ثمّ إنّ الكلام وإن دلّ على التصوّر والتصديق، لكنّها دلالة عقلية كدلالة كلّ فعل اختياري على مقدّماته، فالأقوال والأفعال من هذه الجهة سواء، فليست بوضعية فضلاً عن كونها لفظيةً.
الذي يظهر من هؤلاء الناس أنّ معنى الأمر والنهي هو الطلب - أي طلب الفعل وطلب الترك - القائم بالنفس المغاير للإرادة.
وأمّا الأخبار فقال القوشجي (1) : والأشاعرة يدّعون أنّ نسبة أحد طرفي الخبر قائمة بنفس المتكلم ومغايرة للعلم... إلخ فيكون معنى الإخبار عندهم هو هذه النسبة.
أقول: أمّا الطلب فهو عندي وعند جملة من أصحابنا الأُصوليين المتأخرين مغاير للإرادة، كما أشرنا إليه في أَوّل الفريدة الثانية، فإنّ الإرادة بمعنى القصد ومن النفسيات.
وأمّا الطلب فهو بمعنى السعي نحو الشيء؛ ولذا يقال لمَن عزم على تحصيل العلم ولكنّه لم يحصّله بعد: إنّه مريد للعلم، ولا يقال: إنّه طالب؛ إذ هو ما طلبه بعد فهو من الأفعال، ومنه ينقدح أنّه ليس قائماً بنفس المتكلّم، فإنّه فعل لا صفة.
فالذي يدلّ على أنّه غير الإرادة خلافاً لجمع من أصحابنا والمعتزلة، هو الذي يدلّ على أنّه غير قائم بالنفس، فلا يكون معنىً للكلام النفسي في الأمر والنهي.
وأيضاً الأمر والنهي بنفسهما مصدقان للطلب، لا أنّهما وضعا لمعنى الطلب وهو موضوع له لهما.
وأمّا الإخبار فالمنسوب إلى العدلية (2) ، أنّه دال على ثبوت النسبة وعدمها، نعم خالف فيه بعضهم منهم سيدنا الأُستاذ المحقّق - دام ظله - فذهب إلى أنّ معناه أمر آخر قرّرناه مع جوابه في أُصول الفقه، فحينئذٍ يتّحد المذهبان - أي: مذهب جمهور العدلية ومذهب الأشعرية - في ذلك مع أنّ النزاع بينهما قائم أشد قيام، وإلى هذا يُنظر ما حكي عن المحقّق الرشتي قدّس سره في بدائعه، من أنّ الالتزام بالنسبة الحكمية التزام بالكلام النفسي.
أقول: والتحقيق عدم الاتّحاد؛ وذلك لأنّ لفظ النسبة يطلق على معنيين:
أحدهما: الصفة الموجودة النفسية في قبال سائر الصفات النفسانية، وهذه هي مراد الأشعرين، ويجعلونها الكلام النفسي في الأخبار، ويزعمون قِدمها في الواجب.
ثانيهما: الأمر الاعتباري المحض، الملحوظ للعقل بين المحمول والموضوع، الساري في
____________________
(1) شرح التجريد / 276.
(2) كفاية الأُصول 1 / 98.