تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء12%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149525 / تحميل: 5353
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحي

١

٢

الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحي

٣

جميع الحقوق محفوظة للمؤلِّف

ص. ب 26095 - الصفاة كويت

الطبعة الاُولى 1398 هـ - 1978 م - كويت

الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م - كويت

طبعة مزيدة ومنقّحة

* * *

٤

الفصل الأوّل

٥

اسم الكتاب: الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحي

المؤلّف: أنطوان بارا

عدد الصفحات: 367 صفحة

الناشر: انتشارات الهاشمي

المطبعة: نمونه

تاريخ النشر: 1984 م / 1404 هـ محرّم

حقّ الطبع محفوظ

٦

مقدّمة الكتاب

ضمير الأديان إلى أبد الدهور

الدكتور أسعد علي

- 1 -

إنّ للألم سرّاً يتّصل بينبوع السّرور، بل يتدفّق منه كما ينشق (الأمل) من حروف (الألم) بقليل من حركيّة التركيب والتواصل بين الحروف (ألم = أمل). هذا على مستوى التركيب اللغويّ الواضح.

أمّا على مستوى الرّوح الواسع كالرّيح فظاهر المظاهر خفيّ السّرائر يكتشفه أهل الذّوق في سِير الأنبياء والشهداء والصّالحين.

- 2 -

في الإنجيل - والإنجيل يعني: البشارة - صلّى السّيد المسيح (عليه السّلام) عشيّة تسليمه، وناجى الله قائلاً: «إن كان يُستطاع فَلتعبُر عنّي هذه الكأس، لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك؛ أمّا الرّوح فمستعدٌّ، وأمّا الجسد فضعيف، ولكن كيف تتمّ الكتب

٧

فإنّه هكذا ينبغي أن يكون؟»(1) .

ضعفُ الجسد مصدر الألم، واستعداد الرّوح لتنفيذ المشيئة العليا، يصلها بينبوع السّرور الخالد.. فلا موت.. والنّصر الحقيقيّ لا يكون إلاّ انسجاماً مع التوجّه الينبوعي الطاهر.. وهل ينتصر مَن يخسر نفسه ولو ربح العالم(2) ؟

بهذا المقياس الانتصاري، ماذا يقول العالَم بثورة الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام)؟ هل انسجم الحسين مع التوجّه الينبوعيّ الطّاهر، فكان منتصراً في شهادته وشهادة آل بيته؟

فطن المؤرّخون والباحثون لرمزيّة الثورة الحسينيّة، واستعذبوا تكرار السّيرة الحسينيّة؛ استلهاماً لها واستقواءً بروح صاحبها(3)

- 3 -

يقول الباحث الشابّ السيّد أنطون بارا في بحثه الجديد (الحسين في الفكر المسيحيّ) ما خلاصته: لم يسجّل التاريخ شبيهاً لاستشهاد الحسين في كربلاء، فاستشهاد الحسين وسيرته عنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ، ولعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها.

____________________

(1) متّي 26 / 40 - 55.

(2) المصدر نفسه 16 / 26، فإنّه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟

(3) يلاحظ ما كتبه عباس محمود العقّاد، والشيخ عبد الله العلايلي، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، وكثيرون غيرهم.

٨

لذلك غدا حبّ الحسين الثائر واجباً علينا كبشر، وغدا حبّ الحسين الشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا.

فقد جاءت صيحة الحسين نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر، وتحت أيّة عقيدة انضوى؛ إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً، وبأخيه ثانياً(1) .

إنّ بحث السيّد أنطون بارا بمجمل فصوله(2) يؤكّد حقيقة تجلّت له، وجسّدها بقوله: فقد كان الحسين (عليه السّلام) شمعة الإسلام أضاءت ممثّلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور(3) .

إنّ هذه النتيجة مثيرة للغاية؛ لأنّها تحكم الماضي والمستقبل، ومقياس الحُكم فيها ثورة الحسين الواقعيّة.. ثمّ مثاليّة الرّمز في شخصيّته. فكيف يخرج هذا الحكم الذي يبدو وكأنّه انخطاف بالتأثّر حتّى الغلوّ؟ هل مثّل الحسين ضمير الأديان في الماضي؟ وهل يمثّله في المستقبل؟

- 4 -

ضمير الأديان بمقياس المسيحيّة وصيّتان:

____________________

(1) الحسين / 66.

(2) لاحظ عناوين الفصول: لمَن ثورة الحسين؟ ثورة الوحي الإلهي، فداء الحسين في الفكر المسيحي، معجزات الشهادة، في ضمير الإسلام، في المجتمع، في الزمن، حكمة اختلاف الشهادتين، أسباب ثورة الحسين، قريبة وبعيدة، في عهد يزيد، الخروج، آخر أقوال سيّد الشهداء ومواقفه، مقتله، الجزيرة التي أسقطت أميّة، المسيح هل تنبّأ بالحسين؟ كربلاء الأرض المقدّسة، ضمير الأديان أفضال وألقاب، سمو الشهادة في علم الجمال.

(3) الحسين / 65.

٩

أحبب الربّ إلهك بكل قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك. هذه هي الوصيّة العظمى والاُولى.

أحبب قريبك كنفسك. هذه هي الوصيّة الثانية التي تشبه الأولى. بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء(1)

إنّ ضمير الأديان محبّة لله وتحابّ بين العباد، كما يُفهم من عبارة السيّد المسيح، فكيف يفهم ضمير الأديان من عبارة القرآن؟

- 5 -

آيات المحبّة في القرآن الكريم تؤكّد ضمير الأديان هذا، فضمير الأديان: محبّة وتحابّ، ومن صيغ التعبير عن هذه الحقيقة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (2) .

قوم الله يحبّونه، وهو لذلك يحبّهم. فدينه المحبّة، ولا يقبل قوماً يرتدّون عن هذا الدين، أو يتقاعسون في تنفيذ أخلاقه التي أشارت إليها الآية: رحمة، وشدّة، وجهاداً، وشجاعة(3) .

هذا ضمير الأديان في الصّيغة الإسلاميّة، وفي الصّيغة المسيحيّة السّابقة.

____________________

(1) متّي 22 / 38 - 41.

(2) سورة المائدة / 54.

(3) تلاحظ رسالة: عبد الله خلف، حول حقيقة الحبّ في القرآن..

١٠

إنّها المحبّة والتحابّ، فكيف مثّله الحسين بن عليّ بالثورة؟

خير الأمم أمّة هَديت إلى الحقّ فَهَدت به والتزمته بالعدل(1) ، وما الحقّ الذي يجعل الاُمّة خير الاُمم؟

إنّه الإخلاص لله، والتعايش بالمعروف المطهّر من المنكر(2) .

النّصوص القرآنيّة تؤكّد مقاييس خير الاُمم بصيغة جديدة لدين الحبّ والتحابّ، فهل كانت ثورة الحسين تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان هذا؟

- 7 -

يقول الحسين (عليه السّلام): «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمَن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين».

حلّلت هذا النصّ مرّة أمام أصدقاء من الشّعب والعلماء في بيروت سنة 1975، وناقشنا مبادئ الأديان المركّزة فيه، إنّما جاء تركيزها ميدانيّاً، فالحسين يقرّر واقعة خروجه للثورة، ويعلن غاية ثورته طلباً للإصلاح في اُمّة

____________________

(1) لاحظ نصوص الآيات الواضحة( وممّن خلقنا أمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ) (سورة الأعراف / 181).

(2)( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) (سورة آل عمران / 110)

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.... * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ ) (سورة الأعراف / 156 - 157).

١١

جدّه الذي بُعث للنّاس جميعاً، كما يعلن أصول ثورته الإصلاحيّة فهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. حتّى يكون انسجام الإنسان مع الحقّ، فما هي دروس الثورة المعروفة في ضمير الأديان(1) والتي أوضحها الحسين بحبر جديد من دم الشهادة المحرّرة المنقذة؟

- 8 -

من دروس المعروف الخالدة في الثورة الحسينيّة: الحريّة، الإيثار، التطوّر، الإبداع.

ألا تمثّل هذه الدروس ضمير الأديان إلى أبد الدهور؟ ولكن كيف نفهمها في عصرنا كما أرادها الحسين بن علي في ثورته؟

أمثّل لذلك بمقاطع من (جامعة الحسين): أوّل دروس المعروف (الحريّة)، ويقابلها من مظاهر المنكر (العبوديّة)، فكلّ المظاهر التحكميّة أو التسلّطيّة أو الاستغلاليّة، إنّما هي مظاهر للعبودية وزبانيّة لها..

وثورة الحسين كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلّط في عصره ليخترق جدران العبوديّة مطلقاً هواء الحريّة بالفداء في فضاء الزمان؛ ليصل الهواء النقي ببعضه، من ماضٍ وحاضرٍ وآتٍ.. فالهواء حرّ من طبعه الحرّية ولا يستطيع الحياة بين جدران. الهواء الحرّ يُحيي، والهواء الحبيس يقتل.

____________________

(1) تأمّل التفاصيل في (جامعة الحسين بن علي) / 23 - 30 وقارن بالآيات المشار إليها (سورة الأعراف / 156، 157، 181)، وسورة آل عمران / 110.

١٢

حرّر الحسين، بوثبته الفدائيّة، هواء تتنفّسه النفوس الحرّة الشريفة؛ لأنّه أكّد عذوبة الموت، طلباً للإصلاح الإنسانيّ.

وإن كان الموت بهذا المستوى من العذوبة، فلماذا يستعبد الخوف الإنسان؟ لماذا لا يندفع كالسّهم الملتهب فيحترق ويخترق؟

إنّ الاحتراق الخارق حرّية فائقة المذاق. إنّه الشهادة التي تثمر الشهداء (أشهد أن لا إله إلاّ الله) عنوان جامعة الشهادة، أي الحرّية؛ لأنّ هذه العبارة تعني عدم الخضوع لغير الله والخضوع لله حرّية؛ لأنّ مَن يخضع لله يتقوّى بقوّته ويتحوّل بحوله.

والشهداء خرّيجو هذه الجامعة التي تصنع الأحرار وتدعو عشّاق الحريّة في كلّ سبيل(1) .

أمّا الدرس الثاني من دروس المعروف فهو الإيثار، ويقابل الإيثار من مظاهر المنكر الأنانيّة.

فكلّ الأعمال التي تجعل الآخرين وأشياءهم وقفاً لأنا الفرد المتسلّط، تعتبر من أشواك الأنانيّة أو من ثمارها الشائكة.

وثورة الحسين (عليه السّلام) إنّما هي خروج محبّ من أجل الجماعة، ولو كان هذا الخروج الثوريّ مودّياً بحياته وحياة أبنائه وبناته، إنّ الحسين يطلب الإصلاح في اُمّة جدّه، خير أمّة أخرجت للناس بثلاث مواقفها: الإيمان، والأمر،

____________________

(1) جامعة الحسين / 26 - 27 طبعة بيروت، 1975.

١٣

والنهي(1) ، تلك المواقف المكتوبة في التوراة والإنجيل(2) .

لقد آثر الحسين صلاح اُمّة جدّه - الإنسانيّة الهادية بالحقّ، العادلة به(3) - على حياته، فانطلق إلى كربلاء؛ ليكون عاشوراء، وليبقى الفداء ضمير الأديان المطوّر والمبدع(4) .

كذلك يفهم درس التطوّر في ثورة الحسين، وكذلك يفهم درس الإبداع فيها. وبمثل هذا الفهم يكون التحرّر من مظاهر المنكر جموداً وتخلّفاً وتقليداً أعمى.

- 9 -

أليس ضمير الأديان إيقاظاً مستمرّاً وتذكيراً دائماً بهذه المبادئ التي فداها الحسين في عاشوراء؟

أليست الحرّية والإيثار - كما فهمناهما من ثورة الحسين - جوهر وصيَّتَي الإنجيل العظميين؟

- 10 -

لقد أثار السيّد أنطون بارا في كتابه (الحسين في الفكر المسيحيّ) إثارات تدعو الإنسانيّة المعاصرة إلى مزيد من التأمّل؛ لمعرفة الحقّ الذي يحرّر كما يقول السيّد المسيح، فهل يتأمّل المعاصرون(5) ؟

____________________

(1) لاحظ نص الآية (110) من سورة آل عمران.

(2) لاحظ نص الآية (157) من سورة الأعراف.

(3) لاحظ الآية (181) من سورة الأعراف.

(4) جامعة الحسين / 27 - 28.

(5) لاحظ مثلاً كيف تنبّأ المسيح بالحسين / 295 وما بعدها. إنّ هذا يثير ما يقال: في نبوءة سليمان ومن قبله نوح، فما معنى إجماع الأنبياء على هذا؟

١٤

دمشق 21 / 5 / 1979

24 ج 2 سنة 1399 هـ

د. أسعد علي

* * *

١٥

١٦

مقدّمة الطبعة الثانية

سماحة الكاتب الإسلامي

السيّد محمّد بحر العلوم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمرٌ رائع جداً أن يلتقي الفكران الإسلامي والمسيحي في قضيّة من أهمّ القضايا العقائديّة، وينتهي بهما المطاف إلى نتيجة واحدة هي الحق والعقيدة، والاستجابة لنداء الرسالة، والنضال في سبيلها بإيمان وشموخ.

فالمصدر لهذين الخطّين واحد، ومسارهما التاريخي لن يختلف، فمن الله تلك الرسالة السماويّة قد بعثت لمكارم الأخلاق تهدي الاُمّة وتنقذها من الجهالة والظلم.

فكانت رسالة المسيح (عليه السّلام)، وكانت رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) رسالتين هزّتا ضمير العالم، وأجّجتا فيه كلّ مشاعل الأمل، وأثّرتا فيه العطاء.

ولابدّ أن تكونا كذلك؛ لأنّهما رسالة السماء لإنقاذ البشريّة، فقد كان المجتمع في حينه ولا يزال بحاجة إلى هذا النبع الصافي لتزهر التربة بكلّ أنواع الخير: خلقاً، فضيلةً، كرامةً، وعيشاً رغيداً من أجل رفعة الإنسان وإبراز طاقاته الخلاّقة في بناء مجتمع صالح.

١٧

ولم يكن الإمام الحسين (عليه السّلام) إلاّ ذلك الامتداد الثرّ لرسالة جدّه رسول الإنسانيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ومن أجل تقويم تلك الرسالة نهض بموقفه المضحّي لتصحيح مسار الاُمّة، الذي انحرف نتيجة تحرّك الفئة الضّالة لاجتثاث تلك القيم الإنسانيّة التي جاء بها محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان تماماً ذلك الموقف الذي برز بقيادة المسيح (عليه السّلام) من قبل؛ لأجل تدعيم كلمة الحق في مجتمع تغلغل فيه الجهل، وانتشر فيه الظلام، فكان ما كان من تعنّت وتطاول على كرامة الرسالة السماويّة. فكادوا أن يغتالوا الشمس والحق، ولكنّ الله رفعه إلى سمائه حماية لإنسانه الخالد. هذا هو المسيح.

والحسين (عليه السّلام) بمسيرته الفدائيّة قد صافح السّيف، وعانق الرّماح، وأعطى القرابين تلو القرابين من أجل عقيدته، وبذلك يكون قد نال القسط الأوفر من الفداء والتضحية من يوم إسماعيل حتّى عهد المسيح؛ لذلك لم تحظِ ملحمة إنسانيّة في التاريخين القديم والحديث بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف. هكذا يقول الكاتب الفاضل (أنطون بارا) في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي)، ويصفها بأنّها الاُولى والرائدة والوحيدة والخالدة في تاريخ الإنسانيّة مذ وجدت وحتّى تنقضي الدّهور، إذ هي خالدة خلود الإنسان الذي قامت من أجله.

إنّ العقيدة تصهر الإنسان لدرجة تجعله وحدة متلاحمة مع معاني الكمال والسمو، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ولو بحدود شعرة.

وليس كبيراً على الحسين بن علي (عليه السّلام) رائد الإنسانيّة ومَثَلها الأعلى، أن يكون صاحب ثورة أُولى ورائدة ووحيدة وخالدة، بعد محمّد وعلي (عليهما الصّلاة والسّلام).

١٨

والحسين من محمّد كالرّوح من الجسد، والحسين من علي ولده الذي حمل كلّ خصائصه ومقوّماته الرائعة منذ أول يوم لامست عيناه نور الوجود، فالعقيدة مصبّ زاخر يبدأ من محمّد لعلي ثمّ الحسين، فإذا كان في هذا الامتداد، فهو من الرسالة الإسلاميّة ذلك اللبّ الأصيل، وإذا كان ذلك اللّب الرسالي الإسلامي الأصيل، فهو لا يختلف عن اللبّ الرسالي المسيحي، المسيح.

إنّها حلقة واحدة وإن تطاولت العصور، فهي من الله دعوة لهداية البشر.

ويمرّ زمان، ويأتي مَن تهمّه هذه الحقيقة ليشبك الروافد الرساليّة في مصبّ واحد. فإذا كان الاُستاذ جورج جرداق قد كتب بالأمس عن النبعة الصافية الإمام علي لعقيدة السّماء، ليؤكّد على هذا الارتباط بين المسيحيّة والإسلام، جاء اليوم الكاتب الأديب (أنطون بارا) ليمدّ الشراع ويسير نحو هذا المصبّ، ويكتب في ثورة الحسين من خلال مظلّة الفكر المسيحي، فشكراً وألف شكر لمَن يقوم بتوثيق الأواصر، وتدعيم المحبّة والاُلفة بين أنصار السّماء.

والكتاب حاز على إعجابي من خلال قراءتي له - وإن كنت أقف منه في بعض النقاط موقف الملاحظ - ولكن لا أرى المجال لذكرها؛ نظراً لعدم تأثيرها على شعوري بقيمة الكتاب اُسلوباً ومضموناً.

وأخيراً، أرجو للكاتب كلّ الخير والموفّقيّة في محاولته المبدعة، مبتهلاً إلى الله أن يدفع لنا بالنتاج تلو النتاج في هذا المضمار، وهو ولي التوفيق.

محمّد بحر العلوم - الكويت

23 / شوال - 1399 هـ - 14 / 9 / 1979 م

١٩

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

إذا عرفت هذا ، فإنّ ضمّ المشرف إليه على جهة الاستظهار والاستحباب ، دون الإيجاب ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

ولو علم الحاكم خيانته فيها ، فالأقرب : وجوب ضمّ مشرفٍ إليه ، فإذا انتهى التعريف حولاً مَلَكها ملتقطها ؛ لأنّ سبب الملك منه وُجد.

أمّا الشافعيّة فسواء قالوا : إنّه تُنتزع اللّقطة من يده أو يُضمّ إليه مشرف ففي التعريف لهم قولان :

أشبههما عندهم : إنّه لا يعتمد في التعريف عليه ؛ لأنّه ربما يخون فيه حتى لا يظهر المالك ، بل يضمّ إليه نظر العَدْل ومراقبته.

والثاني : إنّه يكتفى بتعريفه ؛ فإنّه الملتقط ، فإذا تمّ التعريف فللملتقط التملّك(٢) .

تذنيب : الأقرب : إنّ الفاسق يُمنع من لقطة الحرم ؛ لأنّها مجرّد أمانةٍ ، والفاسق ظالم ، فلا يُركن إليه في تركها معه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٣) فحينئذٍ لو التقط منه انتزعه الحاكم ، كما قلنا في الكافر.

وأكثر العامّة لم يفرّقوا بين اللّقطتين ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

مسألة ٣١٤ : التقاط العبد لا يخلو من أقسام ثلاثة : إمّا أن يكون السيّد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٢١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤١ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

(٣) سورة هود : ١١٣.

١٨١

قد أذن له فيه ، أو نهاه عنه ، أو لم يأذن فيه ولا نهى عنه.

فإن كان المولى قد أذن له في الالتقاط - مثل أن يقول : مهما وجدتَ ضالّةً فخُذْها وائتني بها - جاز ذلك عند علمائنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(١) - كما لو أذن له المولى في قبول الوديعة ، فإنّه يصحّ منه قبولها ، ولعموم الخبر(٢) ، ولأنّ الالتقاط سبب يملك به الصبي ويصحّ منه ، فصحّ من العبد ، كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد ، ولأنّ مَنْ جاز له قبول الوديعة صحّ منه الالتقاط ، كالحُرّ.

وللشافعيّة فيه طريقان :

أحدهما : القطع بالصحّة ؛ لما تقدّم.

والثاني : إنّ فيه قولين ، أحدهما : المنع ؛ لما في اللّقطة من معنى الولاية ، والإذن لا يفيده أهليّة الولاية.

وفي رواية الخاصّة عن أبي خديجة عن الصادقعليه‌السلام : إنّه سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللّقطة ، فقال : « ما للمملوك واللّقطة؟ والمملوك لا يملك من نفسه شيئاً ، فلا يُعرّض لها المملوك ، فإنّه ينبغي للحُرّ أن يعرّفها سنةً في مجمعٍ ، فإن جاء طالبها دفعها إليه ، وإلّا كانت في ماله ، فإن مات كانت ميراثاً لولده ولمن ورثه ، فإن جاء طالبها بعد ذلك دفعوها إليه »(٣) .

ولأنّ الالتقاط أمانةٌ وولايةٌ في السنة الأُولى ، وتملّكٌ بعوضٍ في السنة‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٨٧ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٠ ، البيان ٧ : ٤٧٠.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٧٤ ، الهامش (١)

(٣) الكافي ٥ : ٣٠٩ / ٢٣ ، الفقيه ٣ : ١٨٨ / ٨٤٥ ، التهذيب ٦ : ٣٩٧ / ١١٩٧ بتفاوتٍ.

١٨٢

الأُخرى ، والعبد ليس من أهل الولايات ، ولا يملك المال ، ولا له ذمّة يستوفى منها(١) .

والرواية لا تعطي التحريم ، فيحتمل الكراهة ، والولاية قد ثبتت له مع إذن مولاه ، والتملّك لمولاه.

وإن كان المولى قد نهاه عن الالتقاط ، حرم عليه ؛ لأنّه محجور عليه في التصرّف ، إلّا بإذن المولى ، فإن التقط والحال هذه كان للمولى انتزاعها من يده.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : القطع بمنع العبد مع نهي مولاه من الالتقاط.

والثاني : طرد القولين(٢) .

وإن كان المولى لم يأمره بالالتقاط ولا نهاه عنه ، فإنّه يصحّ التقاطه عندنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد والشافعي في أحد القولين(٣) - لأنّ يد العبد يد سيّده ، فكأنّ السيّد هو الملتقط ، وكما أنّه يعتبر اصطياده واحتطابه ، كذا يعتبر التقاطه ، ويكون الحاصل للسيّد ، ولا عبرة بقصده.

وهذا القول نقله المزني عمّا وضعه بخطّه ، قال : ولا أعلمه سُمع منه(٤) .

____________________

(١) البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

(٣) المغني ٦ : ٣٨٧ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٢ ، البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

(٤) مختصر المزني : ١٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣.

١٨٣

والثاني - نصّ عليه في الأُم ، واختاره المزني - : إنّه لا يصحّ ؛ لأنّ اللّقطة أمانة وولاية في الابتداء ، وتملّكٌ في الانتهاء ، والعبد لا يملك ، ولا هو من أهل الأمانة والولاية(١) .

قال ابن سريج : القولان مبنيّان على أنّ العبد يملك ، فأمّا إذا فرّعنا على الجديد - وهو أنّه لا يملك - فليس له الالتقاط بحالٍ(٢) .

وقال بعضهم : في هذا التباس من جهة أنّه ليس القولان في أنّ العبد هل يملك مطلقاً؟ وإنّما هُما في أنّه هل يملك بتمليك السيّد؟ ولا تمليك هنا من جهة السيّد(٣) .

مسألة ٣١٥ : قد بيّنّا أنّ العبد يصحّ التقاطه ، فإذا التقط شيئاً صحّ منه أن يُعرّفه ، كما صحّ التقاطه - وهو أحد قولَي الشافعي(٤) - كالحُرّ ، فإذا كمل حول التعريف لم يكن للعبد أن يتملّكها لنفسه ؛ لأنّه ليس أهلاً للتملّك مطلقاً عندنا - وهو الجديد للشافعي(٥) - وبدون تمليك السيّد على قول بعض علمائنا(٦) والشافعي في القديم(٧) ، وهنا لم يُملّكه السيّد.

____________________

(١) الأُم ٤ : ٦٨ ، مختصر المزني : ١٣٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٢ ، البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣.

(٤) البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

(٥) الحاوي الكبير ٥ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٠ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٦٧ ، البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٣٠.

(٦) لم نتحقّقه.

(٧) الحاوي الكبير ٥ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٠ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٦٧ ، البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٣٠.

١٨٤

فإن اختار العبد التملّكَ على الوجه الذي لو فَعَله الحُرّ مَلَك به ، لم يملك به ؛ لأنّ التملّك على وجه الاقتراض ، واقتراضه بغير إذن سيّده لا يصحّ ، إلّا أنّها تكون في يده مضمونةً ؛ لأنّها في يده بقرضٍ فاسد ، فإذا تلفت ضمنها في ذمّته يتبع بها بعد العتق.

وله التملّك للسيّد بإذنه.

ولو لم يأذن السيّد ، فالأقوى : إنّه لا يدخل في ملك السيّد بنيّة العبد التملّك له.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : إنّه على الوجهين في أنّه هل يصحّ اتّهاب العبد بدون إذن السيّد؟ أو على القولين في شرائه بغير إذنٍ.

والثاني : القطع بالمنع ، بخلاف الهبة ؛ لأنّ الهبة لا تقتضي عوضاً ، وبخلاف الشراء ؛ فإنّا إن صحّحناه علّقنا الثمن بذمّة العبد ، وهنا يبعد أن لا يطالب مالك اللّقطة السيّدَ المتملّك ؛ لأنّه لم يرض بذمّة العبد(١) .

والأصحّ عندهم : المنع ، سواء ثبت الخلاف أم لا(٢) .

وعلى هذا فقد قال بعض الشافعيّة : إنّه لا يصحّ تعريفه دون إذن السيّد أيضاً(٣) .

لكنّ الأصحّ عندهم : إلحاق التعريف بالالتقاط(٤) .

قال الجويني : نعم ، إن قلنا : انقضاء مدّة التعريف يوجب الملك ، فيجوز أن يقال : لا يصحّ تعريفه ، ويجوز أن يقال : يصحّ ، ولا يثبت الملك‌

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

١٨٥

في هذه الصورة ، كما لا يثبت إذا عرف من قصده الحفظ أبداً(١) .

وعلى القول الثاني للشافعي بأنّه لا يصحّ التقاط العبد لا يعتدّ بتعريفه(٢) .

ثمّ إن لم يعلم السيّد بالتقاطه ، فالمال مضمون في يد العبد ، والضمان يتعلّق برقبته ، سواء أتلفه أو تلف بتفريطه أو بغير تفريطٍ ، كما في المغصوب.

وإن علم السيّد ، فأقسامه ثلاثة :

أحدها : أن يأخذه من يده.

وينبغي أن يُقدَّم عليه مقدّمة هي : إنّ الحاكم لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك هل يبرأ الغاصب من الضمان؟ فيه للشافعيّة وجهان ، ظاهر القياس منهما البراءة ؛ لأنّ يد الحاكم نائبة عن يد المالك.

فإن قلنا : لا يبرأ ، فللقاضي أخذها منه.

وإن قلنا : يبرأ ، فإن كان المال عرضةً للضياع والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب وجهه ، فكذلك ، وإلّا فوجهان :

أحدهما : إنّه لا يأخذ ، فإنّه أنفع للمالك.

والثاني : يأخذ ؛ نظراً لهما جميعاً(٣) .

وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن في معرض الضياع ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٥ - ٣٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٠ ، البيان ٧ : ٤٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣ - ٣٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥ - ٤٥٦.

١٨٦

ولا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهراً.

وإن كان كذلك ، فوجهان :

أظهرهما عندهم : المنع ؛ لأنّ القاضي هو النائب عن الناس ، ولأنّ فيه ما يؤدّي إلى الفتنة وشهر السلاح.

والثاني : الجواز احتساباً ونهياً عن المنكر.

فعلى الأوّل لو أخذ ضمن ، وكان كالغاصب من الغاصب.

وعلى الثاني لا يضمن ، وبراءة الغاصب على الخلاف السابق ، وأولى بأن لا يبرأ(١) .

وفصّل قومٌ بين أن يكون هناك قاضٍ يمكن رفع الأمر إليه فلا يجوز ، وبين أن لا يكون فيجوز(٢) .

إذا عرفتَ ذلك ، فقد قال أكثر الشافعيّة : إذا أخذ السيّد اللّقطة من العبد صار هو الملتقط ؛ لأنّ يد العبد إذا لم تكن يدَ التقاطٍ كان الحاصل في يده ضائعاً بَعْدُ ، ويسقط الضمان عن العبد ؛ لوصوله إلى نائب المالك ، فإن كان أهلاً للالتقاط كان نائباً عنه(٣) .

وبمثله أجابوا فيما لو أخذه أجنبيٌّ ، إلّا أنّ بعضهم جعل أخذ الأجنبيّ على الخلاف فيما لو تعلّق صيدٌ بشبكة إنسانٍ فجاء غيره وأخذه(٤) .

واستبعد الجويني قولَهم : « إنّ أخذ السيّد التقاطٌ » لأنّ العبد ضامن بالأخذ ، ولو كان أخذ السيّد التقاطاً لسقط الضمان عنه ، فيتضرّر به المالك(٥) .

وقال بعضهم : إنّ السيّد ينتزعه من يده ، ويسلّمه إلى الحاكم ليحفظه‌

____________________

(١ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٦.

١٨٧

للمالك أبداً(١) .

وأمّا الجويني فإنّه قال : إذا قلنا : إنّه ليس بالتقاطٍ فأراد أخْذَه بنفسه وحِفْظه لمالكه ، ففيه وجهان مرتَّبان على أخذ الآحاد المغصوبَ للحفظ ، وأولى بعدم الجواز ؛ لأنّ السيّد ساعٍ لنفسه غير محتسبٍ ، ثمّ يترتّب على جواز الأخذ حصول البراءة ، كما قدّمناه.

وإن استدعى من الحاكم انتزاعه ، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد العادية ، وإذا أزال فأولى بأن تحصل البراءة ؛ لتعلّق غرض السيّد بالبراءة وكونه غير منسوبٍ إلى العدوان حتى يغلظ عليه(٢) .

الثاني : أن يُقرّه في يده ويستحفظه عليه ليعرّفه.

فإن كان العبد أميناً جاز ، كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه.

والأقرب عندهم : عدم سقوط الضمان ، وقياس كلام جمهورهم سقوطه(٣) .

وإن لم يكن أميناً فالمولى متعدٍّ بإقراره عليه ، وكأنّه أخذه منه وردّه إليه.

الثالث : أن يُهمله ، فلا يأخذه ولا يُقرّه ، بل يعرض عنه ، فللشافعي قولان :

ففي رواية المزني : إنّ الضمان يتعلّق برقبة العبد كما كان ، ولا يُطالَب به السيّد في سائر أمواله ؛ لأنّه لا تعدّي منه ، ولا أثر لعلمه ، كما لو رأى عبده يُتلف مالاً فلم يمنعه منه.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٦ - ٤٥٧.

١٨٨

وفي رواية الربيع : تعلّقه بالعبد وبجميع أموال السيّد ؛ لأنّه متعدٍّ بتركه في يد العبد(١) .

ثمّ اختلفوا فيهما على أربعة طُرقٍ :

قال الأكثر : المسألة على قولين ، أظهرهما : تعلّقه بالعبد وبسائر أموال السيّد ، حتى لو هلك العبد لا يسقط الضمان ، ولو أفلس السيّد قُدّم صاحب اللّقطة في العبد على سائر الغرماء. ومَنْ قال به لم يُسلّم عدمَ وجوب الضمان فيما إذا رأى عبده يُتلف مالاً فلم يمنعه.

وبعضهم حَمَل منقولَ المزني على ما إذا كان العبد مميّزاً ، وحَمَل منقول الربيع على ما إذا كان غير مميّزٍ.

وقطع بعضهم بما رواه المزني ، وبعضهم بما رواه الربيع ، وغلّطوا المزني في النقل ، واستشهدوا بأنّه روى في الجامع الكبير كما رواه الربيع ، فأشعر بغفلته هنا عن آخر الكلام(٢) .

وهذا كلّه ساقط عندنا حيث قلنا : إنّ للعبد الالتقاط.

مسألة ٣١٦ : إذا التقط العبد ولم يأمره السيّد به ولا نهاه عنه ، صحّ التقاطه.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يعلم السيّد بالالتقاط أو لا يعلم.

فإن لم يعلم ، فالمال أمانة في يد العبد.

فإن أعرض عن التعريف ، ضمن ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ،

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٠ ، البيان ٧ : ٤٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٤ ، البيان ٧ : ٤٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

١٨٩

كالحُرّ ؛ فإنّ فيه وجهين لهم لو أعرض عن التعريف(١) .

ولو أتلفه العبد بعد مدّة التعريف أو تملّكه لنفسه فهلك عنده ، تعلّق المال بذمّة العبد ، كما لو استقرض قرضاً فاسداً واستهلكه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه يتعلّق برقبته ، كما لو غصب شيئاً فتلف عنده ، وليس كالقرض ، فإنّ صاحب المال سلّمه إليه(٢) .

والحكم في الأصل عندنا ممنوع.

ولو أتلفه في المدّة ، تعلّق بذمّته عندنا يُتبع به بعد العتق.

وأكثر الشافعيّة قالوا : يتعلّق برقبته(٣) .

وكذا لو تلف بتقصيرٍ منه عندنا ، ويتعلّق بذمّته.

وعندهم يتعلّق برقبته ، وفرّقوا بينه وبين الإتلاف بعد المدّة - حيث كان على الخلاف السابق - بأنّ الإتلاف في السنة خيانة محضة ؛ لأنّه لم يدخل وقت التملّك ، وأمّا بعدها فالوقت وقت الارتفاق والإنفاق ، فاستهلاك العبد يشابه استقراضاً فاسداً(٤) .

وحكى بعض الشافعيّة أنّ المسألة على قولين :

أحدهما : التعلّق بالرقبة.

والثاني : التعلّق بالذمّة ؛ لأنّا إذا جوّزنا له الالتقاط فكان المال قد حصل في يده برضا صاحبه ، وحينئذٍ فالإتلاف لا يقتضي إلّا التعلّق بالذمّة ، كما لو أُودع العبد مالاً فأتلفه ، يكون الضمان في ذمّته(٥) .

ولمانعٍ أن يمنع ذلك ؛ لأنّ الضمان في الوديعة أيضاً يتعلّق برقبته عند‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٧.

(٢ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٨.

١٩٠

بعض الشافعيّة(١) .

وأمّا عندنا فيتعلّق بذمّته أيضاً.

وإن علم به السيّد ، فله انتزاعها من يده ، كالأموال التي يكتسبها العبد ؛ فإنّ اللّقطة نوعٌ منها ، ثمّ يصير السيّد كالملتقط بنفسه إن شاء حفظها على مالكها ، وإن شاء عرّفها وتملّكها ، ولو كان العبد قد عرّف بعضَ الحول احتسب به وأكمل الحول.

وإن أقرّه في يد العبد ، فإن كان خائناً ضمن بإبقائه في يده عند الشافعيّة(٢) .

والأقوى ذلك إن كان قد قبضه المولى ثمّ دفعه إليه ، وإلّا فلا.

ولو كان أميناً ، لم يضمن ، سواء قبضها ثمّ دفعها إليه ، أو أقرّها في يده من غير قبضٍ.

ولو تلف المال في يد العبد في مدّة التعريف ، فلا ضمان.

وإن تلف بعدها ، فإن أذن السيّد في التملّك وجرى التملّكُ ضمن.

وإن لم يَجْر التملّك بَعْدُ ، فالأقوى : تعلّق الضمان بالسيّد ؛ لأنّه أذن في سبب الضمان ، فأشبه ما لو أذن له في أن يسوم شيئاً فأخذه وتلف في يده ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يضمن ، كما لو أذن له في الغصب فغصب(٣) .

فإن قلنا بالثاني ، تعلّق الضمان برقبة العبد عندهم(٤) .

وإن قلنا بالأوّل ، تعلّق بذمّة العبد يتبع به بعد العتق ، كما أنّ السيّد مطالب به.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٦.

(٢ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٨.

١٩١

وإن كان السيّد لم يأذن له في التملّك ، تعلّق الضمان بذمّة العبد - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه دَيْنٌ لزم لا برضا مستحقّه ، ولا يتعلّق الضمان بالسيّد بحالٍ ؛ لعدم الإذن.

والثاني للشافعيّة : إنّه يتعلّق برقبته(٢) .

ولو أتلفه العبد بعد المدّة ، تعلّق بذمّته.

وللشافعيّة قولان(٣) .

وهل يثبت الفرق بين أن يقصد العبد الالتقاط لنفسه أو لسيّده؟

الأقرب : انتفاء الفرق ؛ فإنّ كلّ واحدٍ منهما يقع الالتقاط فيه(٤) للسيّد.

واختلفت الشافعيّة.

فقال بعضهم : إنّ القولين في المسألة مفروضان فيما إذا نوى بالالتقاط نفسَه ، فأمّا إذا نوى سيّدَه فيحتمل أن يطّرد القولان ، ويحتمل القطع بالصحّة(٥) .

وعكس بعضهم ، فقال : القولان فيما إذا التقط ليدفعها إلى سيّده ، فأمّا إذا قصد نفسَه فليس له الالتقاط قولاً واحداً ، بل هو متعدٍّ بالأخذ(٦) .

مسألة ٣١٧ : قد بيّنّا أنّه يجوز التقاط العبد.

وللشافعي قولٌ آخَر : إنّه لا يجوز ، فإذا التقطها ضمنها في رقبته عنده ، سواء أتلفها ، أو تلفت في يده بتفريطٍ أو بغير تفريطٍ ؛ لأنّه أخذ مال غيره على وجه التعدّي ، وسواء كان قبل الحول أو بعده ؛ لأنّ تعريفه‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٨.

(٤) في « ج » : « منه » بدل « فيه ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٨ - ٤٥٩.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

١٩٢

لا يصحّ ، لأنّه ليس من أهل الالتقاط عنده(١) .

فإن علم به سيّده ، فإن انتزعها من يده كان له ذلك ، وسقط عن العبد الضمان ، وكانت أمانةً في يد السيّد ؛ لأنّه يأخذها على سبيل الالتقاط.

وهذا بخلاف ما لو غصب العبد شيئاً فأخذه سيّده منه ، فإنّه لا يزول عن العبد الضمان ؛ للفرق بينهما ، فإنّ السيّد لا ينوب عن المغصوب منه ، فلا يزول الضمان بأخذه ، وهنا ينوب عن صاحبها ، وله حفظها عليه.

وينبغي أن يكون لو أخذها من العبد غيرُ سيّده من الأحرار جاز ، وزال الضمان عنه ؛ لأنّ كلّ مَنْ هو مِنْ أهل الالتقاط نائب عن صاحبها.

إذا ثبت هذا ، فإن أخذها سيّده كان كما لو ابتدأ التقاطها إن شاء حفظها لصاحبها ، وإن شاء تملّكها بعد التعريف ، ولا يعتدّ بتعريف العبد عنده(٢) .

وإن أقرّها في يد العبد ، ضمن إن لم يكن أميناً ، وإلّا فلا.

فإذا قلنا : لا ضمان على المولى ، تعلّق الضمان برقبة العبد خاصّةً ، فإن تلف سقط الضمان.

وإن قلنا : يضمن السيّد ، تعلّق الضمان بمحلّين : رقبة العبد ، وذمّة السيّد.

فإن أفلس السيّد ، كان صاحب اللّقطة أحقَّ باستيفاء عوضها من العبد ؛ لأنّ حقّه تعلّق برقبته عنده(٣) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٠ ، البيان ٧ : ٤٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

(٢) راجع : الهامش (٢) من ص ١٨٥.

(٣) راجع : الهامش (١) من ص ١٨٨.

١٩٣

وإن مات العبد ، تعلّق بذمّة سيّده يدفعه من سائر أمواله.

مسألة ٣١٨ : إذا التقط العبد لقطةً ثمّ أعتقه السيّد قبل علمه باللّقطة ، أو بعد علمه وقبل أن يأخذها منه ، كان السيّد أحقَّ بأخذها من يده ؛ لأنّ التقاط العبد قد صحّ ، وكان كسباً له ، وما كسبه العبد قبل عتقه يكون للسيّد ، فيُعرّفها السيّد ويتملّكها ، فإن كان العبد قد عرّف ، اعتدّ به ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي(١) .

وعن بعض الشافعيّة وجهان في أنّ السيّد أحقّ بها ؛ اعتباراً بوقت الالتقاط ، أو العبد ؛ اعتباراً بوقت الملك؟ وشبّهه بما إذا أُعتقت الأمة تحت عبدٍ ولم تفسخ حتى تحرّر العبد(٢) .

وعلى القول الثاني للشافعي من منع التقاط العبد للشافعيّة قولان ، أحدهما : إنّه ليس للسيّد أخذها من يد العبد ؛ لأنّه قبل أن يعتق لم يتعلّق بها حقُّ السيّد ؛ لكون العبد متعدّياً ، وقد زالت ولايته بالعتق ، فإذا أُعتق صار كأنّه اكتسبها بعد عتقه ، وصار كأنّه التقطها بعد حُرّيّته ، فلم يكن للسيّد فيها حقٌّ(٣) .

وهل للعبد تملّكها؟ الوجه ذلك ، ويجعل كأنّه التقطه بعد الحُرّيّة ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، والثاني : المنع ؛ لأنّه لم يكن أهلاً للأخذ ، فعليه تسليمها إلى الإمام(٤) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦١ ، البيان ٧ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦١ - ٥٦٢ ، البيان ٧ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٩.

١٩٤

تذنيب : للعبد أخذ لقطة الحرم ، كما له أخذ لقطة الحِلّ ، ولا يجوز له التملّك لا له ولا لسيّده على ما يأتي(١) ، والمدبَّر وأُمّ الولد كالقِنّ ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٣١٩ : المكاتَب إن كان مشروطاً فكالقِنّ ، يجوز له الالتقاط ، لكن ليس للمولى انتزاعها من يده ؛ لأنّها كسب له إذا لم يكن لقطة الحرم.

نعم ، لو عجز فاستُرقّ كان للمولى انتزاعها من يده ، كالقِنّ.

وللشافعيّة في المكاتَب طريقان مبنيّان على اختلاف قولَي الشافعي ، فإنّه قال في الأُم : المكاتَب كالحُرّ(٢) ، وقال في موضعٍ آخَر : إنّه كالعبد(٣) .

واختلف أصحابه :

فقال بعضهم : إنّ المكاتَب كالحُرّ قولاً واحداً ، وقطع بصحّة التقاطه ؛ لأنّه مستقلّ بالتملّك والتصرّف كالحُرّ ، وله ذمّة يمكن استيفاء الحقوق منها ، ثمّ تأوّلوا قوله : « كالعبد » بأنّه أراد به إذا كانت الكتابة فاسدةً(٤) .

وقال بعضهم : فيه قولان :

أحدهما : إنّه كالحُرّ ؛ لأنّه ماله ، كذا قال الشافعي في الأُم(٥) ، ونقل المزني أنّ ماله يسلم له(٦) ، والأوّل أولى ؛ لأنّ المال في الحال له ، وقد يسلم له بتمام الكتابة ، وقد لا يسلم بفسخها.

والثاني : إنّه كالعبد ، وفي التقاطه قولان ؛ لتعارض معنى الولاية والاكتساب ، فإنّ الملك موجود في العبد ، وهو ينافي الولاية ، ولهذا‌

____________________

(١) في ص ٢٤٥ ، المسألة ٣٥٤ ، وص ٢٥١ ، المسألة ٣٥٦.

(٢) الأُم ٤ : ٦٨ ، مختصر المزني : ١٣٦.

(٣) قاله في الإملاء على ما في الحاوي الكبير ٨ : ٢١.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٢١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٤ و ٥٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨.

(٥ و ٦) راجع : الهامش (٢)

١٩٥

لا تصحّ الوصيّة إليه ، فجرى مجرى العبد(١) .

وللشافعيّة هنا أُمور غريبة.

أ : عن ابن القطّان رواية قاطعة بالمنع من التقاط المكاتَب ، بخلاف القِنّ ؛ لأنّ سيّده ينتزعه من يده ، وأمّا المكاتَب فقد انقطعت ولاية السيّد عنه على نقصانه(٢) .

ب : حكى القاضي ابن كج خلافاً في أنّ الخلاف المذكور في المكاتَب سواء صحّت الكتابة أو فسدت ، أو في المكاتَب كتابةً صحيحةً؟

وأمّا المكاتَب كتابةً فاسدةً فهو كالقِنّ لا محالة ، والصحيح عندهم : الثاني(٣) .

ج : نقل الجويني عن تفريع العراقيّين على القطع بالصحّة أنّ في إبقاء اللّقطة في يده قولين على قياس ما مرّ في الفاسق ، وكتبهم ساكتة عن ذلك ، إلّا ما شاء الله(٤) .

ونحن قد قلنا : إن التقاط المكاتَب صحيح ، فحينئذٍ يُعرّف اللّقطة ويتملّكها إن شاء ، وبدلها في كسبه ، وليس للمالك(٥) انتزاعها من يده ، وهو قول الشافعي(٦) على تقدير قوله بصحّة التقاطه.

وهل يُقدَّم صاحب اللّقطة بها على الغرماء؟ الأقرب عندي ذلك.

وللشافعيّة وجهان(٧) .

وعلى القول للشافعي بأنّ المكاتَب كالحُرّ لا بحث ، وبأنّه كالعبد إن قلنا : إنّه لا يصحّ التقاط العبد لا يصحّ التقاط المكاتَب ، ويكون متعدّياً‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٢١ ، الوسيط ٤ : ٢٨٧ ، البيان ٧ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٨ - ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٠.

(٥) أي : المولى.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٠.

١٩٦

بأخذها ، وعليه ضمانها ، وليس للسيّد انتزاعها من يده ؛ لانتفاء ولاية السيّد عن المكاتَب ، وإنّما يسلّمها إلى الحاكم ليُعرّفها ، فإذا مضى الحول تملّكها المكاتَب ؛ لأنّه من أهل التملّك ، هكذا قال بعض الشافعيّة(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه إذا فسد الالتقاط لم يجز له الالتقاط ، فلا يملكها بالحول والتعريف ، وإنّه إذا أخذها من يده مَنْ هو من أهل الالتقاط وإن كان أجنبيّاً يكون ملتقطاً ، ولم يعتبروا الولاية ، وليس السيّد في حقّ المكاتَب بأدنى حالاً من الأجنبيّ في القِنّ أن يجوز ذلك ، وبرئ من ضمانها كما قلنا في العبد إذا أخذها سيّده منه.

لا يقال : للسيّد يدٌ على العبد وعلى ما في يده ، دون المكاتَب.

لأنّا نقول : إنّما له ذلك فيما هو كسب للعبد ويُقرّ يده عليه ، وأمّا هذه اللّقطة فلا يُقرّ يد العبد عليها ، ولا له فيها كسب.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يسلّمها إلى الحاكم ليحفظها ، ولا يعرّفها(٢) .

والكلّ عندنا غلط.

مسألة ٣٢٠ : لو التقط المكاتَب ، صحّ عندنا ، فإذا اشتغل بالتعريف فأُعتق ، أتمّ التعريف وتملّك.

وإن عاد إلى الرقّ قبل تمام التعريف ، كان حكمه حكمَ القِنّ ، للمولى انتزاعها من يده وتقرير يده عليها.

وقال بعض الشافعيّة : يأخذها القاضي ويحفظها للمالك ، وإنّه ليس للسيّد أخذها وتملّكها ؛ لأنّ التقاط المكاتَب لا يقع للسيّد ابتداءً فلا ينصرف‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٢ ، البيان ٧ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٠.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٤٥.

١٩٧

إليه انتهاءً(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الالتقاط اكتسابٌ ، واكتساب المكاتَب عند عجزه للسيّد.

ولو مات المكاتَب أو العبد قبل التعريف ، وجب أن يجوز للسيّد التعريف والتملّك ، كما أنّ الحُرّ إذا التقط ومات قبل التعريف ، يُعرّف الوارث ويتملّك.

مسألة ٣٢١ : مَنْ نصفه حُرٌّ ونصفه رقيقٌ يصحّ التقاطه ؛ لأنّ القِنّ عندنا يجوز التقاطه ، فالمعتق بعضه أولى.

وقال الشافعي : إنّه كالمكاتَب(٢) .

وللشافعيّة طريقان :

منهم مَنْ قال : يصحّ التقاطه قولاً واحداً ؛ لاستقلاله بالملك والتصرّف وقوّة ذمّته(٣) .

ومنهم مَنْ قال : فيه قولان ، كالعبد(٤) .

وقال بعضهم بالتفصيل ، وهو : إنّه يصحّ التقاطه بقدر الحُرّيّة قولاً واحداً ، والطريقان إنّما هُما في نصيب الرقّيّة(٥) .

فعلى القول بمنع الالتقاط يكون متعدّياً بالأخذ ، ضامناً بقدر الحُرّيّة في ذمّته يؤخذ منه إن كان له مال ، وبقدر الرقّ في رقبته ، بناءً على أنّ إتلافه متعلّق برقبته(٦) .

وعندنا أنّه متعلّق بذمّته أيضاً يُتبع به بعد العتق لو تعدّى في اللّقطة ،

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩.

(٣ و ٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٦ ، البيان ٧ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦١.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦١.

١٩٨

ولا يؤخذ نصيب الرقّيّة من نصيب الحُرّيّة.

وذكر بعض الشافعيّة وجهين في أنّه ينتزع منه ، أو يبقى في يده ويُضمّ إليه مُشرف؟ والظاهر عندهم : الانتزاع(١) .

ثمّ بعد الانتزاع وجهان في أنّه يُسلّم إلى السيّد ، أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه؟ والأظهر عندهم : الثاني(٢) .

فإن سلّم إلى السيّد ، قال بعضهم : إنّ السيّد يُعرّفه ويتملّكه(٣) .

وقال بعضهم : يكون بينهما بحسب الرقّ والحُرّيّة ، ويصيران كشخصين التقطا مالاً(٤) .

وقال بعضهم : بل يختصّ السيّد بها ؛ إلحاقاً للقطته بلقطة القِنّ(٥) .

مسألة ٣٢٢ : مَنْ نصفه حُرٌّ ونصفه عبدٌ يصحّ التقاطه على ما تقدّم ، وهو أحد قولَي الشافعي(٦) .

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون بينه وبين سيّده مهايأة ، أو لا.

فإن لم يكن هناك مهايأة ، كان ما يكتسبه بينهما على النسبة ، ومن جملته الالتقاط.

وإن كان بينهما مهايأة ، فاللّقطة من الاكتسابات النادرة ، فعندنا أنّها تدخل في المهايأة - وهو أحد قولَي الشافعي - لأنّ هذا كسب ، فكان حكمه حكمَ سائر الاكتسابات.

والثاني : لا تدخل ؛ لأنّ الالتقاط نادر غير معلوم الوجود ولا مظنونه ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٩ - ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦١.

(٢ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦١.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، الوسيط ٤ : ٢٨٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٦ ، البيان ٧ : ٤٧٤.

١٩٩

فلا تدخل تحت المهايأة(١) .

والمعتمد ما قلناه.

فعلى ما اخترناه إن وقعت اللّقطة في نوبة المولى كانت للمولى ، وإن وقعت في نوبة العبد كانت له ، وأيّهما وقعت له فإنّه يُعرّفها ويتملّكها.

والاعتبار بيوم الالتقاط ؛ لأنّه وقت حصول الكسب ، لا بوقت الملك ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ، وهو : اعتبار وقت التملّك(٣) .

ولو وقع الالتقاط في نوبة أحدهما وانقضاء مدّة التعريف في نوبة الآخَر ، فعندنا الحكم بنوبة الالتقاط.

وعند مَن اعتبر التملّك ألحقه به ، وعلى القول بعدم دخول النادر في المهايأة يكون الحكم فيه كما لو لم يكن بينهما مهايأة(٤) .

مسألة ٣٢٣ : قد بيّنّا أنّ المدبَّر والمعتق بصفةٍ(٥) عند مَنْ جوّزه وأُمّ الولد حكمهم حكم القِنّ يصحّ التقاطهم عندنا - وللشافعي قولان(٦) - كالقِنّ أيضاً ، إلّا أنّ أُمّ الولد إذا التقطت فأتلفت اللّقطة أو تلفت في يدها يكون حكمها عندنا حكمَ القِنّ من أنّها تُتبع بعد العتق.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٢٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، الوسيط ٤ : ٢٨٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٢ - ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦١ - ٤٦٢.

(٢ و ٣) الوسيط ٤ : ٢٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٢.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٢.

(٥) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة بدل « بصفة » : « نصفه ». وهو تصحيف.

(٦) البيان ٧ : ٤٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466