قد عرفت أنّ الكلام من مقولة الكيف المسموع، ولا يقال للألفاظ المنقوشة: إنّها كلام، وأمّا إطلاق الكلام على القرآن المجيد في لسان المسلمين تبعاً لقوله تعالى: ( حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ) ، فهو باعتبار أنّ هذه الحروف أوجدها الله سبحانه من غير وساطة، فمَن سمعها - ولو من إنسان - فكأنّما سمع من الله تعالى.
وهذا الإطلاق - بهذه العناية - شائع في العرف؛ ولذا يقال: سمعت كلامك من فلان، بلغني كلامك، وهكذا، فالقرآن بمعنى كلامه حادث؛ ضرورة حدوث الألفاظ المسموعة، وكذا بمعنى المنقوش والمكتوب، وهو واضح وإن عميت عنه الحنابلة، حتى إنّ إمامهم أحمد بن حنبل أفتى بكفر مَن اعتقد مخلوقية القرآن! ونقل أيضاً (1) عن شرح المقاصد مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر، ثمّ استقرار رأيهما على أنّ مَن قال بخلق القرآن فهو كافر!
ولعمري إنّ تكلّمه تعالى ممّا لا يحتاج إلى بحث وتوضيح أصلاً، غير أنّ مخالفة هؤلاء الناس وتفرّدهم بأمر باطل حملنا على هذا البحث، ونختم كلامنا في هذه الفريدة بنقل بعض الروايات الواردة عن أهل العصمة والطهارة:
ففي آخر رواية أبي بصير (2) قال: قلت: فلم يزل الله متكلماً؟ قال: فقال - أي الصادق عليهالسلام -: (إنّ الكلام صفة محدَثة، ليست بأزلية كان الله عزّ وجلّ ولا متكلّم). ورواها المفيد باختصار (3) وفي آخرها: (كان الله عزّ وجل وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام)، وكذلك الشيخ الطوسي قدّس سره (4) ، وأمّا الصدوق فرواها بتعبير آخر، لكن ذيلها متحد مع ما رواه الكليني (5) .
وفي رواية عبد الملك بن أعين قال عليهالسلام : (كلام الله محدَث وغير أزلي). وفي صحيحة صفوان قال الرضا عليهالسلام في جواب أبي قرّة المحدّث: (التوراة والإنجيل، والزبور والقرآن، وكل كتاب أنزله كان كلام الله، أنزله للعالمين نوراً وهدىً، وهي كلها محدَثة، فقال أبو قرّة: فهل يفنى؟ قال عليهالسلام : أجمع المسلمون على أنّ ما سوى الله فعل الله، والتوراة والإنجيل والزبور القرآن فعل الله، أَلم تسمع الناس يقولون: ربّ القرآن... كلّها محدَثة مربوبة، أحدثها مَن ليس كمثله شيء... فمَن زعم أنّهنّ لن يزلنَ فقد أظهر أنّ الله ليس بأَوّل قديم ولا واحد، وأنّ الكلام لم يزل معه).
أقول: وهذا هو الإلزام بتعدّد القدماء كما اشتهر، وسيأتي في محلّه.
____________________
(1) آخر الشوارق، الجزء الثاني. (2) أُصول الكافي 1 / 197.
(3) بحار الأنوار 4 / 150. (4) المصدر نفسه / 68.
(5) المصدر نفسه / 72.