الفائدة الثالثة
في بيان الأدلّة
المسائل اليقينية إمّا ضروريات أو نظريات منتهية إليها قطعاً. والضروريات المذكورة ست:
منها: الأوّليات: وهي ما لا يتوقف إدراكه على شيء زائد من تصوّر طرفيه، وإن كان هذا التصوّر كسبياً، كقولنا: الممكن محتاج، وتُسمّى بالبديهيات أيضاً.
ومنها: الحسّيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، فإن كانت ظاهرةً تسمّى المشاهدات، وإن كانت باطنةً - وهي الحس المشترك (بنطاسيا) والخيال، والواهمة، والحافظة - تسمّى الوجدانيات (1) ، وفيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسّط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا وبصفاتنا النفسية، كالخوف، والسرور، والحزن، والجزع، والشبع ونظائرها.
قال المحقّق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: ويدخل في المشاهدات الباطنية: الوهميات التي جعلها بعضهم قسماً سابعاً، وذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة، ولا يكون جسم واحد في مكانين، فإنّ العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات والمعقولات، كحكمه بأنّ كلّ موجود في جهة أو مكان... إلخ.
ومنها: المتواترات: وهي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب، ثمّ إنّ إفادة التواتر اليقين موقوف على أمور:
1 - كون المخبر عنه أمراً محسوساً؛ إذ لو كان أمراً حدسياً لَما حصل اليقين منه؛ لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، وهذا بخلاف الحسّيات حيث إنّ وضوحها ينفي هذا الاحتمال، وخالف فيه الفارابي (2) فذكر أنّه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين، حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء والعقلاء،
____________________
(1) قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - والوجدان - بضمّها -: إنّ الأَوّل يُطلق على القوةّ المدركة، والثاني على إدراكها. وقيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.
(2) رهبر خرد / 236.