الفائدة الثانية
في وضع الكلام
لما توفّي النبي الأعظم صلىاللهعليهوآله ، وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة والإمامة، وما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلىاللهعليهوآله .
ثمّ إنّ حزب أبي بكر - الخليفة الأَوّل - وإن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية، وعزل مخالفيهم عن تدبّر الأُمور، إلاّ أنّ النزاع لم يرتفع به، بل أصبح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة وغيرها، وهو البذر لحروب الجمل والصفين والنهروان وكربلاء وغيرها، وهو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتّت المذاهب والآراء في الأُصول والفروع.
وممّا وسّع هذا الاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليهالسلام بعد قتل عثمان، فإنّه بغى واستكبر فصار من المفسدين، ومن سوء الاتّفاق أنّه علا أمره، واستولى على ما أراد، فأتاح الأمر لمَن بعده من آل أمية، الذين هم شر قبائل العرب (1) ، وأنّهم أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله (2) ، فآلَ الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية والإرشادية أيضاً، بعدما افتقدوا السلطة التنفيذية والإجرائية. والناس على دين ملوكهم. فقام أُناس - لا صلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية، وتصدّوا لتدريس الأُصول وتطبيق الفروع، وكلّما دخلت أُمّة لعنت أُختها، وكأنّ القرآن ينظر إليهم حيث يقول: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (3) . وبما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي، ولا أصل موضوعي، ولا قانون كلي، تكثّرث آراؤهم وتباينت أنظارهم، فاتّسعت الخوارج، وتولّدت المرجئة، وتكوّنت المعتزلة، وقامت الجبرية (4) ، وظهرت الأشعرية وهكذا.
____________________
(1) قال ابن حجر في تطهير الجنان واللسان / 30: إنّه حديث حسن.
(2) وفي نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
(3) القصص 28 / 41.
(4) قُتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر مُلك بني أُميّة كما في الملل والنحل.