لا يستلزم إلغاء سلطنة العقل في إدراكاته بوجه من الوجوه.
وثانياً: لِما عرفت من توقّف التجربة في إفادتها العلم بالأمر الكلّي على القياس الخفي المذكور، وهو أنّ هذا الأمر لو كان اتّفاقياً لم يكن أكثرياً أو دائمياً، لكنّه كذلك فهو ليس باتّفاقي. وهذا القياس عقلي لا حسّي، فإذا ألغينا حكم العقل في المعقولات، فقد أبطلنا أساس الأحكام الحسّية، وهو التجربة المذكورة، وهذا هو السفسطة.
وبالجملة: أنّ الحسّ لا يمكنه الإحاطة بالقضايا الكلية أبداً؛ إذ لا يناله إلاّ الأمر الجزئي مثل: إنّ الضرب الواقع على زيد كان مؤلماً لجزعه، وكذا الواقع على زيد وعمرو، وكل ذلك أُمور جزئية، فالحكم بأنّ كل ضرب دائماً مؤلم غير داخل في سلطان الحسّ أصلاً، ولازم هذا بطلان جميع العلوم الطبيعية؛ إذ لا يترتّب الآثار المطلوبة إلاّ على تلك الكلّيات، كقول الطبيب: كل مرض كذائي ينفعه الدواء الفلاني مطلقاً، بلا اعتبار زمان مخصوص، ومكان كذلك، وعنصر معيّن، وهكذا، فلابدّ من قبول حكومة العقل حتى ينتظم ناموس العلوم التجربية.
وثالثاً: لو انتهى صحّة الإدراكات الحسّية إلى التجربة فقط، لَما انقطع السؤال عن انتهاء التجربة نفسها وأنّها إلى ماذا تنتهي؟ وما هو المصدّق لها هل نفسها حتى يدور؟ أو غيرها كي يبطل قولهم من رأس؟ والإنصاف أنّ هذه النظرية الرديئة راجعة إلى مزعومة السوفسطائيين لا محالة.
وهو من وجوه:
الأَوّل: ما ذكره العلاّمة قدّس سره (1)، من أنّ الضروري من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب، ومن التصديق ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجاباً أو سلباً، والمكتسب ضدّ ذلك فيهما.
أقول: لكنّه يختصّ بالأَوّليات من الضروريات ولا يشمل غيرها.
الثاني: ما ذكره الفاضل المقداد (2)، من أنّ المعلوم ضرورةً هو الذي لا يختلف فيه العقلاء، بل يحصل العلم به بأدنى سبب، ويزيّفه وقوع اختلافهم في الضروريات حتى في أَوّليّاتها، كما سيمرّ بك في هذا الكتاب إن شاء الله.
وما ذكره صاحب الشوارق (من أنّ البديهي عند مَن يرونه بديهياً لا يقع منهم الاختلاف،
____________________
(1) شرح التجريد / 136.
(2) شرح الباب الحادي عشر / 5.