شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

زينب صوت الحق ... ونداء الثورة

0 المشاركات 00.0 / 5

زينب صوت الحقِّ ... ونداء الثورة *

كوثر مهدي

زينب التي يعجز البيان عن ذكر بطولاتها ، ويكلُّ اللسان عن إحصاء محاورها ، وينحسر القلم إجلالاً لعظمتها ... زينب التي أرهبت الطُّغاة بصلابة موقفها ، وأدهشت العقول برباطة جأشها ، وعجَّبت الجبال الراسيات لقوَّة صبرها ... زينب التي خلد ذكرها مع ذكر أخيها الإمام الحسين ، فأضحت للنساء منهجاً وللأُباة مُعلِّماً و للتاريخ فرقداً .

نعم ، إنَّها سليلة النبوَّة وبقيَّة الصفوة ، وقُرَّة عين الرسول ومُهجة قلب البتول ، التى ولِدت في معقل العصمة والتُّقى ، وتربَّت في مهبط الوحي والهُدى ، وتغذِّت بلِبان الإيمان ونشأت في حِجر الإسلام ، وورثت‏ شرائف الصفات وفضائل الأخلاق مِن أصلها العظيم وكلِّ مُحتدٍ كريم ، وكيف لا وإنَّ جدَّها المُصطفي سيِّد الأنبياء والمُرسلين وأباها المُرتضى سيِّد الأوصياء والمُتَّقين ، وأُمُّها فاطمة الزهراء سيِّدة نساء العالمين ، وأخويها السبطين الحسن والحسين ، فراحت تُسطِّر ملاحم الفخر العلوي بشجاعة أبيها ، وتُفرغ الحكمة ببلاغة أُمِّها ، وتُواجه ضروب المِحن والابتلاءات بحِلم أخيها الحسن‏ ( عليه‏ السلام‏ ) ، وتثبت أمام جليل المصائب بصبر أخيها الحسين ‏( عليه‏ السلام‏ ) حتَّى استطاعت أنْ تقوم بأعظم دور تاريخي في مواجهة الظالمين ، وتقريع الأُمَّة حين تتخاذل عن نُصرة دينها ، ونشرت أصداء الثورة الحسينيَّة ، وبلغت رسالة دم سيِّد الشهداء ، والدماء التي أُريقت ظلماً على رمضاء كربلاء .

شاء الله أنْ يراهنَّ سبايا :

لكلِّ ثورة لابدَّ مِن توفُّر جانبين حتَّى تستكمل شرائط نصرها .

الجانب الأوَّل : وهو الشهادة أو الدم .

الجانب الثاني : نشر رسالة الدم .

ولمَّا رأى الإمام الحسين ( عليه ‏السلام‏ ) الوضع المأساوي ، الذي أخذت تعيشه الأُمَّة آنذاك ، حيث انقلبت الموازين الإسلاميَّة ، وتغيَّرت المقاييس الحقَّة ، واستولى على منبر رسول الله حُكَّاماً أظهروا الفساد ، وعطَّلوا الأحكام واستحلُّوا المحارم ، وأماتوا السُّنَّة وأظهروا البدعة ، وأهلكوا الحَرْث والنسل ، وساروا بعباد الله ظلماً وعدوانا ، لم يستطع سبط النبي ( صلَّى الله عليه وآله ‏) أنْ يرى دين جدِّه رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ‏) بهذه الحالة ، فانتهض ثائراً ، وأعلن رفضه البيعة ليزيد الفُسوق والفجور ، ورأى نفسه مسؤولاً أكثر مِن غيره لتغيير هذا الوضع المُتردِّي ، فصرَّح في أكثر مِن مُناسبة مُشيراً إلى ذلك : ( ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، فليرغب المؤمن في لقاء ربِّه مُحقَّاً ، فإنِّي لا أرى الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برما ) ، وقال أيضاً : ( ألا إنَّ هؤلاء قد أظهروا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمان ، واتَّخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، وأنا أحقُّ مَن غيَّر ) .

واستمرَّ مُعلناً الرفض للواقع الأُموي ولقيادة يزيد الطاغية للأُمَّة الإسلاميَّة ، وبيَّن هويَّته الكافرة ، وعدم استحقاقه لتولِّي زمام الحُكم وقيادة المسلمين ، فقال‏ ( عليه ‏السلام‏ ) : ( إنَّا أهل بيت النبوَّة ، بنا فتح الله ، وبنا يختِم ، ويزيد شارب الخمور ، وراكب الفجور ، وقاتل النفس المُحترمة ، ومثلى لا يُبايع مثله ) .

ثمَّ إنَّه وضع المسلمين أمام وظيفتهم الإسلاميَّة الحقيقيَّة في ضرورة تغيير الحاكم الجائر ، وإقامة شرع‏ الله وحدوده ، فقال ( عليه ‏السلام ‏) : ( أيُّها الناس ، إنِّي سمعت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله‏ ) يقول : مَن رأى منكم سلطاناً جائراً ، مُستحلَّاً لحُرم الله ، ناكثاً بيعته يعمل في عباد الله بالإثم والعُدوان فلم يُغيِّر عليه بفعل أو قول ، كان حقَّاً على الله أنْ يُدخله مدخله ) ، فلمَّا لم يعُدْ ينفع النَّصح والإرشاد مع المُجتمع الذي أمات الدرهم والدينار والسيف والحديد وجدانه الإسلامي وقْيَمه الثوريَّة ، رأى ريحانة المُصطفي أنْ يكسر حاجز المادَّة العمياء وإرهاب الحديد والنار ، وأنْ يُحيى الضمائر الميِّتة والقلوب الضعيفة المُتلوِّنة ، بهزَّة عنيفة وثورة عارمة ، ليس منطقها الوعظ والنصيحة ، وإنَّما منطقها الشهادة والدم ؛ لذا فإنَّه صمَّم على مُجابهة القوم وأعلن ذلك مِراراً لمَن كان يعترضه مِن الأصحاب والأقرباء ، ويمنعه مِن الخروج إلى كربلاء ، فيقول ( عليه‏ السلام ‏) : ( شاء الله أنْ يراني قتيلاً ) .

وبما أنَّ سَفَر الإمام الحسين ( عليه ‏السلام ‏) كان محفوفاً بالمخاطر ، فقد ناشده شيوخ بني هاشم أنْ لا يصطحب معه النساء والصبيان ، فهذا محمد بن الحنفيَّة أخو الإمام الحسين طلب مِن أخيه أنْ لا يَخرج إلى كربلاء ، فأخبره الإمام الحسين بعزمه قائلاً : ( أتاني رسول الله ـ  في المنام ـ وقال لي : يا حسين ، أُخرج فإنَّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً ) . عندها تساءل محمد بن الحنفيَّة فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت‏ خارج على مثل هذا الحال ؟! فكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المُشفقين على مُستقبل نسائه وعائلته أشدَّ إثارة وغرابة ؛ حيث قال ( عليه‏ السلام ‏) : ( قد شاء الله أنْ يراهنَّ سبايا ) ( 1 ) .

لأنَّه ( سلام ‏الله عليه ) كان يرى في حمله للنساء امتداد ثورته ، ونشر أصداء رسالته وخاصَّة في أُخته الحوراء زينب ( عليها السلام‏ ) التي حملت لواء الثورة بعد مقتل أخيها الحسين ، وحقَّقت ما أراده أخوها الحسين ؛ لهذا نراها كانت تردُّ على كلِّ مَن كان يُناشد الحسين بأنْ لا يحمل معه النساء والأطفال ، وتقف أمام كلِّ مَن يُريد أنْ يَفْصل بينها وبين مواكبة النهضة الحسينيَّة .

يروي الشيخ النقدي في كتابه ( زينب الكبرى ) : إنَّ السيِّدة زينب اعترضت على نصيحة ابن عباس للإمام بأنْ لا يحمل معه النساء ، فسمع ابن عباس بكاءً مِن ورائه وقائلةً تقول : يا بن عباس ، تُشير على شيخنا وسيِّدنا أنْ يُخلِّفنا هاهنا ويمضي وحده !! لا والله ، بلْ نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟! فالتفت ابن عباس وإذا المُتكلِّمة هي زينب ( 2 ) .

مِن هنا ؛ فإنَّ الإمام الحسين رأى أنَّ الشقَّ الأوَّل مِن ثورته ، مرهون بدمه ودماء الصفوة مِن ولده وأهل بيته وأصحابه ، وأنَّ الشقَّ الثاني مِن الثورة مرهون بسبي النساء وما يستتبع ذلك مِن نشر رسالة دماء أولئك الشهداء ، الذين تضرَّجوا بدمائهم فداءً للعقيدة وإعلاءً لكلمة الحقِّ ، وسوف نرى فيما يلي مِن البحث كيف استطاعت عقيلة بني هاشم ، والحرائر مِن بيت الرسالة والطهارة أنْ يُزيحوا ستار التضليل والخُداع ، ويكشفوا هويَّة الطاغية يزيد وأعوانه الظلمة ، والجريمة النكراء التي ارتكبها بحقِّ أهل بيت التُّقى والطهارة .

الاختيار الصائب :

لم يكن اختيار الإمام الحسين لأُخته زينب ـ لأنْ تكون شريكة ثورته والقائدة لها بعده ـ قد جاء مِن قبيل المُصادفة ، أو أنَّه كان وليد ساعته ، بلْ إنَّ الإمام الحسين كان يرى في الحوراء زينب القدرات والكفاءات الكاملة ، التي تستطيع أنْ تؤدِّي بها هذا الدور العظيم الذي أُنيط بها ، وهذه المسؤوليَّة الثقيلة التي ضعف عن أدائها كبار الرجال . وقد كانت للأحداث الكبيرة والمِحن الشديدة ، التي مرَّت بها السيِّدة زينب ومُنذ نُعومة أظفارها الأثر الكبير في تهيئتها ، وصناعة شخصيَّتها للدور الكبير الذي ينتظرها ، فلم يكن البيت الذي نشأت فيه هذه الوليدة يطبق جِفن على مأساة ، إلاَّ وداهمته الأيَّام بمأساة أُخرى وسهام قاضية أُخرى ، فمُنذ صغرها عاشت هموم الرسالة في مهبط الوحي ومع جدِّها المُصطفي ، حتَّى حلَّت أوَّل مُصيبة بها وبأهل بيتها ، في فقدهم لسيِّد المُرسلين ، فشاركت أُمَّها أحزانها والمآسي والحوادث المؤلمة التي قاستها ، وما أورث ذلك مِن ألم أوجع قلب زينب الصغير الذي ما قدر له أنْ يهنا بحنان الأُمومة لأكثر مِن خمس سنوات ، حيث ودَّعت أُمَّها الودود ( الزهراء البتول ) الدنيا ، وبين أضلعها أكثر مِن مُصيبة ومُصيبة ألقت‏ بثقلها على البيت العلوي ، ورحلت الأُمُّ شهيدة مُضطهدة مقهورة وتركت زينب وهي صبيَّة في أوائل سِنيِّ حياتها ؛ مِمَّا زاد في مسؤوليَّة زينب وصقل شخصيَّتها على حداثة سنِّها ، فبالأمس ودَّعت أُمَّها ، واليوم تعيش ثقل المصائب والفتن التي تورادت على أبيها وهو الفارس المِقدام ، الذي شهدت له ساحات الوغى ، ولكنَّه صبر وصبر حِرصاً منه على بَيضه الإسلام ، فورثت ذلك الصبر الذي كان أفضل ذخيرة لها في قابل زمانها .

ورافقت أباها في محنته بعد استلامه للحُكم ، وفتن الناكثين والقاسطين والمارقين ، والتي ما انتهت إلاَّ بإخماد شمس الولاية والإمامة ، حيث‏ خضَّبوا أباها بدمه صريعاً في مِحراب صلاته ، وكان لهذا الأمر وقع كبير على نفس زينب ، التي لم تقف معها الأقدار عند هذا الحدِّ ، حتَّى رأت كبد أخيها الحسن مُقطَّعاً أمامها ، فما تدري على أيِّ مُصيبته تصبر وأيِّها تنسى وأيِّها تتذكَّر . ولكنْ كلَّ ذلك كان يُمحِّصها ويزيد في صلابتها ويُعطيها البصيرة والثبات .

ولم يمضِ زمن على بنت علي حتَّى انتهض أخوها سيِّد الأحرار ، رافضاً طاغية زمانه مُعلناً الثورة ضدَّه ، ولم تكن عقيلة بيت الوحي بالتي تخفي عليها الأُمور ، أو تلتبس عليها لوابس الزمان ، بلْ كانت تعيش في ساحة الصراع ، وعلى علم بالأحداث التي تجري حولها ، وكانت تعلم ما يُريد أخوها الحسين ( عليه‏ السلام ‏) مِن وراء قيامه ؛ لهذا فإنَّها ناصرته وأيَّدته ، واختارت الخروج معه وتركت زوجها وديارها وقرَّرت الذهاب إلى هذه الرحلة الشاقَّة ، التي كانت مِن أجل الحقِّ وإقامة قواعده وإرساء مبادئه .

قُبيل الرحيل :

بعد أنْ استأذنت زينب ( عليه‏ا السلام‏ ) زوجها عبد الله بن جعفر في الخروج مع أخيها الحسين (عليه ‏السلام ‏) إلى العراق ، وبقي أمر آخر أخذ يتلجلج في صدرها ، وهي لا تُريد أنْ تبثَّه لزوجها ، بلْ تُريد أنْ يُبادرها هو به ، وهي تعلم قبلاً مدى منزلة الإمام الحسين في قلب زوجها ، وكيف أنَّه كان يتمنَّى أنْ يكون برفقة الحسين في ثورته ، لولا مرضه الذي انكفأ بسببه عن السفر ، وبقيت زينب تنتظر الإشارة مِن زوجها ، وعلم الزوج ما يجول في خاطر زوجته ، فقال لها : وهل تقبلين أنْ يكون ولدانا محمد وعون في ركاب خالهما ؟ ( 3 ) فاستبشرت بنت ‏المكارم بهذا الأمر الذي سيزيدها فخراً إلى فخر ، وإنْ كان هو أمراً صعباً على كلِّ أُمٍّ ، ففيه فراق الأكباد وقتل المُهج ، ولكنْ هل ترضى سليلة المُختار أنْ تُقدِّم الأُمَّهات أولادهنَّ قرابين في عرس الشهادة ، وهي لا تنال ذلك الشرف والوسام الكبير ولا تواسيهن في عزائهن ؟! وهي السبَّاقة إلى الفضائل والمُكرمات ، فخرجت إلى كربلاء برفقة ولديها ، اللذين برَّا بوالديهما واستُشهدا في ملحمة الطفِّ والإباء .

سيِّدة الموقف :

كانت زينب مثال المرأة الواعية ، والمُتواجدة في ساحات العمل ومواقع المسؤوليَّة ، والعالمة بما يجري حولها مِن أحداث ومُستجدَّات ، فلم يكن يخفي على زينب طبيعة الانطلاقة الثوريَّة ، التى هاجر لأجلها أخوها الحسين مِن المدينة إلى مَكَّة ، ومِن ثمَّ إلى كربلاء ، ولم تكن بعيدة عن المُضايقات الشديدة والمؤامرات الخبيثة ، التي كان يقوم بها أزلام بَني أُميَّة لصدِّ الحسين عن ثورته ، ومُحاولتهم لإطفاء جذوتها وقتلها في مهدها الأوَّل في مَكَّة ، وقبل توجُّه القافلة إلى كربلاء ، وفي هذا كلِّه كانت زينب تُراقب الأحداث عن كَثب ، وتسمع الأخبار التي كانت تُنبئ عن انقلاب الناس عن أخيها وخذلانهم لسفيره ( مسلم بن عقيل ) ، وترى تصميم أخيها الحسين على مواجهة الموقف رغم تحوُّل شيعته عن بيعتهم له ، ودخولهم في طاعة ابن‏ زياد الذي ما فتأ يستخدم معهم الترغيب والترهيب ، حتَّى انقاد له البعض تحت‏ بريق‏ المادَّة والطمع ، ورفض الآخرون فأصبحوا طُعمة للقتل والسجن والتعذيب .

ورغم كلِّ هذا كانت زينب سيِّدة الموقف في الركب الهاشمي ، فكانت لا تفتأ تَشحذ العزائم وتُحرِّك الهِمَم وتُحرِّض الناس على نُصرة دين الله ومبادئ ثورة أخيها الحسين ، حتَّى انتهى الركب إلى أرض كربلاء ، وسمعت أخاها يقول : ( ها هنا مَحطُّ رحالنا وسفك دمائنا ومحلُّ قبورنا ، بهذا حدَّثنى جدِّي رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله‏ ـ ) .

فعرفت مِن ذلك الصبح القاتم ، الذي كان ينتظر هذه الصفوة الطاهرة ، والموقف الكبير الذي كان ينتظرها هي ، حتَّى كانت ليلة العاشر مِن المُحرَّم عام 61 هـ ، حيث دخلت على أخيها الحسين ( عليه‏ السلام ‏) ، فسمعت منه كلاما كان يُنبئ عن عزمه على الشهادة ولقاء الله ، وعن عاشوراء الدم والتضحيات ، فعرفت أنَّ يوم الفصل قد حلَّ ، وأنَّ مسؤوليَّتها العُظمى قد بدت أشراطها ، فأوقفها الإمام الحسين على ما سيجرى عليها وعلى أهل بيتها ، وأمرها بالصبر والثبات والتحمُّل ، وقيادة الأمر مِن بعده ، فجاءت تُلبيتها .

وقبولها لداعي الله ورباني آياته واضحاً في يوم الملحمة في أرض لطفِّ ؛ حيث كانت عينا زينب وقلبها وراء كلِّ شهيد ، ووراء كلِّ دمٍ ينساب بغير حقٍّ ، ورؤوس تُقطع مِن غير ذنب وأضلاع تُكسَّر تحت‏ حوافر الخيول . وهي فوق ذلك كانت مسؤولة عن المُحافظة على العليل الذي كان يتلظَّى بنار الحُمَّى ، ومسؤولة أيضاً عن تهدئة النساء وإسكات الأطفال ، الذين قد روَّعتهم مناظر الدماء وعصر قلوبهم فقد الآباء ، وأرهقهم الجُوع والعَطش وشدَّة الموقف .

وكانت تتلقَّى الشهداء بقلبها الكبير حتَّى آخر شهيد ، وهو الطفل الرضيع تلقَّته مُخضَّباً بدمه ، وأخفته عن عين أُمِّه لأنَّ الأُمَّ لا تستطيع أنْ ترى ولدها بهذه الحالة ، وقد رأت أُمُّ المصائب كلَّ أولئك الرياحين مُخضَّبين بدمائهم ، ورأت ولديها محمد وعون ، ولكنَّها لم تبكهما ولم تنادِ عليهما يا ولداه ؛ لأنَّها كانت أمَّ جميع الشهداء ، ودمعة كل الأرامل والأيتام ، فلله صبرك يا زينب !! فصبرك غريب عجزت عن ثقله الجبال الراسيات !! وبكته الملائكة في السموات !! واحترقت له القلوب وانهمرت له الدموع دماً !!

وربَّما كانت كلُّ تلك المصائب تهون على زينب إنْ كان سبط المُصطفي قد بقي حيَّاً ؛ لهذا كان الأنكى لقلبها والأشدَّ مُصاباً عليها مقتل أبي عبد الله ( عليه ‏السلام‏ ) فقد أنهك قواها وأدمى قلبها ، ولكنَّها سرعان ما تذكَّرت وصيَّة أخيها الحسين ، فاخفت عبرتها وسكنت دمعتها ، واستعدَّت لدورها الذي بدا بعد أنْ خمدت أنفاس الطيِّبين وانطفأت أنوار الصالحين .

وحملت الراية :

بعد الظهيرة الدامية ، هدأ هدير الحرب وسكنت الأنفاس وأُغمدت السيوف ، وطُرِّزت ارض كربلاء بأشلاء الطاهرين وجُثث الطيِّبين ، عندما حملت المُعجزة المحمديَّة واللَّبوة الحيدريَّة ، زينب الهُدى راية الثورة ، ولم تدعها تسقط إلى الأرض بشهادة أهلها ، فبادرت وفي تلك اللحظات الرهيبة التي يتلكَّأ اللسان عن ذكرها ، ويتعرَّى البيان عن وصفها ، وتنهزم العزائم أمامها إلاَّ عزيمة زينب الكُبرى ، إلى أحداث أوَّل هزَّة نفسيَّة في صفوف الجيش الأُموي الذي أعمته المادَّة ، وأماتت ضمائره عظم الخطيئة ، فكبتت‏ حسراتها وكفكفت دموعها ، وخرجت‏ بكلِّ ثبات ورباطة جأش تقصد جسد أخيها الحسين ، وهي تعول وتقول : ( ليت السماء أطبقت على الأرض ) ، واخترقت الصفوف وانفرج لها الجيش سِماطين ، ووقفت ‏بجانب الجسد وقلبها المهول بعظم المُصيبة لا يقوى على تحمُّل هذا الموقف الذي تزلزلت له السماوات والأرضين ولكنَّها تسلَّحت ‏بقوَّه الله وعزم عليٍّ وصبر فاطمة ونادت جدَّها :

( يا جدَّاه يا محمداه ، صلَّى عليك ملائكة السماء ، هذا حسين مرمل بالدماء ، مُقطَّع الأعضاء مسلوب العمامة والرداء وبناتك سبايا فإلى الله المُشتكى ) .

ثمَّ تقدَّمت نحو الجسد الذي كان جثَّةً بلا رأس ، وخضَّبت جبهتها بدمه الشريف ، ووضعت‏ يدها تحت كتفه ورفعته قليلاً إلى السماء ، ثمَّ قالت : ( اللَّهمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان ) ، وعادت أدراجها صوب الخيام .

كلمة قصيرة أحدثت انقلاباً عظيماً ، فقد توقَّع أولئك الأجلاف القُساة أنَّهم يستطيعون أنْ يُركعوا آل محمد ، وأنْ يُطفئوا نورهم ، ولكنَّهم نسوا أنَّ وراء هذا الأمر وريثة الحقِّ وقائدة البيان والصبر ، زينب التي سوف تُلقِّن الدنيا وتُلقِّن كلَّ ظالم درس الإباء والكرامة ، ومعنى التضحية والشهادة .

ثمَّ إنَّها بهذه الكلمة كشفت الحقيقة اللامعة لاستشهاد أبي الأحرار وسيِّد الشهداء ، وهي فداء نفسه للعقيدة وتقديم دمه ودم الطاهرين مِن أهله قُربانا للحقِّ وإقامة دين الإسلام .

فعرفت‏ بذلك حقيقة كلِّ مُعسكر وهويَّته ، مُعسكر يزيد الذي باع آخرته بدنياه ، واجتمع لقتل آل رسول الله ، ومُعسكر الطُّهر والإيمان ، الذي رفض كلَّ شي‏ء مِن أجل الله . ولله دُرُّ الشاعر الخطيب السيِّد حسن بن السيِّد عباس البغدادي حين قال :

يا قلب زينب ما لا قيت مِن مِحن = فيك الرزايا وكلُّ الصبر قد جُمعا

لو كان ما فيك مِن صبر ومِن مِحن = في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا

يكفيك صبراً قلوب لناس كلِّهم = تفطَّرت للذي لاقيته جزعاً

وقد حَسب أولئك الظالمون أنَّهم سوف يرون على زينب آثار الانكسار ، أو أنَّها عندما ترى أخاها على هذه الحالة سوف تُمزِّق ثيابها وتلطم وجهها ، وتبكي وتنوح شأنها شأن كلِّ امرأة ثَكلى ، ولكنَّهم اصطدموا حينما رأوا ثبات موقفها ورباطة جأشها ، حيث أذهبت نشوة النصر مِن رؤوسهم ، وأشعرتهم بوخز الضمير وعذاب الوجدان .

وبذلك ابتدأت زينب الكُبرى مرحلة جديدة في الجهاد ، وهو الجهاد بالكلمة ، وكانت قولتها تلك بجانب الجسد : ( اللَّهمَّ تقبَّل منَّا هذا القُربان ) فاتحة لعهد جديد في الثورة ، وفاتحة لأقوى سلاح إعلاميٍّ سوف يُبدِّد أحلام الطُّغاة ويهزُّ أركان عروشهم .

وتمزَّق قناع التضليل :

أصعب ليلة مرَّت على عقائل بيت النبوَّة كانت ليلة الحادي عشر مِن المُحرَّم ، حيث أُطفئت القناديل ، وضُرِّج الأبطال بدمائهم ، وفُرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، ولم تبقَ سوى بقيَّة خيام مُحترقة وأيتام وأرامل ثَكلى ، ودموع عبرى وصدور حرَّى ، ولم تنسَ زينب رغم ثقل المُصاب وفداحته علاقتها مع ربِّها وهي العابدة المُتهجِّدة ، ولم تترك صلاتها في ذلك الليل الموحش ، ورنين صوت أخيها وحبيبها الحسين في أُذنيها ، وهو يودِّعها في آخر ساعات حياته ويوصيها : ( أُخيَّة ، لا تنسينى في نافلة الليل ) ( 4 ) ، وكيف تنساك ـ يا بن‏ الطيِّبين ـ وقد رأت شيبك الخضيب وجسدك السليب ، وأنت مُرمَّل بالدماء !!! يروي الإمام زين العابدين ( عليه ‏السلام ‏) : ( إنَّها ما تركت صلاتها ـ صلاة الليل ـ في تلك الليلة إلاَّ أنَّ رُجليها لم تقويا على حملها ، فصلَّتها مِن جلوس وناجت ربها بقلب خاشع ) .

ولم تترك زينب صلاتها المُستحبَّة هذه حتَّى في أيَّام السِّبى ، وفي طريق الشام ، فقد قال الإمام السجَّاد أيضاً : ( إنَّ عمَّتي‏ زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقها إلى الشام ما تركت نوافلها الليليَّة ) .

وأسفر صبح الحادي عشر كئيباً ، وتهيَّأ الركب الهاشمي للسبي ، وُرفعت الرؤوس على الرماح ، ومرُّوا بالركب على ميدان المعركة ومصارع الشهداء ، إمعاناً منهم في إيذاء قلوب الأطفال والأرامل المحزونة بفقد أحبَّتها ، وبدأت سياط آل أُميَّة تنهال على مُخدَّرات الرسالة وربائب الوحي ، وهنَّ يرينَ فَلذات أكبادهن موزَّعين على رمضاء كربلاء مِن غير غُسل ولا تكفين ، وتذكَّرت زينب وصيَّة أخيها الحسين في آخر وداعه لنسائه وأهل بيته حيث قال : ( استعدُّوا للبلاء ، إنَّ الله حافظكم وحاميكم وسيُنجيكم مِن شرِّ الأعداء ويُعذِّب أعداءكم بأنواع العذاب ، ويُعوِّضكم عن هذه البليَّة بأنواع النِّعَم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص به قدركم ويُحبط أجركم ) . فكانت تأمر النساء بالصبر وتعدهنَّ جميل الأجر وتواسيهنَّ بمصابهنَّ ، مع أنَّها كانت مثكولة أكثر منهنَّ ، فقد فقدت زينب في يوم عاشوراء سبعة وعشرين ـ فقط في أهل بيتها ـ مِن إخوتها وأبناء إخوتها وأبناء عمومتها .

وصلت السبايا مشارف الكوفة ، وطافت ‏بزينب ذكريات الأمس البعيد ، حينما دخلت الكوفة برِفقة أبيها وإخوتها في أيَّام خلافته مُعزَّزه مُكرَّمة ، وهي اليوم تدخلها سبيَّة أسيرة ، ولكنَّها حبست زفراتها وتجلَّدت ؛ لأنَّ الموقف يتطلَّب صلابة أكثر منها .

أسرعت نساء الكوفة اللاتي اجتمعن لرؤية القافلة المسبيَّة ، بتقديم التمر والخبز للأطفال الذين كانت‏ براءة منظرهم ـ وقد علاهم الجُوع والتعب ـ تُهيج العواطف وتُقرح القلوب . فانتفضت ‏بنت علي ( عليها السلام ‏) ورمت‏ بالتمر وقالت : يا أهل الكوفة ، نحن أهل البيت ، لا تحلُّ علينا الصدقات . وأثارت هذه الكلمة ( أهل البيت ) همهمة في الحشود ، التي اصطفَّت لرؤية السبايا التي قيل عنها : إنَّها مِن الترك والديلم ، وتحت ‏سياط الجلاَّدين شقَّت إحدى النساء الكوفيَّات الصفوف ، ووصلت إلى المرأة المُتكلِّمة وسألتها : ومِن أيِّ الأُسارى أنتنَّ ؟ فأجابتها ـ زينب والأسى يُقطِّع قلبها ـ : نحن أُسارى أهل البيت . وهنا أدركت هذه المرأة أنَّ هذا الصوت قد سمعته مِن قبل . نعم ، إنَّه صوت زينب بنت الخليفة أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب ( عليه ‏السلام ‏) . وانتشر الخبر ، وكان كالصاعقة على أهل الكوفة ، حيث تعالى صُراخ النساء بالنحيب والبكاء والويل والثبور . وأسرع جلاوزة ابن زياد بإدخال الموكب الأسير إلى مسجد الكوفة ؛ خوفاً مِن انقلاب الأمر ، بعد أنْ كان الأمر قد صدر بأنْ يُطاف به في سكك الكوفة وأزقَّتها .

هزيمة الباطل :

في قصر الإمارة ، جلس الطاغية ابن زياد ، يتصفَّح الوجوه الطاهرة لعقائل بيت الوحي ؛ علَّه يرى فيها أثر الذلِّ والانكسار ، ولكنَّه تمزَّق لمَّا رأى أنَّ الأمر على عكس ما كان يتوقَّع ، فقد جلست امرأة عليها آثار الحِشمة والوقار وهى كاللَّبوة لا تأبه بأحد ، فسألها مَن تكون ، فلم تهتمَّ بسؤاله مُحتقِرة ، كرَّر سؤاله ثانية وثالثة وهي صامته ، فقيل له : إنَّها زينب ابنة علي ، فانتصب غاضباً لهذا الاسم ، الذي ظلَّ عليه حاقد ، إذ قال لها ـ مُفتخراً ـ : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذَّب أُحدوثتكم . فما كانت بطلة الرسالة إلاَّ أنْ أجابت عليه وبكلِّ جُرأة : ( الحمد لله الذي أكرمنا بنبيِّه محمد ( صلى الله عليه وآله‏ ) وطهَّرنا مِن الرجس تطهيراً ، إنَّما يفتضح الفاسق ، ويُكذَّب الفاجر وهو غيرنا يا بن زياد )

أيَّة جُرأة وبسالة ! وأيَّة قُدرة وبلاغة في امرأة أسيرة لا تملك أيَّة قوَّة ! سوى قوَّة الإيمان الصادقة ، تواجه بها طاغية جائر ، لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه !

فاغتاظ ابن زياد وانتفخت أوداجه ، وعاد مكررا سؤاله : كيف رأيت صنع الله بك وبأهل بيتك ؟ فردَّت عليه بصدر مُنشرح بالإيمان : ( ما رأيت إلاَّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجُّ وتُخاصم ، فانظر لمَن الفَلَج‏ يومئذ ثكلتك أُمُّك يا بن مرجانة ) ( 5 ) .

أيَّة عظمة ومنزلة قد اجتمعت لهذه الطاهرة ! التي فلسفت كلَّما رأته مِن مِحن وبلايا عجزت عن احتمالها الجبال الراسيات ، بأنَّها أمراً جميلاً ما دام لله وفي عين الله ! وأيُّ عار قد المَّ بوالي الكوفة ! وهو يرى امرأة سبيَّة تُحاججه وتُخاصمه بأبدع البيان وأشجعه ! وتبين له سوء عاقبته ولا تُناديه باسمه بلْ تُناديه بنسبه الفاضح والمُنقطع عن أبيه ، فتقول له : ( يا بن مرجانة ) ، هنا على مرأى ومسمع مِن جلاوزته وأعوانه ، فأغرق في الخزي وأخذ سوطاً لينهال به على السيِّدة الحوراء ، فصدَّه عن ذلك أحد مُرتزقته ، وقد حسب عدوُّ الله أنَّه يستطيع أنْ يهزم زينب ، وهيهات أنْ يكون له ذلك ! فقد هزمته وكبَّلته وأسرته بقيود ظلمه وجوره ، وحوَّلته مِن أمير مُتوَّج إلى أسير النيران وبِئْسَ المصير . وتلافياً منه لحراجة الموقف والهزيمة النكراء التي لحقت‏ به أمر بإخراج السبايا إلى خربة في الكوفة ، ولفَّ الخبر أرجاء الكوفة ، واجتمع الناس مِن كلِّ مكان وهُمْ يبكون وينتحبون ، ورأت بنت عليٍّ أنَّ الفرصة قد حانت لأنْ توقظ أهل الكوفة مِن سُباتهم وسَكرتهم ، وتُبيِّن لهم عُظم الكارثة والخطيئه التي توغَّلت أيديهم بدمائها ، وذهبوا بعارها وشنارها . فأومأت إلى النساء أنْ اسكتن ، فسكتن وأصغى الجميع إلى خطاب سيِّدة البلاغة والحكمة زينب ، فحمدت الله واثنت عليه ثمَّ قالت : أمَّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون ! فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنَّة ! إنَّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها مِن بعد قوَّة أنكاثاً ، تتَّخذون إيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاَّ الصَّلَف النَّطَف ؟! ويلكم يا أهل الكوفة !! أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم ؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم ؟! وأيَّ حُرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم شيئاً إدَّاً تكاد السموات يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدَّاً ... إلخ . وما أكملت‏ خُطبتها حتَّى تركت أهل الكوفة يموجون في خطر عظيم ، وهُمْ حيارى لا يدرون ما يفعلون ، حتَّى قال بشير بن خزيمة الأسدي ـ كما ذكر صاحب المقتل ـ : والله ، لم أرَ خِفرة أنطق منها ! كأنَّها تُفرِغ عن لسان عليٍّ ، وقد رأيت الناس حيارى يبكون وأيديهم في أفواهم ، وسمعت ‏شيخاً يبكي حتَّى اخضلَّت لحيته ، وهو يقول : بأبي أنتم وأُمِّي ! كُهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً .

وكان لخطابها الوقع الكبير في نفوس أهل الكوفة ، فقد قرَّعتهم بمنطق الحقِّ والعدل ، وشانت عليهم خبث‏ سرائرهم ودهاء مكرهم وخساسة أنفسهم ، ووصفتهم بأحطِّ وصف ( يا أهل الخَتْل والغَدر ) ، ولم تأبه بتماسيح دموعهم ، بلْ أشارت عليهم أنْ يبكوا كثيراً ويضحكوا قليلاً ؛ لعظيم الجُرم الذي اقترفوه ، والذي لا يُغسل عاره أبداً ، وكان لصدى هذا الخطاب الأثر الكبير في المُجتمع الكوفي ، فقد كسَّر حاجز الخوف فيهم ، والذي كان يمنعهم مِن مواجهة ابن زياد وجلاوزته، ودثَّت ‏بعض المُناوشات الكلاميَّة بين بعض الصحابة ، الذين كانوا إلى عهد قريب مِن المُقرَّبين إلى البلاط ، أمثال أنس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، وحاججوه بما سمعوه ورأوه مِن رسول الله بحقِّ الحسين الشهيد ( عليه‏ السلام‏ ) . ووقف الصحابي عبد الله بن عفيف الأزدي يردُّ عليه عندما ـ قال في الحسين (عليه ‏السلام‏ ) وأهل بيته ـ فقال : يا بن مرجانة ، الكذَّاب ابن الكذَّاب أنت وأبوك ومَن استخلفك وأبوه ، أتقتلون أبناء النبيِّين وتتكلَّمون بكلام الصدِّيقين ؟! واستمرَّ يُعنِّف ابن زياد ، فما احتمل ابن زياد هذه الحِدَّة الكلاميَّة مِن الأزدي ، فيأمر بقتله ، ويُقتَل عبد الله بن عفيف الأزدي .

وصارت الكوفة في اضطراب شديد ، فخاف ابن زياد مِن انقلاب الأمر ، فأمر بإخراج السبايا إلى الشام قبل أنْ يأتيه الأمر مِن يزيد .

بلاغ الثورة في الشام :

وتوجَّه الركب إلى الشام ، وقد عيَّن ابن زياد أشدَّ الناس ظلماً وقساوةً لقيادة الركب ، وقد ساروا بالأُسارى في طريق شديد الوعورة ، ولم يمضوا بهم في الطريق الطبيعي ، الذي تمرُّ فيه القوافل خشية مِن انكشاف الحقيقة في هويَّة الشهداء والأسرى . فساروا في طريق مُجهِدٍ وشاقٍّ .

يقول الراوي : لقد كان مسيرة الطريق شهراً للإبل ذوات الصبر والقوَّة ، ولكنَّ الحداد الغلاظ أرهقوا قدرتها ، وأوجعوا صبرها ، فقطعته الإبل في عشرة أيَّام أو ما دونها ، ولو لا أنَّها كانت تحمل عفافاً وطهراً ليس مثله في الأرض عفاف وطهر لألقت ‏بأحمالها حين كانت تُفزعها أصوات الحِداء .

ولمَّا اقتربوا مِن أبواب الشام رأوا أنَّ المدينة قد تزيَّنت ، وأهلها يضربون بالطبول ، وكأنَّهم في فرحة وعيد لا يعرفه غيرهم . وأُدخل ركب الأُسارى في قصر يزيد ، الذي جلس مزهوَّاً وسكرة النصر قد ملأت رأسه ، والقضيب بيده مُنحنياً به على ثنايا أبي عبد الله ، فلم تتحمَّل شقيقة السبطين هذا المنظر المؤلم ، حتَّى نهضت ‏يهدر صوتها بالحقِّ في أرجاء البلاط الأُموي ، فقالت : الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلَّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه حيث ‏يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) . أظننت ـ يا يزيد ـ حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى ، أنَّ بنا هوانا على الله وبك عليه كرامه ؟!! فمهلاً مهلا ! أنسيت قول الله تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) .

حُجَج قرآنيَّة ! وسُنَن إلهية ! أوضحتها بنت الولاية والإمامة في هذا المقطع الصغير في خُطبتها ، حيث أشارت إلى العاقبة السيِّئة للذين يُكذِّبون بآيات الله وبها يستهزؤون ، وتُريد بذلك يزيد الكفر الذي ما فتأ مُستهزئاً ومُكذِّبا لآيات الله ففضحته ، وهو جالس على أريكة مُلكه ، ثم أدانت عليه جريمته لسوقه بنات الرسالة سبايا ، وقتله لسليل النبوَّة والصفوة الإمام الحسين ( عليه ‏السلام‏ ) ، فقالت : إنَّ ما بيدك مِن قُدرة ملكت‏ بها الأرض واستطلت ‏بها على كلِّ شي‏ء تقتل وتأمر ، ليس هو لمنزلتك عند الله وهواننا عنده ، بلْ هو إمهال له مِن الله وإملاءً له ليزداد إثماً وكفراً فيردُ به الهاوية والخزي العظيم يوم القيامة .

ثمَّ تُناديه بنَسبه الخامل وسوابق آبائه الكَفرة ، الذين ما دخلوا الإسلام إلاَّ عَنوة ، وكانوا طلقاء رحمة جدِّها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله‏ ) ، فتقول له : أمِنَ العدل ـ يا بن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟! قد هتكت‏ سُتورهن وأبديت وجوههن ... ويتصفَّح وجوههن القريب والبعيد ...

والأنكى مِن ذلك على يزيد وأتباعه ، أنَّها أشارت إلى صِغَر قدره عندها وتعفُّفها عن تكليمه ، وترفُّعها عن مواجهته ، ولكنَّ مسؤوليَّة الدين هي التي فرضت عليها قول الحقِّ ، وكشف التضليل والخداع ، الذي كان يتستر به هذا الفاسق الفاجر فقالت : والله ، إنِّي لا ستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك ، لكنَّ العيون عبرى والصدور حرَّى .

ثمَّ وقفت تُهدِّده وتُنبِّؤه بقُرب زوال حُكمه ومُلكه ، الذي زلزلته بخطابها وبقاء ذكر الحسين وملحمته البطوليَّة خالدة مدى الدهر في ذاكرة التاريخ ، وفي ضمير البشريَّة رغم إرادة الظالمين : ( يا يزيد ، فكِدْ كيدك واسعَ سعيك وناصب جَهدك ! فو الله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ولا تُدرك أمدنا ، وهل رأيك إلاَّ فَنَد وأيَّامك إلاَّ عدد وجمعك إلاَّ بَدَد ) ( 6 ) .

وبذلك استطاعت زينب أنْ تخرق جميع الأقنعة ، التي كان يستتر بها بنو أُميَّة باسم الدين وباسم القرآن ، وأنْ تُزيل ستار التضليل والتحريف ، وتُبيِّن أبعاد النهضة الحسينيَّة ، فاذكت القلوب وأشعلت فتيل الثورة وأجَّجت الوضع على يزيد وأتباعه ، حتَّى وقعت الفتنة في القصر حين دخول السبايا وعامَّة الناس ، الذين سخطوا عليه لجريمته الآثمة ، حتَّى إنَّه أخذ يلعن ابن مرجانة وعمر بن سعد اللذين عجَّلا بقتل الحسين ، ليس حبَّاً للحسين وإنَّما خوفاً مِن انقضاض حُكمه وانقلاب الناس عليه .

إلى مصرع الشهداء والى المدينة :

وبعد الخطاب الناري لابنة الزهراء ( عليها السلام ‏) ، خشي يزيد وقوع الفتنة ، فأخرج السبايا إلى المدينة وانطلق بهم ، وفي طريق العودة عرَّج الركب على مصارع الطيِّبين في كربلاء ؛ لتجديد العهد واستلهام العزم ، وعقد البيعة مع دماء الشهداء ، لمواصلة درب التضحية والفداء .

ثمَّ عادت بطلة الحقِّ إلى مدينة جدِّها ولم ترقا الدمعة في عينها ، ولم تهدأ الحُرقة في قلبها فاستقلبتهم مدينة الرسول حزينة باكية ، ناعية البدور المُنيرة والسروج المُضيئة ، التي خفتت في أرض كرب وبلاء . ولم تهدأ بنت الرسالة عن نشر رسالة الثورة وتبليغ أهدافها ، حيث أقامت المآتم في كلِّ مكان وجلست للعزاء ، وفضحت‏ بني أُميَّة بكلِّ بيان ، حتَّى ضاق لوجودها والي بني أُميَّة في المدينة ، وكتب إلى يزيد يقول : إنَّ وجود زينب ابنة علي بين أهل المدينة ، مُهيِّج للخواطر ؛ فإنَّها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومَن معها على القيام بالأخذ بثار الحسين ، فعرفني رأيك . فكتب إليه يزيد : أنْ فَرِّق بينها وبين الناس ( 7 ) . فقصدها والي المدينة وطلب ‏إليها ترك المدينة كي لا تُثير الأمر عليه وعلى أميره . فردَّت عليه وبكلِّ قوَّة : قد علم ـ والله ـ ما صار إلينا ، قُتِل خيرنا وسقنا كما تُساق الأنعام ، وحُملنا على أقتاب . فوالله ، لا أخرج وإنْ أُريقت دماؤنا .

وازداد الأمر حِدَّة بينها وبين والي المدينة و، هي لا تفتأ في نشر مظلوميَّة أهل بيتها ، حتَّى اضطرَّت للخروج مِن المدينة إلى الشام ، بعد أنْ أدَّت ما عليها ، وكانت لسان الثورة الناطق ورائدة الإعلام في نهضة الحسين ، وقائدة الثورة مِن بعده ، ولو لا صدى خُطبها لما بقيت عاشوراء الدم والعطاء حيَّة تنبض في القلوب حتَّى يومنا هذا . فالسلام على زينب الحوراء يوم ولِدَت ، ويوم استُشهدت ويوم تقوم لربِّ العالمين .

ـــــــــــــــــــ

* تنسيق وتقويم شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ،

1) زينب الكُبرى ، للشيخ النقدي .

2) في رحاب السيِّدة زينب ، محمد بحر العلوم، ص 108-109 .

3) ذكر ذلك السيد الِّبيرجندي وهو مُدوَّن في كُتب السِّيَر

4) السيدة ِّزينب في الوجدان الشعبي رضا حسين صبح ، ص‏16 .

5) ذكر ذلك ابن طاووس في ( مقتل الحسين ) ، وقد رواه كلٌّ في كُتب مقتل الحسين ( خُطبتها في مجلس ابن زياد وفي أهل الكوفة ) .

6) اللهوف ، لابن طاووس .

7) زينب الكُبرى ، للشيخ جعفر النقدي ، ص‏120 ـ 122 .

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية