتاب كانت قضية زميله أبي العباس الذي كان في جملة الثلاثمئة رجلٍ من جند الخليفة، وحَدثت معه القصّة الثالثة التي رواها أبو محمدٍ البصريّ عن أبي العباس، عن شبلٍ، كاتب إبراهيم بن محمد، قائلاً:

(كنّا أجرينا ذكر أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: يا أبا محمد، لم أكن في شيءٍ من هذا الأمر - أي لم يكن إمامياً معترفاً بالولاية - وكنتُ أعيب على أخي وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذمّ والشتم، إلى أن كنت في الوفد الذي أوفدَ المتوكل إلى المدينة لإحضار أبي الحسن (عليه السلام)، فخرجنا إلى المدينة.

فلمّا خرجَ وصرنا في بعض الطريق، وطوَينا المنزل، وكان منزلاً صائفاً شديد الحرّ، فسألناه أن ينزل فقال: (لا.

فخرجنا ولم نطعم، ولم نشرب..

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 173، ومناقب آل أبي طالب: ج1 ص 413، ومدينة المعاجز: ص 554.

٨٠